هذا هو الاسلام .... وهذا هو جوابنا لعبدة الاوثان ؟

 

الاسلام :

هو نقلة من قومية
الأديان المتناحرة الى عالمية الاسلام لأمم متعارفة في حياتها ومتعاونة على الأمر بكل ما قد عرف خيره وعلى استنكار كل ماقدعرف شره من أجل حياة طيبة للجميع بمسئولية فردية وجماعية عن عمارة الأرض بالحق والعدل والاحسان وعدم الافساد فيها.


الاسلام دعوة ايمانية بالله خالق السموات والارض لا اكراه فيها ،
والخطاب في هذه الدعوة انما هو للعقل وأن الحوار فيها انما هو بالعلم وبالتي هي أحسن متعارفين متعاونين على الخير من أجل تحقيق أطيب آمالنا ومعالجة جميع آلامنا .

النظام الاسلامي :

هو مجموعة الأحكام
والقواعد والمباديء والقيم الاسلامية القابلة للسير مع مصالح الأمة في العصور الماضية والقادرة على كل توسع وازدهار لاصلاح المجتمع اصلاحا عاما وشاملا لكونه مستمدا من شمولية الاسلام حتى يأتي في ذلك على جميع ما يتعلق بالمبدأ والفكرة من حقوق وواجبات وأخلاق تعامل.



وبما أن القرآن الكريم هو الأصل الأول
للنظام الاسلامي والمصدر الاساسي لاحكامه الكلية وقواعده العامة ، وأن هذا الطابع الكلي هو الذي جعل القرآن في كثير من آياته محتاجا الى بيان النبي صلى الله عليه وسلم ورأيه ، ولهذا جاءت السنة النبوية الى جانب القرآن وفيها بسط لمختصره وتفصيل لمجمله ، وبكليهما نستنبط قواعد ومباديء الاسلام

 

الإسلام : عقيدة وشريعة

 

العقيدة : تمثل الخصوصية الدينية للمسلم التي تميزه عن غيره ، شأنها في ذلك شأن عقيدة أي دين في تمييز أتباعها عن الآخر، والإسلام حسم هذه المسألة بالنسبة لغير المسلم فقرر قاعدة : لكم دينكم ولي دين ، وكذلك قاعدة : لا إكراه في الدين .

والشريعة بدورها تقوم على نوعين من القوانين : قوانين الأحوال الشخصية ، وقوانين المصالح العامة للشعب .

·
فبالنسبة للأحوال الشخصية فقد حسم الإسلام هذه المسألة بالنسبة لغير المسلم حيث أعطاه الحق بأن يتعامل في ذلك مع قوانين دينه ومعتقده .

·
وفيما يتعلق بقوانين ومبادئ المصالح العامة في الشريعة الإسلامية ، فالمسلم وغير المسلم أمامها سواء بسواء لا تمييز بينهما .

وعلى أساس مما تقدم من توضيح ، لا أحسب أن هناك مشكلة لغير المسلم في ظل الشريعة الإسلامية .

 

 

كيف يمكن التوفيق بين قولكم بسماحة الإسلام وأنه دين الرحمة وبين ما يقوله القرآن لكم : يا أيها الذين أمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة .. وكما يقول أيضاً : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .



جواب :

بداية نؤكد لكم أننا نؤمن تمام الإيمان بهذه الآيات ونعمل بها ونلتزم بما جاء فيها وفي غيرها من الآيات التي تشترك معها بهذا الموضوع من توجيهات وهي كثيرة , ولكن مع التوضيح التالي :
1.
إن النص من القرآن الكريم حتى يفهم الفهم الصحيح ينبغي أن يوضع في سياق النصوص التي تسترك معه في نفس المجال والاختصاص .
2.
وأن الآيات ذات الموضوع الواحد ينبغي أن تفهم في سياق التوجه العام لمجمل آيات القرآن الكريم ورسالته العامة .
3.
وأن توضع كذلك في سياق النصوص النبوية المعنية بنفس الموضوع , وكذلك في سياق التوجيه العام للسنة المطهرة .
فإذا مر النص في هذه الدوائر الثلاثة مع توفر باقي أدوات النظر الشرعي في النصوص مثل إجادة اللغة العربية والإحاطة بعلوم القرآن والسنة والإلمام بوسائل وأدوات الفهم الصحيح للنصوص , عندها يمكن فهم النص والتعرف على دلالاته الصحيحة .
أما بشأن هذه النصوص التي ذكرتها , فهي تلحق بغيرها من النصوص التي تتكون منها تعاليم وقيم وأوامر وآداب اللوائح العسكرية المتعلقة بساحات القتال وفق النظام العام للإسلام.
وهنا أتسائل هل هناك في العالم لائحة عسكرية واحدة تقول للجند في ساحات القتال أن يرموا أعداءهم بالرياحين والزهور ؟ أم أنها تأمرهم بسحق أعدائهم براجمات الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل ؟ أما في خارج ساحات القتال فاسمع ماذا يقول القرآن بشأن العلاقة مع غير المقاتلين من الناس : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبّروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.
بل إن الإسلام ليأمر الجند في ساحات القتال , ألا يقتلوا شيخاً أو امرأة أو طفلا ً أو عابداً في صومعته , و ألا يقلعوا شجراً مثمراً إلا لضرورة , وألا يغوروا ماء ولا يتابعوا فاراً من معركة , وألا يجهزوا على جريح , و أ لا يمثلوا بأجساد موتى أعدائهم , بل عليهم دفنهم لأن النفس البشرية مكرمة بالإسلام أياً كان انتماؤها

 

 

الإسلام والأصولية :

بشأن هذه المسألة المتكررة حول عقدة عدم فهم المصطلحات ركزت في مداخلتي على النقاط التالي :

·
الأصولية باختصار : هي التزام كل إنسان بثوابت ومنطلقات ما يعتقده وما يؤمن بصحته ، أي الالتزام بأصل وجذور ومقومات اعتقاده .
·
وعلى هذا الأساس فإن لأتباع كل دين أو مذهب أو ثقافة أصوليتهم ، التي ترتكز على ثوابت ومنطلقات وجذور منشأ الاعتقاد لديهم .
·
ونحن هنا نجتمع بصفتنا أتباع أديان ومذاهب وثقافات لكل منا خصوصيته وأصوليته العقدية التي تميزه عن الآخر ، ولولا الاختلاف حول جوهر هذه الأصول لكنا ديناً واحداً.
·
ونحن أتينا إلى هنا بصفتنا أتباع لمفردات هذا التنوع الديني والمذهبي والثقافي والحضاري ، لنبحث معاً عن مسؤولياتنا المشتركة تجاه تحقيق عالم أفضل لتعايش بشري آمن .
·
لذا أحسب أنه لا طائلة من استمرارية الجدل بشأن الأصولية ، فهي بتقديري أمر محسوم لدى أتباع كل دين أو ثقافة ، والأفضل لنا التحول بحوارنا إلى إمكانية التأمل معاً ، حول البحث عن الكليات العليا التي من شأنها أن تجمعنا وتوحد عملنا باتجاه تحقيق مصالحنا وأمننا المشترك .
·
وعلى أساس مما تقدم فإنني أعتقد بأننا جميعاً يمكن أن نلتقي على :
1.
الإيمان بالإله الواحد الذي نؤمن بأنه خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا وندين له بالعبودية والطاعة .
2.
الإيمان بوحدة الأسرة البشرية والعمل على صون سلامة أمنها ومصالحها .
3.
الإيمان بأننا مكلفون جميعاً بمهمة ربانية جليلة هي : عمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس .
4.
الإيمان بالمحافظة على كرامة الإنسان وصون سلامة البيئة .

 

 

الاسلام والديمقراطية :

لماذا السعودية لا تلتزم الديموقراطية في نظامها السياسي ..؟ وهل هذا يعني أن الإسلام يتعارض مع الديموقراطية ..؟

جواب :

بداية كنا نود أن نسأل : هل أنتم راضون عن نظامكم السياسي ..؟ فإن كان الجواب ( لا ) .. عندها يكون السؤال مبرراً .. لماذا لا تتخذوا الديموقراطية بديلاً لهذا النظام غير المرغوب به ..؟ وإن كان الجواب ( نعم ) .. عندها يكون السؤال الموضوعي : ما هي مبررات رضاكم عن هذا النظام ..؟

أما جوابنا بما يخص رضانا عن نظامنا الذي نحكم به ، فنقول وبكل ثقة واطمئنان : نعم نحن راضون كل الرضا عن نظامنا الذي يحكم بلادنا وشعبنا .. وبما يتعلق بمبررات هذا الرضا فنذكر منها بإيجاز :
1.
لأنه نظام قائم على تطبيق أحكام ديننا وشريعة ربنا .
2.
لأنه يحقق لنا العدل والأمن والأمان .
3.
وننعم معه بالاستقرار والتنمية المطردة .
4.
ولأنه يتيح لنا كل الأسباب الممكنة للتقدم والارتقاء .
5.
وييسر لنا كل عوامل التواصل الثقافي والحضاري مع باقي الأمم .
6.
ولأنه يؤصل لنا مقومات تمايزنا الثقافي وتعايشنا الحضاري الكريم مع غيرنا من الأمم .

ولكن ومع رضانا المبرر عن نظامنا .. فإن لدينا الجرأة الكافية التي نعترف بها أننا غير راضون ، عن بعض جوانب أدائنا التطبيقي لقيم ومبادئ وتوجيهات هذا النظام الرباني العظيم .. وهذه مسألة تتعلق ببعض جوانب النقص في الإعداد المناسب للكفاءات والمهارات ، لتكون على مستوى قيم النظام ورسالته الحضارية الغنية بالمبادئ والحوافز والضوابط التطبيقية في شتى مجالات الحياة ، وقيادتنا السياسية مهتمة بهذه المسالة اهتمام جذري , وهي ماضية بكل جدية في علاج هذه القضية ، ونحسب أننا في تقدم إيجابي باتجاه توفير الكفاءات والمهارات وتأصيل المفاهيم العملية اللازمة لتحسين مستوى الأداء والتطبيق لنظامنا الذي ارتضيناه وآمنا به ، وفي هذا المجال نسعى للاستفادة من تجارب الآخرين ، والتعاون معهم في كل ما يعيننا على تحسين أدائنا ، والارتقاء بمستويات تطبيقنا لقيمنا ومبادئنا ، وتفعيل مقومات هويتنا الثقافية والحضارية .

أما كون الإسلام هو الذي يصرفنا عن الأخذ بالديموقراطية لكونها تتعارض معه .. فهذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر من قبل من لديهم مثل هذا الفهم أو مثل هذا التصور .
فالإسلام يقيم موقفه من أي مبدأ على معايير ثوابته ومنطلقاته مثل : العدل ، حرمة حياة الإنسان وكرامته ، حرية الإنسان وأمنه ، مصالح الناس وسلامة البيئة ..إلخ ، فالإسلام يقترب من أي نظام أو يبتعد بمقدار قرب أو بعد هذا النظام أو ذاك من هذه القيم وترجمتها في حياة الناس إلى واقع معاش ، فهناك كثير من الدول التي تأخذ بالنظام الديمقراطي وتمارس وسائله ، ولكنها في واقع الحال نعاني من أوضاع اجتماعية وسياسية وأمنية تتناقض كل التناقض مع ما تعلنه الديموقراطية من أهداف وغايات ، أو أنها لا تزال دون المستوى الأمثل للديموقراطية .. وهناك بالمقابل دول تعلن أنها تأخذ بنظام الإسلام ، ولكن في واقع الحال ليست أحسن حال من غيرها ، أو أنها لا تزال في واقع حالها دون المستوى الأمثل للإسلام وقيمه السامية .. وهذا يعني بكل تأكيد أن الخيرية لا تزال نسبية في كلا الاتجاهين .. ومن هنا ينبغي أن ننقل الحوار بيننا من دائرة أشكال النظم والوسائل ، إلى دائرة المعايير والغايات والأهداف ، ومن ثمّ الوقائع الميدانية التي تصدقها وتؤكدها ، لنكون أكثر موضوعية وعلمية وأكثر واقعية ، ولننهي حالة الانحباس في دوامة المقارنة بين الوسائل وأشكال النظم ، لأنها تبقى من المتغيرات التي تقررها وتطورها مستلزمات الغايات والأهداف لا العكس ، ويوم ينتظم الحوار حول الغايات والأهداف ، نكون قد وضعنا أنفسنا على المسار الموضوعي الصحيح والعملي ، الذي سينتهي بنا إلى ميادين الفهم والعمل المشترك ، وينأى بنا عن مواضع الخلاف و الاستعصاء الجدلي حول أشكال النظم ووسائلها ، على حساب الارتقاء بالغايات والأهداف .

وتأسيساً على ما تقدم .. فإن نظام الإسلام ركز على الأهداف والغايات ، واعتنى بالمنطلقات والقيم والمبادئ العليا ، باعتبارها الأساس لمنهجية تحقيق الغايات والأهداف ، تاركاً للناس حرية الخيار والاجتهاد بشأن الحاجات والمحسنات والمكملات ، وكذلك حرية الخيار في تحديد نوع الوسائل وأشكال النظم وآلياتها ، وفق مقتضيات الحال عبر الزمان والمكان ، والتاريخ الإسلامي يؤكد ذلك ويصدقه ، فليس هناك نمط ثابت للحكم ، أو نمط ثابت لوسائل وآليات الحكم ، فقد استخدمت أنماط للحكم مثلما استخدمت أنماط للوسائل والآليات ، ولم يعيق هذا التنوع بأنماط الحكم والوسائل المسلمين ، من أن يشيدوا أعظم حضارة في التاريخ البشري ، وأن يقدموا صفحات مشرقة من الإبداع الإداري والعلمي والتكنولوجي ، ونماذج رائعة في العدل الإقليمي والدولي ، وصور ناصعة لمراتب كرامة الإنسان وأمنه وكفايته ، ومواثيق عادلة للتعايش الإقليمي والدولي على أساس من التنوع الديني والثقافي ، وبعد وفي ضوء كل ما تقدم تنتفي مقولة ، أن الإسلام يرفض التعامل مع الديموقراطية ، أو غيرها من النظم بحجة التناقض معها ، حيث أن الإسلام لم ينشغل بأنماط الحكم ووسائله ، بل ركز على الغايات والأهداف ، واعتنى بالقيم والمبادئ المحققة للأهداف والوسائل . . فقال السائل : لاشك أن هذا التوضيح مفيد وموضوعي ويشد السامع إلى تأمله بجدية واحترام .. ولكن هذا التوضيح يطرح من جهة أخرى سؤالاً نجده يأتي في الوقت والموقع المناسب وهو : أين نقاط الالتقاء والافتراق بين الديموقراطية والنظام القائم في السعودية ..؟
نعم أوافقك تماماً على موضوعية هذا السؤال ، وأنه يأتي في موضعه المناسب مع سياق ما تقدم .. وتستحق بذلك الشكر والتقدير لأمرين اثنين أولهما : ما يؤكده سؤالكم عن عمق استيعابكم وتفهمكم للعلاقة بين الغايات والمبادئ من جهة ، والوسائل وأشكال النظم السياسية من جهة أخرى في منهج الإسلام .. وثانيهما : رغبتكم في التعرف على ساحات الالتقاء بين الديموقراطية والإسلام ، وهذا بحد ذاته توجه إيجابي وموضوعي ، للبحث والتنقيب عن قيم ومفاهيم اللقاء بين الثقافات والحضارات ، ونبذ ورفض ثقافة الصراع واستبعاد منهجية حشد أسباب وعوامل أحقادها وتأجيج نيرانها .. أما جوابنا عن سؤالكم : قد تفاجأ إذا قلت لكم : أن الديموقراطية تلتقي مع الإسلام في جانب أساس من جوانب عقده الاجتماعي الذي تأخذ به السعودية .. والعقد الاجتماعي في الإسلام يقوم على عقدين اثنين :

1.
عقد الإيمان.
2.
عقد الأداء .

وعقد الإيمان : هو عقد بين الشعب ( ولاة أمر ، ورعية ) وبين الله تعالى على تطبيق شريعة الله وتحقيق مصالح الناس وإقامة العدل بينهم . . وهذا يعني وباختصار : أن الله تعالى هو وحده مصدر ثوابت ومنطلقات التشريع في الأمة ، وأن الشعب عليه واجب الاستنباط والاجتهاد والتطوير في كل ما يحقق مصالح الجميع وإقامة العدل ، في إطار التزام وتطبيق ثوابت ومنطلقات التشريع .

أما عقد الأداء : فهو عقد بين ولي الأمر وبين الرعية للعمل معاً، على إنفاذ عقد الإيمان ، والتزام قيمه ومبادئه ، وتحقيق غاياته وأهدافه ، كل حسب مسؤولياته وصلاحياته ، وعلى أساس من السمع والطاعة لولي الأمر والنصح له بالمعروف . . وهذا يعني وباختصار أيضاً : أن الشعب حسب عقد الأداء ( البيعة ) يفوض الحاكم أو ولي الأمر وفق آلية يرتضونها ، ليقوم بأمانة تطبيق عقد الإيمان وغاياته ، وإقامة العدل وكل ما يحقق مصالح الناس وأمنهم ، مع التعاون معه وبذل النصح له .

والديموقراطية : كما هو معلوم تقوم على عقد اجتماعي ( عقد أداء ) بين الحاكم أو ولي الأمر وبين الشعب ، يقوم الحاكم بموجبه بإنفاذ إرادة الشعب ورغباته في تسيير مصالح المواطنين وأمن البلاد وتنميتها .. وهذا يعني وباختصار : أن الشعب هو مصدر التشريع ، وأن الحاكم مفوض وفق عقد الأداء بإنفاذ إرادة الشعب وتشريعاته التي قررها لتحقيق مصالح الناس والبلاد ،والحاكم بذلك مسؤول أمام الشعب وفق آليات وقواعد يرتضيها الشعب . . أي أن الشعب جمع لنفسه المصدرية المطلقة للتشريع ، والسلطة المطلقة للرقابة والمحاسبة ..

والمتأمل في العقدين .. العقد الاجتماعي ( عقدي الإيمان والأداء ) في الإسلام .. والعقد الاجتماعي ( عقد الأداء ) في الديموقراطية .. يجد أن هناك فوارق جوهرية بينهما:
1-
الديموقراطية بجملتها تجربة بشرية خاضعة للخطأ والصواب وعرضة للفشل الكامل والنجاح ، أما الإسلام فهو منهج رباني محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والأداء البشري في إطاره مرشد بقيم الإسلام وضوابطه ومعاييره ، مما يجعل الأخطاء فرعية وجزئية لا جذرية وشمولية .
2-
الديموقراطية ركزت جلّ اهتمامها على الوسائل والآليات والمصالح المادية ، وأهملت إلى حد كبير القيم والروحانيات والسلوكيات ، أما الإسلام فقد أكد على التوازنية الدقيقة والوثيقة ، بين الوسائل والماديات والمهارات ، وبين القيم والروحانيات والسلوكيات .
3-
الديموقراطية تؤسس العلاقة بين الحاكم والشعب على أساس معيار تحقيق المصالح وفق ( عقد الأداء ) ، أما الإسلام فإنه يؤسس العلاقة بين الحاكم والشعب على إخلاص العبودية لله ، على أساس من معايير العدل ، وتحقيق مصالح الناس ، وفق التكامل بين ( عقدي الإيمان والأداء ) .
4-
الديموقراطية تعتمد الأكثرية معياراً مطلقاً لتقرير الخطأ والصواب ، بينما الإسلام يقرر الثوابت الربانية معياراً مطلقاً لتقرير الخطأ والصواب في أفعال الناس .
5-
الديموقراطية تقرر أن ممارسة السلطة من الحقوق والمكتسبات ، بينما الإسلام يعتبرها من التكاليف والتضحيات .
6-
الديموقراطية أوحت بمنهجية التضاد والمعارضة بين فئات الشعب في ميادين تسيير مصالحهم ، بينما يقرر الإسلام مبدأ التناصح والتعاون في ميادين الحياة .
7-
الديموقراطية اعتبرت المسائل الأخلاقية شأن شخصي تدخل بالحريات المطلقة للأفراد ، أما الإسلام فيقرر منظومة أخلاقية متكاملة وملزمة للجميع ، وأن الحريات الفردية محكومة ومنضبطة بالمعايير العليا لقيم الإسلام وتقاليد المجتمع بعامة .
8-
الديموقراطية شطبت الأسرة من مؤسسات المجتمع المدني ، واعتبرتها شأناً فردياً ، أما الإسلام فيؤكد أن الأسرة مؤسسة مركزية في بناء مؤسسات المجتمع المدني .
9-
الديموقراطية تقرر أن الرجل والمرأة متساويان على الإطلاق في الحقوق والواجبات ، أما الإسلام فإنه يقرر التكامل المنصف بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات .

 

 

الاسلام والمرأة :

· الإسلام يقرر التكامل المنصف بين مسؤوليات الرجل والمرأة في ميادين الحياة .
·
الإسلام يؤكد أن الأسرة مؤسسة أساسية من مؤسسات المجتمع المدني .
·
الإسلام يقرر التكامل بين المسؤوليات في مؤسسة الأسرة وباقي مؤسسات المجتمع فلا تطغى مسؤولية على حساب الأخرى .
·
الإسلام خفف عن المرأة بعض المسؤوليات ومنحها بعض الامتيازات تقديراً لاضطلاعها بمسؤوليات الأمومة والطفولة .

 

 

السلام هو اسم الله تعالى .... والاسلام هو دين الله تعالى ... اذن الاسلام هو السلام.

وهنا نؤكد أن الإسلام ضد الإرهاب والظلم والتطرف , وأن الإسلام لا يدعو إلى الكراهية , ولا يبرر سفك دماء الأبرياء , وأن الإسلام يعتبر من قتل نفساً بغير حق كأنما قتل الناس جميعاً , ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً.

لذلك فإننا نخاطب أولئك الذين يقتلون ويثيرون الحروب باسم الله : مذكرين بأن السلام أسم الله .. وإنه لمن التناقض أن نتحدث عن حرب باسم الدين , كما أننا نخاطب أولئك الذين يستخدمون الأسلحة لتأسيس مصالحهم : نطالبهم بأن يعيدوا النظر في مسؤولياتهم , مذكرين بأن الحرب هو رحلة اللا عودة , وأن الحرب تخلف وراءها ميراث حزين من المذابح والدمار والكراهية , ومن جهة أخرى نذكر الجميع فنقول : التاريخ المشرف بالنهاية تصنعه الكلمات الطيبات لا طلقات البنادق

 

 

الإرهاب والتطرف :

· الإرهاب ظاهرة عالمية لا دين لها ولا جنسية .

·
الإرهاب والتطرف سلوك يعكس ثقافة ما وتربية ما .

·
ثقافة الأجيال اليوم وسلوكياتها الشاذة ، هي ثمرة المصادر الثقافية والتربوية الأكثر تأثيراً مثل : أفلام العنف والسطو والاغتصاب والتحلل الجنسي ، والتفكك الأسري والتفسخ الاجتماعي ، والترويج لظاهرة تعاطي المخدرات،والاستهتا بالقيم الدينية والإيمانية والأخلاقية ، واتساع ظاهرة الظلم والحروب وعبثية استخدام أسلحة الدمار الشامل ، حيث أن ذلك كله يفرز أجيالاً ساخطة وغير مسؤولة ، وبنسب متفاوتة في غالب بلدان العالم.. وهذه الأجيال غير المسؤولة هي التي تمارس اليوم الإرهاب والتطرف ، والتي من أخطرها وأشدها على مستقبل الأمن البشري انتشار ظاهرة إرهاب وعنف أطفال المدارس .

·
لذا علينا قبل ومع المطالبة بمراجعة المناهج التعليمية، التي أصبحت ملحة لمن هجروا قيم الإيمان، وجردوا مناهجهم من المثل الأخلاقية ، علينا المطالبة بجدية وإلحاح بمراجعة ثقافة أفلام هوليود ودزني وغيرهما من وسائل الإعلام العابثة التي تنخر بأساسيات التكوين التربوي والسلوكي لأجيالنا. . كم ينبغي مراجعة قيم ومبادئ الثقافات التي سيطرة منذ بداية القرن العشرين على تربية وصياغة ثقافة الأجيال البشرية مثل الثقافة الفاشية , والنازية , والصهيونية , والماركسية , والعلمانية , ففي ظل هذه الثقافات عانة البشرية من كوارث حربين عالميتين مدمرتين , ومن حرب باردة أدخلت العالم في سباق نكد لإنتاج أسلحة الدمار الشامل التي تشكل اليوم أكبر تهديد لأمن الأجيال وسلامة البيئة , وفي تربة هذه الثقافات نمت وترعرعت ثقافة وسلوكيات العنف والإجرام الاجتماعي والتدهور الأخلاقي في أكبر مدن وعواصم الدول التي تزعم التحضر والتقدم , وما يجري في إرلندا من إرهاب وعنف طائفي وما تمارسه الألوية الحمراء في إيطاليا ونظيرها في إسبانيا , وما جرى في أنفاق المواصلات قي اليابان , وما تفجع به الأسر الأمريكية والأوربية من تقتيل وسفك للدماء بين أطفال المدارس بسبب الإرهاب والعنف الذي استشرى بين تلامذة المدارس الابتدائية فضلاً عما يجري في المدارس المتوسطة والثانوية لأكبر دليل على أن الإرهاب هو من صناعة وإنتاج الثقافات السالفة الذكر. أما الإسلام وبشهادة الخصوم قبل الأصدقاء فقد كان عصره ولا يزال حيثما ساد وحكم عصر الأمن والأمان والسلام البشري , ارتقت به الحضارة البشرية ارتقاء لا نظير له , وعم الأرض العدل والسلام والرخاء .

 

 

لماذا المملكة العربية السعودية تمنع غير المسلمين من دخول مكة ..؟

جواب :

1 - قبل كل شئ نود أن نؤكد أن مثل هذه الأسئلة لا تزعجنا على الإطلاق .. بل نتلقاها بكل ارتياح وسرور لأمرين : لأنها تشعرنا ( أولاً ) بصراحة السائل ووضوح نهجه معنا ، ورغبته الجادة في التعرف على مفاهيمنا الدينية وموقفنا ورأينا في مسائل غير واضحة لديه ، ولأنها ( ثانياً ) تعطينا الفرصة لتجلية هذا الأمور وإزالة الملابسات التي تحجب حقيقتها الدينية عن غير المسلمين .

2-
ما هي المبررات الدينية التي تلزم السعودية باتخاذ قرارها بمنع غير المسلمين من دخول مكة ..؟

أن قرار المنع بشأن هذه المسألة يقوم على مبررات ونصوص دينية ، ليس للمسلمين بعامة ولا للسعودية بخاصة تجاهها خيار إلا الالتزام والتنفيذ ، فالمنع ليس - كما يتصوره البعض - قراراً سياسياً من القيادة السعودية .. فالقيادة السعودية تجاه مثل هذه المسائل الدينية شأنها شأن كل مسلم ، لا تملك إلا الالتزام بالقواعد الدينية من غير زيادة أو نقصان .. وهذا التوضيح هو المبرر لطلب التعديل في السؤال – إن كان مقبولاً – ليكون البحث والحوار مركزاً حول معرفة المبررات الدينية ومقاصدها وغاياتها ، ومن ثمّ فهم موقف المسلمين منها باعتباره موقفاً دينياً بحتاً ، تمليه ضرورات الإيمان والاعتقاد الديني ، شأنهم في ذلك شأن أهل الأديان الأخرى في موقفهم من مسائل الاعتقاد لديهم .. وليس كما يتوهم البعض أنه موقف بشري تعصبي أو موقف سياسي تمليه مفاهيم خاصة .

1 –
إن مكة المكرمة مكان عبادة ، لا يقصدها المسلمون من غير أهلها ولا يدخلها من حيث الأصل إلا للعبادة ، وما يترتب للمسلم مع العبادة من مصالح أو منافع ، إنما هي بسبب ما تتطلبه خدمات هذه العبادة وليست مقصودة لذاتها ، فلولا علة العبادة والتعبد بسبب من وجود بيت الله فيها ، ولولا دعوة الله جلّ شأنه للمسلمين بالحج إليها ، واعتبار الحج فريضة وركناً من أركان الإسلام ، لما طمع أحد من المسلمين بسكنى مكة أو زيارتها ، ولما قامت مكة من حيث الأصل ولما كان لها وجود ، لأنها بكل المعايير المدنية والحضارية لا تمتلك مقومات الوجود الحيوي المادي بالأصل ،فهي بوادي جاف تطوقه جبال عالية جرداء قاسية المراس ، فمبرر وجودها كان دينياً ، وتطورها على مر الزمان كان لحاجات دينية ، وزيارتها والتوجه إليها لمقاصد دينية ، والسكن فيها لأسباب مرتبطة بأمور دينية خالصة ، وهذا كله مؤكد بنصوص دينية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهاهي اليوم من أجمل وأجل مدن العالم بسبب من الحرص الشديد والعناية الخاصة من القيادة السعودية ، التي عملت بجد وبذلت الكثير ولا تزال تعمل وتبذل كل ما بوسعها لتكون هذه المدينة الربانية بالوضع الحضاري ، الذي يليق بقدسيتها ومكانتها في قلوب المسلمين قاطبة.

2 –
ولعظمة هذا المكان وعظمة قدسيته ولاعتباراته الدينية ، فقد اختصه الله تعالى بآداب وأحكام ومراسيم محددة ، ورسم له حدودا جغرافية دينية تعبديه ، وفق دوائر جغرافية متعددة تحيط بمكة المكرمة ، لكل دائرة منها أحكامها الشرعية والتعبدية بما يتعلق بمكة ، وهذا ما يمكن تسميته ( (Geo-religious1 أي أن لكل دائرة جغرافية أحكامها الدينية ، على كل مسلم أن يلتزم تلك الأحكام والآداب والقواعد ، وأي مخالفة لذلك يترتب على المسلم بموجبها عقوبات محددة ، مع التوبة إلى الله والاستغفار ، أما الدوائر الجغرافية الدينية لمكة هي :

أ – دائرة المسجد الحرام .
ب – دائرة مكة المكرمة .
ج – دائرة الحدود المحلية للحرم المكي .
د – دائرة الحدود الدولية للحرم المكي .
ه – دائرة ما وراء الحدود الدولية للحرم المكي .

هذه الدوائر الخمسة لكل منها أحكامها الدينية والتعبدية ، التي ينبغي على المسلم التزامها واحترامها وعدم مخالفتها ، وعلى سبيل المثال : إذا رغب مسلم بزيارة مكة فعليه أن يعرف حدود المنطقة التي سينطلق منها لأداء هذه الزيارة ، ومن ثمّ معرفة الأحكام الدينية والشروط المطلوب توفرها لتكون زيارته صحيحة ، فلو كان مثلاً يعيش في دائرة ما وراء الحدود الدولية لمكة ، ورغب في زيارة مكة فعليه إذا وصل الحدود الدولية أن يقوم بالأعمال التالية :

1.
يخلع ملابسه العادية .
2.
يغتسل ويزيل الشعر من مواضع محددة من بدنه .
3.
يلبس لباس الإحرام المعروف .
4.
يصلي ركعتين .
5.
يعلن قصده من الزيارة أهي للعمرة أم الحج ؟
6.
يبدأ- وبصوت مسموع لمن حوله - بترداد النص الشرعي للتلبية وهو ( لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك ) .

وفي حالة المخالفة لهذه الشروط أو لأحدها ، يترتب على المسلم عقوبة بقدر نوع المخالفة ، مع التوبة والاستغفار .
وهذا يعني و بكل وضوح أن مكة المكرمة ليست مدينة مفتوحة على الإطلاق وبدون شروط للمسلم نفسه ، فمن باب أولى ألا تكون مفتوحة على الإطلاق لغير المسلم ، فمن أراد دخولها فلا بد أن يلتزم شروط وأحكام وآداب الدخول إليها ، فقال السائل : لو قمت أنا شخصياً بامتثال وتنفيذ هذه الشروط الستة .. هل بإمكاني دخول مكة ؟ قيل له نعم ولن يستطيع أحد أن يمنعك من دخولها إذا قمت بأداء هذه الشروط الستة ، ونحن لسنا مكلفين أن نتقصى حقيقة ما في قلبك ، فيما إذا عملت بهذه الشروط عن إيمان بها أو بدوافع أخرى ، وذلك لسبب بسيط هو أن المسلمين مأمورون بالتعامل في قضية الإيمان مع ما يعلنه الإنسان بلسانه ويؤديه من أعمال ، أما حقيقة سريرته وما يحيك في صدره فهذا أمر يترك إلى الله تعالى ، فهو سبحانه الذي يحكم على السرائر .

 

 

ماذا عن مسألة عدم السماح ببناء معابد لغير المسلمين على أرض السعودية ..؟

نحسب أن أمر هذه المسألة بسيط ، فلسنا وحدنا الذين نحدد جغرافية خاصة لمنطلق عقيدتهم ، فأغلب الأديان تخص عقيدتها بحصانة جغرافية لا يشاركها بها أحد من الأديان الأخرى ، فمثلاً أتباع العقيدة الكاثوليكية اتخذوا من دولة الفاتيكان حصانة جغرافية لعقيدتهم ، فلا يسمح أن يقام داخل الفاتيكان معبد لأي عقيدة أخرى ،حتى لأتباع الكنائس المسيحية الأخرى ، ونبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قد جعل الجزيرة العربية كلها حصانة جغرافية لعقيدة الإسلام ، معلناً ألا يجتمع مع الإسلام دين آخر في جزيرة العرب ، أما خارج الجزيرة العربية فهاهي معابد غير المسلمين تجاور وتطاول مساجد المسلمين في جميع بلدان المسلمين ، بل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل مدينة القدس طلب إليه كبير أساقفتها ( صفرينيوس ) أن يصلي في كنيسة القيامة ، فرفض عمر قائلاً : أخشى أن يتخذها المسلمون مسجداً من بعدي ، مما يؤكد حرص المسلمين على عدم انتهاك حرمة معابد غير المسلمين ويؤكد المحافظة عليها ، بل أن الطوائف المسيحية اصطلحت فيما بينها على أن يكون مفتاح كنيسة القيامة بيد أحد المسلمين ، بعد أن اختلفوا على شرف حوزة مفتاحها ، ولا يزال حتى يومنا هذا مفتاح كنيسة القيامة بيد أبناء إحدى العائلات المسلمة في القدس .

ومن جهة أخرى فشعب المملكة العربية السعودية كله مسلم ، والإسلام شرط أساس لجنسية المواطن السعودي ،وبهذا لا يوجد شخص واحد في السعودية يدين بغير الإسلام .
أما الفئات غير المسلمة الوافدة إلى المملكة ، فهي قادمة بعقود عمل ولأزمنة محددة ، وليس أحد منهم لديه إقامة دائمة ، وهم بتناقص مستمر بسبب من تزايد وفرة الكفاءات السعودية البديلة ، بالإضافة إلى أن عقود العمل الموقعة من قبل الوافدين تشترط احترام قوانين وتقاليد السعودية، ومن قواعدها وتقاليدها الدينية ألا تبنى معابد لغير المسلمين على أرضها ، وهذا يعني أن المتعاقد غير المسلم حسب العقد هو في خيار أن يقبل أو يرفض ، أما وقد وقّع عقده فعليه أن يلتزم بما وقع عليه.

وخلاصة القول : أن قرار عدم السماح لبناء معابد لغير المسلمين على أرض المملكة العربية السعودية ( جزيرة العرب ) ، يقوم على المبررات التالية :
1.
المبرر الديني المبني على نص شرعي لا يملك أحد مخالفته.
2.
مبرر اجتماعي لعدم وجود مواطن واحد يدين بغير الإسلام .
3.
مبرر قانوني لوجود عقود عمل مشروطة بهذا الشأن .

 

 

 

 

شـــركاء .. أم أوصــــياء ..؟

بل شركاء ..

إن من مفتنات القول والفهم والتفكير..أن يضن بعض المسلمين أن من واجبات المسلم إدخال الناس كافة في الإسلام .. من أجل أن يصبح الإسلام دين البشرية قاطبة .. !

دون أن يدرك هـذا النفر مـــن المسلمين .. الفرق بيـن واجب السعي للتعريف بالإسلام .. وتبليغه هديه الرباني للعالمين وتركهم من ثم أحرارًا .. يقررون لأنفسهم ما يفتح الله به عليهم .. وبين إجبار الناس على الدخول في الإســـــــــــلام و إكراههم على ذلك .. والبعض يذهــــب إلى اكثر مــــن ذلك .. حيث يرى ويعتقد بأن مـــن واجب المسلمين, العمل على إقامة دولة الإسلام العالمية في الأرض .. ليخضع الناس من بعد جميعًا على اختلاف أديانهم وأعراقهم وأجناسهم لإمامة واحدة هي الإمامة المسلمة .. وأن يصبح البشر كافة مواطنين خاضعين لدولة واحدة في الأرض هي دولة الإسلام .. ؟!
دون أن يدركوا هذا البعض من المسلمين الفرق بين أن يخضع الناس جميعًا لسلطان الله في الأرض .. وبين أن يخضعوا لسلطان المسلمين ودولة الإسلام . لاشك نحن المسلمين .. نعتقد ونرغب أن نخضع نحن والنـــاس جميعاً لسلطان الله - رغبة منهم وطواعية - وليحكموا أنفسهم وحياتهم وفق غاياته العليا , وسلطان الله في الأرض يقوم على ثلاث غايات وكليات عليا هي :

1.
إقامة العدل,
2.
صون كرامة الإنسان,
3.
عمارة الأرض وعدم الإفساد فيها.

أجل نحن المسلمين نرغب ونرغب الناس جميعًا أن يلتزموا هذه المبادئ الربانية العليا .. لتصبح أساسًا راسخًا لمضمون وغاية الحكم عند الناس جميعًا في بلدانهم وتحت سلطانهم .. ولا نسعى ولسنا مكلفين ديانة أن نسعى لكي نحكم العالم بهذه المبادئ .. ولكن المطلوب منا ديانة والمكلفون به وجوبًا .. هو أن يكون المسلمون الأنموذج العملي لتطبيق سلطان الله في الأرض .. وذلك من خلال العمل بجدية وإخلاص وبكفاءة ومهارة على تطبيق شريعة الله القائمة على مثل هذه المرتكزات الثلاثة وغيرها .

ولذا لا نقر ما يدعيه بعض المسلمين خطأً وعن سوء فهم منهم للإسلام ورسالته السمحة.. من أن الناس في العالم ينبغي أن يخضع لدولة الإسلام الواحدة .. وليصبحوا مواطنين في دولة الإسلام , أو أن يخضعوا جميعًا لسلطان الله بقيادة مسلمة .

 

 

 

 

جهاد بيان .. أم جهاد سنان .. ؟

وأحسب أن من مصادر الخلل الأمني في بلاد المسلمين .. وكذلك من أسباب حالة الخلل في علاقة المسلمين مع غيرهم .. اختلال مفاهيم فريضة الجهاد العظيمة عند بعض المسلمين .. ولذا وجدت من الواجب أن ألمس هذه المسألة بالقدر الذي يتناسب مع موضوع هذا البحث وغايته .. والله المستعان وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل :
من المعروف عند أهل العلم أن أول آية نزلت من القرآن الكريم تتحدث عن الجهاد هي قول الله تعالى :

"
فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا "
52 /
الفرقان - 25

وهي من آيات سورة الفرقان .. ومن المعلوم كذلك أن سورة الفرقان عند الجمهور مكية النزول .. وعبارة الجهاد عبارة موسوعية الدلالة , فهي عبارة شاملة لكل ما يمكن بذله من جهد وطاقة , ومما يلفت النظر هنا عبارة " وجاهدهم " التي وردت في الآية هي من صيغ المفاعلة .. فهي تفيد المقابلة , والمثابرة بكل قوة وعزيمة في رد الشبهات , التي أثارها ويثيرها المتشككون بالقرآن الكريم , ويتترس بها المنكرون لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا ما عبر عنه القرآن بعبارة " جهادًا كبيرًا " فمجادلة ومحاورة الكافرين والمتشككين , والتصدي لشبهات المتنكرين والمستهترين برسالة الهدى الرباني بالحجة والبرهان .. والتعريف بالإسلام وقيمه ومبادئه ومقاصده بالحكمة وحسن الخطاب والبيان , إنما هو الجهاد الأكبر,حيث خاطب رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أصحابه رضوان الله عليهم في طريق عودته من إحدى المواجهات القتالية :
"
لقد عدتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه "
رواه البيهقي بسند ضعيف

وفي مسند الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :

"
والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل "

فهذا يعني بوضوح أن أصل الجهاد ( اصطلاحا وشرعًا ) هو مجاهدة المرء هواه ونزواته .. ومجاهدة غواية الشيطان وتزيناته .. ومجاهدة الآخرين من شياطين الإنس .. وذلك بمقارعة أباطيلهم وافتراءاتهم وعنادهم وصلفهم .. بما جاء في القرآن الكريم من حجج وبراهين .. وبما تميز به من إعجاز في العرض والبيان .. مما يفرق بين الحق والباطل .. ومما يقذف الباطل فيدمغه ويحيله قاعًا صفصفًا :

"
تبـارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا "
1 /
الفرقان
"
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون"
18 /
الأنبياء – 21

والجهاد كذلك هو مواصلة التعريف بالإسلام ورسالته العالمية بين الناس عبر الزمان والمكان .. بكل الوسائل المتاحة والمهارات المتوفرة .. وذلك كله بالحكمة والموعظة الحسنة التي تناسب أحوال الناس اجتماعيًا وثقافيًا :
"
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "

"
حدثوا الناس بما يعرفون "
البخاري

وعندما نزلت آية الجهاد في مكة المكرمة , لم يكن المسلمون قد أوذن لهم بعد بالقتال .. ويوم بيعة العقبة الثانية .. قال عباس بن نضلة :
"
إن شئت يا رسول الله ملنا غدًا على أهل من بأسيافنا "
فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"
لم نؤمر بعد .. بل تسللوا إلى مضاجعكم تسلل القطا "
سيرة إبن هشام
واستمــــر المسلمــــون طيلة الفترة المكية يمارسون فريضة الجهاد بالحجة والبيان
وبالحكمة وبالموعظة الحسنة .. وبالصبر والمصابرة :

"
اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي "

وعندما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف , وقد واجه ما واجه من سفه أهلها وعدوانهم وأذاهم قال له إن ربك يقرئك السلام , ويقول لك : إنه قد أمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين إن شئت , فقال رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام:

"
لا يا رب لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحدك "

واستمر المسلمون على ذلك فترة من المرحلة المدينة , حتى إذا مكن الله لدينه ولرســـــوله بيــــن الأنصار والمهـــاجرين في المدينة.. وبــــدأت دولة الإسلام تتكون .. ورسالته بالانتشار .. اشتد غيض الكفر والمشركين واشتد غضب سادة قريش .. الذين رأوا في الإسلام منافسًا قويًا لسلطانهم ومجدهم وما يعبدون من دين الله .. بدأت المكائد تحاك والتحالفات تتكون من أجل اجتثاث هذا الدين وإزالة وجوده .. قبل أن يستفحل خطره على الزعامات القبلية والدينة المتجذرة في جزيرة العرب .. وبدأت الحروب والمكائد تشن من قريش واليهود وباقي قبائل العرب .. وأمام هذا الإصرار في معـــادة الإسـلام وأهله .. وأمام حالات العدوان المسلح .. إذن الله لرسوله وللمؤمنين بمقاتلة هؤلاء المعتدين الظالمين :

"
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"
39 /
الحج - 22
"
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون "
216 /
البقرة - 2
وهكذا جاء الإذن بالقتال من رب العزة والجلال , مع التنويه بأنه وسيلة مكروهة بمنهج الإسلام .. وإنه رد على عــدوان الآخرين ومعاملةً لهم بالمثل :

"
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين "
194 /
البقرة
"
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين "
190 /
البقرة
ومن بدائع لطف الله تعالى بخلقه .. ومن أبرز معاني مقت الله تعالى للظلم والظالمين
والبغي والباغين وكرهه سبحانه للعدوان والمعتدين فيسمي جلّ شـــأنه ما يأمر المسلمين به من رد.. للعــــدوان ( عـــدوانًا ) .. " فاعتدوا عليه " .. ثم يزيد في التأكيد على مقته للقتال قائلاً جل جلاله وموصيًا للمسلمين بأن يتقوا الله وهم يردون العدوان , فلا يبالغوا ولا يسرفوا في القتل :

"
واتقوا الله "

ويزيد في الحرص على تقوى المسلمين في أعمالهم ومقاتلتهم لمن اعتدى عليم .. فيبشرهم ويطمئنهم بأنه مع المتقين :

"
واعلموا أن الله مع المتقين "

إن هذا التأكيد على كره القتل والقتال .. ومقت العدوان والاعتداء من حيث المبدأ .. والتأكيد على تقوى الله أثناء ممارسة رخصة القتال , باعتباره وسيلة استثنائية أملتها ضرورات رد العدوان والبغي .. إنما هو تأكيد على مبدأ أساس في منهج الإسلام .. وهو أن الإسلام جاء لإحياء الناس وليس لقتلهم وإفنائهم :

"
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "

وجاء رحمة للعالمين وليس نقمة وغضبًا وكراهية :

"
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "

وجاءت رسالة الإسلام لتعلي من قيمة حياة الإنسان وحرمتها:

"
من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا "

وكانت رسالة الإسلام من أجل إجلال كرامة الإنسان :

"
ولقد كرمنا بني آدم "

"
أليست نفسًا "

بل جاءت رسالة الإسلام لصون الأرض وحماية البيئة من الفساد والمفسدين باعتبارها سكن الجميع ومخزون رزقهم :
"
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها "

"
ويا قومي أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين "
85 /
هود

وهذا ما تؤكده آداب وأخلاقيات الإسلام في ميادين القتال , والتي توصي الجند وتؤكد عليهم وتأمرهم :

بأن لا يقتلوا شيخًا مسنًا .. ولا امرأة .. ولا طفلاً .. ولا عابدًا متعبدًا في صومعته,
وألا يقطعوا شجرًا مثمرًا إلا لضرورة ,
وألا يغّور ماءً ,
وألا يجهزوا على جريح ,
وألا يمثلوا بجسد ميت,
وألا يتابعوا هاربًا من ساحة القتال .. مما يؤكد أن القتال في الإسلام ليس غاية لذاته , إنما هو صد لعدوان أو بغي ,
بل عليهم أن يدفنوا موتى أعدائهم .. لأن النفس البشرية في الإسلام مكرمة لذاتها " أليست نفسًا "
وعليهم إكرام أسرى الحرب وعدم الإساءة إليهم ,
كما عليهم احترام رسل أعدائهم وعدم احتجازهم أو أسرهم أو الإساءة إليهم.

وهذا ما تؤكده تعاليم منهج الإسلام من آداب ومثل مع من لم يقاتل المسلمين .. ومع من لم يخرج المسلمين من ديارهم .. ومع من لم يظاهر على إخراجهم .. حيث أوجبت لمثل هؤلاء البر والإقساط :
"
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين "
8 /
الممتحنة
إن ما سـبق يؤكد على أن الأصل في الجهاد .. هو جهاد بيان وحجة وبرهان,ودعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وتعريف بدين الله ومقاصد رسالته وشريعته بالجدال والحوار مع الناس بالتي هي أحسن .. وأن القتال وسيلة استثنائية من وسائل الجهاد .. تمليها ظروف وغائلة الاعتداء والبغي والظلم على المسلمين .. وتنتهي مع انتهاء أسبابها ومبرراتها الشرعية
"
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم "
61 /
الأنفال
"
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم "
"
فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين "

وعرف ابن تيمية الجهاد بقوله :

"
هو شامل لأنواع العبادات الظاهرة والباطنة , ومنها: محبة الله , والإخلاص له , والتوكل عليه , وتسليم النفس والمال له , والصبر والزهد , وذكر الله , ومنه ما هو باليد , ومنه ما هو بالقلب , ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة والمال "
الاختيارات للبعلي

ويقول عبد الله بن بيه في كتابه الإرهاب :

"
والحق أن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مرادفًا دائمًا للقتال , فالجهاد مفهوم واسع فهو دفاع عن الحق ودعوة إليه باللسان وهذا هو المعنى الأول قال الله تعالى : ( وجاهدهم به جهادًا كبيرًا ) أي بالقرآن أقم عليهم الحجة وقدم لهم البرهان تلو البرهان ومعلوم أن تلاوة القرآن لا تتضمن أعمالاً حربية فليس كل جهاد قتالاً وليس كل قتال جهاد والجهاد دعوة إلى الحرية "

فالحرب الإسلامية إنما هي حرب دفاعية , لأن أصل العلاقة مع غير المسلمين هي المسالمة وأن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ترجع إلى هذا المعنى عند التـأمل , ويقول ابن تيمية في رسالة القتال :

"
حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين – 27 غزوة – كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة , وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال "

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا دفاعًا أو لرد بغي وليس لإكراه الناس على اعتناق دين الإسلام " لا إكراه في الدين " ويقول ابن تيمية في كتابه ( السياسة الشرعية ) تعليقًا على من يقول بنسخ هذه الآية :

"
جمهور السلف أنها ليست منسوخة ولا مخصوصة وإنا النص عام , فلا نكره أحداً على الدين , والقتال لمن حاربنا فإن أسلم عصم ماله ودينه , وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله و ولا يقدر أحد قط أن ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أحداً على الإسلام لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه و ولا فائدة في إسلام مثل هذا لكن من أسلم قبل إسلامه "

وقال ابن تيمة كذلك في السياسة الشرعية :
"
لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر "
وهذا لا يعني التقليل من شأن القتال وعظمة أجره .. وسمو مراتب الشهداء عند الله تعالى .. فهذا أمر من المعروف في الدين بالضرورة .. لا يجحده أو ينتقص منه أو ينكره إلا مارق من دين الله .. فالقتال هو أسمى مراتب الجهاد عندما تتعين شروطه ومبرراته .. وهو أقرب القربات إلى الله يوم يؤدى وفق مراد الله وشرعة الله .. إلا أنه يبقى وسيلة استثنائية مرهونة ومحكومة بشروطها وأسبابها .. التي تقررها الأمة من خلال أهل الحل والعقد وولاة الأمر فيها .. وأن الأمة بلا شك إن ألغت من منهجها جهاد القتال .. وهجرت فريضة الاستعداد والإعداد لمواجهة عدوان المعتدين .. ولكبح وردع طمع الطامعين .. ولسحق حقد الحاقدين ومكر الماكرين .. ستنزل نفسها طواعية منازل الذل والهوان والمهانة .. وستقدم وجودها وسيادتها وأوطانها وشعوبها لقمة سائغة لكل طامع وحاقد .. وسترشح نفسها للتبعية والاسترقاق أو المحق والزوال :

"
وأعـــدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عـــدو الله وعدوكم وآخرين لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شـــئ في سبيل اللـــه يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون "
60 /
الأنفال


وذات مرة سألني سائل في إحدى مؤتمرات الحوار مع الآخر قائلاً : ألا ترى أن القرآن عندكم يؤصل لثقافة الإرهاب .. ؟

قلت كيف .. ؟ وما هو دليلك ..؟

فقرأ علي هذه الآية " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . "
60 /
الأنفال - 8

قلت له : وهل أنت عدو لله ..؟ قال : لا

قلت وهل أنت عدو للمسلمين ..؟ قال : لا

قلت : ما الذي يخيفك إذاً من هذا الاستعداد ..؟
ومن ثمّ أليس من حق كل أمة أن تتخذ من الأسباب ما يحول بينها وبين المعتدين..؟
أو ليس لها أن تستعد لحماية سيادتها ومصالحها من ظلم الظالمين ومن بغي الباغين ؟
ومن جهة أخرى من فضلك أجبني .. لمن هذا الترسانات النووية التي أنتجتموها في بلاد الغرب ولا زلتم تنتجون وما ينتجه غيركم في مشارق الأرض ..؟

ولمن هذه الأســـلحة البيــولوجية الفتاكة التي حشــوتم وغيركم بها بطون السهول , وأحشاء الجبال , ولجج البحار, وآفاق السماء.. ؟

ولمن أعددتم هذه الجيوش الجرارة المسلحة بأحدث وأعتى أسلحة الدمار الشامل .. وبأحدث وأفتك الطائرات وقاذفات حمم الموت ومبيدات الحياة واسعة الانتشار .. ؟

هل بعد هذا تستكثرون علينا مجرد التفكير بالاستعداد لردع الظالمين وكبح الطامعين والباغين .. ؟

أبعد هذا تستكثرون علينا رباط الخيل وما هو بحكمه , من الأسلحة الرحيمة قياسًا علي أسلحة الدمار الشامل , التي أسرفتم بإنتاجها وتخزينها .. على حساب خصوصيات مصالح شعوبكم مثل الطعام والغذاء والدواء وغيرها .. ؟

ومن ثمّ لماذا هذا الجنون في صناعة الموت للناس ..؟

ألم تنتجوا أنتم والاتحاد السوفيتي من المخزون النووي ما يكفي لتدمير الأرض عشر مرات أو ربما مائة مرة كما يقول الرئيس السوفيتي الأسبق جورباتشوف ..؟

"
إن الجانب الأكبر من الأسلحة النووية يتركز لدى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة , وفي الوقت نفسه فإن عشرة في المائة أو حتى واحد في المائة من إمكاناتها كاف لإنزال أضرار لا يمكن إصلاحها بكوكبنا وبكل الحضارة البشرية "
البيروستريكا- ص272

وهــل نحـــن بحـــاجة لأن تدمر الأرض أكثر من مـــرة إن اتفقنا على هـــذه الحماقة النكراء .. ؟

أجبني من فضلك إن كان لديك جواب .. فأخذ يحك شحمة أذنه ويقلّب بصره ولاذ بالصمت .

ثم قلت له عليك أن تعلم أن عبارة " ترهبون " التي وردت في النص القرآني الذي ذكرته , لا تعني الإرهاب بالصيغة المضطربة المعاني على ألسن الناس اليوم .. إنها عبارة تحذيرية تعني الردع والتخويف من مغبة الدخول في الحروب والقتال .. لأن الحرب في الإسلام مكروهة :

"
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ".
ومـــن جهـــة أخرى عليك أن تدرك بإن الاستـــعداد لامتلاك وسائل القوة المشروعة , إنما هو إجـــراء احترازي دفـــاعي موجـــه لأعداء الله وأعداء المسلمين , وأعداء الإنسانية , وليس كما يضن البعض أن هذا الاستعداد موجه ضد غير المسلمين من أتباع الأديان والثقافات والحضارات على الإطلاق .
فالاستعداد والتسلح بمنهج الإسلام موجه حصراً للمعتدين , موجه لأعداء الله وأعداء خلقه من المسلمين وغيرهم , لأن أعداء الله ليسوا فقط أعداء المسلمين , بل هم أعداء كل الناس , لأنهم أعداء رب الناس , وهذا يعني بوضوح أن الآية تتحدث منذ تاريخ مبكر, وبالتحديد منذ ما يزيد عن أربعة عشرة قرناً ونيف , عن ظاهر عدوانية عالمية ضد الله وخلقه وعباده , وقد عانة البشرية طوال تاريخا من مثل هذه الحالة العدوانية العامة على لله وخلقه , وها هو العالم اليوم يعاني من حالة عدوانية عامة سماها – الإرهاب - لا تخلو منه بشكل أو بآخر بلد من بلدان العالم , ولم ينجو من لوثته أهل ثقافة من الثقافات , أو أتباع ديانة من الديانات , فهو بحق ظاهرة عالمية لا جنسية لها ولا ديانة ولا وطن , فهي حالة تمرد على مراد الله ورضوانه , واعتداء على الله وعلى عباده وكل الخلائق :

"
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم "

فهذا الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله الذي يواجهه ويقاسي منه العالم اليوم , يدخل تحت العنوان الكبير " عدو الله " ومن ثم هو إرهاب ضد الكون والخلائق , لأنه عدو ضد ربها وخالقها ومدبر أمرها جلّ جلاله , وعلى أساس من ذلك أستطيع أن أعرف الإرهاب فأقول :

"
هو كل ممارسة عدوانية , فكرية , أو دينية , أو اجتماعية , أو سياسية , أو اقتصادية , أو عسكرية , أو أمنية , أو غيــــرها ,من قبل فرد , أو مجمـــوعة أفــراد , أو جماعة , أو دولة , أو مجمـــــوعة دوليــــة , تتناقض مــــع مرضاة الله , وينتهك بها العدل , ويعتدى بها على حياة الإنسان وكرامته ,وتفسد بها الأرض والبيئة , وتضر بمصالح الناس وأمنهم واستقرارهم وبكل مقوماتهم الحيوية "

وبعبارة موجزة :

"
الإرهاب هو كل اعتداء على حق الله وحقوق خلقه "

إذاً الآية لا تتحدث عن حالة إرهاب المسلمين لغير المسلمين , بل تتحدث عن دعوة عامة لمواجهة كل إرهاب واعتداء عل الله رب الناس جميعاً , وتأمل معي كيف أن الآية بدأت بعبارة " ترهبون به عدو الله " تأكيداً على أن الاستعداد ليس للدفاع عن حالة قومية أو دينية أو وطنية فحسب , بل هي قبل ذلك دفاع عن مبدأ أعلى وأجل , إنه دفاع عن حق الله وقيمه ومثله , الذي هو دفاع عن حقوق عباده وحقوق كل ما أبدع من خلائق , ودفاع عن سلامة وطنهم الكبير الأرض والحيلولة دون إفسادها .

أجـــل نحـــن مع الاستعــــداد والإعداد لمواجهة المعتدين..ولكبح وردع بغي الباغين.. ولحماية وعزة الإسلام والمسلمين .. ولحماية كرامة الإنسان وتبجيل حياته.. ولصون سيادة الأوطان وحرمة بلاد المسلمين ومصالحهم وأمنهم واستقرارهم .. وصون صلاح الأرض وسلامة البيئة ومصالح الناس وأمنهم المشترك .. ونحن مع إعداد الجيوش والمهارات والصناعات , التي تؤهلنا لأداء مسؤولياتنا في ميادين الحرب والسلم وفق قيمنا ومعايير ديننا وإسلامنا .. بعيدًا عن ردود الأفعال الغاضبة غير المرشدة .. نعم نحن أمة تغضب لانتهاك حرمة دينها .. والنيل من عزتها وسيادتها .. والمساس بأمن أوطانها .. ومصالح شعوبها ولكن غضبها مرشد بقيم ربها ومبادئ دينها ومعايير شرعتها :

"
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ,

"
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إن الله لا يحب الظالمين "

"
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل "

"
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم "

"
ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور "
39 – 43 /
الشورى - 42

هذا ما نريد أن نوضحه ونؤكدها لأجيالنا وللناس من حولنا .. من أجل أن نفهم أنفسنا فهـــمًا صـــحيحًا , ومن أجل أن يفهمنا الناس على نحو سليم وصحيح .. وليتعامل معـــنا الناس من بعد تعامــلاً يليق بهويتنا الدينية والثقافية .. ويليق بسيادتنا واستقلالية سيرنا الحضاري .. في إطار من التكامل والتعاون مع الآخر .. في كل ما يحقق كرامة الإنسان .. ويجل حياة الإنسان .. ويصون سلامة البيئة ويحقق التعايش العادل والآمن بين المجتمعات .

ومـــن أجــل المـــزيد فـــــي تجلية أمـــر وأصــل معنى الجهــــاد في منهج الإســـلام .. ومن أجل بيان خطأ البعض وهم يختزلون الجهاد ويحصرونه بإحدى وسائله الاستثنائية ( القتال ) .. والترويج إلى هذا المفهوم عبر الترويج لمقولة آيات السيف .. التي بنظرهم نسخت لما سواها من معاني الجهاد .. فقد قمت بمراجعة كل آيات القتال وتأملتها وتدبرتها .. فلفت نظري أنها جـــاءت جميعها بصيغة المشـــاركة والمفاعـلة ( يقاتلون , فقاتلوا ) , ولم تأتي بصيغة الأمر ( اقتلوا ) إلا فــــي ثلاثـــة مواضع , ومـــع ذلك جــاءت فــــي هــذه المواضع بمناسبة رد العدوان , وللمعاملة بالمثل , أو في مناسبة معاقبة المنافقين :

"
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيــه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الظالمين "
191 /
البقرة
"
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونا سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهو وليًا ولا نصيرًا "
89 /
النساء
وهــــذا يؤكد بشـــكل قاطــع ..أن القتال عملية مفاعلة مع فعل بدأ به طرف آخر وأنه رد لحالة عدوانية مـــن ذلك الآخــر.. وأن القتال وسيــلة استثنائية مـــن وسائل الجهاد .. وليس كما يظن البعض أو يدعي .. بأنه الوسيلة الدائمة على الإطــلاق بناءًا على فهم خاطئ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"
الجهاد ماض إلى يوم القيامة "

أجل هو ماض ولا شك .. من حيث هو جهاد بيان وحجة وبرهان تعريفًا وتبليغًا لدين الله للناس أجمعين على مر الأزمنة والدهور .. وهو ماض ولاشك من حيث هو جهاد قتال عندما تتوفر أسباب ومبررات رخصة القتال .. وعندما تقرر الأمة مصلحتها في القتال من خلال ولاة أمرها وأهل الحل واعقد فيها .
وليس كما يضن البعض أن " القتال " هو الجهاد على الإطلاق وأن الأمة مأمورة في المضي فيه إلى يوم القيامة .. وهذا بحق لأمر غريب وعجيب .. فهل يصح ويستقيم بحال أن تبقى لأمة المسلمة أمة الرحمة والسلام وإقامة الحياة .. أمة مقاتلة مرابطة في ساحات القتال على مر الزمان والمكان .. وكيف يستقيم ذلك مع قول الله تعالى :
"
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "
122 /
التوبة - 9
والمتأمل في عبارة صدر الآية :
"
ما كان المؤمنون لينفروا كافة "
يتبين له بوضوح إن واجب النفير للقتال ليس من واجب الأمة كلها , لأن هناك واجبًا آخر وهو – بفهمي - الأصل والدائم , وهو جهاد العلم والتفقه في الدين واستنباط قواعد وضوابط السير الصحيح في الحياة .. وتصريف شؤون المسلمين وتحقيق مصالحهم :

"
فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين "

ولنتأمل معًا عبارة " نفر " من الآية الكريمة التي تؤكد بأن الفئة من المسلمين التي ستبقى للتفقه في الدين وللتعلم هم أيضاً في نفير وهم في جهاد .. وهو الجهاد الدائم والواجب على كل فرد بالأمة بحسب موقعه منها .. وبحسب ما اختصه الله به من إمكانات وهداه إليه سبحانه :

"
قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى "
50 /
طه - 20
"
كل ميسر لما خلق له "
السيوطي
كما تؤكد هذه العبارة على أن النفر للقتال واجب على من اختص به, مثلما أن جهاد العلم والتفقه والتمرس على إدارة شؤون الأمة والارتقاء بقدراتها الحياتية .. هو واجب على من استنفر له " ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبًا على الكفاية , أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب , وأشعر نفي وجوب النفّر على جميع المسلمين , وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم , وأن الذين يجــب عليهم النفّر ليسوا بأوفر عــددًا من الذين يبقون للتفقه والإنذار , وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق , فيعلم منه أن ذلك مـــنوط بمـــقدار الحـــاجة الداعية للنفر , وأن البقية باقية على الأصل , فيعلم منه أيضًا أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو , وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع , وأن ذلك سواء "
التحرير والتنوير/ محمد الطاهر ابن عاشور

وهذا مما ينفي مقولة ذلك البعض , بأن القتال هو الوسيلة الوحيـــدة المحققة لفريضة الجهاد .. وأنه الوسيلة الناسخة لما عداها من الوسائل الجهادية .. وبهذا ينبغي أن يستقر في الأذهان .. أن أصل الجهاد .. هو جهـاد البيان والحجة والبرهان .. وجهــــاد الدعـــــوة إلى ســــبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة .. وجهـــــاد التعريف بدين الله , وشـــريعته , ومقاصد رسالته العالمية بالمجادلة والحوار مع الآخر بالتي هي أحسن .
والقتال يبقى رخصة , ووسيلة استثنائية , من وسائل الجهاد محكومة بأسبابها ومبرراتها الشرعية .. والمــــوت في سبيل الله ليس مقصورًا على الموت في ساحات
القتال .. فالغريق شهيد والحريق شهيد والمبطون شهيد .. وسيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فنصحه فقتله .. تأمل معي عبارة " نصحه " إي لم يخرج على سلطانه , ولم يتمرد عليه أو يشق عصا الطاعة , أو يحدث في الأمة فتنة .. بل نصحه وبالشروط الشرعية للنصيحة .. لذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قتل وهو على مثل هذه الحال فهو سيد من سادة الشهداء عند الله .. لأن الحياة في سبيل الله والنصح والبيان والمحاجة من أجل ترشيدها واستقامتها وخيريتها.. من الجهاد العظيم في سبيل الله .. من مات في ميادينه فهو مع سادة الشهداء تكريمًا وتعظيمًا :

"
أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تروح في الجنة وتغدوا إلى قناديل من نور معلقة في عرش الرحمن "

ومع ذلك يبقى القتال في منهج الإسلام محكومًا بضوابط الشرع وآدابه ومعاييره .. وليس معطلاً لها ولقواعد وقيم ومبادئ الحياة على طريقة " لا صوت فوق صوت المعركة " وما يعطل تحتها من قيم ومعايير ومبادئ .. فالقتال في الإسلام لا ينشئ ولا يفرض قوانين طوارئ .. لتساس بها ظلمًا وعدوانًا حياة الأمم وتشل وتعطل بها قيم العدل في حياتهم .. فالمسلم يبقى محكومًا بضوابط الشرع وقيمه حتى في ساحات القتال :

"
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد "
حديث
فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من عمل أعظم قادته العسكريين ومن عمل من وصفه بسيف الله المسلول " خالد بن الوليد رضي الله عنه " لأنه قتل امرأة في ساحات القتال , مخالفًا في ذلك هدي الإسلام , ومن قبل يغضب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من تصرف أسامة ابن زيد رضي الله عنه لقتله محاربًا , بعد أن نطق بالشهادة , متذرعًا - أسامة رضي الله عنه - بمخادعة ذلك المحارب له , وقد تكررت منه تلك المخادعة , فقال له عليه الصلاة والسلام:

"
هل شققت على قلبه "
ووكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجج أسامة فيقول له : وما يدريك لعله في النطق الأخير كان صادقًا!؟
أما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فيوصي الجند في طريقهم إلى القتال فيقول :

"
أكثر من سطوة عدوكم فاتقوا الله وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم " إني لأخوف عليكم من ذنوبكم "

وبعـــــد فإن مقصدنا من هذا التوضيح والبيان .. حول مسألة الجهاد ومعانيه ومقاصده .. إنما هي مساهمة متواضعة .. باتجاه إنهاء حالة الفوضى التي تعاني منها الأمـــة بشأن فقــــه الجهاد.. وقد كثر أئمة الجهاد . وتعددت رايات القتال في سبيل الله .. وتخاصم أئمة القتال في ميادين الجهاد.. وسفّه بعضهم البعض الآخر .. وتقاتلوا فيما بينهم .. وتحالف بعضهم أحيانًا – للأسف - مع الأعداء من أجل قهر خصـــوم اليوم .. ممن كانوا بالأمس معـهم أئمة جهاد وقادة فتح مبين .. كل ذلك يجري باسم الإسلام .. ويعنّون بشعارات الموت في سبيل الله .. وتوظف بين يدي هـــذه الحــالة النكدة آيات القرآن الكريم .. وأحاديث الهدي النبوي الطاهر.. ليثبت كل منهم شرعية موقفه .. وأنه على محجة بيضاء من زاغ عنها فهو هالك .. وأنا هنا لا أريــد أن أشـــكك بإخـلاص أحـــد مـــــن المسلمين .. فأنا لســت قاضيًا .. ولم اطلع على الغيب .. ولم أشق على قلوب الناس .. فكل ونيته ومقاصده .. ولكن الأمر الذي لا أتردد في قوله .. هو أن مثل هـــذا الفــهم العابث لمعاني فقه الجهاد .. وأن مثل هذه الحمـــاقات والإجرام .. الذي يمارس باسم الجهاد في سبيل الله .. إنما هو افتراء على الله .. واعتداء على قدسية فقه الجهاد ومقاصده السامية .. وأنه سبيل ضال ومنحرف تزهــق بـه أرواح المسلمين والآخـرين بغير حــق .. وتدمر على أساس منه الممتلكات , ويــــروع بــــه الآمنـــون وتفسـد به حيــــاة الناس وأمنهم واســـتقرارهم .. وتعـــطل به مصالحهم وشـــؤون حياتهم .. لاشك أنه عبث وانحراف كبير .. وإفساد خطير .. وشر مستطير .. لا مكان له في ديــن الله .. ولا في شريعته .. ولا ينسجم بحال مع مقاصد رسالة الإسلام العالمية السمحة.

 

 

 

 

جهاد بيان .. أم جهاد سنان .. ؟

وأحسب أن من مصادر الخلل الأمني في بلاد المسلمين .. وكذلك من أسباب حالة الخلل في علاقة المسلمين مع غيرهم .. اختلال مفاهيم فريضة الجهاد العظيمة عند بعض المسلمين .. ولذا وجدت من الواجب أن ألمس هذه المسألة بالقدر الذي يتناسب مع موضوع هذا البحث وغايته .. والله المستعان وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل :
من المعروف عند أهل العلم أن أول آية نزلت من القرآن الكريم تتحدث عن الجهاد هي قول الله تعالى :

"
فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا "
52 /
الفرقان - 25

وهي من آيات سورة الفرقان .. ومن المعلوم كذلك أن سورة الفرقان عند الجمهور مكية النزول .. وعبارة الجهاد عبارة موسوعية الدلالة , فهي عبارة شاملة لكل ما يمكن بذله من جهد وطاقة , ومما يلفت النظر هنا عبارة " وجاهدهم " التي وردت في الآية هي من صيغ المفاعلة .. فهي تفيد المقابلة , والمثابرة بكل قوة وعزيمة في رد الشبهات , التي أثارها ويثيرها المتشككون بالقرآن الكريم , ويتترس بها المنكرون لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا ما عبر عنه القرآن بعبارة " جهادًا كبيرًا " فمجادلة ومحاورة الكافرين والمتشككين , والتصدي لشبهات المتنكرين والمستهترين برسالة الهدى الرباني بالحجة والبرهان .. والتعريف بالإسلام وقيمه ومبادئه ومقاصده بالحكمة وحسن الخطاب والبيان , إنما هو الجهاد الأكبر,حيث خاطب رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أصحابه رضوان الله عليهم في طريق عودته من إحدى المواجهات القتالية :
"
لقد عدتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه "
رواه البيهقي بسند ضعيف

وفي مسند الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :

"
والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل "

فهذا يعني بوضوح أن أصل الجهاد ( اصطلاحا وشرعًا ) هو مجاهدة المرء هواه ونزواته .. ومجاهدة غواية الشيطان وتزيناته .. ومجاهدة الآخرين من شياطين الإنس .. وذلك بمقارعة أباطيلهم وافتراءاتهم وعنادهم وصلفهم .. بما جاء في القرآن الكريم من حجج وبراهين .. وبما تميز به من إعجاز في العرض والبيان .. مما يفرق بين الحق والباطل .. ومما يقذف الباطل فيدمغه ويحيله قاعًا صفصفًا :

"
تبـارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا "
1 /
الفرقان
"
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون"
18 /
الأنبياء – 21

والجهاد كذلك هو مواصلة التعريف بالإسلام ورسالته العالمية بين الناس عبر الزمان والمكان .. بكل الوسائل المتاحة والمهارات المتوفرة .. وذلك كله بالحكمة والموعظة الحسنة التي تناسب أحوال الناس اجتماعيًا وثقافيًا :
"
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "

"
حدثوا الناس بما يعرفون "
البخاري

وعندما نزلت آية الجهاد في مكة المكرمة , لم يكن المسلمون قد أوذن لهم بعد بالقتال .. ويوم بيعة العقبة الثانية .. قال عباس بن نضلة :
"
إن شئت يا رسول الله ملنا غدًا على أهل من بأسيافنا "
فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"
لم نؤمر بعد .. بل تسللوا إلى مضاجعكم تسلل القطا "
سيرة إبن هشام
واستمــــر المسلمــــون طيلة الفترة المكية يمارسون فريضة الجهاد بالحجة والبيان
وبالحكمة وبالموعظة الحسنة .. وبالصبر والمصابرة :

"
اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي "

وعندما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف , وقد واجه ما واجه من سفه أهلها وعدوانهم وأذاهم قال له إن ربك يقرئك السلام , ويقول لك : إنه قد أمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين إن شئت , فقال رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام:

"
لا يا رب لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحدك "

واستمر المسلمون على ذلك فترة من المرحلة المدينة , حتى إذا مكن الله لدينه ولرســـــوله بيــــن الأنصار والمهـــاجرين في المدينة.. وبــــدأت دولة الإسلام تتكون .. ورسالته بالانتشار .. اشتد غيض الكفر والمشركين واشتد غضب سادة قريش .. الذين رأوا في الإسلام منافسًا قويًا لسلطانهم ومجدهم وما يعبدون من دين الله .. بدأت المكائد تحاك والتحالفات تتكون من أجل اجتثاث هذا الدين وإزالة وجوده .. قبل أن يستفحل خطره على الزعامات القبلية والدينة المتجذرة في جزيرة العرب .. وبدأت الحروب والمكائد تشن من قريش واليهود وباقي قبائل العرب .. وأمام هذا الإصرار في معـــادة الإسـلام وأهله .. وأمام حالات العدوان المسلح .. إذن الله لرسوله وللمؤمنين بمقاتلة هؤلاء المعتدين الظالمين :

"
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"
39 /
الحج - 22
"
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون "
216 /
البقرة - 2
وهكذا جاء الإذن بالقتال من رب العزة والجلال , مع التنويه بأنه وسيلة مكروهة بمنهج الإسلام .. وإنه رد على عــدوان الآخرين ومعاملةً لهم بالمثل :

"
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين "
194 /
البقرة
"
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين "
190 /
البقرة
ومن بدائع لطف الله تعالى بخلقه .. ومن أبرز معاني مقت الله تعالى للظلم والظالمين
والبغي والباغين وكرهه سبحانه للعدوان والمعتدين فيسمي جلّ شـــأنه ما يأمر المسلمين به من رد.. للعــــدوان ( عـــدوانًا ) .. " فاعتدوا عليه " .. ثم يزيد في التأكيد على مقته للقتال قائلاً جل جلاله وموصيًا للمسلمين بأن يتقوا الله وهم يردون العدوان , فلا يبالغوا ولا يسرفوا في القتل :

"
واتقوا الله "

ويزيد في الحرص على تقوى المسلمين في أعمالهم ومقاتلتهم لمن اعتدى عليم .. فيبشرهم ويطمئنهم بأنه مع المتقين :

"
واعلموا أن الله مع المتقين "

إن هذا التأكيد على كره القتل والقتال .. ومقت العدوان والاعتداء من حيث المبدأ .. والتأكيد على تقوى الله أثناء ممارسة رخصة القتال , باعتباره وسيلة استثنائية أملتها ضرورات رد العدوان والبغي .. إنما هو تأكيد على مبدأ أساس في منهج الإسلام .. وهو أن الإسلام جاء لإحياء الناس وليس لقتلهم وإفنائهم :

"
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "

وجاء رحمة للعالمين وليس نقمة وغضبًا وكراهية :

"
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "

وجاءت رسالة الإسلام لتعلي من قيمة حياة الإنسان وحرمتها:

"
من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا "

وكانت رسالة الإسلام من أجل إجلال كرامة الإنسان :

"
ولقد كرمنا بني آدم "

"
أليست نفسًا "

بل جاءت رسالة الإسلام لصون الأرض وحماية البيئة من الفساد والمفسدين باعتبارها سكن الجميع ومخزون رزقهم :
"
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها "

"
ويا قومي أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين "
85 /
هود

وهذا ما تؤكده آداب وأخلاقيات الإسلام في ميادين القتال , والتي توصي الجند وتؤكد عليهم وتأمرهم :

بأن لا يقتلوا شيخًا مسنًا .. ولا امرأة .. ولا طفلاً .. ولا عابدًا متعبدًا في صومعته,
وألا يقطعوا شجرًا مثمرًا إلا لضرورة ,
وألا يغّور ماءً ,
وألا يجهزوا على جريح ,
وألا يمثلوا بجسد ميت,
وألا يتابعوا هاربًا من ساحة القتال .. مما يؤكد أن القتال في الإسلام ليس غاية لذاته , إنما هو صد لعدوان أو بغي ,
بل عليهم أن يدفنوا موتى أعدائهم .. لأن النفس البشرية في الإسلام مكرمة لذاتها " أليست نفسًا "
وعليهم إكرام أسرى الحرب وعدم الإساءة إليهم ,
كما عليهم احترام رسل أعدائهم وعدم احتجازهم أو أسرهم أو الإساءة إليهم.

وهذا ما تؤكده تعاليم منهج الإسلام من آداب ومثل مع من لم يقاتل المسلمين .. ومع من لم يخرج المسلمين من ديارهم .. ومع من لم يظاهر على إخراجهم .. حيث أوجبت لمثل هؤلاء البر والإقساط :
"
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين "
8 /
الممتحنة
إن ما سـبق يؤكد على أن الأصل في الجهاد .. هو جهاد بيان وحجة وبرهان,ودعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وتعريف بدين الله ومقاصد رسالته وشريعته بالجدال والحوار مع الناس بالتي هي أحسن .. وأن القتال وسيلة استثنائية من وسائل الجهاد .. تمليها ظروف وغائلة الاعتداء والبغي والظلم على المسلمين .. وتنتهي مع انتهاء أسبابها ومبرراتها الشرعية
"
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم "
61 /
الأنفال
"
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم "
"
فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين "

وعرف ابن تيمية الجهاد بقوله :

"
هو شامل لأنواع العبادات الظاهرة والباطنة , ومنها: محبة الله , والإخلاص له , والتوكل عليه , وتسليم النفس والمال له , والصبر والزهد , وذكر الله , ومنه ما هو باليد , ومنه ما هو بالقلب , ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة والمال "
الاختيارات للبعلي

ويقول عبد الله بن بيه في كتابه الإرهاب :

"
والحق أن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مرادفًا دائمًا للقتال , فالجهاد مفهوم واسع فهو دفاع عن الحق ودعوة إليه باللسان وهذا هو المعنى الأول قال الله تعالى : ( وجاهدهم به جهادًا كبيرًا ) أي بالقرآن أقم عليهم الحجة وقدم لهم البرهان تلو البرهان ومعلوم أن تلاوة القرآن لا تتضمن أعمالاً حربية فليس كل جهاد قتالاً وليس كل قتال جهاد والجهاد دعوة إلى الحرية "

فالحرب الإسلامية إنما هي حرب دفاعية , لأن أصل العلاقة مع غير المسلمين هي المسالمة وأن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ترجع إلى هذا المعنى عند التـأمل , ويقول ابن تيمية في رسالة القتال :

"
حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين – 27 غزوة – كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة , وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال "

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا دفاعًا أو لرد بغي وليس لإكراه الناس على اعتناق دين الإسلام " لا إكراه في الدين " ويقول ابن تيمية في كتابه ( السياسة الشرعية ) تعليقًا على من يقول بنسخ هذه الآية :

"
جمهور السلف أنها ليست منسوخة ولا مخصوصة وإنا النص عام , فلا نكره أحداً على الدين , والقتال لمن حاربنا فإن أسلم عصم ماله ودينه , وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله و ولا يقدر أحد قط أن ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أحداً على الإسلام لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه و ولا فائدة في إسلام مثل هذا لكن من أسلم قبل إسلامه "

وقال ابن تيمة كذلك في السياسة الشرعية :
"
لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر "
وهذا لا يعني التقليل من شأن القتال وعظمة أجره .. وسمو مراتب الشهداء عند الله تعالى .. فهذا أمر من المعروف في الدين بالضرورة .. لا يجحده أو ينتقص منه أو ينكره إلا مارق من دين الله .. فالقتال هو أسمى مراتب الجهاد عندما تتعين شروطه ومبرراته .. وهو أقرب القربات إلى الله يوم يؤدى وفق مراد الله وشرعة الله .. إلا أنه يبقى وسيلة استثنائية مرهونة ومحكومة بشروطها وأسبابها .. التي تقررها الأمة من خلال أهل الحل والعقد وولاة الأمر فيها .. وأن الأمة بلا شك إن ألغت من منهجها جهاد القتال .. وهجرت فريضة الاستعداد والإعداد لمواجهة عدوان المعتدين .. ولكبح وردع طمع الطامعين .. ولسحق حقد الحاقدين ومكر الماكرين .. ستنزل نفسها طواعية منازل الذل والهوان والمهانة .. وستقدم وجودها وسيادتها وأوطانها وشعوبها لقمة سائغة لكل طامع وحاقد .. وسترشح نفسها للتبعية والاسترقاق أو المحق والزوال :

"
وأعـــدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عـــدو الله وعدوكم وآخرين لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شـــئ في سبيل اللـــه يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون "
60 /
الأنفال


وذات مرة سألني سائل في إحدى مؤتمرات الحوار مع الآخر قائلاً : ألا ترى أن القرآن عندكم يؤصل لثقافة الإرهاب .. ؟

قلت كيف .. ؟ وما هو دليلك ..؟

فقرأ علي هذه الآية " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . "
60 /
الأنفال - 8

قلت له : وهل أنت عدو لله ..؟ قال : لا

قلت وهل أنت عدو للمسلمين ..؟ قال : لا

قلت : ما الذي يخيفك إذاً من هذا الاستعداد ..؟
ومن ثمّ أليس من حق كل أمة أن تتخذ من الأسباب ما يحول بينها وبين المعتدين..؟
أو ليس لها أن تستعد لحماية سيادتها ومصالحها من ظلم الظالمين ومن بغي الباغين ؟
ومن جهة أخرى من فضلك أجبني .. لمن هذا الترسانات النووية التي أنتجتموها في بلاد الغرب ولا زلتم تنتجون وما ينتجه غيركم في مشارق الأرض ..؟

ولمن هذه الأســـلحة البيــولوجية الفتاكة التي حشــوتم وغيركم بها بطون السهول , وأحشاء الجبال , ولجج البحار, وآفاق السماء.. ؟

ولمن أعددتم هذه الجيوش الجرارة المسلحة بأحدث وأعتى أسلحة الدمار الشامل .. وبأحدث وأفتك الطائرات وقاذفات حمم الموت ومبيدات الحياة واسعة الانتشار .. ؟

هل بعد هذا تستكثرون علينا مجرد التفكير بالاستعداد لردع الظالمين وكبح الطامعين والباغين .. ؟

أبعد هذا تستكثرون علينا رباط الخيل وما هو بحكمه , من الأسلحة الرحيمة قياسًا علي أسلحة الدمار الشامل , التي أسرفتم بإنتاجها وتخزينها .. على حساب خصوصيات مصالح شعوبكم مثل الطعام والغذاء والدواء وغيرها .. ؟

ومن ثمّ لماذا هذا الجنون في صناعة الموت للناس ..؟

ألم تنتجوا أنتم والاتحاد السوفيتي من المخزون النووي ما يكفي لتدمير الأرض عشر مرات أو ربما مائة مرة كما يقول الرئيس السوفيتي الأسبق جورباتشوف ..؟

"
إن الجانب الأكبر من الأسلحة النووية يتركز لدى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة , وفي الوقت نفسه فإن عشرة في المائة أو حتى واحد في المائة من إمكاناتها كاف لإنزال أضرار لا يمكن إصلاحها بكوكبنا وبكل الحضارة البشرية "
البيروستريكا- ص272

وهــل نحـــن بحـــاجة لأن تدمر الأرض أكثر من مـــرة إن اتفقنا على هـــذه الحماقة النكراء .. ؟

أجبني من فضلك إن كان لديك جواب .. فأخذ يحك شحمة أذنه ويقلّب بصره ولاذ بالصمت .

ثم قلت له عليك أن تعلم أن عبارة " ترهبون " التي وردت في النص القرآني الذي ذكرته , لا تعني الإرهاب بالصيغة المضطربة المعاني على ألسن الناس اليوم .. إنها عبارة تحذيرية تعني الردع والتخويف من مغبة الدخول في الحروب والقتال .. لأن الحرب في الإسلام مكروهة :

"
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ".
ومـــن جهـــة أخرى عليك أن تدرك بإن الاستـــعداد لامتلاك وسائل القوة المشروعة , إنما هو إجـــراء احترازي دفـــاعي موجـــه لأعداء الله وأعداء المسلمين , وأعداء الإنسانية , وليس كما يضن البعض أن هذا الاستعداد موجه ضد غير المسلمين من أتباع الأديان والثقافات والحضارات على الإطلاق .
فالاستعداد والتسلح بمنهج الإسلام موجه حصراً للمعتدين , موجه لأعداء الله وأعداء خلقه من المسلمين وغيرهم , لأن أعداء الله ليسوا فقط أعداء المسلمين , بل هم أعداء كل الناس , لأنهم أعداء رب الناس , وهذا يعني بوضوح أن الآية تتحدث منذ تاريخ مبكر, وبالتحديد منذ ما يزيد عن أربعة عشرة قرناً ونيف , عن ظاهر عدوانية عالمية ضد الله وخلقه وعباده , وقد عانة البشرية طوال تاريخا من مثل هذه الحالة العدوانية العامة على لله وخلقه , وها هو العالم اليوم يعاني من حالة عدوانية عامة سماها – الإرهاب - لا تخلو منه بشكل أو بآخر بلد من بلدان العالم , ولم ينجو من لوثته أهل ثقافة من الثقافات , أو أتباع ديانة من الديانات , فهو بحق ظاهرة عالمية لا جنسية لها ولا ديانة ولا وطن , فهي حالة تمرد على مراد الله ورضوانه , واعتداء على الله وعلى عباده وكل الخلائق :

"
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم "

فهذا الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله الذي يواجهه ويقاسي منه العالم اليوم , يدخل تحت العنوان الكبير " عدو الله " ومن ثم هو إرهاب ضد الكون والخلائق , لأنه عدو ضد ربها وخالقها ومدبر أمرها جلّ جلاله , وعلى أساس من ذلك أستطيع أن أعرف الإرهاب فأقول :

"
هو كل ممارسة عدوانية , فكرية , أو دينية , أو اجتماعية , أو سياسية , أو اقتصادية , أو عسكرية , أو أمنية , أو غيــــرها ,من قبل فرد , أو مجمـــوعة أفــراد , أو جماعة , أو دولة , أو مجمـــــوعة دوليــــة , تتناقض مــــع مرضاة الله , وينتهك بها العدل , ويعتدى بها على حياة الإنسان وكرامته ,وتفسد بها الأرض والبيئة , وتضر بمصالح الناس وأمنهم واستقرارهم وبكل مقوماتهم الحيوية "

وبعبارة موجزة :

"
الإرهاب هو كل اعتداء على حق الله وحقوق خلقه "

إذاً الآية لا تتحدث عن حالة إرهاب المسلمين لغير المسلمين , بل تتحدث عن دعوة عامة لمواجهة كل إرهاب واعتداء عل الله رب الناس جميعاً , وتأمل معي كيف أن الآية بدأت بعبارة " ترهبون به عدو الله " تأكيداً على أن الاستعداد ليس للدفاع عن حالة قومية أو دينية أو وطنية فحسب , بل هي قبل ذلك دفاع عن مبدأ أعلى وأجل , إنه دفاع عن حق الله وقيمه ومثله , الذي هو دفاع عن حقوق عباده وحقوق كل ما أبدع من خلائق , ودفاع عن سلامة وطنهم الكبير الأرض والحيلولة دون إفسادها .

أجـــل نحـــن مع الاستعــــداد والإعداد لمواجهة المعتدين..ولكبح وردع بغي الباغين.. ولحماية وعزة الإسلام والمسلمين .. ولحماية كرامة الإنسان وتبجيل حياته.. ولصون سيادة الأوطان وحرمة بلاد المسلمين ومصالحهم وأمنهم واستقرارهم .. وصون صلاح الأرض وسلامة البيئة ومصالح الناس وأمنهم المشترك .. ونحن مع إعداد الجيوش والمهارات والصناعات , التي تؤهلنا لأداء مسؤولياتنا في ميادين الحرب والسلم وفق قيمنا ومعايير ديننا وإسلامنا .. بعيدًا عن ردود الأفعال الغاضبة غير المرشدة .. نعم نحن أمة تغضب لانتهاك حرمة دينها .. والنيل من عزتها وسيادتها .. والمساس بأمن أوطانها .. ومصالح شعوبها ولكن غضبها مرشد بقيم ربها ومبادئ دينها ومعايير شرعتها :

"
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ,

"
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إن الله لا يحب الظالمين "

"
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل "

"
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم "

"
ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور "
39 – 43 /
الشورى - 42

هذا ما نريد أن نوضحه ونؤكدها لأجيالنا وللناس من حولنا .. من أجل أن نفهم أنفسنا فهـــمًا صـــحيحًا , ومن أجل أن يفهمنا الناس على نحو سليم وصحيح .. وليتعامل معـــنا الناس من بعد تعامــلاً يليق بهويتنا الدينية والثقافية .. ويليق بسيادتنا واستقلالية سيرنا الحضاري .. في إطار من التكامل والتعاون مع الآخر .. في كل ما يحقق كرامة الإنسان .. ويجل حياة الإنسان .. ويصون سلامة البيئة ويحقق التعايش العادل والآمن بين المجتمعات .

ومـــن أجــل المـــزيد فـــــي تجلية أمـــر وأصــل معنى الجهــــاد في منهج الإســـلام .. ومن أجل بيان خطأ البعض وهم يختزلون الجهاد ويحصرونه بإحدى وسائله الاستثنائية ( القتال ) .. والترويج إلى هذا المفهوم عبر الترويج لمقولة آيات السيف .. التي بنظرهم نسخت لما سواها من معاني الجهاد .. فقد قمت بمراجعة كل آيات القتال وتأملتها وتدبرتها .. فلفت نظري أنها جـــاءت جميعها بصيغة المشـــاركة والمفاعـلة ( يقاتلون , فقاتلوا ) , ولم تأتي بصيغة الأمر ( اقتلوا ) إلا فــــي ثلاثـــة مواضع , ومـــع ذلك جــاءت فــــي هــذه المواضع بمناسبة رد العدوان , وللمعاملة بالمثل , أو في مناسبة معاقبة المنافقين :

"
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيــه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الظالمين "
191 /
البقرة
"
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونا سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهو وليًا ولا نصيرًا "
89 /
النساء
وهــــذا يؤكد بشـــكل قاطــع ..أن القتال عملية مفاعلة مع فعل بدأ به طرف آخر وأنه رد لحالة عدوانية مـــن ذلك الآخــر.. وأن القتال وسيــلة استثنائية مـــن وسائل الجهاد .. وليس كما يظن البعض أو يدعي .. بأنه الوسيلة الدائمة على الإطــلاق بناءًا على فهم خاطئ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"
الجهاد ماض إلى يوم القيامة "

أجل هو ماض ولا شك .. من حيث هو جهاد بيان وحجة وبرهان تعريفًا وتبليغًا لدين الله للناس أجمعين على مر الأزمنة والدهور .. وهو ماض ولاشك من حيث هو جهاد قتال عندما تتوفر أسباب ومبررات رخصة القتال .. وعندما تقرر الأمة مصلحتها في القتال من خلال ولاة أمرها وأهل الحل واعقد فيها .
وليس كما يضن البعض أن " القتال " هو الجهاد على الإطلاق وأن الأمة مأمورة في المضي فيه إلى يوم القيامة .. وهذا بحق لأمر غريب وعجيب .. فهل يصح ويستقيم بحال أن تبقى لأمة المسلمة أمة الرحمة والسلام وإقامة الحياة .. أمة مقاتلة مرابطة في ساحات القتال على مر الزمان والمكان .. وكيف يستقيم ذلك مع قول الله تعالى :
"
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "
122 /
التوبة - 9
والمتأمل في عبارة صدر الآية :
"
ما كان المؤمنون لينفروا كافة "
يتبين له بوضوح إن واجب النفير للقتال ليس من واجب الأمة كلها , لأن هناك واجبًا آخر وهو – بفهمي - الأصل والدائم , وهو جهاد العلم والتفقه في الدين واستنباط قواعد وضوابط السير الصحيح في الحياة .. وتصريف شؤون المسلمين وتحقيق مصالحهم :

"
فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين "

ولنتأمل معًا عبارة " نفر " من الآية الكريمة التي تؤكد بأن الفئة من المسلمين التي ستبقى للتفقه في الدين وللتعلم هم أيضاً في نفير وهم في جهاد .. وهو الجهاد الدائم والواجب على كل فرد بالأمة بحسب موقعه منها .. وبحسب ما اختصه الله به من إمكانات وهداه إليه سبحانه :

"
قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى "
50 /
طه - 20
"
كل ميسر لما خلق له "
السيوطي
كما تؤكد هذه العبارة على أن النفر للقتال واجب على من اختص به, مثلما أن جهاد العلم والتفقه والتمرس على إدارة شؤون الأمة والارتقاء بقدراتها الحياتية .. هو واجب على من استنفر له " ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبًا على الكفاية , أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب , وأشعر نفي وجوب النفّر على جميع المسلمين , وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم , وأن الذين يجــب عليهم النفّر ليسوا بأوفر عــددًا من الذين يبقون للتفقه والإنذار , وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق , فيعلم منه أن ذلك مـــنوط بمـــقدار الحـــاجة الداعية للنفر , وأن البقية باقية على الأصل , فيعلم منه أيضًا أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو , وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع , وأن ذلك سواء "
التحرير والتنوير/ محمد الطاهر ابن عاشور

وهذا مما ينفي مقولة ذلك البعض , بأن القتال هو الوسيلة الوحيـــدة المحققة لفريضة الجهاد .. وأنه الوسيلة الناسخة لما عداها من الوسائل الجهادية .. وبهذا ينبغي أن يستقر في الأذهان .. أن أصل الجهاد .. هو جهـاد البيان والحجة والبرهان .. وجهــــاد الدعـــــوة إلى ســــبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة .. وجهـــــاد التعريف بدين الله , وشـــريعته , ومقاصد رسالته العالمية بالمجادلة والحوار مع الآخر بالتي هي أحسن .
والقتال يبقى رخصة , ووسيلة استثنائية , من وسائل الجهاد محكومة بأسبابها ومبرراتها الشرعية .. والمــــوت في سبيل الله ليس مقصورًا على الموت في ساحات
القتال .. فالغريق شهيد والحريق شهيد والمبطون شهيد .. وسيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فنصحه فقتله .. تأمل معي عبارة " نصحه " إي لم يخرج على سلطانه , ولم يتمرد عليه أو يشق عصا الطاعة , أو يحدث في الأمة فتنة .. بل نصحه وبالشروط الشرعية للنصيحة .. لذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قتل وهو على مثل هذه الحال فهو سيد من سادة الشهداء عند الله .. لأن الحياة في سبيل الله والنصح والبيان والمحاجة من أجل ترشيدها واستقامتها وخيريتها.. من الجهاد العظيم في سبيل الله .. من مات في ميادينه فهو مع سادة الشهداء تكريمًا وتعظيمًا :

"
أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تروح في الجنة وتغدوا إلى قناديل من نور معلقة في عرش الرحمن "

ومع ذلك يبقى القتال في منهج الإسلام محكومًا بضوابط الشرع وآدابه ومعاييره .. وليس معطلاً لها ولقواعد وقيم ومبادئ الحياة على طريقة " لا صوت فوق صوت المعركة " وما يعطل تحتها من قيم ومعايير ومبادئ .. فالقتال في الإسلام لا ينشئ ولا يفرض قوانين طوارئ .. لتساس بها ظلمًا وعدوانًا حياة الأمم وتشل وتعطل بها قيم العدل في حياتهم .. فالمسلم يبقى محكومًا بضوابط الشرع وقيمه حتى في ساحات القتال :

"
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد "
حديث
فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من عمل أعظم قادته العسكريين ومن عمل من وصفه بسيف الله المسلول " خالد بن الوليد رضي الله عنه " لأنه قتل امرأة في ساحات القتال , مخالفًا في ذلك هدي الإسلام , ومن قبل يغضب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من تصرف أسامة ابن زيد رضي الله عنه لقتله محاربًا , بعد أن نطق بالشهادة , متذرعًا - أسامة رضي الله عنه - بمخادعة ذلك المحارب له , وقد تكررت منه تلك المخادعة , فقال له عليه الصلاة والسلام:

"
هل شققت على قلبه "
ووكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجج أسامة فيقول له : وما يدريك لعله في النطق الأخير كان صادقًا!؟
أما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فيوصي الجند في طريقهم إلى القتال فيقول :

"
أكثر من سطوة عدوكم فاتقوا الله وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم " إني لأخوف عليكم من ذنوبكم "

وبعـــــد فإن مقصدنا من هذا التوضيح والبيان .. حول مسألة الجهاد ومعانيه ومقاصده .. إنما هي مساهمة متواضعة .. باتجاه إنهاء حالة الفوضى التي تعاني منها الأمـــة بشأن فقــــه الجهاد.. وقد كثر أئمة الجهاد . وتعددت رايات القتال في سبيل الله .. وتخاصم أئمة القتال في ميادين الجهاد.. وسفّه بعضهم البعض الآخر .. وتقاتلوا فيما بينهم .. وتحالف بعضهم أحيانًا – للأسف - مع الأعداء من أجل قهر خصـــوم اليوم .. ممن كانوا بالأمس معـهم أئمة جهاد وقادة فتح مبين .. كل ذلك يجري باسم الإسلام .. ويعنّون بشعارات الموت في سبيل الله .. وتوظف بين يدي هـــذه الحــالة النكدة آيات القرآن الكريم .. وأحاديث الهدي النبوي الطاهر.. ليثبت كل منهم شرعية موقفه .. وأنه على محجة بيضاء من زاغ عنها فهو هالك .. وأنا هنا لا أريــد أن أشـــكك بإخـلاص أحـــد مـــــن المسلمين .. فأنا لســت قاضيًا .. ولم اطلع على الغيب .. ولم أشق على قلوب الناس .. فكل ونيته ومقاصده .. ولكن الأمر الذي لا أتردد في قوله .. هو أن مثل هـــذا الفــهم العابث لمعاني فقه الجهاد .. وأن مثل هذه الحمـــاقات والإجرام .. الذي يمارس باسم الجهاد في سبيل الله .. إنما هو افتراء على الله .. واعتداء على قدسية فقه الجهاد ومقاصده السامية .. وأنه سبيل ضال ومنحرف تزهــق بـه أرواح المسلمين والآخـرين بغير حــق .. وتدمر على أساس منه الممتلكات , ويــــروع بــــه الآمنـــون وتفسـد به حيــــاة الناس وأمنهم واســـتقرارهم .. وتعـــطل به مصالحهم وشـــؤون حياتهم .. لاشك أنه عبث وانحراف كبير .. وإفساد خطير .. وشر مستطير .. لا مكان له في ديــن الله .. ولا في شريعته .. ولا ينسجم بحال مع مقاصد رسالة الإسلام العالمية السمحة.

 

 

 

 

إشكالية .. الولاء والبراء

والشيء العجيب أن هذا الخلل الكبير في فهم مقاصد فقه الجهاد العظيم الجليل إنما يمارس تأسيسًا على فقــه البراء والولاء :

"
وآذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم "
3
م التوبة – 9

ولست أدري ..؟ البراء ممن .. ؟ والولاء لمن عند هؤلاء ..؟

أجــــل كل مســــلم يؤمــــن بهذه الآية العظيمة , ويعمل بمضمونها وحكمها ودلالاتها .. ولكن الإشكالية القائمة هو في الفهم الصحيح لدلالات هذه الآية .. وفي الترسيم الدقيق لحدود البراء من الآخر .. وفي التحديد الدقيق لموضوع ومادة البراء من الآخر.

وفي هذا الصدد أرى أن الإشكالية الكبرى في مسألة البراء .. هي في التداخل المخل عند البعض.. بين حــدود دوائر العقيدة , والشريعة , والرسالة من دين الله تعالى .. نعم إن هذه الدوائر متكاملة ومتلازمة ومتمركزة حول دائرة العقيدة .. لأنها الأصل الذي يقرر صحة وسلامة ما بعدها :
"
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "
48 /
النساء

"
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "
13 /
لقمان - 31

لكن هـــذا التكامل والتمركز بين دوائر العقيـدة , والشريعة والرسالة..لا يلغي الحدود الوظيفية الدينية لكل منـها.. فالعقيــــدة لها حدودها وأحــــكامها وأصولها ومعاييرها.. والشـــــريعة لــــها حدودها وأحـــكامها وقـــواعدها ومبادئها وضوابطها .. وكذلك الرسالة لها مقاصدها ومعاييرها وضوابطها .. فينبغي أن توضح هذه الحدود وظيفيًا وتخصصًا .. مع المحافظة على روح التكامل والتلازم بينها في إطار وحدة الدين والمنهج العام للإسلام .

وعلى هذا الأساس من التحديد والترسيم الوظيفي والتخصصي لهذه الدوائر الثلاثة الرئيسة من دين الله .. أستطيع القول :

أن دائـــرة العقيــــدة والاعتقاد هي المسؤولة بشكل أساس عن مسألة البراء والولاء.. باعتبار أن أهــل كل ديانة لهم معتقدهم الخاص بهـــم .. والمعتقـــدات هي أســاس الاختــلاف والتناقض بين الأديان .. فكل أهل ديانة يرون أن ما هم عليه من الاعتقاد , هو الحق الذي يدينون به إلى ربهم وإلههم الذي يؤمنون به , ويعتقدون بصفاته وأسمائه وأحواله .. وعلى هذا الاعتقاد تقوم في نفوسهم قاعدة البراء مما يعتقد به الآخر .. ممن ليسوا على ما هم عليه من الاعتقاد.. ومما يدين به الآخر من صفات الله وأسمائه وأحواله على خلاف ما يؤمنون ويعتقدون .. ونحن المسلمين شأننا في ذلك شأن كل أتباع الأديان .. فلنا اعتقادنا ولنا تصورنا الخاص بنا تجاه ربنا وإلهنا .. إما إن كان ذلك من حيث صفاته أو أسماؤه أو أحواله جلّ وعلا .. أومن حيث غيرها من قضايا الاعتقاد , وهذا الاعتقاد هو أساس البراء عندنا مما يعتقد به غيرنا مما يتناقض مع مقومات اعتقادنا .. وهــذه مسـألة جوهرية في دين الإسلام لا تحتمل المجاملة , ولا المساومة , ولا المداهنة , ولا تخضع لكل المغريات أو المكرهات :

"
يا عم .. والله لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يسار على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه , ما تركته! "
سيرة ابن هشام
"
قل يا أيها الكافــــــرون "
"
لا أعبـــــــــــــد ما تعبدون "
"
ولا أنتم عابدون ما أعبد "
"
ولا أنا عابد ما عبــــــدتم "
ولا أنتم عابدون ما أعبــد "
"
لكم دينــــكم ولي دين "
1 ,6
الكافرون- 109

"
قل هــــــــــــو اللـــــــه أحد "
"
اللـــــــــــــــه الصــــــــــــمد "
"
لم يــــــــــلد ولم يــــــولد "
"
ولم يكن له كفوًا أحـــد "
1 ,4
الإخلاص -112

أجل فالبراء في مسألة العقيدة والاعتقاد واضح وجلي وحازم عندنا مع من هم على خلاف اعتقادنا.. ولذا نحن المســـلمين نؤمـــن ونعتـــقد أن دائرة العقيــدة مغلقة الصلة بيننا وبين الآخر " لكم دينكم ولي دين " وهذا شأن الآخر تجاهنا كذلك .. فهو كذلك لا يجامل ولا يساوم فيما يعتقد ويؤمن .. لأن مسألة الاعتقاد هي أساس الاختلاف والافتراق والتناقض بين أهل الأديان .. والمسلمون في ذلك على قلب رجل واحد ولله الحمد .. والبراء هنا هو براء من الاعتقاد الديني الذي يعتقده الآخر فحسب , وليس براء من إنسانيته ودوره في الحياة .. أو بعــــبارة أخــرى هو براء من الانتماء العقدي .. وليس براء الانتماء البشري .. أو قل إن شئت براء ولاء وليس براء أداء .

يقول فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن بية في كتابه الإرهاب :

"
والحقيقة أن البراء مفهوم عقدي يتعلق بالولاء في العقيدة والدين والملة وهو الذي يكفر فاعله وينصر خاذله " و ويقول في موطن آخر من كتاب الإرهاب " ويقول :

"
يكون البراء من الأعمال وليس من الأشخاص "

ويدلل على ذلك بقول الله تعالى :

"
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعلمون "
216 /
الشعراء

وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد "
صحيح البخاري

فالبراء إذًا براء وجداني عقدي مما يعتقد الآخر ويعمل , وليس براء من انتمائه البشـــري وأدائه الحضـــاري الحياتي , فنحن والآخــــر شركاء في الأداء الحضاري , وشركاء في النهوض بمهمة التكليف الرباني للناس جميعًا " عمارة الأرض وإقامة الحياة " , لذا فإننا نؤمن أن دائرة المشترك مع الآخر تأخذ بالانفتاح والانفراج بعد دائرة العقيدة والاعتقاد .. فهناك مساحة مشتركة وواسعة للتعايش والتعاون والتفاهم والتنافس في رحاب دائرة الشريعة:

فالشريعة كما هو معلوم تتكون من قسمين رئيسين :

1.
أحكام وقواعد تتعلق بالأحوال والشؤون الدينية الشخصية,

2.
وأحكام وقواعد ومبادئ وقيم تتعلق بالمصالح العامة للمجتمع .

فبالنسبة للقسم الأول : المتعلق بالخصــوصيات الدينية والأحــوال الشخصية .. فالإسلام قد أعطى غير المسلمين في المجتمع المسلم الحق بأن يحتكموا في ذلك إلى شرائعهم .

أما ما يتعلق بالقسم الثاني من الشريعة : إي المتعلق بالمصالح العامة في المجتمع .. فالإسلام يقرر أن المواطنين في ذلك سواء في
الحقوق والواجبات .

وعلى هذا الأساس فإن المشترك الحياتي بين المسلمين وغيرهم في المجتمع المسلم واسع وكبير .

ويتسع الأمر أكثر وأكثر .. بل يتحول إلى التعاون والتنافس المفتوح في فعل الخير بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات في ميادين الشريعة :

"
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن لبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون "
48 /
المائدة

ثم يزداد الانفــراج والانفــتاح .. حتى يبلـــغ منتهاه في دائرة الرسالة .. فمقاصد الرسالة الإسلامية جعلها الله تعالى لجميع البشر دون تمييز .. ومن مقاصدها :

1.
إقامة العدل بين الناس ,
2.
إقامة السلم مع غير المعتدين والباغين ,
3.
حفظ حياة الإنسان ,
4.
صون كرامة الإنسان ,
5.
حفظ سلامة الأرض والبيئة وعدم إفسادها,
6.
احترام حرية الإنسان ,
7.
احترام ممتلكات وخصوصيات الأفراد والمجتمعات,
8.
حفظ الأخلاق والآداب العامة بين الناس ,
9.
صون حرية الفكر والاعتقاد,
10.
عمارة الأرض والتشجيع على استثمار مكنوناتها وخيراتها ,
11.
التعارف بين أتباع الأديان الثقافات والحضارات ,
12.
التعاون والتنافس في فعل الخيرات,
13.
التدافع بين المجتمعات لصرف الفساد وكبح المفسدين,
14.
التراحم بين الناس ,
15.
التساخر أو التنافع أو التخادم بن الأفراد والمجتمعات,
16.
التضامن مع الفقراء والمرضى والضعفاء .

إن المتأمل لكل ما تقدم بشأن ترسيم الحدود الوظيفية الدينية والتخصصية لكل من دوائر العقيدة والشريعة والرسالة .. تتضح بكل يسر وعلمية وموضوعية .. ما هي أبعاد دائـرة البراء من الآخر .. مثلما تتضح مساحات المشترك معه .

والإشكالية الكبرى التي وقعت بها القلة القليلة من المسلمين .. أنهم وسّعوا دائرة العقيدة , التي هــــي مناط مسألة الولاء والبراء على حساب دائرتي الشريعة والرسالة .. بل إن بعضهم وسّع دائرة العقيدة حتى ألغت وطمست دائرتي الشريعة والرسالة .. وأصبحت نافــــذة العقيــدة وما يتبعها من أحكام , هي النافذة الوحيدة التي يطلون منها على الدنيا من حولهم .. وهي المعيار المطلق في التعامل مع الآخر .. ومن هنا نشأة مسألة التظخيم والغلوا بمفاهيم الولاء والبراء .. وما تبعها عند أصحاب هذا الفهم من مبالغات وشطط .. أصبحت عندهم أساسًا عقديًا لما يصدر عنهم من أحكام وافتراءات .. ولما تقترف أيديهم من ممارسات حمقاء .. ولما وقعوا به من انحرافات وضلالات .. ولما يمارسونه من جرائم وانتهاكات ودمار بحق المسلمين وغيرهم .. وكل ذلكللأسف – يمـــارس زورًا وبهتانًا باســـــم الإســــلام .. وباسم الجهاد في سبيل الله .
ومن أخطر فتن هذا الفهم السقيم لمسألة البراء والولاء .. أن هذا النفر من المسلمين ذهب مذهباً خطيراً بشأن فهم مسألة الولاء .. حيث اعتبروا أن كل علاقة تقوم بين المسلمين أفراداً وجماعات ودول مع غير المسلمين ممن - باعتقادهم – يصح بحقهم واجب البراء منهم إنما هي علاقة ولاء وخضوع لغير الله .. وبالتالي فحكمهم – عندهم – هو البراء منهم ومعاداتهم ومن يصح بحقهم من الأحكام ما يصح بحق الكافرين والظالمين والمحاربين لله ورسوله .. يجب معاداتهم ومفاصلتهم واستباحة دمائهم وأموالهم وقتالهم , باعتبار أن دارهـم – حسب فهمهم - أصبحت " دار حرب " بسبب موالاتهم لأعداء الله.
"
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين "
51 /
المائدة

وتأسيساً على هذا الفهم الأحمق استباح هذا البعض من المسلمين دماء إخوانهم المسلمين .. وممتلكاتهم وأموالهم وغيرها ..

 

 

الاعتماد على القرآن الكريم

انني أرجوا أن تسمحوا لي بأن أوضح للمستمعين النقطة الأولى الأساسية التي أثاروها بكل تهذيب حول اعتماد المسلمين في كل أحكامهم الزمنية على القرآن معتبرين أن ذلك قد يسئ الى القرآن نفسه وأني أشرح ذلك ليكون الجواب أكثر وضوحا وأرجوا أن لا يتحرجوا من صراحة شرحي لأفكارهم مهما كانت بعيدة عن أفكارنا لاننا قد شكرناهم على صراحتهم وفتحنا لهم صدورنا وسوف نشكرهم أيضا على موافقتهم على ذلك الشرح اذا وافقوا عليه من دون أن يكون في ذلك أدنى حرج عليهم

ان الدين لا يمكن أن تكون له قدسيته الا اذا ظل لدى أتباعه على ما جاء عليه مهما تباعدت العصور في قدمه من غير تطوير ولا تغيير والا فقد خسر حرمته وقدسيته

وبناءا على ذلك فان الكتاب المقدس لأي دين سيكون جامدا فكيف يبنى عليه شريعة زمنية متطورة مع تطور الأزمان بل لا بد أن نعترف بأن الشريعة الدينية تكتسب عندئذ صفة الجمود لأن ما بني على الجامد فهو جامد وهذا هو ما يخشى فيه على المسلمين من اقامة شريعتهم على كتاب مقدس هو القرآن الكريم الذي لايجوز تغييره ولا تبديله بينما وقائع الحياة متغيرة متطورة ولذلك يمكن القول بما قاله من أن ذلك قد يسئ الى القرآن نفسه


أولا الدين هو الطريقة التي يحقق بها الانسان صلاته مع قوى الغيب العلوية
ثانيا الدين هو ما يشتمل على كل معلوم وكل سلطة لا تتفق والعلم
فالاسلام على خلاف معكم في المفهوم الأول لأن الاسلام يتناول في آن واحد كل معلوم يتعلق بصلات الانسان مع قوى الغيب العلوية وكذلك صلات الانسان مع الانسان

وكذلك فان الاسلام على خلاف معكم فيما يتعلق بالمفهوم الثاني لأن القرآن الكريم قال في ذلك ونفصل الآيات لقوم يعلمون وتارة قال لقوم يعقلون وتارة قال لقوم يتفكرون ويريد من ذلك أن الدين في القرآن هو ما يتفق مع العلم والعقل والتفكير وأنه لا أحد يفهم على المسلمين دينهم الا أهل العلم وأهل العقل وأهل التفكير ولذلك لا غرابة اذا جزم المسلمون بوجوب اقامة كل حكم من أحكام شريعتهم على القرآن الذي وصف الدين بما ذكرناه وهكذا جزم بعض العلماء المسلمين كما قال ابن القيم الجوزية من علماء الشريعة أينما كانت المصلحة فثم شرع الله وكما قال ابن عقيل تتمة لذلك وان لم ينزل في ذلك وحي ولا قال به الرسول عليه الصلاة والسلام

وهكذا فان الاسلام الذي تتفق شريعته مع العلم والعقل والتفكير يجب أن يكون قادرا على مسايرة تطورات الزمن المتجددة وأن يجيب على ضوء المصلحة على كل مسألة من مسائل الأحكام الدستورية والمدنية والجزائية والشخصية التي لا نص فيها

ولا بد من التمييز في الشريعة الاسلامية مابين القواعد العامة التي لا تقبل التغيير ولا التبديل وما بين التطبيقات للأحكام التفصيلية على تلك القواعد العامة وهي وحدها التي قد تتغير فيها الأحكام تبعا لتغيرات المصالح والأزمان وكل ذلك سواء فيه القواعد العامة أو الأحكام التفصيلية يتفق كما ذكرناه أعلاه مع قواعد العلم والعقل والتفكير أما القواعد العامة فقد تضمنها القرآن الكريم ولذلك أعتبر القرآن الكريم من هذه الناحية هو دستورنا ونظامنا الأساسي في الشريعة الاسلامية ونبني عليه كل أحكام شريعتنا التفصيلية كما هو المفهوم في الشرائع الوضعية حيث يكون لها دستور في قواعده العامة من ناحية الحقوق الأساسية فلا تغيير فيه ولا تبديل ثم يكون لها أحكام قانونية تفصيلية تطبيقا لها على قواعد الدستور العامة

ولذلك فان ما جاء في القرآن الكريم من القواعد العامة لا يجوز فيه التغيير ولا التبديل كالقول بوجوب العدل في الحكم على أساس عدم التمييز في الحكم لا بسبب الدين ولا بسبب الجنس أو اللون أو القرابة حتى ولا العداء فيجب أن تصدر الأحكام العادلة ولو لمصلحة العدو أوضد القريب من دون تمييز في الحكم بالعدل مهما اختلف الطرفان فيما ذكرناه من أسباب مميزة ومعنى ذلك أن القرآن الكريم لا يقبل بصورة ما ومهما تغيرت الظروف والأسباب أن تبطل قاعدة الأخذ بالعدل ضمن تلك الشروط القرآنية وأن يؤخذ محلها بقاعدة الظلم

ومن هذه القواعد العامة في القرآن الكريم أيضا اعلان كرامة الناس أجمعين من غير تمييز ما بين انسان وانسان الا بتقوى الله واعلانه أن الناس جميعهم أسرة واحدة ومن أب واحد ومن أم واحدة وأن الههم اله واحد وان الله انما جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا وليتعاونوا في كل ما فيه خيرهم لا ليعادي بعضهم بعضا أو ليظلم بعضهم بعضا ومعنى ذلك أن القرآن الكريم لا يقبل أيضا بشكل من الأشكال ومهما تغيرت الظروف والأسباب أن تلغى هذه القاعدة في وحدة الأسرة الانسانية بل يجب أن تبقى على أساس من التعارف والتعاون وعدم التمايز ولا يجوز أن يأتي أحد فيقيم مكانها قاعدة التمايز العنصري البغيض

 

 

 

 

العقوبات والحدود في الاسلام وعقوبة الاعدام

أن العقوبات في الاسلام أما عقوبات منصوص عليها كالحدود الشرعية وأما عقوبات تعزيرية متروكة للقاضي في تقديرها في كل ما يعتبر معصية لا حد فيها أو يسئ الى الناس ولا تتوقف العقوبة في هذا القسم الثاني على نص كما هو المبدأ المهيمن في قوانين العقوبات غير الاسلامية حيث يفلت الكثير من المجرمين الذين يتأذى منهم المجتمع من جرائمهم بحجة أن القانون لم ينص بعد على هذا النوع من الجرائم وأما القسم الثاني من الجرائم في الشريعة الاسلامية فلا ينفذ المجرم من العقوبة عليه كلما كان ذلك مما يتأذى به المجتمع ويشجبه الناس

:
أما القسم الأول من العقوبات المحدودة بنص الاسلام فيتناول خمس جرائم

جريمة القتل جريمة السرقة
جريمة الزنا جريمة اتهام الناس بالزنا
جريمة الاساءة الى الأمن العام

فليس هناك حاجة لأن نتكلم عن جريمة القتل العمد وأن عقوبتها القتل لأن ذلك مما اختلفت فيه آراء القوانين الزمنية المعاصرة نفسها فمنهم من ذهب الى عقوبة القتل كما هو في الشريعة الاسلامية ومنهم من لم يعاقب على ذلك بالقتل ولا حرج علينا اذا قلنا أن الاسلام قد أخذ بعقوبة القتل على القتل لأنه أبلغ في الردع وخاصة اذا لاحظنا السرعة في الحكم كما هو الأصل في بساطة القضاء وسرعته في الاسلام وما يترتب على ذلك من حفظ للسلام وصون للدماء




عقوبة السرقة في الاسلام ونتائجها المقارنة

وأما جريمة السرقة وعقوبة قطع اليد عليها عندما تنتفي الشبهات عن الجريمة ومنها أن ترتكب بدافع المجاعة مثلا فاننا مع الأساتذة الحقوقيين في قساوة العقوبة غير أن معظم جرائم السرقة في بلاد الغرب هي جرائم مسلحة ولذلك كان الغالب في جرائم السرقة أن لا تتم الا بعد قتل المسروق منه واننا نتسائل أولا لماذا الشفقة على يد السارق دون الشفقة على رقبة المسروق منه

غير ان قساوة حكم عقوبة السرقة في الاسلام هي التي صانت يد السارق من القطع كما صانت روح المسروق منه وحفظت السلام للجميع وأن عقوبة القطع ليد السارق لا تكون الا علنية وذلك من أجل المبالغة في الردع وهنا علق الدكتور الدواليبي قائلا انني أعلن أنه قد مضى علي في هذه البلاد سبع سنوات ولم أسمع ولم أشاهد قطع يد للسرقة وذلك لندرته وهكذا لم يبقى من هذه العقوبة الا قساوة الحكم التي جعلت الناس جميعا في أمن واستقرار وحفظت حتى على الراغب في السرقة سلامة يده اذ منعته قساوة حكم العقوبة نفسها من الوقوع في الجريمة وهكذا فان هذه البلاد عندما كانت في قانون العقوبات الفرنسي في عهد الدولة العثمانية ما كان يستطيع الحجاج السير في أمان على مالهم وأرواحهم مابين المدينتين المقدستين المدينة المنورة ومكة المكرمة الا في ظل حراسة قوية من الجيش ولكن عندما انتقل الحكم في هذه البلاد الى الدولة السعودية وأعلنت فيها شريعة القرآن اختفت الجريمة فورا وأصبح المسافر وأصبح المسافر في جميع أنحاء المملكة يستطيع متابعة سفره وحده في سيارته الخاصة وأن يخترق الصحراء ويجتاز أكثر من ألف وخمسمئة كيلومتر دون أن يخشى على نفسه أو على ماله ولو كان أجنبيا عن البلاد

وهكذا فان أموال الدولة هنا حيث تطبق الشريعة الاسلامية تنقل في سيارة عادية ما بين مدينة وأخرى ومصرف وآخر دون أية حراسة ولا حماية غير سائق السيارة نفسه ولكن خبروني أيها السادة هل تستطيع دولكم في الغرب أن تنقل مبلغا من المال من مصرف الى آخر في احدى العواصم دون حراستها بالعدد الكبير من الحرس المسلح وبالعدد اللازم من السيارات المصفحة

وبعد ألا تشعرون معنا بعد هذه النتائج الباهرة من الأمن والاستقرار والاطمئنان في هذه البلاد على النفس والمال أنه من الواجب علينا التمسك بأحكام ديننا في عقوبة هذه الجرائم التي كادت لاتذكر في هذه البلاد في حين لا يأمن الانسان مثل ذلك لا على نفسه ولا على ماله في جميع العواصم الكبرى المتحضرة التي تحكمها القوانين البشرية




عقوبة الزنا في الاسلام وشروطها

اما عن الحديث عن جريمة الزنا وعقوبة الرجم عليها بالحجارة على شرط أن يكون المجرم قد تزوج قبل ارتكاب هذه الفاحشة وأن يشهد على حقيقة العمل الجنسي أربعة شهود معروفين بالصدق والأمانة وأن يروا ذلك العمل بشكل لاشك فيه ولا يكتفي فيه برؤية المتهمين عاريين وملتصقين

وهنا أيضا نشارك حضرات الضيوف في قساوة هذه العقوبة غير أن الاسلام لم يعاقب عليها الا بعد ثبوت ارنكابها بأربعة شهود عدول وأعتبر الشاهد الواحد غير كاف وحمله على الستر على المجرمين حينئذ وأنزل فيه عقوبة الجلد فيما لو جاء يعلن ذلك وحده وكذلك فعل مع الشاهدين والثلاثة شهود وأعتبر أقل شرط الثبوت أربعة شهود صادقين غير متهمين وأعتبر المجرم عندئذ اذا شهد عليه أربعة شهود أنه اعتدى على النظام العام وأن ممارسة العمل الجنسي سواء كان مشروعا أو غير مشروع هو عمل لا يليق به العلنية ولذلك لم يشتد الاسلام مثل اشتداده في العدوان على النظام العام والآداب العامة ونعتقد أن ارتكاب مثل هذا العمل الجنسي على الطريق العام لو وقع في أحد المدن الكبرى المتحضرة التي لا تعاقب على حرية ممارسة العمل الجنسي لقتلهم الناس في الشارع قبل أن يرفع أمرهم للقضاء ولأعتبروهم من الحيوانات التي لا تحترم دماؤها

ومما يجب أن يعلم في هذا المقام أن الاسلام حينما شرع هذه العقوبة القاسية في عهد بدء الرسالة الاسلامية لينتقل بالمجتمع من عهد حرية ممارسة الجنس واختلاط الأنساب لدى الكثير من الناس الى عهد تقنين هذه الممارسة بالصور المشروعة فقط ولم يحصل أن ثبت هذا الجرم بالشهادة من قبل أربعة شهود في حالة من الأحوال طوال عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما ثبت من ذلك انما هو بالاعتراف الحر من قبل المجرم رغبة في التطهير من دنس هذا الجرم في الدنيا قبل الآخرة ومع ذلك فلما جاء المجرم الى رسول الله يطلب انزال العقوبة فيه صرف وجهه عنه لا يريد السماع منه لأنه عمل جرى في السر ولم يخرق به النظام العام ولا اعتدى فيه على الآداب العامة وان مثل ذلك متروك الى المجرم نفسه ليستغفر الله فيما بينه وبين ربه

وهكذا أيها السادة فانه لم يثبت جرم الزنا بالشهادة المشروطة ولا مرة طوال عهد الرسول على الرغم من أنه فترة انتقال من حرية الممارسة للعمل الجنسي في كثير من الأحوال الى عهد الممارسة المشروطة فقط واننا لنقول بكل قوة وتأكيد وقد مضى على تشريع هذه العقوبة القاسية في الاسلام أربعة عشر قرنا أنه من الصعب أن نثبت أربعة عشر حادثة رجم في طول هذا التاريخ وهكذا أصبحت عقوبة الرجم باقية في قسوة حكمها ولكنها نادرة في وقائعها وقد صان الاسلام بقساوة حكم العقوبة الأسرة من الانهيار والأنساب من الاختلاط وان كنا نعتقد أن البشر بشر في كل مكان غير أن فقدان هذه العقوبة الدينية القاسية في القوانين البشرية جعل الزوجين في تلك البلاد أبعد عن الخوف من الله وأقرب الى الوقوع في الجريمة مما أدى بصورة عامة الى انحلال روابط الأسرة في غير بلاد الاسلام والى فقدان السعادة الزوجية التي يتمتع بها الزوجان المسلمان المخلصان لبعضهما ولدينهما ولربهما

 

 

 

حول عدم مساواة المرأة للرجل في الميراث في الاسلام

أما فيما يتعلق بالزعم بعدم مساواة المرأة للرجل في الميراث فهو زعم يتناقض المبدأ الأصلي في المساواة الثابت في الاسلام فيما بين حقوق النساء والرجال والذي نقلنا فيه من قبل قول القرآن ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف أي من الحقوق وللرجال عليهن درجة وقد حدد القرآن بنفسه هذه الدرجة وذلك بنصوص صريحة في رئاسة الأسرة وتحمل مسئولياتها في الانفاق تبعا لما بني عليه تكوين الرجل من خصائص تجعله في الأصل أرجح في حمل هذه المسئولية الاجتماعية الثقيلة وليس في ذلك كما ترون الا عبء ثقيل وضع على عاتق الرجل وحررت منه المرأة من دون أن يكون في ذلك مساس في مساواة المرأة للرجل في الكرامة وفي الحقوق وفي ذلك منتهى العدل والابتعاد عن الظلم بين النوعين من الذكور والاناث وقد جاء في القرآن في ذلك ما كنا نقلناه من قبل الرجال قوامون عاى النساء أي بالرئاسة والانفاق وذلك بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من اموالهم

أما القول بعد ذلك بعدم مساواة المرأة للرجل اعتمادا على ما جاء في القرآن الكريم من الجهر بأن للذكر مثل حظ الأنثيين فهو أولا ليس مطلقا في جميع الحالات وانما يجري في بعض الحالات لأسباب أساسية تتعلق باقامة العدل نفسه بين الذكور والاناث وقد نص القرآن الكريم

أولا على المساواة في الارث بين الأم والأب من ولدهما فيما اذا كان لولدهما أولاد ذكور

ثانيا على المساواة في الارث بين الأخت والأخ لأم اذا لم يكن لأخيهما أصل من الذكور ولا فرع وارث وفي ذلك كما نرى مساواة في الارث بين الرجال والنساء

غير أن هذا المبدأ قد يعدل عنه كما أشرنا اليه من قبل تحقيقا للعدالة أيضا وفي حالات حددها القرأن وذلك كما يلي

أولا في حالة وجود أولاد للمتوفي فتكون القاعدة عندئذ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويلحق بها حالات أخرى مشابهة

ثانيا في حالة الزوجين فالزوج يرث من زوجته ضعف ما ترثه هي منه

أما العلة في الحالة الأولى وهي عدم المساواة في الارث بين أولاد المتوفي وفي أمثالهم من الحالات المشابهة لها من حالات التعصيب فهي مسئولية الانفاق عند الاقتضاء على من تبقى من أسرة المتوفي ونحو ذلك وهذه المسئولية تقع على عاتق الذكور دون الاناث ولذلك يرث الذكور عند ئذ على أساس قاعدة للذكر مثل حظ الانثيين وليس من العدل ان تعطى الأنثى مثل حصة الذكر وهو يتحمل الانفاق مالا تتحمله الأنثى

وعلى هذا الأساس أيضا من العدالة يجري التوارث بين الزوجين حيث أن الزوج يرث من زوجته ضعف ما ترثه الزوجة منه وذلك لأن الزوج يكون مسئولا عن الاستمرار في الانفاق على الأولاد بينما حين ترث الزوجة زوجها فهي غير مسئولة عن الانفاق على الأولاد بل تكون نفقتها عند الاقتضاء قائمة على مسئولية الأولاد الذكور فيما ملكوه أو ورثوه من أبيهم

ويتضح من كل ذلك أنه ليس من الصحيح الزعم القائل بعدم مساواة المرأة للرجل في الميراث مطلقا وأن هذا المبدأ اذا لم يعمل به مباشرة أحيانا فذلك عملا بمبدأ العدالة والمساواة في حالات المسئولية في الانفاق الملقاة على عاتق الذكور دون الاناث وفقا للقاعدة الشرعية الغنم بالغرم أو الغرم بالغنم أي أن الانسان انما يعطي على حسب مسئوليته

 

 

 

حول عدم مساواة المرأة للرجل في نصاب الشهادة

أما فيما يتعلق بالزعم بعدم مساواة المرأة للرجل في نصاب الشهادة عملا بما جاء في القرآن الكريم واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى فليس ذلك من موضوع حقوق الانسان وانما هو من موضوع الأعباء التي يدعى لتحملها الانسان ويتوجب عليه أداؤها عملا بقول القرآن أيضا ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه أثم قلبه وقد أوجبت أحكام القرآن ان يزاد في نصاب الشهادة من النساء وهذا ما يدعوا أصحاب الحاجة عندئذ الى التماس الشهداء من الرجال دون النساء وأن يضعوا بذلك عبء الشهادة الثقيل على الرجال ما استطاعوا خاصة وان الانسان بنوعيه عرضة للنسيان وللضعف في الانتباه لدقائق الشهادة والمرأة معرضة لذلك اكثر من الرجال وهو ما أشارت اليه الآية الكريمة دون ان تنفيه عن الرجال وليس في ذلك كما نرى شيء مما يمس اعتبار المرأة

هذا ولا بد من الاشارة أيضا الى ان الشريعة الاسلامية اتجهت الى تعزيز الشهادة حتى لا تكون عرضة للاتهام ولذلك عززت شهادة الرجل الواحد نفسه بشهادة رجل آخر ولم يعتبر ذلك ماسا بكرامة الرجل ما دام ذلك التعزيز أضمن لحقوق الانسان وبناء عليه فاذا لم يكن هناك الا شاهد من الرجال واحتيج في الشهادة الى المرأة كان تعزيز شهادة المرأة بشهادة امرأة ثانية جاريا على نفس الأصل الذي يجري على تعزيز شهادة الرجل الواحد بشهادة رجل آخر فضلا عما ذكرناه من اسباب اعلاه وخاصة ما قلنا من ان الموضوع ليس من مواضيع حقوق الانسان وانما يتعلق بموضوع الأعباء التى يدعى لتحملها الانسان وكان من الخير صرف أصحاب الحاجة عن تحميل هذه الأعباء للنساء

 

 

 

حول القول في تعدد الزوجات في الاسلام

وأما فيما يتعلق بتعدد الزوجات فلم يكن الاسلام الباديء لفتح بابه بل ان هذا الباب كان مفتوحا من غير حد ولا شرط ومنذ الديانة اليهودية التي هي أصل الديانة المسيحية ومن المعلوم لدى الديانتين ان تعدد الزوجات كان قائما بين انبياء العهد القديم منذ ابراهيم أبي الأنبياء لدى العرب ولدى اليهود ولدى المسلمين وهو لا يزال قائما فعلا بطرق غير مشروعة لدى المانعين كما هو معلوم وبشكل يضر ضررا فاحشا ماديا ومعنويا واجتماعيا بكل من الزوج والزوجات والأولاد

ولذلك عالج الاسلام هذه الأوضاع وحرم أولا ما فوق الأربع زوجات واغلق بذلك الباب المفتوح سابقا من غير تحديد وكان في ذلك اصلاحه الأول

أما اصلاحه الثاني فقد اشترط فيه على الزوج العدالة بين الزوجات في الحقوق وجعل للزوجة في ذلك حق مراجعة القضاء عند عدم العدل طلبا للعدالة أو فسخا للزواج

هذا وان تعدد الزوجات بالنسبة للزوجة الجديدة هو تعدد برضائها لتكون زوجة شرعية تتمتع بالحقوق الزوجية عوصا من ان تكون خليلة غير محترمة في الحياة الاجتماعية وهي صاحبة الحق في هذا الاختبار انقاذا لنفسها من الدعارة ولزوجها من الخيانة وان منعها من ذلك فيه عدوان صارخ على حقها في الزوجية الشرعية

غير أن التعدد للزوجة الأولى فالغالب فيه ألا يكون برضائها ولذلك كان لها الحق عند عقد الزواج ان تشترط لنفسها حق الطلاق في حالة اقدام زوجها على التعدد بدون موافقتها وهذا هو الاصلاح الثالث في موضوع تعدد الزوجات في الاسلام

 

 

 

حول القول باستئثار الرجل بالطلاق في الاسلام

وأما فيما يتعلق بالقول باستئثار الرجل بالطلاق وقصر هذا الحق عليه دون المرأة فلا بد من لفت النظر الى أن الزواج في الاسلام من ناحيته العقدية هو عقد رضائي علني يقوم على العطاء المتبادل بين الزوجين في شخصيهما وفقا للاحكام الشرعية ليتمتع كل منهما بشخص الآخر تمتعا كان محرما عليهما لولا هذا العقد

غير أن المرأة في عطائها امتازت على الرجل في استحقاقها المهر حسب شروطها وأما عطاء الرجل فكان هدرا بدون عوض من هذه الناحية ولذلك كان العقد هنا قائما فقط على عطاء المرأة الذي قبظت عليه المهر وان فسح العقد من قبلها في هذه الحالة يعتبر اقالة للعقد ضارة بالطرف الآخر مثل اقالة العقد في أي موضوع آخر من العقود اللازمة ومن المعلوم في علم الحقوق ان مثل هذه الاقالة للعقود اللازمة لا تصح

 

 

وماذا عن العالمية والعولمة ... ؟

تحدث الناس كثيرا عن العولمة ولا يزالون ، ومن حقهم أن يتحدثوا وأن يطيلوا الحديث .. بل من الواجب الملح أن يتأمل المفكرون والمثقفون هذه المسألة ، وأن يؤصلوا لها ، عليهم أن يؤصلوا لآلياتها ووسائلها ، ومطلوب منهم أن يؤصلوا لنظمها ولمعايير ضبط أدائها . ولكن على المفكرين والمثقفين قبل ذلك أن يتأملوا بموضوعية وجدية طبيعة وهوية النظام العالمي ، باعتباره المرتكز الأساسي والإطار المرجعي لمنهجية العولمة وأهدافها ومقاصدها ، عليهم أن يؤسسوا فهما مشتركا وأن يبلوروا رؤية موحدة حول الكليات العليا والمبادئ والقيم العامة التي ينبغي أن يؤسس بها النظام العالمي ، ليكون نظاما مؤهلا لتوفير ورعاية المقومات الحيوية والأساس لحياة الفرد والمجتمع إقليميا وعالميا ، وقادرا على إقامة العدل بين الناس وتقرير المعايير الموحدة والمنصفة في انتظام مصالح الأمم والشعوب ، وليكون من بعد نظاما كفؤا تحكم به العلاقات الدولية بإنصاف ، وتضبط على أساس من قيمة آليات التعايش الآمن بين المجتمعات البشرية .

إن العالمية والعولمة أمران متلازمان متكاملان ، فالعالمية قيم وخلق ، والعولمة سلوك وأداء ، والعالمية مبادئ ومثل وأدبيات ، والعولمة آليات ونظم ووسائل ومهارات ، والعالمية تقنين وترسيم لمصالح الناس ، والعولمة تفعيل وتنفيذ لنظم المصالح بينهم ، والعالمية بدون عولمة تبقى آمالا وتطلعات ، والعولمة بدون عالمية تبقى عرضة للعبثية والتخبطات ، فهما طرفا المعادلة الصحيحة المتزنة لحركة الإنسان في مهمة عمارة الأرض وإقامة العدل والأمن في أرجائها ، وبقدر ما تنتظم العلاقة وتتوثق بين العالمية والعولمة ، بقدر ما ينتظم السير الصحيح في الأرض ، وبقدر ما يتحقق التفعيل الإيجابي لمكنوناتها لصالح كرامة الإنسان وأمنه ورفاهته .

والإسلام جاء من وراء أربعة عشر قرنا ونيف ليقرر العالمية والعولمة ولينشئ العلاقة الموضوعية الوثيقة بينهما ، بعد أن قرر التحول بالنهج البشري من القومية إلى العالمية ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) والتوسع بمصالح الناس والنفع العام من الخصوصية إلى العولمة على أساس من التمايز والتعايش والتكامل " الناس شركاء في ثلاث .. الماء والكلأ والنار " ويقول رسول الله ( خير الناس من ينفع الناس ) وبعد أن قرر قاعدة التدافع والتعاون البشري من اجل صرف الفساد عن الأرض واقامة الأمن فيها ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ، وبذلك يكون الإسلام قد احدث تحولا جذريا في حياة الناس وهو يرتقي بهمومهم واهتماماتهم ومسؤولياتهم من المستوى القومي والإقليمي إلى المستوى الاممي والعالمي مقررا وحدة الأسرة البشرية وتكامل مصالحها وأمنها ، وأن الأرض سكنهم المشترك ينبغي المحافظة على سلامتها وعدم إفسادها ، وأنها خزانة رزقهم ، عليهم أن يحسنوا استخدام مفاتيحها ، وان يتقنوا فنون ومهارات تفعيل مخزوناتها ، وعليهم أن يلتزموا قيم العدل والإحسان في نظم ومعايير الانتفاع بمسخراتها ، بما يحقق كرامة الإنسان وأمنه وكفايته ، ومما ينبغي أن يتنبه إليه المسلمون وان يعرفه الناس من حولهم أن الإسلام عقيدة وشريعة ، فلئن كانت العقيدة تمثل مرتكزات وثوابت ومنطلقات خصوصية الهوية الدينية الصحيحة للمسلمين فإن الشريعة تمثل مرتكزات ومنطلقات عالمية وعولمة المنهج المحكم لعمارة الأرض واقامة العدل والأمن ، وتحقيق المصالح المشتركة بين الناس على اختلاف انتماءاتهم القومية والعرقية والجنسية واللونية والدينية ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى ) .

وعلى أساس من ذلك فإن الإسلام يقرر أن الناس جميعا شركاء في مهمة الاستخلاف الرباني للإنسان في عمارة الأرض ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) وأن الناس جميعا مؤهلون خلقة ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ومهيئون فطرة لأداء هذه المهمة ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، والناس مكلفون بالتعاون لتحقيق عمارة آمنة للأرض ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ، ومدعوون للتكامل والتعارف من أجل إنجاز شامل وعادل لمهمة الاستخلاف الرباني ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، والإسلام يقرر كذلك أن الناس شركاء في الانتفاع العام بنتائج سيرهم وكدحهم لعمارة الأرض وبكلمة أخرى هم شركاء في الانتفاع بثمرات العطاء الحضاري التكنولوجي والصناعي والزراعي والحيوي ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ) ، ولكن ذلك كله وفق قواعد ومعايير صيانة حق التملك والتزام ضوابط نظم وآليات الانتفاع .

وبعد أليس من الموضوعية والمشروعية أن يستوقفنا سائل ليسأل : ما المطلوب والملح من الناس عل أساس ما ذكر آنفا من اجل الوصول بالمجتمعات البشرية إلى عالمية راشدة وعولمة آمنة .. ؟ والجواب باختصار ما يلي :

أولا : العمل معا على تجديد القيم الروحية والأخلاقية وبعث روح المسؤولية بين الأجيال البشرية

ثانيا : إعادة التوازن بين حركة العلوم والتكنولوجيا من جهة وبين القيم الأخلاقية والدينية الربانية من جهة أخرى لضبط النتائج المعرفية لتكون في صالح كرامة الإنسان وسلامة البيئة والتعايش البشري الآمن .

ثالثا : اعتماد الحوار الجاد بين الناس كأساس للتعارف من أجل أن يتعلم الناس كيف يتعامل كل منهم مع الآخر ، وكيف يجل الجميع كرامة الإنسان ، وأن تكتشف القيم المشتركة وتراعى الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن .

إن التجديد الديني للقيم الربانية ، والضبط التكنولوجي والمعرفي ، والحوار الثقافي والحضاري بين الناس هي من الضرورات الملحة من أجل الوصول إلى نظام عالمي راشد وعولمة عادلة آمنة .

 

 

أرسل بواسطة : صقر الإسلام