فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

الطلاق

ركز الغزو التنصيري والاستشراقي في العصر الأخير هجومه على أمرين , اتخذهما للطعن على موقف الإسلام من المرأة , وهما - وايم الحق - من مفاخره ومآثره , ذانك هما : الطلاق , وتعدد الزوجات .
ومن المؤسف حقا أن يروج ذلك عند بعض المسلمين , فيتحدثون عنهما باعتبارهما مشكلتين من مشكلات الأسرة والمجتمع , يتحدثون حديثاً فيه غمز للإسلام العظيم وشريعته الغراء .
والحق أن الإسلام لم يشرع هذين الأمرين إلا ليعالج بهما مشكلات جمة , في حياة الرجل والمرأة , وحياة الأسرة والمجتمع . والمشكلة الحقيقية إنما هي في سوء فهم ما شرع الله , أو في سوء تطبيقه , وكل شيء إذا أسيء استعماله أدى إلى ضرر بليغ .

لماذا شرع الاسلام الطلاق ؟

ليس كل طلاق محموداً في الإسلام , فمن الطلاق ما يكرهه بل يحرمه , لما فيه من هدم الأسرة التي يحرص الإسلام على بنائها وتكوينها . ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » .
إنما الطلاق الذي شرعه الإسلام هو أشبه ما يكون بالعملية الجراحية المؤلمة , التي يتحمل الإنسان العاقل فيها آلام جرحه , بل بتر عضو منه , حفاظا على بقية الجسد , ودفعا لضرر أكبر .
فإذا استحكم النفور بين الزوجين , ولم تنجح كل وسائل الإصلاح ومحاولات المصلحين في التوفيق بينهما , فإن الطلاق - في هذه الحالة - هو الدواء المر , الذي لا دواء غيره . ولهذا قيل : إن لم يكن وفاق ففراق ,
وقال القرآن الكريم : ( وان يتفرقا يغن الله كلاً من سعته ) . وما شرعه الإسلام هنا هو الذي يفرضه العقل والحكمة والمصلحة , فإن من أبعد الأمور عن النطق والفطرة , أن تفرض بقوة القانون شركة مؤبدة على شريكين , لا يرتاح أحدهما للآخر ولا يثق به .
إن فرض هذه الحياة بسلطان القانون عقوبة قاسية , لا يستحقها الإنسان إلا بجريمة كبيرة , إنها شر من السجن المؤبد , بل هي الجحيم الذي لا يطاق .
وقديما قال أحد الحكماء : « إن من أعظم البلايا معاشرة من لا يوافقك ولا يفارقك » .
وقال المتنبي

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدواً له ما من صداقته بد

وإذا قيل هذا في الصاحب الذي يلقاه الإنسان أياما في الأسبوع , أو ساعات في اليوم , فكيف بالزوجة التي هي قعيدة بيته , وصاحبة جنبه , وشريكة عمره ؟

أعلى
إلى الفهرس

تضييق دائرة الطلاق :

على أن الإسلام قد وضع جملة من المبادئ والتعاليم , لو أحسن الناس اتباعها والعمل بها لقللت الحاجة إلى الطلاق , ولضيقت من نطاقه إلى حد بعيد , ومن ذلك :
1. حسن اختيار الزوجة , وتوجيه العناية إلى الدين والخلق , قبل المال والجاه والجمال , يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « تنكح المرأة لأربع لمالها , ولحسبها , ولجمالها , ولدينها .. فاظفر بذات الدين تربت يداك » .
2. النظر إلى المخطوبة قبل العقد , ليطمئن على مبلغ حسنها في نظره وموقعها من قلبه , ولأن هذا النظر المبكر رسول الألفة والمودة .
3. اهتمام المرأة وأوليائها باختيار الزوج الكريم , وإيثار من يرضى دينه وخلقه : « إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه » .
4. اشتراط رضا المرأة بالزواج ممن يتقدم لها, ولا يجوز أبداً إجبارها على من لا ترغب فيه.
5. اعتبار رضا ولي المرأة وموافقته وجوباً أو استحباباً.
6. الأمر بمشاورة الأمهات في زواج بناتهن , ليقوم الزواج على أساس مكين من رضا الأطراف كلها , فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم : « آمروا النساء في بناتهن » .
7. إيجاب المعاشرة بالمعروف , وتفصيل الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين , وإيقاظ الضمائر المؤمنة بالتزام حدود الله فيها , وتقوى الله في مراعاتها .
8. ترغيب الزوج في أن يكون واقعياً , بحيث لا ينشد الكمال في زوجه , بل ينظر إلى ما فيها من محاسن , إلى جوار ما يكون بها من عيوب , فإن سخط منها خلقاً رضي منها آخر .
9. دعوة الزوج إلى تحكيم العقل والمصلحة إذا أحس بباعث الكراهية نحو زوجته , فلا يسارع بالاستجابة إلى عاطفته , راجياً أن يغير الله الحال إلى ما هو خير . قال تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف , فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ).
10. أمر الزوج أن يعالج الزوجة الناشزة العاصية بالحكمة والتدرج , من اللين في غير ضعف , إلى الشدة في غير عنف . قال تعالى : ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن , فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً , إن الله كان علياً كبيراً ) .
11. أمر المجتمع بالتدخل عند وقوع الشقاق بين الزوجين , وذلك بتشكيل مجلس عائلي من ثقات أهله وأهلها , لمحاولة الإصلاح والتوفيق , وحل الأزمة القائمة بالحسنى . قال تعالى : ( وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) .
هذه هي تعاليم الإسلام , ولو أن المسلمين اتبعوها ورعوها حق رعايتها , لانحصر الطلاق في أضيق نطاق .

أعلى
إلى الفهرس

متى وكيف يقع الطلاق ؟

على أن الإسلام لم يشرع الطلاق في كل وقت , ولا في كل حال , إن الطلاق المشروع الذي جاء به القرآن والسنة : أن يتأنى الرجل ويتخير الوقت المناسب , فلا يطلق امرأته في حيض , ولا في طهر جامعها فيه , فإن فعل كان طلاقه طلاقاً بدعياً محرماً , وقد ذهب بعض الفقهاء , إلى أنه لا يقع , لأنه أوقعه على غير ما أمر الرسول . وفي الحديث الصحيح : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » أي مردود على صاحبه .
ويجب أن يكون المطلق في حالة وعي , واتزان واختيار , فإذا كان فاقد الوعي , أو مكرهاً , أو غضبان غضباً أغلق عليه قصده وتصوره , فتفوه بما لم يكن يريد , فهذا لا يقع على الصحيح , للحديث الشرف :
« لا طلاق في إغلاق ». فسره أبو داود بالغضب , وفسره غيره بالإكراه , وكلاهما صحيح .
ويجب أن يكون قاصداً للطلاق والانفصال عن زوجته بالفعل . أما أن يجعل من الطلاق يميناً يحلف به , أو يهدد به ويتوعد . فلا يقع على الصحيح كما قال بذلك بعض علماء السلف , ورجحه العلامة ابن القيم , وشيخه ابن تيمية .
وإذا كانت كل هذه الأنواع من الطلاق لا تقع , فقد بقي الطلاق المنوي المقصود , الذي يفكر فيه الزوج , ويدرسه قبل أن يقدم عليه , ويراه العلاج الفذ , للخلاص من حياة لا يطيق صبراً عليها . فهذا هو الذي قال فيه ابن عباس :
« إنما الطلاق عن وطر » .

أعلى
إلى الفهرس

ما بعد الطلاق :

على أن وقوع الطلاق لا يقطع حبل الزوجية قطعا باتا , لا سبيل إلى إصلاحه . كلا , فالطلاق - كما جاء في القرآن - يعطى لكل مطلق فرصتين للمراجعة وتدارك الأمر . فلا بد أن يكون الطلاق مرة بعد مرة . فإذا لم تجد المرتان كانت الثالثة هي الباتة القاطعة . فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره .
ولهذا كان جمع الثلاث في لفظة واحدة ضد ما شرعه القرآن , وهذا ما بينه واستدل له شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم , وأخذت به المحاكم الشرعية في كثير من البلاد العربية . وعلى كل حال فالطلاق لا يحرم المرأة من نفقتها , طوال مدة العدة , ولا يبيح للزوج إخراجها من بيت الزوجية , بل يفرض عليه أن تبقى في بيتها قريبة منه , لعل الحنين يعود , والقلوب تصفو , والبواعث تتجدد :
( لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ) .
والطلاق لا يبح للرجل أن يأكل على المرأة مهرها , أو يسترد منها ما أعطى من قبل :
( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ا تيتموهن شيئاً ) .
كما أن لها حق المتعة بما يقرره العرف :
( وللمطلقات متاع بالمعروف , حقا على المتقين ). كما لا يحل للمطلق أن يشنع على زوجته أو يشيع عنها السوء أو يؤذيها في نفسها أو أهليها : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) . ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) هذا هو الطلاق كما شرعه الإسلام .
إنه العلاج الذي ينبغي , في الوقت الذي ينبغي , وبالقدر الذي ينبغي , وبالأسلوب الذي ينبغي , للهدف الذي ينبغي .
ولقد حرمت المسيحية الطلاق تحريماً باتاً عند الكاثوليك , وباستثناء علة الزنا عند الأورثوذكس . فكانت النتيجة أن خرج الكثيرون من المسيحيين على هذا التحريم , مما اضطر معظم الدول المسيحية إلى سن قوانين وضعية , تبيح لهم الطلاق بغير قيود الإسلام والتزاماته وآدابه . فلا عجب أن صاروا يطلقون لأتفه الأسباب , وأن صارت حياتهم الزوجية عرضة للانحلال والانهيار .

أعلى
إلى الفهرس

لماذا جعل الطلاق بيد الرجل ؟

ويقولون : لماذا جعل الطلاق بيد الرجل وحده ؟
ونقول : إن الرجل هو رب الأسرة وعائلها , والمسؤول الأول عنها , وهو الذي دفع المهر , وما بعد المهر , حتى قام بناء الأسرة على كاهله , ومن كان كذلك كان عزيزاً عليه أن يتحطم بناء الأسرة إلا لدوافع غلابة , وضرورات قاهرة , تجعله يضحي بكل تلك النفقات والخسائر من أجلها .
ثم إن الرجل أبصر بالعواقب , وأكثر تريثاً , وأقل تأثراً من المرأة , فهو أولى أن تكون العقدة في يده , أما المرأة فهي سريعة التأثر , شديدة الانفعال , حارة العاطفة , فلو كان بيدها الطلاق لأسرعت به لأتفه الأسباب , وكلما نشب خلاف صغير .
كما أنه ليس من المصلحة أن يفوض الطلاق إلى المحكمة , فليس كل أسباب الطلاق مما يجوز أن يذاع في المحاكم , يتناقله المحامون والكتاب ويصبح مضغة في الأفواه .
على أن الغربيين قد جعلوا الطلاق عن طريق المحكمة , فما قل الطلاق عندهم , ولا وقفت المحكمة في سبيل رجل أو امرأة يرغب في الطلاق .

أعلى
إلى الفهرس

كيف تتخلص الزوجة الكارهة من زوجها ؟

وهناك سؤال يعن لكثير من الناس : إذا كان الطلاق بيد الرجل - كما عرفنا من أسباب ومبررات - فما الذي جعله الشرع بيد المرأة ؟ وما سبيلها إلى التخلص من نير الزوج إذا كرهت الحياة معه لغلظ طبعه , أو سوء خلقه , أو لتقصيره في حقوقها تقصيراً ظاهراً , أو لعجزه البدني أو المالي عن الوفاء بهذه الحقوق , أو لغير ذلك من الأسباب ؟
والجواب : أن الشارع الحكيم جعل للمرأة عدة مخارج , تستطيع بأحدها التخلص من ورطتها:
1. اشتراطها في العقد أن يكون الطلاق بيدها , فهذا جائز عند أبى حنيفة وأحمد . وفي الصحيح : « أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » .
2.الكارهة لزوجها أن تفدي نفسها منه بأن ترد عليه ما أخذت من صداق ونحوه , الخلع : فللمرأة إذ ليس من العدل أن تكون هي الراغبة في الفراق وهدم عش الزوجية , ويكون الرجل هو الغارم وحده .قال تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) .
وفى السنة : أن امرأة ثابت بن قيس شكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شدة بغضها له ,
فقال لها : « أتردين عليه حديقته » ؟ - وكانت هي مهرها - فقالت : نعم . فأمر الرسول ثابتاً أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد
.
3. تفريق الحكمين عند الشقاق , فقد قال تعالى : (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ) , وتسمية القرآن لهذا المجلس العائلي بـ « الحكمين » يدل على أن لهما حق الحكم والفصل . وقد قال بعض الصحابة للحكمين : إن شئتما أن تجمعا فاجمعا , وان شئتما أن تفرقا ففرقا .
4. التفريق للعيوب الجنسية .. فإذا كان في الرجل عيب يعجزه من الاتصال الجنسي , فللمرأة أن ترفع أمرها إلى القضاء, فيحكم بالتفريق بينهما , دفعا للضرر عنها , إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
5. التطليق لمضارة الزوجة .. إذا ضار الزوج زوجته وآذاها وضيق عليها ظلما , كأن امتنع من الإنفاق عليها , فللمرأة أن تطلب من القاضي تطليقها , فيطلقها عليه جبراً , ليرفع الضرر والظلم عنها . قال تعالى : ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) , وقال تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) . ومن مضارتها : ضربها بغير حق .
بل لقد ذهب بعض الأئمة إلى جواز التفريق بين المرأة وزوجها المعسر , إذا عجز عن النفقة , وطلبت هي ذلك , لأن الشرع لم يكلفها الصبر على الجوع مع زوج فقير , ما لم تقبل هي ذلك من باب الوفاء ومكارم الأخلاق .
وبهذه المخارج فتح الإسلام للمرأة أبوابا عدة للتحرر من قسوة بعض الأزواج , وتسلطهم بغير حق .
إن القوانين التي يضعها الرجال , لا يبعد أن تجور على حقوق النساء , أما القانون الذي يضعه خالق الرجل والمرأة وربهما , فلا جور فيه ولا محاباة , انه العدل كل العدل :
( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .

أعلى
إلى الفهرس

إساءة استخدام الطلاق :

بقى أن نقول : إن كثيراً من المسلمين أساءوا استخدام الطلاق , ووضعوه في غير موضعه , وشهروه سيفا مصلتاً على عنق الزوجة , واستعملوه يمينا يحلف به على ما عظم وما هان من الأشياء , وتوسع كثير من الفقهاء في إيقاع الطلاق , حتى طلاق السكران والغضبان , بل المكره , مع أن الحديث يقول : « لا طلاق في إغلاق » وابن عباس يقول : « إنما الطلاق عن وطر » حتى أوقعوا طلاق الثلاث بلفظة واحدة في حالة غضب أريد به التهديد في شجار خارج البيت , وهو مع زوجته في غاية السعادة والتوفيق ! .
ولكن الذي تدل عليه النصوص ومقاصد الشريعة السمحة في بناء الأسرة والمحافظة عليها هو التضييق في إيقاع الطلاق , فلا يقع إلا بلفظ معين , في وقت معين , بنية معينة . وهو الذي ندين الله به , وهو ما اتجه إليه الإمام البخاري , وبعض السلف , وأيده ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما . وهو الذي يعبر عن روح الإسلام .
أما سوء الفهم أو سوء التنفيذ لأحكام الإسلام , فهو مسئولية المسلمين , وليست مسؤولية الإسلام .

أعلى
إلى الفهرس