شبهات حول حجية السنة
ظهرت في حِقَب من التاريخ الإسلامي فرق
وطوائف أنكرت السنة والاحتجاج بها ، فمنهم من أنكرها صراحة ودعا
إلى نبذها بالكلية سواءً أكانت متواترة أم آحادية زعماً منهم أنه
لا حاجة إليها ، وأن في القرآن غنية عنها ، ومنهم رأى الحجية في
نوع منها دون غيره .
وكان أول من تعرض لهذه المذاهب وردَّ على
أصحابها ودحض شبهاتهم الإمام الشافعي رحمه الله حيث عقد فصلاً خاصاً
في كتاب " الأم " ذكر فيه مناظرة بينه وبين بعض من يرون ردَّ
الأخبار كلِّها ، كما عقد في كتاب " الرسالة "فصلاً طويلاً في حجية
خبر الآحاد .
وكادت تلك الطوائف التي أنكرت السنة جملة أن
تنقرض ، حتى نبتت نابتة جديدة - في عصرنا الحاضر - غذَّاها
الاستعمار بنفسه وأيدها مادياً ومعنوياً ، في محاولة منه للقضاء
على الإسلام وهدم أصوله وأركانه .
وكان أحد هؤلاء الذين دعوا إلى ترك الحديث
والاعتماد على القرآن فقط : الدكتور توفيق صدقي الذي كتب مقالين في
مجلة المنار بعنوان " الإسلام هو القرآن وحده " .
وتبع ذلك ظهور جماعة في شبه القارَّة
الهندية دعت إلى الأخذ بالقرآن فقط ، وأنكرت أن يكون للأحاديث أي
قيمة تشريعية ، وهم الذين عرفوا بـ " بالقرآنيين " أو " جماعة أهل
القرآن " ، مردِّدين نفس الحجج والشبه التي استند إليها توفيق صدقي
.
ومن ذلك ما فهموه من قوله تعالى { مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام 38) ، وقوله
سبحانه : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ
شَيْءٍ } (النحل 89).
فقالوا : إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن
الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين ، وكلَّ حُكم من أحكامه ، وأنه
بيَّن ذلك وفصَّله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر ، وإلا كان الكتاب
مفرِّطاً فيه ، ولما كان تبياناً لكل شيء ، فيلزم الخُلْف في خبره
سبحانه وتعالى .
وجواباً على هذه الشبهة يقال : ليس المراد
من الكتاب في قوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ } (الأنعام 38) القرآن ، وإنما المراد به اللوح المحفوظ ،
فإنه هو الذي حوى كل شيء ، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها
وصغيرها ، جليلها ودقيقها ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، على
التفصيل التام ، بدلالة سياق الآية نفسها حيث ذكر الله عز وجل هذه
الجملة عقب قوله سبحانه : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ }
(الأنعام 38) أي مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها ، كما كتبت
أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم كل ذلك مسطور مكتوب في اللوح المحفوظ لا
يخفى على الله منه شيء .
وعلى التسليم بأن المراد بالكتاب في هذا
الآية القرآن ، كما هو في الآية الثانية وهي قوله سبحانه : {
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }
(النحل 89) فالمعنى أنه لم يفرِّط في شيء من أمور الدِّين وأحكامه
، وأنه بيَّنها جميعاً بياناً وافياً .
ولكن هذا البيان إما أن يكون بطريق النص مثل
بيان أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة ، فبيَّن الله في
كتابه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وحِلِّ البيع والنكاح ،
وحرمة الرِّبا والفواحش ، وحِلِّ أكل الطيبات وحُرْمة أكل الخبائث
على جهة الإجمال والعموم ، وتَرَك بيان التفاصيل والجزئيات لرسوله
صلى الله عليه وسلم .
ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن
الشِخِّير : " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال : والله ما نبغي بالقرآن
بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن .
وروي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل يحمل
تلك الشبهة : إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر
فيها بالقراءة ، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال
أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا ، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة
تفسر ذلك " .
وإما أن يكون بيان القرآن بطريق الإحالة على
دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُجَجاً
على خلقه .
فكل حكم بينته السنَّة أو الإجماع أو القياس
أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة ، فالقرآن مبَيِّن له حقيقة ، لأنه
أرشد إليه وأوجب العمل به ، وبهذا المعنى تكون جميع أحكام الشريعة
راجعة إلى القرآن .
فنحن عندما نتمسك بالسنة ونعمل بما جاء فيها
إنما نعمل في الحقيقة بكتاب الله تعالى ، ولهذا لما قال عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه : " لعن الله الواشمات والموتشمات
والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله " بلغ ذلك امرأة
من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك
أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين
اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ،
أما قرأتِ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا } ( الحشر 7) ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد
نهى عنه .
وحُكِي أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في
المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب
الله تعالى ، فقال رجل : ما تقول في المُحْرِم إذا قتل الزُّنْبُور
؟ فقال لا شيء عليه ؟ فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال
الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ( الحشر 7)
، ثم ذكر إسناداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) رواه الترمذي وغيره ،
ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال " للمُحْرِم قتل
الزُّنْبُور " فأجابه من كتاب الله .
قال الإمام الخطابي رحمه الله " أخبر سبحانه
أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانَه الكتابُ ، إلا أن
البيان على ضربين : بيان جَلِيّ تناوله الذكر نصاً ، وبيان خفِيّ
اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً ، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل
بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله
سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل44) ، فمن جمع بين الكتاب
والسنة فقد استوفى وجهي البيان " أهـ .
وبذلك يتبين ضلال هؤلاء وسوء فهمهم وتهافت
شبهاتهم ، وأنه لا منافاة بين حجية السنة وبين كون القرآن تبياناً
لكل شيء ، والحمد لله أولاً وآخراً .
تقدمت الإشارة - في الجزء الأول من هذا
الموضوع - إلى بعض الشبه التي استند إليها منكروا حجية السنة في
العصر الحديث ، حيث استدلوا ببعض الآيات التي أساءوا فهمها
وتأوَّلوها على غير وجهها ، محرفين فيها الكلم عن مواضعه .
وإضافة إلى ما استدلوا به من آيات ، فقد
تمسكوا أيضاً بجملة أخبارٍ منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
- تؤيد - بحسب زعمهم - ما ذهبوا إليه من عدم الاحتجاج بالسنة ،
ووجوب عرض ما جاء فيها على كتاب الله .
ومن هذه الأخبار ما روي أنه - صلى الله عليه
وسلم - دعا اليهود فحدّثوه فخطب الناس فقال : ( إن الحديث سيفشو
عنِّي ، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف
القرآن فليس عنِّي ) ، فقالوا : إذا أثبتت السنة حكماً جديداً
فإنها تكون غير موافقة للقرآن ، وإن لم تثبت حكماً جديداً فإنها
تكون لمجرد التأكيد فالحجة إذاً في القرآن وحده .
ومن هذه الأخبار التي استدلوا بها ما روِي
أنه - صلى الله عليه وسلم- قال : ( إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً
تعرفونه ولا تنكرونه ، قلته أم لم أقله فصدّقوا به ، فإني أقول ما
يُعرَف ولا يُنكَر ، وإذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا
تعرفونه فلا تصدِّقوا به ، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا يُعرَف ) ،
فقالوا هذا يفيد وجوب عرض الحديث المنسوب إليه - صلى الله عليه
وسلم - على المستحسن المعروف عند الناس من الكتاب أو العقل ، فلا
تكون السنة حجَّة حينئذ .
ومن تلك الأخبار أيضاً ما رُوِي أنه - صلى
الله عليه وسلم - قال : ( إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه
، ولا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه ) ، وفي رواية : ( لا
يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ، فإني لا أحلُّ لهم إلا ما أحلَّ الله
ولا أحرَّم عليهم إلا ما حرَّم الله ) .
هذه هي خلاصة الشبه التي أوردوها ، وهي شبه
ضعيفة متهافتة لا تثبت أمام البحث والنظر الصحيح ، وتدل على مبلغ
جهلهم وسوء فهمهم .
وجواباً على ما أوردوه من أحاديث يقال :
أما الحديث الأول : ( إن الحديث سيفشو عني
.... ) فإن أحاديث العرض على كتاب الله ، كلها ضعيفة لا يصح التمسك
بشيء منها كما ذكر أهل العلم ، فمنها ما هو منقطع ، ومنها ما بعض
رواته غير ثقة أو مجهول ، ومنها ما جمع بين الأمرين ، وقد بَيَّن
ذلك ابن حزم ، و البيهقي ، و السيوطي ، وقال الشافعي في الرسالة :
" ما روَى هذا أحدٌ يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير ، وإنما هي
رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء " ، بل
نقل ابن عبد البر في جامعه عن عبد الرحمن بن مهدي قوله : "
الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث " ، ثم قال : " وهذه الألفاظ
لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من
سقيمه " .
بل إن الحديث نفسه يعود على نفسه بالبطلان ،
فلو عرضناه على كتاب الله لوجدناه مخالفاً له ، فلا يوجد في كتاب
الله أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منه إلا ما
وافق الكتاب ، بل إننا نجد في القرآن إطلاق التأسي به - صلى الله
عليه وسلم - ، والأمر بطاعته ، والتحذير من مخالفة أمره على كل حال
، فرجع الحديث على نفسه بالبطلان .
ومما يدل على بطلانه كذلك معارضته الصريحة
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته
يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا ندري ما
وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) رواه أبو داود .
وعلى التسليم بصحة الخبر فليس المراد منه أن
ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم نوعان : منه ما يوافق
الكتاب فهذا يُعمل به ، ومنه ما يخالفه فهذا يُردُّ ، بل لا يمكن
أن يقول بذلك مسلم ، لأن في ذلك اتهاماً للرسول عليه الصلاة
والسلام بأنه يمكن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، وكيف لمؤمن أن
يقول ذلك وقد ائتمنه الله على وحيه ودينه وقال له : { قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } (يونس 15)
.
فالرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أن
يصدر عنه ما يخالف القرآن ، ولا يمكن أن يوجد خبر صحيح ثابت عنه
مخالفٌ لما في القرآن .
فيكون معنى الحديث إذاً : " إذا رُوِي لكم
حديث فاشتبه عليكم هل هو من قولي أو لا فاعرضوه على كتاب الله ،
فإن خالفه فردُّوه فإنه ليس من قولي " ، وهذا هو نفسه الذي يقوله
أهل العلم عندما يتكلمون على علامات الوضع في الحديث ، فإنهم
يذكرون من تلك العلامات أن يكون الحديث مخالفاً لمحكمات الكتاب ،
ولذلك قال " فما أتاكم يوافق القرآن : فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف
القرآن فليس عنِّي".
وعندما نقول : إن السنة الصحيحة لابدَّ وأن
تكون موافقة للقرآن غير مخالفة له ، فلا يلزم أن تكون هذه الموافقة
موافقة تفصيلية في كل شيء ، فقد تكون الموافقة على جهة الإجمال ،
فحين تبين السنة حكماً أجمله القرآن ، أو توضِّح مُشْكِلاً ، أو
تخصص عامَّاً ، أو تقييد مطلقاً ، أو غير ذلك من أوجه البيان ،
فهذا البيان في الحقيقة موافق لما في القرآن ، غير مخالف له .
بل حتى الأحكام الجديدة التي أثبتتها السنة
ودلَّت عليها استقلالاً ، هي أيضاً أحكام لا تخالف القرآن ، لأن
القرآن سكت عنها على جهة التفصيل ، وإن كان قد أشار إليها وتعرض
لها على جهة الإجمال حين قال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ( الحشر 7) .
وأما الحديث الثاني : ( إذا حُدِّثتم عنِّي
حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ....) ، فرواياته ضعيفة منقطعة كما قال
البيهقي و ابن حزم وغيرهما ، فضلاً عما فيه من تجويز الكذب عليه -
صلى الله عليه وسلم - وذلك في عبارة : ( ما أتاكم من خبر فهو عنِّي
قلته أم لم أقله ) ، وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
يسمح بالكذب عليه وهو الذي تواتر عنه قوله : ( من كذب عليَّ
متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار ) أخرجاه في الصحيحين .
وقد رُوي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها
لفظ ( قلته أم لم أقله ) منها رواية صحيحة أخرجها الإمام أحمد : (
إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم
وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره
قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا
أبعدكم منه ) .
والمراد منه أن من أدلَّة صحة الحديث وثبوته أن يكون وفق ما جاءت
به الشريعة من المحاسن ، وأن يكون قريباً من العقول السليمة والفطر
المستقيمة ، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على عدم صحته ، وهذا
هو الذي يقوله علماء الحديث عند الكلام على العلامات التي يعرف بها
الوضع وليس هذا مجال بسطها .
نعم قد تقصر عقولنا عن إدارك الحكمة
والعلَّة ، فلا يكون ذلك سبباً في إبطال صحة الحديث وحجيته ، فمتى
ما ثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب علينا
قبوله وحسن الظن به ، والعمل بمقتضاه ، واتهام عقولنا ، قال ابن
عبد البر : كان أبو إسحاق إبراهيم بن سيار يقول : " بلغني أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من فم القربة ، فكنت أقول :
إن لهذا الحديث لشأناً ، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء فيه
هذا النهي ؟ فلما قيل لي : إن رجلاً شرب من فم القربة فوكعته حية
فمات ، وإن الحيات والأفاعي تدخل أفواه القرب علمت أن كل شيء لا
أعلم تأويله من الحديث أن له مذهباً وإن جهلته ".
وأما الحديث الثالث : ( إني لا أحلُّ إلا ما
أحلَّ الله في كتابه ....) ، فهو حديث منقطع في كلتا روايتيه كما
قال الشافعي و البيهقي و ابن حزم .
وعلى فرض صحته فليس فيه أيُّ دلالة على عدم
حجية السنة بل المراد بقوله : ( في كتابه ) ما أوحى الله إليه -
كما قال البيهقي - فإن ما أوحى الله إلى رسوله نوعان : أحدهما وحي
يتلى ، والآخر وحي لا يتلى ، ففسَّرَ الكتاب هنا بما هو أعم من
القرآن .
وقد ورد في السنة استعمال الكتاب في هذا
المعنى في الحديث الذي رواه الإمام البخاري حيث قال - صلى الله
عليه وسلم - لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم
والخادم : (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة
والغنم ردٌّ ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس إلى
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- فرُجِمت ، فجعل - صلى الله عليه وسلم
-حكم الرجم والتغريب في كتاب الله ، مما يدُلُّ على أن المراد عموم
ما أوحي إليه .
وحتى لو سلمنا أن المراد بالكتاب القرآن ،
فإن ما أحلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حرمه ولم ينص
عليه القرآن صراحة ، فهو حلال أوحرام في القرآن لقول الله تعالى :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا } ( الحشر 7) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا
هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا
وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه
حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما
حرم الله ) رواه الترمذي وغيره .
وأما رواية : ( لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء
...) ، فقد قال فيها الشافعي إنها من رواية طاووس وهو حديث منقطع .
وعلى افتراض ثبوتها فليس معناها تحريم
التمسك بشيء مما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتجاج به .
وإنما المراد أنه -صلى الله عليه وسلم - في
موضع القدوة والأسوة ، وأن الله عز وجل قد خصَّه بأشياء دون سائر
الناس فأبيح له ما لم يبح لغيره ، وحُرِّم عليه ما لم يُحرَّم على
غيره ، فكان المعنى : لا يتمسكن الناس بشيء من الأشياء التي خصني
الله بها ، وجعل حكمي فيها مخالفاً لحكمهم ، ولا يقس أحدٌ نفسه
عليَّ في شيء من ذلك ، فإن الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى ، فهو
الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام ، وفرَّق بيني وبينهم في
بعضها الآخر .
وبهذا يتبين أن الأحاديث التي استند إليها
أصحاب هذه الشبهة منها ما لم يثبت عند أهل العلم ، ومنها ما ثبت
ولكن ليس فيه دليل على دعواهم ، فلم يبق لهؤلاء المبتدعة - الذين
نابذوا السنة ، وتأولوا القرآن على غير وجهه - من حجة إلا اتباع
الهوى ، وصدق الله إذ يقول : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (القصص 50) ، نعوذ
بالله من اتباع الهوى ، ومن الزيغ بعد الهدى .