بسم الله الرحمن الرحيم
ينقسم الوجود إلى نوعين : إمكان الوجود و وجوب الوجود . واجب الوجود هو الله سبحانه
و تعالى لأنه لا يحتاج لمن يوجده أولاً و لأن كل الموجدات تحتاج له لكي توجد ، لذا
كان وجوده واجبًا . يقول العلامة التفتازاني في شرح العقائد النسفية :
(والمحدث للعالم هو الله تعالى) أي الذات الواجب
الوجود الذي يكون وجوده من ذاته، ولا يحتاج إلى شيء أصلاً، إذ لو كان جائز الوجود
لكان من جملة العالم، فلم يصلح محدثاً للعالم ومبدأ له .
و واجب الوجود لا يجوز القول فيه : هل وجد صدفة أو علة لأنه واجب الوجود بذاته و لا
يحتاج لمن يمنحه الوجود .
اما ممكن الوجود و هو العالم بكل تفاصيله و جزئياته ، فهو يجوز أن يكون موجودًا أو
معدومًا لذا يحتاج لمن يوجده و نحن نقول لمنكري وجود الله إن هذه البيوت و المنازل
التي يسكنها الناس في القرى و المدن من قصور الملك إلى أحواخ الفقراء ، إذا كان
لابد لها من بانٍ فمن الذي بنى السموات و الأرض و المتصرف فيها و المهيمن عليها و
فاعل هذه الأفعال البديعة التي يتضمنها الكون ؟
فالذين لا يؤمنون بوجود خالق الكون و واضع نظمه مثلهم كمثل المنكرين لوجود من بنى
تلك البيوت و القصور القائلين أنها مبنية من نفسها ما داموا لم يروا بانيها و هو
يبنيها . و نحن المؤمنين بالغيب تحت إشراف العقل و إرشاده نعترف عند رؤية البناء
بوجود الباني و لو لم نره . فالفرق بيننا بسيط إلى هذا الحد ، فهل يسع الملاحدة أن
يدعوا إمكان وجود قصر أو بيت من تلك القصور أو البيوت التي هي من صنع البشر ،
بنفسها من غير وجود بان أو صانع ؟ فإن لم يسعهم ذلك فكيف يسعهم القول بوجود صرح
العالم بسمواته و أرضه بنفسه من غير وجود بانيه ؟ أليس للسموات و الأرض أهمية
كأهمية واحد من البيوت المبنية بأيدي البشر حتى تستغنيا عما لا يستغني عنه من
الباني ، أم كان استغناؤهما عن الباني لكونهما في غاية العظمة و البداعة ؟ أما
الاحتمال الأول و هو كونهما في الأهمية دون البيوت المبنية بأيدي البشر فباطل بداهة
، أما الاحتمال الثاني و هو أن يكون البناء الأعظم و الأبدع مستغنيًا عن الباني حين
كان أقل البنيان و أحقره غير مستغن عنه ففي غاية البعد من العقل .
إن القائلين باستغناء العالم عن الصانع لم يقولوا به لتفاهته و لا لكونه في غاية
العظمة بل لأنهم وجدوا صرح العالم حاضرًا أمام أعينهم مصنوعًا ، من غير حاجة إلى
نشدان صانع له و لو لم يجدوه حاضرًا لما وسعهم القول بوجود أصغر جزء منه من غير
صانع . فسبب استغناء العالم عندهم عن الموجد هو وجوده من غير حاجة إليه في نظرهم ،
و هم ليسوا أذكياء لحد أن ينتبهوا لما في هذا التعليل من مصادرة على المطلوب . و من
السهل على القارئ أن يفهم مبلغ ذكائهم من عدم أبههم بالعقل كما يابهون بالحس ، مما
دفعنا للدفاع عن كرامة العقل حيال الحس .
و لكن يمكن لهم أن يسوقوا اعتراضًا قائلين أنه كما تقولون أنتم بوجود خالق بنفسه من
غير موجد ، فنحن كذلك نقول بعالم موجود بنفسه دون الحاجة لموجد . و هذا عندنا من
المحال لأن الموجود بذاته لا يكون إلا واجب الوجود كما قلنا و يكون مستحيلاً تغيره
من حال إلى حال و وجوده أو وجود شئ منه بعد العدم و عدمه أو عدم شئ منه بعد الوجود
، بل يستحيل تركبه و تجزؤه المستلزم لاحتياجه لأجزائه و العالم المتغير المتجزئ
المحتاج على القل لأجزائه لا يكون واجب الوجود بل ممكنًا يقبل الوجود و العدم
متساويين بالنسبة إلى ذاته ، فيحتاج وجوده إلى مرجح يرجح له جانب الوجود و يوجده
بعد أن كان معدومًا ، و في عدمه إلى مرجح يرجح له جانب العدم فيعدمه بعد ان كان
موجودًا ، و في وجوده كذلك يحتاج أيضًا إلى مرجح يرجح له أن يكون على نوع معين من
أنواع الوجود و على شكل معين من أشكاله فلو أنكرنا له هذه الحاجات كان قولاً برجحان
أحد المتساويين بنفسه على الآخر من غير مرجح و هو محال متضمن للتناقض . و هذا
المرجح عندنا في وجوده أو عدمه و في كونه على نوع معين من أنواع الموجودات و على
شكل معين من أشكاله هو إرادة الله تعالى واجب الوجود .
فلو كان العالم أو أي جزء من أجزائه موجودًا بنفسه من غير موجد و وجودًا على نوع
معين و شكل معين من غير معين ، لزم الرجحان من غير مرجح أي لزم كون ما فرض وجوده و
عدمه ثم وجوده على نوع دون نوع و شكل دون شكل متساويين بالنسبة إلى ذاته ، خلاف ذلك
أي غير متساويين . و خلاف الفرض محال متضمن للتناقض
منقول
«دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم».
1- الأصل في الخالق الوجود فوجوده واجب.
2- ولا يمكن أن يكون السبب في إيجاد الممكن إلا واجب الوجود.
ونسير في هذا الدليل على أربع مراحل.
المرحلة الأولى من الدليل:
لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم،
وأنه لا ثالث بين الوجود والعدم، ولا ثالث وراء الوجود والعدم.
هذان اثنان (الوجود والعدم) إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر لا محالة، وإذا انتفى
أحدهما وُجد الآخر.
وهنا نتساءل مع أنفسنا فنقول أيهما الأصل؟
هل الوجود الذي يقابله العدم العام هو الأصل، أو العدم العام هو الأصل؟
وللإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر
هل يتعارض معه ـ على أنه الأصل ـ ما ينقضه أم لا.
وعلى هذا فلنفرض أن الأصل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو العدم.
ومعنى العدم
نفي ذات ما يخطر بالبال، ونفي صفاته،
فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء.
وبحسب هذا الافتراض نتساءل كيف استطاع العدم ـ الذي هو الأصل ـ أن يتحول إلى
الوجود؟
ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى موجودات كثيرة من حولنا؟!.
والعدم معناه كما عرّفناه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال؛
فيكف يأتي من هذا العدم العام ذوات وصفات وقوى، فتنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود،
وانطلاقها لا يكون إلا بقوة، والمفروض أن هذه القوة عدم أيضاً؟!.
إنه من المستحيل بداهة أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود، أو أن يوجد العدمُ أيُّ
شيء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى في سورة الطور: أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ
أي هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير الخالق؟
أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة
بداهة.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء من هذه الموجودات التي لا حصر لها،
ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود.
وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل.
وحيث كان الأمر كذلك فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً:
أن الأصل هو الوجود لأن الوجود كما سبق نقيض العدم ولا واسطة بينهما.
ثم نقول:
إن ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل، لأنه
متى احتاج وجوده إلى تعليل لم يكن أصلاً،
وإنما تطلب الأسباب والتعليلات للأشياء التي ليست هي الأصل.
وبهذا الاستدلال ظهر لدينا بوضوح شيئان:
أ- أن الأصل هو الوجود.
ب- أن الأصل لا يتطلب في حكم العقل سبباً ولا تعليلاً أكثر من يُقال: إنه هو الأصل.
المرحلة الثانية من الدليل:
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟
وهل يمكن أن يلحقه العدم؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
1- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية،
لأن ما كان لوجوده بداية فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده،
وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وجوده هو الأصل.
2- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يمكن أن يلحقه العدم؛ لأن كل زمن لاحق نفرض أن يطرأ
فيه العدم على ما أصله الوجود.
نقول فيه أيضاً: لا يزال الوجود هو الأصل ولا سبب لأن يطرأ عليه العدم أبداً، لأنه
لا يطرأ العدم على أي موجود من الموجودات، إلاَّ بوصف أن يكون العدم فيه هو اصل.
وإنما انتفى ذلك في زمن ما بسبب من الأسباب، فهو ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى
أصله وقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل العام ضد الوجود
ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود علمنا أنه هو الأصل.
وإلى هذه الحقيقة جاءت الإشارة في قوله تعالى في سورة الفرقان: وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ
فالحي الذي لا يموت هو من كان وجوده هو الأصل، وكذلك حياته، وصفات الكمال فيه،
فلذلك لا يُمكن أن يطرأ عليه العدم أو الموت.
المرحلة الثالثة من الدليل:
علمنا في المرحلتين السابقتين:
أ- أن الوجود من حيث هو عقلاً أن يكون هو الأصل.
ب- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له بداية، وأن يطرأ عليه العدم.
والآن: فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسيِّ في هذا الكون
الكبير، لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى، وهي أن الأصل فيها لذاتها
الوجود؟ أو ينطبق عليها ضدها وهي أن الأصل فيها العدم؟.
وهنا تبدو لنا حقيقة: أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين في هذا العالم:
قال تعالى في سورة التين: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
وأن أشياء كثيرة كان في طي العدم في أشكالها وصورها ثم وجدت كما هو مشاهد لنا
باستمرار.
كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة، في كل جزء من أجزاء هذه المواد
الكونية التي نشاهدها أو نحس بها أو ندرك قواها وخصائصها.
فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغيرات في الأشكال والصور إلى تغيرات في
الصفات والقوى،
وكل ذلك لا يعلل في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون
نفسه؛ إلا بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغيرات الكثيرة والمتعاقبة في كل
شيء من هذا الكون، على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو
المتناهي في الكبر.
ومن هذه الأسباب ما نشاهده، ومنها ما نستنتجه استنتاجاً، ولا نزال نتسلسل مع
الأسباب حتى نصل إلى وجود ذات هي وراء كل الأسباب.
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود،
لم تكن عرضة للتحول والتغير، والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج صور
وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات.
وحيث أنها عُرضة للتحول والتغير، وحيث أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب
والمؤثرات لزم عقلاً أن لا يكون الأصل فيها هو الوجود وإنما يجب عقلاً أن يكون
الأصل فيها هو العدم.
لذلك فهي تحتاج في وجودها إلى موجد.
وبهذه المرحلة من الدليل ثبت لدينا ما يلي:
أ- أن الأصل هو العدم في جميع هذه الأشياء الكونية القابلة للإدراك الحسيِّ وكل ما
شابهها في الصفات.
ب- وحيث أن الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم؛ وجب عقلاً أن يكون لها سبب
مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأول ولا يزال يؤثر باستمرار في
جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة.
وقد عرض القرآن إلى حقيقة أن الأصل فينا العدم، وأننا لم نكن ثم كنا في قوله تعالى
في سورة الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
ومعلوم بداهة أن المسبوق بالعدم لا بد له من موجد أوجده، وخالق خلقه وصوره.
المرحلة الرابعة والأخيرة من الدليل:
علمنا من المراحل الثلاث السابقة الحقائق الثلاث التالية:
1- أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
2- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء، وأن يطرأ عليه العدم.
3- أن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا ـ والتي نحن جزء منها ـ
وكذلك كل ما شابهها: الأصل فيها العدم. ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.
وهنا نقول: حيث اجتمعت لدينا هذه الحقائق الثلاث التي لا مفر منها، ولا محيد عنها،
فلا بد من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض.
وذلك لا يكون إلا وفق صورة واحدة لا ثانية لها، وهي أن نقول:
أولاً: لا بد عقلاً من وجود موجود عظيم، وجوده هو الأصل في الكائنات وعدمه مستحيل،
لذلك فهو واجب الوجود عقلاً.
ثانياً: هذا الكون المشاهد ـ بما فيه من أرض وسماوات، ونجوم ومجرات، وجماد ونبات،
وأحياء وأموات ـ الأصل فيه العدم، ولا بد لإخراجه من العدم إلى الوجود من سبب موجد.
ثالثاً: لا يكون السبب الموجد للكون بجميع ما فيه إلا موجوداً عظيماً، وجوده هو
الأصل، وهو واجب الوجود وذلك هو (الله سبحانه وتعالى).
خاتمة حول هذا الدليل:
وبهذه الطريقة من الاستدلال يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين:
كيف وُجِدَ الله سبحانه؟
لأنه تساؤل لا يعتمد على عقل،
وذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود تثبت قوانينه وصفاته أن الأصل فيه
العدم، فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم.
أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون الأصل فيه الوجود ولا يجوز عليه العدم فلا يمكن
أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل بحالٍ من الأحوال. لأن إيرادِ تساؤل من هذا
النوع يتنافى مع الحقيقة الثابتة وهي أن الأصل فيه هو الوجود.
ذات الله سبحانه وتعالى:
إن الحواس الخمس (السمع، والبصر، اللمس، والذوق، والشم) التي هي نوافذ إلى خارج
كيان الإنسان محدودة في قدرتها وفي مجالات عملها.
فالعين مثلاً لا ترى إلا ألوان الطيف السبعة، أما الأشعة فوق البنفسجية وتحت
الحمراء، والالكترونيات والقوة المغناطسية فلا تستطيع العين رؤيتها.
وقد تسحر العين أو تخدع كأن ترى الشمس كقرص الخبز والحقيقة أنها أكثر من الأرصاد:
(1.305.000) مرة، أو ترى العصا في حوض الماء مكسورة عند سطح الانفصال، أو ترى
المنازل من الطائرة كعلب السجائر، فلذا نجد عمل العين واضح محدود.
وكذلك الأذن لا تستطيع أن تسمع أصواتاً كثيرة موجودة لأن لها عملاً محدوداً لا يمكن
تجاوزه.
والأنف وهو جهاز يعرف به روائح المواد ذات الرائحة ويبطل عمله إذا أصيب بزكام وحدود
عمله ضيقة جداً إذ أن قدرته على الشم لا تتجاوز بضعة أمتار.
واللسان آلة لتمييز طعم المواد المختلفة وحدود عمل اللسان ضيقة جداً فتمييزه للطعم
محصور في نطاق ما لامس اللسان شرط أن يذوب في اللعاب.
والجلد آلة حس لما يقع على الجسم من أشياء يقدر على الإحساس بها فيميز بين الناعم
منها والخشن والصقيل والخفيف والحاد وغير الحاد والحار والبارد، وهو لا يدرك من
الأشياء إلا ما كان له ثقل معلوم فهو لا يحس الجراثيم أو الكائنات الدقيقة أو الضوء
أو الأمواج الإشعاعية كأمواج الراديو واللاسلكي، وحدود عمل الجلد ضيقة جداً تحد
بحدود الجسم.
وقوة التصور وهي مصدر الخيال الواسع، فالإنسان يركِّب ويحلل ما جاء من الحواس الخمس
في صورة جديدة مبتكرة، ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصور إلا بعد فحصه جيداً
أمام العقل ومعظم الأوهام الباطلة التي تتحكم في حياة الإنسان تنبع من تصورات
خاطئة، ولكن قوة التصور محدودة في قدرتها ومجالات عملها لأنها محدودة بالحواس
الخمس.
والعقل الذي هو آلة ليميز الإنسان الحق من الباطل، فالعقل هو القاضي الذي تعرض عليه
كل المعلومات القادمة من الحواس الخمسة ومن قوة التصور فيفصل أمرها، وقد يقع العقل
في الخطأ ولكن لا من ذاته ولكن بسبب تغرير به أثناء عرض المعلومات، كأن تقدم له
معلومات خاطئة أو ناقصة أو مشوهة، فتأتي أحكامه ناقصة مغلوطة مشوهة، فالخطأ جاء من
مؤثرات خارجية، فالعقل هو الأساس لمعرفة الحقائق الثابتة في الكون.
والعقل له حدود فإذا علمنا أن الحواس الخمس محدودة وقوة التصور كذلك، والإنسان لا
يعلم شيئاً إلا ما جاء بواسطة هذه الحواس الخمس التي هي نوافذه المفتوحة إلى خارج
كيان الإنسان. فالعقل يستطيع أن يثبت الكثير من الحقائق الثابتة التي لا ترد من
خلال الوسائل المؤثرة له.
ولكن مجال العقل محدود في كثير من الأمور، فالعقل عاجز عن إدراك كيفية عمله: كيف
يفهم؟ وكيف يميز؟ وكيف يعقل؟.
العقل يعجز عن الإحاطة بكثير من الأمور في هذا الكون فمثلاً: هو يعجز عن الإحاطة
بأكبر عدد فإذا سألته ما هو أكبر عدد؟ أجاب: أكبر عدد ما لا نهاية.
كما يعجز عن إدراك بداية الزمان أو أن يحيط بنهايته وكذلك يعجز عن إدراك نهاية
المكان.
والعقل يعرف أن أحداثاً ستقع غداً، ولكنه يعجز عن إدراكها ومعرفتها مع أنها كائنة
لا محالة ومع أن بعض الرؤى المنامية تتفوق على العقل في هذا الباب فتعرف ما سيكون
غداً فيأتي كما رأت أو قريباً منه.
والعقل يعجز عن معرفة ما سيحدث لنا بعد موتنا بثوانٍ وصدق الله الذي يقول في كتابه
العزيز: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
فإذا أدرك الإنسان قصور الحواس الخمس وقوة التصور والعقل، أدرك سخف الذين تطلب
إليهم الإيمان بالله فيقولون: أرنا الله!! وحواسهم عاجزة قاصرة.
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله"
رواه البيهقي بإسناد جيد.
فإن المنع في التفكر بذات الله ليس حَجْراً على الفكر ولا جموداً في البحث ولا
تضييقاً على العقل ولكن عصمة له من التردي في مهاوي الضلالة، إبعاداً له عن معالجة
أبحاث لم تتوافر وسائلها.
ولنضرب مثلاً لتوضيح المسألة:
خلق الله للإنسان قوة يتصور بها الأشياء تعينه على تنظيم الأمور وتخيلها ولكن قوة
التصور ضعيفة ومحدودة فإذا وصفت لك مدينة، عقلت أن فيها أشياء وتصورت تلك الأشياء
ولكنك إذا رأيت تلك المدينة ستجد أنها على غير الصورة التي تصورتها من قبل.
وإذا طرق شخص الباب استطعت أن تعقل أن طارقاً يطرق الباب، ولكن تصورك يعجز أن
يتصور، من الطارق حقيقة؟ وما طوله؟ وما عرضه؟ وما لونه؟ وما حجمه؟ فقوة العقل
اخترقت حاجز الباب فعقلت أن طارقاً موجود يطرق الباب فقط بينما عجزت قوة التصور،
وحَبَسَها حاجزُ البابِ أن تنفذ إلى هوية الطارق.
- ولله المثل الأعلى - فالعقل يؤمن بوجود الله الخالق سبحانه، وقوة التصور تعجز عن
تصور ذات الله سبحانه لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
[الشورى: 11
ساجده لله