فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

تعدد الزوجات

يتناول المبشرون والمستشرقون موضوع « تعدد الزوجات » وكأنه شعيرة من شعائر الإسلام , أو واجب من واجباته , أو على الأقل مستحب من مستحباته . وهذا ضلال أو تضليل , فالأصل الغالب في زواج المسلم : أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة تكون سكن نفسه , وأنس قلبه , وربة بيته , وموضع سره , وبذلك ترفرف عليهما السكينة والمودة والرحمة , التي هي أركان الحياة الزوجية في نظر القرآن .
ولذا قال العلماء : يكره لمن له زوجة تعفه وتكفيه أن يتزوج عليها , لما فيه من تعريض نفسه للمحرم ,
قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم , فلا تميلوا كل الميل ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما , جاء يوم القيامة وشقه مائل »
أما من كان عاجزاً عن الإنفاق على الزوجة الثانية , أو كان يخشى من نفسه ألا يعدل بين زوجتيه فحرام عليه أن يقدم على الزواج من الأخرى , قال تعالى : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .
وإذا كان الأفضل في الزواج أن يقتصر المرء على واحدة - اتقاء للمزالق وخشية من المتاعب في الدنيا والعقوبة في الآخرة . فإن هناك اعتبارات إنسانية : فردية واجتماعية ( سنذكرها ) جعلت الإسلام يبيح للمسلم أن يتزوج بأكثر من واحدة , لأنه الدين الذي يوافق الفطرة السليمة , ويعالج الواقع الماثل , دون هرب ولا شطط , ولا إغراق في الخيال .

تعدد الزوجات بين الأمم القديمة والإسلام :

يتحدث بعض الناس عن تعدد الزوجات وكأن الإسلام هو أول من شرعه . وهو جهل منهم أو تجاهل للتاريخ , فقد كان كثير من الأمم والملل - قبل الإسلام - يبيحون التزوج بالجم الغفير من النساء قد يبلغ العشرات , وقد يصل إلى المائة وأكثر , دون اشتراط لشرط , ولا تقيد بقيد. وقد ذكر « العهد القديم » أن داود كان عنده ثلاثمائة امرأة , وأن سليمان كان عنده سبعمائة ما بين زوجة وسرية .
فلما جاء الإسلام وضع لتعدد الزوجات قيداً وشرطاً . فأما القيد فجعل الحد الأقصى للزوجات أربعاً . وقد أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة ,
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر منهن أربعا وفارق سائرهن » . وكذلك من أسلم عن ثمان وعن خمس , أمره الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يمسك منهن إلا أربعا .
أما زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع فكان هذا شيئا خصه الله به , لحاجة الدعوة في حياته , وحاجة الأمة إليهن بعد وفاته , وقد عاش جل حياته مع زوجة واحدة .

أعلى
إلى الفهرس

العدل شرط إباحة التعدد :

وأما الشرط الذي اشترطه الإسلام لتعدد الزوجات , فهو ثقة المسلم في نفسه , أن يعدل بين زوجتيه , في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والنفقة , فمن لم يثق في نفسه في القدرة على هذه الحقوق , بالعدل والتسوية , حرم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة , قال تعالى : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : « من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا - أو مائلا » .
والميل الذي حذر منه هذا الحديث , هو الجور على حقوقها , لا مجرد الميل القلبي , فإن هذا داخل في العدل الذي لا يستطاع , والذي عفا الله عنه وسامح في شأنه ,
قال سبحانه وتعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم , فلا تميلوا كل الميل ) , ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل , ويقول : « اللهم هذا قسمي فيما أملك , فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » يعني بما لا يملكه , أمر القلب والميل العاطفي إلى إحداهن خاصة .
وكان إذا أراد سفراً حكم بينهن القرعة , فأيتهن خرج سهمها سافر بها . وإنما فعل ذلك دفعاً لوغر الصدور , وترضية للجميع .

أعلى
إلى الفهرس

الحكمة في إباحة التعدد :

إن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة التي ختم بها الرسالات , لهذا جاءت بشريعة عامة خالدة , تتسع للأقطار كلها , وللأعصار قاطبة , وللناس جميعا .
إنه لا يشرع للحضري ويغفل البدوي , ولا للأقاليم الباردة وينسى الحارة , ولا لعصر خاص مهملاً بقية العصور والأجيال . إنه يقدر ضرورة الأفراد , وضرورة الجماعات .
فمن الناس من يكون قوي الرغبة في النسل , ولكنه رزق بزوجة لا تنجب لعقم أو مرض أو غيره , أفلا يكون أكرم لها , وأفضل له , أن يتزوج عليها من تحقق له رغبته , مع بقاء الأولى , وضمان حقوقها ؟
ومن الرجال من يكون قوى الغريزة , ثائر الشهوة , ولكنه رزق بزوجة قليلة الرغبة في الرجال , أو ذات مرض , أو تطول عندها فترة الحيض أو نحو ذلك , والرجل لا يستطيع الصبر كثيراً على النساء , أفلا يباح له أن يتزوج بأخرى حليلة , بدلا من أن يبحث عن خليلة ؟ أو بدلا من أن يطلق الأولى ؟
وقد يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال , وخاصة في أعقاب الحروب التي تلتهم صفوة الرجال والشباب , وهناك تكون مصلحة المجتمع , ومصلحة النساء أنفسهن في أن يكن ضرائر , بدلا من أن يعشن العمر كله عوانس محرومات من الحياة الزوجية , وما فيها من سكون ومودة وإحصان , ومن نعمة الأمومة , ونداء الفطرة في ثناياهن يدعو إليها .
إنها إحدى طرائق ثلاث , أمام هؤلاء الزائدات عن عدد الرجال القادرين على الزواج :
1. فإما أن يقضين العمر كله في مرارة الحرمان من حياة الزوجية والأمومة .
2. وإما أن يرخى لهن العنان , ليعشن أدوات لهو لعبث الرجال المفسدين . وما يترتب على ذلك من إتيانهن بأطفال غير شرعيين ( أولاد حرام ) , وكثرة عدد اللقطاء المحرومين من الحقوق المادية والمعنوية , ليكونوا عالة على المجتمع , وأداة هدم فيه وإفساد .
3. وإما أن يباح لهن الزواج برجل متزوج قادر على النفقة والإحصان . ولا ريب أن هذه الطريقة الأخيرة هي الحل العادل الأمثل , والبلسم الشافي . وذلك هو ما حكم به الإسلام : ( ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) .

أعلى
إلى الفهرس

التعدد نظام أخلاقي إنساني :

إن نظام التعدد - كما شرعه الإسلام - نظام أخلاقي إنساني .
أما أنه أخلاقي .. فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأي امرأة شاء , وفي أي وقت شاء . إنه لا يجوز له أن يتصل بأكثر من ثلاث نساء زيادة عن زوجته . ولا يجوز له أن يتصل بواحدة منهن سراً , بل لا بد من إجراء العقد وإعلانه ولو بين نفر محدود , ولا بد من أن يعلم أولياء المرأة بهذا الاتصال المشروع , ويوافقوا عليه , أو أن لا يبدوا عليه اعتراضا , ولا بد من تسجيله - بحسب التنظيم الحديث - في محكمة مخصصة لعقود الزواج . ويستحب أن يولم الرجل عليه , وأن يدعو لذلك أصدقاءه , وأن يضرب له الدفوف ( الموسيقى ) مبالغة في الفرح والإكرام .
وأما أنه إنساني .. فلأنه يخفف الرجل به من أعباء المجتمع بإيواء امرأة لا زوج لها , ونقلها إلى مصاف الزوجات المصونات المحصنات .
ولأنه يدفع ثمن اتصاله الجنسي مهراً وأثاثاً .ونفقات تعادل فائدته الاجتماعية من بناء خلية اجتماعية تنتج للأمة نسلاً عاملاً .
ولأنه لا يخلى بين المرأة التي اتصل بها وبين متاعب الحمل وأعبائه , تحتمله وحدها بل يتحمل قسطاً من ذلك بما ينفقه عليها أثناء حملها وولادتها .
ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبهم هذا الاتصال الجنسي , ويقدمهم للمجتمع ثمرة من ثمرات الحب الشريف الكريم , يعتز هو بهم , وتعتز أمته في المستقبل بهم .
إن نظام التعدد كما قال الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - يعدد الإنسان فيه شهوته إلى قدر محدود , ولكنه يضاعف أعباءه ومتاعبه ومسئولياته إلى قدر غير محدود .
لا جرم أن كان نظاماً أخلاقياً يحفظ الأخلاق , إنسانيا يشرف الإنسان .

أعلى
إلى الفهرس

تعدد الغربيين لا أخلاقي ولا إنساني :

وأين هذا من التعدد الواقع في حياة الغربيين , حتى تحداهم أحد كتابهم أن يكون أحدهم وهو على فراش الموت يدلي باعترافاته للكاهن , بأنه اتصل بامرأة ولو مرة واحدة في حياته .
إن هذا التعدد عند الغربيين واقع من غير قانون , بل واقع تحت سمع القانون وبصره .
إنه لا يقع باسم الزوجات , ولكنه يقع باسم الصديقات والخليلات .
إنه ليس مقتصراً على أربعة فحسب , بل هو إلى ما لا نهاية له من العدد .
إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة , ولكن سراً لا يعرف به أحد .
إنه لا يلزم صاحبه بأية مسئولية مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن , بل حسبه أن يلوث شرفهن , ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة وتحمل آلام الحمل والولادة غير المشروعة .
إنه لا يلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد , بل يعتبرون غير شرعيين , يحملون على جباههم خزي السفاح ما عاشوا , ولا يملكون أن يرفعوا بذلك رأسا .
إنه تعدد قانوني من غير أن يسمى تعدد الزوجات , خال من كل تصرف أخلاقي , أو يقظة وجدانية , أو شعور إنساني .
إنه تعدد تبعث عليه الشهوة والأنانية , ويفر من محمل كل مسئولية .
فأي النظامين ألصق بالأخلاق , وأكبح للشهوة , وأكرم للمرأة , وأدل على الرقي , وأبر بالإنسانية ؟ .

أعلى
إلى الفهرس

إساءة استخدام رخصة التعدد :

ولا ننكر أن كثيراً من المسلمين أساءوا استخدام رخصة التعدد الذي شرعه الله لهم , كما رأيناهم أساءوا استخدام رخصة الطلاق . والعيب ليس عيب الحكم الشرعي , بل عيب التطبيق له , الناشئ , من سوء الفهم , أو سوء الخلق والدين .
لقد رأينا منهم من يعدد , وهو غير واثق من نفسه بالعدل الذي شرطه الله للزواج بأخرى , ومنهم من يعدد وهو غير قادر على النفقة اللازمة لزوجتين , وما قد يتبع ذلك من أولاد ومسؤوليات . وبعضهم يكون قادراً على الإنفاق , ولكنه غير قادر على الإحصان .
وكثيراً ما أدى سوء استعمال هذا الحق إلى عواقب ضارة بالأسرة , نتيجة تدليل الزوجة الجديدة , وظلم الزوجة القديمة , التي ينتهي بها ميل الزوج عليها كل الميل , إلى أن يذرها كالمعلقة , التي لا هي مزوجة ولا مطلقة , وكثيراً ما أدى ذلك إلى تحاسد الأولاد , وهم أبناء أب واحد , لأنه لم يعدل بينهم في الحقوق , ولم يسو بينهم في التعامل المادي والأدبي .
ومهما يكن من انحراف البعض في هذا المجال , فلن يبلغ السوء الذي هبط إليه الغربيون , بتحريم التعدد الأخلاقي , وإباحة التعدد غير الأخلاقي . ( على أن التعدد لم يعد مشكلة في أكثر المجتمعات المسلمة , إذ الزواج بواحدة الآن غدا مشكلة المشكلات ) .

أعلى
إلى الفهرس

دعوة المتغربين لمنع التعدد :

ومن المؤسف أن بعض دعاة التغريب في أوطاننا العربية والإسلامية , استغلوا ما وقع من بعض المسلمين من انحراف , فقاموا يرفعون أصواتهم بإغلاق باب التعدد بالكلية , وأمسوا وأصبحوا وهم يبدئون ويعيدون في الحديث عن مساوئ التعدد , في حين يصمتون صمت القبور عن مساوئ الزنى , الذي تبيحه - للأسف - القوانين الوضعية التي تحكم ديار المسلمين اليوم !
ولعبت أجهزة الإعلام - وبخاصة الأفلام والمسلسلات - دوراَ خطيراً في التنفير من التعدد , لا سيما بين النساء , حتى إن بعضهن لترضى أن يسقط زوجها في كبيرة الزنى ولا يتزوج عليها !

أعلى
إلى الفهرس

ما يستند إليه دعاة المنع :

وقد نجح هؤلاء فعلاً في بعض البلاد العربية والإسلامية , فصدرت قوانين تحرم ما أحل الله من التعدد , اتباعا لسنن الغرب .. ولا زال منهم من يحاول ذلك في بلاد أخرى . وأعجب شيء في هذه القضية: أن يراد تبريرها باسم الشرع , وأن يحتجوا لها بأدلة تلبس لبوس الفقه! احتج هؤلاء بأن من حق ولي الأمر أن يمنع بعض المباحات جلباً لمصلحة أو درءاً لمفسدة . بل إن بعضهم حاول في جرأة وقحة أن يحتج بالقرآن على دعواه هذه , فقالوا : إن القرآن اشترط لمن يتزوج بأكثر من واحدة أن يثق من نفسه بالعدل بين الزوجتين أو الزوجات , فمن خاف ألا يعدل وجب أن يقتصر على واحدة . وذلك قوله تعالى : ( وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع , فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) هذا هو شرط القرآن للتعدد : العدل . ولكن القرآن - في زعمهم - جاء في نفس السورة بآيه بينت أن العدل المشروط غير ممكن وغير مستطاع . وهى قوله سبحانه : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة )
وبهذا نفت هذه الآية اللاحقة ما أثبتته الآية السابقة !
والحق أن هذه الاستدلالات كلها باطلة ولا تقف أمام النقد العلمي السليم وسنعرض لها واحداً واحداً .

* الشريعة لا تبيح ما فيه مفسدة راجحة :

1. أما القول بأن التعدد قد جر وراءه مفاسد ومضار أسرية واجتماعية فهو قول يتضمن مغالطة مكشوفة . ونقول ابتداء لهؤلاء المغالطين :
إن شريعة الإسلام لا يمكن أن تحل للناس شيئاً يضرهم , كما لا تحرم عليهم شيئاً ينفعهم , بل الثابت بالنص والاستقراء أنها لا تحل إلا الطيب النافع , ولا تحرم إلا الخبيث الضار . وهذا ما عبر عنه القرآن بأبلغ العبارات وأجمعها في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم كما بشرت به كتب أهل الكتاب , فهو :
( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) .
فكل ما أباحته الشريعة فلا بد أن تكون منفعته خالصة أو راجحة , وكل ما حرمته الشريعة فلا بد أن تكون مضرته خالصة أو راجحة , وهذا واضح فيما ذكره القرآن عن الخمر والميسر :
( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكثر من نفعهما ) .
وهذا هو ما راعته الشريعة في تعدد الزوجات فقد وازنت بين المصالح والمفاسد , والنافع والضار , ثم أذنت به لمن يحتاج إليه , ويقدر عليه بشرط أن يكون واثقا من نفسه برعاية العدل , غير خائف عليها من الجور والميل :
( فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .
فإذا كان من مصلحة الزوجة الأولى أن تبقى وحدها متربعة على عرش الزوجية لا ينازعها أحد , ورأت أنها ستتضرر بمزاحمة زوجة أخرى لها , فإن من مصلحة الزوج أن يتزوج بأخرى تحصنه من الحرام , أو تنجب له ذرية يتطلع إليها , أو غير ذلك . وان من مصلحة الزوجة الثانية كذلك أن يكون لها نصف زوج تحيا في ظله , وتعيش في كنفه وكفالته , بدل أن تعيش عانسا أو أرملة أو مطلقة محرومة طوال الحياة .
وان من مصلحة المجتمع أن يصون رجاله , ويستر على بناته , بزواج حلال يتحمل فيه كل من الرجل والمرأة مسئوليته فيه , عن نفسه وصاحبه وما قد يرزقهما الله من ذرية , بدل ذلك التعدد الذي عرفه الغرب الذي أنكر على المسلمين تعدد الحليلات , وأباح هو تعدد الخليلات , وهو تعدد غير أخلاقي وغير إنساني , يستمتع فيه كلاهما بصاحبه دون أن يتحمل أية تبعة , ولو جاء , من هذه الصلة الخبيثة ولد , فهو نبات شيطاني لا أب له يضمه إليه , ولا أسرة تحنو عليه , ولا نسب يعتز به .
فأي المضار أولى أن تجتنب ؟
على أن الزوجة الأولى قد حفظت لها الشريعة حقها في المساواة بينها وبين ضرتها , في النفقة والسكنى والكسوة والمبيت , وهذا هو العدل الذي شرط للتعدد .
صحيح أن بعض الأزواج لا يراعون العدل الذي فرضه الله عليهم , ولكن سوء التطبيق لا يعني إلغاء المبدأ من أساسه , وإلا لألغيت الشريعة - بل الشرائع - كلها . ولكن توضع الضوابط اللازمة .

* حق ولي الأمر في منع المباحات :

2. وأما ما ادعاه هؤلاء من أن حق ولي الأمر منع بعض المباحات فنقول لهم :
إن الذي أعطاه الشرع لولي الأمر هو حق تقييد بعض المباحات لمصلحة راجحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال , أو لبعض الناس , لا أن يمنعها منعاً عاماً مطلقاً مؤبداً . لأن المنع المطلق المؤبد أشبه بالتحريم الذي هو من حق الله تعالى , وهو الذي أنكره القرآن على أهل الكتاب الذين
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) .
وقد جاء الحديث مفسراً للآية :
« إنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم » .
إن تقييد المباح مثل منع ذبح اللحم في بعض الأيام تقليلاً للاستهلاك منه , كما حدث في عصر عمر رضي الله عنه , ومثل منع زراعة محصول معين بأكثر من مقدر محدد كالقطن في مصر , حتى لا يجور التوسع في زراعته على الحبوب والمحاصيل الغذائية التي يقوم عليها قوت الناس .
ومثل منع كبار ضباط الجيش أو رجال السلك الديبلوماسي من الزواج بأجنبيات , خشية تسرب أسرار الدولة , عن طريق النساء إلى جهات معادية .
ومثل ذلك منع زواج الكتابيات إذا خيف أن يحيف ذلك على البنات المسلمات , وذلك في مجتمعات الأقليات الإسلامية الصغيرة والجاليات الإسلامية المحدودة العدد .
أما أن نجيء إلى شيء أحله الله تعالى وأذن فيه بصريح كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم,
واستقر عليه عمل الأمة مثل الطلاق أو تعدد الزوجات , فنمنعه منعاً عاماً مطلقاً مؤبداً . فهذا شيء غير مجرد تقييد المباح الذي ضربنا أمثلته .

* معنى ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ) :

وأما الاستدلال بالقرآن الكريم فهو استدلال مرفوض , وتحريف للكلم عن موضعه , وهو يحمل في طيه اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضى الله عنهم بأنهم لم يفهموا القرآن , أو فهموه وخالفوه متعمدين .
والآية التي استدلوا بها هي نفسها ترد عليهم , لو تدبروها . فالله تعالى أذن في تعدد الزوجات بشرط الثقة بالعدل , ثم بين العدل المطلوب في نفس السورة حين
قال: ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم , فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ).
فهذه الآية تبين أن العدل المطلق الكامل بين النساء غير مستطاع بمقتضى طبيعة البشر ! لأن العدل الكامل يقتضي المساواة بينهن في كل شيء حتى في ميل القلب , وشهوة الجنس , وهذا ليس في يد الإنسان , فهو يحب واحدة أكثر من أخرى , ويميل إلى هذه أكثر من تلك , والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء .
ومن ثم كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يقسم بين نسائه في الأمور الظاهرة من النفقة والكسوة والمبيت : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك » . . . يعنى أمر القلب .
فأمر القلب هذا هو الذي لا يستطاع العدل فيه , وهو في موضع العفو من الله تعالى , فإن الله جل شأنه لا يؤاخذ الإنسان فيما لا قدرة له عليه , ولا طاقة له به .
ولهذا قالت الآية الكريمة , بعد
قوله : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) : ( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) . ومفهوم الآية أن بعض الميل مغتفر وهو الميل العاطفي .
والعجب العجاب أن تأخذ بعض البلاد العربية الإسلامية بتحريم تعدد الزوجات في حين أن تشريعاتها لا تحرم الزنى , الذي
قال الله فيه : ( انه كان فاحشةً وساء سبيلاً) , إلا في حالات معينة مثل الإكراه , أو الخيانة الزوجية إذا لم يتنازل الزوج .
وقد سمعت من شيخنا الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله : أن رجلاً مسلماً في بلد عربي أفريقي يمنع التعدد , تزوج سراً بامرأة ثانية على زوجته الأولى وعقد عليها عقداً عرفياً شرعياً مستوفى الشروط , ولكنه غير موثق , لأن قانون البلد الوضعي يرفض توثيقه ولا يعترف به , بل يعتبره جريمة . . وكان الرجل يتردد على المرأة من حين لآخر . . فراقبته شرطة المباحث , وعرفت أنها زوجته , وأنه بذلك ارتكب مخالفة القانون . وفي ليلة ما ترصدت له وقبضت عليه عند المرأة , وساقته إلى التحقيق بتهمة الزواج بامرأة ثانية !. وكان الرجل ذكياً , فقال للذين يحققون معه : من قال لكم إنها زوجتي ؟ إنها ليست زوجة , ولكنها عشيقة , اتخذتها خدناً لي , وأتردد عليها ما بين فترة وأخرى !
وهنا دهش المحققون وقالوا للرجل بكل أدب : نأسف غاية الأسف ؛ لسوء الفهم الذي حدث . كنا نحسبها زوجة , ولم نكن نعلم أنها رفيقة !.
وخلوا سبيل الرجل , لأن مرافقة امرأة في الحرام , واتخاذها خدناً يزانيها يدخل في إطار الحرية الشخصية التي يحميها القانون !

أعلى
إلى الفهرس