يوسف صديق وأباطيله حول القرآن

 


نشرت صحيفة "القاهرة" المصرية في الصفحة الخامسة " العدد 144 " حواراً مع الأستاذ الدكتور يوسف صديق بجامعة السوربون بعنوان " المفكر التونسي يوسف صديق: نحن لم نقرأ القرآن بعد " أدلى فيه الأستاذ المذكور ببعض الآراء التي استوقفتني ورأيت أنها تحتاج إلى مراجعة لأنها تثير قضايا على قدر عظيم من الأهمية لا يمكن أن يمر كلامه فيها دون تمحيص و تعقيب ـ



و لتكن بداءتنا عنوان الحوار نفسه : " نحن لم نقرأ القرآن بعد", وهو عنوان الكتاب الذي جاء في حديثه إلى الصحيفة أنه بسبيل إعداده, وقد أدلى الرجل بكلامين في هذه المسألة : الأول في بداية الحوار, وهو أننا " كلما تقدمنا وتعمقنا في الفكر و الفلسفة استطعنا أن نفهم القرآن بشكل يتواءم مع التقدم في معرفتنا ". وهذا كلام لا نستطيع إلا أن نتفق معه فيه, فالقرآن أوسع وأعمق وأبعد غوراً من أن يفهم حق الفهم دفعة واحدة, بل ستظل هناك دائماً, مهما طال الزمان, أبعاد تحتاج إلى من يحاول ارتيادها و اكتشاف ما فيها من أسرار . وسبب ذلك أنه من عند الله, فهو يمثل المعرفة المطلقة, أما معارف البشر فهي محدودة ونسبية. لكن الأستاذ صديق قد عدّل كلامه هذا قرب خاتمة الحوار ( والعبرة, كما يقولون, بالخواتيم ) فقال إننا لم نقرأ القرآن بعد, بما يعني بوضوح أن كل ما قمنا به طوال الأربعة عشر قرناً من تلاوة القرآن وتفسيره ودراسته في كتب تعد بالآلاف, فضلاً عما وضع حوله من معاجم واستُخلص منه من علوم ...إلخ...إلخ هو عبث في عبث, و أن الأستاذ الدكتور سيكون أول من يقرأ القرآن من عباد الله, أي أن علينا أن نضرب صفحاً عن كل هذا التراث القرآني الذي شاركت في صنعه عشرات الأجيال ونشتغل فقط بما سيجود علينا به قلمه في هذا الصدد, فهل من يوافق على هذا الكلام الغريب الذي أظن
ـ(وبعض الظن إثم, وبعضه عين العقل بكل يقين ) أنه هو مقصد المؤلف الحقيقي، وإن لم يشأ أن يجابهنا به في بداية الحوار بل مهّد له بأن القرآن " لا يكشف عن دلالاته مرة واحدة ", وهو أسلوب من التدرج يلجأ إليه بعض الكتاب بغية تحذير القارئ المسكين!ـ

وفي السؤال الثاني و الثالث تتساءل مجرية الحوار عما طرحه د. يوسف صديق في كتابه الذي صدر هذا العام باسم " القرآن كتاب مفتوح " ( وإن كان العنوان الفرنسي كما يظهر في صورة الغلاف المنشورة مع الحوار هو " القرآن : قراءة جديدة وترجمة جديدة" ) من فكرة تدعو إلى تفسير آيات القرآن حسب تواريخ نزولها لا حسب ترتيبها في المصحف, وكان جوابه أنه لا يمس سوى عمل بشري لا صلة له بالقدسية. يقصد أن ترتيب الآيات داخل كل سورة هو من عمل الصحابة. وهذا غير صحيح, ولم يقل به أحد إلا هو, إذ ادعى أن الرسول قد ترك القرآن قِطَعاً متفرقة لا تنتظم في سورة, وهو ادعاء باطل ألقى به الأستاذ صديق باستخفاف لا يليق بأستاذ جامعي أو غير جامعي .ـ

لو كان الكلام اقتصر على " تفسير" القرآن حسب ترتيب النزول لآياته فربما لم يجد د. صديق من يختلف معه اختلافاً شديداً, فهذا لون آخر من ألوان الدراسات القرآنية الكثيرة رغم الصعوبة البالغة بل رغم الاستحالة التي تكتنف مثل هذه الدراسة القرآنية لأن كثيراً جداً من آيات القرآن لا نعرف لها سبب نزول, ولأن قسماً من الآيات الأخرى قد اختلف حول سبب نزوله. ومن قبل قام العالم الفلسطيني محمد عزة دروزة بتفسير القرآن حسب الترتيب النزولي للسور مع الصعوبة الشديدة في ذلك لأنه لا إجماع هنالك على مثل هذا الترتيب, علاوة على أن عدداً كبيراً من سور القرآن لم تنزل منه السورة دفقة واحدة ولا دفقات متتالية، قلت : لو كان الكلام اقتصر على " تفسير " القرآن حسب الترتيب الزمني لآياته فربما لم يجد المؤلف من يختلف معه اختلافاً شديداً, بيد أن كلامه في الجواب عن السؤال المذكور يشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز هذا إلى الدعوة إلى " ترتيب " آيات القرآن كله حسب تاريخ نزولها لا إلى " تفسيرها ". ومعنى هذا أن تنفرط آيات القرآن كما تنفرط حبات المسبحة و ينهار بناؤه إلى أن يهل علينا العبقري الذي يقدر على صنع "المستحيل" فيعيد ترتيبه حسب التاريخ الخاص بنزول كل آية, وهو ما لن يتحقق دهر الداهرين, اللهم إلا إذا قال د. صديق إنه هو ذلك ـ" العبقري المنتظر" ! وهيهات أن نصدقه ! ومرة أخرى نقول إن الكلام في هذا الحوار يبدأ بفكرة بريئة ثم يفاجأ القارئ بأن الأرض الصلبة التي كانت تحت قدميه قد استحالت بقدرة قادر إلى رمال متحركة تريد أن تبتلعه ابتلاعاً .ـ

ولا يقف الإرباك الذي يسببه الحوار للقارئ عند هذا الحد، إذ نجده ينتقل بغتة إلى الحديث عن دعوة الأستاذ التونسي لسور القرآن حسب ترتيب نزولها. وهذا شئ غير ترتيب آياته الكريمة حسب تاريخ وحيها كما أشرنا من قبل وقلنا إنه أمر من الصعوبة جداً بمكان، وهي دعوة يجري فيها الأستاذ الدكتور على درب المستشرقين، وليس هو ابن بجدتها كما يريد أن يوحي للقارئ .ـ

وأمامي الآن ترجمتان إنجليزيتان للقرآن الكريم حاولتا هذه المحاولة : إحدهما للقسيس البريطاني رودويل, والثانية للمدعو داود , وهما تختلفان في ذلك الترتيب اختلافاً بعيداً، كما أن بعض مترجمي القرآن ممن التزموا ترتيب السور حسبما ورد في المصحف يصدّرون ترجمتهم بدراسة عن القرآن يتناولون فيها, ضمن ما يتناولون, مسألة ترتيب الوحي ترتيباً زمنيا محاولين استخلاص السمات المضمونية والأسلوبية التي تميز كل مرحلة في تاريخ نزوله, وإن اقتصر الأمر في ذلك على الخطوط العامة وممن فعل ذلك "إدوار مونتيه" السويسري و" بلاشير" الفرنسي في ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية.ـ

ويجد القارئ تفصيلاً لهذا الأمر في الباب الثاني من كتابي " المستشرقون و القرآن " وهاتان الترجمتان أمامي الآن وأنا أكتب هذا المقال .ـ

على أن د. صديق (في جوابه عن قلق الأستاذة التي أجرت الحوار معه مما تمثله دعوته تلك من مساس بقدسية النص القرآني ) ينبري مؤكداً أننا نحن الذين قد ابتدعنا هذه القدسية. وهذا كلام خطير جدا, فالقرآن مقدس لأنه من عند الله لا لأننا الذين خلعنا عليه هذه القداسة. صحيح أن من لا يؤمن بأن القرآن وحي إلهي لا يرى فيه نصا مقدساً, لكننا نحن المسلمين نؤمن بقدسيته, و إلا فلسنا مسلمين. هذا أمر بديهي, أليس كذلك ؟ والكاتب يؤكد إيمانه بالقرآن, فكيف لا يراه كتاباً مقدساً؟ أما دعواه بأننا قد "ألَّهنا" الرسول عليه الصلاة و السلام فهي دعوى غريبة بل منكرة, إذ لا يوجد مسلم واحد على وجه الأرض يقول بـ "تأليه" الرسول. صحيح أنه عليه السلام " رجل يمشي في الأسواق مثلنا ويأكل, وله كل المواصفات البشرية" كما جاء في كلام الدكتور لكنه في ذات الوقت ليس بشراً عاديا، بل هو نبي يوحى إليه، وأخلاقه من السمو بحيث لا يدانيه غيره من البشر، وهو ما كنت أحب أن يضيفه د. صديق إلى كلامِه السابق حتى يكتمل المعنى. وفي القرآن الكريم أمر للنبي بأن يقول: ـ" إنما أناَ بَشرٌ مثلكم يُوحَى إلىّ " وفيه أيضا: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" ...إلخ, فكان ينبغي ألا يغفل الأستاذ الدكتور في كلامه ذلك البعد الذي يميز الرسول رغم بشريته عن سائر الخلق .ـ

كذلك ترددت في حديث د. صديق الإشارة إلى " مصادر" القرآن ومراجعه, فما الذي يقصده الدكتور بهذا؟ إن للقرآن مصدراً واحداً ليس غير هو الوحي الإلهي، أما الحديث عن " مصادر" و " مراجع " كما لو كنا بصدد دراسة تقدم بها أحد الباحثين ويتذرع لها بما يستطيع أن يضع يده عليه من الكتب السابقة فهو كلام لا يليق بمسلم أن يقوله, ولصاحب هذه السطور كتاب في هذا الموضوع عنوانه " مصدر القرآن" رددت فيه بتفصيل شديد على النظريات الاستشراقية و التبشيرية السخيفة التي تحاول إرجاع القرآن إلى مصادر بشرية. فالقول بأن للقرآن " مصادر و مراجع " هو فرية استشراقية معروفة أساسها قول مشركي مكة عن الرسول عليه السلام: " إنما يعلمه بشر ", وإن القرآن الكريم هو" أساطير الأولين اكتتبها, فهي تُمْلَى عليه بكرة وأصيلا " . وها هي ذى تطالعنا بوجهها القبيح في كلام لأحد المنتسبين للإسلام .ـ

هذا, ويبدئ الأستاذ التونسي ويعيد القول بأنه إنما يريد أن يجعل من القرآن كتاباً عالميا يقرؤه الناس جميعاً ولا ينحصر في العرب المسلمين وحدهم. ولست أدري أجادَّ هو في ذلك أم هازل, فالقرآن كتاب عالمي بطبيعته وبتاريخه : بطبيعته لأنه أنزل إلى الناس " و الجن أيضا" كافة، و بتاريخه لأنه ما من أمة في الأرض إلا وفيها نسبة من المسلمين, قَلّت هذه النسبة أو كثرت. والمسلمون اليوم يقتربون من المليار والنصف من البشر, وهم يقرأون القرآن و يدرسونه ويفهمونه ويضعون المؤلفات فيه و يحاولون أن يسيروا وفق تعاليمه حسبما يستطيعون, ولا ينتظرون حتى يأتيهم د. صديق فيجعل لهم القرآن كتاباً عالميا. بالله أهذا كلام يقوله من يعي ما يقول ؟ ولقد دخل في الإسلام في العصر الحديث أعداد هائلة من الغربيين, ومنهم المستشرقون و القساوسة و الحاخامات و السياسيون والفلاسفة والعلماء و الفنانون ..الخ, وهناك دولة البوسنة والهرسك, وهي دول إسلامية أوروبيةـ

وجزء من تركيا يقع كما نعلم في أوروبا، بل كانت أسبانيا والبرتغال لمدة ثمانية قرون تقريباً دولة مسلمة تعكف على القرآن تلاوة و تدريساً وتطبيقاً, فما كل هذه الطنطنة التي يحدثها د. صديق من لا شئ؟

ونأتي إلى بعض ما قاله سيادته عن الإسكندر المقدوني, إذ زعم أن المسلمين لا يحاولون فهم القرآن بل يكتفون بترتيله " مكرسين غياب المعنى عنه" على حد تعبيره.ـ

وهو كلام عجيب لا رأس له و لا ذنب, إذ أن أحط عوام المسلمين يفهمون أشياء كثيرة من القرآن الكريم, فما بالنا بالمثقفين ؟ وماذا تقول في الألوف المؤلفة من الكتب و الدراسات التي أُلفت حول القرآن؟ أهي مجرد تراتيل قرآنية؟ ذلك ما لا يقوله عاقل. أما تفسيره لـ"ذي القرنين" الذي ورد ذكره في أواخر سورة " الكهف" بأنه هو الإسكندر المقدوني فليس هو أول من قاله, خلافاً لما جاء في كلامه, بل هذا أحد الآراء التي طرحها المفسرون, علاوة على أنه ليس بالتفسير الوجيه, فالآيات تتحدث عن حاكم مؤمن بالله واليوم الآخر قد مكن الله له في الأرض فهو يسوسها بالعدل و الحزم والرحمة, فهل هذا مما ينطبق على الإسكندر المقدوني ؟

و أخيراً نختم بما قاله الدكتور صديق عن كلمة " كوثر" القرآنية وأشباهها مما زعم أنه مأخوذ عن اليونانية. ترى هل بين يديه دليل على هذا؟ إن مجرد التشابه بين " كوثر" و" كاثارسيس" اليونانية لا يكفي. وحتى إذا كان كافياً فلماذا ينبغي أن يكون القرآن هو الذي استعار الكلمة اليونانية ولا يكون الإغريق هم الذين أخذوا كلمتهم من لغة الضاد؟ إن هذا هو أسلوب المستشرقين, والأستاذ الدكتور يحذو حذوهم دائماً للأسف.
 

 

عوده