مقــــدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد ، فقد عنى
الإسلام بالمجتمع عناية بالفرد.
فكل منهما يتأثر بالآخر ويؤثر
فيه. وهل المجتمع إلا مجموعة من
الأفراد ربطت بينهم روابط معينة.
فكان صلاح الفرد لازماً لصلاح
المجتمع، فالفرد أشبه باللبنة
في البنيان، ولا صلاح للبنيان
إذا كانت لبناته ضعيفة. فإذا نظرنا إلى
فريضة كالصلاة وجدنا أنها لا
يمكن أن تقام كما يريد الإسلام,
إلا بمسجد يتعاون المجتمع على
بنائه، ومؤذن يعلن الناس
بمواقيت الصلاة, وإمام يؤمهم,
وخطيب بخطبهم, ومعد يعلمهم, وهذا
كله لا يقوم به الفرد, وإنما
ينظمه المجتمع. ومثل ذلك يقال في فريضة الصوم, وضرورة ترتيب أمور الحياة في رمضان ترتيبا يعين على الصيام والقيام والسحور وغيرها. ومن باب أولى: الزكاة, فالأصل فيها أنها تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة, بواسطة( العاملين عليها ) الذين نص عليهم القرآن . وكذلك كل شعائر الإسلام وأركانه. أما الأخلاق والمعاملات فلا يتصور أن تقوم - كما ينشدها الإسلام - إلا في ظلال مجتمع ملتزم بالإسلام, يتعبد لله بإقامة حياته على أساس الإسلام. وقد عم الإسلام
المسلم أن يقول إذا ناجى ربه في
صلاته ( إياك نعبد وإياك نستعين)
فهو يتكلم بلسان الجماعة, وإن
كان وحده, وكذلك إذا دعا ربه دعا
بصيغة الجمع: (اهدنا الصراط
المستقيم) فالجماعة حيّة في
وجدانه، حاضرة على لسانه.
والمجتمع المسلم مجتمع متميز عن
سائر المجتمعات بمكوناته
وخصائصه, فهو مجتمع رباني،
إنساني, أخلاقي, متوازن.
والمسلمون مطالبون بإقامة هذا
المجتمع, حتى يمكنوا فيه لدينهم,
ويجسدوا فيه شخصيتهم, ويحيوا في
ظله حياة إسلامية متكاملة: حياة
توجهها العقيدة الإسلامية ,
وتزكيها العبادات الإسلامية ,
وتقودها المفاهيم الإسلامية,
وتحركها الشاعر الإسلامية,
وتضبطها الأخلاق الإسلامية
وتجملها الآداب الإسلامية,
وتهيمن عليها القيم الإسلامية,
ومحكمها التشريعات الإسلامية,
وتوجه اقتصادها وفنونها
وسياستها: التعاليم الإسلامية. لهذا كان من المهم
هنا: هو إلقاء الضوء على
المكونات أو اللامح الأساسية
لهذا المجتمع الذي ننشده, والذي
قامت حركات وجماعات إسلامية في
شتى أنحاء العالم العربي
والإسلامي تدعو إليه , ليحل محل
المجتمعات الحاضرة, التي اختلط
فيها الإسلام بالجاهلية, سواء
أكانت جاهلية وافدة,مما غزانا به
الاستعمار الغربي بشقيه:
الرأسمالي والاشتراكي, أم
جاهلية موروثة, من رواسب عصور
التخلف, التي ساء فيه ا فهم
السلمين لدينهم, كما ساء تطبيقهم
له, حكاما ومحكومين. وقد صدر لي
كتاب منذ سنين, هو: (غير المسلمين
في المجتمع الإسلامي ) وهو في
الحقيقة جزء من هذا الكتاب. وعسى أن يزيدنا
ذلك إصراراً على السعي إليه,
والعمل على تحقيقه في الواقع،
كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا, في
أي وطن - مهما صغرت رقعته من دار
الإسلام. فيعلن ولاءه الكامل
للإسلام, عقيدة وشريعة ومنهاج
حياة, ويبنى حياته كلها: المادية
والمعنوية, وسياسته كلها:
الداخلية والخارجية على
الإسلام. فما أكثر الذين يتمسحون بالإسلام, وهم عنه صادون, أو يتمسكون بشكليات منه, وهم عن روحه معرضون, أو يؤمنون ببعض كتابه, وهم بالبعض الآخر كافرون, أو يحتفلون بأعياده, وهم لأعدائه موالون, ولدعاته معادون, ولشريعته معارضون ! ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.) الدوحة في ذي
الحجة1413 يوسف القرضاوي
|