الرد على كتاب "النص المؤسس ومجتمعه"

أرسل بواسطة :  متعلم

 

1) الفكرة الرئيسية للكتاب


يحاول عبد الكريم أن يثبت أن القرآن نص تأريخي جدلي .

فالقرآن ـ عنده ـ ليس وحياً إلهياً ، وإنما هو من اختراع النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو نص " تاريخي " ، يخضع للمرحلة التاريخية التي " أنتج ! " فيها .

ثم إن القرآن ـ بالإضافة لتاريخيته ـ لم " ينتج " كنص كامل منذ الوهلة الأولى ، وإنما تأثر بالظروف التي كانت تمر بمجتمع النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو نص " جدلي " ، تناله التغييرات بالزيادة والنقصان ، تبعاً للمواقف التي كان يواجهها النبي " منتج " القرآن !



(2) أدلة الكاتب على فكرته


يمكن لأي إنسان أن يدعى ما شاء ، لكن لا تقبل هذه الدعوى إلا بدليل .. وعبد الكريم يقدم لنا أدلته على دعواه ببشرية مصدر القرآن ، وتتلخص الأدلة كلها فى " أسباب النزول " .

فقد عمد إلى الآيات التي نزلت في مناسبة معينة ، واعتبر أن ذلك دليلاً على أن القرآن ليس من عند الله ، ولكنه ينزل " حسب الطلب " ، على حد تعبيره ( العلمي طبعاً ! ) .

تلك هي حجة عبد الكريم الرئيسية ، التي يحاول التأصيل لها على طول الكتاب وعرضه .

ثم صنف عبد الكريم هذه الآيات ..
فجعل منها آيات أنزلت " تحقيقاً لرغبة " النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد عدها أربعة عشر ..
ثم جعل منها آيات أنزلت " تحقيقاً " لرغبات الصحابة ، وقد عدها عشراً ..
وجعل منها آيات أنزلت موافقة لما صرح به بعض الصحابة لفظاً أو معنى ..
وجعل منها آيات أنزلت إيضاحاً لمشكل أو استدراكاً أو استثناء .

وبهذا ينتهي سفره الأول .. وعلى هذا المنوال ، من سوء التصنيف ، ورداءة التبويب ، يأتى سفره الثاني ، ليصنف بعض الآيات الأخرى ، تحت عناوين مختلفة .



(3) هدف الكاتب من وراء فكرته


للكاتب اليساري من وراء ذلك هدفان : هدف معلن ظاهر ، وهدف يخفيه تعرفه فى لحن القول .


وتوضيح طريقة الكاتب ، هو توضيح لطريقة ملاحدة العرب عموماً في كتاباتهم ، فتنبه أكرمك الله .



أ ـ هدف الكاتب المعلن

أما الهدف المعلن ، فهو أن يثبت أن العبرة من النص القرآني بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، فكل نهى أو أمر في القرآن ، ليس على المسلمين العمل به كما توهموا لقرون طويلة ! .. وإنما كل أوامر و نواهي القرآن مرتبطة بأسباب معروفة ، ونزلت فى مناسبات معينة ، وتبعاً لمواقف محددة ، وقد انعدمت هذه الأسباب الآن ، وانتهت هذه المناسبات والمواقف ، وليس علينا أن نظل نطبق نفس الأوامر ، ولا أن نمنع أنفسنا عن تلك النواهي !

فليس على المسلمين الآن من حرج فى أن يتركوا الصوم ، فقد شرع الصوم لطبيعة الدولة العسكرية ، التي كان النبي ينشئها فى المدينة ، لتحقيق مجد لقبيلته قريش .. وقد تغير الوضع الآن ، فلا طبيعة عسكرية ، ولا دولة قرشية ، و بالتالي لا صوم على المسلمين ، لأنه شرع من أجل مناسبة وموقف ، وقد زال كل ذلك الآن !

ومثل الصوم في ذلك كل أحكام الشريعة ، كلها ـ عنده ـ نزلت فى مواقف بعينها ، وفى مناسبات تاريخية معروفة ، وقد زال كل ذلك الآن ، فلا داعي للالتزام بهذه الأحكام التي زالت أسبابها .

ولأن هذا الكلام يغضب المسلم ـ أي مسلم ـ وقد يصف قائله بالكفر والردة ؛ لأنه يعلن التحرر من ربقة الشريعة الربانية .. لذلك يستدرك عبد الكريم وإخوانه من الملاحدة على ما سبق بقول آخر ، لعله يهدئ من روع المسلم !

فيقولون عقب هرائهم السابق ، بأن ليس معنى كلامنا ـ أيها المسلم ـ أن ندع الدين ولا نتبعه ، ولا أن نترك القرآن وننحيه جانباً ، بل نحن ـ العلمانيين العقلانيين ـ ندعوك إلى تطبيق كتاب الله ، والحكم بشريعته ! .. لكنك ـ أيها المسلم ـ تفهم الشريعة على أنها تلك الأحكام التي وردت بالقرآن ، وليس الأمر كذلك ! .. فهذه الأحكام قد زالت أسبابها ، وإنما الشريعة مباينة للأحكام ، الشريعة : هي الروح التي سرت في النص وأنتجت هذه الأحكام ، الشريعة : هي القواعد الكلية والمقاصد الرئيسية التي راعى القرآن تحققها فى أحكامه الأولى أيام النبي .. هذه هي الشريعة التي سنتبعها ، وهى شيء آخر غير الأحكام التي وردت بالقرآن !

وهذه الشريعة عندهم ، هي عبارة عن إرادة التيسير على الناس ، ورفع المشقة عن المكلفين ، ومراعاة احتياجات العصر وتطوراته ، ومراعاة الأعراف الاجتماعية السائدة ! ... إلخ هذه الأمور العامة ، التي لا يستطيع أن يمسكها أحد من كلامهم ، والتي يستطيع أى أحد أن يكيفها لأغراضه كما يشاء ، ما دام لم يقيدها بالنصوص القرآنية التي توضح معناها ومغزاها .

ونتيجة ذلك أن تخلع المرأة حجابها ، لأن الأمر بالحجاب الوارد فى القرآن كان مرتبطاً بظرف تاريخي معين ، ونزل في مجتمع له ظروفه الخاصة ، وقد تغير كل ذلك الآن ، فلا علينا من إلزام المرأة بالحجاب .. لكننا بذلك لا نترك القرآن .. مطلقاً ! .. وإنما سنطبقه خير تطبيق ! .. وذلك أن القرآن عندما أمر بالحجاب كان يراعى تقاليد وأعراف ذلك المجتمع البدوي المتخلف ، ونحن سنسير على روح القرآن ، وسنراعى ما راعاه ، وسنطبق " شريعته " التي هي مقاصده لا أحكامه .. ومقصد القرآن مراعاة تقاليد المجتمع .. فنحن سنترك مسألة " حشمة " المرأة بحسب تقاليد مجتمعها .. فإن كان عرف مجتمعها يستنكر ظهور شعرها ، كان ذلك منكراً في ذلك المجتمع فقط ، وفى تلك الفترة التاريخية وحدها ! .. وإن لم يكن مستنكراً ، فلا عليها من سبيل في تجميل شعرها وإبرازه وعرضه على الرجال !

وستجدهم ـ قارئي الكريم ـ يتحللون من كل أحكام الشريعة ، بمثل ما تحللوا به من الحجاب !



ب ـ هدف الكاتب " المخفي "

أما الهدف الثاني " المخفي " الذي تلحظه فى لحن القول ، فهو اتهام النبي بالكذب في ادعائه وحي السماء ، ولا وحي ثمة ولا إله ! .. ولو كان صادقاً لنزل الوحي جملة واحدة ، أما أن يتنزل بحسب المواقف ، فهذا دليل على أن النبي كان ينفعل بالأحداث فيؤلف الآيات ويدعى نزول الوحي !

وهم يبغون الخروج من ربقة الدين جميعاً لا الإسلام وحده ، فالدين عندهم من اختراع الإنسان ، والأنبياء دجالون كذبوا على الناس ، واحتالوا عليهم بألاعيبهم ، لكن هذا الدجل وهذه الألاعيب لا تروج على العلمانيين العقلانيين !



جـ ـ السبب فى محاولة الكاتب إخفاء هدفه الحقيقي

إنه الجبن !

السمة الأساسية للملحدين ، خاصة العرب منهم !

الطريف في الأمر ، أنك تجدهم أكثر الناس طنطنة ، بالشجاعة والجهاد بالكلمة وحرية القلم والفكر ... إلخ !

وعندما تسمع " طنينهم " هذا ، تتخيلهم فرساناً مغاوير ، لا يخافون فى " إلحادهم " لومة لائم ، ولو نشروا بالمناشير !

ثم تجد أساتذتهم وأكابرهم في كتاباتهم في بلاد المسلمين كالدواجن في خوفها ، وكالحرباء في تلونها بحسب ما تقتضيه الظروف ، فلا يظهرون إلا ما يسمح به فساد المناخ ، وإلا ما يسمح به تهاون المسلمين في دينهم .

هذا الجبن يجعل ملاحدة العرب يلجئون إلى التدرج في خطاب الجماهير ! ..

فقد فوجئوا ـ منذ القديم ـ أنهم لا يستطيعون إتمام اللعبة بشكل جيد مع شعوب المسلمين كما فعل أسلافهم الغربيين ، وأنهم لا يستطيعون اختراق حصن الإسلام بنفس السهولة التي أذل بها أسلافهم ناصية النصرانية الوثنية في أوربا ..

إن تمسك المسلم بالقرآن والسنة لا يقارن أبداً بتمسك النصراني بكتاب اكتشف علماؤه أنفسهم تحريفاً فيه وإن لم يسموه باسمه .. ثم إن دين النصرانية عموماً أقوال رجال ، وليس نصوصاً صريحة في الكتاب المقدس ، بخلاف حال المسلم في دينه ، بهذه الصراحة والوضوح الشديدين في نصوص القرآن والسنة الشارحة .

نعم .. وجد الملاحدة المسلمين في غفلة من دينهم .. لكن ذلك لم يسهل عليهم الأمر ، إذ من نعمة الله على خير أمة ، أنه قد ألا تزال طائفة منها على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم .. وما أكثر ما كشف العلماء وطلبة العلم ألاعيب الملاحدة وحيلهم ، وما أكثر ما فضحوا جهلهم وهذيانهم .

من هنا كان حال القوم وشأن دينهم لا يساعد الملاحدة على إكمال لعبتهم ، فحثهم جبنهم على اللجوء إلى التدرج كلما استطاعوا .

لكن الله يظهرهم لنا فى لحن القول .. ثم إن ذكائهم لا يساعدهم على التخفي بشكل جيد ! .. كذلك الحقد الشديد والغيظ والكمد على هذا الدين وأهله ، كل ذلك يجعل من التخفي أمراً مكشوفاً فى أحيان كثيرة !

ونكرر فنقول : إن أكثر ما يثير غيظ الملاحدة ـ الماركسيين خصوصاً ـ هو أن دولتهم بادت ولم تبلغ سن الفطام ، وكان سبب انهيارها هو فشل الثقافة الإلحادية ذاتها على المستويين النظري والتطبيقي .. على حين ما زال الإسلام طوداً شامخاً وجبلاً راسخاً وقلعة حصينة طوال أربعة عشر قرناً من الزمان .. تتزايد أعداد الموحدين في أرجاء المعمورة ، رغم تخلف المسلمين الآن عن التقدم العلمي ، ورغم شدة تكالب أعدائهم عليهم ، ورغم كثرة الأيدي الممدودة إلى القصعة .. إن أكثر ما يغيظهم أن يسمعوا اسم " محمد " يتردد فى أرجاء الأرض ، متبوعاً بالصلاة عليه والتسليم ، من أفواه الملايين من البشر .. ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم !





(4) مدى أصالة فكرة الكاتب



من المعلوم مدى شغف معظم ملاحدة العرب بدعوى تاريخية النصوص وجدليتها ، إذ لا يستطيعون مخالفة ثقافتهم الماركسية ، التي تدعى على الأديان بأنها من اختراع البشر وتأليفهم ، فالإنسان ـ عندهم ـ هو الذي خلق الله !

من هنا كان لا بد ـ للماركسيين وتلامذتهم من الملاحدة ـ من إثبات ذلك على الأديان جميعها ، من كل سبيل ، صح أم لم يصح .

ولأن الملاحدة اليساريين يحتذون الفكر المادى حذو القذة بالقذة ، فسنجد عبد الكريم لا يتخلف عن الركب ، فيردد ـ في كتابه ـ معظم مقولاتهم ، حتى الفرعي منها !

بدون ذلك ـ قارئي الكريم ـ لن تستطيع تفسير كثير من مقولات عبد الكريم المضحكة ! .. لأن رد جميع مقولاته إلى الإلحاد العام لا يكفى ، بل لا بد لك من تلمس آثار ماركس بين ألفاظ عبد الكريم .

مثال ذلك

بغض عبد الكريم للعرب ، متمثل في الصحابة رضى الله عنهم .

لو رددت ذلك الكمد والغيظ لديه إلى مجرد الإلحاد لما كفى ذلك ، ولما أنصفت الرجل ، بل لا بد لك من التعرف على أحد معالم الفكر المادي ، صاحب دعوى الجدلية التاريخية .

وذلك أنهم يعتبرون الزراعة هي الأصل ، والمزارعين طيبي النية .. أما الرعاة فهم متوحشون همجيون ، يريدون التسلط والتملك لأدوات الإنتاج .. وما ذاك لشيء إلا لأن هؤلاء رعاة وأولئك مزارعون !

ثم إنهم يصنفون الصحابة في بند الرعاة ولا بد ، وأقباط مصر في بند المزارعين ولا بد .. وقد عدى الرعاة ـ المتوحشون طبعاً ! ـ على المزارعين ـ طيبي النية كما تتوقع ! ـ وتعدوا على أراضيهم !

لن يسمع منك الماركسي تنبيهك عليه بأنه لم يكن كل الصحابة رعويين ، بل كان منهم مزارعون ! .. ولن يسمح لك بأن تجابهه بأنه ليست كل البلاد المفتوحة للمسلمين كان أهلها مزارعين ! .. لن يسمع ولن يسمح .. لأنك بذلك تفقده متعة اللعبة الماركسية التي لا يمتلك غيرها ! .. بالضبط كما يغضب منك الطفل ذو الخيال الواسع ، عندما تجابهه بأن المقعد الذي يمتطيه ليس سيارة ، وأن حزمة الأوراق البيضاء التي يحملها ليست نقوداً حقيقية !

حتى لا يظن القارئ أننا ندعى ظلماً على عبد الكريم ، نورد نقلاً واحداً فقط ، من كتابه الذي بين أيدينا : السفر الثاني : الباب الأول : الفصل الأول : البند الخامس : تحت عنوان فرعى : " الزراعة والعلوج " .. يقول المتهوك :

" بلغ استكبار ( العربان ) في نظرتهم إلى الزراعة حدًا جعلهم يطلقون على ( الفلاحين ) في البلاد التي دعسوها بسنابك أحصنتهم ـ دون أي مسوغ ـ ونهبوا خيراتها ... : " العلوج" وهى مقلوب "العجول".. مُنيت مصر المحروسة بالعديد من الغزو والاحتلال ، ولكن لم يقم أي من الغزاة والمحتلين بمثل ما قام به ( العُربان ) , نهبوا خيراتها واستوطنوا أراضيها وشمخوا بأنوفهم المحدوبة على شعبها , أعرق شعوب الأرض قاطبة ، وصاحب أقدم وأزهى حضارة عرفتها البشرية , ولم يكتفوا .. بل أقدموا على ما هو أوعر : أجبروهم على التخلي عن لغتهم ، وأكرهوهم على تعلم لسانهم الفصيح ، وأجبروهم على الأخذ بثقافتهم .. يطلقون على الفلاحين ( العُلوج ) مقلوب ( العجول ) جع عجل. في معاجم اللغة : العلْج = الرجل الضخم من كفار العُجم. [ المصباح المنير للفيومي ]. بعضهم يطلق ( العلْج ) على الكافر المطلق. [ ذات المصدر ]. أي أن مجرد رفض إنسان / ابن آدم الدخول في دينهم يحوله إلى حيوان : عِجْل أو عِلْج " ا.هـ.

لا شك أن القارئ قد لحظ أن المسألة هي مجرد لعبة : " لعبة عربان وفلاحين " لا أكثر ولا أقل !

لكن هذه اللعبة التي يهواها المتهوك ، تجعله يصب ناقم غضبه على أفضل خلق الله بعد رسله ، كما تجعله " يدلس " لغوياً وتاريخياً على القارئ ، متبعاً أثر أسياده الماركسيين وسنتهم في الكذب المكشوف !

أعتقد أن القارئ الكريم قد أصبح مهيئاً لما نحن مقبلون عليه !





(5) سبب نشر النصارى للكتاب


ينشر النصارى ـ بذكائهم المعهود ـ كتب الملاحدة عموماً ، التي تهاجم الإسلام من أى زاوية ؛ لأن ثقة النصارى في الملاحدة لا تتزعزع ، فما زالت الأقفية محمرة من أيديهم ، ورجاء النصارى أن يفعل الملاحدة بالمسلمين وكتابهم مثلما فعلوا بهم من قبل وأذلوا ناصيتهم .. والله متم نوره ولو كره الكافرون !

وسبب آخر يدفعهم لذلك ، وهو أن المسلمين إما ألا ينجحوا فى صد هجوم عبد الكريم ، فبها ونعمت .. وإما أن ينجحوا ، فلم يخسر النصارى شيئاً ، فليس عبد الكريم منهم حتى يعيروا بسفاهته ، غاية أمره أن يكون من كلابهم ، ومن يعبأ بهزيمة كلب !

وهذا أولاً يدلنا على فراغ جعبة القوم ، وقلة حيلتهم فى مواجهة الحق ، حتى أصبحوا يلجأون إلى كلام كل جاهل متشدق ، وحتى راحوا يستعملون أى سلاح فى مواجهة الإسلام .

وهذا ثانياً يدلنا على جهلهم ، ونقص عقولهم ، فإن الحق يزداد ظهوراً بهجوم الباطل .

ونسأل الله أن يوفق الأخوة الكرام إلى تبيين حمق النصارى باتباعهم لنعيق عبد الكريم ، فما أنصفناهم لو طرقوا الباب دون أن يسمعوا الجواب !



(6) نقد الحجة الرئيسية للكاتب



أ ـ المزلق الأول
(1)


يسود كلام المتهوك نغمة بعينها ، فهو يحدثنا عن المناسبة للآية التي يسوقها ، كأنها اكتشاف شخصي له ، أو كأن علماء المسلمين كانوا يخفون ذلك عن عوامهم ، فجاء البطل الماركسي المغوار ـ وكل الماركسيين مغاوير ! ـ ليكشف عن الحقيقة الغائبة ، ويسمع القارئ ما أخفاه عنه علماؤه أزمنة مديدة .



(2)


ننبه النصارى المساكين على المزلق الأول الذي أوقعهم فيه عبد الكريم بتشدقه !

لقد أوهمهم المتهوك بحديثه ، أنه " يبقر " بطون الكتب الصفراء بقراً ، و" يغوص " فى المصادر القديمة غوصاً ؛ ليحصل على هذه المناسبات والمواقف التي نزلت فيها الآيات ، ويظهر ما أخفاه علماء المسلمين لعوامهم المساكين !

وقد انساق المساكين وراء تفاخره المريض ؛ لتفشى الجهل فيهم ، ولعدم توافر حصانة علمية لديهم ، إذ ليس في دينهم المحرف تعاليم تربى ذلك فيهم .

(1)

إن الكتب التي وضعها علماء المسلمين على مر العصور في " أسباب النزول " جد كثيرة ، ومن العبث أن نحاول سرد بعضها هنا .

وإلى جانب هذه المؤلفات المباشرة ، فإنه توجد مؤلفات أخرى يستقى منها أسباب النزول ومناسباته ، بشكل صريح ظاهر ، دون الحاجة إلى الغوص أو البقر !

(2)

فهناك كتب التفسير على اختلاف ألوانها ، وأغلبها يحرص على توضيح سبب نزول الآية ومناسبته ، إيماناً من مفسرينا بأهمية ذلك في فهم الآية وعلل التشريعات والحكم الإلهية .. إلى جانب إيمانهم بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب !

(3)

وهناك كتب السيرة النبوية ، والتي تؤرخ لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وتهتم كثيراً بربط الأحداث بنزول بعض الآيات ، لما في ذلك من فوائد جليلة ، سواء في مجال تحديد الترتيب الصحيح للأحداث ، أو في مجال إظهار التدرج الإلهي في تربية الفئة المؤمنة الأولى ، وعلى رأسها المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من المجالات .

(4)

بالإضافة إلى كتب علوم القرآن ، وهى تعد من علومها علم أسباب النزول ، وتفصل فيه القول ما شاءت .

ولم نذكر مع ما سبق كتب الصحاح والمسانيد ، التي حوت فى ثنايا رواياتها الكثير من هذه المناسبات .. لم نفعل لأننا شرطنا أن نورد الظاهر الصريح ، دون ما يحتاج إلى الاستقراء والاختيار ، مع السهولة المعروفة لذلك لدى طلبة العلم المسلمين !

وعموماً .. أي عالم مسلم عندما يريد الاستدلال بآية معينة ـ غالباً ـ لا بد أن يوضح سبب النزول ، ليتوصل إلى المعنى السليم للآية ، سواء أكان هذا العالم يتحدث في مسألة فقهية ، أم يؤصل قاعدة أصولية ، أم يستنبط فقهاً من السيرة النبوية ... إلخ .

والمقصود :
التنبيه على أن النغمة التي يتحدث بها عبد الكريم عن مناسبات الآيات ، هي نغمة فاشلة ! .. فالمسلمون يعرفون ما تتحدث عنه يا متهوك منذ قرون مديدة ، ويؤلفون فيه على مر أزمان متطاولة ، وما أنت إلا مقتبس من نورهم ، لتحاول إيهام نفسك بأنك أول من أشعل الضوء ، على عادة ملاحدة العرب في التفاخر المريض !

والمقصود أيضاً :
التنبيه على أن النصارى قد انساقوا وراء عبد الكريم ، وانخدعوا بتشدقه الجاهل ، لعدم وجود قواعد التثبت العلمية التي تحميهم من ذلك ، لا وجود لها في كتابهم ، ولا في كلام علمائهم .. هم محرومون من ذلك !





ب ـ المزلق الثاني

(1)


كلما أثبت عبد الكريم مناسبة لآية ، عد ذلك دليلاً دامغاً ـ وكل أدلته دامغة ! ـ على فكرته الرئيسية ، وهى أن كثيراً من آيات القرآن نزلت في مناسبات بعينها ، وفى هذا الحجة البالغة ـ عنده ـ على أن القرآن من الأرض لا من السماء !

وهو لا يتوقع من أي فلحاس ـ وكل معترض عليه فلحاس ! ـ أن ينبري للرد عليه ، أو يتجرأ فينكر دليلاً واحداً مما أتى به ، لأن عبد الكريم يجابهه بالمنقول من كتب أسلافه ، وفيها الأدلة الدامغة على أن هناك آيات نزلت في مناسبات !



(2)


لقد وجه عبد الكريم كل مجهوده إلى إثبات أكبر قدر ممكن من المناسبات للآيات القرآنية ، لكنه نسى !

نسى أن مجرد نزول الآيات فى مناسبات لا يعد دليلاً على بشرية القرآن .. لقد نسى الرجل أن يوضح لنا وجه التلازم المنطقي بين نزول الآيات في مناسبات وبين اتهام النبي بالكذب .. لقد سرد الأمر كأن مجرد إثبات المناسبات للآيات يكفى تلقائياً للحكم على النبي بالكذب !

أعرف أنك مندهش الآن قارئي الكريم من هذا الأمر ، وقد اندهشت مثلك عندما تأكدت منه ، لكن ما حيلتنا في ذلك ؟ .. الرجل نسى .. هذه حقيقة !



(3)


إن مسلك عبد الكريم فى كتابه ، يذكرنا بمسلك النصارى المضحك مع قضية مصدر القرآن .. فتجد النصراني المسكين يعد لك مواضع التشابه بين قصص القرآن وقصص التوراة ، وكلما أورد لك موضعاً ، حسب أنه ألقمك حجراً ! .. كأن المسلمين ينكرون مواضع التشابه بين القرآن والكتب السابقة ، أو كأن القرآن شرط أن يخالف كل ما سبقه ، أو كأن القرآن ما وصف نفسه بأنه مصدق لما بين يديه .

لكن لعدم معرفة النصارى بالفرق بين فرضيات الادعاء وبين الأدلة على صحته ، فهم يعتبرون مواضع التشابه هي أدلة الادعاء نفسه ! .. وعندما تطالبهم بدليل واحد على ادعاء النقل عن أهل الكتاب ، يغضب منك النصراني الذكي ؛ لأنه لم يعجبك كل ما قدم لك من " أدلة " !

عبد الكريم يفعل هنا نفس الشيء .. فهو يدعى أن القرآن من اختراع النبي ، ويقدم على ذلك حجته بأن الآيات كانت تنزل في مناسبات ، وسيورد لك الآية تلو الآية ، ويثبت لك المناسبة تلو المناسبة ، حاسباً نفسه يسرد عليك الدليل تلو الدليل !

والنصارى ينشرون كتاب عبد الكريم ، فرحون بما فيه ، فعبد الكريم أورد " الأدلة " ( الدامغة طبعاً ) ، ولا يظنون المسلمين قادرين على تفنيد كل ذلك ، وحتى لو نجح المسلمون فى رد بعض ما قال عبد الكريم ، فستبقى هناك عشرات الأدلة ، على أن الآيات القرآنية كانت تنزل في مناسبات بعينها !

والآن .. ما هو موقف المسلمين ؟ .. وماذا هم فاعلون ؟ .. كم من أدلة عبد الكريم سيستطيعون ردها أو إبطالها ؟



(4)


حسناً نفعل .. لنكن ـ نحن المسلمون ـ أكثر كرماً مع عبد الكريم وأنصاره من النصارى الوثنيين ! .. لنسلم لهم بصحة كل " دليل " أورده عبد الكريم ، على سبيل الإجمال ، دون الرضا بكافة التفصيلات .. لنسلم له وللنصارى بالحقيقة الواقعة التي لا سبيل إلى إنكارها ..

لنسلم بأن هناك كثيراً من الآيات القرآنية نزلت في مناسبات محددة ، ومواقف معروفة !

أليس هذا أقصى ما يتمناه عبد الكريم من جداله ؟ .. أليس هذا أعظم ما يطمح إليه النصارى وهم يرقبون معركة بطلهم الملحد المغوار مع المسلمين ؟



(5)


السؤال الآن : وما الغضاضة في ذلك ؟!



ما الغضاضة في أن ينزل رب العزة بعض الآيات ـ أو حتى كلها ـ في مناسبات ومواقف ؟!

هل هذا دليل على أن النبي يؤلف القرآن من عندياته ؟! ..

أليس الله على كل شيء قدير ؟!

إن من يجعل من تنزل القرآن في مناسبات دليلاً على أنه من اختراع النبي لا من الله .. من يفعل ذلك يحكم باستحالة أن ينزل الله وحيه في مناسبات ! .. فهل يحكم النصارى بذلك ؟ .. وهل ذلك يخدم إلحاد عبد الكريم ؟

(6)


فيما يختص بالبطل المغوار .. لا ينفعه ذلك البتة !

لأن العقل يجوز أن ينزل الله وحيه في مناسبات ، ولا يلزم الله أبداً بأن ينزله جملة واحدة ، فالله يفعل ما يشاء ، ولا يحكم العقل ـ أي عقل ـ باستحالة أن ينزل الله وحيه فى مواقف بعينها ، فالذي يقدر المواقف هو الله ، والذي ينفذ قضاءه فيها هو الله ، والذي له أن ينزل وحيه أم لا هو الله ، فله المواقف الكونية ، وله الآيات الشرعية .. " ألا له الخلق والأمر " .

نعم .. ينكر عبد الكريم كإخوانه الملاحدة وجود الله .. لكن مناقشة ذلك وتبيين ما فيه من جهل له مقام آخر .. أما الذي يعنينا هنا ، هو أنه يتخذ من تنزل الآيات في مناسبات دليلاً على كذب النبي ، لأنه لا وحي ولا إله هناك !

ولم يحاول عبد الكريم أبداً أن يبين لنا وجه الحجة فيما يدعيه ، فلم يوضح لنا ما وجه التلازم بين تنزل الوحي في مناسبات وبين كذب النبي ، وإنما عد ذلك من المسلمات التي لا تحتاج إلى توضيح أو شرح ، ناهيك أن تحتاج إلى إثبات !

اكتفى على طول الكتاب وعرضه ، بمحاولة إثبات أن هناك آيات نزلت في مناسبات ومواقف ، معتقداً أنه لو نجح في ذلك ، فالبقية معروفة للجميع ، فما دامت آيات قد نزلت في مناسبات ، فلا وحي هناك ولا إله ، بل نبي كاذب مخادع يسعى في رضا أتباعه وشهوات نفسه !

الطريف في الأمر ، أن الطائفة التي ينتمي إليها هذا المتهوك .. طائفة الملاحدة خاصة العرب منهم .. لا يملون أبداً من تكرار نغمة بعينها ، مفادها أن الناس لا بد أن يفكروا تفكيراً علمياً ، وأن يعملوا عقولهم ، وأن يمنطقوا الأمور دائماً ، فقد خاب وخسر من عادى العلمانية ، وخاب وخسر من رفض العقلانية !

هؤلاء المتهوكون الذين يطنطنون بهذه الشعارات الجوفاء ، هم أبعد الناس عن العقل والمنطق !

لن نسعى لإثبات ذلك لك هنا قارئي الكريم ، لكننا ندلك على أصل المسألة ، ونستخدم من صنيع عبد الكريم في كتابه كمثال على بعد هؤلاء المتهوكين عن العقل والمنطق .

كنا نتمنى أن يورد عبد الكريم أي وجه عقلي للتلازم الحتم ـ عنده ـ بين تنزل الآيات في مناسبات وبين كذب النبي .. كنا نتمنى ذلك كي نبطله بفضل الله تعالى .. لكن الرجل حرمنا ذلك فلم يعبأ به !



(7)


أما بالنسبة للنصارى الأذكياء .. فلا ينفعهم أيضاً !

لا يستطيع النصارى استخدام " حجة " عبد الكريم ، لأنهم لو فعلوا ـ وقد فعلوا بنشرهم الكتاب ! ـ لكان معنى ذلك تسليمهم بذلك الأمر .. تسليمهم بأنه محال على الله عقلاً وشرعاً أن ينزل بعض وحيه في مناسبات !

وهم لا يستطيعون ذلك أبداً ، لأن أناجيلهم تثبت عليهم التناقض لو فعلوا ، وذلك أن كلام المسيح عليه السلام عندهم أوحى إلهي ، تجب طاعته واتباعه ، في كل زمان ومكان ، وكثير من كلام المسيح لم يرد إلا في مناسبات بعينها ، لولا وقوع تلك الحوادث لما نطق بما قال أو تفوه به .

فلم يقل المسيح : " يليق بنا أن نكمل كل بر " ، إلا عندما رفض يوحنا تعميده [متى : 3 : 15]

فهل يقال : إن المسيح اضطر لقول ذلك بسبب فعل يوحنا ، ولو لم يمنعه يوحنا لما قاله .. ثم يعد ذلك دليلاً على كذب المسيح ، فلا هو نبي صادق ولا إله !

كذلك لم يبح المسيح يوم السبت ، إلا بعد أن اعترض اليهود ، لأن أتباعه قد انتهكوا حرمته ، فعندما جاعوا ابتدءوا يقطفون سنابل من الزروع ويأكلون [ متى : 12 : 1 ]

ولم يقرر أن تلاميذه هم أمه وأخوته لأنهم يعملون بمشيئة الله ، إلا بعد أن طُلب منه أن يقطع كلامه ليرد على أمه وأخوته الذين يطلبونه بالخارج [ متى : 12 : 46 ]

ولم يعترض على هؤلاء الكتبة والفريسيين ، ويتهمهم بالرياء والبعد عن وصية الرب ، إلا دفاعاً عن تلاميذه ، الذين اتهمهم الكتبة بأنهم يخالفون تقليد الشيوخ ، لأكلهم بأيد غير مغسولة [ متى 15: 1 ]
ولم يعط التشريف لسمعان بطرس بإعطائه مفاتيح ملكوت السموات ، إلا بعد أن شهد له صراحة بأنه المسيح ابن الله [ متى : 16 : 16 ]

والأمثلة كثيرة جداً من حياة المسيح عليه السلام ، وهى موجودة في حياة غيره من الرسل والأنبياء .. كثير من الوحي الإلهي يتنزل في مناسبات معينة ، ومواقف محددة ، ليزيل إشكالاً ، أو يجيب سؤالاً ، أو يوجب أمراً ... إلخ .

فهل يقر النصارى بأن كل هذه المناسبات أدلة دامغة على كذب هؤلاء الرسل ؟!

بالطبع كلا ! ..

(8)


حقيقة الأمر ، أن الوحي الإلهي قد يتنزل مفرقاً تبعاً لملابسات موقف قدرها رب العالمين ، وكذلك النبي الكاذب يمكنه أن يدعى ذلك ، فليس الأمر معقوداً على وجود ارتباط بين الوحي والمناسبات ، وإنما يحتاج إلى إثبات صدق النبي من كذبه إلى أدلة أخرى .

لكن .. لأن النصارى يدعون كذب النبي عليه الصلاة والسلام ، ولأن عبد الكريم يدعى كذب الرسل بعامة ، اعتبر المتهوكون جميعاً أن مجرد ارتباط الوحي بالمناسبات هو دليل على ما هو مسلم عندهم .. اعتبروه دليلاً على كذب النبي .. وليس الأمر كذلك .

وإنما غاب عنه وعنهم ، لبعد الجميع عن استخدام العقل السليم والمنطق الصحيح ، إذ لا يستقيم للنصارى أمر دينهم الوثني مع سلامة العقل ، ولا يتهيأ لعبد الكريم دينه الإلحادي مع صحة المنطق .. أضف إلى ذلك الحقد على دين الله المتين وأهله .. هذا الحقد يعمى أصحابه عن كل عقل ومنطق !





أما بعد .. قارئي الكريم ..


فقد كان هذا بمثابة تعليق إجمالي على الكتاب ، آثرنا فيه العموميات والبعد عن الاستشهاد والتفصيلات ، وسيرد من ذلك الكثير في تفنيدنا لمزاعم المتهوك التفصيلية ، وفى توضيحنا لمدى حماقة النصارى بالانسياق وراء الكاتب ، جرياً منهم على سياستهم العتيدة " العيار اللي ما يصيبش يدوش " !

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم .. والله متم نوره ولو كره الكافرون !