رداً على أكاذيب زكريا بطرس حول الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

 
بقلم / الأستاذ الدكتورعبدالعظيم المطعني

 
النسخ في عرف الشرائع هو إحلال حكم محل حكم آخر لحكمة معقولة المعنى ومقبولة، ومنذ عهد طويل اتخذ مخالفو الإسلام هذا النسخ وسيلة للتشكيك في الإسلام بناء على مقولة باطلة تصورها اليهود وروجوا لها وهي: أن النسخ في كلام الله لا يجوز لأنه لا يترتب عليه اتهام الله بالجهل والنقص، لأنه إذا قضى بحكم في أي مسألة من مسائل التكليف الذي أمر الله بها عباده، فيجب أن يكون هذا الحكم معصوماً من الخطأ لأنه صادر عن الله، فإذا نسخ "ألغى" هذا الحكم فمعناه أنه اكتشف خطأ في الحكم الأول فتدارك هذا الخطأ يوضع الحكم الجديد موضع الحكم الأول!!
 
ويسمون هذا بـ"البداء" أي الظهور وهو ظهور الخطأ في الحكم الأول والصواب في الحكم الثاني الذي نسخ الحكم الأول وحل محله؟ هذه مقولة اليهود التي روجوا لها ثم زعموا أن هذا النسخ ليس له وجود إلا في القرآن، ولما كانت كلمات الله لا تتبدل كما ورد ذلك في القرآن في عدة آيات لم يفهموا معناها، او فهموه ولكنهم حرفوه - كعادتهم – رتبوا على وجود النسخ في القرآن طعنين.
 
أحدهما: أنه ليس وحيا من عند الله، لأنه لو كان من عند الله لامتنع أن يكون فيه نسخ!
والثاني: أنه- إن كان من عند الله - فهو محرف ومبدل، وليس باقياً على الصفة التي أنزله الله عليها؟ أما استدلالهم على النسخ في القرآن فقد تزرعوا فيه بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة البقرة : 106
 
وليس لهم في هذه الآية أي دليل، لأن المراد من كلمة { آيَةٍ} هي المعجزات المادية الحسية، التي كان الله يؤيد بها رسله، والمعجزات الحسية المادية محددة الزمان، تقع في لحظة تطول أو تقصر، ثم تختفي وهي – أي المعجزات الحسية المادية- لا تبقى زمانين كجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وانفجار الماء من الحجر حين ضربه موسى بعصاه لما أمره الله بهذا الضرب، وهي كذلك محددة المكان، تقع في موضع دون بقية المواضع.
 
والمراد بنسخ المعجزة الحسية المادية هو توقفها وخفاؤها بعد ظهورها بمعنى أن برودة النار وسلامتها على إبراهيم عليه السلام اختفت بعد زمن وقوعها وكذلك طوفان نوح عليه السلام والميت الذي أحياه عيسى عليه السلام بإذن الله وقدرته، كل هذا اختفى من آماد بعيد.. لان المعجزة الحسية المادة لا تبقى زمانين كما سلف.

أما نسيان أو إنساء الله المعجزات الحسية المادية فهذا أمر فطري "طبيعي" لأن تلك المعجزات كانت في ذاكرة الذين شاهدوها لحظة وقوعها، ثم تأخذ في الاختفاء والنسيان جيلا بعد جيل. هذا هو المقصود من قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يعني إذا اختفت معجزة بعد وقوعها فإن الله قادر على أن يأتي هو { بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي أقوى وأظهر منها لأن المعجزات الحسية المادية تتفاوت فيما بينها في الضخامة وقوة التأثير على مشاهديها فطوفان نوح عليه السلام هو في نفسه أقوى وأظهر من تفجر الماء من الحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه وليس المراد من الخيرية في الآية المقارنة بين ما هو أقل خيراً وأكثر خيراً، كما فهم قمص قناة الحياة (إياها) زكريا بطرس.
 
هذا هو المراد من الآية {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (سورة البقرة : 106) فالنسخ فيها لا علاقة له أبداً بإحلال حكم شرعي محل حكم شرعي آخر، وليس المراد من {مِنْ آيَةٍ} هي الآية القولية في القرآن، حتى يقال أن القرآن يثبت تبديل كلام الله، أو كما قال مهرج قناة الحياة أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) نسي سوراً كاملة من القرآن ولم يبلغها للمسلمين؟!

هذا اللغو باطل.. ونسأل مهرج قناة الحياة: إذا كان محمد الذي نزل عليه القرآن نسي سوراً كاملة ولم يبلغها للمسلمين فمن أين علم هو بهذه السور التي لم يبلغها فتلقى الوحي ومحيت من ذاكرته وبهذا يتضح من أقصر طريق أن هذه الآية لا صلة لها بالنسخ في الأحكام الشرعية، أما استدلالهم بقوله تعالى : { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (سورة الكهف : 27) يعني كلمات الله، فيخطئون خطأ شنيعاً في فهمها لأنهم يفهمون منها الكلام الموحى من عند الله سواء كان في الكتب السابقة على القرآن، أو في القرآن نفسه، بينما المراد من كلمات الله في هذه الآية وأمثالها: هي سنن الله في خلقه والقوانين النافذة في الكون والمجتمع، وهذا شيء شرحه يطول، ومن أمثلته.. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 85) هي سنة مطردة قاهرة لا يمكن لأحد تبديلها أو تعطيلها.
 
أما الزعم بأن النسخ خاص بالقرآن، وأن جميع ما سبقه من الكتب السماوية ليس فيه نسخ فهذه دعوى من أكذب الدعاوى على الإطلاق. وإذا رجعنا إلى "الكتاب المقدس" بعهديه القديم والجديد، وجدنا أن النسخ فيه أكثر من أن يحصى بدءاً من شريعة آدم، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم.

ففي شريعة آدم كان الأخ يتزوج من أخته الشقيقة فحدث في شريعة إبراهيم تعديل لهذا الحكم، فقد كانت سارة زوجة إبراهيم أختاً له من أبيه لا من أمه ولذلك قال عنها إبراهيم وليست ابنة أمي.. إنها أختي بالحقيقة بنت أبي، أنظر سفر التكوين الإصحاح العشرين الآية الثامنة عشر.

وإنما قال إبراهيم [وليست ابنة أمي] لأن الزواج بالأخت من الأم كان لا يجوز في شريعة إبراهيم عليه السلام فهذا نسخ وقع بين شريعة آدم عليه السلام وبين شريعة إبراهيم عليه السلام، ثم جاءت شريعة موسى فحرمت الزواج بالأخت تحريماً مطلقاً سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم، فقد جاء في سفر الأحبار (اللاويين) بالإصحاح الثامن عشر، الفقرة التاسعة ما يأتي: [لا تكشف عورة أختك من أبيك أو من أمك] وفي الإصحاح العشرين من السفر المذكور الفقرة السابقة نص على أن الزواج من الأخت مساو للزنا في الحرمة، إذ جاء فيها أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو ابنة أمه ورأى عورتها ورأت عورته فهذا عار شديد فيقتلان أمام شعبهما.
 
وفي الإصحاح السابع من سفر التثنية الفقرة الثانية والعشرين تكرر هذا التحريم حيث جاء في الموضع المذكور [يكون ملعوناً من ضاجع أخته من أبيه أو من أمه] فقد نسخت شريعة موسى عليه السلام ما كان مباحاً في شريعتي آدم وإبراهيم عليهما السلام وقضت بتجريمه والعقوبة عليه من فضيحة الإثنين معاً بتنفيذ عقوبة القتل أمام الناس.

ويلاحظ أن النسخ الذي تم بين شريعتي آدم وإبراهيم كان جزئياً بتعديل الحكم من الاتساع إلى الضيق. أما النسخ بين شريعتي إبراهيم وموسى كان كلياً بإلغاء الإباحة بكل صورها في الموضوع شاهد وقوع النسخ، وإحلال التحريم المطلق محل الإباحة الجزئية.
 
وهذا النسخ بصوره الثلاث يثبت يقيناً أن النسخ ليس خاصاً بالقرآن كما يزعم مهرج قناة الحياة، بل هو عام في جميع الشرائع السابقة عليه مع وجود فروق جوهرية سوف نشير إليها إذا سنحت الفرصة.

كذلك كانت جميع الحيوانات حلالاً لحمها للناس في شريعة نوح. جاء ذلك في سفر التكوين الإصحاح التاسع الفقرة الثالثة قول "الله" لنوح عليه السلام: [وكل ما يتحرك على الأرض وهو حي يكون لكم مأكولاً كالبقل الأخضر].

وقد جاء في شريعة موسى عليه السلام تحريم حيوانات أخرى كثيرة منها الخنزير كما هو مذكور في سفر الأحبار(اللاويين) الإصحاح الحادي عشر والإصحاح الرابع عشر من سفر الاستثناء، وبعض مترجمي التوراة إلى العربية زاد كلمة طاهر بعد كلمة حي فصارت العبارة [كل حي طاهر] لإخراج الحيوانات الحية النجسة وهذا نوع من التحريف بالزيادة في الترجمة إلى العربية.

ومن صور النسخ في شريعة موسى عليه السلام تحريم الجمع بين الأختين في الزواج بالرجل الواحد في زمن واحد، وكان هذا الجمع جائزاً في شريعة يعقوب عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل قبل موسى، ويعقوب نفسه جمع في التزوج من أختين هما ليا وراحيل، وهذا مذكور في سفر التكوين الإصحاح التاسع والعشرين، فلما كانت شريعة موسى عليه السلام نسخت هذا الحكم، واعتبرت التزوج بالأختين في وقت واحد محرماً، وقد جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر الفقرة الثامنة عشر ما يأتي: [لا تتزوج أخت امرأتك من حياتها فيحزنها ولا تكشف عورتهما جميعاً فتحزنهما].

ومن صور النسخ التي لا تقبل الجدل في شريعة عيسى عليه السلام لأحكام كانت مشروعة في شريعة موسى ما يأتي: كان طلاق الرجل زوجته جائزاً جوازاً مطلقاً لأي سبب من الأسباب، وهذا مذكور في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التثنية فجاءت شريعة عيسى عليه السلام ونسخت هذا الجواز المطلق وحصرته في سبب واحد هو الزنا.

فقد جاء في إنجيل متى الإصحاح الخامس الفقرة الحادية والثلاثين ما يأتي: [وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته لغير علة الزنا يجعلها تزني]. فهذا النسخ صريح على لسان عيسى عليه السلام كما روى متى يفيد أن جواز تطليق المرأة لأي سبب غير الزنا منسوخ في شريعة عيسى، وقد كان جائزاً في شريعة موسى.

وتكرر هذا النسخ مرة أخرى في إنجيل متى الإصحاح التاسع عشر في فقراته الأولى فليرجع إليه من شاء والنسخ في شريعة عيسى ليس مقصوراً عليه هو وحده بل شاركه فيه حواريوه (تلاميذه) وشاركه فيه بولس المسمى في العهد الجديد (الأناجيل) بولس الرسول وهو ليس من حواري المسيح عليه السلام والحواريون وبولس ليسوا رسلا موحى إليهم وحياً مباشراً من عند الله، وهذا موضع إجماع في الإيمان المسيحي كما هو معروف.

ولا نريد الإكثار من إيراد صور النسخ في الشريعة العيسوية، فذلك ليس من أهدافنا هنا، إنما هدفنا الرئيسي أن نثبت بالأدلة اليقينية من واقع النصوص المقدسة من العهدين القديم والجديد أن النسخ شائع في جميع الكتب والشرائع السماوية وليس مقصوراً على القرآن والإسلام، لنبين في وضوح كذب هذه الدعوى التي أكثروا الطنين حولها في هذه الأيام، وبخاصة زكريا بطرس مهرج قناة "الحياة".

فمن النسخ المنسوب إلى الحواريين أنهم نسخوا كل الأحكام العملية التي زخرت بها التوراة أو شريعة موسى عليه السلام إلا أربعة أحكام أبقوا على تحريمها، وهي: الزنا والدم وأكل المخنوق والذبح للأصنام وهذا مذكور في الإصحاح الخامس عشر من أعمل الحواريين.

ثم جاء بولس من بعدهم ونسخ ثلاثة من الأربعة التي أبقى الحواريين حرمتها وجعلها حلالا، وهي الدم وأكل المخنوق والذبح للأصنام، أما الزنا فأبقاه على حرمته كما هو في شريعة موسى عليه السلام كما نسخ بولس مشروعية الختان التي كانت معمولا بها في شريعة موسى، ثم استمر العمل بها في صدر شريعة عيسى، والدليل على ذلك أن عيسى نفسه عليه السلام اختتن ولما آل أمر المسيحية إلى بولس وقف العمل به (نسخه) وله في ذلك كلام منسوب إليه، وهو طويل نكتفي منه بالآتي: [وها أنا بولس أقول لكم إنكم إن إختتنتم لن ينفعكم المسيح بشيء] الإصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل غلاطية، والواقع الذي لا ينكر أن بولس لما آل إليه شأن المسيحية نسخ كل الأحكام العملية التي كانت في شريعته وعلى يديه انفصلت المسيحية عن اليهودية.
 
وكان لبولس أسباب اعتمد عليها في نسخ كل ما في الشريعة الموسوية من الأحكام العملية، وهي كثيرة نذكر منها:
1- أن تجدد الإمامة (الرسالة) يقتضي تجدد الناموس (القوانين والأحكام).
2- أن الشيء القديم البالي (شريعة موسى) قابل للفناء.
3- أن من يعمل بالناموس (شريعة موسى) يحرم من نعم المسيح.

وبهذا وغيره استباح إقصاء شريعة موسى كلها عن العمل يعني نسخها كلها، ولذلك تعتبر شريعة عيسى عليه السلام أكثر الشرائع نسخاً بلا أي منازع. هذا بالنسبة لما حدث من نسخ شريعة موسى على النحو المتقدم.

على أن في الشريعة العيسوية صوراً من النسخ والأحكام وردت فيها هي نفسها، وهي كثيرة لا نريد أن نطيل أكثر مما تقدم بذكرها أو بعض منها. أما النسخ في القرآن فله بيان خاص نرجو أن نوفيه حقه لاحقاً، والذي نذكره الآن عنه هو الآتي:
أولاً: أنه قليل إلى حد الندرة وفي أوسع الأحوال لا يتجاوز وقوع النسخ في القرآن عند المحققين آيات دون أصابع اليدين.
ثانياً: أنه مع ندرته من فعل الله نفسه، وليس لأحد سلطان، ولو كان النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، أن ينسخ حكماً قطعي الدلالة والثبوت في كتاب الله العزيز.
 
هذا بينما مر بنا أن النسخ في شريعة عيسى مارسه الحواريون (تلاميذه) ومارسه بولس، وهم جميعاً ليسوا رسلاً موحى إليهم من عند الله وحياً مباشراً، وهنا نقول لمهرج قناة (الحياة) هل أنت تجهل هذه الحقائق التي اقتبسناها مباشرة من أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؟ أم أنت تعلمها؟! فإن كنت تجهلها فلا يحق لك أن تتحدث عن أمور لا رأس لك فيها ولا قدم.
 
وإن كنت تعلمها فلا يحق لك أن تجعل النسخ في القرآن دليلاً على أنه ليس وحياً من عندالله، لأنك تؤمن بالكتاب المقدس، بأنه وحي من عند الله، وقولك بأن النسخ يقضي بأن الكلام الذي وقع فيه ينفي عنه صفة الوحي المنزل، يصيبك أنت في إيمانك، ولا يصيب سواك ممن عنيتهم، فكف عن مهاتراتك لئلا يصيبك سهمك.

 

 

 
الرئيسيه