فن الفكاهة
والمرح
( الكوميديا )
الحياة
رحلة شاقة , حافلة بالمتاعب
والآلام , ولا يسلم امرؤ فيها من
تجرع لون أو ألوان من غصصها ,
ومكابدة آلامها , وان ولد وفي فمه
ملعقة من ذهب , كما يقولون .
وقد أشار القرآن إلى ذلك حين قال
: ( لقد خلقنا
الإنسان في كبد ) . وأهل الإيمان
أكثر تعرضا لبلاء الدنيا من
غيرهم , نظراً لخطورة مطلبهم , من
ناحية , وكثرة من يعارضهم ويقطع
عليهم طريقهم من ناحية أخرى .
حتى ورد في بعض الآثار : «
المؤمن بين خمس شدائد : مسلم
يحسده , ومنافق يبغضه , وكافر
يقاتله , وشيطان يضله , ونفس
تنازعه » .
وثبت في الحديث أن أشد الناس
بلاء : الأنبياء ثم الأمثل
فالأمثل . لهذا كان الناس - كل
الناس - في حاجة إلى واحات في
طريقهم تخفف عنهم بعض عناء رحلة
الحياة , وكان لا بد لهم من أشياء
يروحون بها أنفسهم , حتى يضحكوا
ويفرحوا ويمرحوا , ولا يغلب
عليهم الغم والحزن والنكد ,
فينغص عليهم عيشهم , ويكدر عليهم
صفوهم .
وكان من تلك الأدوات : الغناء ,
وقد تحدثنا عنه . ومنها : الفكاهة
والمرح , وكل ما يستخرج الضحك من
الإنسان , ويطارد الحزن من قلبه ,
والعبوس من وجهه , والكآبة من
حياته . فهل يرحب الدين بهذا الفن
« الكوميدي » أو يضيق به ؟ هل
يحله أو يحرمه ؟
الفكاهة
والمرح في واقع المسلمين :
ولقد
رأيت الناس - بفطرتهم - وعلى قدر
ما سمحت به إمكاناتهم , وفي ضوء
ما عرفوه من سماحة دينهم - قد
ابتكروا ألواناً من الوسائل
والأدوات التي تقوم بوظيفة
الترويح والإضحاك لهم .
من ذلك : « النكت » التي برع فيها
المصريون , واشتهروا بها بين
الشعوب , وهي أنواع مختلفة , ولها
مهمات متعددة , ومنها : « النكت
السياسية » التي تهزأ بالحكام
وأعوانهم , وخصوصا في أوقات
التسلط والاستبداد السياسي .
ولا يكاد يجلس الناس بعضهم إلى
بعض إلا حكوا من هذه النكت ما
يضحكهم ويسري عنهم بعض ما يعانون
. أحيانا يسندونها إلى أسماء
معروفة , مثل جحا , أو أبى نواس ,
أو غيرهما, وأحيانا لا ينسبونها
إلى معين .
وهناك أناس لا يقتصرون على حكاية
النكت عن غيرهم , بل هم ينشئون
نكت على البديهة , وهذا شأن
الشخصيات الفكهة , مثل « أشعب »
قديما , ومثل الشيخ « عبد العزيز
البشري » حديثا في مصر .
وكانت في مصر بعض المجلات
المتخصصة في هذا اللون , أشهرها
مجلة « البعكوكة » . ويلحق بذلك
فن « القفشات » وما يسميه
المصريون « الدخول في قافية »
وهو لون من استخدام المجاز
والتورية حول موضوع واحد ,
يتطارح فيه الطرفان .
ومن ذلك : ألوان من الألعاب التي
تدعو إلى الضحك والمرح , مثل لعبة
« الأراجوز » . ومثله « خيال الظل
» الذي كان يعتبر نوعاً من
التمثيل الشعبي الفكاهي . ومن
ذلك : الألغاز والأحاجي , أو ما
يسمى في لغة العامة « الفوازير »
. ومن ذلك : القصص الفكاهية , أو ما
يسميه العوام « الحواديت »
المسلية والمرفهة .
ومن ذلك : « الأمثال الشعبية »
التي كثيرا ما تتضمن أفكاراً أو
تعبيرات تبعث علي الضحك والمرح ,
إلى غير ذلك من الألوان , التي
تخترعها الشعوب بوساطة فنانين
معروفين أو مجهولين غالباً ,
ملائمة لكل بيئة وما يسودها من
قيم ومفاهيم , وما تمر به من ظروف
وأحوال .
وكل عصر يضيف أشياء جديدة , ويطور
الأشياء القديمة , وقد يستغني عن
بعضها .
كما نرى في عصرنا فن «
الكاريكاتير » الذي حول النكتة
من مجرد كلمة تقال , إلى صورة
معبرة , مصحوبة ببعض الكلام , أو
غير مصحوبة .
وقد سئلت عن موقف الدين من الضحك
والمرح والفكاهة , نظراً لما
يبدو على بعض المتدينين من
العبوس والتجهم , فيكادون لا
يضحكون , ولا يمزحون , حتى حسب بعض
الناس أن هذه هي طبيعة الدين
والتدين .
وكان جوابي : أن الضحك من خصائص
الإنسان , فالحيوانات لا تضحك ؛
لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم
والمعرفة لقول يسمعه , أو موقف
يراه» , فيضحك منه .
ولهذا قيل : الإنسان حيوان ضاحك ,
ويصدق القول هنا : أنا أضحك , إذن
أنا إنسان .
والإسلام - بوصفه دين الفطرة - لا
يتصور منه أو يصادر نزوع الإنسان
الفطري إلى الضحك والانبساط , بل
هو على العكس يرحب بكل ما يجعل
الحياة باسمة طيبة , ويحب للمسلم
أن تكون شخصيته متفائلة باشة ,
ويكره الشخصية المكتئبة
المتطيرة , التي لا تنظر إلى
الحياة والناس إلا من خلال منظار
قاتم أسود .
وأسوة المسلمين في ذلك هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم , فقد
كان - برغم همومه الكثيرة
والمتنوعة - يمزح ولا يقول إلا
حقا , ويحيا مع أصحابه حياة فطرية
عادية , يشاركهم في ضحكهم ولعبهم
ومزاحهم , كما يشاركهم آلامهم
وأحزانهم ومصائبهم .
يقول زيد بن ثابت ,
وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : « كنت جاره , فكان إذا نزل
عليه الوحي بعث إلي فكتبته له ,
فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها
معنا , وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها
معنا , وإذا ذكرنا الطعام ذكره
معنا , قال : فكل هذا أحدثكم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من
أفكه الناس . وقد رأيناه في بيته -
صلى الله عليه وسلم - يمازح
زوجاته ويداعبهن , ويستمع إلى
أقاصيصهن , كما في حديث أم زرع
الشهير في صحيح البخاري .
وكما رأينا في تسابقه مع
عائشة رضي الله عنها , حيث سبقته
مرة , وبعد مدة تسابقا فسبقها ,
فقال لها : هذه بتلك !
وقد روى أنه وطأ
ظهره لسبطيه الحسن والحسين , في
طفولتهما ليركبا , ويستمتعا دون
تزمت ولا تحرج , وقد دخل عليه أحد
الصحابة ورأى هذا المشهد فقال :
نعم المركب ركبتما, فقال عليه
الصلاة والسلام : « ونعم
الفارسان هما » !
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة
العجوز التي جاءت تقول له : ادع
الله أن يدخلني الجنة , فقال لها :
« يا أم فلان , إن الجنة لا يدخلها
عجوز » ا فبكت المرأة , حيث أخذت
الكلام على ظاهره, فأفهمها : أنها
حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزا ,
بل شابة حسناء , وتلا عليها قول
الله تعالى في نساء الجنة : ( إنا
أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن
أبكاراً * عرباً أتراباً ) .
وجاء رجل يسأله أن
يحمله على بعير , فقال له عليه
الصلاة والسلام : « لا أحملك إلا
على ولد الناقة » فقال : يا رسول
الله , وماذا أصنع بولد الناقة ؟!
- انصرف ذهنه إلى الحوار الصغير -
فقال : « وهل تلد الإبل إلا النوق
» ؟ .
وقال زيد بن أسلم :
إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت : إن زوجي يدعوك , قال : ‹«
ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض » ؟
قالت : والله ما بعينه بياض فقال :
« بلى إن بعينه بياضا » فقالت : لا
والله , فقال صلى الله عليه وسلم :
« ما من أحد إلا بعينه بياض » , وأراد به
البياض المحيط بالحدقة .
وقال أنس : كان
لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير ,
وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأتيهم ويقول : « يا أبا
عمير ما فعل النغير » ؟ لنغير كان
يلعب به وهو فرخ العصفور .
وقالت عائشة رضى الله عنها : كان
عندي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة
- دقيق يطبخ بلبن أو دسم - وجئت به
, فقلت لسودة : كلي , فقالت : لا
أحبه , فقلت : والله لتأكلن أو
لألطخن به وجهك , فقالت : ما أنا
بذائقته , فأخذت بيدي من الصحفة
شيئا منه فلطخت به وجهها , ورسول
الله صلى الله عليه وسلم جالس
بيني وبينها , فخفض لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد
مني , فتناولت من الصفحة شيئا
فمسحت به وجهي وجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يضحك .
وروى أن الضحاك بن
سفيان الكلابي كان رجلا دميما
قبيحا , فلما بايعه النبي صلى
الله عليه وسلم قال : إن عندي
امرأتين أحسن من هذه الحميراء -
وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب -
أفلا أنزل لك عن إحداهما
فتتزوجها ! , وعائشة جالسة تسمع ,
فقالت : أهي أحسن أم أنت ؟ فقال :
بل أنا أحسن منها وأكرم , فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم من
سؤالها إياه ! لأنه كان دميماً .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب
إشاعة السرور والبهجة في حياة
الناس , وخصوصا في المناسبات مثل
الأعياد والأعراس .
ولما أنكر الصديق
أبو بكر رضى الله عنه غناء
الجاريتين يوم العيد في بيته
وانتهرهما , قال له : « دعهما يا
أبا بكر , فإنها أيام عيد » !
وفى
بعض الروايات : « حتى يعلم
يهود أن في ديننا فسحة » .
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا
بحرابهم في مسجده عليه الصلاة
والسلام في أحد أيام الأعياد , وكان
يحرضهم ويقول : « دونكم يا بنى
أرفدة » ! وأتاح لعائشة أن تنظر
إليهم من خلفه , وهم يلعبون
ويرقصون , ولم ير في ذلك بأسا ولا
حرجا
.
واستنكر يوما أن تزف فتاة إلى
زوجها زفافا صامتا , لم يصحبه لهو
ولا غناء, , وقال : « هلا كان
معها لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم
اللهو , أو الغزل » .
وفى بعض الروايات : «
هلا بعثتم معها من تغني وتقول :
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
»
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ومن تبعهم بإحسان في خير
قرون الأمة يضحكون ويمزحون ,
اقتداء بنبيهم صلى الله عليه
وسلم , واهتداء بهديه . حتى إن
رجلا مثل عمر بن الخطاب - على ما
عرف عنه من الصرامة والشدة - يروى
عنه أنه مازح جارية له , فقال لها
: خلقني خالق الكرام , وخلقك خالق
اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا
القول , قال لها مبينا: وهل خالق
الكرام واللئام إلا الله عز وجل
؟ ؟
وقد
عرف بعضهم بذلك في حياته صلى
الله عليه وسلم , وأقره عليه ,
واستمر على ذلك من بعده , وقبله
الصحابة , ولم يعدوا فيه ما ينكر ,
برغم أن بعض الوقائع المروية في
ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم
المتدينين أشد الإنكار , وعدوا
فاعلها من الفاسقين أو
المنحرفين!
من هؤلاء المعروفين بروح المرح
والفكاهة والميل إلى الضحك
والمزاح : النعيمان بن عمر
الأنصاري رضى الله عنه , الذي
رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة
وغريبة .
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد
العقبة الأخيرة , وشهد بدراً
وأحداً , والخندق , والمشاهد كلها
.
روى عنه الزبير بن بكار عدداً من
النوادر الطريفة في كتابه «
الفكاهة والمرح » نذكر بعضا منها
. . .
قال : وكان لا يدخل
المدينة لحرفة إلا اشترى منها ,
ثم جاء بها إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فيقول : هذا أهديته لك ,
فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان
بثمنها , أحضره إلى النبي صلى
الله عليه وسلم , قائلاً : أعط هذا
ثمن متاعه , فيقول : « أو لم تهده
لي » ؟ فيقول : إنه والله لم يكن
عندي ثمنه , ولقد أحببت أن تأكله !
فيضحك , ويأمر لصاحبه بثمنه .
وأخرج الزبير قصة أخرى من طريق
ربيعة بن عثمان قال : دخل
أعرابي على النبي صلى الله عليه
وسلم , وأناخ ناقته بفنائه , فقال
بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري :
لو عقرتها فأكلناها , فإنا قد
قرمنا إلى اللحم ؟ ففعل , فخرج
الأعرابي وصاح : واعقراه يا محمد
! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : « من فعل هذا » ؟ فقالوا :
النعيمان , فأتبعه يسأل عنه حتى
وجده قد دخل دار ضباعة بنت
الزبير بن عبد المطلب , واستخفى
تحت سرب لها فوقه جريد , فأشار
رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم حيث
هو فأخرجه فقال له : « ما حملك على
ما صنعت » ؟ قال : الذين دلوك علي
يا رسول الله هم الذين أمروني
بذلك قال : فجعل يمسح التراب عن
وجهه ويضحك , ثم غرمها للأعرابي .
وقال الزبير أيضا : حدثني عمي عن
جدي قال : كان مخرمة بن نوفل قد
بلغ مائة وخمس عشرة سنة , فقام في
المسجد يريد أن يبول , فصاح به
الناس , المسجد المسجد , فأخذه
نعيمان بن عمرو بيده , وتنحى به ,
ثم أجلسه في ناحية أخرى من
المسجد فقال له : بل هنا قال :
فصاح به الناس فقال : ويحكم , فمن
أتى بي إلى هذا الموضع ؟! قالوا :
نعيمان , قال : أما إن لله على إن
ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة
تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك
نعيمان , فمكث ما شاء الله , ثم
أتاه يوما , وعثمان قائم يصلي في
ناحية المسجد , فقال لمخرمة : هل
لك في نعيمان ؟ قال : نعم , قال :
فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان ,
وكان إذا صلى لا يلتفت فقال :
دونك هذا نعيمان , فجمع يده بعصاه
, فضرب عثمان فشجه , فصاحوا به :
ضربت أمير المؤمنين ! فذكر بقية
القصة ) .
ومن الطرائف أن صحابيا آخر من
أهل الفكاهة والمزاح , استطاع أن
يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه
غيره من « المقالب » كما في قصة
سويبط بن حرملة معه , وكان ممن
شهد بدرا أيضا , قال ابن عبد البر
في « الاستيعاب » في ترجمة سويبط
رضى الله عنه : وكان مزاحا يفرط
في الدعابة , وله قصة ظريفة مع
نعيمان وأبى بكر الصديق رضى الله
عنهم , نذكرها لما فيها من الظرف ,
وحسن الخلق .
وروى عن أم سلمة
قالت : خرج أبو بكر الصديق رضى
الله عنه في تجارة إلى بصرى قبل
موت النبي صلى الله عليه وسلم
بعام , ومعه نعيمان وسويبط بن
حرملة , وكانا قد شهدا بدراً,
وكان نعيمان على الزاد , فقال له
سويبط - وكان رجلا مزاحا - :
أطعمني فقال : لا حتى يجئ أبو بكر
رضى الله عنه , فقال : أما والله
لأغيظنك , فمروا بقوم فقال لهم
سويبط : تشترون منى عبداً ؟ قالوا
: نعم , قال : إنه عبد له كلام , وهو
قائل لكم : إني حر , فإن كنتم إذا
قال لكم هذه المقالة تركتموه ,
فلا تفسدوا علي عبدي , قالوا : بل
نشتريه منك , قال : فاشتروه منه
بعشر قلائص , قال : فجاءوا فوضعوا
في عنقه عمامة أو حبلا , فقال
نعيمان : إن هذا يستهزئ بكم , وإني
حر , لست بعبد , قالوا : قد أخبرنا
خبرك , فانطلقوا به , فجاء أبو بكر
رضي الله عنه , فأخبره سويبط
فأتبعهم , فرد عليهم القلائص ,
وأخذه , فلما قدموا على النبي صلى
الله عليه وسلم أخبروه قال : فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه منها حولا .
أعلى
إلى الفهرس
موقف
المتشددين :
ولا
ريب أن هناك من الحكماء ,
والأدباء , والشعراء من ذم
المزاح , وحذر من سوء عاقبته ,
ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه ,
وأقفل الجوانب الأخرى .
ولكن ما جاء عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه أحق أن
يتبع , وهو يمل التوازن
والاعتدال . وقد قال لحنظة حين
فزع من تغير حاله في بيته عن حاله
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم,
واتهم نفسه بالنفاق : « يا حنظة ؛
لو دمتم على الحال التي تكونون
عليها عندي لصافحتكم الملائكة
في الطرقات , ولكن يا حنظلة ساعة
وساعة » , وهذه« هي الفطرة, وهذا
هو العدل .
روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن قال : لم يكن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم
متحزقين ولا متماوتين . كانوا
يتناشدون الأشعار , ويذكرون أمر
جاهليتهم , فإذا أريد أحدهم على
شئ من أمر دينه دارت حماليق
عينيه كأنه مجنون .
والتحزق كما يقول الإمام
الخطابي : التجمع وشدة التقبض .
وفى النهاية لابن الأثير :
متحزقين : أي منقبضين ومجتمعين .
وسئل ابن سيرين عن الصحابة : هل
كانوا يتمازحون ؟ فقال : ما كانوا
إلا كالناس . كان ابن عمر يمزح
وينشد الشعر .
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من
المتدينين أو المتحمسين للدين ,
وعبوسهم وتجهمهم الذي ظنه البعض
من صميم الدين , لا يمثل حقيقة
الدين في شئ , ولا يتفق مع هدي
الرسول الكريم وأصحابه .
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام
, أو لطبيعتهم الشخصية , أو لظروف
نشأتهم وتربيتهم . وعلى كل حال ,
لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ
من سلوك فرد أو مجموعة من الناس ,
يخطئون ويصيبون . والإسلام حجة
عليهم , وليسوا هم حجة على
الإسلام , إنما يؤخذ الإسلام من
القرآن والسنة الثابتة .
أعلى
إلى الفهرس
حدود
المشروعية في الضحك والمزاح :
إن
الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع
في الإسلام , كما دلت على ذلك
النصوص القولية , والمواقف
العملية للرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم
.
وما ذلك إلا لحاجة الفطرة
الإنسانية إلى شئ من الترويح
يخفف عنها لأواء , الحياة
وقسوتها , وتشعب همومها وأعبائها
.
كما أن هذا الضرب من اللهو
والترفيه يقوم بمهمة التنشيط
للنفس , حتى تستطيع مواصلة السير
والمضي في طريق العمل الطويل ,
كما يريح الإنسان دابته في السفر
, حتى لا تنقطع به .
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح
لا شك فيها في الأصل , ولكنها
مقيدة بقيود وشروط لا بد أن
تراعى :
أولها : ألا يكون الكذب
والاختلاق أداة الإضحاك للناس ,
كما يفعل بعض الناس في أول إبريل
- نيسان - فيما يسمونه « كذبة
إبريل » .
ولهذا قال صلى الله عليه
وسلم : « ويل للذي يحدث فيكذب
ليضحك القوم , ويل له , ويل له ,
ويل له » وقد كان صلى الله
عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا
حقاً .
ثانياً : ألا يشتمل
على تحقير لإنسان آخر , أو
استهزاء به وسخرية منه , إلا إذا
أذن بذلك ورضى .
قال تعالى : ( يا
أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من
قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم
ولا نساء من نساء عسى أن يكن
خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم
ولا تنابزوا بالألقاب , بئس
الاسم الفسوق بعد الإيمان ) .
وجاء في صحيح مسلم : «
بحسب امرئ من الشر أو يحقر أخاه
المسلم » .
وذكرت عائشة أمام
النبي صلى الله عليه وسلم إحدى
ضرائرها , فوصفتها بالقصر تعيبها
به, فقال . « يا عائشة , لقد قلت
كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته
» قالت : وحكيت له إنسانا - أي
قلدته في حركته أو صوته أو نحو
ذلك فقال : « ما أحب أنى حكيت
إنسانا وأن لي كذا وكذا »
ثالثاً : ألا يترتب
عليه تفزيع وترويع لمسلم .
فقد روى أبو داود عن
عبد الرحمن بن أبى ليلى قال :
حدثنا أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم , أنهم كانوا يسيرون مع
النبي صلى الله عليه وسلم فقام
رجل منهم , فانطلق بعضهم إلى حبل
معه فأخذه , ففزع فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : « لا يحل
لرجل أن يروع مسلماً » .
وعن النعمان بن بشير قال : كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في مسير , فخفق رجل
على راحلته - أي نعس - فأخذ رجل
سهما من كنانته فانتبه الرجل ,
ففزع , فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : « لا يحل لرجل أن يروع
مسلماً » ( رواه الطبرانى
في الكبير ورواته ثقات ) .
والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك
كان يمازحه .
وقد جاء في الحديث الآخر : «
لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا
ولا جادا » . ( رواه الترمذى
وحسنه ) .
رابعاً : ألا يهزل
في موضع الجد , ولا يضحك في مجال
يستوجب البكاء , فلكل شئ أوانه ,
ولكل أمر مكانه , ولكل مقام مقال .
والحكمة وضع الشيء في موضعه
المناسب .
ومن ممادح الشعراء :
إذا جد عند
الجد أرضاك جده وذو باطل إن شئت
ألهاك باطله !
والباطل
هنا يقصد به اللهو والمرح .
وقال آخر :
أهازل حيث
الهزل يحسن بالفتى إنـي إذا جد
الرجال لذو جد !
وروى
الأصمعي أنه رأى امرأة بالبادية
تصلى على سجادتها خاشعة ضارعة
فلما فرغت , وقفت أمام المرآة
تتجمل وتتزين , فقال لها : أين هذه
من تلك ؟
فأنشدت تقول :
وله منى جانب
لا أضيعه وللهو منى والبطالة
جانب !
قال
: فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج
تتجمل له .
وقد عاب الله
تعالى على المشركين أنهم كانوا
يضحكون عند سماع القرآن وكان
أولى بهم أن يبكوا , فقال تعالى : (
أفمن هذا الحديث تعجبون *
وتضحكون ولا تبكون * وأنتم
سامدون ).
خامساً : أن يكون
ذلك بقدر معقول , وفى حدود
الاعتدال والتوازن , الذي تقبله
الفطرة السليمة , ويرضاه العقل
الرشيد , ويلائم المجتمع
الإيجابي العامل .
والإسلام يكره الغلو والإسراف
في كل شئ , ولو في العبادة , فكيف
باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي :
« ولا تكثر من الضحك فإن كثرة
الضحك تميت القلب » فالمنهي عنه هو
الإكثار والمبالغة .
وقد ورد عن على رضى الله عنه
قوله : « أعط الكلام من المزح ,
بمقدار ما تعطى الطعام من الملح
» .
وهو قول حكيم , يدل على عدم
الاستغناء عن المزح , كما يدل على
ضرر الإفراط فيه. وخير الأمور هو
الوسط دائما , وهو نهج الإسلام
وخصيصته الكبرى , ومناط فضل أمته
على غيرها .
أعلى
إلى الفهرس
|