الشبهة(1): قولهم : لماذا تلزمونا بفهم السلف ؟ الجواب : للأدلة التالية : 1- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[ التوبة : 100]. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم؛ فإذا قالوا قولاً فاتبعهم متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك، وأن يستحق الرضوان. ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عامياً، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم إتباعهم حينئذ". قلت: دلت الآية على حجية منهج الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه دليل فاستحق متبعهم الرضوان فلا يمدح إلا من اتبع الدليل، ولذلك وجب إتباعهم على العالم والعامي سواءً؛ لأن فرض العالم إتباع الدليل؛ كما قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف: 3] ولو لم يكن كذلك لاستحق العقوبة، ولم يستحق الرضوان؛ فتدبر. 2- قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس: 21]. قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "هذا ما قصّه الله - سبحانه وتعالى - عن صاحب يس على سبيل الرضا بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار له عليها. وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون بدليل قوله تعالى: خطاباً لهم: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]. ولعل من الله واجب . وقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16 ، 17]. وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد : 4 ، 5]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وكل منهم قاتل في سبيل الله، وجاهد إما بيده أو بلسانه؛ فيكون الله قد هداهم، وكل من هداه الله فهو مهتد؛ فيجب إتباعهم بالآية". 3- قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15]. قال ابن قيم الجوزية: " وكل من الصحابة منيب إلى الله ؛ فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله . والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى : أن الله قد هداهم ، وقد قال تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [ الشورى : 13]. 4- قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [ سورة يوسف : 108 ] . قال ابن القيم : ( فأخبر تعالى أن مَن اتبع الرسول يدعو إلى الله، ومن دعي إلى الله على بصيرة وجب إتباعه؛ لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [الأحقاف: 31]. ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالماً به، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله، لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذاً فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله". 5- قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "شهد الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفتِ فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والمنكر خطأ من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قولهم حجة". 6- قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. قال ابن قيم الجوزية: "ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقة صدقه إتباعه لهم وكونه معهم. ومعلوم أن من خالفهم في شيء، وإن وافقهم في غيره، لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإذا ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط. وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب، بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتفِ عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان. وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال له لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم. ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني، فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شيء من الأشياء، وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره. فإذا أمرنا بالتقوى والبر، والصدق، والعفة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحو ذلك؛ لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم، وهو مطلق الماهية المأمور بها، بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء". 7- قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]. قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلكم أمة خياراً عدولاً، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلمَ خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر الملائكة أن تصلي عليهم، وتدعو لهم، وتستغفر لهم. والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به؛ كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقاً من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم. فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفة لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله، إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها؛ كانت تلك الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين: قسماً أفتى بالباطل، وقسماً سكت عن الحق، وهذا من المستحيل، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان خيراً ما سبقونا إليه". 8- قال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر تعالى أنه اجتباهم، فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه، وجعلهم أهله وخاصته، وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهاً معبوداً محبوباً على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم، وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه، وآثرهم بذلك على من سواهم. ثم أخبرهم تعالى أنه يسَّر عليهم دينه غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة؛ لكمال محبته لهم، ورأفته ورحمته، وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام، فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم، وسمّاهم كذلك بعد أن أوجدهم، اعتناءً بهم، ورفعةً لشأنهم، وإعلاءً لقدرهم. ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله، ويشهدوا هم على الناس، فيكونوا مشهوداً لهم بشهادة الرسول، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم، فكان هذا التنويه؛ وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين؛ ولهاتين الحكمتين العظيمتين. والمقصود: أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى؛ فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة؛ فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، والله المستعان". 9- قال تعالى: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101]. قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر عن المعتصمين به بأنهم هدوا إلى الحق. فنقول: الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون؛ فإتباعهم واجب. أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوهن : أحدها: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ومعلوم كمال تولي الله ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديين بشهادة الرب لهم بلا شك، وإتباع المهدي واجب شرعاً وعقلاً وفطرةً بلا شك". 10- قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24]. قال ابن قيم الجوزية: " فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم، إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه، وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة، وكف النفس عمّا يُوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى. ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى عليه السلام، فهم أكمل يقيناً وأعظم صبراً من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم، وثنائه عليهم، وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيرة الله وصفوته. ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكناً لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًّا وعقلاً فهو محال شرعاً، وبالله التوفيق". 11- قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان: 74]. قال ابن قيم الجوزية: "فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم به، والتقوى واجبة، والائتمام بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا فيه مخالف للائتمام بهم". 12- قال الله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 136، 137]. قال ابن قيم الجوزية: "فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزاناً للتفريق بين الهداية والشقاق، والحق والباطل. فإن آمن أهل الكتاب بما آمن به الصحابة فقد اهتدوا هدايةً مطلقة تامة، وإن تولوا عن الإيمان بما آمن به الصحابة كمثل إيمانهم فقد سقطوا في شقاق كلي بعيد. وعلى قدر مطابقة إيمانهم إيمان الصحابة يتحقق لهم من الهداية، وبمقدار بُعدهم عن إيمان الصحابة يكون فيهم من الشقاق. ووجه الدلالة: أن إتباع الصحابة في الإيمان هو مناط الهداية، والعاصم من الشقاق والضلال، وهو يشمل إتباعهم في اعتقادهم وأقوالهم وأعمالهم، فكلها داخلة في مسمى الإيمان عند إتباع السلف. وطلب الهداية والإيمان أعظم الفرائض، واجتناب الشقاق والضلال من كليات الواجبات؛ فدلَّ على أن إتباع الصحابة من أوجب الواجبات". 13- قال الله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]. قال ابن قيم الجوزية: "والآية قرنت بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباع غير سبيل المؤمنين في استحقاق الإضلال وصلي جهنم. ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمة مع إتباع غير سبيل المؤمنين، كما أن إتباع سبيل المؤمنين متلازم مع إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا كثير من علماء السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو أمر ظاهر؛ لأن إتباع سبيل المؤمنين ممتنع دون إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن إتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متعذر بمخالفة ما سلكه المؤمنون في تأويل الكتاب والسنة والتحليل والتحريم والإيجاب. والآية مما احتج به الإمام الشافعي على الإجماع اليقيني المتحقق، وقد علمت قوله فيه، وسبيل المؤمنين أوسع من المعلوم من الدين ضرورة، مثل كون الخمر حرام، والظهر أربع، وهو يشمل كل ما كان عليه سلف هذه الأمة.
ووجه الدلالة: أن الآية جعلت مخالفة سبيل المؤمنين هو أقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنه دلّ على هذا قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285]، والمؤمنون آنئذٍ هم الصحابة ليس إلا ". قلت : فدلّ على أن إتباع سبيلهم في فهم شرع الله واجب، ومخالفته ضلال. فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب، وليس حجة. قلت : هو دليل، ودونك الدليل: أ- عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ } [النساء: 101] فقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال: "صَدَقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". لقد فهم هذان الصحابيان: يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من هذه الآية: أن قصر الصلاة مقيد بشرط الخوف، فإذا أمن الناس فلا بد من الإتمام، وهذا هو دليل الخطاب المسمى بـ "مفهوم المخالفة". وسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّه على فهمه، ولكنه بيَّن له أن ذلك غير معتبر هنا لأن الله تصدق عليكم؛ فاقبلوا صدقته. ولو كان فهم عمر لا يصح لما أقرّه الرسول ابتداءً ثم وجهه هذا التوجيه، ولقد قيل: التوجيه فرع القبول. ب- عن جابر عن أم مبشر - رضي الله عنهما -: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "إني لأرجو أن لا يدخل الناس أحد إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها"؛ فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [مريم: 71]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] ". لقد فهمت أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أن الورود لجميع الناس، وأنه بمعنى الدخول؛ فأزال رسول الله × إشكالها بتمام الآية { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } [مريم: 72]. فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّها على فهمها ابتداءً ثم وضَّح لها أن الدخول المنفي غير الورود المثبت، وأن الأول خاص بالصالحين المتقين، والمراد به نفي العذاب فهم يمرون منها إلى الجنة دون أن يمسهم سوء وعذاب، وباقي الناس على خلاف ذلك. فثبت ولله الحمد والمنة: أن دليل الخطاب حجة يعتمد عليه، ويعول في الفهم إليه. ناهيك أن قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } ليس دليل خطاب، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين إتباع سبيل المؤمنين وإتباع غير سبيلهم قسم ثالث، فإذا حرم الله جل جلاله إتباع غير سبيلهم، وجب إتباع سبيلهم، وهذا واضح لا يشتبه. فإن قيل: فإن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الإتباع أصلاً. قلت : هذا من أوهى ما نطقت به العقول؛ لأن عدم الإتباع أصلاً هو إتباع لسبيل غيرهم قولاً واحداً؛ لقوله تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]؛ فثبت أنهما قسمان لا ثالث لهما. فإن قيل: لا نسلم أن إتباع غير سبيل المؤمنين موجب لهذا الوعيد بل هو مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يلزم حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين مطلقاً بل إذا كانت مع المشاقة. قلت : معلوم أن المشاقة محرمة بانفرادها، مستقلة بنفسها لإيجاب الوعيد عليها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 13]؛ فدلّ أن الوعيد على كل منهما بانفراده، وأن هذا الوصف يوجب الوعيد بمفرده، ويدل على ذلك أمور منها: أ- أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع المشاقة. ب- أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن يدخل بانفراده في الوعيد لكان لغواً لا فائدة من ذكره؛ فثبت أن عطفه علة مستقلة كالأول. فإن قيل : لا نسلم أن الوعيد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين مطلقاً، بل بعد ما تبين له الهدى، لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليه إتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدي شرطاً في الوعيد على إتباع غير سبيل المؤمنين. قلت: قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }معطوف على قوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } فلا يكون قيد الأول شرطاً للثاني، وإنما العطف لمطلق الجمع والمشاركة في الحكم، وهو قوله تعالى: ] نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؛ فدل على أن كلا الوصفين يوجب الوعيد بانفراده. ويدل عليه ما يأتي: أ- أن تبين الهدى شرط في مشاقة الرسول ×؛ لأنه من جهل هدى رسول الله × لا يوصف بالمشاقة، أما إتباع سبيل المؤمنين فهو هدى في نفسه. ب- أن الآية خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين فلو كان إتباع سبيلهم مشروطاً بتبين الهدى لم يكن إتباع سبيلهم لأجل أنه سبيلهم بل لتبين الهدى، وعندئذ فإن إتباع سبيلهم لا فائدة منه. وبهذا تبين: أن إتباع سبيل المؤمنين منجاةً؛ فثبت أن فهم الصحابة للدين حجة على غيرهم فمن حاد عنه فقد ابتغى عوجاً، وسلك مكاناً حرجاً؛ فحسبه جهنم وساءت مستقراً، ومصيراً، ومقاماً، ومقيلاً. 14- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. قال ابن قيم الجوزية: "فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مُربياً ومُعلماً للكتاب وللسنة، وهذا من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما علّم جيل الصحابة، ومن بعدهم تلقي العلم عن طريقهم. وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، كما علّمهم السنة أتم تعليم وأكمله، ولم يشاركهم أحد في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ فلا يماثلهم أحد في كمال علمهم وفهمهم؛ لأن من تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَعَلّم على يديه ليس كمثل من تلقى عن غيره، إذ لا يمكن لأحد أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتعليم. ووجه الدلالة: أن أولى الناس بالإتباع هو أتمّهم علماً وأكملهم فهماً، والصحابة هم أكمل الناس علماً، وأتمهم فهماً، فينبغي إتباعهم وتقديمهم عند الاختلاف وتعارض الفهم والحكم، قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] ". 15- قال الله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . قال ابن قيم الجوزية: "والرشد ضد الغي والضلال، ويأتي بمعنى الهداية، والصحابة هم الراشدون المهتدون، الذين تمت هدايتهم ورشدهم، وكمال رشدهم يتضمن تمام الهداية في القول والفعل، ومعرفة الخطأ والصواب، والحق والباطل، وهذا يقتضي أنهم أولى بالهداية إلى الحق من غيرهم. ووجه الدلالة : أن من كان راشداً مهتدياً كان قوله وفتياه أقرب إلى الحق والصواب ممن لم يكن كذلك، وهذا يقتضي إتباعه، وتقديم قوله وفهمه لكما هدايته، والصحابة كذلك بنص الآية، فاقتضت الآية تقديم أقوالهم وفتاويهم، والله أعلم". 16- قال الله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 6، 7]. قال ابن القيم الجوزية: "والصراط المستقيم هو صراط الأنبياء قبل هذه الأمة، وصراط الصديقين والشهداء والصالحين منها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]، فأولئك هم أهل النعمة والفضل، وصراطهم بمعزل عن أسباب الغضب وموجبات الضلال، إذ هو تام الاستقامة لا عوج فيه ولا انحراف . وسلوك الصراط المستقيم فريضة واجبة على كل مسلم، قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وإنما يكون سلوك هذا الصراط بأتباعه السابقين عليه في التحليل والتحريم والإيجاب، فيتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه وسننه، ويتبع الصحابة فيما اختلف فيه الناس، وتشابه عليهم، لأنهم المبرءون من الانحراف القائمون المستقيمون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجه الدلالة : أن البراءة من سبل المغضوب عليهم والضالين، في الاعتقاد والعبادة والسياسة والأخلاق والعبادات شرط للبراءة من العذاب والغضب والضلال. وأن هذه البراءة تكون بإتباع صراط السابقين الأدلاء على الطريق، وهم من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي إتباعهم، واقتفاء آثارهم، ولزوم هديهم". 17- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7]. قال ابن قيم الجوزية : " والآية بينت أن القرآن منه آيات محكمة ظاهرة الدلالة، وهي الأصل الذي يتبع ويهتدي به، ومنه آيات متشابهة في دلالتها، تحتاج إلى بيان وتفسير من بينات القرآن والسنة. وأن أصحاب القلوب المريضة الزائغة عن الاستقامة يتبعون الدلالات المتشابهة قبل إحكامها طلباً لتحريفه عن معناه، وتفسيره وفق أهوائهم، وهم لا يعلمون جلية بيانه وتفسيره. وأن الراسخين في العلم هم الذين يعرفون تفسيره وبيانه المحكم. وهذا يقتضي : أن الواجب على كل أحد طلب تأويل المتشابهة من أهل العلم به من الراسخين في العلم، وأن تأويله دون الرجوع إليهم إنما هو فتنة وإتباع للأهواء. والراسخون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً، ويكفي في ذلك ما سبق من الأدلة والبراهين في مباحث هذه الرسالة، فاقتضى ذلك أن إتباع الصحابة في تأويل المتشابه فريضة تقتضيها البراءة من الفتن والأهواء، وأن مخالفتهم فيه من علامات الفتنة وإتباع الأهواء، والله الموفق". 18- قال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونوا خير القرون مطلقاً. فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم، وسائرهم لم يُفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطأوا هم؛ لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه، لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن. ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة، لأن من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة، تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه؟ ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أية وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة؛ وأخطأ في ذلك؛ ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم". قلت: هل الخيرية المثبتة لجيل الصحابة في ألوانهم أو أجسامهم أو أموالهم؟ لا يشك عاقل عَقِل الكتاب والسنة أن شيئاً من ذلك غير مقصود؛ لأن الخيرية في الإسلام مقياسها تقوى القلوب والعمل الصالح؛ كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". ولقد نظر الله إلى قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها خير قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فآتاهم فهماً لا يدركه اللاحقون، ولذلك فما رآه الصحابة حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه الصحابة سيئاً فهو عند الله سيء. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء". عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟ قال : " لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ". قلت : فما في هذه الصحيفة؟ قال : " العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". وبذلك يكون فهم الصحابة للكتاب والسنة حجة على من بعدهم إلى أخر هذه الأمة، ولذلك فهم شهداء الله في الأرض. 19- عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم هنا؟". قلنا : يا رسول الله! صلينا معك ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال : " أحسنتم أو أصبتم". قال : ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء. فقال : " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء أمرها، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة أصحابه - رضي الله عنهم - إلى من بعدهم في الأمة الإسلامية كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء. ومن المعلوم: أن هذا التشبيه النبوي يعطي في وجوب إتباع فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للدين نظير رجوع الأمة إلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم المُبيِّن للقرآن، وأصحابه - رضوان الله عليهم - ناقلو بيانه للأمة. وكذلك رسول الله معصوم لا ينطق عن الهوى، وإنما يصدر عنه الرشاد والهدى، وأصحابه عدول لا ينطقون إلا صدقاً، ولا يعملون إلا حقًّا. وكذلك النجوم جعلها الله رجوماً للشياطين في استراق السمع؛ فقال تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * )وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات:6 – 10]. وقال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5]. وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - زينة هذه الأمة كانوا رصداً لتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالِين الذين جعلوا القرآن عضين، واتبعوا أهواءهم؛ فتفرقوا ذات اليمين وذات الشمال؛ فكانوا عزين. وكذلك فإن النجوم منار لأهل الأرض ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر؛ كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]. وكذلك الصحابة يُقتدى بهم للنجاة من ظلمات الشهوات والشبهات، ومن أعرض عن فهمهم فهو في غية يتردى في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها. وبفهم الصحابة نحصن الكتاب والسنة من بدع شياطين الإنس والجن الذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويلها ليفسدوا مراد الله ورسوله فيهما، فكان فهم الصحابة - رضي الله عنهم - حرزاً من الشر وأسبابه، ولو كان فهمهم لا يحتج به لكان فهم من بعدهم أمنة للصحابة وحرزاً لهم، وهذا محال. 20- عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله × موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". قال ابن قيم الجوزية: "وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أصحابه بسنته، وأمر بإتباعها، كما أمر بإتباع سنته، وبالغ في الأمر بها، حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به، وسنّوه للأمة، وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنته. ويتناول ما أفتى به جميعهم، أو أكثرهم، أو بعضهم، لأنه علَّق ذلك بما سنَّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن سنَّة كل واحد منهم في وقته من سنة الخلفاء الراشدين". قلت : هذا الحديث صاعقة على رؤوس المبتدعة المخالفين لمنهج السلف، لأنه يدل على حجيته من وجوه: أ- قَرَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الخلفاء الراشدين وهي فهم السلف، مع سنته؛ فدلّ على أن الإسلام لا يفهم إلا بمنهج السلف.
ب- أنه جعل سنة الخلفاء الراشدين سنته؛ فقال: "عضوا عليها" ولم يقل: "عضوا عليهما"؛ فتبين أن سنة الخلفاء الراشدين من سنته. ت- أنه قابل ذلك كله بالتحذير من البدع؛ فدل على أن كل مخالف لمنهج السلف واقع في البدع وإن لم يشعر. ث- أنه جعل ذلك مخرج من الاختلاف والابتداع؛ فمن تمسك بسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين كان من الفرقة الناجية يوم القيامة؛ كما صرّح ابن حبان عقب حديث العرباض - رضي الله عنه - فقال: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذلك الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنة، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنّه". ج- أنه لم يدخل سنته وسنة الخلفاء الراشدين في الاختلاف الكثير؛ فدل على أنها جميعاً من عند الله؛ لأن الاختلاف الكثير ليس من عند الله؛ كما قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. من هذه الوجوه مجتمعة يتبين: أن سبيل النجاة من الاختلاف والافتراق وطوق الحياة من مضلات الهوى ومعضلات الشبهات والشهوات – التي تحيل من اتبعها عن المحجة البيضاء – ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من فهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أخذوا منها بحظ وافر، وحازوا قصبات السابق، واستولوا على الأمد، فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق بهم فإنهم على هدى وقفوا، وبعلم قد كفوا، وببصر ثاقب نظروا، والسعيد من اتبع صراطهم السوي، والشقي من زاغ ذات اليمين وذات الشمال وسلك سبل الغي، والتائه الحائر في ميدان المهالك والضلال يظن سراب الأهواء ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الشيطان عنده فاستحوذ عليه، نعوذ بالله من الخذلان. فقل لي بربك : أي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؛ والذي نفسي بيده لقد نهلوا الحق من معينه عذباً زلالاً؛ فأيدوا قواعد الإسلام فلم يتركوا لأحد مقالاً، وألقوا إلى التابعين بإحسان ما ورثوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه: نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سنداً عالياً. لقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم أن يقدموا عليها هوى، أو أن يخلطوها برأي مشوب، كيف وقد عادوا ووالوا عليها؟ فإذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر طاروا إليه زرافات ووحداناً، وحملوا أنفسهم عليها فلا يسألوه عما قال برهاناً. لذلك فهم أولى الناس برسولهم صلى الله عليه وسلم وسنته فهماً وعملاً ودعوةً، وأن على من بعدهم: أن يتمسك بمنهجهم؛ ليكون موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله، وإلا فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. 21- عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين؛ فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر..." الحديث. ووجه الدلالة : أن هؤلاء التابعين رجعوا في معرفة حقيقة مقالة معبد الجهني وأصحابه إلى فهم الصحابة ومنهجهم؛ فدلّ على أن التابعين يرون حجية منهج الصحابة، وأن المحدثات بعدهم يجب عن تعرض على منهجهم وفهمهم؛ لأنه المعيار في قبول ذلك أو ردّه. 22- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". ووجه الدلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أصحاب النبي بأنهم يقتدون بأمره ويأخذون بسنته، ومن كان كذلك فوجب الإقتداء به؛ لأنه السبيل إلى الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الخلوف فهي مخالفة للأمر والسنة فلا يُقتدى بها ولا يعول عليها؛ لأنها خالفة مخالفة، فتبين أن فهم الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار هو المعيار. 23- ورد في أحاديث الخوارج قوله صلى الله عليه وسلم: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم". ووجه الدلالة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قارن صلاة الخوارج وصيامهم مع صلاة الصحابة وصيامهم، ولما كان الخوارج على غير منهج الصحابة وقد تواترت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم تبين أن منهج الصحابة هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فمن تمسك به كان على صراط مستقيم ومن خالفه تفرقت به السبل عن البيضاء النقية. وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فهم الصحابة - رضي الله عنهم - وعملهم ميزاناً لوزن أفهام وأعمال من بعدهم؛ فمن وافقهم فقد نجا وإلا فلا يَلومنَّ إلا نفسه. 24- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ". قال ابن قيم الجوزية: " فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك أصحابه على ملة قويمة مستقرة، ومحجة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها، ولا لبس، ولا إبهام، لا عذر لمن انحرف عنه؛ لأن الحجة قامت عليه وبلغته ". وذلك من خصوصيات الصحابة، لأنهم هم دون غيرهم الآخذون المتلقون المبلغون، والناس تبع لهم في العلم بهذا البيان الناصع، وعالة عليهم في ذلك، لأن هذا أمر لم يتفق لغيرهم أصالة. فكل ما خفي وأشكل واشتبه؛ فبيانه وجلاؤه في علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: معتقدهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وكل دينهم، جَهِله من جَهِله، وعلِمه من علِمه. وهذا قاض بوجوب العودة إلى علمهم عند كل إشكال ولبس واختلاف ". 25- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة: ما أنا عليه وأصحابي ". قال ابن قيم الجوزية: " والحديث يبين وقوع الافتراق في الملة بعده صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون على ثلاث وسبعين ملة، وأن الفرق الممثلة بهذه الملل كلها إلى النار، وأنها تنجو فرقة واحدة، رغم انتسابها جميعها إلى الإسلام؛ هي: من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا يدلك على أن فيصل التفريق بين الحق والباطل إنما هو إتباع الصحابة فيما كانوا عليه؛ لأن كل الفرق المنحرفة تنتسب إلى السنة، ولا تجرؤ على التبرؤ منها. فإتباع ما عليه الصحابة زمن النبوة، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مناط النجاة والهداية، وخلافه من سبل الفرق الهالكة، التي هي تحت الوعيد بمخالفتها منهج الصحابة. ولا بد أن يكون الوصف المؤثر في هلاك تلك الفرق، والذي تعلق به وقوعهم تحت الوعيد هو مخالفة هدى الصحابة؛ ما دام أن الوصف الوحيد المؤثر في النجاة – كما ذكر الحديث – موافقة منهاج النبوة، وسبيل المؤمنين الذي كان عليه الصحابة. وهذا يقتضي أن إتباع منهج الصحابة وما كانوا عليه، مما تلقوه من كتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم واجب يهلك بتركه الهالكون، ويسعد بأخذه الفائزون، وهو إتباع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم في التدين كله". 26- وقد جاء في حديث الافتراق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بأنها: "الجماعة". قال ابن قيم الجوزية: " وفي نصوص القرآن والسنة نصوص كثيرة في الحضِّ على الجماعة والأمر بها. وهذا اللفظ النبوي يفيد أن الجماعة هم أصحابه - رضي الله عنهم -؛ لأنه لم تكن آنذاك جماعة غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى لزوم الجماعة: لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم وعدم الخروج عليها. قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: " إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين، والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنّة ولا قياس - إن شاء الله -. فلزوم الجماعة هنا هو لزوم أقوال الصحابة في التحليل والتحريم؛ لأن هذا هو معنى لزوم الجماعة؛ كما بيّنه الإمام الشافعي. والجماعة هم جماعة الصحابة كما أفاد حديث الافتراق؛ فاقتضى وجوب لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم والإيجاب، وإتباعهم فيها؛ لأن الغفلة في الفرقة فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس - إن شاء الله -؛ كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله -، والله المستعان". 27- وبالجملة؛ فوجوب فهم الإسلام بفهم الصحابة ومن تبعهم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. قال ابن قيم الجوزية: "إنه لم يزل أهل العلم في كل عصر مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكر منهم، وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقة بهم. قال بعض علماء المالكية: أهل الإعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به، ولا نصبه دليلاً للأمة، فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدت ذلك طرازها وزينتها، ولم تجد فتياً قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة، ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم، ولا ما يدل على ذلك، وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم، فقال وأفتى بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظاً ومعنى قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة، ولا يدانيها؟ وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل؛ وعرفوا التأويل؛ وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم، وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم؟ قال جابر: " والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به" في حجة الوداع، فمستندهم في معرفة مراد كلام الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال ".
( انتهى جواب الشبهة من كتاب " بصائر ذوي الشرف بشرح مرويات منهج السلف " للشيخ سليم الهلالي ( ص 43 – 78 ) .
الشبهة(2) : ادعاؤهم أن عمر رضي الله عنه قد عطل بعض الأحكام الشرعية !!
قال الأستاذ محسن الميلي : ( قد يَعْتِرض البعض قائلين: إنَّ هناك حَوادث َفي تاريخ الإسلام ظهر فيها «تعطيل» بعض الأحكام الشرعية. وغالبًا ما يَقَع الاستدلال بِعُمَرَ بِنِ الخطاب و «إِيقافِه» لِحَدِّ السَّرِقة عامَ المَجَاعة، أو عدمِ إِعطائِه سَهْم المُؤَلَّفَة قلوبُهم من الزكاة. وهذه الحُجة- إذا جاز أن نُسَمِّيها حُجةً – يُوَظِّفُها بَعض أنصار «الفَهم التَّقَدُّميِّ» لِتَعْطيل النصوص إذا خالفت بعض اخْتيارتهم العقلية. والحقُّ أنَّ عمر بن الخطاب في الحادِثَتين لم «يُعَطل» نَصَّاً، ولم يُحِلّ حراماً، ولم يُحَرِّم حلالاً، ولم يَعْتبر أنَّ النصوص الواردة في شأْنِ الحادِثَتَين أصبحت لاغِيةً. فلَم يَقُل عمر: إنَّ إِقامة الحَدِّ على السارِق أصبح وَحْشِيةً واسْتِهانةً بِكرامة الإنسان، وحِرْماناً للمجتمع من بعض قُوَى إنتاجه... كما لم يَقُل بأن قطْعَ يَدَ السارق كان مُلائماً للإنسان وقت نزول الوَحْيِ، وإِنَّه فَقَد صَلاحِيتَّه الآن. إن ما فعله عمر هو دراسته لِواقِعِهِ، أيْ للمَيْدان الذي يَتَنَزَّل فيه حُكْم الله، فَرَأى أنَّ الشروط لم تَتحقق كلها لإقامة الحد، فقد يَلْتَجِئُ الإنسان إلى «السَّرِقة» حِفْظًا لنفسه من الهلاك لا اختيارًا للسرقة، أو اغْتِصابًا لأموال الآخرين دُون جُهْد أو عمل، فَتَقَع الْتِباساتٌ عديدةٌ، وتختَلِط البَيِّناتُ بالشُّبُهات، وكما هو معلومٌ في قواعد الفقه:«ادْرَؤوا الحدود بالشُّبُهات،، و «الضرورات تُبِيحُ المَحْظورات»... فإنَّ عمر كان حكِيماً في عدم تَطْبيقه الآلِيِّ لِحُكمٍ لم تَتَوفر شروط تحقيقِه، لأنه فَهِم بِوَعْيٍ وعُمْق مُلابَسات تطْبيق الحُكم الشرعي. لم يكن عمر مُجَرَّد«آلَةِ تَسْجيْلٍ وتَرْديْد» لنصوص وأحكامٍ لم يَفْهَمْها، وإنما كان يَتَفَهَّم الحُكم والحِكْمة منه، ويبحث عن شروط تَنْفيذه... لقد كان عمر يَتَدبَّر القرآن ويقرأ نصوص الْوَحْيِ بِبَصيرةٍ وتفْكيرٍ. نفس الأمر يُمْكن أنْ يقال في شأن «إسقاط» نصيب المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة. فقد رَأَى عمر أنَّ الإسلام قد أصْبح عزيزًا بين الناس, فلا يمُكن أنْ يَبْقَى دائمًا مُعْتمِداً على المُؤَلَّفة قلوبهم، فقد رُوِيَ أنَّه قال لبعضهم: إنَّ الله قد أعَزَّ الإسلامَ وأغْنَى عنْكُم. لهذا ولأسبابٍ أُخْرَى تَصَرَّف عمر بِهذه الطريقة. فكلُّ ما فعَله أنَّه لم يَجِد في عصْرِه مَنْ يَسْتحِق التَّأَلُّف في نَظَرِه، وليس من الضروري أنْ يَظَلَّ الذين أُلِّفُوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤَلَّفَةً إلى الأبَد. فالمسألة مسألة تَفَهُّمٍ للشريعة، ودِرايةٍ بالواقِع، وحِكْمةٌ في تطْبيق الأحكام الشرعية، وليست مسألةَ «اختياراتٍ عقليةٍ» تسْتَوْجِب تعطيل النصوص. إنَّ عمر لم «يَنْسَخ» الآيتين الوارِدتَين في شأْن الحادِثتين: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، ولم يُبْطِل أحكامَها، ولم يُحِلّ السرقة، ولم يُحَرِّم إِعْطاء سَهْم المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة. لم يَقُل عمر بأنَّ القرآن كان يُراعِي عصْر نُزولِه ومُستوَى وَعْيِ الناس، وأنَّ علينا نَسْخ هذه الأحكام بأُخْرَى أكثرَ «تَقَدُّماً» منها، وأكثر مُلاءمةً لِعَصْرنا وأكثر «إنسانيةً»كما يقولُ البعض... فَلَيس مِن حقِّ عمرَ أو غيره أنْ يُعَطل هذه الأحكام، لأنَّ تعطيل النصوص هو تعبيرٌ عن هَوَىً لا عن فَهْمٍ لمَقاصِد الشريعة، إِذْ ليس مِن مَقاصِد الشريعة أن تُعَطَّل أحكامُها ).
( المرجع " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 124-126).
الشبهة(3) : تقديمهم المصلحة على النص وشبهات أخرى
الفاصل بين العلمانيين والعصرانيين إن وجد رقيق جدًا فهو فاصل درجي، وكأنهما وجهان لعملةُ واحدة، واسمان لمسمى واحد، ومصطلحان لمعنى واحد. من أهم الشعارات والدعاوى التي رفعها العصرانيون- الأموات والأحياء منهم – والتي كادت تلغي الفاصل بينهم وبين إخوانهم العلمانيين شعارات (الثابت والمتغير في الإسلام) أو (المصلحة مقدمة على النص) أو (فقه المرحلة) وما إلى ذلك. فتلاعبهم بالألفاظ كتلاعبهم بالدين أو أشد، وقد استفاد العصرانيون مما واجهه العلمانيون من استنكار فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويتلاعبون بالألفاظ، والمصطلحات ويبحثون عن الشبه والهفوات والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوبًا إسلاميًا مزوراً، ويضفوا عليها صفة الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى حين، وإلا فقل لي بربك- أيها القارئ الكريم، والمسلم الأمين- ما الفرق بين قول العصراني: (إن الثابت في الإسلام هو العبادات فقط، وهي التي يلتزم فيها بالنصوص القرآنية والحديثية، أما فيما سوى ذلك فالمجال مفتوح لتغيير النصوص وحسب ورد بعضها، حسب معطيات العصر، ومقتضيات المصلحة في كل زمان ومكان). وبين ما يدعو إليه العلمانيون من فصل الدين عن الحياة وحصره في دائرة العبادات، فمال الدين والحياة، ويتعجبون من الذين يريدون أن يحشروا أنف الدين في كل شئ: في الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وآداب الأكل والشرب واللباس، والزواج، ونحو ذلك. لا فرق إلا المكر، والخداع، والمراوغة، التي ينتهجها العصرانيون في العرض، وما مثلهما إلا كمثل لصين أتى أحدهما أهل بيت طيبين غافلين نائمين فنقب دارهم من الخلف وأخذ ما أخذ من متاعهم ولم يشعروا به إلا ساعة الخروج والهرب، أما الثاني فجاء في صورة زائر محتال، فسرق أشياء خفيفة المحمل، غالية الثمن، ولم يشعر به أحد إلا بعد أن اختفى من الأنظار. ومما يؤسف له أن جل رموز العصرانية (1) اليوم كانوا من أعضاء الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون) وغيرهم، بل إن بعضهم كان في المقدمة ولا يزال البعض منهم يتولى قيادتها (2). وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي في حدوث ذلك هو التسيب الفكري، والعقدي، وعدم وضوح المنهج، وتحديد الهوية، لدى هذه الحركات. فالمنهج القويم السليم- لا نقول يعصم عن الوقوع في الانحراف والابتداع إذ لا عاصم إلا الله، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء- ولكنه يقلل من حدوث ذلك. يقول الدكتور النويهي في مقالة بعنوان: «نحو ثورة الفكر الديني» (3): (إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا خطوة مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل. وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه). وبقول د. معروف الدواليبي في مقال بعنوان «النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان»: (إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير لما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟ 1- إن جميع الشرائع قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغيير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع. 2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولاً وبالأخذ بهما ثانياً. فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضاً، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درساّ بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) (4). وهذه الدعوة – الثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية – تعرض تحت شعارات مختلفة، مثل شعار المصلحة، أو أن المصلحة مقدمة على النص، أو تحت شعار فقه المرحلة كما هو الحال عندنا في السودان وهكذا. والذي ندين به ويدين به كل مسلم أن المصلحة كل المصلحة هي في الالتزام بالنصوص القرآنية والحديثية، وأنه لا اجتهاد مع نص، حتى قال الأئمة الأعلام: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» و«إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط» و«كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول ×». وكل أمر ورد فيه نص قرآني أو سنة صحيحة صريحة فهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل سواء كان في العبادات أو المعاملات أو الأمور المعايشة فلا فرق، ومن الذي يستطيع أن يفرق بين شرع الله فيقبل بعضه ويرد البعض الآخر؟ أما المسائل التي ليس فيها نص صحيح صريح فللعلماء أن يجتهدوا فيها، وللعامة أن يقلدوا أقربهم في رأيهم إلى السنة، وهذه هي المسائل التي يمكن أن يتغير الاجتهاد فيها حسب الظروف الزمانية والمكانية. وقد نهى الأئمة الأعلام أن يقلد المرء دينه الرجال، فقد روي عن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، ولكن خذ من حيث أخذوا». أما النصوص الصحيحة الصريحة فالمصلحة في الالتزام والتمسك بها كما تمسك بها أسلافنا الصالحون، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ثم من الذي يحدد هذه المصلحة؟ فالمصلحة أمر تقديري، وما تراه أنت مصلحة قد يراه غيرك عين المفسدة، وليس هناك أضر على الإسلام من التحسين والتقبيح العقليين، ورحم الله الخليفة الراشد الملهم عمر حين قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرة». وما فسدت أحوال المسلمين وانحطت مكانتهم إلا عندما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا الآراء والأفكار بالتمسك بالقرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة. شبه القائلين بتقسيم الدين إلى ثابت ومتغير ودحضها : يتشبث هؤلاء الأدعياء في دعواهم الكاذبة هذه بشبه باطلة، يرمون من ورائها إلى ترسم خطى أسيادهم من المستشرقين الماكرين أعداء الملة والدِّين: يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه القيم «الإسلام والحضارة الغربية » (5) في الفصل السادس منه تحت عنوان «التغريب في دراسات المستشرقين» موضحًا لخطورة البحث الذي كتبه المستشرق ولفرد سميث بعنوان «مجلة الأزهر: عرض ونقد» ومنبهًا لأمرين مهمين: (أن الخطط التي يقترحها المؤلف على المسلمين موجهة إلى محو ما استقر في نفوسهم، من أن للإسلام طبعًا ثابتاُ صلباً، وقيمًا محدودة مرسومة، يجتمع عليها المسلمون من ناحية، ويتميزون بها عن غيرهم من ناحية أخرى. فالخطط المقترحة في الكتاب موجهة نحو تطوير المسلمين عن طريق تطوير الإسلام نفسه، وإفقاده طابعه المحدد الثابت الذي يحول دون تحقيق التفاهم المنشود، الذي يرسي دعائم الاستعمار ويثبت أقدامه). وعلق الأستاذ محمد محمد حسين كذلك على البحث الذي قدمه الدكتور مصطفي الزرقا – في مؤتمر عقد بجامعة برنستون بأميركا 1953 والذي اشترك فيه عدد من القسس المبشرين الأمريكان كما قدمت الدعوة إلى شخصيات معينة في العالم الإسلامي- معلقًا على ما في بحثه من روح انهزامية أمام هؤلاء القسس المبشرين تتضح في تسويغ الأساليب العصرية السائدة التي تخالف الإسلام مخالفة صريحة وانتحال الأعذار لها مثل قوله (6) : (فالصفة الدينية في الفقه الإسلامي لا تنافي أنه مؤسس على قواعد مدنية (7) بحتة، منتجة لفقه متطور كفيل بوفاء الحاجات العصرية وحل المشكلات النابتة في الطريق ص157). يعلق أستاذ حسين فيقول: (وما يسميه هو بالحاجات العصرية نابع في أكثر الأحيان من تقليد نظم حضارية غربية عن الإسلام ومخالفة لأصوله، وليس مطلوبًا من المسلمين أن يكونوا على صورة غيرهم، يتبعون سننهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا فيه، بل إن مخالفة المسلمين لغير المسلمين هي شئ مقصود لذاته، صونًا للشخصية الإسلامية، وتمييزًا لها عن غيرها، ومن أجل ذلك كان المسلمون منهيين عن تقليد غير المسلمين في زيهم وعاداتهم. وهذا المنهج الفاسد الذي التزمه الزرقا بنية تزيين الشريعة الإسلامية عند أعدائها، وعند من يجهلونها قد أوقعه في أخطاء فاحشة فهو عند كلامه عن عقوبة الزنى بالجلد- وقد أهمل (8) الرجم وتجاهله- وعقوبة السارق بقطع اليد، وبقية الحدود الأربعة يقول: (فإذا لوحظ أن تطبيق بعض عقوبات الحدود الأربعة أصبح متعذراً (9) في زمان أو مكان، فمن الممكن تطبيق عقوبة أخرى ولا يوجب هذا ترك الشريعة أجمع ص158) !! يقول الأستاذ حسين معلقاً: (فمن الواضح أن كلامه هذا تسويغ لإسقاط الحدود الإسلامية، سعيًا لإرضاء النظم المعاصرة، غير الإسلامية، التي تعتبرها ضربًا من القسوة والوحشية، وهو يفعل مثل ذلك في كلامه عن المعاملات التجارية العصرية التي تقوم كلها على أساس الربا، فيقول: (إن هذه المشكلة يمكن حلها في مبادئ الشريعة الإسلامية بطرق عديدة ص159) ويذكر فيما يذكره من الحلول: (الرجوع إلى تحديد الحالة الربوية التي كان عليها العرب وجاءت الشريعة بمنعها، إذ كان المرابون يتحكمون (10) كما يشاؤون بالفقير المحتاج للقرض الاستهلاكي الاستثماري ص 159). ويذكر فيما يذكره كذلك من مسوغات وحلول: (تأميم المصارف لحساب الدولة، فينتفي عندئذ معنى الربا من الفائدة الجزئية التي تؤخذ عن القرض، إذ تعود عندئذ إلى خزينة الدولة لمصلحة المجموع ص159). عذرًا للإطالة، وإنما كان غرضي بيان أن السبب الحقيقي لرفع مثل هذه الشعارات ليس دليلاً نقليًا ولا عقلياً، وإنما هو تقليد الكفار وتنفيذ مخططاتهم، فما العصرانيون إلا ممثلون يقومون بأدوار مرسومة لا يستطيعون التخلي عنها منهم من يحسن التمثيل، ومنهم من لا يحسنه، وما رفعهم لهذه الشبه إلا من باب التدليس وذر الرماد على العيون. نعود إلى تلك الشبه الممجوجة المكررة التي يتشبث بها هؤلاء، فنقول: الشبهة الأولى : التشبث بقوله صلى الله عليه وسلم :«لا ضرر ولا ضرار» (11) : نعم، لا ضرر ولا ضرار، ولكن هل هناك ضرر وضرار أكبر من رد النصوص الصحيحة الصريحة؟ وهل هناك أرحم من رب العالمين الذي شرع ذلك وأمر بالتزامه؟ وأي ضرر في الالتزام بمنهج الله الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضرر والضرار فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقاً. ثم قيل إن الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتفٍ في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك. وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضرارًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح. وقيل الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز. وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى الضرر والضرار بغير حق. فأما إدخال الضرر على أحد بحق. إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهو غير مراد قطعاً، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين: أحدهما: ألا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه... والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك) (12) . هذا هو مراد الحديث كما بينه هذا العالم الرباني رحمه الله، أما استدلالهم به على عدم إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، أو حد القطع على السارق بعد إقامة البينة، واستيفاء الشروط، فهذا هو عين الضرر على الفرد نفسه وعلى المجتمع بأسره، فما هذه الرحمة التي فاقت رحمة رب العالمين ولكنها على العصاة والزناة والمجرمين؟ تبًا لهم وتبًا لمقالتهم هذه، وخاب فألهم وفأل أسيادهم من أعداء الملة والدين. ألم أقل لكم إن القوم ناكثون للعهد، جاهلون بالشرع، ليس عندهم مسحة من فقه؟ الشبهة الثانية : التشبث بالقاعدة الأصولية: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان » (13): هذه القاعدة كذلك لا تدل أدنى دلالة على ما ذهبوا إليه من التلاعب بالنصوص الشرعية، إذ لا اجتهاد مع النص، إنما تتناول هذه القاعدة المسائل الاجتهادية والفرعية التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع فهذه هي التي لا ينكر تغير الاجتهاد فيها حسب الظروف والملابسات والمستجدات. فما لهؤلاء والقواعد الأصولية البالية؟! هل هناك خيار وفقوس، فما كان موافقًا للهوى من كلام الأصوليين قُبل وتلقف وما لم يوافق الهوى ويسبب الحرج مع الكفار رُد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟ { وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (14) . نعم، القلوب مريضة ومرتابة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد. تشبثهم باجتهادات عمر رضي الله عنه: ما لهؤلاء القوم واجتهادات عمر؟ وما لهم ولعمر ولمنهج عمر؟ إنهم مخالفون له مخالفة كاملة، إنهم يريدون أن يبنوا منهجهم على أنقاض ما بناه عمر وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وحاشا عمر أن يسن سنة يقتدي بها مبتدع. 1- يقولون أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، ويعتقدون أنه عطل هذا المصرف لمصلحة رآها بعد تغير الظروف. وليس الأمر كما زعموا، ولكن الإسلام في عهد عمر عز بأهله ولم يعد بحاجة إلى من يتألفهم. وعمر رضي الله عنه لم يعطل نصًا فالنص باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يستطيع عمر ولا غير عمر أن يفعل ذلك أو يتجزأ عليه إلا شقيًا تعيسًا، ولكن لعدم وجود هذا الصنف من مستحقي الزكاة صرف عمر الزكاة في المصارف الأخرى، حيث يجوز صرف الزكاة في مصرف واحد أو مصرفين أو أكثر. 2- يقولون: لم ينفذ عمر حد السرقة عام الرمادة... وفي تغيير لحكم السارق الثابت بنص القرآن بعد تغير الظروف. هذا ما يدعونه بل هو ما يتمنونه، فهم لا يقولون على تنفيذ الحدود الشرعية خوفًا من حماة الحقوق الإنسانية. فهل عطل عمر حقًا حد السرقة عام الرمادة لتغير الظروف؟ لا، فحد السرقة لا ينفذ إلا إذا توفرت شروط تنفيذه وانتفت موانعه، ومن شروط القطع في السرقة ألا يسرق السارق ما يسد به رمقه، وقد روي أن عمر رضي الله عنه لم يقطع غلمان (حاطب بن أبي بلتعة) رضي الله عنه لأنهم كانوا في حالة خصاصة، وهذا لا يعني أنه عطل الحد ولكن لم تتوفر الشروط، ومن المعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات. وكيف يظن بعمر- ذلك العبقري الملهم المحدث- أن يفعل ذلك؟ إن هذا لا يليق إلا بمتخلف عن متابعة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يعقل أن يعطل عمر حدًا من حدود الله، وهو الذي أقام الحد على أخي زوجه وخال أبنائه قدامة بن مظعون رضي الله عنه وقد شرب الخمر متأولا أنها حلال عليه وهو مريض خشية أن يقبض عمر قبل تنفيذ الحد عليه؟ إن استدلالات هؤلاء مصدرها عقولهم الباطنة، فهم يستدلون بما يتمنونه ليس إلا. تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان :
تشبثهم بما قاله العالم الرباني ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (15) عن تغير الفتوى واختلافها بتغير الزمان والمكان والعادات والنيات. وما قاله ابن القيم رحمه الله وبينه بالأمثلة، ليس فيه هو الآخر دليل على ما ذهبوا إليه في وادٍ آخر. قال في (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد): (هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهو قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه من بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وخطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل- بـحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة). وسنأتي ببعض الأمثلة التي جاء بها ابن القيم للتدليل على ما قال ليتبين لك أيها القارئ اللبيب الفَطن أنه لا علاقة البتة بين ما رمى إليه ابن القيم رحمه الله وبين ما يهدف إليه هؤلاء من تطوير الدين وتطويعه حتى يُجاري العصر ويوافق ما توصلت إليه الحضارة الغربية... وحاشا ابن القيم أن يكون منطلقه وغرضه ومنهجه موافقًا لمنهج العصرانيين الذي رسمه لهم المستشرقون ومن لف لفهم من المشبوهين ومرضى القلوب. المثال الأول : ترك إنكار المنكر مخافة حدوث ما هو أنكر، وقد اعتمد ابن القيم رحمه الله على قواعد فقهية وهي ارتكاب أخف الضررين، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكل هذه أصول مستقاة من أدلة شرعية، وليس في كلام ابن القيم إذن أدنى تلميح لتعطيل النصوص وردها، وهو لم يأت بشئ مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وإنما هو سائر على منهاجهم ملتزم بما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا هو الظن به وبأمثاله من العلماء الربانيين، فما للعصرانيين ولابن القيم ولمنهجه القويم؟ قال رحمه الله تحت عنوان: «الإنكار له شروط»: (المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج (16) عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعته». ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل (17) وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيير البيت ورَده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم، من عدم احتمال قريش لذلك لقُرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. أربع درجات للإنكار: فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يَزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء (18) وتصدية (19) ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع (20) والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (21). المثال الثاني : النهي عن قطع الأيدي في الغزو، وهو من باب الخاص والعام. فالأمر بقطع يد السارق مشروط بشروط، وهو أمر عام استثنيت منه حالات خاصة، نهي فيها عن القطع أو أمر بتأخيره، قال ابن القيم: (المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى (22) عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكر أبو القاسم الخرقي في مختصره ، فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أتى بشر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق مجنَّة (23) فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تقطع الأيدي في الغزو» لقطعت يدك، رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة. روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك. وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة- رضي الله عنه – فشرب الخمر. فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم (24) ؟! وأُتي سعد بن أبي وقاص بأبي محجَن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجَن: كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا وأتركُ مشدودًا علـي وثاقــيا فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك- والله عليَّ- إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني. قال: فحلته حتى التقى الناس، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال وصعدوا به فوق العُذَيْب (25) ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجَن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، جعل الناس يقولون: الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجَن، وأبو محجَن في القيد، فلما هزم العدو. رجع أبو محجَن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنه حفصة سعدًا بما كان من أمره. فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاه، فخلى سبيله، فقال أبو محجَن: قد كنت أشربها إذ يُقام عليَّ الحدُّ وأطهر منها، فأما إذ بَهْرَجْتَنى والله، لا أشربها أبداً، وقوله: «إذا بَهْرَجْتَنى» أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه «بهرج الدمَ ابنُ الحارث» أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا، ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصواب. قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه. قلت: أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة (26) راجحة. إما لحاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يُؤخر (27) عن الحامل والمرضع عن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود. فتأخير لمصلحة الإسلام أولى. فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: «والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهما» فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: «لا حد على مسلم في دار الحرب» كما يقوله أبو حنيفة. ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجَن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأَ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجسة وقعت في بَحر، ولاسيما قد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال) (28). قلت : لعل سعدًا فهم من الحديث أن الحد يسقط في دار الحرب وليس يؤجل ويؤخر إلى حين رجوع الجيش، وربما كان هذا اجتهادًا من سعد، وقول الصحابي إذا خالف غيره ليس حجة، والمهم أن الحد إذا وصل إلى الحاكم فلا مجال لإسقاطه أبدًا، أما قبل ذلك فهو غير مسؤول عما لم يحط به علمًا. ولذلك عندما أراد صفوان بن أمية أن يعفو عن سارق ردائه بعد أن وصل أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد قطع يده فقال: «قد وهبته له» لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال ما معناه: هلا كان هذا العفو قبل ذلك؟ أما الآن فلا. وكذلك عندما جاء أسامة بن زيد يشفع للمرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده بعد أن وصل أمرها إليه قال له: «أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أو كما قال. أما قياس ابن القيم رحمه الله ما قاله سعد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد عندما قتل النفر من بني خزيمة عام الفتح «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ولم يبرأ من خالد (29)- فهو قياس مع الفارق، لأن خالدًا رضي الله عنه كان متأولاً وظانًا أنهم كفار لأنهم قالوا «صبأنا» ولم يعرفوا أن يقولوا «أسلمنا» فظن أنهم على الشرك، أما أبو محجَن فلم يكن متأولاً. وكذلك التوبة لا تسقط الحد، ولو كانت التوبة تسقط الحد لأسقطه صلى الله عليه وسلم عن تلك الصحابية التي اعترفت بزناها دون أن يراها أو يعلم بها أحد، فأقام عليها الحد وقد قال عنها: لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لو سعتهم. فالتوبة النصوح تفيد في الآخرة ولكنها لا تسقط حدًا أبدًا، وقد قلت هذا ردًا على ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا الموضوع من أن التائب يمكن أن يسقط عنه الحد معللاً لمقولة سعد. المثال الثالث: هو عبارة عن قياس وإلحاق لبعض النظائر ببعض، وهذا لا غبار عليه ولا معارضة فيه لنص كما يقول العصرانيون. قال ابن القيم تحت عنوان «فصل: صدقة الفطر حسب قوت المخرجين». المثال الرابع (30) : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كالبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال غيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه حديث، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وأن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام) (31) . المثال الخامس: ويعتمد على أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشرع مفادها رفع الحرج عن عباد الله لأن الله ما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد مثل به ابن القيم لبيان مراده. فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال (32) والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك. وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاة للصلاة والصيام، وأن نهي الحائض عن الجميع سواء، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه... والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز. إلى أن قال : قالوا: وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت: «أحابستنا هي؟» قالوا: «إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذاً» وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. فأما في الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيَّض فلا تخلو من ثمانية أقسام (33)» (34). وهكذا نرى أنه لا علاقة البتة بين ما ذهب إليه ابن القيم وما ذهب إليه هؤلاء من جعل المصلحة هي الحاكمة على النصوص، هذه المصلحة المزعومة التي لم يلتفت إليها أحد من علماء الأمة طيلة هذه المدة ثم جاء ليكشفها سيد أحمد خان صاحب اللسان الأعجمي والقلب المفتون. الشبهة الخامسة (35) : رأي شاذ مهجور لرجل نكرة مبتدع يُدعى الطوفي : يقول الأستاذ بسطامي: (أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف (36) أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (37) . فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من فقهاء الحنابلة وتصفه بالعلم والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالاً على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة (38) . وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة فانتقل منها إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ لم يعرف قبله، ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (39) . وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا. إلى أن قال: أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث «لا ضرر ولا ضرار»، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى من مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع إذا عارضتها. يقول: «اعلم أن هذه الطريقة إذا ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار- ليست هي القول بالمصالح المرسلة (40) على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... فالمصلحة وباقي أدلة الشرع، إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة عليها... وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له... وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسة شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول... ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المنافع) (41) . قلت: هذا القول الشاذ والرأي الساقط، لو كان صادرًا من أحد الأئمة المعتبرين – وحاشاهم أن يصدر منهم مثل هذا الهراء- لما كان فيه حجة لأن الله لم يتعبدنا بسقطات وهفوات العلماء الأخيار، دعك من هؤلاء الأغمار المبتدعين، دعك عن رجل شيعي. والعجب كل العجب من صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا -سامحه الله- حيث اعتبر أن هذا القول الشاذ سبق تحمد على نشره مجلته، وما علم أن ذلك وزر عظيم، إذ ليس هناك ذنب أكبر بعد الإشراك بالله من نشر البدع وإشاعتها، خاصة بين الجهلة الذين لا يميزون بين الحق والباطل، والغث والسمين، والبدعة والسنة. وقد أتي الشيخ محمد رشيد من قبل مداخلته لمحمد عبده وتتلمذة على يديه وهو الذي أفسد عقول الكثيرين، ولا تزال آراؤه تفسد وتخرب، وأي علم يمكن أن يستفاد من أمثال هؤلاء سوى التحلل من أواصر الدين والتمكين لشبه المستشرقين؟ ورحمة الله على من قال: «إن هذا العلم دين، فلينظر أحدكم ممن يتلقى دينه». دينك هو رأس مالك أيها الأخ الكريم فلا تتلاعب به، ولا تأخذ عن هؤلاء الأغرار فإنهم والله أجهل الناس بالدين مع سوء قصدهم وقلة أدبهم. وما قول الطوفي هذا، وقول خان، والدواليبي، وكل من لفَّ لفهم إلا سواء، لا ميزة لسابقهم على لاحقهم إلا أن السابق منهم يتحمل من الوزر والإثم مثل أوزار من أضلهم بهذه الأقوال وأزاغ قلوبهم بتلك الشبه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا. فهنيئًا للطوفي بهذا، وليعلم الجميع أن الله حافظ لدينه ومبلغ لأمره، وستظل النصوص هي الحكم لأنها هي عين المصلحة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
( المرجع : مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي ، الأمين الحاج محمد أحمد ،ص 103-122).
وقال الأستاذ سعيد الزهراني ردًا على هذه الشبهة : (القول بالدوران مع المصلحة لم يُبق شيئًا من أحكام الشرع غير خاضع للاجتهاد، حتى ولو كان ثابتًا بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ومجمع عليه كما سيتبين بعد قليل . والقول بتخطي النص والإجماع، من أجل تحقيق المصلحة بدعة، أظهرها نجم الدين الطوفي (42) المتوفى سنة 716هـ، الذي يقول بعد أن عدد أدلة الشرع: (وهذه الأدلة ... وأقواها النص والإجماع. ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله – عليه السلام -: « لا ضرر ولا ضرار » وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما ... ) (43). هذا هو رأي الطوفي في المصلحة، والعلماء قديمًا وحديثًا على أن هذا الرأي قول شاذ. ومع هذا فقد قال به بعض المفكرين المعاصرين، وأصبح مبررًا لهم لإخضاع الأحكام التشريعية للاجتهاد، حتى لو كانت ثابتة بالنصوص، والإجماع منعقد عليها . وهذه بعض الأمثلة من أقوالهم توضح ذلك : فالدكتور عبدالمنعم النمر يبدأ بتقرير أن أحاديث المعاملات كالبيع والشراء والإجارة، التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن عن وحي، وإنما كانت بناء على نظرة الرسول لتحقيق مصالح الناس، ثم يقول: (ولذلك لم يكن الرسول يتردد في تغيير حكمه الأول، إذا ظهر أنه لم يحقق مصالح الناس، ولم يقطع النزاع، ويحكم بحكم جديد يوفر المصلحة على ضوء الواقع والتجربة...) (44) . فبإخراجه أحاديث المعاملات من أن تكون عن وحي، والسعي للدوران مع المصلحة، لا مانع عنده من الاجتهاد، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده على ضوء الواقع أمامه وبعيدًا عن الوحي، حكما ثابتا للأبد، لا يجوز لأحد بعده أن يتصرف فيه، حتى ولو كانت الظروف الجديدة ومصلحة الناس في ظلها، تحتم هذا التغيير ؟ إن العقل المجرد في هذه الحالة يقول: إن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا حين تقتضيه المصلحة ... ) (45). وقاعدته هنا فيما يرى له حق الاجتهاد فيه، ألا يعارض لنص قرآني، أو قاعدة شرعية، يقول: (إن الإطار العلمي الديني للاجتهاد، هو عدم معارضته لنص قرآني، أو قاعدة شرعية مع تحقيقه المصلحة العامة) (46) . وعلى هذا فتحقيق المصلحة عنده مقدمة على نصوص السنة، حيث لم يأت لها بذكر هنا في شروطه . وفي موضع آخر يؤكد ضرورة مراعاة المصلحة، فيقول: (وقد بلغت ضرورة مراعاة مصلحة المجتمع إلى حد أن إمامين كبيرين من أئمة الفقه والفكر الإسلامي، وهو الإمام الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716هـ، وحجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ- 1111م، يقرران: أنه إذا عارضت مصلحة حكمًا ثبت بالنص والإجماع، فإن هذا في الحقيقة تعارض بين مصلحتين: مصلحة حكم النص والإجماع، والمصلحة العارضة، فإذا ترجحت المصلحة العارضة بمرجحاته المعتبرة، روعيت المصلحة المعارضة، وعدل عن النص والإجماع) (47). وينتصر لما ذهب إليه الطوفي من رأي شاذ فيقول: (لكن الذي جر على الطوفي بعض المتاعب، وأثار الاعتراضات، هو قوله: بأن النص والإجماع إذا عارضتهما المصلحة الراجحة، قدمت رعاية المصلحة على طريق البيان أو التخصيص للنص . مع أن الطوفي بهذا لم يأت بجديد. لأنها قضية معمول بها منذ عهد الصحابة، لكن التصريح بهذا ربما يكون هو الجديد .. والعادة جرت على أن الناس ترى أو تعمل الشيء أحيانًا، لكنها تكره التصريح به .. ) (48). ثم يقول: (وهذا الذي صرح به الطوفي، قد مارسه الصحابة والتابعون عمليًا في حياتهم، وكل الفقهاء يُقِرُّون هذا، ويقررونه في كتبهم، عند الكلام عن اجتهاد الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم.. فكانت الغرابة أن ينزعج بعضهم مما قرره الطوفي !! فما وجه الإنكار – إذن – على الطوفي والتنديد به. وهو لم يزد على أن استخلص قضية من أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ وأسمعها الآذان ووضعها أمام الأنظار؟) (49). وهذا كلام صريح من عبدالمنعم النمر على موافقة الطوفي في قوله الشاذ، ولو كان صحيحًا أنها قضية معمول بها في اجتهادات الصحابة والتابعين لما عَدَّها أهل العلم رأيًا شاذًا. وممن قالوا بتقديم المصلحة على النص والإجماع محمد عمارة، وهذا قوله: (فالحكم المجمع عليه، والمؤسس إجماعه على نص قطعي الدلالة والثبوت، إذا كان متعلقًا بعلة غائبة تبدلت أو بعادة تغيرت أو بعرف تطور – أي إذا لم يعد محققًا للمقصد منه، وهو المصلحة – فلابد من الاجتهاد فيه ومعه، اجتهادًا يثمر حكمًا جديدًا، يحقق «المقصد – المصلحة ») (50)، وهذا هو الدوران مع المصلحة . وفي مقال بعنوان « وثنيون هم عبدة النصوص » لفهمي هويدي، يرى أن تقديم النص على المصلحة والاستمساك به في أي ظرف وثنية جديدة، ويتسائل ما العمل إذا لم تحقق النصوص تحت أي ظرف مقاصد الشريعة، وبدا أن هناك تعارضًا بينهما؟ ويجيب أن الثابت عند أغلب الفقهاء أن المصلحة تُقدَّم على النص (51). وفي موضع آخر يقول تحت عنوان فقهاء السلف جاروا على المصلحة: (لم يعد أحد يجادل في اعتبار المصلحة كأحد مصادر التشريع، فقد استقر الأمر على نحو بعيد لصالح المصلحة وترجيحها. حتى شاعت مقولة « حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله ») (52). ويقول: (... إن مدونات أهل السنة أغمطت المصلحة حقها، بحيث لم تعطها نصيبها الذي يتناسب مع مكانتها الجليلة في الشريعة ... ولقد أدى التضييق وعدم العناية باعتبار المصالح إلى تحريم الأشياء بأدنى الشبهات) . ويبين (أن المشكل الذي هو مثار الجدل، يتمثل في افتراض تعارض المصلحة مع الدليل الشرعي. ذلك أن الأغلبية الساحقة من الفقهاء المعتبرين، تُعارِض رأي الطوفي في تغليب المصلحة في المعاملات على الدليل الشرعي على الإطلاق، أي بغير ضابط ولا رابط) (53). ويرى هويدي أن معالجة التعارض بين المصلحة والنص يكون بالمنطوق التالي: (إن الحكم الشرعي في المعاملات إذا ثبت بنص قطعي أو بإجماع صريح يطمأن إليه، لا يعدل عنه إلى حكم غيره إلا في حالتين: إذا كانت المصلحة المستفادة من النص أو الإجماع مما بتغير في معاملات الناس – أو إذا قضت بهذا العدول ضرورة، لأن مواضع الضرورات مستثناة بالنص. أما النصوص التي لا تتغير مصالحها، كنصوص حِلّ البيع والإجارة والرهن وحرمة الربا والغضب، فلا عبرة بالمصلحة المظنونة في مقابلتها) (54). وهذا المنطوق الذي يقول به، ما هو إلا محاولة لتبرير رأيه في مخالفة النص القطعي والإجماع الصريح وتقديم المصلحة عليه . وهذا محمد سليم العوا، الذي سبق ذكر قوله عند حديثه عما هو شرع دائم، يبالغ في مكانة المصلحة، فيقول: (... وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة، التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها، فأينما تبين وجهها فثم شرع الله ودينه) (55) .
الــرد : هذه نماذج من أقوال هؤلاء المفكرين يتبين منها كيف جعلوا السعي لتحقيق المصلحة مطلبًا أساسيًا، من أجله ردوا النصوص الثابتة، وتخطوا ما أجمعت عليه الأمة من أحكام تشريعية وفتحوا بذلك بابًا واسعًا لرد ما أرادوا من الأحكام، وقبول ما أرادوا تحت تبرير شرعية الاجتهاد، فيما يحقق المصلحة، ويمكن بيان فساد قولهم في النقاط التالية: 1 – لم يفرق أصحاب هذه الاتجاه بين ما شهد الشرع باعتباره من المصالح وغيرها. فالمصلحة من حيث شهادة الشرع لها إما أن تكون مصلحة معتبرة، أو مصلحة ملغاة، أو مصلحة مسكوت عنها (56). والمصلحة الملغاة هي ما شهد الشرع ببطلانها، بوجود نص يدل على حكم في الواقعة، يناقض الحكم الذي تمليه المصلحة (57). وقول هؤلاء المفكرون بتقديم المصلحة على النص القطعي الدلالة والثبوت، مناقَضة لأحكام ثابتة بالنصوص، بما تمليه مصلحة متوهمة والعلماء المعتبرين لم يعملوا بمصلحة في مقابل نص شرعي، (لأن العمل بالمصلحة في مقابلة هذا النص «يغير النص » أو «يصدم النص » أو «يرفع حكم النص » أو «يناقض النص » أو «يخالف النص » أو «يحرف النص» وقد قرر الغزالي أن المصلحة التي هذا شأنها مصلحة ملغاة) (58). 2 – مما هو متفق عليه أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق المصالح وعلى هذا فكيف يصح أن يقال أن في نصوص الشرع الثابتة، أو مسائل الإجماع ما قد يصادم المصلحة، ولذلك نحتاج إلى تقديم المصلحة عليها ؟ 3 – من الانحراف البّين أن جعل هؤلاء المفكرون لعقولهم تحديد المصالح، وأخلوا بضوابط المصلحة المعتبرة، التي قررها أهل العلم، وتتلخص فيما ذكره البوطي بقوله: (المصلحة المعتبر شرعًا ينبغي أن تكون غير مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله، ولا للإجماع أو القياس الصحيح، وأن لا تكون مُفَوِّتَة لمصلحة مساوية لها أو أهم منها) (59) . بالإضافة إلى ضابط آخر وهو أن يوكل تقدير المصلحة إلى المجتهدين من العلماء. وواقع هؤلاء المفكرين يخالف هذه الضوابط ولا يعبأون بها كثيرًا، ومثال ذلك أنهم هم الذين يقدرون المصلحة مع قصر باعهم في العلم الشرعي، ويرون أن تقدير غيرهم من العلماء المعتبرين يتسم بالجمود والقصور عن معرفة حاجة العصر ومتطلباته المستجدة . 4 – أن رأي الطوفي الذي يستند إليه من قال بتقديم المصلحة على النص، قول شاذ، كما قرر أهل العلم ذلك، وقد رد عليه كثير من العلماء وشنعوا عليه. يقول عنه أبو زهرة: (إن مهاجمته للنصوص، ونشرة فكرة نسخها، أو تخصيصها بالمصالح هي أسلو شيعي، أُريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق، لأن الشارع الحكيم جاء بشرعة لمصالح الناس في الدنيا والآخرة، وأدرى الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه وصى أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها، وإن لم يذكر كلمة الإمام، ليروج القول، وتنتشر الفكرة) (60). ويقول عبدالوهاب خلاف: (إن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه، وفيما فيه نص، فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي، لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية، وعلى كل القوانين) (61). ويقول يوسف كمال: (وقد أُتهم الطوفي من البعض بالتشيع والرفض وسب الصحابة، والعلماء على أن رأيه في المصلحة شاذ ولم يعرف قبله ولم يتابعه بعده أحد إلا بعض المعاصرين) (62) . وبعد هذا كيف يصح أن يكون قول الطوفي هو القول المعتمد وتُرد أقوال العلماء المعتبرين؟ 5 – يرد على القائلين بتقديم المصلحة على النص، بمثال تطبيقي، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة، حيث فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة. فعمر قال: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ». قال أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ... ». وسأل الناس أبا بكر في رد جيش أسامة ليستعين به على قتال أهل الردة، فأبى، والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، وهي من ظنهم بقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين، ولما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة – وهم مجتهدون – وعملوا بما ورد في النص ) . يقول الشاطبي –رحمه الله -: ( ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافة، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (63). وفي هذه القصة دلالة واضحة وقوية على أن المصلحة المقابلة للنص، لا عبرة بها حتى وإن كانت من كبار المجتهدين (64). 6 – مما يريد به على الدكتور عبدالمنعم النمر في قوله بجواز الاجتهاد فيما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا تقتضيه المصلحة. أن يقال ما المصلحة هنا؟ هل هي المصلحة التي أرادها الشارع؟ أم المصلحة التي تتبع هوى الناس . ونظن أنه لا يقول بغير الأولى، وعلى ذلك فالمصلحة فيما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى أما غيره فليس معصومًا من النقص والتقصير مهما ادعى القدرة على الاجتهاد، والدليل على ذلك ما يذكر الدكتور علي محيي الدين داغي عند رده على النمر بقوله: (إن الدكتور النمر قد تولى هو واثنان من شيوخ الأزهر تقنين قانون الأحوال الشخصية رقم (40) لسنة (1979) الذي راعى المصلحة التي تريدها الدولة، فقيد الزواج بالثانية برضا الزوجة الأولى، وأعطى المسكن للزوجة، فترتب على ذلك مشاكل ومظالم لا قبل للمحاكم بها، ولم يطقها الشعب المصري المتدين بفطرته، فرفضوها رفضًا باتًا مما أدىل إلى إلغائه بعد عمر قصير، وقد اعترف الشيخ النمر على صفحات جريدة الأهرام بأنه كان مخطئًا في أكثر بنود هذا القانون (273) . وهذا دليل عملي وتجريبي للشيخ نفسه بأن المصلحة إن أعطينا معيارها للناس فلا تنضبط، ولذلك فالتشريع في نظر الإسلام من حق الله تعالى ورسوله فقط والمصلحة هي التي أقرتها الشريعة، ولذلك إذا وجد نص صحيح صريح فلا يجوز لأحد مهما كان أن يعارضه...) (65) . وفي نهاية هذا الفصل نخلص إلى أن أصحاب هذا الاتجاه قد جعلوا الاجتهاد هو المعبر الذي يصلون عن طريقه إلى كل ما يطيب لهم، تحت مسوغ شرعي – في نظرهم – يبررون به منهجهم العقلي الذي خالفوا فيه القواعد التي قررها أهل العلم، ومنها: مجال الاجتهاد، فلا يكون الاجتهاد فيما فيه دليل قاطع، وإنما يكون فيما كان الدليل فيه ظني، أو ما لا نص فيه من كتاب أو سنة، أما عند العقلانيين فلا التزام بهذه الضابط، ويمكن أن يكون الاجتهاد في الأصول والثوابت، ولذلك يرون أن الاجتهاد العقلي يمكن أن يعيد دراسة وتفسير المبادئ التشريعية كما يقول محمد إقبال: (والرأي عندي هو أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم، وعلى هدى ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة . هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ، كما أن حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج، يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما يورثه من آثار أسلافه، من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه، وحل مشكلاته الخاصة) (66). وعند محمد عمارة يمكن أن يكون الاجتهاد في النصوص القطعية كما مر، والباعث على ذلك هو تحقيق المصلحة، وكأنه لا يعلم (أن ليس من المصلحة في شيء على الإطلاق ما خالف دليلاً من الكتاب والسنة، أو عارض قاعدة محكمة من قواعد الشريعة . ولا يصح على الإطلاق أن يكون المعيار في تحديد المصالح موافقتها لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتهم لعاداتهم وأعرافهم إذا كانت تخالف شرع الله) (67). ومن المخالفات الظاهرة عند محمد عمارة التي يخالف فيها ضوابط الاجتهاد هي في من يرى أن لهم حق الاجتهاد، وهم من يسميهم أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي، والمقصود بهم أشمل وأعم من أن يكونوا علماء الشريعة، وعنده أن كل مفكر له حق الاجتهاد، دون أن يكون بالضرورة دارسًا لعلوم الشريعة (68).
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/649-658). الشبهة(4) : الثابت والمتغير في الإسلام
من مبادئ (العصرانية) تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات، وقد تناول مفكروها هذه القضية بالبحث في المسيحية واليهودية (69) والإسلام (70). ويشرح الدكتور معروف الدواليبي هذا المبدأ في مقال له بعنوان: « النصوص وتغير الأحكام بتغيير الزمان» فيقول: « إذا كان النسخ لا يصح إلا مِنْ قِبَل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام، وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟ 1- إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لِمَا في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان، غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة، ولم ينسخ مِنْ قِبَل مَنْ له سلطة الاشتراع. 2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولا، وبالأخذ بهما ثانيًا. فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًّا خاصًّا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لَمْ ينسخ نصه مِنْ قِبَل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام.. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان». (71) فعلي رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السنة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا مِنَ القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي، ينقضه أحد كائنًا مَنْ كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول: إن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة؛ وهي أنه « لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان». ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لا بد من النظر أولا في هذه القاعدة الفقهية التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تداينها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا. من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين: رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسنة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص؛ مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص، أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي. لا يختلف اثنان على أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم، ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح. ففي القسم الثاني من الأحكام الذي لم يكن مصدره النص مباشرة، ولم يجد الفقهاء صعوبة تُذْكَر في تقرير أن المصلحة التي لم يأتِ بها نص أصلا يمكن أن تغير وتصبح في حين مِنَ الأحيان مفسدة، أو أن العُرْف و العادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلا يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا - بلا تحفظ- أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عُرْفًا متصور عقلا وواقع ملموس. أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة، فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة؛ ذلك أن مِنَ المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال: إن مصلحة ما عارضت النص؛ فالنص هو عدل كله، ورحمة كله، وحكمة كله، ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان. يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة : « إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل زمان وفي كل مكان على كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى». (72) وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية: «لا ينكر تغير الأحكام بتدل الزمان» قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام؛ وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة على نص شرعي، بل مصدرها عُرْف أو مصلحة سكتت عنها النصوص. وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة، وقررتها المادة (39)، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها على الأحكام التي لم تستنبط من النصوص (73)، وعلى هذا استقر فهم الفقهاء... يقول الدكتور (مصطفى الزرقا) في بحثه لهذا الموضوع : « من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية، وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان. وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذِّكر، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان؛ بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال». (74) أثر العرف في تغير الأحكام : ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف تغير الأحكام شرحًا وتوضيحًا؛ فيبيِّن أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلا، ولم تتعرَّض لها إطلاقًا، لا بمدح ولا ذم، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم، فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعًا لتغيرها. وضرب بعض الأمثلة على ذلك؛ منها على سبيل المثال: العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء أو إنهاء عقود المعاملات المالية، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق، فهذه يراعى فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر. ومن الأمثلة أيضًا للعوائد التي تتغير لها، ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلا، فهذه قد تختلف من عصر إلى عصر، أو من بلد إلى بلد، فإذا كانت العادة مثلا أن يدفع المهر كاملا قبل الزواج أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية. أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة، وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية (75) : يقول: «العوائد المستمرة ضربان؛ أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو نَدْبًا، أو نهي عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن بها فِعْلا وتَرْكًا. فالثانية: هي العوائد الجارية بين الْخَلْق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي. فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية.. فهي إما حسنة عند الشارع أو قبيحة.. فلا تبديل لها.. فلا يصح أن ينقلب الْحَسَن فيها قبيحًا ولا القبيح حَسَنًا.. إذْ لو صَحَّ مثل هذا لكان نَسْخًا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل.. فرفع العوائد الشرعية باطل». أما الثانية: فهي عند الشاطبي المتبدلة، ثم ضرب لها أمثلة سقناها. رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام : أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير؛ لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه، ولا يعرف أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة (المنار) في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو (نجم الدين الطوفي) ذكرت المجلة أن تحدث عن المصلحة بما لم تَرَ مثله لغيره من الفقهاء (76)، فمن هو الطوفي هذا؟ ما رأيه الذي شَذَّ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر التي ترجمت لحياة (الطوفي) أنه كان من الفقهاء الحنابلة، وتصفه بالعلم والصَّلاح والفَضْل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلاله على منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشييع والرفض وسَبِّ الصحابة، وتجعل ذلك سببا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة، ومنها نُفِيَ إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته، إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأيًا شاذًّا، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (77)، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا وإن كان في الغالب دليل الخطأ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيًا صائبًا، أم كان رأيًا لا وزن له؟ أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث «لا ضر ولا ضرار» (78)، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقوم على النص والإجماع إذا عارضتهما. يقول: « واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار – ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا؛ فإن اتفقا فبها ونِعْمَتْ، وإن اختلفا وتعذَّر الجمع بينهما قُدِّمتِ المصلحة على غيرها.. وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رُسِمَ له.. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإن أحكامها سياسية شرعية وضعتْ لمصالحهم، فكانت هي المعتبر، وعلى تحصيلها المعوَّل.. ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المنافع». (79) ويسوق لرأيه هذا عددًا من الأدلة؛ منها : (80) 1- أن النصوص إجمالا وتفصيلا قد بيَّنت أن مقصود الله -عز وجل- من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج؛ من ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185] ، وقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] وقال عليه السلام: «الدين يسر»، وقال: «بعثت بالحنيفية السمحة». 2- حديث لا ضرر ولا ضرار وهو واضح الدلالة في نفس الضرر والمفسدة، وتقديم المصلحة على جميع أدلة الشرع، فإذا تضمن بعد أدلة الشرع ضررًا كان لا بد عملا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر. 3- أن النصوص متعارضة مختلفة، فلهذا تكون سببًا للخلاف والتفرق، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه، ولهذا فهي أولى بالتقديم على النصوص. 4- أن المصلحة دليل متفق عليه، أما الإجماع فدليل مختلف حوله، فالتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه. وهذا مجمل ما عند (الطوفي) من أدلة على رأيه، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل رَوِيَّة وتَمَعُّن يظهر فيها ضعفًا وتناقضا لا يُخْطِئه مَنْ له أدنى إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها. 1- فمما لا يختلف فيه اثنان أن النصوص دلت عمومًا وتفصيلا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وُجِدَ النص فَثَمَّ المصلحة، والله أراد من النصوص اليُسْر ولم يرد بها العُسْر، وكل نصوص الدين ما جعل الله فيها مِنْ حَرَجٍ وهي سمحة سهلة، فكل أدلة (الطوفي) في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج في مقصود الشارع، فهي دليل على ضرورة التزام النص وتقديمه؛ لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف. 2- وحديث لا ضرر ولا ضرار هو أحد الأدلة أيضًا على أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها، وأن المصلحة متحققة منها دائمًا، إذا كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببًا في الضرر. إن من يفرض وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بَيِّنٍ. 3- والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع، وهو اختلاف كبير واسع، فالمصلحة ليست أمرًا منضبطًا يتفق عليه الناس، وإلا لو كان الأمر كذلك لاتَّفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم، وكل هذا ينقض ما قاله (الطوفي) مِنْ أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه. 4- والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة على الإجماع متناقض جدًّا؛ فهو يقول: إن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله ، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها ( فأصبح معنى كلامه : الإجماع أضعف من رعاية المصلحة؛ لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه). (81) 5- ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأتِ بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص، وكيف تقدَّم عليها؛ حتى نستيقن مما يقول، وما ذلك إلا لأنه لم يجد مطلقًا -بعد طول الاستقراء والبحث- حالة واحدة تعارض فيها المصلحةُ النصَّ؛ لأن ذلك التعارض أمر متوَّهم. (82) ولضعف أدلة (الطوفي) وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية؛ فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه: «إنه رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية» ويقول: «.. إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي، أريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق؛ لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخر، أدري الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة». (83) ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: «.. وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالرويَّة والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء، وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين». (84) شذوذ بعض المعاصرين : ومع وضوح خطأ (الطوفي) فقد تَمَسَّك برأيه بعض المعاصرين، وألبسوا به العلمانية ثوبًا إسلاميًّا، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم فيها بالنصوص، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح على مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها، وحذفها وإضافة غيرها.. يقول الدكتور (النويهي) في مقالة بعنوان: (نحو ثورة الفكر الديني): (85) «إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولا مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقِّنَا بل من واجبنا أن نُدْخِلَ عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه». ويضيف هؤلاء المعاصرون تأييدًا لرأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعًا لتغير المصالح بتغير الزمان حججًا جديدة؛ منها: اجتهادات عمر بن الخطاب، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص، ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد. (86) ونتناول هذه الحجج فيما يلي: اجتهادات عمر بن الخطاب : يقال: إن عمر بن الخطاب لم يلتزم بحرفية النصوص في عدد من اجتهاداته، وفيما يلي اثنان من أشهرها: 1-«اجتهاد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلَّفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغير المصلحة بتغير الأزمان، رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتًا». (86) ويقول النويهي عن ذلك: «فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني؛ حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا على مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟». (87) ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غَيَّر حكمًا ثابتًا بالقرآن؟ إن سؤالا واحدًا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو هل كان يوجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟ فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم، فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أي يقال أن مصرفًا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد مَنْ يستحقه، فكل ما فعله عمر -رضي الله عنه- هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني، وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذ وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا، وإذا لم يوجدوا لم يعطوا».(88) 2- «اجتهاد عمر -رضي الله عنه- عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد.. وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة». (89) ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة، ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع، وروى عن غير واحد من الصحابة. (90) ويقول ابن القيم عن ذلك: «فإن السَّنَة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غَلَبَ على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رَمَقَه، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَهِ التي ذكرها كثير من الفقهاء». (91) فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف. فقه الشافعي القديم والجديد: ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر. (92) وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلى نظر؛ فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه، وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حَوَتْ اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيها (93)، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: «لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي» وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم (94)، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف. ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد): «عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك». (95) ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كان للظروف أثر في ذلك التغير، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها. رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام : عقد الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فصلا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد) وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء (96)، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة، إلا إذا دَلَّ النص نفسه على تغيرها. وقد أورد ابن القيم عددًا من الأمثلة لتغير الحكم، وكل أمثلته تدور على الحالات الآتية : (97) 1- الحالة التي يثبت تغير النص فيها نَصٌ آخر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر. 2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، ومثالها: ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه. 3- حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فقياس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قُوتًا في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص. 4- حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها: صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج، مع أن بعض النصوص يفهم منها عدم صحة ذلك في الأحوال العادية. 5- الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنفور، تبعًا لتغير العُرْف والعادة في ذلك. وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة على النص. أحكام النصوص ثابتة: ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلا واحدًا يؤيد رأي (العصرانية) فيما تحاوله من فتح الباب لتغيير النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة إلى يوم الدين لا تستطيع هيئة تشريعية أن تعدل فيها أو تغيرها. لا كهنوتية في الإسلام.. ولكن!! ينادي (سيد خان) (98) وأمثاله من (العصرانيين) بفتح أبواب الاجتهاد، وبإتاحة حرية واسعة في الاجتهاد حتى للأفراد العاديين، ولو أدى ذلك إلى فوضى فكرية. وهكذا نشأت في أيامنا وجهة جديدة للتفكير تقول أن لا كهنوتية في الإسلام، فليس للعلماء مِنَ اختصاص بالقرآن والسنة والشريعة؛ حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم، وما عند العلماء من حجة تجعل آراءهم أرجح مِنْ آرائنا، وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدين. «.. ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل مِنَّا فيقول أن لا قضاء في الإسلام، فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون، ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء.. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة، ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن أن ليس هناك مِنْ حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب ». «.. نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام، ولكن هل يعلم هؤلاء أن اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية؛ حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل ولم يفرق فيه - كما في المسيحية - بين الدين والدنيا للقياصرة، ويكون الدين للرهبان والأحبار، ولا ريب – كذلك – أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسنة والشريعة، وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرداها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين، فكما أنه من الممكن لكل أحد مِنَ الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسنة، وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمها أن يتكلم في مسائل الشريعة... وهذا هو المعنى الصحيح المعقول؛ أن يكون هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام». « ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال، يجوز لكل مَنْ شاء للناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه، ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسنة والتبصر فيهما، وإذا لم يكن مقبولا ولا معقولا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه». (99) نقد فقه العصرانية أنتجت آراء العصرانية الأصولية وموقفها من الحديث وموقفها من التفسير فقهًا متميزًا، يهدف في معظمه إلى تبرير الواقع المعاصر، وإدخال كثير من القيم الغربية في صُلْبِ الإسلام. وقد مرت بنا أمثلة كثيرة من هذا الفقه في الفصلين الثاني والثالث. ولا يتسع المقام هنا لنقد كل تلك المسائل التفصيلية من هذا الفقه، ولكننا نعرض هنا بعض آراء المعاصرة عن بعض المسائل التي تشغل بال (العصراينة) في مجال المرأة والحدود والجهاد، وتعرضها مِنْ وجهة نظر مدرسة التجديد السُّنِّي المعاصرة، وبأحد أقلامها المشهورة؛ قلم المودودي. حدود نشاط النساء في الدولة الإسلامية ليس للدولة الإسلامية أن تعمل شيئًا في أمر من أمور الدنيا بالعدول عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وليس لها أن تفكر في ذلك إذا كان القائمون بأمرها أناسًا يؤمنون بالإسلام، ويتبعون مبادئه وأحكامه عن صادق العزيمة وخالص النية. ومن أحكام الإسلام فيما يتعلق بأمر النساء أن المرأة تساوي الرجل في الكرامة والشرف والاحترام، كما لا فرق بينهما باعتبار المستوي الخلقي، ولا باعتبار الأجر والمثوبة في الآخرة، ولكن ليس لنشاطهما دائرة واحدة؛ فالسياسية وإدارة الحكومة والخدمات العسكرية وما إليها من الأعمال لا علاقة لها إلا بالرجل، ولن يكون من نتيجة إقحام المرأة في هذه المجالات سوى أن تنهار حياتنا العائلية بمعنى الكلمة، وهي حياة تتحمل معظم تبعاتها المرأة، أو أن نحملها أثقالا مضاعفة؛ حيث أنها تقوم بواجباتها الفطرية – وهي واجبات لا قِبَل للرجل بمشاركتها فيها أبدًا – مع تحملها شطر واجبات الرجل. أيضا، وبما أن ليست الصورة المؤخرة الذِّكْر بميسورة فعلا، فلا بُدَّ أن تواجهنا الصورة المقدَّمة الذكر، وهي التي قد واجهها الغرب في إقحام المرأة في دائرة نشاط الرجل، فليس مِنَ العقل في شيء أن نحاكي غيرنا في سفاسف الأمور. والإسلام من حيث المبدأ عدو للبيئة الخليطة بالرجال والنساء. ولا نظام في الدنيا يرحب بها ويرضى بها، إن كان في نظره أدنى أهمية لتماسك نظام الأسرة. وقد ظهر للمجتمع المختلط في بلاد الغرب أشنع وأقذر ما يكون من النتائج، أما إذا كان الناس في بلادنا يجدون من نفوسهم استعدادًا لمكابدة هذه النتائج فليكابدوها بكل فخر وسرور ولا حرج، ولكن ما لهم يريدون للإسلام أن يجعل لهم رُخَصًا في أعمال ينهي عنها بكل تأكيد، وإذا كان الإسلام قد كلف النساء خدمة الجرحى في الحرب، فليس معنى ذلك أن للمسلمين أن يخرجوهن إلى المكاتب والمعامل والنوادي والمجالس النيابية حتى في حالة السلم. ومن المحال أن يكون التوفيق حليف النساء إذا ما اقتحمن دائرة نشاط الرجال وسابقنهم في أعمالهم؛ وذلك أن الله ما خلقهن لإنجاز هذه الأعمال، وإنما الرجل هو الذي قد أعطاه الله ما يحتاج إليه من الصفات الخلقية والمواهب الفكرية للقيام بهذه الأعمال، إذا استطاعت المرأة - على سبيل الافتراض - أن تبرز في نفسها حفنة من هذه الصفات والمواهب بالرجولة المصطنعة، فإن أضرارها الجسيمة المضاعفة لا بد أن تعود على نفسها وعلى المجتمع أيضًا؛ أما مضرتها على نفسها فهي أنها لا تنسلخ من أنوثتها تمامًا، ولا تدخل في الرجولة تمامًا، وتبوء بالفشل في دائرة نشاطها التي ما فطرت إلا لها، وأما مضرتها على المجتمع فهي أنه يجد لمختلف أعماله عمالا غير أكفاء، بدلا من أن يجد لها عمالا أكفاء، كما تفسد خصائص المرأة ومزاياها التي نصفها أنوثية ونصفها رجولية الحياة السياسية والاقتصادية. ولا يمانع الإسلام مِنْ تعليم المرأة، بل الذي يؤكد عليه الإسلام أن تتحلى المرأة بأعلى ما يكون من التعليم والتربية، ولكن بشروط. أولها: أن تدرس بصفة خاصة علومًا تجعلها صالحة للقيام بعملها في دائرة نشاطها، وعلى أمثل وجه وأكمله، وألا تكون ثقافتها عين ثقافة الرجل. وثانيها: ألا تكون ثقافتها في معاهد مختلطة بالرجال والنساء، وإنما تكون في معاهد خاصة بالنساء، وقد ظهرت النتائج الموبقة للتعليم المختلط في البلاد الغربية الراقية، ولا يكابر فيها الآن إلا مَنْ أصيب بعمى القلب والبصيرة. ثالثها: أن تشغل الفتيات المثقفات في مؤسسة خاصة بالنساء كالمدارس والكليات والمستشفيات مثلا. (100)
تقييد الطلاق وتعدد الزوجات للمرأة المسلمة أن تخالع زوجها؛ أي تطلب منه الطلاق على الفدية عن طريق القضاء الإسلامي، ولها كذلك أن تتحصل من المحكمة حكمًا بفسخ زواجها أو التفريق بينها وبين زوجها بشرط أن يكون لديها من الأسباب ما يبيح لها شرعًا أن ترجع إلى المحكمة وتحصل منها على الحكم بإحدى الصورة المذكورة آنفًا. وأما الطلاق فقد جعله القرآن من حقوق الرجل بكلمات صريحة، ولا لقانون أن يتدخل في حقه هذا. أما أن تأتي هيئة من هيئات المسلمين التشريعية وتبيح لنفسها أن تضع قوانين مخالفة للقرآن باسم القرآن نفسه فهذا أمر آخر، وتاريخ الإسلام منذ عهد الرسالة إلى قرنه الحاضر ما عرف الفكرة القائلة بجواز أن ينتزع حق الطلاق من الرجل، أو تتدخل فيه محكمة أو مجلس التحكيم... والحقيقة أن هذه الفكرة استوردت إلى بلادنا من أوربا رأسًا، ولم يحدث قط أن تفكر مورِّدو هذه النظرية فيما كان لقانون الطلاق هذا خلفية أو سياق تاريخي في أوربا، وما ظهر له في حياة الغرب من نتائج موبقة. وسيعلمون قريبًا عواقب تحريفهم في أحكام الله حين تخترق فضائح حياتهم العائلية جدران بيوتهم، وتنزل إلى الشوارع والأسواق، وتشحن بها صفحات الجرائد والمجلات. كما أن ليست فكرة منع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة إلا بضاعة أجنبية استوردت إلى بلادنا برخصة مزورة منسوبة إلى القرآن، وقد جاءت من مجتمع إذا اتخذ فيه الرجل - على وجود زوجته المشروعة – امرأة أخرى خليله له، فلا تستحق هذه الخليلة أن يتحمل وجودها فحسب؛ بل تستحق حفظ حقوق أولادها غير الشرعيين أيضًا. (وما مثال فرنسا في هذا الباب ببعيد عنا، ولكنه إذا تزوج بها فقد خالف القانون واقترف جريمة لا تغتفر. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيود بأسرها تُفْرِضُ على الحلال لا على الحرام».(101) الدليل على حد الرجم: إن الحد الذي قد قُرِّرَ في سورة النور للزنا، إنما هو حد الزنا المطلق، وليس بحد للزنا بعد الإحصان – أي ارتكاب الزنا بعد التزوج – الذي هو أشد وأغلظ من الزنا المحض في نظر القانون الإسلامي. والله -تعالى- يشير في سورة النساء إلى أنه لا يقرر في سورة النور هذا الحد إلا للزنا الذي يكون كلٌّ مِنْ مرتكبيه غير متزوج. فقد قال أولا في سورة النساء: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }[ النور: 15] ثم قال بعده بيسير{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور: 25] فالآية الأولى تتضمن التوقع لحكم من الله سينزله في المستقبل لعقوبة الزانيات اللاتي يأمر الآن بإمساكهن في البيوت. ونعلم بذلك أن هذا الحكم الأخير الذي جاء في (سورة النور) هو الحكم ـ أو السبيل ـ الذي كان وعد به الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء. وفي الآية الثانية جاء بيان حد الزانية من الإماء المتزوجات، وكما قد جاءت لفظة المحصنات في آية واحدة وسياق الكلام بعينه مرتين، فلا بد أن يكون معنى المحصنات واحدًا في الموضعين. فإذا نظرت الآن في بدء الجملة حيث قيل: +ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات" علمتَ أن ليس المراد بالمحصنة في هذه الآية امرأة متزوجة، بل امرأة حرة غير متزوجة. وقيل في ختام الجملة: إن الأمة إذا أتت بفاحشة ـ أو زنت ـ فعقوبتها نصف عقوبة المحصنة، والذي يدل عليه سياق الكلام؛ أن المراد بالمحصنة في هذه الجملة نفس المعنى المراد في الجملة السابقة؛ أي: «امرأة حرة غير متزوجة، ولكن محصنة بعفافها وحفظ أسرتها». فهاتان الآيتان معًا تشيران إلى حكم أن حد الزنا في سورة النور -وهو الذي كان الوعد جاء به في سورة النساء- إنما يبين حد الزاني والزانية غير المتزوجين. أما ما هو الحد للزنا بعد الإحصان بالزواج، فهذا أمر لا نعرفه من القرآن بل نعرفه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ثبت بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على بيان حد الزنا للمتزوجين والمتزوجات بأقواله فحسب، بل قد أقام هذا الحد فعلا في غير واحدة من الأقضية المرفوعة إليه وهو الرجم. ثم أقامه بعده خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- في عهودهم، وأعلنوا مرارًا أن الرجم هو الحد ـ أي العقوبة القانونية ـ للزنا بعد الإحصان. والرجم باعتباره حد للزنا بعد الإحصان ما زال أمرًا مجمعًا عليه بين الصحابة والتابعين، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولا يدل على أنه كان في القرن الأول رجل له الشك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة. ثم ظل فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه سنة ثابتة بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها. ولم يخالف الجمهور في هذه القضية إلا الخوارج وبعض المعتزلة، على أنه ما كان الأساس لمخالفتهم أن يكونوا قد شخصَّوا ضعفًا في ثبوت حكم الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قالوا: إن الرجم باعتباره حدا للزاني المحصن مخالف للقرآن، والحقيقة أن ليس ذلك إلا لخطأ فهمهم للقرآن. قالوا: إن القرآن يبين مئة جلدة حدًّا عامًّا لكل زانٍ وزانية، فليس تخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم العام إلا مخالفة للقرآن، ولكنهم ما تنبهوا إلى أن الوزن القانوني الذي هو لألفاظ القرآن هو نفسه لشرحها الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بشرط ثبوته عنه. ألا ترى أن القرآن قد جاء بمثل هذه الألفاظ المطلقة عندما بَيَّنَ حدَّ السارق فقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، ونحن إذا لم نجعل هذا الحكم مقيدًا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ شرحه، فمن عين ما يقتضيه عموم هذه الألفاظ أن نحكم بالسرقة على كل مَنْ سرق إبره أو تفاحة ـ مثلا ـ فنقطع يده بل يديه إلى منكبيه، وبالجانب الآخر كل مَنْ سرق ولو آلافًا من الجنيهات، ثم تظاهر بالتوبة وإصلاح النفس، فعلينا أن نتركه ولا نمسه بسوء؛ لأن القرآن يقول بعد بيانه حد السارق والسارقة: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 39] وكذال فإن القرآن إنما يبين حرمة الأم والأخت من الرضاعة، فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب هذا الاستدلال. والقرآن إنما ينهي عن الجمع بين الأختين، فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. والقرآن إنما يحرم على المرء ربيبته إذا كانت قد تربت في حجره، فيجب أن تكون حرمتها المطلقة مخالفة للقرآن. والقرآن إنما يأذن في الرِّهَان إذا كان الرجل على سفر ولم يجد كاتبًا، فيجب أن يكون جواز الرهان في الْحَضَر ومع وجود الكاتب مخالفة للقرآن. والقرآن يقول بكلمات عامة ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) فيجب أن يحكم بالحرمة على البيع والشراء الذي يتم في أسواقنا ليل ونهار بغير الشهود لكونه يخالف القرآن. فهذه بعض أمثلة إذا سرحت فيها النظر تبين لك الخطأ في استدلال الذين يقولون: إن حكم الرجم للزاني المحصن مخالف للقرآن (102). والحق أن منصب الرسول في نظام الشريعة -الذي لا مجال فيه للريب والمكابرة- هو أن يبلغنا أحكام الله –تعالى- ثم يبين لنا مقتضياتها ومقاصدها والطرق للعمل بها، والمعاملات التي تنفذ فيها، والمعاملات التي لها أحكام أخرى. وإنكار هذا المنصب ليس بمخالفة لأصول الدين فحسب، بل هو مستلزم ـ كذلك ـ لمصاعب ومفاسد لا تكاد تحصى. (103) لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي إن ما اصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال الهجومي والدفاعي لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البَتَّه، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما، وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قُطْرٍ مخصوص أو أمة بعينها. وأما إذا قام حزب عالمي مستند إلى فكرة انقلابية شاملة، لا تفرق بين أمة دون أمة، ولا تخص قُطْرًا دون قطر، يدعو جميع الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها ولغاتها إلى فكرته ومنهاجه، مفتوحة أبوابه لكل مَنْ يريد المشاركة في بث تلك الدعوة، ونشر تلك الفكرة، ولا يسعى إلا وراء القضاء على الحكومات الجائزة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة، وإقامة حكومة صالحة مؤسس بنيانُهَا على قواعد الحق والعدل التي يؤمن بها ويدعو إليها، أما إذا كان الأمر كذلك فلا مجال في دائرته البتة لِمَا اصطلحوا عليه من نوعي القتال الهجومي والدفاعي. وكذلك إذا نظرنا في المسألة -بصرف النظر عن هذا المصطلح الشائع- تبين لنا أنه لا ينطبق هذا التفسير ـ إلى الهجومي والدفاعي ـ على الجهاد الإسلامي بحال من الأحوال؛ فإن الجهاد الإسلامي إذا أردت الحقيقة هجومي ودفاعي معًا؛ هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك. وأما كونه دفاعيًّا، فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها؛ حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة. وغير خافٍ عليك أن الإسلام حزب، فليس من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود عنها ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يَذُبُّ عنها ويستميت في الدفاع عنها. وكذلك لا يحمل على دار الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ يتمسك بها، ولا يغِيبنَّ عن بَالِك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يُكْره مَنْ يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، ولا تكون فتنة ويكون الدين لله. (104)
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 259-280).
الشبهة(5) : هل تتغير الأحكام بتغير الزمان ؟
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (105)، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب. وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين: الأول : التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته. الثاني : التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء. ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله. ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله) : «ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110] 1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل. 2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينـزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول. ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلمأهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم. 3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى(فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان. ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع.. ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها. والخلاصة : أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب إتباعه. (106) ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (107) ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): «إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده». (108)وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (109) فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟ يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره. الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية . (110) ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده. وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب. وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه. أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟ الحجة الثانية : خطط الرسول الحربية. وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (111) وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية: 1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (112) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة. 2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟ فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة. ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: «ألقها على بلال»، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: «الله أكبر.. هذا أثبت»، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي . (113) فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي. ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (114) ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (115) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها. الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل: من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث: 1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن ذلك يغني شيئًا» فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم(116) 2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا»، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». رواه مسلم (117) 3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». رواه مسلم (118) 4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: «ما هذه الأصوات؟» قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». رواه الإمام أحمد. (119) ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث: « ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (120) وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء. من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (121)، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية : 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: «... وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود» . (122) ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: «... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات». (123) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أظن يغني ذلك شيئًا».. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن». 2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وتضيف رواية أخرى أنه قال: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ».
فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟ لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا. فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ». فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان. 3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان: الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط. والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة. الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي: هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية. وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟ ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي: 1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن. 2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟ 3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار. 4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج). 5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا. 6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب. 7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ. وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم. ويحسن التنويه هنا بأمرين : أولهما: إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (124) وثانيهما : أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب. وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: « اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف». ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: « وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: «وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به» . (125) ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة. الحجة الخامسة: تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء: قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (126) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة. (127) وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية. السنة تشريع كلها : والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: «إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب». (128) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق» يعني شفتيه الكريمتين. (129) أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها. شريعة الله وشريعة الفقهاء المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر. يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول : «إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (130) أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. «وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء». (131) إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه. وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (132): شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259). (1) منهم على سبيل المثال : فهمي هويدي. محمد فتحي عثمان، ومحمد عمارة وغيرهم كثر. (2) مثل الدكتور حسن الترابي وراشد الغنوشى، وهؤلاء جميعاً حادوا عن منهج السلف الصالحين وعن منهج الحركات نفسها. (3) مجلة الآداب – بيروت – عدد مايو 1970 ص101- انظر تجديد مفهوم الدين ص267. (4) مجلة المسلمون عدد (6) السنة الأولى ص553- المصدر السابق. (5) ص157-ص164. (6) انظر ص137 والصفحات التي تليها من المصدر السابق. (7) انظر إلى « مدينة بحتة». (8) قلت : لكي لا يوهن دينه أمام القسس. (9) قل لي بربك ما الذي يجعله متعذراً سوى ضعف الإيمان والانهزام النفسي والخوف من الكفار؟! (10) ) سبحان الله ، والله إن تحكم اليهود والنصارى المرابين اليوم لا يدانيه تحكم الجاهلين الأول، وجشع الجاهليين الجدد لا يمكن أن يقاس بما كان عليه أسلافهم، وأغلب المرابين في الماضي والحاضر هم اليهود... ولماذا هذه المجاملة؟ ألترضى عنكم اليهود والنصارى؟ فإن ربنا يقول : (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) اللهم إلا إذا تيقنوا أنكم سائرون على الدرب ، ومن سار على الدرب وصل ، ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. (11) قال محققاً جامع العلوم والحكم : (حديث حسن بطرقه وشواهده. رواه مالك في الموطأ 2/745 من طريق عمرو بن يحيي المازني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح إلا أنه مرسل . ورواه موصولاً من حديث أبي سعيد الخدري والدارقطني 3/77و4/228 والبيهقي 6/69 والحاكم ط2/57-58) هامش ص207/ج2. (12) المصدر السابق ، ط2/212 والصفحات التالية لها. (13) انظر تجديد مفهوم الدين ص260. (14) النور 49-50. (15) ج3/ص4 والصفحات التي تليها. (16) الخروج بالسيف على الحكام المعلنين لشرع الله والمحكمين له لا يجوز إلا إذا صدر منهم كفر بواح، وحتى في هذه الحالة لا يجوز الخروج إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة... وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين لا يحكمون شرع الله بل ويعادونه، لا يجوز الخروج عليهم بالسيف إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة كي لا يحدث ما هو أكبر من ترك الحكم بشرع الله مع أنه كبير، والعلم عند من لا تخفى عليه خافية، ولا تنس أخي المسلم ما حدث نتيجة لتأول الأخيار من هذه الأمة – وهم متأولون مأجورون- في القرن الأول من أضرار بليغة وفتن عظيمة. (17) لقد كتبت التعليق السابق قبل أن أصل إلى كلام ابن القيم هذا، فإذا كان المنهج واحداً كان التفكير واحداً وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة لا كما يقول أدعياء التجديد. (18) المكاء: الصفير بالفم، أو التشبيك بالأصابع والنفخ فيها- هامش ص5 المصدر السابق. (19) التصدية: التصفيق باليد- المصدر السابق. (20) مما لا شك فيه أن أمهل الفسق والفجور أحسن حالاً من أهل البدع والشبه، ولذلك كانت البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، والسبب أنه يرجى لأهل الفجور والفسق التوبة والإقلاع عن فسقهم، ولكن من العسير جداً أن يرجع أهل البدع والشبه عما هم فيه. فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لمن الأفضل للشخص إذا كان موحداً أن يظل على فسقه وفجوره من أن ينضوي تحت طريقة صوفية مثلاً يعتقد أن شيخها أو غيره ينفع ويضر ويعلم الغيب... فاعتبروا يا أولي الأبصار. (21) المصدر السابق. (22) نلاحظ أن النهي هنا صادر عن المبلغ عن صاحب الشريعة ، وليس من شخص بسبب مصلحة رآها، فالرسول صلى الله عليه وسلم خص الأمر العام بالنهي عن إقامة هذا الحد في الحال وتأخيره إلى حين درءاً لبعض المفاسد. (23) المجنة: تُرس. (24) قلت: انظر إلى فقه الصحابة وفهمهم هل يدانيه فقه أو فهم، لله درهم، وصدق ابن مسعود في وصفه لهم : «أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً» رضي الله عنهم جميعا. (25) العُذَيْب: ماء معروف بين القادسية ومغيثة... تصغير عذب. وسمي به لأنه طرف أرض- لسان العرب- مادة: عذب ج1/585. (26) يقصد الشيخ من كل هذا أن الله ما شرع الشريعة إلا وهي تراعي مصالح العباد، وإذا أدى الحكم إلى مفسدة في ظروف معينة فإنه يكون للشريعة حكم خاص بهذا الظرف يراعي مصلحة المكلف ، كما شرع الله تأخير الحد عن السارق في دار الغزو للمصلحة الراجحة في ذلك... ولذلك لم يلتفت بشر بن أرطأة إلى المصلحة إلا لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو»، وكما دلت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك إنكار المنكر في الحالات التي يؤدي فيها إنكاره إلى مفسدة أكبر. وهذا يرد على العصرانيين لأنه يدل على أن كل حكم شرعي هو ذو مصلحة راجحة لا تخفى على الشارع العليم الخبير وإن خفيت على قصيري النظر من البشر. (27) أي الحد. (28) المصدر السابق . (29) انظر إعلام الموقعين ج 3/8. (30) تركت مثال ابن القيم الثالث لأني سبق أن تعرضت له من قبل عند الحديث عن عدم إقامة عمر حد السرقة عام الرمادة فلا داعي للتكرار. (31) المصدر السابق. (32) يقصد أن الراجح أن الحكم المنصوص عليه في الحديث هو تخصيص لحالة العجز عن الانتظار من الحكم العام . (33) تم سردها ص15- ص16. (34) المصدر السابق. (35) انظر تجديد مفهوم الدين ص263 والصفحات التي تليها. (36) إلى يوم القيامة لا يعرف قول غيره عند أهل الإسلام. (37) انظر المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي- مصطفى زيد- ص194 من المصدر السابق. (38) أن مثل هذه الآراء المنحرفة لا تصدر إلا من رجل مبتدع ، وهذا أقوي دليل علي أنه رجل رافضي، وكفى بذلك سبة وعاراً. (39) بئس الخلف، فهم شر خلف لشر سلف. (40) المصالح المرسلة : هي ما كان من المصالح ملائمًا لقصد الشارع وقد شهدت له من الشرع أدلة كثيرة باعتبار جنسه في جنس الحكم أو نوعه. ويطلق عليها أيضًا : الاستدلال المرسل، والاستصلاح والملائم المرسل. انظر رفع الحرج للشيخ الدكتور صالح بن حميد ص312. وقد أخذ بذلك مالك ومنع منها جمع من العلماء لأن في ذلك فتح لباب واسع يخشى ألا تدركك مراميه فلله در المانعين السادِّين لهذه الذريعة. (41) المصدر السابق (42) سليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي الصرصري، ولد سنة بضع وسبعين وستمائة بقرية طوفا بالعراق، صنف تصانيف كثيرة، وكان مع ذلك شيعيًا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى قال عن نفسه أشعري حنبلي رافضي. توفي سنة 716هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب (6/39)، الأعلام (3/127- 128) . (43) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، للدكتور حسين حامد حسان ص535- 536، الناشر مكتبة المتنبي. القاهرة. 1981م . (44) انظر: السنة والتشريع، للدكتور عبدالمنعم النمر ص36- 45 . (45) المصدر السابق، ص47 . (46) المصدر السابق، ص64 . (47) الاجتهاد، للدكتور عبدالمنعم النمر ص11 . (48) المصدر السابق ص110 . (49) المصدر السابق ص111- 112 . (50) معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص103 . (51) انظر: مجلة العربي العدد 235، ص34، وانظر مفهوم تجديد الدين، لبساطمي سعيد ص178. (52) تزييف الوعي، لفهمي هويدي ص84- 85، الناشر دار الشروق – القاهرة – الطبعة الثانية 1412هـ- 1992م . (53) المصدر السابق ص87 . (54) المصدر السابق ص88 . (55) سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، مقال لمحمد سليم العوا، انظر مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحي ص41. (56) انظر نظرية المصلحة ص15- 17. (57) انظر المصدر السابق ص16 . (58) المصدر السابق ص262 . (59) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد سعيد البوطي ص411، الناشر مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الخامسة . (60) ابن حنبل، لأبي زهيرة ص359، الناشر دار الفكر العربي. القاهرة . (61) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبدالوهاب خلاف ص101، الناشر دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع. الكويت. الطبعة السادسة 1414هـ- 1993م . (62) العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال ص123، الناشر دار الوفاء للطباعة والنشر. المنصورة. الطبعة الثانية 1410هـ- 1990م . (63) الموافقات، للشاطبي (4/225) . (64) انظر: الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد السفياني ص477 . (65) مقال بعنوان التشريع من السنة وكيفية الاستنباط منها بقلم الدكتور علي محيي الدين داغي ص387، في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة العدد الثاني 1407هـ- 1987م . (66) تجديد التفكير الديني، محمد إقبال ص190 . (67) مجلة البيان العدد 134 شوال 1419هـ . (68) انظر: معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص102 . (69) كتب (ثيودور) باركر في عام 1848م كتابًا عن الثابت والمتغير في المسيحية، وبعد عشر سنوات تناول نفس المفهوم في اليهودية ليلنثال، انظر Blau , Modeصلى الله عليه وسلمn Vaneties of Tudidm. (70) انظر (الثابت والمتغير)، جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 23 (رمضان– 1400هـ) ص 5، و(النصوص وتغير الأحكام) معروف الدواليبي، مجلة المسلمون، العدد السادس، السنة الأولى (1371هـ)، ص 533، و(مقدمة في إحياء الشريعة) صبحي المحمصاني، ص 59 وما بعدها، و(فلسفة التشريع) لنفس المؤلف، ص 198. (71) (مجلة المسلمون)، العدد 6، السنة الأولى، ص 553. (72) (الأحكام في أصول الأحكام)، ابن حزم، ج 5، ص 771-774. (73) انظر (شرح المجلة)، محمد خالد الأتاسي، ج 1 ص 91. (74) (تغير الأحكام بتغير الزمان)، د. مصطفي الزرقا، مجلة (المسلمون)، العدد 8 ص 891 (1373). (75) انظر (الموفقات) للشاطبي، ج 2 ص 283 وما بعدها. (76) (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي)، مصطفي زيد، ص 194. (77) راجع في ذلك المصدر نفسه ص 67 ـ 88. و(ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) محمد سعيد رمضان البوطي، ص 202 ـ 206، وانظر (ذيل طبقات الحنابلة) لابن رجب، ج 2 ص 336. (78) انظر النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفى زيد. (79) ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي، مصطفى زيد، ص 235 و 238 و 240. (80) انظر نفس المصدر. (81) انظر (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية)، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 212. (82) انظر (ابن حنبل) لأبي زهرة، ص 359. (83) نفس المصدر ص 363. (84) (مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه)، عبد الوهاب خلاف، ص 101. (85) مجلة (الآداب)، بيروت، عدد مايو 1970م، ص 101. (86) راجع مقال معروف الدواليبي (النصوص وتغير الأحكام)، مجلة المسلمون، العدد 6، السنة الأولى، ص 553، و(مقدمة في إحياء الشريعة) المحمصاني، ص 67. (86) مقال الدواليبي، المصدر السابق، ص 555. (87) مقال النويهي، مجلة (الآداب)، بيروت، ص 100، عدد مايو 1970م. (88) راجع (منهج عمر بن الخطاب في التشريع)، محمد بلتاجي حسن، ص 175ـ 191، والكتاب كله مناقشة قيِّمة لاجتهادات عمر. (89) مقال الدواليبي، ص 555. (90) راجع (نيل الأوطار) للشوكاني، ج 7 ص 118. (91) (إعلام الموقعين)، ج 3 ص 14. (92) (مقدمة في إحياء الشريعة)، المحمصاني، ص 67. (93) (مناقب الشافعي) للبيهقي، ج 1 ص 256. (94) (الشافعي) أبو زهرة، ص 192 ـ 395. (95) (مناقب الشافعي) البيهقي، ج 1 ص 263، و(مناقب الشافعي) لابن أبي حاتم، ص 60. (96) انظر (المصلحة في التشريع الإسلامي)، مصطفى زيد، ص 161. (97) إعلام الموقعين، ابن القيم، ص 4 - 50. (98) انظر ص 150 من هذا البحث. (99) (نظرية الإسلام وهديه في السياسية)، المودودي، ص 244 . (100) (الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، المودودي، ص 264 – 266. (101) نفس المصدر، ص 259. (102) وهناك ادعاءات تقول: إن الرجم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إنما رجم اتباعًا لليهود قبل نزول سورة النور، وعندما نزلت سورة النور بالجلد نسخت الرجم. وهذه ادعاءات ليس لها من الدليل إلا الاحتمالات والظنون، ولا بد في النَّسْخِ من دليل قاطع. (103) (تفسير سورة النور)، المودودي ص 45. (104) (الجهاد في سبيل الله)، المودودي، ص 41. (105) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث. (106) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44. (107) انظر ص 133 من هذا البحث. (108) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م. (109) انظر ص 190 من هذا البحث. (110) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة. (111) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259. (112) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175. (113) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35. (114) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270. (115) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267. (116) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116. (117) نفس المصدر ص 117. (118) نفس المصدر ص 118. (119) (المسند)، 6/ 123. (120) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29. (121) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153. (122) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12. (123) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117. (124) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء». فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة. (125) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283. (126) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109). (127) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12. (128) نفس المصدر، ص 8. (129) نفس المصدر، ص 8. (130) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م. (131) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172. (132) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.
|