فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

فن الفكاهة والمرح
( الكوميديا )

الحياة رحلة شاقة , حافلة بالمتاعب والآلام , ولا يسلم امرؤ فيها من تجرع لون أو ألوان من غصصها , ومكابدة آلامها , وان ولد وفي فمه ملعقة من ذهب , كما يقولون .
وقد أشار القرآن إلى ذلك حين قال :
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) . وأهل الإيمان أكثر تعرضا لبلاء الدنيا من غيرهم , نظراً لخطورة مطلبهم , من ناحية , وكثرة من يعارضهم ويقطع عليهم طريقهم من ناحية أخرى .
حتى ورد في بعض الآثار :
« المؤمن بين خمس شدائد : مسلم يحسده , ومنافق يبغضه , وكافر يقاتله , وشيطان يضله , ونفس تنازعه » .
وثبت في الحديث أن أشد الناس بلاء : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . لهذا كان الناس - كل الناس - في حاجة إلى واحات في طريقهم تخفف عنهم بعض عناء رحلة الحياة , وكان لا بد لهم من أشياء يروحون بها أنفسهم , حتى يضحكوا ويفرحوا ويمرحوا , ولا يغلب عليهم الغم والحزن والنكد , فينغص عليهم عيشهم , ويكدر عليهم صفوهم .
وكان من تلك الأدوات : الغناء , وقد تحدثنا عنه . ومنها : الفكاهة والمرح , وكل ما يستخرج الضحك من الإنسان , ويطارد الحزن من قلبه , والعبوس من وجهه , والكآبة من حياته . فهل يرحب الدين بهذا الفن « الكوميدي » أو يضيق به ؟ هل يحله أو يحرمه ؟

الفكاهة والمرح في واقع المسلمين :

ولقد رأيت الناس - بفطرتهم - وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم , وفي ضوء ما عرفوه من سماحة دينهم - قد ابتكروا ألواناً من الوسائل والأدوات التي تقوم بوظيفة الترويح والإضحاك لهم .
من ذلك : « النكت » التي برع فيها المصريون , واشتهروا بها بين الشعوب , وهي أنواع مختلفة , ولها مهمات متعددة , ومنها : « النكت السياسية » التي تهزأ بالحكام وأعوانهم , وخصوصا في أوقات التسلط والاستبداد السياسي .
ولا يكاد يجلس الناس بعضهم إلى بعض إلا حكوا من هذه النكت ما يضحكهم ويسري عنهم بعض ما يعانون . أحيانا يسندونها إلى أسماء معروفة , مثل جحا , أو أبى نواس , أو غيرهما, وأحيانا لا ينسبونها إلى معين .
وهناك أناس لا يقتصرون على حكاية النكت عن غيرهم , بل هم ينشئون نكت على البديهة , وهذا شأن الشخصيات الفكهة , مثل « أشعب » قديما , ومثل الشيخ « عبد العزيز البشري » حديثا في مصر .
وكانت في مصر بعض المجلات المتخصصة في هذا اللون , أشهرها مجلة « البعكوكة » . ويلحق بذلك فن « القفشات » وما يسميه المصريون « الدخول في قافية » وهو لون من استخدام المجاز والتورية حول موضوع واحد , يتطارح فيه الطرفان .
ومن ذلك : ألوان من الألعاب التي تدعو إلى الضحك والمرح , مثل لعبة « الأراجوز » . ومثله « خيال الظل » الذي كان يعتبر نوعاً من التمثيل الشعبي الفكاهي . ومن ذلك : الألغاز والأحاجي , أو ما يسمى في لغة العامة « الفوازير » . ومن ذلك : القصص الفكاهية , أو ما يسميه العوام « الحواديت » المسلية والمرفهة .
ومن ذلك : « الأمثال الشعبية » التي كثيرا ما تتضمن أفكاراً أو تعبيرات تبعث علي الضحك والمرح , إلى غير ذلك من الألوان , التي تخترعها الشعوب بوساطة فنانين معروفين أو مجهولين غالباً , ملائمة لكل بيئة وما يسودها من قيم ومفاهيم , وما تمر به من ظروف وأحوال .
وكل عصر يضيف أشياء جديدة , ويطور الأشياء القديمة , وقد يستغني عن بعضها .
كما نرى في عصرنا فن « الكاريكاتير » الذي حول النكتة من مجرد كلمة تقال , إلى صورة معبرة , مصحوبة ببعض الكلام , أو غير مصحوبة .
وقد سئلت عن موقف الدين من الضحك والمرح والفكاهة , نظراً لما يبدو على بعض المتدينين من العبوس والتجهم , فيكادون لا يضحكون , ولا يمزحون , حتى حسب بعض الناس أن هذه هي طبيعة الدين والتدين .
وكان جوابي : أن الضحك من خصائص الإنسان , فالحيوانات لا تضحك ؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه , أو موقف يراه» , فيضحك منه .
ولهذا قيل : الإنسان حيوان ضاحك , ويصدق القول هنا : أنا أضحك , إذن أنا إنسان .
والإسلام - بوصفه دين الفطرة - لا يتصور منه أو يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط , بل هو على العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة , ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة , ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة , التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود .
وأسوة المسلمين في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد كان - برغم همومه الكثيرة والمتنوعة - يمزح ولا يقول إلا حقا , ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية , يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم , كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم .
يقول زيد بن ثابت , وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « كنت جاره , فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له , فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا , وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا , وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا , قال : فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس . وقد رأيناه في بيته - صلى الله عليه وسلم - يمازح زوجاته ويداعبهن , ويستمع إلى أقاصيصهن , كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري .
وكما رأينا في
تسابقه مع عائشة رضي الله عنها , حيث سبقته مرة , وبعد مدة تسابقا فسبقها , فقال لها : هذه بتلك !
وقد روى أنه وطأ ظهره لسبطيه الحسن والحسين , في طفولتهما ليركبا , ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج , وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال : نعم المركب ركبتما, فقال عليه الصلاة والسلام : « ونعم الفارسان هما » !
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له : ادع الله أن يدخلني الجنة , فقال لها : « يا أم فلان , إن الجنة لا يدخلها عجوز » ا فبكت المرأة , حيث أخذت الكلام على ظاهره, فأفهمها : أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزا , بل شابة حسناء , وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة : ( إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً * عرباً أتراباً )
.
وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير , فقال له عليه الصلاة والسلام : « لا أحملك إلا على ولد الناقة » فقال : يا رسول الله , وماذا أصنع بولد الناقة ؟! - انصرف ذهنه إلى الحوار الصغير - فقال : « وهل تلد الإبل إلا النوق » ؟ .
وقال زيد بن أسلم : إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي يدعوك , قال : ‹« ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض » ؟ قالت : والله ما بعينه بياض فقال : « بلى إن بعينه بياضا » فقالت : لا والله , فقال صلى الله عليه وسلم : « ما من أحد إلا بعينه بياض » , وأراد به البياض المحيط بالحدقة .
وقال أنس : كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول : « يا أبا عمير ما فعل النغير » ؟ لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور .
وقالت عائشة رضى الله عنها : كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة - دقيق يطبخ بلبن أو دسم - وجئت به , فقلت لسودة : كلي , فقالت : لا أحبه , فقلت : والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك , فقالت : ما أنا بذائقته , فأخذت بيدي من الصحفة شيئا منه فلطخت به وجهها , ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها , فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه
لتستقيد مني , فتناولت من الصفحة شيئا فمسحت به وجهي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك .
وروى أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلا دميما قبيحا , فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء - وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب - أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها ! , وعائشة جالسة تسمع , فقالت : أهي أحسن أم أنت ؟ فقال : بل أنا أحسن منها وأكرم , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه ! لأنه كان دميماً .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس , وخصوصا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس .
ولما أنكر الصديق أبو بكر رضى الله عنه غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما , قال له : « دعهما يا أبا بكر , فإنها أيام عيد » !
وفى بعض الروايات : « حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة » .
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد ,
وكان يحرضهم ويقول : « دونكم يا بنى أرفدة » ! وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه , وهم يلعبون ويرقصون , ولم ير في ذلك بأسا ولا حرجا .
واستنكر يوما أن تزف فتاة إلى زوجها زفافا صامتا , لم يصحبه لهو ولا غناء, ,
وقال : « هلا كان معها لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو , أو الغزل » .
وفى بعض الروايات :
« هلا بعثتم معها من تغني وتقول : أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم »
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون , اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم , واهتداء بهديه . حتى إن رجلا مثل عمر بن الخطاب - على ما عرف عنه من الصرامة والشدة -
يروى عنه أنه مازح جارية له , فقال لها : خلقني خالق الكرام , وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول , قال لها مبينا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟ ؟
وقد عرف بعضهم بذلك في حياته صلى الله عليه وسلم , وأقره عليه , واستمر على ذلك من بعده , وقبله الصحابة , ولم يعدوا فيه ما ينكر , برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار , وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين!
من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح : النعيمان بن عمر الأنصاري رضى الله عنه , الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة .
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة , وشهد بدراً وأحداً , والخندق , والمشاهد كلها .
روى عنه الزبير بن بكار عدداً من النوادر الطريفة في كتابه « الفكاهة والمرح » نذكر بعضا منها . . .
قال : وكان لا يدخل المدينة لحرفة إلا اشترى منها , ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : هذا أهديته لك , فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها , أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم , قائلاً : أعط هذا ثمن متاعه , فيقول : « أو لم تهده لي » ؟ فيقول : إنه والله لم يكن عندي ثمنه , ولقد أحببت أن تأكله ! فيضحك , ويأمر لصاحبه بثمنه .
وأخرج الزبير قصة أخرى من طريق ربيعة بن عثمان قال :
دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم , وأناخ ناقته بفنائه , فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري : لو عقرتها فأكلناها , فإنا قد قرمنا إلى اللحم ؟ ففعل , فخرج الأعرابي وصاح : واعقراه يا محمد ! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « من فعل هذا » ؟ فقالوا : النعيمان , فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب , واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد , فأشار رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو فأخرجه فقال له : « ما حملك على ما صنعت » ؟ قال : الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال : فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك , ثم غرمها للأعرابي .
وقال الزبير أيضا : حدثني عمي عن جدي قال : كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة , فقام في المسجد يريد أن يبول , فصاح به الناس , المسجد المسجد , فأخذه نعيمان بن عمرو بيده , وتنحى به , ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له : بل هنا قال : فصاح به الناس فقال : ويحكم , فمن أتى بي إلى هذا الموضع ؟! قالوا : نعيمان , قال : أما إن لله على إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان , فمكث ما شاء الله , ثم أتاه يوما , وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد , فقال لمخرمة : هل لك في نعيمان ؟ قال : نعم , قال : فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان , وكان إذا صلى لا يلتفت فقال : دونك هذا نعيمان , فجمع يده بعصاه , فضرب عثمان فشجه , فصاحوا به : ضربت أمير المؤمنين ! فذكر بقية القصة ) .
ومن الطرائف أن صحابيا آخر من أهل الفكاهة والمزاح , استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من « المقالب » كما في قصة سويبط بن حرملة معه , وكان ممن شهد بدرا أيضا , قال ابن عبد البر في « الاستيعاب » في ترجمة سويبط رضى الله عنه : وكان مزاحا يفرط في الدعابة , وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبى بكر الصديق رضى الله عنهم , نذكرها لما فيها من الظرف , وحسن الخلق .
وروى عن أم سلمة قالت : خرج أبو بكر الصديق رضى الله عنه في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام , ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة , وكانا قد شهدا بدراً, وكان نعيمان على الزاد , فقال له سويبط - وكان رجلا مزاحا - : أطعمني فقال : لا حتى يجئ أبو بكر رضى الله عنه , فقال : أما والله لأغيظنك , فمروا بقوم فقال لهم سويبط : تشترون منى عبداً ؟ قالوا : نعم , قال : إنه عبد له كلام , وهو قائل لكم : إني حر , فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه , فلا تفسدوا علي عبدي , قالوا : بل نشتريه منك , قال : فاشتروه منه بعشر قلائص , قال : فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا , فقال نعيمان : إن هذا يستهزئ بكم , وإني حر , لست بعبد , قالوا : قد أخبرنا خبرك , فانطلقوا به , فجاء أبو بكر رضي الله عنه , فأخبره سويبط فأتبعهم , فرد عليهم القلائص , وأخذه , فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها حولا .

أعلى
إلى الفهرس

موقف المتشددين :

ولا ريب أن هناك من الحكماء , والأدباء , والشعراء من ذم المزاح , وحذر من سوء عاقبته , ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه , وأقفل الجوانب الأخرى .
ولكن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحق أن يتبع , وهو يمل التوازن والاعتدال . وقد قال لحنظة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واتهم نفسه بالنفاق : « يا حنظة ؛ لو دمتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات , ولكن يا حنظلة ساعة وساعة » , وهذه« هي الفطرة, وهذا هو العدل .
روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين ولا متماوتين . كانوا يتناشدون الأشعار , ويذكرون أمر جاهليتهم , فإذا أريد أحدهم على شئ من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون .
والتحزق كما يقول الإمام الخطابي : التجمع وشدة التقبض .
وفى النهاية لابن الأثير : متحزقين : أي منقبضين ومجتمعين .
وسئل ابن سيرين عن الصحابة : هل كانوا يتمازحون ؟ فقال : ما كانوا إلا كالناس . كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر .
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين , وعبوسهم وتجهمهم الذي ظنه البعض من صميم الدين , لا يمثل حقيقة الدين في شئ , ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه .
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام , أو لطبيعتهم الشخصية , أو لظروف نشأتهم وتربيتهم . وعلى كل حال , لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس , يخطئون ويصيبون . والإسلام حجة عليهم , وليسوا هم حجة على الإسلام , إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة .

أعلى
إلى الفهرس

حدود المشروعية في الضحك والمزاح :

إن الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام , كما دلت على ذلك النصوص القولية , والمواقف العملية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم .
وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شئ من الترويح يخفف عنها لأواء , الحياة وقسوتها , وتشعب همومها وأعبائها .
كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس , حتى تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل , كما يريح الإنسان دابته في السفر , حتى لا تنقطع به .
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل , ولكنها مقيدة بقيود وشروط لا بد أن تراعى :
أولها : ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس , كما يفعل بعض الناس في أول إبريل - نيسان - فيما يسمونه « كذبة إبريل » .
ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم : « ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم , ويل له , ويل له , ويل له » وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً .
ثانياً : ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر , أو استهزاء به وسخرية منه , إلا إذا أذن بذلك ورضى .
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب , بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) .
وجاء في صحيح مسلم :
« بحسب امرئ من الشر أو يحقر أخاه المسلم » .
وذكرت عائشة أمام النبي صلى الله عليه وسلم إحدى ضرائرها , فوصفتها بالقصر تعيبها به, فقال . « يا عائشة , لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته » قالت : وحكيت له إنسانا - أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك فقال : « ما أحب أنى حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا »
ثالثاً : ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم .
فقد
روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل منهم , فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه , ففزع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل لرجل أن يروع مسلماً » .
وعن النعمان بن بشير قال :
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير , فخفق رجل
على راحلته - أي نعس - فأخذ رجل سهما من كنانته فانتبه الرجل , ففزع , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل لرجل أن يروع مسلماً »
( رواه الطبرانى في الكبير ورواته ثقات ) . والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمازحه .
وقد جاء في الحديث الآخر :
« لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا » . ( رواه الترمذى وحسنه ) .
رابعاً : ألا يهزل في موضع الجد , ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء , فلكل شئ أوانه , ولكل أمر مكانه , ولكل مقام مقال . والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب .
ومن ممادح الشعراء :

إذا جد عند الجد أرضاك جده وذو باطل إن شئت ألهاك باطله !

والباطل هنا يقصد به اللهو والمرح .
وقال آخر :

أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى إنـي إذا جد الرجال لذو جد !

وروى الأصمعي أنه رأى امرأة بالبادية تصلى على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت , وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين , فقال لها : أين هذه من تلك ؟
فأنشدت تقول :

وله منى جانب لا أضيعه وللهو منى والبطالة جانب !

قال : فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له .
وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن يبكوا , فقال تعالى : ( أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون ).
خامساً : أن يكون ذلك بقدر معقول , وفى حدود الاعتدال والتوازن , الذي تقبله الفطرة السليمة , ويرضاه العقل الرشيد , ويلائم المجتمع الإيجابي العامل .
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شئ , ولو في العبادة , فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان
التوجيه النبوي : « ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب » فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة .
وقد ورد عن
على رضى الله عنه قوله : « أعط الكلام من المزح , بمقدار ما تعطى الطعام من الملح » .
وهو قول حكيم , يدل على عدم الاستغناء عن المزح , كما يدل على ضرر الإفراط فيه. وخير الأمور هو الوسط دائما , وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبرى , ومناط فضل أمته على غيرها .

أعلى
إلى الفهرس