يقول الأديب
((مختار عبد القادر الفيل )) الطالب بكلية الآداب
:
(( .. إني أؤمن بالله إيماناً قوياً , و
أؤدي فرائض الإسلام , و لكني أوجه السؤال إليكم لرغبتي في المزيد من المعرفة عن
أمور إسلامنا و أسأل : ما هي فائدة الصلاة و الدعاء إلى الله , و إنني لأعلم أن
الصلاة رياضة و ثقافة و صلة وثيقة بالله , و علاقة وثيقة لتقوية العطف بين الناس و
بث روح التعاون بينهم لاجتماعهم في بيت الله . و لكن كيف نفهم الدعاء إلى الله
طلباً لشيء من الأشياء ؟ فإن هذا الطلب إما أن يكون مطابقاً لإرادة الله الثابتة
فلا فائدة فيه , و إما أن يكون مخالفاً للإرادة الإلهية فلا فائدة فيه كذلك , و لا
يفعل سبحانه و تعالى غير العدل , فليس ثمة ما يدعو إلى مطالبته لأننا في هذه الحالة
كمن ينزله منزلة الحاكم الذي يقضي بقضاء , ثم يعدل عنه بعد التزلف و الاستعطاف ...
و أرجو أن أقرأ رد سيادتكم لأعلم قبل كل شيء هل يحرم علينا الدين أن نبحث في هذه
الأمور ؟ ))
و أقول للطالب أنه أحسن فهم الصلاة كما
أحسن و صفها حين قال أنها رياضة وصلة وثيقة بالله , و إن الأمر الذي أشكل عليه في
فهم صلوات الدعاء قد أشكل على كثيرين , و ورد عليهم الإشكال فيه على صور كثيرة بين
جميع المتدينين في العصر الحديث من المسلمين و غير المسلمين .. فحسب فريق منهم أن
القول بجدوى الصلاة يناقض القول بالسنن الإلهية و القوانين الطبيعية التي أودعها
الله طبائع الأشياء و بنى عليها نظام الكون كله و حسب فريق منهم – كما قال الطالب
الأديب – أن تنزيه الإله سبحانه و تعالى عن تبديل كلماته و تعديل قضائه يوجب على
الإنسان أن يتورع عن الطلب الذي يسأله فيه العدول عن قضاء قضاه
.
و من
كبار علماء الطبيعة الغربيين أناس تصدوا للرد على هذا الاعتراض و أجابوا عن أسئلته
جواباً يوافق إيمانهم بالله و إيمانهم بالعلوم الطبيعية على السواء . وقد فرغ أحدهم
لهذا البحث - و هو الطبيب الجراح الكبير الكسيس كاريل
Carrel - فكتب في رسالة خاصة أجمل فيها صفوة تجاربه العلمية و
جعلها جواباً على قول فريديريك نيتشه ((إنه لشيء مخجل أن يبتهل الإنسان بالصلاة ))
..
فكان من مقرراته في هذه الرسالة أن نفع الصلاة قد ثبت له – علمياً – كما
تثبت التجارب الطبيعية , و أنه لا فرق في هذا بين صلاة الإنسان لنفسه أو صلاته
لغيره ما دام صادق النية صادق الطلب في لحالتين . و أحد هؤلاء العلماء الكبار –
اوليفر لودج – و هو من أشهر علماء الرياضة و الطبيعة يرد
على القائلين بمخالفة الصلاة لسنن الكونية فيقول :
((إنهم يتوهمون ذلك لأنهم يحكمون على
الصلاة حكمهم على ظاهرة طبيعية خارجة من حدود الكون . و لكنها في الواقع ظاهرة
كونية يحسب حسابها في أعمال الكون كما يحسب حسابها في سائر الحوادث التي تقع في
حياتنا بغير صلاة .. و إذا كانت الصلاة تربية نفسية فلماذا يحسب المعترضون أن هذه
التربية ليست سبباً لتحقيق بعض الحوادث كما تسببها كل تربية يتم بها استعداد
الإنسان لغاية من الغايات ؟ )) .
و الواقع التاريخي عن الصلاة – بمعنى
الدعاء إلى الله – أنها ظاهرة روحية تعرف بالديانات العليا , و لا تعرف بالديانات
البدائية على هذا المعنى .
فهي نتيجة لترقي الإنسان في فهم وحدة الكون
ووحدة القوة الإلهية التي تقوم بتدبيره , و لهذا تعرف في أديان الموحدين و
المتحضرين , و لم تكن معروفة على هذا النحو بين الهمج الأولين الذين يعددون الأرباب
, و يوزعونها بين عناصر الطبيعة في الأرض و السماء , و يطلبون من كل منها ما يقدر
عليه و لا يقدر علي غيره , و يجعلون صلاتهم من قبيل المساومة على تبادل المنفعة
لاعتقادهم أن أربابهم تحتاج إلى دعواتهم و قرابينهم كما يحتاجون هم إلى نعمها و
عطاياها . و قد بقيت من هذا الأسلوب في الصلاة بقية مشهودة بين الجهلاء الذين
يساومون الأولياء على الشموع و الذبائح إذا استجابوا لما يدعونهم إليه من إغاثة
الملهوف , ورد المفقود , و تحقيق الغرض المأمول و لو لم يكن من الأغراض التي تحسن
بالأولياء .
فالصلاة في الأديان العليا علامة من علامات التقدم الإنساني في فهم حقائق
الكون و فهم الصفات الإلهية , و لا قوام لدين من الأديان بغير الإيمان بالصلاة على
معنى الطلب و الدعاء , مع الإيمان برياضتها الروحية و صلتها الوثيقة التي تربط عالم
الشهادة بعالم الغيب , و تجعل وجود الإله حقيقة أعلى من حقيقة النواميس أو حقيقة
الحوادث الكونية التي تهم الإنسان في مطالب معيشته , كما تهمه في مطالب ضميره
.
فلا
الدين و لا العلم يقضيان على الإنسان أن ينكر حقيقة النواميس الطبيعية , و لكن وجود
الإله قائم في ضمائرنا على إيماننا بأن النواميس الطبيعية وحدها لا تغني الإنسان عن
الاتصال بخالقها , لن وجود النواميس لا يلغي عمل الإله , و لا يعني أن الاتصال به و
الانقطاع عنه سواء . و الذين يفهمون أن نواميس الطبيعة واقع مفروغ منه يخالفون
العلم و الفلسفة و ليس قصاراهم أنهم ينكرون الإرادة الإلهية من ورائها
.
فمن
المقررات العلمية المشهودة التي اشتهرت حديثاً باسم نظرية هيزنبرج ((Heisenberg)) أن العلم لا يستطيع أن يعرف مقدماً كيف يتصرف كهرب
واحد من كهارب الأجسام المادية , و أن الذي نعرفه من ذلك إنما هو حكم الجملة يستحيل
تطبيقه على الأجزاء المتفرقة , و من المشاهد التي يقربون بها هذا الرأي تقدير شركات
التأمين لحوادث السيارات في البلد الواحد و السنة الواحدة , فإنهم يحسبون الحساب
لإصابة عشرين سيارة من كل ألف سيارة – مثلاً – فيصدق هذا التقرير و تنتظم عليه
موارد الشركة و مصاريفها , و لكن أخبر الخبراء في الشركة لو سئِل أن يدل على هذه
السيارات العشرين أو بعضها لما استطاع .
و العلماء الذين يعتقدون أن النواميس
الكونية مسألة قديمة حصلت و فرغ الأمر منها يتمثلون الكون كأنه مكنة صنعت و أرسلت
في طريقها و انقطعت عوامل التكوين فيها , و لكن هذا الاعتقاد ضرب من التصور لا
يولفقه عليه كثير من العلماء و المفكرين , و من هؤلاء المفكرين من يقول – كما قال
بيرس
Pierce - إن المصادفات قد تكون اليوم قوانين في دور التكوين و
ليس شذوذاً عن قوانين مبرمة منذ الأزل , و إن القوانين قد تكون مصادفات تكررت على
وتيرة واحدة و لكنها لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط الأسباب بالمسببات
..
و
مذهب بيرس هذا مطابق لقول الحكيم الإسلامي أبي حامد
الغزالي , و مطابق للإجماع الذي انعقدت عليه آراء المحدثين , فإنهم يقولون
إن التجارب العلمية إنما هي تجارب وصفية تسجل الواقع كما يتكرر أمام المجربين , و
لكنها ليست بالتفسيرات التي تعلل الأسباب بعلة محققة غير علة التكرار و الاستمرار
.
و من
الأمثلة القديمة التي تضرب لتقريب هذا الرأي أن الديكة تصيح قبل طلوع الشم أبداً و
ليست هي علة طلوعها , و أن جرس القطار يدق قبل وصوله و ليس هو سبب الوصول , و أن
ضوء القذيفة يرى عند انفجارها قبل سماع صوتها و لا علاقة بين سبب الرؤية وسبب
السماع . و أياً كان الرأي في السببية عن علماء العصر الحديث فالقول الفصل الذي لا
شكّ فيها أن قوانين الطبيعة لم تحصر جميع عواملها , و أن الحصر الذي وصلنا إليه قد
يعين على تقدير الحوادث المترتبة عليها بالإجمال , و لا يعتمد عليه في تقدير حادثة
واحدة بغير الظن و التقريب .
فإذا نظرنا إلى التقدير العلمي فالباب
مفتوح في الكون للعوامل التي لا تحصرها ضوابط القوانين و النواميس . و إذا نظرنا
إلى التقدير الديني فالله تعالى فعّال لما يريد و الخلق ((عملية مستمرة)) و ليس
بالعملية الآلية التي فرغت منها العناية الإلهية , و تركتها هملاً بغير تبديل . و
سنة الله لا تبديل لها حقاً و لكننا لا نعلم من سنة الله إلا ما نهتدي إليه بعقولنا
و هداية الله . و قد تكون سنة الله في نصيب الإنسان موقوفة على تربية نفسية تحققها
الصلاة , و قد تكون هذه التربية النفسية سبباًَ مشروطاً للسنة الإلهية لا يجوز
للمؤمن تعطيله , أو لا يجوز له أن يدعي القضاء فيه باسم الإله .
و الطالب الأديب يرى للمسألة وجهين لا ثالث
لهما من وجوه البحث في فائدة الصلاة . فإما أن يكون الطلب موافقاً للإرادة الإلهية
فهو محقق بغير طلب , و إما أن يكون مخالفاً للإرادة الإلهية فلا معنى لطلبه , لأن
الله يتنزه عن تغيير إرادته كما يغير الحاكم قضاءه بالملق و الاستعطاف
.
و لكن مسألة الصلاة لا تنحصر في وجه من
هذين الوجهين , لأننا يجب أن نذكر – أولاً و آخراً – أن إرادة الله متمثلة في طبيعة
الإنسان و أن من طبيعة الإنسان أن تطلب الغوث عند الحاجة إليه , و أن طلبه من غير
الله عبث مع الإيمان بوجود الإله القادر على كل شيء , فإذا اندفعت طبيعة الإنسان
إلى طلب الغوث من الله فمن أين له إذا قمع من هذه الطبيعة أنه لا يخالف إرادة الله
و من أين له الاستجابة و هي كل ما يرجى من الدعاء ؟ من أين له أن الدعاء نفسه ليس
هو سبيل الاتصال بالله من جانب الإنسان , لأنه في ذاته عمل من أعمال النفس التي تدل
على سجية من سجاياه و إن لم يكن لها جواب
.
و نعود إلى رأي الرياضي الكبير اوليفر لودج
لأن الرياضيين من أقدر الناس على فرض الفروض التي تحل المجهولات , فتقول : لماذا
نحسب الصلاة خارقة للنواميس الكونية و هي ظاهرة كونية كسائر الظواهر التي تحدث كل
يوم في هذا الكون ؟
و ليكن الطالب الأديب على يقين أن سؤاله عن
نفع الصلاة لا يمتنع في الدين الإسلامي بل يجب عليه وجوب التفكير ووجوب سؤال أهل
الذكر , و كلاهما فريضة من فرائض الإسلام , و لكن لمسألة الصلاة – كما قلنا – وجهاً
آخر لا ضير من السؤال عنه إذا كان السؤال عنه هو جوابه المريح : ألا يجوز للإنسان
أن يكشف عن ذات نفسه أمام الله إلا أن يعلق هذه المكاشفة مقدماً بالجواب
؟