فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

الفصل الحادي عشر
المرأة في المجتمع المسلم

   
     
         

المرأة باعتبارها إنساناً

جاء الإسلام وبعض الناس ينكرون إنسانية المرأة , وآخرون يرتابون فيها . وغيرهم يعترف بإنسانيتها , ولكنه يعتبرها مخلوقاً خلق لخدمة الرجل .
فكان من فضل الإسلام أنه كرم المرأة , وأكد إنسانيتها , وأهليتها للتكليف والمسئولية والجزاء ودخول الجنة , واعتبرها إنساناً كريماً , له كل ما للرجل من حقوق إنسانية . لأنهما فرعان من شجرة واحدة , وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم , وأم واحدة هي حواء .
فهما متساويان في أصل النشأة , متساويان في الخصائص الإنسانية العامة , متساويان في التكاليف والمسئولية , متساويان في الجزاء والمصير .
وفي ذلك
يقول القرآن : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام , إن الله كان عليكم رقيباً ) .
وإذا كان الناس - كل الناس - رجالا ونساء , خلقهم ربهم من نفس واحدة , وجعل من هذه النفس زوجا تكملها وتكتمل بها كما
قال في آية أخرى : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) وبث من هذه الأسرة الواحدة رجالاً كثيراً ونساءً , كلهم عباد لرب واحد , وأولاد لأب واحد وأم واحدة , فالأخوة تجمعهم .
ولهذا أمرت الآية الناس بتقوى الله - ربهم - ورعاية الرحم الواشجة بينهم :
( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) .
فالرجل - بهذا النص - أخ المرأة , والمرأة شقيقة الرجل . وفي هذا
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنما النساء شقائق الرجال » .
وفى مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة ,
يقول القرآن : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) .
وفي التكاليف الدينية والاجتماعية الأساسية يسوي القرآن بين الجنسين
بقوله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله , أولئك سيرحمهم الله )
وفي قصة آدم توجه التكليف الإلهي إليه والى زوجه سواء : ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) .
ولكن الجديد في هذه القصة - كما ذكرها القرآن - أنها نسبت الإغواء إلى الشيطان لا إلى حواء - كما فعلت التوراة -
( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ) .
ولم تنفرد حواء بالأكل من الشجرة ولا كانت البادئة , بل كان الخطأ منهما معاً , كما كان الندم والتوبة منهما جميعا :
( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ).
بل في بعض الآيات نسبة الخطأ إلى آدم بالذات وبالأصالة
: ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً) ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) ( وعصى آدم ربه فغوى ) . كما نسب إليه التوبة وحده أيضا : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) مما يفيد أنه الأصل في المعصية , والمرأة له تبع .
ومهما يكن الأمر فإن خطيئة حواء لا يحمل تبعتها إلا هي , وبناتها براء من إثمها , ولا تزر وازرة وزر أخرى :
( تلك أمه قد خلت , لها ما كسبت ولكم ما كسبتم , ولا تسئلون عما كانوا يعملون ) .
وفى مساواة المرأة للرجل في الجزاء ودخول الجنة
يقول الله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى , بعضكم من بعض ) , فنص القرآن في صراحة على أن الأعمال لا تضيع عند الله , سواء أكان العامل ذكراً أم أنثى , فالجميع بعضهم من بعض , من طينة واحدة , وطبيعة واحدة . ويقول : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة , ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) , ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) .
وفى الحقوق المالية للمرأة , أبطل الإسلام ما كان عليه كثير من الأمم - عرباً وعجماً - من حرمان النساء , من التملك والميراث , أو التضييق عليهن في التصرف فيما يملكن , واستبداد الأزواج بأموال المتزوجات منهن , فأثبت لهن حق الملك بأنواعه وفروعه , وحق التصرف بأنواعه المشروعة . فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال , وأعطاهن حق البيع والشراء , والإجارة والهبة والإعارة والوقف والصدقة والكفالة والحوالة والرهن . . . . وغير ذلك من العقود والأعمال .
ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها - كالدفاع عن نفسها - بالتقاضي وغيره من الأعمال المشروعة .

إلى الفهرس

شبهات مردودة

وهنا تعرض لبعض الناس شبهات , وتدور في خواطرهم أسئلة :
إذا كان الإسلام قد اعتبر إنسانية المرأة مساوية لإنسانية الرجل , فما باله فضل الرجل عليها في بعض المواقف والأحوال . كما في الشهادة , والميراث , والدية , وقوامة المنزل , ورياسة الدولة , وبعض الأحكام الجزئية الأخرى ؟
والواقع أن تمييز الرجل عن المرأة في هذه الأحكام , ليس لأن جنس الرجل أكرم عند الله وأقرب إليه من جنس المرأة . فإن أكرم الناس عند الله أتقاهم - رجلا كان أو امرأة - ولكن هذا التمييز اقتضته الوظيفة التي خصصتها الفطرة السليمة لكل من الرجل والمرأة . كما سنوضح ذلك فيما يلي :

الشهادة :

جاء في القرآن في آية المدينة التي أمر الله فيها بكتابة الدين والاحتياط له : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم , فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى , ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) .
وبهذا جعل القرآن شهادة الرجل تساوى شهادة امرأتين . كما قرر الفقهاء أن شهادة النساء لا تقبل في الحدود والقصاص .
والحمد لله أن هذا التفاوت ليس لنقص إنسانية المرأة أو كرامتها . بل لأنها - بفطرتها واختصاصها - لا تشتغل عادة بالأمور المالية والمعاملات المدنية . إنما يشغلها ما يشغل النساء - عادة - من شئون البيت إن كانت زوجة , والأولاد إن كانت أما , والتفكير في الزواج إن كانت أيماً . ومن ثم تكون ذاكرتها أضعف في شئون المعاملات . لهذا أمر الله تعالى أصحاب الدين إذا أرادوا الاستيثاق لديونهم أن يشهدوا عليها رجلين أو رجلاً وامرأتين . وعلل القرآن ذلك
بقوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) .
ومثل ذلك ما ذهب إليه كثير من الفقهاء , الذين لم يعتبروا شهادة النساء , في الحدود والقصاص . . بعداً بالمرأة عن مجالات الاحتكاك , ومواطن الجرائم . والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال . فهي إن شهدت هذه الجرائم كثيرا ما تغمض عينها , وتهرب صائحة مولولة , ويصعب عليها أن تصف هذه الجرائم بدقة ووضوح , لأن أعصابها لا تحتمل التدقيق في مثل هذه الحال .
ولهذا يرى هؤلاء الفقهاء أنفسهم الأخذ بشهادة المرأة - ولو منفردة - فيما هو من شأنها واختصاصها , كشهادتها في الرضاع والبكارة والثيوبة والحيض والولادة , ونحو ذلك مما كان يختص بمعرفته النساء , في العصور السابقة .
على أن هذا الحكم غير مجمع عليه, فمذهب عطاء - من أئمة التابعين - الأخذ بشهادة النساء.
ومن الفقهاء من يرى الأخذ بشهادة النساء , في الجنايات في المجتمعات التي لا يكون فيها الرجال عادة مثل حمامات النساء , والأعراس , وغير ذلك مما اعتاد الناس أن يجعلوا فيه للنساء أماكن خاصة , فإذا اعتدت إحداهن على أخرى بقتل أو جرح أو كسر , وشهد عليها شهود منهن , فهل تهدر شهادتهن لمجرد أنهن إناث ؟ أو تطلب شهادة الرجال في مجتمع لا يحضرون فيه عادة ؟
الصحيح أن تعتبر شهادتهن ما دمن عادلات ضابطات واعيات .

أعلى

الميراث :

أما التفاوت في الميراث بين الرجل والمرأة , فالواضح أنه نتيجة للتفاوت بينهما في الأعباء, والتكاليف المالية المفروضة على كل منهما شرعا .
فلو افترضنا أبا مات , وترك وراءه ابنا وبنتا , فالابن يتزوج فيدفع مهراً , ويدخل بالزوجة فيدفع نفقتها , على حين تتزوج البنت فتأخذ مهراً , ثم يدخل بها زوجها , فيلتزم بنفقتها , ولا يكلفها فلساً , وان كانت من أغنى الناس .
فإذا كان قد ترك لهما مائة وخمسين ألفا مثلاً , أخذ الابن منها مائة وأخته خمسين . فعندما يتزوج الابن قد يدفع مهراً وهدايا نقدرها مثلا بخمسة وعشرين ألفا . فينقص نصيبه ليصبح ( 75000 ) خمسة وسبعين ألفاً . في حين تتزوج أخته فتقبض مهراً وهدايا نقدرها بما قدرنا به ما دفع أخوها لمثلها . فهنا يزيد نصيبها فيصبح ( 75000 ) خمسة وسبعين ألفا . فتساويا .

أعلى

الدية :

وأما الدية فليس فيها حديث متفق على صحته , ولا إجماع مستيقن بل ذهب ابن علية والأصم - من فقهاء السلف - إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية , وهو الذي يتفق مع عموم النصوص القرآنية والنبوية الصحيحة وإطلاقها . ولو ذهب إلى ذلك ذاهب اليوم , ما كان عليه من حرج , فالفتوى تغير بتغير الزمان والمكان . إذا كانت تتمشى مع النصوص الجزئية والمقاصد الكلية ؟

أعلى

القوامة :

وأما القوامة , فإنما جعلها الله للرجل بنص القرآن لأمرين :
1. ما فضله الله به من التبصر في العواقب , والنظر في الأمور بعقلانية أكثر من المرأة التي جهزها بجهاز عاطفي دفاق من أجل الأمومة .
2. أن الرجل هو الذي ينفق الكثير على تأسيس الأسرة . فلو انهدمت ستنهدم على أم رأسه . لهذا سيفكر ألف مرة قبل أن يتخذ قرار تفكيكها .

أعلى

المناصب القضائية والسياسية :

وأما مناصب القضاء , والسياسة , فقد أجاز أبو حنيفة أن تتولى القضاء , فيما تجوز شهادتها فيه , أي في غير الأمور الجنائية , وأجاز الطبري وابن حزم أن تتولى القضاء , في الأموال وفي الجنايات وغيرها .
وجواز ذلك لا يعنى وجوبه ولزومه , بل ينظر للأمر في ضوء مصلحة المرأة , ومصلحة الأسرة , ومصلحة المجتمع , ومصلحة الإسلام , وقد يؤدي ذلك إلى اختيار بعض النساء المتميزات في سن معينة , للقضاء في أمور معينة , وفي ظروف معينة .
وأما منعها من رئاسة الدولة وما في حكمها , فلأن طاقة المرأة - غالبا - لا تحتمل الصراع الذي تقتضيه تلك المسؤولية الجسيمة . وإنما قلنا : « غالبا » , لأنه قد يوجد من النساء من يكن أقدر من بعض الرجال , مثل ملكة سبأ , التي قص الله علينا قصتها في القرآن , ولكن الأحكام لا تبنى على النادر , بل على الأعم الأغلب , ولهذا قال علماؤنا : النادر لا حكم له .
وأما أن تكون مديرة أو عميدة , أو رئيسة مؤسسة , أو عضواً في مجلس نيابي . أو نحو ذلك, فلا حرج إذا اقتضته المصلحة , وقد فصلنا ذلك بأدلته في الجزء الثاني من كتابنا «
فتاوى معاصرة ».

أعلى
إلى الفهرس

المرأة باعتبارها أماً

لا يعرف التاريخ دينا ولا نظاما كرم المرأة باعتبارها أما , وأعلى من مكانتها , مثل الإسلام .
لقد أكد الوصية بها وجعلها تالية للوصية بتوحيد الله وعبادته , وجعل برها من أصول الفضائل , كما جعل حقها أوكد من حق الأب , لما تحملته من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية . وهذا ما يقرره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبته في أذهان الأبناء ونفوسهم . وذلك في مثل
قوله تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) , ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا , حملته أمه كرها ووضعته كرها , وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله : من أحق الناس بصحابتي ؟ قال :« أمك ». قال : ثم من ؟ قال : « أمك » . قال : ثم من ؟ قال : « أمك » . قال : ثم من ؟ قال : « أبوك ».
ويروي البزار أن رجلاً كان بالطواف حاملا أمه يطوف بها , فسأل النبي صلى الله عليه وسلم
هل أديت حقها ؟ قال : « لا , ولا بزفرة واحدة »
! .. أي من زفرات الطلق والوضع ونحوها .
وبرها يعني : إحسان عشرتها , وتوقيرها , وخفض الجناح لها , وطاعتها في غير المعصية , والتماس رضاها في كل أمر , حتى الجهاد , إذا كان فرض كفاية لا يجوز إلا بإذنها , فإن برها ضرب من الجهاد .
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , أردت أن أغزو , وقد جئت أستشيرك , فقال :« هل لك من أم » ؟ قال : نعم . قال : « فالزمها فإن الجنة عند رجليها ».
وكانت بعض الشرائع تهمل قرابة الأم , ولا تجعل لها اعتباراً , فجاء الإسلام يوصى بالأخوال والخالات , كما أوصى بالأعمام والعمات .
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إني أذنبت , فهل لي من توبة ؟ فقال : « هل
لك من أم » ؟ قال : لا . قال : « فهل لك من خالة » ؟ قال : نعم . قال : « فبرها »
.
ومن عجيب ما جاء به الإسلام أنه أمر ببر الأم وان كانت مشركة ,
فقد سألت أسماء بنت أبى بكر النبي صلى الله عليه وسلم عن صلة أمها المشركة , وكانت قدمت عليها , فقال لها : « نعم , صلي أمك »
ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقها وعواطفها : أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها , وأولى بهم من الأب .
قالت امرأة : يا رسول الله , إن أبني هذا , كان : بطني له وعاء, وثديي له سقاء, وحجري له حواء , وان أباه طلقني , وأراد أن ينتزعه مني ! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : « أنت أحق به ما لم تنكحي ».
واختصم عمر وزوجته المطلقة إلى أبى بكر في شأن ابنه عاصم , فقضى به لأمه , وقال لعمر :
« ريحها وشمها ولفظها خير له منك » . وقرابة الأم أولى من قرابة الأب في باب الحضانة .
والأم التي عنى بها الإسلام كل هذه العناية , وقرر لها كل هذه الحقوق , عليها واجب : أن تحسن تربية أبنائها , فتغرس فيهم الفضائل , وتبغضهم في الرذائل , وتعودهم طاعة الله , وتشجعهم على نصرة الحق , ولا تثبطهم عن الجهاد , استجابة لعاطفة الأمومة في صدرها , بل تغلب نداء الحق على نداء العاطفة .
ولقد رأينا أما مؤمنة كالخنساء , في معركة القادسية تحرض بنيها الأربعة , وتوصيهم بالإقدام والثبات في كلمات بليغة رائعة , وما أن انتهت المعركة حتى نعوا إليها جميعا , فما ولولت ولا صاحت , بل قالت في رضا ويقين : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيله !!

إلى الفهرس

أمهات خالدات

ومن توجيهات القرآن : أنه وضع أمام المؤمنين والمؤمنات أمثله فارعة لأمهات صالحات . كان لهن أثر ومكان في تاريخ الإيمان .
فأم موسى تستجيب إلى وحي الله وإلهامه , وتلقى ولدها وفلذة كبدها في اليم , مطمئنة إلى وعد ربها :
( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه , فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني , إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) .
وأم مريم التي نذرت ما في بطنها محررا لله , خالصا من كل شرك أو عبودية لغيره , داعية الله أن يتقبل منها نذرها :
( فتقبل مني , انك أنت السميع العليم ) .
فلما كان المولود أنثى - على غير ما كانت تتوقع - لم يمنعها ذلك من الوفاء بنذرها , سائلة الله أن يحفظها من كل سوء :
( وأني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) .
ومريم ابنة عمران أم المسيح عيسى , جعلها القرآن آية في الطهر والقنوت لله , والتصديق بكلماته :
( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) .

إلى الفهرس

المرأة باعتبارها بنتاً

كان العرب في الجاهلية يتشاتمون بميلاد البنات , ويضيقون به , حتى قال أحد الآباء - وقد بشر بأن زوجه ولدت أنثى - : « والله ما هي بنعم الولد , نصرها بكاء, وبرها سرقة »! يريد أنها لا تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إلا بالصراخ والبكاء لا بالقتال , ولا أن تبرهم إلا بأن تأخذ من مال زوجها لأهلها .
وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح للأب أن يئد ابنته - يدفنها حية - خشية من فقر قد يقع , أو من عار قد تجلبه حين تكبر على قومها .
وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومقرعاً لهم : ( وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ) . ويصف حال الآباء عند ولادة البنات : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به , أيمسكه على هون أم يدسه في التراب , ألا ساء ما يحكمون ) .
وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي الأب الحق في بيع ابنته إذا شاء , وبعضها الآخر - كشريعة حمورابي - تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها أو يملكها إذا قتل الأب ابنه الرجل الآخر .
جاء الإسلام فاعتبر البنت - كالابن - هبة من الله ونعمة - يهبها لمن يشاء من عباده :
( يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً , ويجعل من يشاء عقيما , إنه عليم قدير ) .
وبين القرآن في قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً , من كثير من الأبناء الذكور , كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين , وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل , ويكون من الصالحين .
(إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني , انك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى , وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً )
وحمل القرآن - حملة شعواء - على أولئك القساة الذين يقتلون أولادهم - إناثاً كانوا أو ذكوراً - فقال تعالى : ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم ) وقال . « ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق , نحن نرزقهم وإياكم , إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ) .
وجعل رسول الإسلام الجنة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته , ويصبر على تربيتهن وحسن تأديبهن , ورعاية حق الله فيهن , حتى يبلغن أو يموت عنهن , وجعل منزلته بجواره - صلى الله عليه وسلم - في دار النعيم المقيم .
روى مسلم عن أنس
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من عال جاريتين حتى تبلغا , جاء يوم القيامة أنا وهو .. وضم أصابعه » , ورواه الترمذي بلفظ : « من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين » , وأشار بإصبعه السبابة والتي تليها .
وروى ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم « أنه قال : « ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه - أو صحبهما - إلا أدخلتاه الجنة » .
ونصت بعض الأحاديث على أن هذا الجزاء - دخول الجنة - للأخ الذي يعول أخواته أو أختيه أيضاً .
كما نص بعض آخر على أن هذه المكافآت الإلهية , لمن أحسن إلى جنس البنات ولو كانت واحدة .
ففي حديث أبى هريرة :
« من كان له ثلاث بنات , فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن, أدخله الله الجنة برحمته إياهن » . فقال رجل : واثنتان يا رسول الله ؟ قال : « واثنتان » . قال رجل : يا رسول الله , وواحدة ؟ قال : « وواحدة » .
وروى ابن عباس مرفوعاً
« من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها , ولم يؤثر ولده - يعني الذكور - عليها , أدخله الله الجنة » .
وفى حديث عائشة الذي رواه الشيخان
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتلى من هذه البنات بشيء , فأحسن إليهن كن له ستراً من النار » .
وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة , والبشارات المكررة المؤكدة , لم تعد ولادة البنت عبئا يخاف منه , ولا طالع نحس يتطير به , بل نعمة تشكر , ورحمة ترجى وتطلب , لما وراءها من فضل الله تعالى , وجزيل مثوبته .
وبهذا أبطل الإسلام عادة الوأد إلى الأبد , وأصبح للبنت في قلب أبيها مكان عميق , يتمثل في
قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنته فاطمة : « فاطمة بضعة مني , يريبني ما رابها » .
ونلمس أثر ذلك في الأدب الإسلامي في مثل قول الشاعر :

لـولا بنيـات كزغب القطا رددن من بعـض إلى بعض

لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض

وإنمـا أولادنـا بيننـا أكبادنـا تمشــي على الأرض !

إن هـبت الريح على بعضهم امتنعت عـيني عن الغمض

وأما سلطان الأب على ابنته فلا يتجاوز حدود التأديب والرعاية والتهذيب الديني والخلقي , شأنها شأن إخوانها الذكور , فيأمرها بالصلاة إذا بلغت سبع سنين , ويضربها عليها إذا بلغت عشراً , ويفرق حينئذ بينها وبين إخوتها في المضجع , ويلزمها أدب الإسلام في اللباس والزينة والخروج والكلام .
ونفقته عليها واجبة ديناً وقضاءً حتى تتزوج .
وليس له سلطة بيعها أو تمليكها لرجل أخر بحال من الأحوال , فقد أبطل الإسلام بيع الحر - ذكراً كان أو أنثى - بكل وجه من الوجوه .
ولو أن رجلاً حراً اشترى أو ملك ابنة له كانت رقيقة عند غيره , فإنها تعتق عليه بمجرد تملكها , شاء أم أبى , بحكم قانون الإسلام .
وإذا كان للبنت مال خاص بها , فليس للأب إلا حسن القيام عليه بالمعروف . . ولا يجوز له أن يزوجها لرجل آخر , على أن يزوجه الأخر ابنته , على طريقة التبادل , وهو المسمى في الفقه بـ « نكاح الشغار » وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت لا حق أبيها .
وليس للأب حق تزويج ابنته البالغة ممن تكرهه ولا ترضاه . وعليه أن يأخذ رأيها فيمن تتزوجه : أتقبله أم ترفضه . فإذا كانت ثيبا فلا بد أن تعلن موافقتها بصريح العبارة , وان كانت بكراً يغلبها حياء العذراء اكتفى بسكوتها , فالسكوت علامة الرضا , فإن قالت : لا . . فليس له سلطة إجبارها على الزواج بمن لا تريد .
روى الجماعة عن أبى هريرة مرفوعا
:« لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن » . قالوا : يا رسول الله , وكيف إذنها ؟ قال : « أن تسكت » .
وروى الشيخان
عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البكر تستأذن . قلت : إن البكر تستأذن وتستحي ! قال : « إذنها صماتها » , ولهذا قال العلماء : ينبغي إعلام البكر بأن سكوتها إذن .
وعن خنساء بنت خدام الأنصارية :
« أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك , فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها » .
وعن ابن عباس :
أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة , فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا دليل على أن الأب لا يتميز عن غيره في وجوب استئذان البكر , وضرورة الحصول على موافقتها . وفى صحيح مسلم وغيره :
« والبكر يستأمرها أبوها » أي يطلب أمرها وإذنها .
وعن عائشة : أن فتاة دخلت عليها , فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه , ليرفع بي خسيسته , وأنا كارهة . قالت : اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم , فأخبرته , فأرسل إلى أبيها , فدعاه , فجعل الأمر إليها . فقالت : يا رسول الله : قد أجزت ما صنع أبي , ولكن أردت أن أعلم : أللنساء من الأمر شيء » ؟ .
وظاهر الأحاديث يدل على أن استئذان البكر والثيب شرط في صحة العقد , فإن زوج الأب أو الولي الثيب بغير إذنها فالعقد باطل مردود , كما في قصة خنساء بنت خدام .. وفي البكر : هي صاحبة الخيار إن شاءت أجازت , وان شاءت أبت , فيبطل العقد كما في قصة الجارية .
ومن جميل ما جاء به الإسلام : أنه أمر باستشارة الأم في زواج ابنتها , حتى يتم الزواج برضا الأطراف المعنية كلها . فعن ابن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « آمروا النساء في بناتهن » .
وإذا كان الأب لا يحق له تزويج ابنته ممن لا ترضاه . كان من حقه عليها ألا تزوج نفسها إلا بإذنه لحديث :
« لا نكاح إلا بولي » .
ورأى أبو حنيفة وأصحابه أن من حق الفتاة أن تزوج نفسها , ولو بغير إذن أبيها ووليها , بشرط أن يكون الزوج كفئاً لها . ولم يثبت عندهم الحديث المذكور .
والأولى أن يتم الزواج بموافقة الأب والأم والابنة . حتى لا يكون هناك مجال للقيل والقال , والخصومة والشحناء , وقد شرع الله الزواج مجلبة للمودة والرحمة .
والمطلوب من الأب أن يتخير لابنته الرجل الصالح الذي يسعدها ويسعد بها , وأن يكون همه الخلق والدين , لا المادة والطين , وألا يعوق زواجها إذا حضر كفؤها . وفى الحديث :
« إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ». وبهذا علم الإسلام الأب أن ابنته « إنسان » قبل كل شيء , فهي تطلب إنساناً مثلها , وليست « سلعة » تعرض وتعطى لمن يدفع نقوداً أكثر , كما هو شأن كثير من الآباء الجاهلين والطامعين إلى اليوم . وفى الحديث : « أعظم النكاح بركة أيسره مئونة » .

إلى الفهرس

المرأة باعتبارها زوجة

كانت بعض الديانات والمذاهب تعتبر المرأة رجساً من عمل الشيطان , يجب الفرار منه واللجوء إلى حياة التبتل والرهبنة .
وبعضها الآخر كان يعتبر الزوجة مجرد آلة متاع للرجل , أو طاه لطعامه , أو خادم لمنزله . فجاء الإسلام يعلن بطلان الرهبانية وينهى عن التبتل , ويحث على الزواج , ويعتبر الزوجية آية من آيات الله في الكون :
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة , إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
وحين أراد جماعة من الصحابة أن يتبتلوا وينقطعوا للعبادة , صائمين النهار , قائمين الليل , معتزلين النساء , أنكر عليهم
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قائلاً : « أما أنا فأصوم وأفطر , وأقوم وأنام , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني » .
وجعل الإسلام الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه - بعد الإيمان بالله وتقواه - وعدها أحد أسباب السعادة , وفي الحديث :
« ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً من زوجة صالحة , إن أمرها أطاعته , وان نظر إليها سرته , وان أقسم عليها أبرته , وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة » .
وقال : « من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة , والمسكن الصالح , والمركب الصالح » .
ورفع الإسلام من قيمة المرأة باعتبارها زوجة, وجعل قيامها بحقوق الزوجية جهاداً في سبيل الله.
جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله , إني رسول النساء إليك , وما منهن امرأة - علمت أو لم تعلم - إلا وهي تهوى مخرجي إليك . ثم عرضت قضيتها فقالت : الله رب الرجال والنساء وإلههن , وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء , كتب الله الجهاد على الرجال , فإن أصابوا أجروا وان استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون , فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ قال : « طاعة أزواجهن والقيام بحقوقهم , وقليل منكن من يفعله » .
وقرر الإسلام للزوجة حقوقاً على زوجها , ولم يجعلها مجرد حبر على ورق , بل جعل عليها أكثر من حافظ ورقيب : من إيمان المسلم وتقواه أولاً , ومن ضمير المجتمع ويقظته ثانياً , ومن حكم الشرع وإلزامه ثالثاً .
وأول هذه الحقوق هو « الصداق » الذي أوجبه الإسلام للمرأة على الرجل إشعارا منه برغبته فيها وإرادته لها . قال تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة , فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) .
فأين هذا من المرأة التي نجدها في مدنيات أخرى : تدفع هي للرجل بعض مالها ! مع أن فطرة الله جعلت المرأة مطلوبة لا طالبة ؟
وثاني هذه الحقوق , هو « النفقة » . فالرجل مكلف بتوفير المأكل والملبس والمسكن والعلاج لامرأته . قال عليه الصلاة والسلام في بيان حقوق النساء : « ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » , والمعروف هو ما يتعارف عليه أهل الدين والفضل من الناس بلا إسراف ولا تقتر , قال تعالى : ( لينفق ذو سعة من سعته , ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله , لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ) .
وثالث الحقوق , هو « المعاشرة بالمعروف » . قال تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف ) .
وهو حق جامع يتضمن إحسان العاملة في كل علاقة بين المرء وزوجه , من حسن الخلق , ولين الجانب , وطيب الكلام , وبشاشة الوجه , وتطييب نفسها بالممازحة والترفيه عنها , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله » .
وروى ابن حبان عن عائشة
أنه صلى الله عليه وسلم قال : « خيركم خيركم لأهله , وأنا خيركم لأهلي » وقد أثبتت السيرة النبوية العملية لطفه - عليه الصلاة والسلام - بأهله , وحسن خلقه مع أزواجه , حتى إنه كان يساعدهن في أعمال البيت أحياناً , وبلغ من ملاطفته لهن أنه سابق عائشة مرتين , فسبقته مرة وسبقها أخرى , فقال لها : « هذه بتلك » .
وفى مقابل هذه الحقوق أوجب عليها طاعة الزوج - في غير معصية طبعا - والمحافظة على ماله , فلا تنفق منه إلا بإذنه , وعلى بيته , فلا تدخل فيه أحداً إلا برضاه ولو كان من أهلها . وهذه الواجبات ليست كثيرة ولا ظالمة في مقابل ما على الرجل من حقوق , فمن المقرر أن كل حق يقابله واجب , ومن عدل الإسلام أنه لم يجعل الواجبات على المرأة وحدها , ولا على الرجل وحده , بل
قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) فللنساء من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات .
ومن جميل ما يروى أن ابن عباس وقف أمام المرآة يصلح من هيئته , ويعدل من زينته , فلما سئل في ذلك قال : أتزين لامرأتي كما تتزين لي امرأتي . ثم تلا الآية الكريمة :
( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ). وهذا من أظهر الأدلة على عميق فقه الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم .

إلى الفهرس

استقلال الزوجة

لم يهدر الإسلام شخصية المرأة بزواجها , ولم يذبها في شخصية زوجها , كما هو الشأن في التقاليد الغربية , التي تجعل المرأة تابعة لرجلها , فلا تعرف باسمها ونسبها ولقبها العائلي , بل بأنها زوجة فلان .
أما الإسلام فقد أبقى للمرأة شخصيتها المستقلة المتميزة , ولهذا عرفنا زوجات الرسول بأسمائهن وأنسابهن . فخديجة بنت خويلد , وعائشة بنت أبى بكر , وحفصة بنت عمر , وميمونة بنت الحارث , وصفية بنت حيى , وكان أبوها يهوديا محارباً للرسول صلى الله عليه وسلم .
كما أن شخصيتها المدنية لا تنقص بالزواج , ولا تفقد أهليتها للعقود والمعاملات وسائر التصرفات , فلها أن تبيع وتشتري , وتؤجر أملاكها وتستأجر وتهب من مالها وتتصدق وتوكل
وتخاصم . وهذا أمر لم تصل إليه المرأة الغربية إلا حديثاً , ولا زالت في بعض البلاد مقيدة إلى حد ما بإرادة الزوج .

إلى الفهرس

المرأة باعتبارها أنثى

قدر الإسلام أنوثة المرأة , واعتبرها - لهذا الوصف - عنصراً مكملاً للرجل , كما أنه مكمل لها , فليس أحدهما خصماً للآخر, ولا نداً له ولا منافساً , بل عونا له على كمال شخصه ونوعه .
فقد اقتضت سنة الله في المخلوقات , أن يكون الازدواج من خصائصها فنرى الذكورة والأنوثة في عالم الإنسان والحيوان والنبات , ونرى الموجب والسالب في عالم الجمادات من الكهرباء , والمغناطيس وغيرها حتى الذرة , فيها الشحنة الكهربائية الموجبة , والشحنة السالبة ( الإلكترون والبروتون ) .
والى ذلك أشار القرآن منذ أربعة عشر قرناً
فقال : (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) .
فالذكر والأنثى كالعلبة وغطائها , والشيء ولازمه , لا غنى لأحدهما عن الآخر .
ومنذ خلق الله النفس البشرية الأولى - آدم - خلق منها زوجها - حواء - ليسكن إليها , ولم يتركه وحده , حتى ولو كانت هذه الوحدة في الجنة , وكان الخطاب الإلهي لهما معا , أمراً ونهياً :
( اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) .
فالمرأة - بهذا - غير الرجل , لأنها تكمله ويكملها , والشيء لا يكمل نفسه , والقرآن الكريم يقول :
( وليس الذكر كالأنثى ) . كما أن الموجب غير السالب , والسالب غير الموجب .
ومع هذا لم تخلق لتكون نداً له ولا خصما , بل هي منه وله :
( بعضكم من بعض ) , ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) .
واقتضت حكمة الله أن يكون التكوين العضوي والنفسي للمرأة يحمل عناصر الجاذبية للرجل وقابلية الانجذاب إليه .
وركب الله في كل من الرجل والمرأة شهوة غريزية فطرية قوية تسوقهما إلى التجاذب واللقاء حتى تستمر الحياة ويبقى النوع .
ومن ثم يرفض الإسلام كل نظام يصادم هذه الفطرة ويعطلها , كنظام الرهبنة . ولكنه حظر كل تصريف لهذه الطاقة على غير ما شرعه الله ورضيه من الزواج الذي هو أساس الأسرة , ولهذا حرم الزنى , كما حرمته الأديان السماوية كلها , ونهى عن الفواحش , ما ظهر منها وما بطن , وسد كل منفذ يؤدي إلى هذه الفواحش , حماية للرجل والمرأة من عوامل الإثارة وبواعث الفتنة والإغراء .
وعلى هذا الأساس من النظر إلى فطرة المرأة , وما يجب أن تكون عليه في علاقتها بالرجل , يعامل الإسلام المرأة , ويقيم كل نظمه وتوجيهاته وأحكامه .
إنه يرعى أنوثتها الفطرية , ويعترف بمقتضياتها فلا يكبتها ولا يصادرها , ولكنه يحول بينها وبين الطريق الذي يؤدي إلى ابتذالها , وامتهان أنوثتها , ويحميها من ذئاب البشر , وكلاب الصيد , التي تخطف بنات حواء , لتنهشها نهشاً, وتستمتع بها لحماً , ثم ترميها عظماً .
ونستطيع أن نحدد موقف الإسلام من أنوثة المرأة فيما يلي :
1. إنه يحافظ على أنوثتها , حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرقة والجمال , ولهذا أحل لها بعض ما حرم على الرجال , بما تقتضيه طبيعة الأنثى ووظيفتها , كالتحلي بالذهب , ولبس الحرير الخالص , فقد جاء في الحديث : « إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم » .
كما أنه حرم عليها كل ما يجافي هذه الأنوثة , من التشبه بالرجال في الزي والحركة والسلوك وغيرها , فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل , كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة , ولعن المتشبهات من النساء بالرجال , مثلما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء , وفي الحديث :
« ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه , والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث » . والديوث : الذي لا يبالي من دخل على أهله .
2. وهو يحمي هذه الأنوثة ويرعى ضعفها , فيجعلها أبداً في ظل رجل , مكفولة النفقات , مكفية الحاجات , فهي في كنف أبيها أو زوجها أو أولادها أو أخوتها , يجب عليهم نفقتها , وفق شريعة الإسلام , فلا تضطرها الحاجة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها ومزاحمة الرجال بالمناكب .
3. وهو يحافظ على خلقها وحيائها , ويحرص على سمعتها وكرامتها , ويصون عفافها من خواطر السوء , وألسنة السوء - فضلاً من أيدي السوء - أن تمتد إليها .
ولهذا يوجب الإسلام عليها :
( أ ) الغض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) .
( ب ) الاحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها . ولا تضييق عليها : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . وقد فسر : ( ما ظهر منها ) بالكحل والخاتم , وبالوجه والكفين , وزاد بعضهم : القدمين .
( جـ ) ألا تبدي زينتها الخفية - كالشعر والعنق والنحر والذراعين والساقين - إلا لزوجها ومحارمها الذين يشق عليها أن تستتر منهم استتارها من الأجانب : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) .
( د ) أن تتوقر في مشيتها وكلامها : ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً ) . فليست ممنوعة من الكلام , وليس صوتها عوره , بل هي مأمورة أن تقول قولاً معروفاً .
( هـ ) أن تتجنب كل ما يجذب انتباه الرجل إليها , ويغريه بها , من تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة , فهذا ليس من خلق المرأة العفيفة . وفي الحديث : « أيما امرأة استعطرت ثم خرجت من بيتها ليشم الناس ريحها فهي زانية » أي تفعل فعلها , وان لم تكن كذلك , فيجب أن تتنزه عن هذا السلوك .
( و ) أن تمتنع عن الخلوة بأي رجل ليس زوجها ولا محرماً لها , صوناً لنفسها ونفسه من هواجس الإثم , ولسمعتها من ألسنة الزور : « لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم » .
( ز ) ألا تختلط بمجتمع الرجال الأجانب إلا لحاجة داعية , ومصلحة معتبرة , وبالقدر اللازم , كالصلاة في المسجد , وطلب العلم , والتعاون على البر والتقوى , بحيث لا تحرم المرأة من المشاركة في خدمة مجتمعها , ولا تنسى الحدود الشرعية في لقاء الرجال .
إن الإسلام بهذه الأحكام يحمي أنوثة المرأة من أنياب المفترسين من ناحية , ويحفظ عليها حياءها وعفافها بالبعد عن عوامل الانحراف والتضليل من ناحية ثانية , ويصون عرضها من ألسنة المفترين والمرجفين من ناحية ثالثة , وهو - مع هذا كله - يحافظ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق , ومن الهزات والاضطرابات , نتيجة لجموح الخيال , وانشغال القلب , وتوزع عواطفه بين شتى المثيرات والمهيجات .
وهو أيضا - بهذه الأحكام والتشريعات - يحمي الرجل من عوامل الانحراف والقلق , ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط والانحلال .

إلى الفهرس

الاختلاط المشروع

دخلت معجمنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل . من ذلك كلمة « الاختلاط » بين الرجل والمرأة . فقد كانت المرأة المسلمة - في عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين - تلقى الرجل , وكان الرجل يلقى المرأة , في مناسبات مختلفة , دينية ودنيوية , ولم يك ذلك ممنوعاً بإطلاق , بل كان مشروعاً إذا وجدت أسبابه , وتوافرت ضوابطه , ولم يكونوا يسمون ذلك « اختلاطاً » .
ثم شاعت هذه الكلمة في العصر الحديث - ولا أدري متى بدأ استعمالها - بما لها من إيحاء , ينفر منه حس المسلم والمسلمة ؛ لأن خلط شيء بشيء يعني إذابته فيه , كخلط الملح أو السكر بالماء .
المهم أن نؤكد هنا أن ليس كل اختلاط ممنوعاً , كما يتصور ذلك ويصوره دعاة التشديد والتضييق , وليس كذلك كل اختلاط مشروعاً , كما يروج لذلك دعاة التبعية والتغريب .
ولقد تعرضت لهذا الموضوع مجيبا عن عدة أسئلة في الجزء الثاني من كتابي «
فتاوى معاصرة » منها : ما يتعلق بالاختلاط , وما يتصل بإلقاء السلام على النساء , وبالمصافحة , وعيادة الرجال للنساء , والنساء للرجال الخ .
والذي أود أن أذكره هنا : أن الواجب علينا أن نلتزم بخير الهدي , وهو هدي محمد صلى الله عليه وسلم , وهدي خلفائه الراشدين , وأصحابه المهديين , بعيداً عن نهج الغرب المتحلل , ونهج الشرق المتشدد .
والمتأمل في خير الهدي يرى أن المرأة لم تكن كما حدث ذلك في عصور تخلف المسلمين . فقد كانت امرأة تشهد الجماعة والجمعة , في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان عليه الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال , وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان أفضل , خشية أن يظهر من عورات الرجال شيء , وكان أكثرهم لا يعرفون السراويل , ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل من بناء أو خشب أو نسيج , أو غير

وكانوا في أول الأمر يدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم , فيحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج , فقال عليه الصلاة والسلام : « لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء » . فخصصوه بعد ذلك لهن , وصار يعرف إلى اليوم باسم « باب النساء » .
وكان النساء في عصر النبوة يحضرن الجمعة , ويسمعن الخطبة , حتى إن إحداهن حفظت سورة « ق » من في رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة .
وكان النساء يحضرن كذلك صلاة العيدين , ويشاركن في هذا المهرجان الإسلامي الكبير , الذي يضم الكبار والصغار , والرجال والنساء , في الخلاء مهللين مكبرين .
روى مسلم عن أم عطية قالت :
« كنا نؤمر بالخروج في العيدين , والمخبأة والبكر » .
وفى رواية قالت :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى :
العواتق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن الصلاة , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت : يا رسول الله , إحدانا لا يكون لها جلباب , قال : « لتلبسها أختها من جلبابها »
.
وهذه سنة أماتها المسلمون في جل البلدان أو في كلها , إلا ما قام به مؤخراً شباب الصحوة الإسلامية الذي أحيوا بعض ما مات من السنن , مثل سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان , وسنة شهود النساء صلاة العيد .
وكان النساء يحضرن دروس العلم , مع الرجال عند النبي صلى الله عليه وسلم , ويسألن عن
أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم , حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار , أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين , فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها .
ولم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستئثارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم , فطلبن أن
يجعل لهن يوما يكون لهن خاصة , لا يغالبهن الرجال ولا يزاحمونهم وقلن في ذلك صراحة :
« يا رسول الله , قد غلبنا عليك الرجال , فاجعل لنا يوما من نفسك » فوعدهن يوما , فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن .
وتجاوز هذا النشاط النسائي إلى المشاركة في المجهود الحربي في خدمة الجيش والمجاهدين , بما يقدرن عليه ويحسن القيام به , من التمريض والإسعاف , ورعاية الجرحى والمصابين , بجوار الخدمات الأخرى من الطهي والسقي وإعداد ما يحتاج إليه المجاهدون من أشياء مدنية.
عن
أم عطية قالت : « غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , سبع غزوات , أخلفهم في رحالهم , فأصنع لهم الطعام وأداوى الجرحى , وأقوم على المرضى » .
وروى مسلم عن أنس :
« أن عائشة وأم سليم , كانتا في يوم « أحد » مشمرتين , تنقلان القرب على متونهما ( ظهورهما ) ثم تفرغانها في أفواه القوم , ثم ترجعان فتملآنها » , ووجود عائشة هنا - وهى في العقد الثاني من عمرها - يرد على الذين ادعوا أن الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصوراً على العجائز والمتقدمات في السن , فهذا غير مسلم . وماذا تغني العجائز في مثل هذه المواقف التي تتطلب القدرة البدنية والنفسية معاً ؟
وروى الإمام أحمد :
أن ست نسوة من نساء المؤمنين كن مع الجيش الذي حاصر « خيبر » : يتناولن السهام , ويسقين السويق , ويداوين الجرحى , ويغزلن الشعر , ويعن في سبيل الله , وقد أعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم نصيبا من الغنيمة .
بل صح أن نساء بعض الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك الإسلامية بحمل السلاح , عندما أتيحت لهن الفرصة . ومعروف ما قامت به أم عمارة نسيبة بنت كعب يوم « أحد » , حتى قال عنها صلى الله عليه وسلم :
« لمقامها خير من مقام فلان وفلان » .
وكذلك اتخذت أم سليم خنجرا يوم « حنين » , تبقر به بطن من يقترب منها . روى مسلم عن أنس ابنها :
أن أم سليم اتخذت يوم « حنين » خنجراً , فكان معها , فرآها أبو طلحة ( زوجها ) فقال : يا رسول الله ؛ هذه أم سليم معها خنجر ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما هذا الخنجر » ؟ قالت : اتخذته , إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه ! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك .
وقد عقد البخاري باباً في صحيحه في غزو النساء وقتالهن .
ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشاركة في الغزو عند المعارك المجاورة والقريبة في الأرض العربية كخيبر وحنين . بل طمحن إلى ركوب البحار , والإسهام في فتح الأقطار البعيدة لإبلاغها رسالة الإسلام .
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أي نام وسط النهار ) عند أم حرام بنت ملحان ( خالة أنس ) يوماً , ثم استيقظ وهو يضحك , فقالت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : « ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله , يركبون ثبج هذا البحر , ملوكاً على الأسرة - أو مثل الملوك على الأسرة » , قالت : فقلت : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم , فدعا لها فركبت أم حرام البحر في زمن عثمان , مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص , فصرعت عن دابتها هناك , فتوفيت ودفنت هناك , كما ذكر أهل السير والتاريخ .
وفى الحياة الاجتماعية شاركت المرأة داعية إلى الخير , آمرة بالمعروف , ناهية عن المنكر , كما
قال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . . . )
ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد في قضية المهور , ورجوعه إلى رأيها علناً , وقوله :
« أصابت المرأة وأخطأ عمر » . وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النساء , وقال : إسنادها جيد .
وقد عين عمر في خلافته الشفاء بنت عبد الله العدوية محتسبة على السوق . والمتأمل في القرآن الكريم وحديثه عن المرأة في مختلف العصور , وفي حياة الرسل والأنبياء لا يشعر بهذا الستار الحديدي الذي وضعه بعض الناس بين الرجل والمرأة .
فنجد موسى - وهو في ريعان شبابه وقوته - يحادث الفتاتين ابنتي الشيخ الكبير , ويسألهما وتجيبانه بلا تأثم ولا حرج , ويعاونهما في شهامة ومروءة , وتأتيه إحداهما بعد ذلك مرسلة من أبيها تدعوه أن يذهب معها إلى والدها , ثم تقترح إحداهما على أبيها بعد ذلك أن يستخدمه عنده ؛ لما لمست فيه من قوة وأمانة .
لنقرأ في ذلك ما جاء في سورة القصص :
( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان , قال ما خطبكما , قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء , وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا , فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف , نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما , يا أبت استأجره , إن خير من استأجرت القوى الأمين ) .
وفى قضيه مريم نجد زكريا يدخل عليها المحراب , ويسألها عن الرزق الذي يجده عندها :
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً , قال يا مريم أنى لك هذا , قالت هو من عند الله , إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .
وفي قصة ملكة سبأ نراها تجمع قومها تستشيرهم في أمر سليمان :
( قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة , وكذلك يفعلون ) .
وكذلك تحدثت مع سليمان عليه السلام وتحدث معها :
( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك , قالت كأنه هو , وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله , إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلي الصرح , فما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقها , قال انه صرح ممرد من قوارير , قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
ولا يقال : إن هذا شرع من قبلنا فلا يلزمنا ؛ فإن القرآن لم يذكره لنا إلا لأن فيه هداية وذكرى وعبرة لأولي الألباب , ولهذا كان القول الصحيح : أن شرع من قبلنا المذكور في القرآن والسنة هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه . وقد قال تعالى لرسوله :
( أولئك الذين هدى الله , فبهداهم اقتده ) .
إن إمساك المرأة في البيت , وإبقاءها بين جدرانه الأربعة لا تخرج منه اعتبره القرآن - في مرحلة من مراحل تدرج التشريع قبل النص على حد الزنى المعروف - عقوبة بالغة لمن ترتكب الفاحشة من نساء المسلمين , وفي هذا يقول تعالى في سورة النساء :
( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعةً منكم , فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً ) .
وقد جعل الله لهن سبيلاً بعد ذلك حينما شرع الحد , وهو العقوبة المقدرة في الشرع حقاً لله تعالى , وهي الجلد الذي جاء به القرآن لغير المحصن , والرجم الذي جاءت به السنة للمحصن .
فكيف يستقيم في منطق القرآن والإسلام أن يجعل الحبس في البيت صفة ملازمة للمسلمة الملتزمة المحتشمة , كأننا بهذا نعاقبها عقوبة دائمة وهي لم تقترف إثماً ؟
والخلاصة : أن اللقاء بين الرجال والنساء في ذاته إذن ليس محرما , بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل , من علم نافع أو عمل صالح , أو مشروع خير , أو جهاد لازم , أو غير ذلك مما يتطلب جهوداً متضافرة من الجنسين , ويتطلب تعاونا مشتركا بينهما في التخطيط والتوجيه والتنفيذ .

إلى الفهرس

شبهات أنصار الاختلاط المفتوح

هذا هو موقف الإسلام , وتلك وجهته في علاقة الرجل بالمرأة , ولقائهما على البر والمعروف. وهو ما عبرنا عنه بـ « الاختلاط المشروع » .
ولكن الاستعمار الفكري صنع في بلادنا قوماً يصمون آذانهم عن حكم الله ورسوله , ويدعوننا إلى أن ندع للمرأة حبلها على غاربها , حتى تثبت وجودها , وتبرز شخصيتها , وتستمتع بحياتها وأنوثتها !
تختلط بالرجل بلا تحفظ , وتخبره عن كثب , فتخلو به , وتسافر معه , وتصحبه إلى السينما وتسهر معه إلى منتصف الليل , وتراقصه على نغمات الموسيقى , وتعرف في تجوالها - بالتجربة لا بالسماع - الرجل الذي يصلح لها وتصلح له , من بين من عرفتهم من الأصدقاء والمعجبين , وبهذا تستقر الحياة الزوجية , وتصمد في وجه العواصف والأعاصير !
ويقول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ملائكة مطهرون : لا تخافوا على المرأة ولا على الرجل من هذا الاتصال المهذب , والصداقة البريئة , واللقاء الشريف , فإن صوت الشهوة - لكثرة التلاقي - سيخفت , وحدتها ستفتر , وجذوتها ستخبو , ويجد كل من الذكر والأنثى لذته في مجرد اللقاء والاستمتاع بالنظر والحديث , فإن زاد على ذلك فمراقصة , هي ضرب من التعبير الفني الرفيع ! أما المتعة الحسية فلن يصبح لها مكان , إنه التصريف النظيف للطاقة لا غير وكذلك يفعل الغربيون المتقدمون بعد أن فكوا عقدة الكبت والحرمان .

الرد على أنصار الاختلاط المفتوح :

وردنا على هذه الدعوى من جهتين :
أولاً : إننا مسلمون قبل كل شيء , ولا نبيع ديننا اتباعاً لهوى الغربيين أو الشرقيين , وديننا يحرم علينا هذا الاختلاط بتبرجه وفتنته وإغوائه : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً , وان الظالمين بعضهم أولياء بعض , والله ولي المتقين ) .
ثانياً : إن الغرب الذي يقتدون به يشكو اليوم من آثار هذا التحرر أو التحلل , الذي أفسد بناته وبنيه , وأصبح يهدد حضارته بالخراب والانهيار , ففي أمريكا والسويد وغيرهما من بلاد الحرية الجنسية , أثبتت الإحصاءات أن السعار الشهواني لم ينطفئ بحرية اللقاء والحديث , ولا بما بعد اللقاء والحديث , بل صار الناس كلما ازدادوا منه عباً , ازدادوا عطشاً .
وعلينا أن نبحث : ماذا كان أثر هذا التحرر أو التطور , أو التحلل من الفضائل والتقاليد , في المجتمعات الغربية المتحضرة ؟

أعلى

أثر الاختلاط المطلق في المجتمعات الغربية :

إن الأرقام والوقائع التي تفيض بها الإحصاءات والتقارير , هي التي تتكلم وتبين في هذا المجال , لقد ظهر أثر الانطلاق الجنسي , الذي زالت به الحواجز بين الذكر والأنثى فيما يلي:
1. انحلال الأخلاق :
فانحلال الأخلاق وطغيان الشهوات , وانتصار الحيوانية على الإنسانية , وضياع الحياء والعفاف بين النساء والرجال , واضطراب المجتمع كله نتيجة ذلك .
ولقد قال الرئيس الراحل « كنيدي » في تصريح مشهور له , تناقلته الصحف ووكالات الأنباء عام 1962 : « إن الشباب الأمريكي مائع مترف منحل , غارق في الشهوات , وان من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين , بسبب انهماكهم في الشهوات » . وأنذر بأن هذا الشباب خطر على مستقبل أمريكا .
وفي كتاب لمدير مركز البحوث بجامعة هارفارد بعنوان « الثورة الجنسية » يقرر المؤلف , أن أمريكا سائرة إلى كارثة في الفوضوية الجنسية , وأنها تتجه إلى نفس الاتجاه , الذي أدى إلى سقوط الحضارتين الإغريقية والرومانية في الزمن القديم , ويقول : « إننا محاصرون من جميع الجهات بتيار خطر من الجنس , يغرق كل غرفة من بناء ثقافتنا , وكل قطاع من حياتنا العامة » .
ومع أن الشيوعيين قليلو التحدث عن مثل هذه الأمور الجنسية , ومع عدم السماح لأجهزة الإعلام والتوجيه أن تتناولها , إلا أنه في عام 1962 صدر تصريح للزعيم الروسي خروتشوف , أعلن فيه أن الشباب قد انحرف وأفسده الترف , وهدد بأن معسكرات جديدة قد تفتح في سيبيريا للتخلص من الشباب المنحرف , لأنه خطر على مستقبل روسيا !
2. في انتشار الأبناء غير الشرعيين :
وهى ظاهرة لازمة لانطلاق الغرائز , وذوبان الحواجز بين الفتيان والفتيات , وقد قامت بعض المؤسسات في أمريكا , بعمل إحصاء للحبالى من طالبات المدارس الثانوية , فكانت النسبة مخيفة جداً .
ولننظر ما تقوله أحدث الإحصاءات بهذا الصدد .. تقول :
« إن أكثر من ثلث مواليد عام 1983 في نيويورك هم « أطفال غير شرعيين » أي أنهم ولدوا خارج نطاق الزواج , وأكثرهم ولدوا لفتيات في التاسعة عشرة من العمر وما دونها , وعددهم (353ر112 ) طفلاً أي 37% من مجموع مواليد نيويورك » !! .
3. كثرة العوانس بين الفتيات والعزاب من الشباب :
فإن وجود السبل الميسرة لقضاء الشهوة , بغير تحمل تبعة الزواج وبناء الأسرة , جعل كثيراً من الشباب يختارون الطريق الأسهل , ويقضون أيام شبابهم بين هذه وتلك , متمتعين بلذة التنويع , دون التقيد بالحياة المتشابهة المتكررة كما يزعمون ! ودون التزام بتكاليف الزوجية المسؤولة , والأبوة الراعية .
وكان من نتيجة ذلك وجود كثرة هائلة من الفتيات , تقضى شبابها محرومة من زوج تسكن إليه ويسكن إليها , إلا العابثين الذين يتخذونها أداة للمتعة الحرام , ويقابل هؤلاء الفتيات كثرة من الشباب العزاب المحرومين من الحياة الزوجية , كما تدل على ذلك أحدث الإحصاءات , فقد صرح مدير مصلحة الإحصاء الأمريكية في 22 من ذي القعدة 1402 هـ ( الموافق 10 سبتمبر - أيلول -1982 م ) : « أنه لأول مرة منذ بداية هذا القرن تصبح أغلبية سكان مدينة سان فرانسيسكو من العزاب » .
وأوضح « بروس شامبمان » في مؤتمر صحفي نظمته الجمعية الاجتماعية الأمريكية أنه « وفقا لأرقام آخر تعداد فإن 53% من سكان سان فرانسيسكو غير متزوجين » وأعرب عن اعتقاده بأن هذه الأرقام يمكن أن تكون مؤشراً على أفول الأنموذج العائلي التقليدي !!.
وأضاف شامبمان : « إن هذه التغييرات الاجتماعية ملائمة لتحقيق الرفاهية في المدينة التي زاد عدد سكانها من الشباب بين 25 و 34 سنة بمقدار (4ر40% ) خلال العشر سنوات الأخيرة » .
وقال : « إن التعداد لم يشمل عدد المصابين بالشذوذ الجنسي الذين يقطنون المدينة والذين يشكلون 15 % من السكان تقريبا » .
ولا عجب بعد ذلك أن نقرأ في الصحف مثل هذا الخبر : « خرجت النساء السويديات في مظاهرة عامة , تشمل أنحاء السويد , احتجاجا على إطلاق الحريات الجنسية في السويد , اشتركت في المظاهرة
(000 ر100 ) امرأة , وسوف يقدمن عريضة موقعة منهن إلى الحكومة , تعلن العريضة الاحتجاج على تدهور القيم الأخلاقية » .
إن فطرة المرأة وحرصها على مصلحتها ومستقبلها , هو الذي دفع هذا العدد الهائل إلى التظاهر والاحتجاج .
4. كثرة الطلاق وتدمير البيوت لأتفه الأسباب :
فإذا كان دون الزواج هناك عقبات وعقبات , فإن هذا الزواج , بعد تحققه غير مضمون البقاء , فسرعان ما تتحطم الأسرة , وتنفصم الروابط لأدنى الأسباب .
ففي أمريكا تزداد نسبة الطلاق عاماً بعد عام إلى حد مفزع . والذي يقال عن أمريكا , يقال عن معظم البلاد الغربية .
5. انتشار الأمراض الفتاكة :
انتشار الأمراض السرية , والعصبية , والعقلية , والنفسية , وكثرة العقد والاضطرابات التي يعد ضحاياها بمئات الألوف .
ومن أشد الأمراض خطراً : ما اكتشف أخيراً وعرف باسم « الإيدز » الذي يفقد المناعة من الجسم ويعرضه للتهلكة وغدا يهدد الملايين في أوروبا وأمريكا بأخطر العواقب , كما دلت على ذلك التقارير الطبية والإحصاءات الرسمية التي نشرتها مجلات وصحف في العالم كله , وصدق بهذا ما حذر منه
رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في حديثه : « لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا » .
هذا غير الأمراض العصبية والنفسية التي انتشرت عندهم انتشار النار في الهشيم , وامتلأت بمرضاها المستشفيات والمصحات .
فهل يريد دعاة الاختلاط أن ينقلوا هذه العلل والأمراض إلى مجتمعاتنا وقد كفانا الله شرها وأعاذنا منها ؟! أم أن هذه الأرقام والإحصاءات غائبة من أذهانهم ؟!
لقد زعم « فرويد » ومن تبعه من علماء النفس أن رفع القيود التقليدية عن الغريزة الجنسية يريح الأعصاب , ويحل عقد النفوس , ويمنحها الهدوء والاطمئنان .
ها هي القيود قد رفعت , وها هي الغرائز قد أطلقت , فلم تزد النفوس إلا تعقيداً , ولم تزد الأعصاب إلا توتراً , وأصبح القلق النفسي هو مرض العصر هناك , ولم تغن آلاف العيادات النفسية عنهم شيئاً .

أعلى
إلى الفهرس

المرأة باعتبارها عضواً في المجتمع

يشيع بعض المغرضين أن الإسلام حكم على المرأة بالسجن داخل البيت , فلا تخرج منه إلا إلى القبر !
فهل لهذا الحكم سند صحيح من القرآن والسنة ؟ ومن تاريخ المسلمات في القرون الثلاثة الأولى , التي هي خير القرون ؟
لا . . ثم لا .
فالقرآن يجعل الرجل والمرأة شريكين , في تحمل أعظم المسؤوليات في الحياة الإسلامية , وهي مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
يقول تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ) .
وتطبيقا لهذا المبدأ وجدنا امرأة في المسجد ترد على أمير المؤمنين عمر الفاروق وهو يتحدث فوق المنبر على ملأ من الناس , فيرجع عن رأيه إلى رأيها ويقول بصراحة :
« أصابت امرأة وأخطأ عمر » .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « طلب العلم فريضة على كل مسلم » .
فيجمع علماء المسلمين على أن المسلمة أيضا داخلة في معنى الحديث ففرض عليها أن تطلب من العلم ما يصحح عقيدتها , ويقوم عبادتها , ويضبط سلوكها بأدب الإسلام في اللباس والزينة وغيرها , ويقفها عند حدود الله في الحلال والحرام , والحقوق والواجبات . ويمكنها أن تترقى في العلم حتى تبلغ درجة الاجتهاد .
وليس لزوجها أن يمنعها من طلب العلم الواجب عليها , إذا لم يكن هو قادراً على تعليمها , أو مقصراً فيه .
فقد كان نساء الصحابة يذهبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه فيما يعرض لهن من شؤون , ولم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين .
وصلاة الجماعة ليست مطلوبة من المرأة , طلبها من الرجل , فإن صلاتها في بيتها قد تكون أفضل لظروفها ورسالتها , ولكن ليس للرجل منعها إذا رغبت في صلاة الجماعة بالمسجد ,
قال عليه الصلاة والسلام : « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » .
وللمرأة أن تخرج من بيتها , لقضاء حاجة لها أو لزوجها وأولادها , في الحقل أو السوق , كما كانت تفعل ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر , فقد قالت :
« كنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير - زوجها - وهي من المدينة على ثلثي فرسخ » .
وللمرأة أن تخرج مع الجيش , لتقوم بأعمال الإسعاف والتمريض وما شابه ذلك من الخدمات الملائمة لفطرتها ولقدراتها .
روى أحمد والبخاري عن الربيع بنت معوذ الأنصارية قالت :
« كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمه ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة » .
وروى أحمد ومسلم عن أم عطية قالت :
« غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , سبع
غزوات , أخلفهم في رحالهم , وأصنع لهم الطعام , وأداوي الجرحى , وأقوم على الزمنى »
.
فهذه هي الأعمال اللائقة بطبيعة المرأة ووظيفتها , أما أن تحمل السلاح وتقاتل وتقود الكتائب فليس ذلك من شأنها , إلا أن تدعو لذلك حاجة , فعند ذلك تشارك الرجال في جهاد الأعداء بما تستطيع , وقد اتخذت أم سليم يوم « حنين » خنجراً , فلما سألها زوجها أبو طلحة عنه قالت :
« اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه » .
وقد أبلت أم عمارة الأنصارية بلاءً حسناً في القتال يوم « أحد » , حتى أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم , وفى حروب الردة شهدت المعارك بنفسها , حتى إذا قتل مسيلمة الكذاب عادت وبها عشر جراحات .
فإذا شاع في بعض العصور حبس المرأة عن العلم , وعزلها عن الحياة , وتركها في البيت كأنها قطعة من أثاثه , لا يعلمها الزوج , ولا يتيح لها أن تتعلم - حتى إن الخروج إلى المسجد أصبح عليها محرماَ - إذا شاعت هذه الصورة يوما فمنشؤها الجهل والغلو والانحراف عن هدي الإسلام , واتباع تقاليد مبالغة في التزمت , لم يأذن بها الله , والإسلام ليس مسؤولا عن هذه التقاليد المبتدعة بالأمس , كما أنه ليس مسؤولا عن تقاليد أخرى مسرفة ابتدعت اليوم . إن طبيعة الإسلام هي التوازن المقسط , في كل ما يشرعه ويدعو إليه من أحكام وآداب , فهو لا يعطي شيئا ليحرم آخر , ولا يضخم ناحية على حساب أخرى , ولا يسرف في إعطاء الحقوق , ولا في طلب الواجبات .
ولهذا لم يكن من هم الإسلام تدليل المرأة على حساب الرجل , ولا ظلمها من أجله , ولم يكن همه إرضاء نزواتها على حساب رسالتها , ولا إرضاء الرجل على حساب كرامتها , وإنما نجد أن موقف الإسلام تجاه المرأة يتمثل فيما يلي :

( أ ) إنه يحافظ - كما قلنا - على طبيعتها وأنوثتها التي فطرها الله عليها ويحرسها من أنياب المفترسين الذين يريدون التهامها حراما , ومن جشع المستغلين الذين يريدون أن يتخذوا من أنوثتها , أداة للتجارة والربح الحرام .
( ب ) إنه يحترم وظيفتها السامية التي تهيأت لها بفطرتها , واختارها لها خالقها , الذي خصها بنصيب أوفر من نصيب الرجل , في جانب الحنان والعاطفة , ورقة الإحساس , وسرعة الانفعال , ليعدها بذلك لرسالة الأمومة الحانية , التي تشرف على أعظم صناعة في الأمة , وهي صناعة أجيال الغد .
( جـ ) إنه يعتبر البيت مملكة المرأة العظيمة , هي ربته ومديرته وقطب رحاه , فهي زوجة الرجل , وشريكة حياته , ومؤنس وحدته , وأم أولاده , وهو يعد عمل المرأة في تدبير البيت , ورعاية شؤون الزوج , وحسن تربية الأولاد , عبادةً وجهاداً , ولهذا يقاوم كل مذهب أو نظام يعوقها عن رسالتها , أو يضر بحسن أدائها لها , أو يخرب عليها عشها .
إن كل مذهب أو نظام يحاول إجلاء المرأة عن مملكتها , ويخطفها من زوجها , وينتزعها من فلذات أكبادها - باسم الحرية , أو العمل , أو الفن , أو غير ذلك - هو في الحقيقة عدو للمرأة , يريد أن يسلبها كل شيء , ولا يعطيها لقاء ذلك شيئا يذكر , فلا غرو أن يرفضه الإسلام .
( د ) إنه يريد أن يبني البيوت السعيدة , التي هي أساس المجتمع السعيد . والبيوت السعيدة إنما تبنى على الثقة واليقين , لا على الشك والريبة , والأسرة التي قوامها زوجان يتبادلان الشكوك والمخاوف , أسرة مبنية على شفير هار , والحياة في داخلها جحيم لا يطاق .
( هـ ) إنه يأذن لها أن تعمل خارج البيت فيما يلائمها من الأعمال التي تناسب طبيعتها واختصاصها وقدراتها , ولا يسحق أنوثتها , فعملها مشروع في حدود وبشروط . وخصوصاً عندما تكون هي أو أسرتها في حاجة إلى العمل الخارجي , أو يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عملها خاصة . وليست الحاجة إلى العمل محصورة في الناحية المادية فحسب , فقد تكون حاجة نفسية , كحاجة المتعلمة المتخصصة التي لم تتزوج , والمتزوجة التي لم تنجب , والشعور بالفراغ الطويل , والملل القاتل .
وليس الأمر كما يدعيه أنصار عمل المرأة دون قيود ولا ضوابط , وسنتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل في الصفحات القادمة إن شاء الله .

إلى الفهرس

أنصار المغالاة في عمل المرأة وشبهاتهم

ولكن كما دعا أسرى الغزو الفكري إلى اختلاط المرأة بالرجل , وتذويب الحواجز بين الجنسين , رأيناهم يدعون أيضا إلى تشغيل المرأة في كل مجال , سواء أكان لها حاجة إلى العمل أم لا , وسواء أكان المجتمع في حاجة إلى هذا العمل أم لا , فهذا الأمر مكمل للأمر الأول , فهو من تمام الاختلاط وذوبان الفوارق , والتحرر من ظلم العصور الوسطى وظلامها , كما يقال !
ومن مكرهم ودهائهم أنهم - في كثير من الأحيان - لا يعلنون صراحة أنهم يريدون للمرأة أن تتمرد على فطرتها , وتخرج من حدود أنوثتها , وأنهم يريدون استغلال أنوثتها للمتعة الحرام , أو الكسب الحرام , بل يظهرون في صورة الأطهار المخلصين , الذين لا يريدون إلا المصلحة , فهم يؤيدون رأيهم في تشغيل المرأة بأدلة مبعثرة , نجمع شتاتها فيما يلي :

1. إن الغرب وهو أكثر منا تقدماً ورقياً في مضمار الحضارة قد سبقنا إلى تشغيل المرأة , فإذا أردنا الرقي مثله فلنحذ حذوه في كل شئ فإن الحضارة لا تتجزأ .
2. إن المرأة نصف المجتمع , وإبقاؤها في البيت بلا عمل تعطيل لهذا النصف , وضرر على الاقتصاد القومي , فمصلحة المجتمع تقضي بعمل المرأة .
3. ومصلحة الأسرة كذلك تقضى بعملها , فإن تكاليف الحياة قد تزايدت في هذا العصر , وعمل المرأة يزيد من دخل الأسرة ويعاون الرجل على أعباء المعيشة , وخصوصا في البيئات المحدودة الدخل .
4. ومصلحة المرأة نفسها تدعو إلى العمل , فإن الاحتكاك بالناس وبالحياة وبالمجتمع خارج البيت يصقل شخصيتها , ويمدها بخبرات وتجارب , ما كان لها أن تحصل عليها داخل الجدران الأربعة .
5. كما أن العمل سلاح في يدها ضد عوادي الزمن , فقد يموت أبوها أو يطلقها زوجها , أو يهملها أولادها , فلا تذلها الفاقة والحاجة . ولا سيما في زمن غلبت فيه الأنانية , وشاع فيه العقوق , وقطيعة الأرحام , وقول كل امرئ : نفسي نفسي .

الرد على هذه الشبهات :

1. أما الاحتجاج بالغرب فهو احتجاج باطل , للأسباب الآتية :
( أ ) لأن الغرب ليس حجة علينا , ولسنا مكلفين أن نتخذ الغرب إلها يعبد ولا قدوة تتبع : ( لكم دينكم ولي دين ) .
( ب ) إن المرأة في الغرب خرجت إلى المصنع والمتجر وغيرهما مجبورة لا مختارة , تسوقها الحاجة إلى القوت , والاضطرار إلى لقمة العيش , بعد أن نكل الرجل عن إعالتها , في مجتمع قاس لا يرحم صغيراً لصغره , ولا أنثى لأنوثتها , وقد أغنانا الله بنظام النفقات في شريعتنا عن مثل هذا .
وقد ذكر أستاذنا محمد يوسف - رحمه الله تعالى - في كتابه « الإسلام وحاجة الإنسانية إليه » أثناء حديثه عن عناية الإسلام بالأسرة قال : « ولعل من الخير أن أذكر هنا أنى حين إقامتي بفرنسا كانت تخدم الأسرة التي نزلت في بيتها فترة من الزمن فتاة يظهر عليها مخايل كرم الأصل , فسألت ربة البيت : لماذا تخدم هذه الفتاة ؟ أليس لها قريب يجنبها هذا العمل , ويوفر لها ما تقيم به حياتها ؟ فكان جوابها : أنها من أسرة طيبة في البلدة , وعمها غني موفور الغنى , ولكنه لا يعنى بها ولا يهتم بأمرها . فسألت : لماذا لا ترفع الأمر للقضاء , ليحكم لها عليه بالنفقة ؟ فدهشت السيدة من هذا القول , وعرفتني أن ذلك لا يجوز لها قانونا . وحينئذ أفهمتها حكم الإسلام في هذه الناحية , فقالت : ومن لنا بمثل هذا التشريع ؟ لو أن هذا جائز قانونا عندنا لما وجدت فتاة أو سيدة تخرج من بيتها للعمل في شركة أو مصنع أو معمل أو ديوان من دواوين الحكومة » . تعني : أن خوفهن من الجوع والضياع هو الذي دفع تلك الجيوش من النساء إلى العمل بحكم الضرورة .
( جـ ) إن الغرب الذي يقتدون به أصبح اليوم يشكو من عمل المرأة وما جره من آثار , وأصبحت المرأة نفسها هناك تشكو من هذا البلاء , الذي لم يكن لها فيه خيار , تقول الكاتبة الشهيرة « آنا رود » في مقالة نشرتها في جريدة « الاسترن ميل » : « لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل , حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد .
« ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهر رداءً , الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش , ويعاملان كما يعامل أولاد البيت , ولا تمس الأعراض بسوء . . نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن نجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال , فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام بالبيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها » .
( د ) إن مصلحة المجتمع ليست في أن تدع المرأة رسالتها الأولى في البيت , لتعمل مهندسة أو محامية أو نائبة أو قاضية أو عاملة في مصنع , بل مصلحته أن تعمل في مجال تخصصها الذي هيأتها له الفطرة : مجال الزوجية والأمومة - وهو لا يقل - بل يزيد - خطراً عن العمل في المتاجر والمعامل والمؤسسات , وقد قيل لنابليون : أي حصون فرنسا أمنع ؟ فقال : الأمهات الصالحات !!
والذين يزعمون أن المرأة في البيت عاطلة , يجهلون أو يتجاهلون , ما تشكو منه فضليات النساء , من كثرة الأعمال والأعباء المنزلية , التي تستنفد وقتها وجهدها كله , ولا يكاد يكفي , فإن كان عند بعض النساء فضل وقت فلنعلمها قضاءه في الخياطة والتطريز , وما يليق بها من الأعمال , التي لا تتعارض مع واجبها في البيت ( ويمكن أن تعمل هذا بأجر لبعض المؤسسات , وهي في البيت ) أو في خدمة مجتمعها وبنات جنسها , والإسهام في مقاومة الفقر والجهل والمرض والرذيلة .
والواقع أن كثيراً من النساء العاملات يستخدمن نساء أخريات للعمل مربيات لأولادهن أو شغالات في بيوتهن . ومعنى هذا أن البيت في حاجة إلى امرأة ترعى شئونه , وأولى الناس بذلك ربته وملكته , بدل المرأة الغريبة , والتي كثيراً ما تكون غريبة الدار والخلق والدين واللغة والأفكار والعادات - كما هو شائع في مجتمعات الخليج من المربيات والخادمات المستوردات من الشرق الأقصى - وخطورة هذا الأمر لا تخفى على عاقل .
( هـ ) كما أن سعادة الأسرة ليست في مجرد زيادة الدخل , الذي ينفق معظمه في أدوات الزينة , وثياب الخروج , وتكاليف الحياة المختلطة , التي تقوم على التكلف والتصنع وسباق الأزياء , و « المودات » وما إلى ذلك , ويقابل هذه الزيادة في الدخل حرمان البيت من السكينة والأنس , الذي تشيعه المرأة في جو الأسرة , أما المرأة العاملة فهي مكدودة الجسم , مرهقة الأعصاب , وهي نفسها في حاجة إلى من يروح عنها , وفاقد الشيء لا يعطيه .
( و ) إن مصلحة المرأة ليست في إخراجها عن فطرتها واختصاصها وإلزامها أن تعمل عمل الذكر , وقد خلقها الله أنثى , فهذا كذب على المرأة وعلى الواقع , وقد تفقد المرأة من هذا الصنف أنوثتها بالتدريج , حتى أطلق عليها بعض الكتاب الإنجليز « الجنس الثالث » , وهذا ما اعترف به كثير من النساء من ذوات الشجاعة الأدبية .
( ز ) وما يدعى من أن العمل سلاح في يد المرأة , إن صح في الغرب فلا يصح عندنا نحن المسلمين , لأن المرأة في الإسلام مكفية الحاجات بحكم النفقة الواجبة شرعا على أبيها , أو زوجها , أو أبنائها أو أخيها , أو غيرهم من العصبات والأقارب , وان كان تقليد الغرب بدأ يفقدنا خصائصنا شيئا فشيئا !

إلى الفهرس

مضار اشتغال المرأة بعمل الرجال

وبهذا نعلم أن اشتغال المرأة في أعمال الرجال وانهماكها فيها بغير قيود ولا حدود , مضرة لا شك فيها , من جوانب شتى :
1. مضرة على المرأة نفسها : لأنها تفقد أنوثتها وخصائصها , وتحرم من بيتها وأولادها , حتى إن كثيراً من النساء أصبن بالعقم . وبعضهم سماهن « الجنس الثالث » أي الذي لا هو رجل ولا هو امرأة !
2. مضرة على الزوج : لأنه يحرم من نبع سخي كان يفيض عليه بالأنس والبهجة , فلم يعد يفيض عليه إلا الجدل , والشكوى من مشكلات العمل , ومنافسة الزميلات والزملاء , فضلاً على أن الرجل يفقد كثيراً من سلطانه وقوامته عليها , لشعورها بأنها مستغنية بعملها عنه , وربما كان راتبها أكبر من راتبه , فتشعر بالاستعلاء عليه . هذا إلى ما يشعر به كثير من الأزواج من عذاب الغيرة والشك .
3. مضرة على الأولاد : لأن حنان الأم , وقلب الأم , وإشراف الأم , لا يغني عنه غيره من خادم أو مدرسة , وكيف يستفيد الأولاد من أم تقضي نهارها في عملها , فإذا عادت إلى البيت عادت متعبة مهدودة , متوترة , فلا حالتها الجسمية ولا النفسية تسمح بحسن التربية وسلامة التوجيه .
4. مضرة على جنس الرجال : لأن كل امرأة عاملة , تأخذ مكان رجل صالح للعمل , فما دام في المجتمع رجال متعطلون , فعمل المرأة إضرار بهم .
5. مضرة على العمل نفسه : لأن المرأة كثيرة التخلف والغياب عن العمل , لكثرة العوارض الطبيعية التي لا تملك دفعها , من حيض وحمل ووضع وإرضاع وما شابه ذلك , وهذا كله على حساب انتظام العمل وحسن الإنتاج فيه .
6. مضرة على الأخلاق : أخلاق المرأة إذا فقدت حياء النساء , وأخلاق الرجل إذا فقد غيرة الرجال , وأخلاق الجيل إذا فقد حسن التربية والتهذيب منذ نعومة الأظفار , وأخلاق المجتمع كله إذا أصبح كسب المال وزيادة الدخل هو الهدف الأكبر , الذي يسعى إليه الناس , ولو على حساب القيم الرفيعة , والمثل العليا .
7. مضرة على الحياة الاجتماعية: لأن الخروج على الفطرة , ووضع الشيء في غير موضعه الذي اقتضته هذه الفطرة , يفسد الحياة نفسها , ويصيبها بالخلل والتخبط والاضطراب .

إلى الفهرس

متى يجوز للمرأة أن تعمل

هل يفهم من هذا أن عمل المرأة حرام أو ممنوع شرعا بكل حال ؟
كلا , وينبغي أن نبين هنا إلى أي مدى , وفى أي مجال , تجيز الشريعة للمرأة أن تعمل .
هذا ما نحدده بإيجاز ووضوح أيضا , حتى لا يلتبس الحق بالباطل في هذه القضية الحساسة . إن عمل المرأة الأول والأعظم الذي لا ينازعها فيه منازع , ولا ينافسها فيه منافس , هو تربية الأجيال , الذي هيأها الله له بدنياً , ونفسياً , ويجب ألا يشغلها عن هذه الرسالة الجليلة شاغل مادي أو أدبي مهما كان , فإن أحداً لا يستطيع أن يقوم مقام المرأة في هذا العمل الكبير , الذي عليه يتوقف مستقبل الأمة , وبه تتكون أعظم ثرواتها , وهي الثروة البشرية .
ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال :

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق

وهذا لا يعنى أن عمل المرأة خارج بيتها محرم شرعاً , فليس لأحد أن يحرم بغير نص شرعي صحيح الثبوت , صريح الدلالة , والأصل في الأشياء والتصرفات العادية الإباحة كما هو معلوم .
وعلى هذا الأساس نقول : إن عمل المرأة في ذاته جائز , وقد يكون مطلوباً إذا احتاجت إليه , كأن تكون أرملة أو مطلقة , أو لم توفق للزواج أصلاً , ولا مورد لها ولا عائل , وهي قادرة على نوع من الكسب يكفيها ذل السؤال أو المنة .
وقد تكون الأسرة هي التي تحتاج إلى عملها كأن تعاون زوجها , أو تربي أولادها , أو إخوتها الصغار , أو تساعد أباها في شيخوخته , كما في قصة ابنتي الشيخ الكبير التي ذكرها القرآن الكريم في سورة القصص , وكانتا تقومان على غنم أبيهما ,
قال تعالى : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان , قال ما خطبكما , قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء , وأبونا شيخ كبير) .
وقد يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عمل المرأة , كما في تطبيب النساء وتمريضهن , وتعليم البنات , ونحو ذلك من كل ما يختص بالمرأة . فالأولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها , لا مع رجل , وقبول الرجل في بعض الأحوال يكون من باب الضرورة التي ينبغي أن تقدر بقدرها , ولا تصبح قاعدة ثابتة . ومثل ذلك إذا احتاج المجتمع لأيد عاملة , لضرورة التنمية .
وإذا أجزنا عمل المرأة , فالواجب أن يكون مقيداً بعدة شروط :
1. أن يكون العمل في ذاته مشروعاً , بمعنى ألا يكون عملها حراماً في نفسه , أو مفضياً إلى ارتكاب حرام , كالتي تعمل خادماً لرجل أعزب , أو سكرتيرة خاصة لمدير تقتضي وظيفتها أن يخلو بها وتخلو به , أو راقصة تثير الشهوات والغرائز الدنيا , أو عاملة في « بار » تقدم الخمر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقيها وحاملها وبائعها .. أو مضيفة في طائرة يوجب عليها عملها التزام زي غير شرعي , وتقديم ما لا يباح شرعاً للركاب , والتعرض للخطر بسبب السفر البعيد بغير محرم , بما يلزمه من المبيت وحدها في بلاد الغربة , وبعضها بلاد غير مأمونة , أو غير ذلك من الأعمال التي حرمها الإسلام على النساء خاصة أو على الرجل والنساء جميعا .
2. أن تلتزم أدب المرأة المسلمة إذا خرجت من بيتها : في الزي والمشي والكلام والحركة : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) , ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) , ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً ) .
3. ألا يكون عملها على حساب واجبات أخرى لا يجوز لها إهمالها كواجبها نحو زوجها وأولادها وهو واجبها الأول وعملها الأساسي .
والمطلوب من المجتمع المسلم : أن يرتب الأمور , ويهيئ الأسباب , بحيث تستطيع المرأة المسلمة أن تعمل - إذا اقتضت ذلك مصلحتها أو مصلحة أسرتها , أو مصلحة مجتمعها - دون أن يخدش ذلك حياءها , أو يتعارض مع التزامها بواجبها نحو ربها ونفسها وبيتها , وأن يكون المناخ العام مساعداً لها على أن تؤدى ما عليها , وتأخذ ما لها . ويمكن أن يرتب لها نصف عمل بنصف أجر ( ثلاثة أيام في الأسبوع مثلاً ) . كما ينبغي أن يمنحها إجازات كافية في أول الزواج , وكذلك إجازات الولادة والإرضاع .
ومن ذلك : إنشاء مدارس وكليات وجامعات للبنات خاصة , يستطعن فيها ممارسة الرياضات والألعاب الملائمة لهن , وأن يكون لهن الكثير من الحرية في التحرك وممارسة الأنشطة المختلفة .
ومن ذلك : إنشاء أقسام أو أماكن مخصصة للعاملات من النساء في الوزارات والمؤسسات والبنوك , بعداً عن مظان الخلوة والفتنة .
إلى غير ذلك من الوسائل التي تتنوع وتتجدد , ولا يسهل حصرها .
والله يقول الحق , وهو يهدي السبيل .

إلى الفهرس