فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة

حمدًا لله، وصلاةً وسلامًا على رسل الله، وعلى خاتمهم وصفوتهم محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه.
أما بعد . .
فقد ابتلي المسلمون في الزمن الأخير باستعمار كافر فاجر، سلخهم من شخصيتهم التاريخية، وفرض عليهم بالقوة أولاً، وبالحيلة أخيرًا حياة غير حياتهم؛ لأنها مبنية على مفاهيم غير إسلامية، وتشريعات غير إسلامية، وتقاليد غير إسلامية، إنما هي مفاهيم المستعمر وتشريعاته وتقاليده.
فكما حمل هذا المستعمر الدخيل عصاه ورحل من بلاد المسلمين وتحررت أوطانهم من نيره، وأصبحوا يملكون أمر أنفسهم، تعالت صيحات المؤمنين منادية بالعودة إلى الإسلام من جديد، واستئناف حياة إسلامية سليمة متكاملة، حياة توجهها عقيدة الإسلام، وتحكمها شريعة الإسلام، وتضبطها أخلاق الإسلام، وتسودها مفاهيم الإسلام، وتقاليد الإسلام، حتى يعيشوا مسلمين كما أمرهم الله، وارتضى لهم، واختاروا لأنفسهم.
وكما لم يبق هناك عذر لمعتذر بسيطرة المستعمر، أو بنفوذ الأجنبي، اخترع بعض الناس تعلَّة أخرى يتعللون بها، وهي: وجود أقليات غير إسلامية، تعيش بين ظهراني المسلمين، ولا تدين بدينهم.
كأن الرجوع إلى الإسلام، والحكم بشريعة القرآن، جور على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين، أو إلغاء لشخصيتهم الدينية، والتاريخية.
وكأنهم لم يعيشوا قرونًا متطاولة في ظل حكم الإسلام، ناعمين بالأمان، وبالعدل الذي ينعم بهما المسلمون أنفسهم، ولو مسَّهم ظلم يومًا، لَمَسَّ المسلمين معهم، وربما قبلهم.
ومن العجب أن بعض الناس اجترءوا على التاريخ فزيفوه وقوَّلوه ما لم يقل، واجترءوا على النصوص فحرفوها عن موضعها، محاولين بهذا وذاك أن يشوهوا التسامح الإسلامي الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا في معاملة المخالفين في العقيدة والفكرة، لا في القديم ولا في الحديث.
لهذا رأيت أن أقدم هذا البحث لطلاب الحقيقة، من مسلمين وغير مسلمين، وهو بحث أساسه العلم والفكر، ومحوره الفقه والتاريخ، وهدفه البناء لا الهدم، والتوحيد لا التفريق.
وفيه نتبين ـ معتمدين على أوثق المصادر وأقوى الأدلة ـ الوضع الشرعي لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، من جهة ما لهم من حقوق، كفلها الإسلام، وما لهذه الحقوق من ضمانات، وما عليهم إزاءها من واجبات، وما أثير حول هذه الواجبات من شبهات . وكيف عاش هؤلاء الذين منحهم الإسلام ذمة الله وذمة رسوله وذمة جماعة المسلمين، طوال العصور الماضية، وخصوصًا العصور الذهبية الأولى، مقارنًا ذلك بما صنعته الأديان الأخرى، وما تصنعه العقائد والأيديولوجيات الثورية المعاصرة بمخالفيها.
فعسى أن يكون في هذه الصحائف ما يعين على تجلية وجه الحق في هذه القضية، ويزيح عنها ضباب التشويه والتشكيك، ويعرضها صافية نقية، بعيدة عن تحامل المتحاملين، أو تعصب المتعصبين، وخصوصًا في هذا الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات بالدعوة إلى "السلام الاجتماعي" و"الوحدة الوطنية" في مواجهة أصوات أخرى تدعو إلى "الصراع الطبقي أو "الحقد الطائفي".
واللهَ أسأل أن يشرح الصدور للحق، وأن ينوِّر القلوب بالحب، وأن يهدي العقول بنور المعرفة واليقين ...إنه سميع مجيب.

يوسف القرضاوي
إلى أعلى