الفاتحة
والمعوذتان عند ابن مسعود ( *
)
طعن بعض
الطاعنين على جمع القرآن بأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنكر أن
المعوذتين من القرآن، وكان يَمحوهما من المصحف، وأنه لم يكتب فاتحة الكتاب في مصحفه،
وزعموا أن في ذلك قدحًا في تواتر القرآن.(1)
وقد ثبت أن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه كان لا يكتب المعوذتين في
مصحفه، وروي عنه أنه كان لا يكتب فاتحة الكتاب
كذلك.
فعَنْ
زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، قُلْتُ:
يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ ،rمَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا
وَكَذَا،(2) فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ فَقَالَ لِي: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. قَالَ:
فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم . (3)
وَعَنْه
أيضًا أنه قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
كَانَ لاَ يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ. فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام
قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقُلْتُهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم .ـ(4)
وعَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ
كَانَ عَبْدُ اللهِ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ، وَيَقُولُ:
إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(5)
وروى
الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعودٍ لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو
كتبتها لكتبتها في أول كل سورة.(6)
وعن ابن
سيرين أن أُبَيَّ بن كعبٍ وعثمانَ كانا
يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين، ولم يكتب ابن مسعودٍ شيئًا منهن.(7)
الجواب عن
هذه الشبهة:
أمَّا
فاتحة الكتاب، فإن عدم كتابتها في مصحف ابن مسعود مشكوكٌ فيه،
غير مسلم بصحته.
والخبر
الذي تعلَّق به أصحاب هذه الشبهة ليس فيه إنكار قرآنية
الفاتحة، وإنَّما قصارى ما فيه أن ابن مسعود لم يكن يكتبها، وليس في ذلك جحدٌ
بأنَّها من القرآن.
ولو صحَّ
عن ابن مسعود هذا الخبر، فإنه لا يجوز لمسلمٍ أن يَظُن
خفاء قرآنية الفاتحة على ابن مسعود، فضلاً عن أن يَظُنَّ به إنكار قرآنيتها،
وكيف يُظَن به ذلك، وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وقد أوصى النَّبِيّ صلى الله
عليه وسلم بقراءة القرآن على قراءته.(8)
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ،
فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.(9)
من السابقين إلى الإسلام، ولم يزل يسمع
النَّبِيّtكما أن ابن مسعود صلى الله عليه وسلم يقرأ
بالفاتحة في الصلاة، ويقول: لا صَلاَةَ إِلاَّ بِقِرَاءةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ.(10)
فلو صحَّ
عنه هذا النقل، وجب أن يُحمل على أكمل أحواله رضي الله عنه ، وذلك بأن
يُقال: إنه كان يرى أن القرآن كتب في المصاحف مخافة الشك والنسيان، أو الزيادة
والنقصان، فلمَّا رأى ذلك مأمونًا في فاتحة الكتاب؛ لأنَّها تثنى في الصلاة، ولأنه
لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلمها -ترك كتابتها، وهو يعلم أنَّها من القرآن،
وذلك لانتفاء علة الكتابة -وهي خوف النسيان- في شأنِها.
فكان سبب
عدم كتابتها في مصحفه وضوح أنَّها من القرآن، وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان، والزيادة والنقصان.(11)
قال أبو
بكر الأنباري تعليقًا على قول ابن مسعود: "لو كتبتها
لكتبتها في أول كل سورة" قال: يعني أن كلَّ ركعةٍ سبيلُها أن تفتتح بأم القرآن، قبل السورة المتلوَّة بعدها، فقال: اختصرت
بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لَهَا، ولم أثبتها في
موضعٍ فيلزمني أن أكتبها مع كل سورةٍ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة.(12)
ويدل على
ذلك أيضًا أنه قد صحَّ عن ابن مسعود قراءة عاصم وغيره، وفيها الفاتحة، وهذا
نقلٌ متواتر يوجب العلم.
وأما
المعوذتان، فقد ثبت بِما لا مجال للشك معه أنَّهما
قرآنٌ منَزَّلٌ.
فقد ورد
التصريح بقرآنيتهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
كما جاء
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم : أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَتَانِ، فَتَعَوَّذُوا بِهِنَّ
فَإِنَّهُ لَمْ يُتَعَوَّذْ بِمِثْلِهِنَّ، يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ.(13)
وعَنْه
أيضًا أنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أُنْزِلَ أَوْ
أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ.(14)
كما ورد
أنه صلى الله عليه وسلم صلى بِهما صلاة الصبح، وفي قراءتِهما في الصلاة
دليلٌ صريح على كونِهما من القرآن العظيم.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم فِي نَقَبٍ مِنْ تِلْكَ
النِّقَابِ، إِذْ قَالَ: أَلاَ تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ أَنْ أَرْكَبْ مَرْكَبَ رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليهrفَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللهِ وسلم ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ
تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ
وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، وَنَزَلْتُ وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ
مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا
النَّاسُ؟ فَأَقْرَأَنِي: } قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {، وَ} قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ النَّاسِ {، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا،
ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ؟ اقْرَأْ
بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ.(15)
وقد أنكر كثيرٌ من أهل العلم صحة النقل عن ابن مسعود في إنكاره قرآنية
المعوذتين، وفي عدم إثباتِهما في مصحفه.
قال
الباقلاني: وأما المعوذتان، فكل من ادَّعى أن عبد الله بن مسعودٍ أنكر أن تكونا من
القرآن، فقد جهل، وبعُد عن التحصيل.(16)
وقال ابن حزم: وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في
مصحفه فكذبٌ موضوع، لا يصح، وإنَّما صحَّت
عنه قراءة عاصمٍ عن زِرِّ ابن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن
والمعوذتان.(17)
وقال
النووي: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة
في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئًا منه كفر، وما نُقِل عن ابن مسعودٍ في الفاتحة
والمعوذتين باطلٌ، ليس بصحيح عنه.(18)
وقد فنَّد هؤلاء العلماء ما ورد عن ابن مسعود من الإنكار أو الْمَحْوِ من
المصاحف، وتطلبوا لذلك وجوهًا كثيرةً في الردِّ،
منها:
1. أن سبيلَ نقل المعوذتين سبيلُ نقل القرآن، وهو ظاهرٌ مشهورٌ، وأن
فيهما من الإعجاز الذي لا خفاء لذي فهمٍ عنه، فكيف يحمل على ابن مسعودٍ إنكار
كونِهما قرآنًا، مع ما ذكر من النقل والإعجاز؟
2. أن ابن مسعودٍ لو أنكر أن المعوذتين من القرآن لأنكر عليه الصحابة،
ولنقل إلينا نقلاً مستفيضًا، كما أنكروا عليه ما
هو أقل من ذلك، وهو اعتراضه على اختيار زيد لجمع القرآن.(19)
3. أن ابن مسعود كان مشهورًا بإتقان القراءة، منتصبًا للإقراء، وقد صحَّ عنه قراءة عاصم وغيره، وفيها المعوذتان، ولو كان أقرأ تلاميذه
القرآن دون المعوذتين لنُقل إلينا، فلمَّا
لم يروَ عنه، ولا نُقل مع جريان العادة، دلَّ على بطلانه وفساده.(20)
4. أنه لو صحَّ أنه أسقط المعوذتين من مصحفه، فإن ذلك لا يدل على إنكاره كونَهما من القرآن، بل لعله أن يكون أسقطهما لعدم خوف
النسيان عليهما، وظن من رأى ذلك مِمن لم يعرف ما
دعاه إليه أنه أسقطهما لأنَّهما ليستا عنده بقرآن.(21)
5. ويحتمل أن يكون سمع جواب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأُبيٍّ لما سأله عنها، وأنه قال: قيل لي، فقلت، فلما سمع هذا أو أخبر به
اعتقد أنَّهما من كلام الله عز وجل ، غير أنه لا
يجب أن تسميا قرآنًا؛ لأنه لم يسمهما بذلك، أو أنه سمع جواب النَّبِيّ صلى الله
عليه وسلم لعقبة لما سأله: أقرآنٌ هما؟ فلم يجبه، وأصبح فصلَّى الصبح بِهما،
فاعتقد أنَّهما كلام الله تعالى، ولم يسمهما قرآنًا لما لم يسمهما النَّبِيّ صلى الله
عليه وسلم بذلك.
6. ويحتمل
أن يكون لم ير يقرأ بِهما في الصلاة قطُّ، فظن به لأجل
ذلك أنه يعتقد أنَّهما ليستاrالنَّبِيّ من القرآن.(22)
7. وأنه يُمكن أن يكون سئل عن عوذة من العوذ رواها عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وظن السائل عنها أنَّها من القرآن، فقال عبد
الله: إن تلك العوذة ليست من القرآن، وظن
سامع ذلك أو راويه أنه أراد المعوذتين، ويُمكن أن يحمل على ذلك أيضًا جوابه لِمن قال
له في المعوذتين: أهي من القرآن؟ فقال بأنها ليست من القرآن، فإنه يحتمل أن يكون
سأله عن معوذتين أخريين غير سورة الفلق وسورة الناس.(23)
8. وأما ما روي من حكِّه إياهما من المصحف فذلك بعيدٌ، لأنه لا يَخلو أن يكون حكَّهما من مصحفه، أو من مصاحف أصحابه الذين أخذوا عنه، أو
من مصحف عثمان، وما كُتِب منه.
فمحالٌ أن
يكون حكَّهما من مصحفه؛ لأنَّهما لم يكونا فيه، لأنه لم يكتبهما.
وكذلك
مصاحف من أخذ عنه من أصحابه، فهي بالضرورة موافقة لمصحفه، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون فيها المعوذتان.
وإن كان من
مصحف عثمان رضي الله عنه ، فذلك بعيدٌ، لأنه شقُّ العصا، وخلافٌ
شديدٌ يطول فيه الخطب بينهما، ولو حصل ذلك لنقل إلينا، وفي عدم العلم بذلك
دليلٌ على بطلانه.
9. وأما
قول الراوي: إنه كان يَحكهما، ويقول: لا تخلطوا به
ما ليس منه. يعني المعوذتين، فهذا تفسير من الراوي، ويحتمل أنه كان يَحكُّ الفواتح
والفواصل.(24)
ويدل على
ذلك ما رواه ابن أبي داود عن أبي جمرة قال: أتيت إبراهيم
بمصحفٍ لي مكتوبٍ فيه: سورة كذا، وكذا آية، قال إبراهيم: امحُ هذا، فإن ابن
مسعودٍ كان يكره هذا، ويقول: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه.(25)
10. ولو ثبت عنه بنصٍّ لا يحتمل الرد أنه حكَّهما، فإن ذلك يَحتمل وجوهًا من التأويل، منها:
أ- أن يكون
رآها مكتوبةً في غير موضعها الذي يجب أن تكتب فيه، وأراد بقوله: لا
تخلطوا به ما ليس منه: التأليف الفاسد.
ب- أو أنه رآها كتبت مغيَّرةً بضرْبٍ من التغيير، فحكَّها، وقال: لا تخلطوا به
ما ليس منه. يعني فساد النظم.(26)
وهذه
التأويلات التي ذكروها حسنةٌ، ولكن الرواية بإنكار ابن مسعودٍ قرآنية المعوذتين
ومحوهما من المصاحف صحيحة، فلا ينبغي أن تُرَدَّ بغير مستندٍ، ولا محظور حينئذٍ،
فتأويل فعل ابن مسعود مُمكن مع صحة هذه الروايات عنه.
قال
الحافظ: وأما قول النووي: أجمع المسلمون… ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم… ثم قال: والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستندٍ لا
يقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل
مُحتملٌ، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر، فهو مخدوش، وإن أراد استقراره، فهو
مقبول.(27)
وقال ابن
كثير: وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن
مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النَّبِيّ صلى الله عليه
وسلم ، ولم يتواتر عنده، ثم قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة رضي الله
عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد
والمنَّة.(28)
وعلى صحة
هذا النقل يكون الجواب عن هذه الشبهة بوجوه، منها -إضافةً إلى
ما سبق:
1- أن ترك كتابة ابن مسعودٍ المعوذتين في مصحفه ليس بالضرورة إنكارًا
لقرآنيتهما، إذ ليس يجب على الإنسان أن يكتب جميع القرآن، فلو أنه كتب بعضًا وترك
بعضًا، فليس عليه عيب ولا إثم.(29)
2- أنه يحتمل أن يكون ابن مسعودٍ رضي الله عنه لم يسمع المعوذتين من
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم تتواترا عنده،
فتوقف في أمرهما.
فإن قيل:
ولِمَ لَمْ ينكر عليه الصحابة، يجاب بأنَّهم لم
ينكروا عليه لأنه كان بصدد البحث والتثبت في هذا الأمر.(30)
3- أنه يَحتمل أنه كان يسمعهما من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان يراه صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين بِهما، فظن
أنَّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة
الصحابة جميعًا، ثم لَمَّا تيقن قرآنيتهما رجع إلى قول الجماعة.(31)
عَنْ
سُفْيَانَ قَالَ: … وَلَيْسَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ،(32) كَانَ يَرَى
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ،
وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَقْرَؤُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا
عُوذَتَانِ، وَأَصَرَّ عَلَى ظَنِّهِ، وَتَحَقَّقَ الْبَاقُونَ كَوْنَهُمَا مِنَ
الْقُرْآنِ فَأَوْدَعُوهُمَا إِيَّاهُ.(33)
ومِمَّا
يؤيد أنه رجع إلى قول الجماعة، ما ذكرناه آنفًا من صحة قراءة عاصم وغيره عنه، وأن فيها
المعوذتين.
4- أنه على
فرض استمرار عبد الله بن مسعودٍ على إنكار قرآنية
المعوذتين، ومَحوهما من المصاحف، يُجاب بأنه رضي الله عنه انفرد بِهذا الإنكار، ولم يتابعه عليه أحدٌ من الصحابة ولا غيرهم،
وانفراده على فرض استمراره عليه لا يطعن في تواتر
القرآن، فإنه ليس من شرط التواتر ألاَّ يُخالف فيه مخالفٌ، وإلا لأمكن هدم كل
تواتر، وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يُخالف فيه مخالفٌ.
فلو أنه
ثبت أن ابن مسعود رضي الله عنه أنكر المعوذتين، بل أنكر القرآن كله، واستمر على ذلك، فإن إنكاره لا يقدح في تواتر القرآن.
قال
البزار: لم يتابع عبدَ الله أحدٌ من الصحابة.(34)
ولا شكَّ
أن إجماع الصحابة على قرآنيتهما كافٍ في الردِّ على هذا الطعن، ولا
يضرُّ ذلك الإجماع مخالفة ابن مسعود، فإنه لا يُعقل تصويب رأي ابن مسعودٍ وتخطئة
الصحابة كلهم، بل الأمة كلها.(35)
وقد استشكل
الفخر الرازي على فرض صحة النقل عن
ابن مسعودٍ في إنكاره قرآنية المعوذتين أنه إن قيل إن قرآنية المعوذتين كانت متواترةً
في عصر ابن مسعودٍ، لزم تكفير من أنكرهما، وإن قيل إن قرآنيتهما لم تكن متواترةً
في عصره، لزم أن بعض القرآن لم يتواتر في بعض الزمان، قال: وهذه عقدة صعبة.(36)
ويجاب عن
هذا الاستشكال بأن تواتر قرآنية المعوذتين في عصر ابن مسعودٍ لا شكَّ فيه،
ولا يلزم من ذلك تكفيره رضي الله عنه ، إذ إن التواتر -وإن كان يفيد العلم الضروري-
فإنه نفسه ليس علمًا ضروريًّا -أي أنه قد يخفى على بعض الناس، فليس من الضروري أن
يعلم كلُّ واحدٍ من أهل العصر بتواتر الشيء، فإن خفي عليه هذا التواتر كان معذورًا،
فلا يُكَفَّر.
قال ابن
حجر: وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن
مسعودٍ، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلَّت العقدة بعون الله تعالى.(37)
المراجع
والمصادر :
(1) مناهل
العرفان (1/275).
(2) قال
الحافظ ابن حجر: هكذا وقع هذا اللفظ مبهمًا، وكأن بعض الرواة
أبْهمه استعظامًا له، وأظن ذلك سفيان، فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد
الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبْهام. فتح الباري (8/615).
(3) رواه
البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة (قل أعوذ برب الناس) (8/614) ح
4977.
(4) رواه
أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20682.
(5) رواه
أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20683. قال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والطبراني، ورجال عبد الله رجال الصحيح، ورجال
الطبراني ثقات. مجمع الزوائد (7/152).
(6) رواه
عبد بن حميد في مسنده، انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/9)، وفتح
القدير للشوكاني (1/62)، ورواه أبو بكر الأنباري، انظر: الجامع لأحكام القرآن
للقرطبي(1/81).
(7) رواه
عبد بن حميد في مسنده، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم
قدر الصلاة، انظر فتح القدير (1/62).
(8) انظر مناهل العرفان (1/276).
(9) رواه
ابن ماجه في سننه كتاب المقدمة، باب فضل عبد الله بن مسعود (1/49) ح 138،
وابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة المصاحف حفظًا ص 152-153.
(10) رواه
أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (1/216)
ح 820.
(11) انظر
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 47-49، ومناهل العرفان
(1/276).
(12) انظر:
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(1/81)، وتفسير القرآن
العظيم لابن كثير (1/9).
(13) رواه
أحمد في مسنده، مسند الشاميين (5/137) ح 16848.
(14) رواه
مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة المعوذتين (6/96)
ح 814.
(15) رواه
النسائي في سننه، كتاب الاستعاذة، (8/253) ح 5437،
وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في المعوذتين (2/73) ح 1462.
(16) نكت
الانتصار لنقل القرآن ص 90.
(17) المحلى
(1/13).
(18) المجموع شرح المهذب (3/363).
(19) كما
مرَّ في المبحث السابق.
(20) انظر المحلى (1/13)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 90-91، والفصل في الملل
والأهواء و النحل (2/212).
(21) نكت
الانتصار لنقل القرآن ص 91.
(22) انظر
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 92، وتأويل مشكل
القرآن لابن قتيبة ص 43.
(23) نكت
الانتصار لنقل القرآن ص 92-93.
(24) نكت
الانتصار لنقل القرآن ص 93.
(25) رواه
ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة
الفواتح والعدد في المصاحف ص 154.
(26) نكت
الانتصار لنقل القرآن ص 93-94.
(27) فتح
الباري (8/615).
(28) تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين بن كثير
(4/571).
(29) انظر
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 49.
(30) انظر
مناهل العرفان (1/276)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/571).
(31) تأويل
مشكل القرآن لابن قتيبة ص 43.
(32) يعني المعوذتين.
(33) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20684.
(34) مجمع
الزوائد (7/152)، وفتح الباري (8/615).
(35) مناهل
العرفان (1/276-277).
(36) فتح
الباري (8/616).
(37) فتح
الباري (8/616).
( * ) نقلاً
عن رسالة ماجيستير بعنوان " جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر
النبوي إلى العصر الحديث " للدكتور /شرعي أبو زيد ص 166 - 173 .