الإمام محمد عبده... وتفسير (أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه) وقصة الغرانيق.


..

بسم الله الرحمن الرحيم

للإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله شَرْحٌ لقولِ الله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبيٍّ إلاَّ إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) سورة الحج 52

وشَرْحُه رَحِمَه الله من أفضلِ ما شُرِحَتْ به الآياتُ، حتى أثنى عليه الشَيْخُ/ مُحَمَد الغَزَالي رَحِمَه الله في كتابِه (عللٌ وأدوية) فَوَصَفَ تَفْسِيرَه لهذه الآياتِ-في مَعْرِضِ بَيَانِ مَآثِرِ الإمام- بالتفسيرِ الرَائِعِ، وقال فيه أنَّه

"
دمَّرَ خُرَافةَ الغَرَانِيقِ الَّتِي وَجَدَتْ لها أَسَانِيدَ عِنْدَ بَعضِ المُحَدِّثِينَ الكِبَارِ، وذَادَ عَن السِيرةِ الشَريفةِ أَوهَامَاً تُعَكِّرُ صَفَاءَها، وبَدا من أُسلُوبهِ في الاستدلالِ أنه اسْتَدَرَكَ على بعض المحدِّثين اهتمامَهم بالسَنَدِ وذهُولَهُم عن المتن، وأنه رفضَ تقويةَ الفرعِ على حِسابِ توهينِ الأصْل".
[الشيخ محمد الغزالي: علل وأدوية – ص 100- دار القلم دمشق ]

وقد أحببنا أن ننقلَ شرحَ الإمامِ وبيانَه للآياتِ راجين من الله أن ينسخَ بهذا الشرحِ والبيان ما يلقيه الشيطانُ في بعض العقول والقلوب من شبهاتٍ وأوهام، وأن يحكمَ الله المعنى الصحيح لآيات القرءان في نفوس طالبي الحق، فيؤمنوا به وتخبت له قلوبهم.

الإمام "محمد عبده":

هو محمد عبده بن حسين خير الله، مفتي الديار المصرية، وُلِدَ في "شنرا" (من قرى محافظة الغربية بمصر) عام 1849م (1266 هـ) ونشأ في محلة نصر (بالبحيرة)، تعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر، وتصوف وتعلم الفلسفة، وعمل في التعليم، وكتب في الصحف ولاسيما جريدة "الوقائع"، وقد تولى تحريرها وأجاد اللغة الفرنسية بعد الأربعين.

صحبَ السيد "جمال الدين الأفغاني" لما قدم إلى "مصر" سنة 1871م بعد نفيه من الأستانة وتأثر به وبمنهجه الفكري.
ولما احتل الإنجليز مصر ناوأهم وشارك في مناصرة الثورة العرابية، فسجن ونفي إلى بلاد الشام، وسافر إلى باريس فأصدر مع صديقه وأستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة "العروة الوثقى" وعاد إلى بيروت فاشتغل بالتدريس والتأليف، وسمح له بدخول مصر، فعاد سنة 1888م (1306هـ) وتولى منصب القضاء، ثم عُيِّنَ مستشاراً في محكمة الاستئناف، فمفتياً للديارِ المصرية سنة 1899م ( 1317هـ)، حتى توفى بالإسكندرية عام 1905م (1323هـ)

وشَرْحُه الذي ننقله عنه من كتابِ (دُرُوسٌ مِنَ القُرْءان) نَشَرَته دار إحياء العلوم – بيروت. شملَ وَقَفَاتِ الإمامِ وشَرْحَه لبعضِ السورِ والآياتِ من القرءان، كسورةِ الفاتحة وسورةِ العصر، وهذه الآيات من سورة الحج.
وقد قسمت شرحه على حلقات ثمانية، وسجلت في الهامش بعض ما استطعت جمعه، وظننته يفيد القارئ، من كلام أئمة الحديث، والتفسير، والمحققين في رد هذه الخرافة وروايتها.


الحلقة الأولى:

وقد بدأ الإمام بمقدمةٍ تكلم فيها عن عصمةِ الرسلِ كافة من الزلل في التبليغ عن الله، وأن عِصْمَتَهُم في ذلك أصلٌ من أصولِ الإسلامِ الذي شهدَ به الكتاب، وأيدته السنة، وأجمعتْ عليه الأمَّةُ، وعَقَّبَ الإمامُ بعدها أنه على الرغم أنَّ هذه العصمةَ أصلٌ، شهد له الكتابُ والسنة، وعلى الرغم من إجماع الأمة على ذلك... فإن الباطل لم يعدم أعواناً يعملون على هدم أصل الإسلام وتوهين ركنه،..
ثم بيَّن من هم أعوان الباطل، فقال الشيخ رحمه الله:


(
أولئك عُشَّاقُ الرِّواياتِ وعَبَدَةُ النَّقلِ، نظروا نظرةً في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبيٍّ إلاَّ إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه) الآية. وفيما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما من أن (تَمَنَّى) بمعنى قرأ، و(الأمنِيَّةُ): القراءة، فعَمِيَ عليهم وجهُ التَّأْويلِ الَحقِّ على فرضِ صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يَطْلُبُونَ ما به يصحُّ التَّأْويلُ في زعْمِهِم، فقُيِّضَ لهم من يَرْوي في ذلك أحاديثَ تختلفُ طرُقُها، وتتبايَنُ ألفاظُها، وتتَّفِقُ في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندما بلَغَ منه أذى المشركين ما بَلَغَ، وأعرضوا عنه وجفاه قومُه وعشيرتُه لِعَيْبِه أصنامَهُم وزرايتِه على آلهتهم، أخَذَه الضَّجَرُ من إعراضِهم.

ولحرصِهِ على إسلامِهِم وتهالكِه عليه، تمنى أن لا ينـزلَ عليه ما ينفرهُم لعلَّه يتخِذُ طريقاً إلى استمالتِهم واستنـزالهم عن غيهِم وعنادِهم، فاستمرَّ به ما تمناه حتى نزلتْ عليه سورةُ (والنَّجْمِ إِذَا هَوَى) وهو في نادي قومِه، ورُوِيَ أنَّه كانَ في الصِّلاةِ.


وذلك التَمَنِّي آخِذٌ بنفسِهِ فطَفِقَ يقرؤها، فلما بلغ قوله: (ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه التي تمناها بأن وَسْوَسَ له بما شَيَّعَها به، فَسَبَقَ لسانُهُ على سبيلِ السهو والغَلَطِ، فَمَدَحَ تلكَ الأصنام وذكر أن شفاعتَهنَّ تُرْتَجى!!
فمنهم من قال إنه عندما بلغ (ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) سها فقال: "تلك الغرانيقُ العلى، وأن شفاعتَهنَّ لترتجى". ومنهم من روى: "الغرانقة العلى". ومنهم من روى: "إن شفاعتَهنَّ ترتجى" بدون ذكر الغرانقة والغرانيق.
ومنهم من قال: إنَّه قال: "وإنها لمَعَ الغرانيقِ العلى". ومنهم من روى: "وإنهنَّ لهنَّ الغرانيقُ العلى، وإن شفاعتَهنَّ لهي التي ترتجى" ففرح المشركون بذلك. وعندما سجدَ في آخر السورة سجدوا معه جميعاً!!

 

 


الحلقة الثانية
قال الإمام محمد عبده:

قال ابن حجر العسقلاني: "وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها، وإن كانت مرسلة، يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحاً. وهذه الأسانيد الصحيحة –في رأيه- وإن كانت مراسيل يَحْتَجُ بها من يرى الاحتجاجَ بالحديثِ المرسل، بل ومن لا يراه كذلك لأنها متعددة، ويُعَضِّدُ بعضُها بعضاً"
ولولا خوفُ التطويل لأتَيْتُ بجميعِ تلك الروايات، وما صحَ عنده منها، وما لم يَصحُ، ولكن لا أرى حاجةً إليه هنا.

روى ذلك ابن جرير الطبري (1) ، وشايعه عليه كثيرٌ من المفسرين، وفي طباعِ الناس إلفُ الغريبِ، والتهافتُ على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير، واتخذوها عقدةَ إيمانهم، حتى ظنوا – وبعض الظن إثم- أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها....

.......................
وفي صحيح البخاري:

((وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي " إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ " إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ. وَيُقَالُ: (أُمْنِيَّتُهُ): قِرَاءَتُهُ.
(
إلا أَمَانِيَّ): يَقْرَءُونَ ولا يَكْتُبُونَ)) أ.هـ.(2)


فتراه حكى تفسير الأمنِيَّة بالقراءة بلفظ (يُقَالُ)، بعدما فسرها بالحديث، روايةً عن ابن عباس، وهذا يدلُ على المغايرة بين التفسيريْن، فما يدَّعيه الشُّراح أن الحديث في رأْي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهِرَ العبارة.
ثم حكايته تفسير الأمنِيَّة بمعنى القراءة بلفظ: (يُقَالُ) يفيدُ أنه غيرُ مُعتَبرٍ عِنده (وسيأتي أن المراد بالحديثِ حديث النفس)
قال صاحب الإبريز: "إن تفسيرَ (تَمَنَّى) بمعنى قرأ، والأمْنِيَّة بمعنى القراءة، مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد عُلِم ما للناس في ابن صالح كاتب الليث وأن المحققين على تضعيفه"(3)

هذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة، وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها.


...

الهوامش:

(1)
يعرف من منهج ابن جرير الطبري أن الرواية بالإسناد عنده إحالة للناقد وإبراء للذمة، وليس تصحيحاً لها.
قال ابن جرير (310هـ): "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يَعرفْ له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أوتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا" ........ تاريخ الطبري: ج1

(2) صحيح البخاري: كتاب التفسير- سورة الحج.

(3)
كاتب الليث هو عبد الله بن صالح الجهني، وهو أبو صالح المصري، صدوق، كثير الغلط، كانت فيه غفلة "تقريب التهذيب ص 322... ترتيب الشيخ حسان عبد المنان"
وفي كاشف الذهبي: كان صاحب حديث، فيه لين.

وقال عليّ بن المديني: ضربتُ على حديث عبد الله بن صالح وما أروي عنه شيئاً.
وذمه الإمام أحمد وكرهه، وقال أحمد: روى عن الليث، عن ابن أبـي ذِئْب كتاباً أو أحاديث، وأنكرَ أن يكونَ الليثُ سمِعَ من ابنِ أبـي ذئب شيئاً، وقال فيه: ليسَ هو بشيءٍ. وضعفه النسائي وقال: ليس بثقة.
وهو في نفسِه صدوقٌ لا يَتْعَمدُ الكذبَ كما قال عنه أبو حاتم وأبو زرعة، لكنَّ ضُعْفَه أتاه من أمورٍ كتدليسِ خالد بن نَجِيح المِصْري عليه في كتاب اللَّيث .....

"تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ جمال الدين المزي ج5 ص399 دار الكتب العلمية - بيروت
تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ج3 ص 167- دار إحياء التراث العربي
الكامل في ضعفاء الرجال ج5 ص344 للحافظ عبد الله بن عدي الجرجاني
الضعفاء والمتروكين للدارقطني.
.....

 

 


الحلقة الثالثة

قال الإمام محمد عبده رحمه الله:


وأما قِصَّةُ الغرانيق، فمع ما فيها من الاختلافِ الذي سبق ذِكْرُهُ، جاء في تتميِمها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَفْطَنْ لما ورد على لسانِه، وأَنَّ جبريلَ جاءه بعد ذلك، فعرضَ عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتُك بهاتين. فحزن لذلك فأنزل الله عليه (وما أَرْسَلْنا...) الآيات، تسليةً له، كما أنزل لذلك قوله:
(وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَه وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الممَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) [سورة الإسراء 73-74]

ولقد جاء في بعض الروايات: إن حديثَ الغرانيق فشا في الناس حتى بلَغَ أرضَ الحبشة، فسَاءَ ذلك المسلمين والنَبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنَـزَلَتْ (وما أَرْسَلْنا) الآية.

فقد (قال القسطلاني في شرح البخاري: "وقد طعن في هذه القصة وسندِها غيُر واحدٍ من الأئمة حتى قال ابنُ اسحق وقد سُئِلَ عنها: "هي من وضع الزنادقة" وكفى في إنكار حديث، أن يقول فيه ابن إسحق إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن إسحق المعروفة عند المحدثين..

وقال القاضي عياض: [إن هذا حديثٌ لم يخرجْه أحدٌ من أهلِ الصحةِ، ولا رواه ثقةٌ بسندٍ سليم متصل ، وإنما أُولِعَ به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كلَ
صحيحٍ وسقيم] ثم نقل عن أبي بكر بن العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها، وما يقضي عليها بالوهن والسقوط عن درجة الاعتبار" (1)

................................

الهوامش:

(1)
والذي نقله القاضي عياض (المتوفى سنة 544هـ) عن أبي بكر بن العلاء، ولم ينقله لنا الإمام هو قول القاضي:

(
وصدَقَ القاضي أبو بكر بن العلاء المالكي حيثَ قال: لقد بُلِيَ الناسُ ببعضِ أهلِ الأهواء والتفسير، وتَعَلقَ بذلك الملحدون مع ضعفِ بعض نقلتِه، واضطرابِ رواياتِه، وانقطاعِ إسنادِه، واختلافِ كلماتِه. فقائلٌ يقول إنه في الصلاة، وآخر يقول قالها في نادي قومه حين أُنْزِلتْ عليه السورةُ، وآخر يقول قالها وقد أصابَتْهُ سِنَةٌ، وآخر يقول بل حَدَّثَ نفسَه فسَها، وآخر يقول إن الشيطانَ قالها على لسانِه صلَّى الله عَليه وسلم، وأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم لما عرضَها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتُك، وآخر يقول بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبيَّ ذلك، قال: والله ما هكذا نزلت، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.

ومن حُكِيَتْ هذه الروايةُ عنه من المفسرين والتابعين لم يَسندْها أحدٌ منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها واهية ضعيفة. والمرفوعُ فيه حديثُ شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما أحسب. الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، وذكر القصة.

قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد،.. وغيره يُرْسِلُهُ عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال القاضي عياض بعد ما نقل كلام البزار : "فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار "

من كتاب القاضي عياض (الشفا) وشرحه (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض) لأحمد شهاب الدين الخافجي ج4 دار الكتاب العربي - بيروت.

والكَلْبِيُّ الذي ضعفوه هو محمد بن السائب الكَلْبِـيّ (قال عنه المحدثون كَذَّاب وضَّاع، لا يوثق به. قال الجرجاني وابن معين وغيرهما أنه يضع الأحاديث وكذاب لا يحتج به، وروى عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم يرو عن ابن عباس. قال ابن حبان: أنه في الدين غير مبين وكذبه أظهر من أن يذكر ولم يسمع من أبي صالح أيضاً)

من نسيم الرياض لشهاب الدين الخافجي ج4
وضعفه الدارقطني ..." الضعفاء والمتروكين للإمام علي بن عمر بن أحمد الدارقطني- المكتب الإسلامي- تحقيق محمد بن لطفي الصباغ".

وفي "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ المزيّ:

(
قال أبو بكر بن خَلاّد البَـاهلـي، عن مُعْتَـمِر بن سُلَـيْـمان، عن أبـيه: كان بـالكُوفة كَذَّابـان أحدهما الكَلْبِـيّ.
وقال عَمرو بن الـحُصَيْن، عن مُعْتَـمِر بن سُلَـيْـمان، عن لـيث بن أبـي سُلَـيْـم: بـالكُوفة كَذَّابـان: الكَلْبِـيّ والسُّديّ.
وقال فيه يحيـى بن مَعِين: لـيس بشيء، وضعف رواية أبي صالح إذا كانت من طريق الكلبي. وقال البُخاري: تركه يحيـى بن سعيد وابنُ مهدي)

والذي ذكره العلماء من كونه كذاب... هذا على أحسن حالتيه، وإلا فهو رافضي, سبأي، قال بكفره بعض العلماء. كان يرى أن الوحي أخطأ فأوحي إلى (عَليّ).

(
قال عبد الواحد بن غِياث، عن ابن مهدي: جلسَ إلـينا أبو جَزْء علـى بـاب أبـي عمرو بن العَلاء فقال: أشهد أنَّ الكَلْبـيَّ كافِرٌ. قال: فحدثت بذلك يزيد بن زُرَيْع فقال: سمعته يقول أشهد أنه كافِرٌ. قال: فماذا زَعَم؟ قال: سمعته يقول: كانَ جبريـل يُوحي إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم فقامَ النبـيُّ صلى الله عليه وسلم لـحاجةٍ وجَلَس عَلـيٌّ (فأوحى) إلـى علـيّ. قال يزيد: أنا لـم أسمعه يقول هذا، ولكنـي رأيتُه يضرب علـى صَدْرِه ويقول: أنا سبأي أنا سبأيّ قال أبو جعفر العقـيـلـي: هم صنف من الرَّافضة أصحاب عبد الله بن سَبَأ

قال زيد بن الـحُبـاب: سمعتُ سُفـيان الثَّوري يقول: عَجَباً لـمن يَروي عن الكَلْبـي.

أما روايته عن أبي صالح فقد أنكر أبو صالح نفسه أن يكون حدثه بشيء، واتهمه بالكذب. قال علـيّ بن مُسْهِر، عن أبـي جَنَاب الكَلْبِـي: حلف أبو صالـح أنـي لـم أقرأ علـى الكَلْبـي من التَّفسير شيئاً. وذكر أبو عاصم النَّبـيـل عن سُفـيان الثَّوري، أنه هو أقر بكذبه فيما رواه عن أبـي صالـح عن ابن عبـاس)

ومنها هذه الرواية في الغرانيق فهي من روايته عن أبي صالح عن ابن عباس!

(
عن قُرَّة بن خالد: كانوا يرون أنَّ الكَلْبِـي يَكْذِب. وقال أبو حاتِم: النَّاسُ مُـجمعونَ على تَرْك حديثه، لا يُشْتَغَل به، هو ذاهبُ الحديث. وقال النَّسائي: لـيسَ بثقة ولا يُكْتَب حديثَه)

[راجع تهذيب الكمال للحافظ جمال الدين المزي، وتهذيب التهذيب لابن حجر]

وقال ابن عدي في "الكامل": عن سفيان الثوري: "اتقوا الكَلْبِـيّ " وقال سفيان: قال الكَلْبِيُّ: كل شيء أُحَدِّثُ عن أبي صالح فهو كَذِبٌ..... وقال السَعْديُّ: أبو النضر الكَلْبِـيّ كذًّاب ساقط. وقال النسائيُّ: أبو النضر الكَلْبِيُّ متروك الحديث. [ابن عدي الجرجاني ج6]

وقال ابن الجوزيِّ عنه في مقدمة الموضوعات له: "وكان من كبار الوَضَّاعين وهب بن وهب، ومحمد بن السائب الكلبي" وذكر حديثاً في فضل عليّ ثم قال: والمتَّهمُ به الكلبي.

وشيخ الكلبي الذي روى عنه ضعيف. وهو أبو صالح باذان أو باذام. نقل الشيخ علي بن حسن الأثري في (دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق رواية ودراية) ص 79 عن [عمرو بن قيس قال: "كان مجاهد ينهى عن أبي صالح باذان" وعن الإمام أحمد قال: "كان عبد الرحمن بن مهدي ترك حديث أبي صالح باذام، وكان في كتابي: عن السُّديِّ عن أبي صالح، فتركه ولم يحدثنا به"
وقال النسائيُّ: "ليس بثقة".
وضعفه جماعة كبيرة من أهل العلم: العُقَيْليُّ، وابن عديِّ، والجُوزَجانيُّ،وابن الجارود، وأبو أحمد الحاكم، وعبد الحق الأشبيليُّ، والساجيُّ، وابن البرقيِّ،وأبو القاسم البلخيُّ،وأبو الفتح الأزدي، وابن حبان البُسْتِيُّ،وابن الجوزي، والذهبي.
انظر "طبقات ابن سعد" (5/302) و"التاريخ الكبير" (2/144) و"الجرح والتعديل" (2/431)، و"المجروحين" (1/185)، و"الميزان" (1/266)، و"تهذيب الكمال" (4/7)، و"تهذيب التهذيب" (1/416)، وغيرها]

ومثلُ هذا الكَذَّاب الذي يضع حديثاً بخطأ جبريل في شخص الموحى إليه، ليس بعيداً عنه أن يضع حديثاً بخطأ المنـزل من الله على نبيه، ليبدل آية عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي سجود الإنس والجن من المسلمين والمشركين كما في حديث البخاري عن ابن عباس، فيغيظه ذلك فيجعله تلبيساً من الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم. واختار من الصحابة ابن عباس لأنه هو الراوي لحديث سجود الإنس والجن كما أخرجه البخاري] أ.هـ.
...

 

 


الحلقة الرابعة:

قال الإمام محمد عبده:

وقال الإمام أبو بكر ابن العربي- وكفى به حجة في الرواية والتفسير- إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.

قال القاضي عياض: (والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ) وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) (1)

قال الإمام: (وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها)

ثم قال القاضي عياض: "قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا الرذيلة.
أما من تمنيه أن يُنَـزَّل عليه مثلُ هذا من مدحِ آلهةٍ غيرِ الله وهو كفرٌ، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه عليه الصلاة والسلام، أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً، وذلك كفر، أو سهواً، وهو معصوم من هذا كله.

وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهواً، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقيه الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله – لا عمداً ولا سهواً – ما لم ينـزل عليه، وقد قال الله تعالى:

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [سورة الحاقة 44-46]

وقال: (إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياةِ و ضِعْفَ الممَاتِ ثُمَّ لا تجِدُ لك عَلَيْنَا نَصِيراً) [سورة الإسراء75]


(ووجه ثان):

وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَن بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك.
وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه. (2)


(ووجه ثالث):

أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندي المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورُهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتدادُ مَن في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة.

ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة، وكذلك ما ورد في قصة القضية، (3) ولا فتنة أعظم من هذه البلية ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أَمْكَنَتْ، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بُطْلِها، واجتثاث أصلها.

ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على ضعفاء المسلمين.


(ووجه رابع):

ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت: (وإنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عن الذي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ) الآيتين، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً فكيف كثيراً؟

وهم يروون في أخبارهم الواهية، أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: " افتريتُ على الله تعالى وقلتُ ما لم يقل" وهي تضعف الحديث لو صح (4) فكيف ولا صحة له؟

وهذا مثلُ قوِله تعالى في الآية الأخرى: (وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُه لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إلا أنفسَهم وما يَضُرُّونَك من شَيْء) سورة النساء 113

وقد رُوِيَ عن ابن عباس: "كل ما في القرآنِ (كادَ)، فهو ما لايكون"
قال الله تعالى: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبْصَارِ)، ولم يذهب.
و(أكادُ أُخْفِيْها) ولم يفعل.


قال القشيري القاضي: " ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل وما كان ليفعل"
قال ابن الأنباري: "ما قارب الرسول ولا ركن"]



--------------------------------


(1)
رواه البخاري عن ابن عباس "كتاب التفسير" بَاب ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)
"
سَجَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالنَّجم، وسجدَ معهُ المسلمونَ والمشركونَ والجنُّ والإِنس".


(2)
قوله بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم......إلى آخره... بينه كثير من العلماء منهم:
العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "رحلة الحج إلى بيت الله الحرام" 128-135، قال: (إن القول بعدم صحتها –أي قصة الغرانيق- له شاهد من القرءان العظيم في سورة (النَّجْمِ) ، وشهادته لعدم صحتها واضحة: وهو أن قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) سورة النجم 19-20

الذي يقول القائل بصحة القصة أن الشيطان ألقى بعده ما ألقى، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدُ في تلك اللحظة في الكلمات التي تليه من سورة (النَّجْمِ) قوله تعالى (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءّابَاؤُكُم مآأَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ) سورة النجم 23

فهذا يتضمن منتهى ذم الغرانيق التي هي كناية عن الأصنام، إذ لا ذم أعظم من جعلها أسماء بلا مسميات،وجعلها باطلاً ما أنزل الله بها من سلطان!!

فلو فرضنا أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا بعد قوله: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) وفرح المشركون بأنه ذكر آلهتهم بخير، ثم قال النبي في تلك اللحظة: (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءّابَاؤُكُم مآأَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ) وذَمَّ الأصنام بذلك غايةَ الذم، وأبطل شفاعتها غاية الإبطال! فكيف يعقل –بعد هذا- سجود المشركين، وسبُ أصنامِهم هو الأخير، والعِبْرَةُ بالأخير؟!

ويُسْتَأْنَسُ بقوله أيضاً –بعد ذلك بقليل في الملائكة- (وَكَم مِن مَّلَكٍ فِي السَّمَواتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) سورة النجم 26 لأن إبطال شفاعة الملائكة –إلا بإذن الله- معلومٌ منه عند الكفار بالأحْرَوَيَّة إبطال شفاعةِ الأصنام المزعومة)
أ.هـ. كلام الشيخ الشنقيطي.

ومثله ما قاله الشيخ يوسف الدِّجْويُّ في (مجلة نور الإسلام المجلد الرابع سنة 1352هـ) للتدليل على ضعف الرواية من تناقضها مع القرآن، قال: "فإنه ذم الأصنام بما لا مزيد عليه في هذه السورة، فقال:
(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءّابَاؤُكُم مآأَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ)، وقال في حق عابديها: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً. فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدّ إلا الحَيَاةَ الدُّنْيَا. ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيِلِه، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)
سورة النجم 28-30.. إلى غير ذلك.
فكيف يقال: إنهم فرحوا بمدح أصنامهم وسجدوا معه في آخر السورة؟! أ.هـ.

وقول الله (أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى) إنما هو استفهام إنكاري من باب التقريع والتوبيخ، وليس مجرد استعلام.. فكيف يتفق في النظر والعقل الصحيح بعد التقريع والتوبيخ أن يضيف إليها مدحاً لأصنامهم.



قال الشيخ/ محمد الصادق عرجون في كتابه "محمد رسول الله" : ...
[
لأن التقريع في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى) المفهوم من الاستفهام الاستنكاري الـمُسْتَفْتَحِ به فعلُ الاستخبار الساخر من المخاطبين المشركين.... " أَفَرَأَيْتُمُ " لم يستوف مؤداه الذي يمنع الإيهامَ أن يلج إلى ساحته.
وقد يعمد مأفون الفكر إلى تجريده من معناه البياني في إطار البلاغة القرآنية، وينقله إلى معنى سوقي عامي، فيزعم له أنه مجرد استعلام، وحينئذٍ يأتي وَضْعُ الكلمتين الخبيثتين متسقاً خادعاً....

أما وضع كلمات الشيطان الفاجرة بعد قوله تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ ضِيْزَى) فهو وضع غبي جهول، يدل على أن واضعه على زندقته وإلحاده لم يشم رائحة نظم الكلام واتساق نسقه.... ذلك لأن التقريع المؤدي بهمزة الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى) قد تأكد ورفع عنه احتمال الإبهام في إرادة مجرد الاستخبار .......... بإعادة الاستفهام الإنكاري بأداته نفسها (أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأنْثَى..) ثم بتسجيل أقبح الظلم عليهم، ودمغهم به في الإخبار المعقب للاستفهام الموبخ (تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ ضِيْزَى)


وحينئذ لا يلتئم في عقل قط أن يجيء بعد هذا (التوبيخ والتقريع والإنكار).. كلامٌ في مدح الأوثان وجعلها شفعاء ترتجى أو ترضى شفاعتها....
ويأتي تناقض هذه الروايات بأن يكون القرءان قد جاء بتصديق المشركين في اعتقادهم أن هذه الأوثان والأصنام ملائكة تشفع لهم، ثم تناقض مع نفسه فرد عليهم بأن كثيراً من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئاً، وخص بذلك من في السموات..!]

من كتاب "محمد رسول الله" للشيخ محمد الصادق عرجون... بتصرف.


وفي كتاب "فقه السيرة" قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تحت عنوان "هجرة إلى الحبشة":
(
ويزعم بعض المغفلين أنه وقعت هدنة حقاً بين الإسلام والوثنية، أساسها أن محمداً صلى الله عليه وسلم تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم والاعتراف بمنزلتها (!) وأن هذه الهدنة الواقعة هي التي أعادت المشركين من الحبشة..
وماذا قال محمد عليه الصلاة والسلام في مدح الأصنام؟ يجيب هؤلاء المغفلون بأنه قال: (تلك الغرانيق العلا. وإن شفاعتهم لترتجى) (!)
وأين وضع هذه الكلمات؟
وضعها في سورة "النجم" مقحمة وسط الآيات التي جاء فيها ذكر الأصنام، فأصبحت هكذا:
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. (تلك الغرانيق العلا. وإن شفاعتهن لترتجى) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى. {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ...) النجم 19-23

ويكون معنى الكلام على هذا: خبروني عن أصنامكم: أهي كذا وكذا؟ إن شفاعتها مرجوة، إنها أسماء لا حقائق لها، خرافات ابتدعت واتبعت. ما لكم جعلتموها إناثاً ونسبتموها لله وأنتم تكرهون نسبة الإناث لكم؟ تلك قسمة جائرة!

فهل هذا كلام يصدر عن عاقل، فضلاً عن أن ينزل به وحي حكيم؟
ولكن هذا السخف وجد من يكتبه وينقله!

إن محمداً صلى الله عليه وسلم لو كذب على الله باختلاق كلام عليه لقطع عنقه بنص الكتاب الذي جاء به. قال الله جل شأنه:
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (44-47) سورة الحاقة

بيد أن كتب التاريخ والتفسير التي تركت للوراقين والزنادقة يشحنونها المفتريات اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح. ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم إلا أنه ما كان يجوز أن يدون مثله.
...
إن كثيراً من هذه الخرافات الصغيرة توجد في كتب شتى عندنا. ولا ندري متى تنظف هذه الكتب القديمة منها، فهي لا ريب مدخولة عليها أيام غفلة المسلمين وغلبة الدسائس اليهودية على أفكارهم ومخطوطاتهم.

والذي ورد في الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرأ سورة "النجم" في محفل يضم مسلمين ومشركين، وخواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب. فلما أخذ صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يهدو بها ويرعد وينذرها حتى وصل إلى قول الله تعالى:

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى. فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى. هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى. أَزِفَتْ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) سورة النجم 53-61

أقول: فلما وصل إلى هذه الآيات كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين، مع غيرهم من المسلمين!
فلما نكسوا على رؤوسهم وأحسوا أن جلال الإيمان لوى زمامهم، ندموا على ما كان منهم، وأحبوا أن يعتذروا عنه، فإنهم ما سجدوا مع محمد صلى الله عليه وسلم إلا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم عطف على أصنامهم بكلمة تقدير (كذا) ......


(3)
قصة القضيّة هي قصة الحديبية لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنه دخل هو وأصحابه مكة، وأخبرهم بذلك، ثم صده المشركون، وصالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يرجع عامه هذا، ويأتي عامه القابل، وكتب لهم كتاباً بذلك، شرط المشركون فيه شروطاً رأى المسلمون أن بها شططاً عليهم، حتى قال عمر رضى الله عنه: ألستَ رسولَ الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألستَ على الحقِ وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعط الدنيّة في ديننا؟!
وكان من المسلمين ما كان فلم يقوموا لحلق رؤوسهم، ولا ذبح هديهم لما أمرهم، حتى قام هو فنحر هديه، وحلق رأسه... فقاموا بعده تعلوهم الكآبة والضيق. فكيف يكون هذا منهم في مثل هذا الأمر، وهو هين لو قورن بقصة الغرانيق؟
وحتى خشي عمر أن يُنَـزَّل فيه قرآن من شدة ما راجع النبيَّ صلى الله عله وسلم ولا يكون مثل ذلك، بل أضعافه في قصة الغرانيق؟


(4)
قوله "لو صح"..أي من حيث سنده، فالعلة حينئذ تكون في متنه. من تعليقات: علي بن حسن الحلبي الأثري في كتابه (دلائل التحقيق) ص183

..

 

 

أرسل بواسطة : slave of allah