قصة الغرانيق المكذوبة

تحت عنوان : ( وحي من الشيطان ) كتب أعداء الاسلام ما يلي :

جاء في سورة الحج : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .))

قال المفسرون : إن محمدا لما كان في مجلس قريش أنزل الله عليه سورة النجم فقرأها حتى بلغ أفرأيتم اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدّث به نفسه ويتمناه - وهو تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لتُرتَجى . فلما سمعت قريش فرحوا به ومضى محمد في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده، كما سجد جميع المشركين. وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. وقد عرفنا أن الله يحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده .

ونحن نسأل : كيف يتنكر محمد لوحدانية الله ويمدح آلهة قريش ليتقرب إليهم ويفوز بالرياسة عليهم بالأقوال الشيطانية؟ وما الفرق بين النبي الكاذب والنبي الصادق إذا كان الشيطان ينطق على لسان كليهما ؟

الجواب :

هذا الكلام مبني على رواية باطلة مكذوبة ، قال عنها ابن كثير وغيره : " لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح " .

وقد سئل ابن خزيمة عن هذه القصة فقال : من وضع الزنادقة .

وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ورواية البخاري عارية عن ذكر الغرانيق .

وقال الإمام ابن حزم : (( والحديث الذي فيه : وانهن الغرانيق العلا ، وان شفاعتهن لترجى . فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولامعنى للأشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد )) [ الاسلام بين الانصاف والجحود ] ص 69

واستناداً إلى القرآن والسنة واللغة والمعقول والتاريخ نفسه فإن هذه الرواية باطلة مكذوبة :

1-
لأن أسانيدها واهية وضعيفة فلا تصح .

2-
لأن النبى صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغه للرسالة محتجين بقوله سبحانه وتعالى :

((
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )) [ الحاقة : 44 ]

3-
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الأصنام في الجاهلية إذ لم يعرف عنه أنه تقرب لصنم بل قال : (( بغض إلي الأوثان والشعر )) .

ومن اراد التفصيل فليرجع الى كتاب ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) للعلامة الالباني رحمه الله في باب كتب وابحاث ... والله الموفق

 

 

 

 

نقد شبهة الاستدلال بقوله تعالى: " إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِ

 

بحثت ذلك في الأطروحة، في الباب الثاني: عند الحديث عن التناقضات المزعومة في القرآن الكريم، وسبق أن بحثت بعضاً مما يخصها في الباب الأول عند مناقشة المصادر المحتملة للقرآن الكريم ـ بزعمهم ـ ومنها: " الشياطين " !!

17.
سورة الحج: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) ". ناقض: " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) " النحل.

الجواب:
ليس المقصود ـ بآية الحج ـ إن الشياطين توحي إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم ممنوعون عن ذلك. [1]
فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته: إلقاؤه الشبهات والوساوس في صدور الناس، ليصد السبيل عمَّا يتلوه النبي r من الحق.
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها: أن سلطان الشيطان منفي عن المؤمنين المتوكلين، ومَن أكثر إيماناً وتوكلاً من الأنبياء الكرام صلاة ربي وسلامه عليهم أجمعين ؟
ومعنى السلطان: الحجة الواضحة, وعليه فلا إشكال؛ إذ لا حجة مع الشيطان البتة.
ففاعل " تَمَنَّى " محذوف تقدير: إيمان قومه. وتقدير الجملة: إذا تمنى الرسول إيمان قومه الكافرين.
والمُلقي هو: الشيطان وحِزبُه.
والمُلقى به: الوسوسة بإثارة الشبهات؛ لتشويش على الحق الذي يدعو إليه الأنبياء والدعاة.
والمُلقى إليه: الناس الذين يخاطبهم النبي والداعية.

يتلقى رؤوس الكفر ما يلقيه إليهم الشيطان من وساوس؛ لإبطال أمنية الرسول.. وينشرونها بين العامة؛ لمحاربة ما يدعو إليه الرسول.. ولكن سنة الله Y الثابتة، بنسخ تلك الشبه على يد جنده الدعاة، وذلك بأن يزيلوا الشبهات ويفندوها.. فيُحكِم الحق على أيديهم.. وبعدها تكون الخاتمة والتمكين والحق للمؤمنين.

----------------------------------
[1]
سبق بيان ذلك في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول.


===================================



ومما جاء في المَوضع المذكور في الحاشية [1]

جاء في صفحة (#) " ..... ونحن نقول إن الوحي الصادق أبعد من أن تعلِّمه الشياطين. فالله لا يسمح للشياطين أن يحملوا كلامه للبشر ".

النقد:
كلامه صحيح، فالفرق بين الدين الصحيح وغير الصحيح، أن الصحيح: " لا يسمح للشياطين أن يحملوا كلام الله للبشر " ، وهو ما جاء في سورة الشعراء " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) ".
أما الدين غير الصحيح فهو الذي يؤمن أن الشيطان يستطيع أن يتزيا بزي الملائكة والأنبياء (انظر: رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 11/14).
جاء في دائرة المعارف الكتابية 2/520: " قد يتنكر الشيطان أحياناً في شبه ملاك النور، أو رسول ديني ".

وأولئك القوم آخر من يتحدث عن التعاون مع الشياطين، فقد تآمر (ربهم) مع الشيطان (الروح الشرير) لإغواء (أخآب)!! كما في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الملوك الأول: " (19) قد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره (20) فقال الرب من يغوي أخآب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد. فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا (21) ثم خرج الروح ووقف أمام الرب وقال أنا اغويه. وقال له الرب بماذا (22) فقال أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه. فقال إنك تغويه وتقتدر. فاخرج وافعل هكذا (23) والآن هوذا قد جعل الرب روح كذب في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء والرب تكلم عليك بشر ".
وإن كان لكثرة أسماء وألقاب الشيطان دلالة، [وهي شبهة سبق نقدها قبل صفحات]
وإن كان لكثرة أسماء وألقاب الشيطان دلالة، فبغض النظر عن كثرة وتنوع أسماء الشيطان في العهد القديم، ذكَرَ كتبة العهد الجديد له أكثر من عشرة أسماء وألقاب: منها:
"
الخصم " انظر رسالة بطرس الأولى [5/18]. وفي رؤيا يوحنا: " أبدون " [9/11]، و" المضل لكل العالم " و"التنين " [12/9]، و " المشتكي على الإخوة " [12/10]. وفي إنجيل يوحنا: " أبو الكذاب " [8/44]، كما جعَلَ له سلطة في هذا العالم، فهو " رئيس العالم !! "، انظر: [12/31]. بل جعله بولس " إله هذا الدهر !! " انظر رسالته الثانية إلى كورنثوس 4/4. وجعلَ له " سلطان الموت "، انظر رسالته إلى العبرانيين 2/14.
والأشد غرابة أن سفر إشعيا [14/12] وصَفَ الشيطان بأنه: " قاهر الأمم، وزهرة بنت الصبح " ووصِفَ يسوع في رؤيا يوحنا [22/16] بأنه زهرة الصبح المنير !
فأي الكتب أحق أن يكون الشيطان قد أنزلها، آلذي قال: " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا " [النساء: 76]؟ أم الذي وصفه برئيس العالم، وإله الدهر، وسمح له بالتسلط على الإله وتجربته،[1] هذا بالإضافة إلى نسبة مختلف النقائص إلى المعبود بحق Y والملائكة المقربون، والأنبياء الكرام ؟

---------------------
[1]
ذكر متى في إنجيله 4/8: " ثم أخذه إبليسُ أيضاً إلى قمة جبلٍ عالٍ جداً، وأراه جميعَ ممالك العالم وعظمتها، وقال له: أعطيك هذه كلها إنْ جثوت وسجدتَ لي ".
وعلقت دائرة المعارف الكتابية 1/33: " من الجدير بالملاحظة، أن يسوع لم يعترض على دعوى الشيطان بسيادته على هذا العالم ".

 

 

بواسطة : رحيم

 

 

 

 

تحت عنوان : ( وحي من الشيطان ) كتب أعداء الاسلام ما يلي :

 جاء في سورة الحج :
(( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .))

قال المفسرون :  إن محمدا لما كان في مجلس قريش أنزل الله عليه سورة النجم فقرأها حتى بلغ أفرأيتم اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدّث به نفسه ويتمناه - وهو تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لتُرتَجى . فلما سمعت قريش فرحوا به ومضى محمد في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده، كما سجد جميع المشركين. وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. وقد عرفنا أن الله يحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده .

ونحن نسأل : كيف يتنكر محمد لوحدانية الله ويمدح آلهة قريش ليتقرب إليهم ويفوز بالرياسة عليهم بالأقوال الشيطانية؟ وما الفرق بين النبي الكاذب والنبي الصادق إذا كان الشيطان ينطق على لسان كليهما ؟

الجواب :

هذا الكلام مبني على رواية باطلة مكذوبة ، قال عنها ابن كثير وغيره : " لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح " .

وقد سئل ابن خزيمة عن هذه القصة فقال : من وضع الزنادقة .

وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ورواية البخاري عارية عن ذكر الغرانيق .

وقال الإمام ابن حزم : (( والحديث الذي فيه : وانهن الغرانيق العلا ، وان شفاعتهن لترجى . فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولامعنى للأشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد )) [ الاسلام بين الانصاف والجحود ] ص 69

واستناداً إلى القرآن والسنة واللغة والمعقول والتاريخ نفسه فإن هذه الرواية باطلة مكذوبة :

1- لأن أسانيدها واهية وضعيفة فلا تصح .

2- لأن النبى صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغه للرسالة محتجين بقوله سبحانه وتعالى : 

(( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ  لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )) [ الحاقة : 44 ]  

3- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الأصنام في الجاهلية إذ لم يعرف عنه أنه تقرب لصنم بل قال : (( بغض إلي الأوثان والشعر ))  .

هذا وأليك أيها القارىء الكريم التفصيل من كتاب ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) للعلامة الالباني رحمه الله : 

أولاً : بين يدي الروايات :

         إن هذه القصة قد ذكرها المفسرون عند قوله تعالى : (( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم 52 ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد 53 وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم  )) [الحج : 54 ] .

وقد اختلفوا في تفسير قوله تعالى : ( تمنى ) و ( أمنيته ) ، وأحسن ما قيل في ذلك : إن ( تمنى ) من " الأمنية " وهي التلاوة ، كما قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليلة * * * وآخرها لاقى حِمام المقادر

     وعليه جمهور المفسرين والمحققين ، وحكاه ابن كثير عن أكثر المفسرين ، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة فقال في " إغاثة اللهفان " ( 1 / 93 ) :

           " والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته " وبيّنه القرطبي فقال في " تفسيره " ( 12 / 83 ) :

     وقد قال سليمان بن حرب : إن ( في ) بمعنى : عند ، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله عز وجل : ( ولبثت فينا ) ( الشعراء : 18 ) ، أي عندنا ، وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق ، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي .

     قلت : وكلام أبي بكر سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من المعنى في تفسير الآية ، هو اختيار الإمام ابن جرير ، حيث قال بعد ما رواه عن جماعة من السلف ( 17 / 121 ) : " وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله تعالى : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته ) [الحج : 52] على ذلك ، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم بذلك أن الذي ألقى فيه الشيطان ، هو ما أخبر تعالى ذكره أنه نَسَخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك ، فتأمل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدّث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدّث وتكلم ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان بقوله تعالى : فيُـذْهِب الله ما يلقي الشيطان من ذلك ، على لسان نبيه ويبطله .

     هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة ، وهي كما ترى ليس فيها إلا أن الشيطان يلقي عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتتن به الذين في قلوبهم مرض ، ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق ، وترصدوا له عند كل مرصد ، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه ، ولم يقله رسوله ، فذكروا ما ستراه في الروايات الآتية ، مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة ، وذلك دَيْدَنهم منذ القديم ، كما فعلوا في غير ما آية وردت في غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ، كداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم الصلاة والسلام ، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلاً عن نبي مُـكَرَّم . كما هو مبين في محله من كتب التفاسير والقصص .

فَحذارِ أيها المسلم أن تغتر بشيء منها فتكون من الهالكين ، و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " كما قال نبيك صلى الله عليه وسلم : ( وإن الله لهادِ الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم ) [الحج : 54] .

ثانياً : روايات القصة وعللها :

     بعد أن فرغنا من ذكر الفائدة التي وعدنا بها ، أعود إلى ذكر روايات القصة التي وقفنا عليها لكي نسردها رواية رواية ، ونذكر عقب كل منها ما فيها من علة فأقول :

1 ـ عن سعيد بن جبير قال : " لما نزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول . . ) إلى قوله : ( عذاب يومٍ عقيمٍ ) ( الحج : 52 ـ 55 ) .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 120 ) من طريقين عن شعبة عن أبي بشر عنه ، وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير ، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه ، وتبعه السيوطي في " الدر المنثور " ( 4 / 366 ) ، وعزاه لابن المنذر أيضاً وابن مردويه بعد ما ساقه نحوه بلفظ : " ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى " الحديث ، وفيه :

     " ثم جاءه جبريل بعد ذلك ، قال : اعرض علَّي ما جئتك به ، فلما بلغ : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " قال جبريل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ! فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) . وهكذا أخرجه الواحدي في " أسباب النزول " من طريق أخرى عن سعيد بن حسن ، كما سيأتي .

     وقد روي موصولاً عن سعيد ، ولا يصح :

     رواه البزار  في " مسنده " عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ـ فيما أحسبه ، الشك في الحديث ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة ( النجم ) حتى انتهى إلى قوله : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، وذكر بقيته ، ثم قال البزار :

     " لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية ابن خالد وهو ثقة مشهور ، وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس " كذا في " تفسير ابن كثير " ( 3 / 129 ) .

     وعزا الحافظ في " تخريج الكشاف " ( 4 / 144 ) هذه الرواية " للبزار ، والطبري ، وابن مردويه " وعزوه للطبري سهو ، فإنها ليست في تفسيره فيما علمت ـ إلا إنْ كان يعني غير التفسير من كتبه ، وما أظن يريد ذلك ، ويؤيدني أن السيوطي في " الدر " عزاها لجميع هؤلاء إلا الطبري ، إلا أن السيوطي أوهم أيضاً حيث قال عطفاً على ما ذكر : والضياء في " المختارة " بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ، فذكر الحديث مثل الرواية المرسلة التي نقلناها آنفاً عن الدر نفسه ، ومحل الإيهام هو قوله : " بسند رجاله ثقات " بالإضافة إلى أنه أخرجه الضياء في " المختارة " فإن ذلك يوهم أنه ليس بمعلول ، وهذا خلاف الواقع ، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله كما نقلناه عن " تفسير ابن كثير " وكذلك هو في " تخريج الكشاف " وغيره ، وهذا ما لم يرد ذِكرُه في سياق السيوطي ، ولا أدري أذلك اختصار منه ، أم من بعض مخرجي الحديث ؟  وأياً ما كان ، فما كان يليق بالسيوطي أن يغفل هذه العلة ، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح ، وفيه من التغرير ما لا يخفى ، فإن الشك لا يوثق به ، ولا حقيقة فيه ، كما قال القاضي عياض في " الشفاء " ( 2 / 118 ) وأقره الحافظ في " التخريج " لكنه قال عقب ذلك :

     " ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلاً ، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل ، عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوه ، ولم يشك في وصله ، وهذا أصح طرق الحديث . قال البزار . . . " .

     قلت : وقد نقلنا كلام البزار آنفاً ، ثم ذكر الحافظ المراسيل الآتية ، ثم قال :

     " فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " .

     قلت : وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش ، ولا أدري أذلك منه ، أم من النساخ ؟ وهو أغلب الظن ، وذلك لأن قوله : " وهذا أصح طرق هذا الحديث " إن حملناه على أقرب مذكور ، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر ، منعنا من ذلك أمور :

     الأول : قول الحافظ عقب ذلك : " فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " ، فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه ، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلاً , وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له ، ويؤيده الأمر الآتي وهو :

     الثاني : وهو أن الحافظ لما رَدّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك ، قال الحافظ :

     " أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلاً ( قلت : يعني في رواته ) ، فإن الجميع ثقات ، وأما الشك فيه ، فقد يجيء تأثيره ولو فرداً غريباً ـ كذا ـ لكن غايته أن يصير مرسلاً ، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة ، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل ، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات " .

     فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق ، وسيأتي بيان ما فيه في ردنا عليه قريباً إن شاء الله تعالى .

     فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحاً عند الحافظ ، لرد به على القاضي عياض ، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق ، وهذا بين لا يخفى .

     الثالث : أن الحافظ في كتابه " فتح الباري " لم يُشِرْ أدنى إشارة هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث ، لذكره بصريح العبارة ، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق .

     الرابع : أن من جاء بعده ـ كالسيوطي وغيره ـ لم يذكروا هذه الرواية .

     فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة ( هذا ) على أقرب مذكور ، وتضطرنا إلى حمله على البعيد ، وهو الطريق الذي قبل هذا ، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل . وهو الذي اعتمده الحافظ في " الفتح " وجعله أصلاً ، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له ، وقد اقتدينا نحن به ، فبدأنا أولاً بذكر رواية ابن جبير هذه ، وإن كنا خالفناه في كون هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً .

     قلت : هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل ، ويقوي ذلك ، أعني كون إسناده مُعَلاًّ أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في " أسباب النزول " ( ص 233 ) من طريق سهل العسكري قال : أخبرني يحيى ( قلت : هو القطان ) عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى " ففرح بذلك المشركون ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اعرض علّي كلام الله ، فلما عرض عليه ، قال : أما هذا فلم آتك به ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) .

     فرجع الحديث إلى أنه ـ عن عثمان بن الأسود عن سعيد ـ مرسل ، وهو الصحيح ، لموافقته رواية عثمان هذه رواية أبي بشر عن سعيد .

     ثم وقفت على إسناد ابن مردويه ومتنه ، بواسطة الضياء المقدسي في " المختارة " ( 60 / 235 / 1 ) بسنده عنه قال : حدثني إبراهيم بن محمد : حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، ثنا جعفر بن محمد الطيالسي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة ، ثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا عثمان بن الأسود ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس :

     أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى " ، ففرج المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل ، فقال : اقرأ علّي ما جئتك به ، قال : فقرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا عن الشيطان ، أو قال : هذا من الشيطان ، لم آتك بها ! فأنزل الله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) إلى آخر الآية " .

     قلت : وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال " التهذيب " إلا من دون ابن عرعرة ، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، وقد أورده الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال ( 3 / 68 ـ 69 ) :

     " محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء ، حدث عن محمود ابن خداش ، ومحمد بن عمرو ، وابن أبي مذعور . روى عنه أحمد بن كامل القاضي ، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي " ثم ساق له حديثاً واحداً وقع فيه مكناً بـ ( أبي حرب ) ، فلا  أدري أهي كنية أخرى له ، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع ، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال : " توفي سنة ثلاثمائة " ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، فهو مجهول الحال ، وهو علة هذا الإسناد الموصول ، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء ، الحافظ الثقة ، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان ، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة ( 381 ) إحدى وثمانين وثلاثمائة ، ووقع في " التذكرة " ( 3 / 172 ) " ومائتين " وهو خطأ .

     فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الإطلاع على إسناد ابن مردويه " أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل " ، وازددنا تأكداً من أن الصواب عن عثمان بن الأسود إنما هو عن سعيد بن جبير مرسلاً كما رواه الواحدي ، خلافاً لرواية ابن مردويه عنه .

     وبالجملة ، فالحديث مرسل ، ولا يصح عن سعيد بن جبير موصولاً بوجه من الوجوه .

2 ـ عن ابن شهاب : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : ( والنجم إذا هوى ) ( النجم : 1 ) ، فلما بلغ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : " إن شفاعتهن ترتجى " سها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك ، فقال لهم : إنما ذلك من الشيطان ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) حتى بلغ ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) ( الحج : 52 ) .

     رواه ابن جرير ( 17 / 121 ) وإسناده إلى أبي بكر بن عبد الرحمن صحيح ، كما قال السيوطي تبعاً للحافظ ، لكن علته أنه مرسل [3] وعزاه السيوطي لعبد بن حميد أيضاً ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : فذكره مطولاً ، ولم يذكر في إسناده أبا بكر بن عبد الرحمن ، فهو مرسل ، بل معضل ، ولفظه كما في " ابن كثير " و " الدر " :

     " لما أنزلت سورة ( النجم ) ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنته ضلالتهم ، فكان يتمنى كفَّ أذاهم , ( وفي " ابن كثير " هدايتهم " ) ، فلما أنزل الله سورة " والنجم " قال : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت ، فقال : " وإنهن لَهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لَهِيَ التي تُرتَجى " فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، ودلقت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ( النجم ) سجد وسجد كلُّ من حضر من مسلم ومشرك ، ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ، فأنزل الله ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) ، فلما بيّـن الله قضاءه ، وبرّأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم للمسلمين ، واشتدوا عليه " [4] .

     وأخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " عن موسى بن عقبة ساقه من " مغازيه " بنحوه لم يذكر ابن شهاب كما في " الدر " ( 4 / 367 ) وغيره .

3 ـ عن أبي العالية قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جلساؤك عبيد بني فلان ، ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشرف العرب ، فإذا رأوا جلساءك أشرف قومك كان أرغب لهم فيك ، قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : فأجرى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، مثلهن لا ينسى " قال : فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حبن قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون ، فلما علم الذي أجري على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) إلى قوله ( والله عليم حكيم ) ( 52 ) ( الحج ) .

     أخرجه الطبري ( 17 / 120 ) من طريقين عن داود بن أبي هند عنه ، وإسناده صحيح إلى أبي العالية ، لكن علته الإرسال ، وكذلك رواه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .

4 ـ عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس قالا :

     " جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( والنجم إذا هوى ( 1 ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( 2 ) ) ( النجم ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى " فتكلم بها ثم مضى ، فقرأ السورة كلها ، فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ، وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذا جعلتَ لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره ) [5] إلى قوله : ( ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( 75 ) ) ( الإسراء ) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى . . . ) ( الحج : 52 ) ، قال : فسمع كل من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هو أحب إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان " .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 119 ) عن طريق أبي معشر عنهما ، وأبو معشر ضعيف ، كما قال الحافظ في " التقريب " واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي .

     ثم أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمد بن كعب القرظي وحده به أتمّ منه ، وفيه : " فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل ، الحديث " .

     ويزيد هذا ثقة ، لكن الراوي عنه ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعنه .

5 ـ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين ، فألقى الشيطان في أمنيته فقال : " إن الآلهة التي تدعى ، إن شفاعتهن لترتجى ، وإنها لَلْغرانيق العلى " فنسخ الله ذلك ، وأحكم الله آياته : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) [6] حتى بلغ ( من سلطان ) ( النجم ) ، قال قتادة : لما ألقى الشيطان ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتهم بخير ، ففرحوا بذلك ، فذكر قوله : ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) ( الحج : 53 ) .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 122 ) من طريقين عن معمر عنه ، وهو صحيح إلى قتادة ، ولكنه مرسل أو معضل . وقد رواه ابن أبي حاتم كما في " الدر " بلفظ أتم منه وهو : " قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام ، نعس ، فألقى الشيطان على لسانة كلمة فتكلم بها ، وتعلق بها المشركون عليه ، فقال : ( أفرءئتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه ولغى : " وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى " فحفظها المشركون ، واخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها ، فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) ، فدحر الله الشيطان ولقن نبيه حجته " .

6 ـ عن عروة ـ يعني ابن الزبير ـ في تسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى ( قلت وفيه : ) " فقال المشركون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر ، فلما أنزل الله ( عز وجل ) السورة التي يذكر فيها : ( والنجم ) وقرأ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال : " وإنهن لَمِنَ الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتهم لتُرتجى " وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلماتان في قلب كل مشرك وذلت بها ألسنتهم ، واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيه ( النجم ) سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة ـ كان رجلاً كبيراً ـ ، فرفع مِلْءَ كفه تراباً فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين ـ وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنتة النبي صلى الله عليه وسلم [ وحدثهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها في ( السجدة ) ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة . . فكَـبُـرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسى أتاه جبريل ] عليه السلام ، فشكا إليه ، فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام [  * وقال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ، لا أمرني بهما ربك ! ! فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه ، وقال :

     أطعتُ الشيطان ، وتكلمتُ بكلامه وشركني في أمر الله ، فنسخ الله ] عز وجل [  ما ألقى الشيطان ، وأنزل عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) إلى قوله : ( لفي شقاق بعيد ( 53 ) ) ( الحج ) . فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم " .

     رواه الطبراني هكذاً مرسلاً ، كما في " المجمع " ( 6 / 32 ـ 34 و 7 / 70 ـ 72 ) [7] وقال :

     " وفيه ابن لهيعة ، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة " .

7- عن صالح قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إن ذكر آلهتنا بخير ذكرنا إلهه بخير، فألقى في أمنيته: (أفرئيتم اللات و العزى * ومناة الثالثة الأخرى) [النجم]، "إنهن لفي الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قال: فأنزل الله (و ما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ ...) الآية [الحج:52].

     أخرجه عبد حُميد كما في "الدر" (4/366 من طريق السدي عنه، و أخرجه ابن أبي حاتم السدي لم يتجاوزه بلفظ:

     "قال: خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى المسجد ليصلي فبينما هو يقرأ، إذ قال: (أفرئيتم اللات و العزى * و مناة الثالثة الأخرى) [النجم]، فألقى الشيطان على لسانه فقال: "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى" حتى إذا بلغ آخر السورة سجد و سجد أصحابه، و سجد المشركون لذكر آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاء جبريل عرض عليه فقرأ ذينك الحرفين، فقال جبريل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه، فأنزل الله يطيب نفسه: ( و ما أرسلنا من قبلكَ...) الآية [الحج:52]

     قلت : وقد رُوي موصولاً عن ابن عباس أخرجه ابن مرديه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. و هذا إسناد ضعيف جداً، بل موضوع، فقد قال سفيان: " قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب"، و الكلبي هذا اسمه محمد بن السائب، و قد كان مفسراً نسّابة أخبارياً. وقال ابن حبان: كان الكلبي سبائياً من أؤلئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت و أنه راجع إلى الدنيا، و يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، و إن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها". قال: و مذهبه في الدين، و وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، و يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، و أبو صالح لم ير ابن عباس و لا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به؟![8]

و روي من وجوه أخرى عن ابن عباس سيأتي ذكرها، لا يصح شيء منها.

8- عن الضحاك قال: في قوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبي ٍ) الآيه [الحج:52] فإن نبي الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكه أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات و العُزّى، و يُكثر من ترديدها، فسمع أهل مكه النبي صلى الله عليه و سلم يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، و دنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم: "تلك الغرانيق العلى، و منها الشفاعة ترتجى" فقرأها النبي صلى الله عليه و سلم كذلك، فأنزل الله عليه: ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ ) إلى قوله: (و الله عليمٌ حكيمٌ*52*) [الحج].

     أخرجه ابن جرير (17/121) قال: حدثت عن الحسين يقول: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول:

     قلت : وهذا إسناد ضعيف منقطع مرسل، الضحاك هذا الظاهر أنه ابن مزاحم الهلالي الخرساني، هو كثير الإرسال، كما قال الحافظ، حتى قيل: إنه لم يثبت له سماع من أحد من الصحابه، و الراوي عنه عبيد لم أعرفه ، و ابو معاذ الظاهر أنه سليمان بن أرقم البصري، و هو ضعيف، كما في "التقريب"، و الراوي عنه الحسين هو ابن الفرج أبو علي و قيل: أبو صالح، و يعرف بابن الخياط و البغدادي، و هو ضعيف متروك، و له ترجمه في "تاريخ بغداد" و "الميزان" و "اللسان" ثم شيخ ابن جرير فيه مجهول لم يُسَمَّ.

9- عن محمد بن فضالة الظفري، و المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا: "رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قومه كفّاً عنه، فجلس خالياً، فتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفّرهم عني، و قارب رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه، و دنا منهم، و دنوا منه، فجلس يوماً مجلساً في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم (و النجم إذا هوى ) [النجم]، حتى إذا بلغ : ( أفرأيتم الاّت و العزى (19) ومناة الثالثة الأخرى ) [النجم]، ألقى الشيطان كلمتين على لسانه : "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى"، فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بهما ثم مضى، فقرأ السورة كلها، و سجد و سجد القوم جميعاً، و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، و يقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ  تراباً فسجد عليه رفعه الى جبهته، و كان شيخاً كبيراً، فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد، و بعضهم يقول: أبو أحيحة، و بعضهم يقول: كلاهما جميعاً فعل ذلك. فرفضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا قد عرفنا أن الله يحيي و يميت، و يخلق و يرزق، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، و أما إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، فكبُر ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم من قولهم، حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعَرَض عليه السورة فقال جبريل: جئتك  [10]بهاتين الكلمتين؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: قُلـتُ على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: (و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذاً لا تخذوك خليلاً (73) و لولا أن ثبتناك لقد كِدت تركنُ إليهم شيئاً قليلاً (74) إذاً لأذقناك ضعفَ الحياة و ضعفَ المماتِ ثمّ لا تجدُ لك علينا نصيراً ) [الإسراء].

     أخرجه ابن سعيد في "الطبقات" (ج1 ق1 ص 137) [11]: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه، قال: و حدثني كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا:

     قلت : وهذا إسناد ضعيف جداً، لأن محمد بن عمر، هو الواقدي، قال الحافظ في "التقريب": "متروك مع سعة علمه". و شيخه في الإسناد الأول يونس بن محمد، و والده محمد بن فضالة، لم أجد لهما ترجمة، ثم رأيت ابن أبي حاتم أوردهما (4/1/55 و 4/2/246) و لم يذكر فيهما جرحاً و لا تعديلاً. و في إسناده الثاني كثير بن زيد وهو الأسلمي المدني مُختَلف فيه، قال الحافظ: "صدوق يخطيء".

     ثم هو مرسل فإن المطلب بن عبدالله بن حنطب كثير التدليس و الإرسال، كما في "التقريب". و لذلك قال القرطبي بعد أن ساق الرواية الثانية، و حُكي عن النحاس تضعيفها كما سبق نقله عنه هناك قال: قلت: فذكره مختصراً ثم قال:

     " قال النحّاس : هذا حديث مُنكَر منقطع، و لا سيما من حديث الواقدي".

10- عن ابن عباس أن  رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ سورة (النجم) و هو بمكة، فأتى على هذه الآية (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم] فألقى الشيطان على لسانه "أنهن الغرانيق العلى" فأنزل الله: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52]، و كذا أورده السيوطي في "الدرر المنثور" (4/267) وقال:

     "أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، و من طريق أبي بكر الهذلي و أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، و من طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس".

     قلت : فهذه طرق ثلاث عن ابن عباس و كلها ضعيفه.

     أما الطريق الأولى : ففيها الكلبي و هو كذّاب كما تقدم بيانه قريباً.

     و أما الطريق الثانية : ففيها من لم يسمّ.

     و أما الطريق الثالثة : ففيها أبو بكر الهذلي. قال الحافظ في "التقريب": "أخباري متروك الحديث" لكن قد قرن فيها أيوب، و الظاهر أنه السختياني، فلا بد أن يكون في الطريق إليه من لا يُحتَج به لأن الحافظ قال في "الفتح" (8/355) بعد أن ساقه من الطرق الثلاث : " وكلها ضعيف أو منقطع".

     و قد ذكر ما يفيد أن ابن مردويه أخرجها من طريق عباد بن صهيب، و هو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته من "الميزان".

     و له طريق رابع، أخرجه ابن جرير (17/120)، حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي. ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، "أن نبي الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يُصلّي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يقول: (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم]، ألقى الشيطان: "إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى"، فجعل يتلوها، فنزل جبريل صلى الله عليه و سلم فنسخها، ثم قال له: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52].

     رواه ابن مردويه أيضاً كما في "الدرر" (4/366).

     قلت : و هذا إسناد ضعيف جداً، مُسَلسَل بالضعفاء : محمد ابن سعد، هو ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العوفي ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/322-323) و قال: "كان ليّناً في الحديث".

     و والده سعد بن محمد ترجمه الخطيب أيضاً (9/126- 127) و روى عن أحمد أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، و لا كان موضعاً لذلك".

     و عمه هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، و هو متفق على ضَعفه ترجمه الخطيب (8/29- 32)و غيره.

     و أبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضاً اتفاقاً، و قد أورده ابن حبان في "الضعفاء" و قال: "مُنكَر الحديث، فلا أدري البَلِيّة منه أو من ابنه، أو منها معاً؟" ترجمته في "تهذيب التهذيب".

     و كذا والده عطية، و هو مشهور بالضَّعف

ثالثاً : بطلان القصة متناً :

     تلك هي روايات القصة، و هي كلها كما رأيت مُعَلَّة بالإرسال و الضّعف و الجَهالة، فليس فيها ما يصلُح للإحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم إن مما يؤكد ضَعفها بل بطلانها، ما فيها من الاختلاف و النّّكارة مما لا يليق بمقام النبوة و الرسالة، و إليك البيان:

     أولاً: في الروايات كلها، أو جُلها، أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه و سلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين، "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى".

     ثانياً: و في بعضها كالرواية الرابعة: "و المؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم و لا يتهمونه على خطأ و هم" ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه و سلم، و لم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان، بل اعتقدوا أنه من وحي الرحمن!! بينما تقول الرواية السادسة: "و لم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان" فهذه خلاف تلك.

     ثالثاً: و في بعضها كالرواية (1و 4 و 7 و 9): أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: "معاذ الله! لم آتك بهذا، هذا من الشيطان!!".

     رابعاً: و في الرواية الثانية أنه صلى الله عليه و سلم سها حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا ينتبه من سهوه؟!

     خامساً: في الرواية العاشرة الطريق الرابع: أن ذلك ألقيَ عليه و هو يصلي!!

     سادساً: و في الرواية (4 و 5 و 9 ) أنه صلى الله عليه و سلم تمنّّى أن لا ينزل عليه شيء من الوحي يَعيبُ آلهة المشركين، لئلا ينفروا عنه!! و انظر المقام الرابع من كلام ابن العربي الآتي (ص50)
     سابعاً: و في الرواية (4 و 6 و 9) أنه صلى الله عليه و سلم قال عندما أنكر جبريل ذلك عليه "أفتريتُ على الله، و قلتُ على الله ما لم يقل، و شركني الشيطان في أمر الله!!".

     فهذه طامّات يجب تنزيه الرسول منها لا سيّما هذا الأخير منها فإنه لو كان صحيحاً لصدق فيه، عليه السلام، - وحاشاه- قوله تعالى: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا من الوتين (46)) [الحاقة]

     فثبت مما تقدم بطلان هذه القصة سنداً و متناً. و الحمد لله على توفيقه و هدايته.

رابعاً : سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه و سلم :

رب سائل يقول : إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة و السلام جملة "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه و سلم و ليس ذلك من عادتهم؟

     و الجواب ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفاً:

     "و ليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، و إلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم و خوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: "و أنه أهلك عاداً الأولى (50) و ثمود فما أبقى (51) و قوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم و أطغى (52) و المؤتفكة أهوى (53) فغشّاها ما غشّا (54)" إلى آخر الآيات [النجم]. فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، و لعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه و سلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير و جمع كثير، و قد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم و لو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، و لا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه و سلم، فقد نزلت سورة (حم السجده) بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول "الإتقان" فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ و ثمود (13)" [فصّلت]! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ناشده الرحم و اعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ و قال: "كيف و قد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب" و قد أخرج ذلك البيهقي في "الدلائل" و ابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

     و يمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، و لايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: "أفرأيتم اللات و العزّى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)" [النجم]، بناء على أن المفعول محذوف و قدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: (ألكم الذكر و له الأنثى (21)" [النجم]. وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثاً، و الحب لشيء يعمي و يُصمّ، و ليس هذا بأبعد من حملهم "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين".

     "و سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك و أتوب إليك".

محمد ناصر الدين الألباني