شُرع الطلاق لحماية
الاستقرار العائلي والاجتماعي
يأخذ الكثير من الغربيين على الإسلام
أنه أباح الطلاق ، ويعتبرون ذلك دليلاً على استهانة الإسلام بقدر المرأة ، وبقدسية
الزواج ، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين الذين تثقفوا بالثقافات الغربية ، وجهلوا
أحكام شريعتهم ، مع أن الإسلام ، لم يكن أول من شرع الطلاق ، فقد جاءت به الشريعة
اليهودية من قبل ، وعرفه العالم قديماً.
وقد نظر هؤلاء العائبون إلى الأمر من
زاوية واحدة فقط ، هي تضرر المرأة به ، ولم ينظروا إلى الموضوع من جميع جوانبه ،
وحَكّموا في رأيهم فيه العاطفة غير الواعية ، وغير المدركة للحكمة منه ولأسبابه
ودواعيه.
إن الإسلام يفترض أولاً ، أن يكون عقد
الزواج دائماً ، وأن تستمر الزوجية قائمة بين الزوجين ، حتى يفرق الموت بينهما ،
ولذلك لا يجوز في الإسلام تأقيت عقد الزواج بوقت معين.
غير أن الإسلام وهو يحتم أن يكون عقد
الزواج مؤبداً يعلم أنه إنما يشرع لأناس يعيشون على الأرض ، لهم خصائصهم ، وطباعهم
البشرية ، لذا شرع لهم كيفية الخلاص من هذا العقد ، إذا تعثر العيش ، وضاقت السبل ،
وفشلت الوسائل للإصلاح ، وهو في هذا واقعي كل الواقعية ، ومنصف كل الإنصاف لكل من
الرجل والمرأة.
فكثيراً ما يحدث بين الزوجين من
الأسباب والدواعي ، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة ، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير ،
والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما ، فقد يتزوج الرجل والمرأة ، ثم يتبين أن
بينهما تبايناً في الأخلاق ، وتنافراً في الطباع ، فيرى كل من الزوجين نفسه غريباً
عن الآخر ، نافراً منه ، وقد يطّلع أحدهما من صاحبه بعد الزواج على ما لا يحب ، ولا
يرضى من سلوك شخصي ، أو عيب خفي ، وقد يظهر أن المرأة عقيم لا يتحقق معها أسمى
مقاصد الزواج ، وهو لا يرغب التعدد ، أولا يستطيعه ، إلى غير ذلك من الأسباب
والدواعي ، التي لا تتوفر معها المحبة بين الزوجين ولا يتحقق معها التعاون على شؤون
الحياة ، والقيام بحقوق الزوجية كما أمر الله ،
فيكون الطلاق لذلك أمراً لا بد منه
للخلاص من رابطة الزواج التي أصبحت لا تحقق المقصود منها ، والتي لو ألزم الزوجان
بالبقاء عليها ، لأكلت الضغينة قلبيهما ، ولكاد كل منهما لصاحبه ، وسعى للخلاص منه
بما يتهيأ له من وسائل ، وقد يكون ذلك سبباً في انحراف كل منهما ، ومنفذاً لكثير من
الشرور والآثام،
لهذا شُرع الطلاق وسيلة للقضاء على
تلك المفاسد ، وللتخلص من تلك الشرور ، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجاً آخر ، قد يجد
معه ما افتقده مع الأول ، فيتحقق قول الله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من
سعته ، وكان الله واسعاً حكيماً).
وهذا هو الحل لتلك المشكلات المستحكمة
المتفق مع منطق العقل والضرورة ، وطبائع البشر وظروف الحياة.
ولا بأس أن نورد ما قاله (بيتام) رجل
القانون الإنجليزي ، لندلل للاهثين خلف الحضارة الغربية ونظمها أن ما يستحسنونه من
تلك الحضارة ، يستقبحه أبناؤها العالمون بخفاياها ، والذين يعشون
نتائجها.
يقول (بيتام):
(لو وضع مشروع قانوناً يحرم فض
الشركات ، ويمنع رفع ولاية الأوصياء ، وعزل الوكلاء ، ومفارقة الرفقاء ، لصاح الناس
أجمعون: أنه غاية الظلم ، واعتقدوا صدوره من معتوه أو مجنون ، فيا عجباً أن هذا
الأمر الذي يخالف الفطرة ، ويجافي الحكمة ، وتأباه المصلحة ، ولا يستقيم مع أصول
التشريع ، تقرره القوانين بمجرد التعاقد بين الزوجين في أكثر البلاد المتمدنة ،
وكأنها تحاول إبعاد الناس عن الزواج ، فإن النهي عن الخروج من الشيء نهي عن الدخول
فيه ، وإذا كان وقوع النفرة واستحكام الشقاق والعداء ، ليس بعيد الوقوع ، فأيهما
خير؟ .. ربط الزوجين بحبل متين ، لتأكل الضغينة قلوبهما ، ويكيد كل منهما للآخر؟ أم
حل ما بينهما من رباط ، وتمكين كل منهما من بناء بيت جديد على دعائم قوية؟ ، أو ليس
استبدال زوج بآخر ، خيراً من ضم خليلة إلى زوجة مهملة أو عشيق إلى زوج
بغيض).
والإسلام عندما أباح الطلاق ، لم يغفل
عما يترتب على وقوعه من الأضرار التي تصيب الأسرة ، خصوصاً الأطفال ، إلا أنه لاحظ
أن هذا أقل خطراً ، إذا قورن بالضرر الأكبر ، الذي تصاب به الأسرة والمجتمع كله إذا
أبقى على الزوجية المضطربة ، والعلائق الواهية التي تربط بين الزوجين على كره منهما
، فآثر أخف الضررين ، وأهون الشرين.
وفي الوقت نفسه ، شرع من التشريعات ما
يكون علاجاً لآثاره ونتائجه ، فأثبت للأم حضانة أولادها الصغار ، ولقريباتها من
بعدها ، حتى يكبروا ، وأوجب على الأب نفقة أولاده ، وأجور حضانتهم ورضاعتهم ، ولو
كانت الأم هي التي تقوم بذلك ، ومن جانب آخر ، نفّر من الطلاق وبغضه إلى النفوس
فقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس ، فحرام عليها
رائحة الجنة) ، وحذر من التهاون بشأنه فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال أحدكم
يلعب بحدود الله ، يقول: قد طلقت ، قد راجعت) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أيُلعب
بكتاب الله وأنا بين أظهركم) ، قاله في رجل طلق زوجته بغير ما أحل
الله.
واعتبر الطلاق آخر العلاج ، بحيث لا
يصار إليه إلا عند تفاقم الأمر ، واشتداد الداء ، وحين لا يجدي علاج سواه ، وأرشد
إلى اتخاذ الكثير من الوسائل قبل أن يصار إليه ، فرغب الزوج في الصبر والتحمل على
الزوجات ، وإن كانوا يكرهون منهن بعض الأمور ، إبقاء للحياة الزوجية ، (وعاشروهن
بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً
كثيراً).
وأرشد الزوج إذا لاحظ من زوجته نشوزاً
إلى ما يعالجها به من التأديب المتدرج: الوعظ ثم الهجر ، ثم الضرب غير المبرح ،
(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا
عليهن سبيلاً).
وأرشد الزوجة إذا ما أحست فتوراً في
العلاقة الزوجية ، وميل زوجها إليها إلى ما تحفظ به هذه العلاقة ، ويكون له الأثر
الحسن في عودة النفوس إلى صفائها ، بأن تتنازل عن بعض حقوقها الزوجية ، أو المالية
، ترغيباً له بها وإصلاحاً لما بينهما.
وشرع التحكيم بينهما ، إذا عجزا عن
إصلاح ما بينهما ، بوسائلهما الخاص.
كل هذه الإجراءات والوسائل تتخذ وتجرب
قبل أن يصار إلى الطلاق ، ومن هذا يتضح ما للعلائق والحياة الزوجية من شأن عظيم عند
الله.
فلا ينبغي فصم ما وصل الله وأحكمه ،
ما لم يكن ثَمَّ من الدواعي الجادة الخطيرة الموجبة للافتراق ، ولا يصار إلى ذلك
إلا بعد استنفاد كل وسائل الإصلاح.
ومن هدي الإسلام في الطلاق ، ومن تتبع
الدواعي والأسباب الداعية إلى الطلاق يتضح أنه كما يكون الطلاق لصالح الزوج ، فإنه
أيضاً يكون لصالح الزوجة في كثير من الأمور ، فقد تكون هي الطالبة للطلاق ، الراغبة
فيه ، فلا يقف الإسلام في وجه رغبتها وفي هذا رفع لشأنها ، وتقدير لها ، لا استهانة
بقدرها ، كما يدّعي المدّعون ، وإنما الاستهانة بقدرها ، بإغفال رغبتها ، وإجبارها
على الارتباط برباط تكرهه وتتأذى منه.
وليس هو استهانة بقدسية الزواج كما
يزعمون ، بل هو وسيلة لإيجاد الزواج الصحيح السليم ، الذي يحقق معنى الزوجية
وأهدافها السامية ، لا الزواج الصوري الخالي من كل معاني الزوجية
ومقاصدها.
إذ ليس مقصود الإسلام الإبقاء على
رباط الزوجية كيفما كان ، ولكن الإسلام جعل لهذا الرباط أهدافاً ومقاصد ، لا بد أن
تتحقق منه ، وإلا فليلغ ، ليحل محله ما يحقق تلك المقاصد
والأهداف.