الفصل الثامن

ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى ( ونزلنا من السماء ماء مباركاً ) [ق 9] . وقال : كيف يكون مباركاً وهو يهدم البناء ويهلك كثيراً من الحيوان ؟

قال أبو محمد : من لم يكن مقدار فهمه وعقله إلا هذا المقدار ، لقد عجل الله له العقوبة فى الدنيا والحمد لله رب العالمين !

وليت شعرى أما درى هذا الجاهل أنه لولا شرب الماء لم يكن فى الأرض حيوان أصلاً لا إنسان ولا ما سواه ؟ وأن عناصر جميع المياه الظاهرة على وجه الأرض والمختزنة فى أعماقها إنما هى من مواد القطر النازل من السماء ؟!

أما رأى هذا الأنوك أن الأمطار إذا كثرت غزرت العيون وفهقت الأنهار وطفحت البرك وامتلأت الآبار وسالت السيول وتفجرت فى الأرض ينابيع ؟ حتى إذا قل الأمطار وضعفت العيون ونقصت الأنهار وخفت البرك والآبار وانقطعت السيول وغارت الينابيع ، خشنت الصدور وفسد الهواء ؟!

أما رأى أنه لا نماء لشىء من النبات كله منزرعه وصحراويه وجميع الشجر بساتينها وشعرائها إلا بالماء النازل من السماء ؟!

أما قرأ فى هذيانهم الذى يسمونه ( توراة ) امتنان الله تعالى فى صفة الأرض المقدسة بأنها لا تسقى من النيل ، كما تسقى مصر ، لكن من ماء السماء ؟!

أتراه إنما من عليهم بضد البركة لا بالبركة ؟!

إن هذا لعجب !

أما علم أن الأمطار ترطب الأجسام ، وتذهب بقحلها ، وأن بالماء الذى عنصره ماء السماء تزال الأوضار وتطيب الروائح ، ولولاه ما عمر العالم ؟!

فحسبكم أيها الناس بمقدار هذا الخسيس وجهله وهو عميد اليهود وعالمهم وكبيرهم ، وهذا مبلغه من الجهل والسخف ، ونستعيذ بالله من الجهل والضلالة ، والحمد لله رب العالمين .

 

ها هنا انتهى كل ما ظن المائق أنه اعترض به ، قد بان كله زوره وجهله واغتراره ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .

ثم نحن إن شاء الله تعالى ذاكرون بحول الله تعالى وقوته قليلاً من كثير من قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى البارى تعالى فى كتبهم التى طالعناها ووقفنا عليها ، وتضاعف بذلك شكرنا الله تعالى على عظيم ما منحنا من نعمة الإسلام والملة التى ابتعث بها محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وعلى آله الطيبين والحمد لله على ما أولانا من فضل الإسلام وشرف الإيمان .

* * * * *


اعلموا أيها الناس ـ علمنا الله وإياكم ما يقربنا منه ويزلف حظوتنا لديه ـ أن اليهود أبهتُ الأمم ، وأشدهم استسهالاً للكذب ، فما لقيت منهم أحداً قط مجانباً للكذب القبيح على كثرة من لقينا منهم ، إلا رجلاً واحداً فى طول أعمارنا ، فطال تعجبى من ذلك ، إلى أن ظفرت بسرهم من ذلك فى هذا الباب ، وهو أنهم يعتقدون بسخفهم وضعف عقولهم أن الملائكة الذين يحصلون أعمال العباد لا يفقهون العربية ، ولا يحسنون من اللغات شيئاً إلا العبرانية ، فلا يكتب عليهم كل ما كذبوا فيه بغير العبرانية ، فحسبكم بهذا المقدار من الجهل العظيم والحمق التام !

* * * * *


فمن طوامهم أن علماءهم يقولون : إن الله عز وجل إنما ستر عن يعقوب أمر يوسف وكونه فى مصر ثلاثة عشر عاماً كاملاً ، لأن أولاد يعقوب لعنوا كل من ينقل إلى أبيهم أن يوسف حى . قالوا : فدخل الله تحت هذه اللعنة إذا أطلع يعقوب على حياة يوسف ، تعالى الله عن إفك هؤلاء المجانين وكفرهم .
واغوثاه من عظيم هذا الحمق !

أفيكون فى البقر والحمير أو الكلاب أضل من قوم هذا مقدار عقولهم ، أن يجيزوا أن تكون لعنة مخلوق تلحق الخالق ؟

اللهم فإنا نحمدك على توفيقك إيانا للإسلام وهدايتك إليه ، ونسألك الثبات عليه إلى أن نلقاك مسلمين ، برحمتك آمين .

ثم العجب أنهم قالوا فى إخوة يوسف : إنهم كانوا المخبرين ليعقوب بحياة يوسف ، فهكذا فى نص الكتاب المسمى عندهم ( التوراة ) ، فما ترى اللعنة إلا قد لحقتهم .

* * * * *


ثم نجدهم لا يستحيون من أن ينسبوا إلى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أنهم زنوا ، وأنهم من نسل الزنا ، فإن فى السفر الأول من كتابهم ذلك المسمى ( توراة ) : أن يهوذا زنى بامرأة ولده ، ورشاها على ذلك جديا الغنم ، ورهنها بالوفاء بذلك عصاه وزناره وخاتمه .

وقد وقفت بعضهم على هذا فقال لى : كان ذلك مباحاً عندهم . فقلت له : إنك تقول الباطل ، إذ إن فى توراتهم أن يهوذا الذى جامعها أمر بها أن تحرق إذا ظهر حملها ، فإن كان ذلك فلم أمر بحرقها ؟

ثم لا يستحيون أن يقولوا : إن من ذلك الزنا حملت بفارص بن يهوذا الذى من نسله كان داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ وكثير من الأنبياء كعاموص وشعيا وغيرهم .

* * * * *


ومن عجائبهم أنهم يقولون : إن كل نكاح كان على غير حكم التوراة فهو زنا ، والمتولد منه ولد زنا ، حتى إنهم يبيحون لمن تهود من سائر الأديان أن يتزوج أخته من أبيه . ثم لا يستحيون أن يقولوا : إن موسى وهارون أخاه تولدا من نكاح عمران بن قاهث بن لاوى عمته أخت أبيه يوخابد بنت لاوى ، وأن سارة أم إسحق كانت أخت إبراهيم أبيه من والده تارح ، وأن سليمان كان ابن امرأة زنى بها داود ، وولدت منه ابناً من النا وتزوجها أو زنى المحمى حتى لم يطلقها .

* * * * *


ويقولون : إن الجمع بين الأختين زنا ، وأن وطء الإماء بملك اليمين زنا ، والمتولد من هذه النكاحات زنا ، هم يقرون أن جميع ولد يعقوب ـ عليه السلام ـ كانوا من أختين ، نكحهما معاً ، وهما : ليا وراحيل ابنتا لابان ، فولدت له ليا ستة ذكور ، وولدت له راحيلُ يوسف وبنيامين ، وأن الأربعة الباقين من ولد يعقوب ولدوا له من زلفاء وبلها ، أَمَتَى راحيل وليا ، وطئهما بملك اليمين لا بزواج أصلاً ، لأن فى توراتهم أن لابان أخذ عليه العهد عند كوم الشهادة أن لا يتزوج على ابنته ، فكلهم من أبناء هذه الولادات .
وهاتان مقدمتان تنتج أن جميع بنى إسرائيل وجميع اليهود أولاد زنا !
فإن قالوا : كان ذلك حلالاً قبل أن يحرم . أقروا بالنسخ !
وإن قالوا : إن ذلك خاص لبنى إسرائيل مذ أنزلت التوراة . لزمهم ترك قولهم : إن كل مولود فى الأمم بخلاف حكم التوراة فهو ولد زنا .

وعلى كل حال يلزمهم أن أولاد سليمان ـ عليه السلام ـ كانوا أولاد زنا بَحْت ، لأنهم مقرون أنهم كانوا من أبناء العمونيات والموآبيات وسائر الأجناس ، ورءوس الجواليت إلى اليوم من أبناء من ذكرنا .. تعالى وتنزه أنبياؤه عليهم السلام عن هذه المخازى .

وإسحق ـ أبوهم ـ وهارون وموسى وداود وسليمان ويوسف ، على قول هؤلاء الكفرة ـ لعنهم الله ـ وُلدوا لغير رشدة .. لعن الله قائل هذا معتقداً له ومصدقاً له .

* * * * *


ومن عجائبهم أنهم يقرون فى كتابهم المسمى بالتوراة أن السحرة فعلوا بالرقى المصرى مثلما فعل موسى بن عمران ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قلب العصا حية ، ومن قلب ماء النيل ، ومن استجلاب الضفادع ، حاشا البعوض فلم يقدروا عليه .

قال أبو محمد : لو صح هذا ، وأعوذ بالله ، لما كان بين موسى ـ عليه السلام ـ والسحرة فرق ، إلا قوة العلم والتمهر فى الصناعة فقط ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من أن يكون آدمى يقدر بصناعته على خرق عادة أو قلب عين ، وننكر أن الله تعالى يولى ذلك أحداً غير الأنبياء ـ صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً ـ الذين جعل الله تعالى ظهور المعجزات عليهم شاهداً لصدقهم .

* * * * *

ومن عجائبهم قولهم فى نقل أحبارهم الذى هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء : إن فرعون كان بنى فى المفاز صنماً يقال له باعل صفون ، وجعله طلسماً باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية ، ليحير به كل هارب من أرض مصر ، وأن ذلك الطلسم حير موسى وهارون وجميع بنى إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة فى فحص التيه ، إلى أن ماتوا ملوكهم فى المفاز ، أولهم عن آخرهم ، حاشا يوشع بن نون الافراهيمى ، وكالب بن يوفنا اليهوذانى .
فتباً وسحقاً لكل عقل يزعم صاحبه أن صناعة آدمية وحيلة سحرية غلبت قوة الله تعالى ، وأعجزت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى مات تائهاً فى المفاز حائراً فى القفار .

* * * * *

ومن تكاذيبهم قولهم فى الكتاب الذى يسمونه ( التوراة ) : إن الله تعالى قال لهم : سترثون الأرض المقدسة وتسكنونها فى الأبد .
ونحن نقول : معاذ الله أن يقول الله تعالى الكذب ، وقد ظهر كذب هذا الوعد ، فما سكنوه فى الأبد ، وما عمروه إلا مدة يسيرة من آباد الأبد ، ثم أخلوه وأخرجوا عنه وورثه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

* * * * *


ومن عجائبهم قولهم فيه : إن الله ـ عز وجل ـ قال لموسى : إذا أراد بنو إسرائيل الخروج عن مصر أن يأخذ أهل كل بيت من بنى إسرائيل خروفاً أو جدياً ويذبحونها مع الليل ، ويأخذون دمائها ، ويمسون بها أبوابهم وعتب بيوتهم . ثم قال : قلت سأمسح بأرض مصر هذه الليلة ، وأهلك كل بكر ولد بأرض مصر من أبكار الآدميين وبكور نتاج المواشى ، وأحكم فى مصر أنا السيد ، وعند ذلك يكون الدماء ، الدم لكم فى البيوت التى تكونون فيها ، فإذا نظرت إلى ذلك تجاوزكم ولا يصل إليكم ضر . ثم قال بعد أسطار حاكياً عن موسى أنه قال لبنى إسرائيل : اذهبوا وليذبح أهل كل بيت منكم الضأن ، وعيدوا ، واصبغوا فى دمائها رانا ، ورشوا به أبوابكم وأعتابكم ، ولا يخرج أحد عن باب بيته إلى الصبح ، فإن السيد سيمسخ ويهلك المصريين ، فإذا نظر إلى الدم على العتب وفى الأبواب لم يجاوز الباب ، ولا يأذن القاتل بالدخول إلى بيوتكم وقتلكم .

قال أبو محمد : أفيكون أسخف من عقول من ينسبون إلى الله تعالى مثل هذا الكلام الفاسد ؟ أو ترى الله ـ عز وجل ـ لا يعرف أبوابهم حتى يجعل عليها علامات ؟!

إن هذا لعجب !
لو عقل هذا المجنون لشغله هذا السخام الذى فى دينه الذى يباهى به عن التعرض للحقائق يروم إبطالها ، فكان كما قال الله عز وجل ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ) [ الصف 8 ] .

* * * * *


ومن عجائبهم أنهم يلتزمون أكل الفطير فى مرور الوقت المذكور فى كل عام ، ولا يلتزمون أكل الخروف ، على ما ذكرنا ، وهم يقرون فى كتابهم أنهم مأمورون بذلك كله .

فإن قالوا : إنما أمرنا بذلك ما دمنا فى أرض القدس . قيل لهم : اتركوا أيضاً استعمال أكل الفطير حتى تكونوا فى أرض القدس ، فلا فرق فى كتابكم بين الأمر بالفطير والخروف .


ومن عجائبهم فى الكتاب المسمى عندهم ( التوراة ) أن موسى ـ عليه السلام ـ مجد الله تعالى يوم أغرق فرعون ، فقال فى تمجيده : ذلك قولى ومديحى للسيد الذى صار لى مسلماً ، هذا إلهى أمجده وإله آبائى أعظمه ، السيد قاتل كالرجل القادر .

أفيسوغ لذى عقل أن ينسب لنبى الله تعالى أنه شبه قوة ربه عز وجل بقوة الرجل القادر ؟ وهل فى الافتراء أعظم من هذا لو عقلوا ؟

* * * * *

ومن عجائبهم قولهم فى السفر الثانى من كتابهم : ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون رجلاً من المشايخ ، ونظروا إلى إله إسرائيل ، وتحت رجله كلبة زمرد فيروزى . وفى بعض الفصول أن موسى عليه السلام قال أو يعقوب : رأيت الله مواجهة وسلمت نفسى . مع قولهم إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : من رأى وجهى من الآدميين مات ، ولست تقدر ترانى ، لكن سترى مؤخرى .

فهل فى التناقض أعظم من هذا : مرة يقول من رأى وجهى مات ، ومرة يقول رأيته مواجهة وسلمت نفسى .

وكل ما ذكرنا ففى كتابهم الذى يسمونه ( توراة ) لا فى نقل ضعيف ولا غيره .

* * * * *


ومن عجائبهم قولهم فى السفر الثانى : إن هارون أخا موسى بإقرارهم قال لبنى إسرائيل فى مغيب موسى : اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم ومواليكم وأولادكم وبناتكم ، ايتونى بها . ففعلت العامة ما أمر به وأتوا بالأقراط إلى هارون ، فلما أقبضها أفرغها وجعل لهم منها عجلاً ، فلما بصر به هارون بنى مذبحاً بين يديه وصرخ مسمعاً : غداً عيد السيد . ثم ذكر بعد فصول بأن موسى ـ عليه السلام ـ وجد بنى إسرائيل عراة بين يدى العجل ويتغنون ويرقصون ، وكان عراهم هارون بجهالة قلبه .

هذه نصوص كتابهم .. أفيسوغ فى عقل من له أدنى مسكة أن يكون نبى يعمل عجلاً للعبادة من دون الله تعالى ويأمر قومه يعبدوا له ، ويرقص هو وهم تعظيماً للعجل على أنه إلههم الذى من مصر ؟ وإذا جاز أن يكون عجلاً وثناً ويعبدوه جاز لنى آخر أن يزنى ، فكيف يصدق فى شىء من كلامه ، وما الذى جعل سائر كلامه أولى بالقبول من كلامه وأمره فى العجل ؟ وما الذى جعل سائر عمله أصح من زناه وفتحه بيوت الأوثان وتقريب القرابين لها ؟ ولعل سائر ما أمر به وما عمل مفتعل كل ذلك من جنس عمل العجل والزنا .

والذى لا شك فيه عندى أن من بدل توراتهم وأدخل فيها مثل هذا ، إنما قصد إلى إبطال النبوة جملة ، وبالله تعالى التوفيق .

* * * * *


ومن عجائبهم قولهم فى السفر الرابع : إن بنى إسرائيل إذ طلبوا أكل اللحم وضجوا من أكل المن ، أن الله تعالى قال لموسى : تقدسوا غداً تأكلون اللحمان ، فأنا أسمعكم قائلين من ذا الذى يعطينا ، قد كنا بخير ، يعطيكم السيد اللحمان فتأكلون ، ليس يوماً واحداً ولا اثنين ولا خمسة ولا عشرة إلا حتى تكمل أيام الشهر ، حتى يخرج على مناخركم وتصيبكم التخم . فقال له موسى : هؤلاء هم ستمائة ألف رجل وأنت تقول : أنا أعطيكم اللحوم طعماً شهراً ، أترى تكثر ذبائح الغنم والبقر فيقتاتون بها ، أو تجمع حيتان البحر معاً لتشبعهم ؟ فقال السيد : ماذا يهم السيد ؟ أتى السيد عاجزاً ؟ فالآن ترى إن تم قوله . ثم ذكروا أن الله تعالى أنزال السمانى حول العسكر ، فاكلوا حتى تخموا ومات كثير منهم بالتخمة ، فسمى ذلك الموضع قبور الشهوات .

قال أبو محمد : فلو تدبر هذا اللعين الجاهل كذبهم فى هذا الفصل ، لردعه عن أن يظن بقول الله تعالى لنبيه عليه السلام ( فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك ) ، وليعلم أن الشك المجرد قد نسبوه إلى موسى ـ عليه السلام ـ فى هذا الفصل ، فإنه لم يثق بقول ربه ولا صدق قدرته على إطعام بنى إسرائيل اللحم شهراً كاملاً ، وهذا مع ما فيه من الشك المكشوف الذى لا يجوز أن يخرج له تأويل يبعده عن الشك ، ففيه من السخف غير قليل ، لأن من رأى شق البحر ، وإنزال المن المشبع لهم ، فواجب عليه أن لا يستعظم إشباعهم بلحم ينزله عليهم . ولكن الكذب والتوليد لا يكون إلا هكذا ليفضح الله تعالى به أهله . والحمد لله على ما من به علينا من طهارة الإسلام ، ووضوح حجته ، وله الشكر على ما كفانا من دنس الكفر وتناقض عمراه .

وبعد هذا الفصل أيضاً فى السفر الرابع ما ذكره من قول الله تعالى لموسى عليه السلام إذ ضج بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدسة ، قالوا : فقال السيد لموسى بن عمران : حتى متى تتناولنى هذه الأمة التى لا يؤمنون بى على ما آتيتهم من العجائب التى فعلت أمامهم ، سأضربهم بالوبأ حتى أمسخهم ، وأجعلك مقدماً على أمة عظيمة أشد قوة من هذه . وأن موسى لم يزل يرغب إلى الله عز وجل حتى قال : قد غفرت لك كما سألتنى . ففى هذا الفصل من إطلاق الكذب فى الحلف على الله عز وجل ما لا يجوز أن ينسب مثله إليه تعالى .

* * * * *

وقد ذكرنا فى كتابنا الموسوم بـ ( الفصل فى الملل والنحل ) الفصل الذى فى توراتهم فى ذكر أنسابهم ، وبينا عظيم الكذب فيه : وهو أنهم ذكروا أن سبعة نفر من بنى إسرائيل من ولد قاهث بن لاوى نسلوا ثمانية آلاف ذكر قبل موتهم فى التيه ، وأولئك السبعة أحياء قائمون وهم حينئذ أكثر ما كانوا .

وقد قال بعضهم : إن هذا من المعجزات . فأجبناه بأن المعجزات إنما تكون للأنبياء عليهم السلام ، وأما لكفار عاصين فلا .

* * * * *

هذا سوى ما فى توراتهم من شرائعهم التى يلتزمونها الآن كالقرابين ، وكمن مس نجساً فإنه ينجس إلى الليل ، ومن حضر على مقبرة ينجس إلى الليل حتى يغتسل كله بالماء ، وأما الصلوات التى يصلونها الآن فمن وضع أحبارهم ، فيكفيهم أنهم على غير شريعة موسى عليه السلام ولا على شريعة نبى من الأنبياء .

ومن طرائفهم قولهم فى كتاب لهم يُعرَف ( بشعر توما ) أن تكسير ما بين جبهة خالقهم إلا أنفه كذا وكذا ذراعاً . وقالوا فى كتاب لهم من ( التلمود ) ـ وهو فقههم ـ يسمى ( سادر ناشيم ) ومعناه ( حيض النساء ) : أن فى رأس خالقهم تاجاً من كذا وكذا قنطاراً من الذهب ، وأن صديقون المَلَك هو يُجلس التاج على رأس خالقهم ، وأن فى إصبع خالقهم خاتماً تضىء من فصه الشمس والكواكب .

* * * * *


ومن طوامهم قولهم عن رجل من أحبارهم الذين يريدون ، أن من شتم أحداً منهم يقتل ، ومن شتم أحد الأنبياء لا يقتل . فذكر عن لعين منهم يدعونه إسماعيل أنه قال لهم ، وكلامه عندهم والوحى سيان ، فقال : كنت أمشى ذات يوم فى خراب بيت المقدس ، فوجدت الله تعالى فى التلك الخرب يبكى ويئن كما تئن الحمامة ، وهو يقول : ويلى هدمت بيتى ، ويلى على ما فرقت من بنى وبناتى ، قامتى منكسة حتى أبنى بيتى وأرد بناتى وبنى . قال هذا الكلب لعنه الله : ثم قبض الله على ثيابى وقال لى : لا أتركك حتى تبارك على . فباركت عليه وتركنى .

قال أبو محمد : أُشهد الله تعالى خالقى وباعثى بعد الموت والملائكةَ والأنبياء والمرسلين والناس أجمعين والجن والشياطين أنى كافر بربٍ يكون بين الخرب ويطلب البركة من كل من كلاب اليهود . فلعن الله تعالى عقولاً جاز فيها مثل هذا .

* * * * *


ومن عجائبهم قولهم فى السفر الخامس من توراتهم أن موسى عليه السلام قال لهم : إن الله تبارك وتعالى يقول لكم : إنى لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم ، ولكن لكفر من كان فيها . ثم يقولون فى عيدهم الذى يكون فى عشر تخلو من أكتوبر ، ومن تشرين الأول ، ساخطين على الله تعالى غِضاباً عليه تعالى إذ قصر بهم ولم يؤدهم حقهم الذى يجب لهم عليه ، فيقولون لعنهم الله : إن الميططرون ـ ومعناه الرب الصغير تحقيراً لربهم تعالى وتهاوناً به ـ يقوم هذا اليوم قائماً وينتف شعره ويقول : ويلى إذا أخربت بيتى وأيتمت بنى ، قامتى منكسة لا أرفعها حتى أبنى بيتى .

فهم كما ترى يعلنون ربهم ويصغرونه ويقولون ذلك بأعلى أصواتهم فى أكبر أعيادهم وأعظم مجامعهم . فكيف يجتمع هذا الحق العظيم الذى يحبونه لأنفسهم ، لعنهم الله ، ويرونه واجباً على خالقهم ، مع ما ذكرنا آنفاً من قوله لهم فى توراتهم : ( لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم ) ؟ فهل التناقض الفساد والتبديل الظاهر إلا هذا كله لو عقلوا ؟

* * * * *

وفى السفر الخامس أيضاً أن موسى عليه السلام قال لهم : إن السيد إلهكم الذى هو نار آكلة . وفى موضع آخر من كتبهم أن الله تعالى هو الحمى المحرقة . وفى الذى يسمونه ( الزبور ) : احذر ربك الذى قوته كقوة الجريش .
فهذا وشبهه هو الحمق والتناقض وتوليد زنديق سخر منهم وأفسد دينهم .

* * * * *

وهم يحققون على سليمان عليه السلام أنه بنى بيوت الأوثان لنسائه وقرب لها القرابين ، وهو عندهم نبى . وقد مضى الكلام فى بطلان كل كلام وعمل يظهر ممن هذه صفته ، وأنه ليس مأموناً ولا صادقاً ، لعنهم الله فإنهم كذبوا على أنبياء الله وافتروا .

* * * * *


ويقرون فى السفر الرابع من توراتهم أن الله تعالى أمرهم أن يضربوا القرن ضرباً خفيفاً ، حتى إذا لقوا العدو فليضربوا القرن بشدة ليسمعه فيبصرهم ، وفى هذا من السخف والكفر غير قليل ، ولكن حق لمن غضب الله عليه وتبرأ منه وألحقه لعنته وألحقه سخطه أن يكون مقدار علمهم وعقولهم التصديق لكل ما أوردنا ، والحمد لله رب العالمين على مننه علينا بالإسلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم .

* * * * *


وهم معترفون بأن التوراة طول أيامهم فى دولتهم لم تكن عند أحد إلا عند الكاهن وحده ، وبقوا على ذلك نحو ألف ومائتى عام ، وما كان هكذا لا يتداوله إلا واحد فواحد ، فمضمون عليه التبديل والتغيير والتحريف والزيادة والنقصان ، لا سيما وأكثر ملوكهم وجميع عامتهم فى أكثر الأزمان كانوا يعبدون الأوثان ويبرأون من دينهم ويقتلون الأنبياء ، فقد وجب باليقين هلاك التوراة الصحيحة وتبديلها مع هذه الأحوال بلا شك . وهم مقرون بأن يهوآحاز بن يوشيا الملك الدارودى المالك لجميع بنى إسرائيل بعد انقطاع ملوك سائر الأسباط ، بَشَرَ من التوراة أسماء الله تعالى وألحق فيها أسماء الأوثان . وهم مقرون أيضاً أن أخاه الوالى بعده وهو الياقيم بن يوشيا أحرق التوراة بالجملة وقطع أثرها ، وهو فى حال ملكه قبل غلبة بخت نصر عليهم . وهم مقرون بأن عزرا الذى كتبها لهم من حفظه بعد انقطاع أثرها ، إنما كان وراقاً ولم يكن نبياً ، إلا أن طائفة منهم قالت فيه : إنه ابن الله ، قد بادت هذه الطائفة وانقطعت .
فأى داخلة أعظم من هذه الدواخل التى دخلت على توراتهم ؟!
وأما القرآن ، فإنه لا يختلف ملىُّ ولا ذمى أنه لم يزل من حين نزوله إلى يومنا هذا مبثوثاً عند الأحمر والأسود لم ينفرد به أحد دون أحد ، بل أبيح نسخه لكل من مضى وجاء ، فنقله نقل كواف لا يحصرها عدد كنقل أن فى الدنيا بلداً يقال له الهند ، وسائر ما لا يجوز للشك فيه مساغ ولا مدخل . والحمد لله كثيراً ، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً .

* * * * *


قال أبو محمد : إن أملى لقوى ، وإن رجائى مستحكم ، فى أن يكون الله تعالى يسلط على من قرب اليهود وأدناهم وجعلهم بطانة وخاصة ما سلط على اليهود ، وهو يسمع كلام الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين ) [المائدة 51] ..
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر ) [آل عمران 118] ..
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) [الممتحنة 1] ..
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [المائدة 57] ..
وقوله تعالى ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) [البقرة 61] ..
وقوله تعالى ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) [المائدة 62] ..
فمن سمع هذا كله ، ثم أدناهم وخالطهم بنفسه من ملوك الإسلام ، فإنه إن شاء الله تعالى قمين أن يحيق الله عز وجل به ما أحاق بهم من الذلة والمسكنة والهوان والصغار والخزى فى الدنيا سوى العذاب المؤلم فى الآخرة .

وإن من فعل ذلك لحرى أن يشاركهم فيما أوعد الله تعالى فى توراتهم فى السفر الخامس إذ يقول لهم تعالى : ستأتيك وسيأتى عليكم هذه اللعنة التى أصف لكم فتكونون ملعونين فى مدائنكم وفدادينكم وتلعن أجدادكم وبقاياكم ويكون نسلكم ملعوناً ، وتكون اللعنة على الداخل منكم والخارج ، فيبعث الله عليكم الجوع والحاجة والنصب فى كل ما عملته أيديكم حتى يهلككم ويقل عددكم لتخليكم منه . ثم يلقى الوبأ على أنفسكم ليقطع آثاركم من الأرض التى أورثكموها ويبعث الرب عليكم الجدب ويهلككم بالسَّموم والثلوج ويحيل آثاركم ويطلبكم حتى يندركم ويجعل سماءه فوقكم نحاساً وأرضكم التى تسكنونها حديداً ، فتمطر عليكم الغبار من السماء ، وينزل عليكم الدماء حتى تهلكوا عن آخركم ، ويُظفر الرب بكم أعداءكم فتدخلون إليهم على طريق واحدة وتنهزمون على سبعة ، ويفرقكم فى آخر أجناس الأمم ، فتكون جيفكم طعم السباع وطيور السماء ولا يكون لهم عنكم رافع ، ويبتليكم الرب بما ابتلى به المصريين فى أدبارهم من الحكة والأكال الذى لا دواء له ويبتليكم الرب بالبلية والغم حتى تماسكوا بالحيطان القليلة كتماسك العميان ، ولا تقوموا على إقامة سبلكم فتكونوا فى هضيمة طول دهر وفى صخرة لا يكون لكم منفذ . ويتزوج أحدكم امرأة فتخالفه إلى غيره ، ويبنى أحدكم بيتاً ويسكنه غيره ، ويغترس كرماً ويقطفه غيره ، ويذبح بين قدمى أحدكم ثوره ولا يطعم منه ، وينزع من أحدكم حماره معاينة ولا يرد إليه ، وتعطى مواشيكم الأباعد ، ولا تجدون ناصراً على ردها وتغلب على أولادكم وبناتكم ، ولا يكون فيكم قوة للدفع عنهم ، وتأكل حبوبكم أجناس تجهلونها وفواكه أرضكم ، وتكونون مع ذلك فى هضيمة أبداً وفى جزع منهم ، فيبتليكم الرب بأجناس الأمراض وأضرها التى لا دواء لها من أقدامكم إلى رءوسكم ، ويذهب بالملك الذى تقدمونه على أنفسكم إلى قوم لم تعرفوهم ولا آباؤكم ، لتجدوا عندهم أصنامهم المصنوعة من الخشب والرخام ، وتكونون مثلاً لمن سمع من جميع الأجناس التى أنذركم فيها ، فتزرعون كثيراً وترفعون قليلاً ، لأن الجراد يأتى عليه ، وتعمرون كرومكم وتحفرونها ولا تقطفون منها شيئاً ، لأن الدود يأتى عليها ، ويكثر زيتونكم ولا تدهنون لأنها لا تعقد ، ويولد لكم الأولاد والبنات ولا تنتفعون بهم لأنهم يساقون فى السبى ، ويأتى على جميع فواكه بلدكم القحوط والجدب فلا تنتفعون بها ، ومن كان بين ظهرانيكم من أهل القرى يلعنونكم ولا يشفقون عليكم فتتواضعون ويكون الأرذال يشتمونكم وتكونون لهم ساقة فيأتى عليكم جميع هذه اللعنات وتتبعكم حتى تخزوا ، إذ لم تسمعوا للرب إلهكم ، ولم تحفظوا رسالاته التى عوهدت إليكم ، وتكون فيكم العجائب والمسوخ فى ذريتكم فى الأبد ، إذ لم تقفوا عند أمر الرب إلهكم بطيب أنفسكم ، فتخدمون أعدائكم الذين يبعث الرب عليكم فى الجوع والعطش والعرى والحاجة ، وتحملون على رقابكم أغلال الحديد وتجرونها ، ويأتى الرب عليكم بجيش من مكان بعيد فى سرعة العقبان من الذين لا يكرمون شيخاً ولا يرحمون صغيراً ، فيأكلون نتاجكم وما أنبتت أرضكم ، ولا يدعون لكم سمناً ولا خمراً ولا زبيباً ولا ثوراً ولا شاة حتى يأتوا عليكم ويخرجوكم من جميع مدائنكم التى يورثكم الرب إلهكم وتضيق عليكم حتى تأكلوا وسخ أجوافكم ولحوم أولادكم وبناتكم الذين يولدون لكم فى زمان حصاركم ، فمن كان منكم مترفاً أو متملكاً يمنع أخاه وامرأته لحوم بنيه شحاً عليها إذ لا يجد ما يقتات به سواه من شدة الحصار من أعدائكم لكم ، ومن كانت فيكم رخصة البنان التى لا تقوى على المشى من رخوصتها تحد زوجها على أكل لحوم أولادها ، والسلى الذى يخرج من فرجها ، إذ لا تجد مطعماً سواه .

قال أبو محمد : هذه بشارة من الله تعالى لهم ، ومنحته التى خصهم بها بإقرارهم ألسنتهم ، وفى كتابهم الذى يقرأونه ، فليتق الله تعالى امرؤ آتاه الله نعمة من نعمه ، ومنحه عزه ، وليجتنب هؤلاء الأنجاس الأنتان الأقذار الذين أحاق الله تعالى بهم من الغضب واللعنة والذلة والقلة والمهانة والسخط والخساسة والوسخ ما لم يحق لأمة من الأمم قط .

وليعلم أن هذه الكُسَى التى كساهم الله تعالى إياها أعدى من الجرب ، وأسرع تعلقاً من الجذام ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ، ومن معارضة الله تعالى فى حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى ، ورفعة من حطه الله ، وإكرام من أهانه الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

* * * * *


قال أبو محمد : قد أوردنا فى هذا الكتاب من شنعهم أشياء تقشعر منها الجلود ، ولولا أن الله تعالى نص علينا من كفرهم ما نص كقوله تعالى عنهم : إنهم قالوا : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وأن الله فقير ونحن أغنياء ، لما استجزنا ذكر ما يقولون لشنعته وفظاعته . ولكننا اقتدينا بكتاب الله عز وجل فى بيان كفرهم ، والتحذير منهم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

 

عوده