الفصل السادس

ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى مخاطباً لنبيه عليه السلام ( فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك الكتاب فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك ) [يونس 94] قال هذا المجنون : فهذا محمد كان فى شك مما ادعاه .

قال أبو محمد : كان يلزم هذا الخسيس أن لا يتكلم فى لغة لا يحسنها ، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف سوءته ويبدى عورته .

وليعلم أن ( إن ) فى هذه الآية ليست التى بمعنى الشرط ، لأن من المحال العظيم الذى لا يتمثل فى فهم من له مسكة أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه وينازع فيه أهل الأرض ويدين به أهل البلاد العظيمة ثم يقول لهم : إنى فى شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون .. إلى مثل هذا السخف الذى لا يتصور إلا فى مثل دماغ هذا المجنون الجاهل .
وإنما معنى ( إن ) ها هنا الجحد ، فهى هنا بمعنى ( ما ) وهذا المعنى هو أحد موضوعاتها فى اللغة العربية ، كما قال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) [الأعراف 188] بمعنى : ما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، كما ذكر الله عز وجل عن الأنبياء أنهم قالوا : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) [إبراهيم 11] وكما قال تعالى مخبراً عن النسوة إذ رأين يوسف عليه السلام فقلن : ( إن هذا إلا ملك كريم ) [يوسف 16] بمعنى : ما هذا إلا ملك كريم ، وكما قال تعالى : ( لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ) [الأنبياء 17] أى ما كنا فاعلين .

فعلى هذا المعنى خاطب نبيه عليه السلام : فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك ، ثم قال تعالى فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك . بمعنى : ولا أعداؤك الذين يقاتلونك من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ما هم أيضاً فى شك مما أنزلنا إليك ، بل هم موقنون بصحة قولك وأنك نبى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك عندهم فى أن الذى جاءك الحق .

ومثل هذا أيضاً قوله تعالى ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) [إبراهيم 46] تهويناً له ، وكذلك قوله تعالى ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [الزخرف 81] بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول الجاحدين لا يكون له ولد .

فوضح جهل هذا المعترض وضعف تمييزه ، والحمد لله رب العالمين .

* * * * *


ولو أن هذا الجاهل الأنوك تدبر ما فى باطلهم المبتدع وهجرهم الموضوع الذى يسمونه ( توراة ) إذ يقول : إن موسى عليه السلام راجع ربه إذ أراد إرساله وقال : من أنا حتى أمضى إلى فرعون ، أرسل من تريد أن ترسل . وأغضب ربه تعالى بذلك .

وأن يعقوب عليه السلام صارع ربه ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو ، فلما انسلخ الصباح عرف أنه الله ، تعالى الله عن هذا الحمق من الكفر علواً كبيراً . قالوا : فلما عرفه أمسكه ، فقال له ربه : أطلقنى . فقال له يعقوب : لا أطلقك حتى تبارك على . فقال له ربه : كيف لا أبارك عليك وأنت كنت قوياً على الله فكيف على الناس ! ثم مس مأبضه ، فعرج يعقوب من وقته ، فكذلك لا يأكل بنو إسرائيل من عروق الفخذ لأن الله تعالى مسه . ولا يجرؤ منهم أحد فيقول : إن المصارع ليعقوب كان ملكاً ، فإن لفظ اسم المصارع له فى توراتهم ( إلوهيم ) وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعبرانية .

فلو أن هذا الجاهل تفكر فى مثل هذا وشبهه ، لعلم أن الحق بأيدى غيرهم ، وأنهم فى باطل وغرور وعلى ضلال وزور ، والحمد لله رب العالمين ، وحسبنا الله تعالى .

 

عوده