جهلاء الأعاجم يخطّئون لغة
القرآن! واعجبا!
د. إبراهيم عوض
فى عَسَّةٍ من عَسّاتى فى المشباك وقعتُ على مقال بالإنجليزية يخطِّئ لغة
القرآن المجيد جرَّنى بدوره إلى موقع تبشيرى يهاجم الإسلام اسمه:
"answering-islam"، فأخذت أدور فى أرجائه، وإذ بكتاب بعنوان "BEHIND THE
VEIL: UNMASKING ISLAM" يتناول مؤلفه كتاب الله الكريم بالتخطئة والنقد فى
كل جانب من جوانبه بما فيها لغته وأسلوبه. لغته وأسلوبه حتة واحدة؟ إى
والله لغته وأسلوبه حِتَّة واحدة وليس حِتَّتَيْن! وللأسف لم يذكر الموقع
اسم المؤلف، ومن ثم فوَّت علينا شرف التعرف إلى هذا العبقرى الذى سوَّلَتْ
له نفسه الإقدام على تخطئة القرآن، وبالذات أنه خواجةٌ أعجمى! وهذا النقد
موجود فى الفصل الثامن من الكتاب تحت عنوان: "Qur'anic Language and
Grammatical Mistakes"، هكذا خَبْط لَزْق دون إِحِمْ ولا دستور! وهو نفسه
المقال الذى قادنى إلى الموقع كما ذكرت آنفا. فتعالَوْا نَرَ ماذا كتب
الرجل، وماذا يمكن أن نقول فى الرد عليه: يقول المؤلف إن "إخوانه المسلمين"
(أرجو ألا تفوتكم هذه الرقة والإنسانية فى تسميته لنا بــ"إخوانه
المسلمين"! الواقع أن الدموع تكاد تطفر من عينى تأثرا بهذا الحنان الأخوى
الذى يبديه لنا ذلك الثعلب!)، يقول إن "إخوانه المسلمين" يردِّدون أن بلاغة
القرآن وسموّ لغته وجمال أسلوبه هو دليل قاطع على أنه من عند الله، ذلك أن
إعجازه إنما يكمن عندهم فى أسلوبه الجميل. ثم يمضى قائلا إنه لا ينكر أن
أسلوب القرآن (فى بعض آياته وسوره) هو أسلوب بليغ ومعبر حقا، وهو ما لا
يمكن أن يشك فيه أحد ممن يستطيعون تذوق اللسان العربى. إلا أن هذا (كما
يقول) لا يعنى أبدا أن القرآن يخلو من كثير من الأخطاء الواضحة التى تخرج
على أبسط قواعد النحو والصرف وأساليب التعبير الأدبى فى لغة العرب. كما أن
فيه كثيرا من الألفاظ التى لا وجود لها فى أية لغة، فضلاً عن احتوائه على
عدد كبير من المفردات التى لا يمكن أن يفهمها أحد، وهو ما أقرّ به الصحابة
أنفسهم.
كذلك يرى المؤلف أن روعة الأسلوب فى كتاب ما لا يمكن أن تكون برهانا على
عظمة ذلك الكتاب ولا على أنه من وحى السماء، إذ ليست العبرة بالأسلوب بل
بالمضمون وما يشيعه فى النفس والمجتمع من سلام وحب وسكينة. ثم إن الله لا
يشغل نفسه بتعليم البشر فى أنحاء العالم قواعد اللغة العربية ومبادئها، فهو
سبحانه ("سبحانه" هذه من عندى أنا) ليس معلِّما للغةٍ مندثرةٍ كاللغة
العربية، بل الإله الحقيقى هو قائدنا الروحى فى طريق الحب والغبطة. وعلى
هذا فالمهم أن نعرف: هل يستحق المضمون القرآنى فعلاً أن ننسبه إلى الله
أَوْ لا؟ وبالإضافة إلى هذا فإن بلاغة القرآن وسموّ اللغة الفصحى التى
صِيغَ فيها قد خلقا مشكلة لمن يريدون أن يقرأوه ويفهموه حتى من العرب
أنفسهم، فما بالنا بغير العرب؟ وحسبما يقول فإنه لا يكفى أن تعرف اللغة
العربية كى تستطيع أن تفهم القرآن، بل لا بد أن تدرس الأدب العربى دراسة
مستفيضة شاملة، فهناك مئات الألفاظ القرآنية التى حيَّرت الصحابة فى تحديد
معانيها، علاوة على مئات أخرى لم يستطيعوا فهمها البتة.
ويشير المؤلف إلى أن فى "الإتقان فى علوم القرآن" لجلال الدين السيوطى
فصلاً كاملاً يزيد على مائة صفحة بعنوان: "فيما وقع فيه بغير لغة العرب"
خصَّصه كله لـلكلمات القرآنية الصعبة التى تحتاج إلى شرح، كما يؤكد قائلا
إن مفردات اللغة العربية الفصحى وبعض تعبيراتها لم تعد تستعمل الآن البتة
حتى من قِبَل العرب أنفسهم، فضلا عن أن العربية ذاتها هى من التنوع والتشعب
حتى لقد قال الشافعى عنها إنها لا يحيط بها إلا نبى. وهو من ثم يتساءل: ما
الفائدة يا ترى التى يمكن أن يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا
الكتاب مصوغا بلغة صعبة حتى على العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة
أن العلماء المسلمين يصرون على أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة
وجه إعجازه عن طريق الترجمة، ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى،
ولا يريد لأحد من غير العرب أن يقرأ القرآن؟
ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث عن وضع الخط العربى حين نزول القرآن الكريم
مبينًا أنه كان يفتقر آنذاك إلى تنقيط الحروف وتشكيلها، وهو ما كان يجعل
قراءة الكلام المكتوب شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا: فمثلاً الكلمات
التالية: "تُبْت" و"بَيْت" و"نَبْت" و"بِنْت" و"ثَبَت" كانت تُكْتَب جميعا
على هيئة واحدة (يقصد أنها كانت تُكْتَب على شكل ثلاث سِنَن، السِّنَّة
الأخيرة منها سِنّة طويلة، وكلها مجردة من النقط والشكل)، فكيف يستطيع
القارئ أن يعرف أية كلمة من هذه الكلمات الخمس هى الكلمة المرادة؟ وبتطبيق
ذلك على آيات القرآن الكريم يشير إلى أن قوله تعالى: "...أن اللهَ برىء من
المشركين ورسوله" يمكن أن يُفْهمَ بمعنيين مختلفين حسب إعراب كلمة "رسوله"،
لأننا إذا شكَّلنا لام "الرسول" بالضم كان المعنى أن الله ورسوله بريئان من
المشركين، بخلاف ما لو ضبطناها بالكسر، إذ يكون المعنى حينئذ أن الله برىء
من المشركين ومن رسوله أيضا. وهو يتساءل عن الحكمة فى أن الله لم ينزل
القرآن فى لغة عربية كاملة التنقيط والتشكيل حتى لا يقع القراء فى مثل هذا
الخطإ.
ثم يقول: ترى لو أن طالبا كتب لأستاذه الآن بحثا خاليا من النَّقْط
والشَّكْل، أيعطيه الأستاذ عندئذ شيئا آخر غير الصفر؟ وهؤلاء الذين أضافوا
للخط العربى التنقيط والتشكيل، أوقد نزل عليهم ملاكٌ أَوْحَى لهم ما ينبغى
عمله؟ يقصد أنه كان من الأفضل أن يقوم النبى نفسه بهذه المهمة منذ البداية
حتى يضمن ألا تقع فيها أخطاء. أم ترى الله وجبريل والرسول وخلفاءه كانوا
يجهلون أن الخط العربى يفتقر لهذا وذاك؟ ألم يكونوا يعرفون أن الاختلاف فى
قراءة النص بسبب عدم تنقيطه وتشكيله سوف يؤثر فى استنباط الأحكام الشرعية
من هذا النص؟ إنها لمفاجأة (كما يقول) ألاّ تخطر هذه المشكلة لله وجبريل
والنبى والصحابة والخلفاء جميعا، ثم يتنبه لها أولئك العلماء الذين اخترعوا
النقط والشكل وأضافوهما إلى الخط العربى! وهو يسوق من كتاب "الإتقان"
للسيوطى مثالا على اختلاف الحكم الشرعى تبعا للاختلاف فى ضبط الحروف من
قوله تعالى فى الآية 38 من سورة "النساء"، التى تتحدث عن الأسباب الموجبة
للغسل، ومنها لمس (أو ملامسة) النساء: "يا أيها الذين آمنوا، إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين. وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء
أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمَّموا صعيدًا
طيبًا...". فالذين يقرأون الكلمة على أنها "لامستم"، أى بألف بعد اللام،
يقولون إن الطهارة لا تجب إلا بملامسة النساء، أى بمجامعتهن. أما الذين
يقرأون الكلمة بدون هذه الألف، أى "لمستم"، فيَرَوْنَ أنه يكفى أن يلمس
الرجل المرأة بيده اللمس العادى حتى تجب الطهارة.
ويستمر المؤلف فيقول إن جميع العلماء المسلمين يقرون بأن فى القرآن ألفاظا
لم يكن يفهمها أقرباء الرسول أو صحابته. ثم يستشهد على كلامه بالسيوطى،
الذى يقول فى كتابه: "الإتقان": "هذه الصحابة، وهم العرب العرباء وأصحاب
اللغة الفصحى ومن نزل القرآن عليهم وبلغتهم، توقفوا في ألفاظ لم يعرفوا
معناها فلم يقولوا فيها شيئا. فأخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم
التميمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: "وفاكهةً وأَبًّا"، فقال: أيّ
سماءٍ تُظِلّني، وأيّ أرضٍ تُقِلّني إنْ أنا قلت في كتاب الله ما لا
أعلم؟ وأخرج عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: "وفاكهةً وأَبًّا"،
فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن
هذا لهو التكلف يا عمر. وأخرج من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا
أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال: أحدهما:
أنا فطرتها. يقول: أنا ابتدأتها. وأخرج ابن جريج عن سعيد بن جبير أنه
سئل عن قوله: "وحَنَانًا من لَدُنّا"، فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجب
فيها شيئًا". وينتهى إلى القول بأنه إذا كان هؤلاء لم يفهموا بعض ألفاظ
القرآن، فمن يا ترى يمكنه أن يفهم ما لم يفهموه؟ ثم يتابع قائلا بكل يقين:
لا شك أنهم قد سألوا محمدا عن معانى هذه الكلمات، لكنه لم يجبهم إلى ذلك
لأنه هو نفسه لم يكن يعرف معناها، وإلا لكان قد قاله لهم!
وبالإضافة إلى ذلك هناك كلمات أخرى يبلغ عدها أربع عشرة كلمة ليس لها أى
معنى، وهى تلك الحروف المقطعة الموجودة فى أوائل تسع وعشرين سورة، مثل:
"ألم، ألمر، ألمص، طه، ص، ق، حم...". بل إن بعض هذه الحروف قد جُعِلَت
عناوين لعدد من السور، وهى: "طه" و"يس" و"ص" و"ق"، ومعنى هذا أن عددا من
سور القرآن يحمل عناوين لا معنى لها! وهذه الرموز التى لا معنى لها فى أية
لغة من اللغات هى سمة من سمات البلاغة العربية التى قد تتضمن كلمات لا تعنى
شيئا بالمرة! وفى القرآن: ويل لمن يسأل عن المعنى! (The Qur’an says woe to
anyone who asks for the meaning!). وفى الآية السابعة من سورة "آل عمران"
نقرأ أن هناك كلمات فى القرآن لا يعرف معناها إلا الله، وهو ما يسمَّى
بالآيات المتشابهات. والسؤال هو: إذا كان الأمر كذلك فلم جاءت هذه الكلمات
فى القرآن؟ لكن ليس فى القرآن جواب عن هذا السؤال.
كذلك يوجد فى القرآن ما يسمَّى بـ"ألفاظ الأضداد"، ومعنى هذا أن لغة القرآن
ليست دائما صحيحة كما يظن البعض. ومن ذلك كلمة "بَعْد"، التى وردت فى آيتين
بمعنى "قبل" كما جاء فى "الإتقان" للسيوطى، وهذا نص ما قال: "قال ابن
خالويه: ليس في القرآن "بَعْد" بمعنى "قَبْل" إلا حرف واحد: "ولقد كتبنا
في الزَّبُور من بعد الذكر". قال مغلطاي في كتاب "الميسر": قد وجدنا حرفا
آخر، وهو قوله تعالى: "والأرضَ بعد ذلك دَحَاها". قال أبو موسى في كتاب
"المغيث": معناه هنا "قَبْل" لأنه تعالى خلق الأرض في يومين ثم استوى إلى
السماء، فعلى هذا خَلَق الأرض قبل السماء". وهنا يتساءل الكاتب: هل لمثل
هذا العيب وجود فى أية لغة من لغات الأرض؟ وهل يتمشى هذا مع خصائص العربية
وبلاغتها وطرائقها فى التعبير الفنى؟ وهل يُعْقَل أن الملاك جبريل قد أراد
"قبل"، لكنه رغم ذلك قال لمحمد أن يكتبها: "بعد"؟ أليس معنى هذا أن القارئ
سيجد نفسه فى حيص بيص؟ على أن المشكلة لا تقتصر على هذه الكلمة، فقد أورد
السيوطى عددا آخر من الألفاظ على نفس الشاكلة خصص له ثمانى صفحات من كتابه
المذكور. ومن ذلك قوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس
جميعا؟" (الرعد/ 31). ترى هل "ييأس" معناها: "يعلم" مثلما هو الأمر فى هذه
الآية؟ وهل "شهداء" بمعنى "شركاء" كما هو الحال فى الآية 23 من سورة
"البقرة" التى تقول: "وإن كنتم فى ريب مما نزَّلْنا على عبدنا فَأْتُوا
بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"؟ وهل كلمة
"بَخْس" تعنى "حرام" فى قوله فى الآية 20 من سورة "يوسف": "وشَرَوْه بثمنٍ
بخس"؟ وهل يمكن أن يكون الفعل "يَرْجُم" معناه: "يلعن" كما فى الآية 46 من
سورة "مريم": "لإِنْ لم تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّك"؟
ترى لماذا لم يقل القرآن مباشرة: "أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله
لهدى الناس جميعا؟" "بدلا من "أَفَلَمْ ييأس الذين آمنوا...؟"؟ هل "اليأس"
هو "المعرفة"؟ وحين يقول القرآن: "أفلم يعلم...؟" هل يكون المقصود: "فقدان
كل أمل"؟ ونفس الشىء يقال عن كلمتَىْ: "بَخْس" و"شُهَداء". أليس لكل كلمة
من هذه مَعْنًى يختلف عن ذلك المعنى الذى ورد فى القرآن؟ أتكون إحدى مميزات
اللغة أنها تستخدم كلمات لها معنى يختلف عن معناها الحقيقى؟
ثم يسوق إلى القارئ أمثلة أخرى أشار إليها السيوطى فى كتابه، بادئًا بكلمة
"النجم" فى قوله: "والنجم والشجر يسجدان"، التى تعنى النبات الذى ليس له
ساق، لا الجِرْم السماوى كما ينبغى أن يكون الكلام، إذ لا يمكن (حسبما
يقول) أن يتخيل أحد أن معنى كلمة "نجم" هو هذا النوع من النبات! ولهذا كان
من الطبيعى أن نجدها فى الترجمة الإنجليزية التى قام بها السعوديون بمعنى
"النجم السماوى"، وهذا هو المعنى الصحيح لا المعنى الذى نص عليه السيوطى
وغيره من المفسرين كالبيضاوى والجلالين والزمخشرى، فهؤلاء كلهم مخطئون،
وإلا فليصلح السعوديون من ترجمتهم، مع أنها هى الصواب لا كلام هؤلاء
المفسرين! ومثلها كلمة "وَسَط"، التى يقول السيوطى عنها: "ولما كان الخطاب
لموسى من الجانب الغربي وتوجهت إليه اليهود (يقصد أنهم توجهوا إليه فى
قِبْلَتهم) وتوجهت النصارى إلى المشرق كانت قِبْلَة الإسلام وَسَطًا بين
القبلتين (قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا"، أي خِيَارًا. وظاهر
اللفظ يوهم "التوسط" مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين)، صَدَقَ على لفظة
"وَسَط" هاهنا أن يسمى تعالى بها لاحتمالها المعنيين. ولما كان المراد
أبعدهما، وهو الخيار، صلحت أن تكون من أمثلة التورية".
ومن الأمثلة التى يسوقها أيضا قوله تعالى: "لئلا يعلم أهل الكتاب ألاّ
يَقْدِرُون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله" (الحديد/ 29)، الذى
يؤكد أن معناه الحرفى هو: "كيلا يعلم أهل الكتاب"، بيد أن المفسرين
والمترجمين يقولون إن معناه: "فلربما يعلم أهل الكتاب"، قالبين المعنى
الحرفى هكذا رأسا على عقب! ومنها أيضا ما جاء فى عدد من الآيات القرآنية من
قوله: "لا أُقْسِم بكذا"، على حين أن المراد، حسبما يقول المفسرون
والمترجمون، هو: "أُقْسِم بكذا"، أو "لا. إننى أُقْسِم بكذا". ومن الشواهد
على ذلك:"لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة" (القيامة/ 1- 2)،
"لا أقسم بهذا البلد* وأنتَ حِلٌّ بهذا البلد" (البلد/1- 2).
ولا يكتفى المؤلف بهذا، بل يضيف أن فى القرآن ألفاظا محذوفة كان ينبغى أن
تُذْكَر، وعبارات غير تامة، وجُمَلاً مبنية بناءً خاطئًا. ومن ذلك حسبما
جاء فى كلامه: "فإنها من تقوى القلوب" (الحج/ 32)، إذ يذكر السيوطى أن
هاهنا حذفا لأكثر من كلمة، وأن المعنى: "فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى
القلوب"، ومنه قوله: "فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول" (طه/ 96)، على حين أن
المراد هو "فقبضتُ قبضةً من أثر حافر فرس الرسول". ومنه كذلك قوله:
"فأَرْسِلونِ:* يوسفُ أيها الصِّدِّيق، أَفْتِنا فى سَبْعِ بقراتٍ سِمَانٍ
يأكلهنّ سبعٌ عِجَافٌ..." (يوسف/ 45- 46)، إذ المعنى: " فأرسِلون إلى يوسف
لأستعبره الرؤيا، ففعلوا فأتاه فقال له: يا يوسف، أَفْتِنا فى سبع
بقرات..."، ففى هاتين الآيتين لم تُذْكَر إلا كلمتان اثنتان فقط فى أول
الكلام وأُخْرَيَان فى آخره، أما باقى الكلام فمحذوف، وهو ما يجعله بلا
معنى. ومنه أيضا قوله: "فلا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم. إنما يريد
الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" (التوبة/ 85)،
فقد فسرها السيوطى استنادا إلى ابن أبى حاتم عن قتادة قائلا: "هذا من
تقاديم الكلام. يقول: لا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم في الحياة
الدنيا. إنما يريد الله ليعذبهم في الآخرة" برغم أنه لا ذكر للآخرة فى
الآية على الإطلاق. ومنه قوله: "أفرأيتَ من اتخذ إلهه هواه...؟"
(الفرقان/ 34)، إذ يقول السيوطى إن الأصل هو: أفرأيتَ من اتخذ هواه إلهه؟
"لأن من اتخذ إلهه هواه غَيْرُ مذموم، فقدم المفعول الثاني للعناية به".
وهنا يورد الكاتب ما قاله السيوطى من أن هناك "من الآيات ما أَشْكَلَتْ
مناسبتها لما قبلها. من ذلك قوله تعالى في سورة "القيامة" (13- 19): "لا
تُحَرِّكْ به لسانَك لِتَعْجَل به"، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها
عَسِرٌ جدًّا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة...".
كما يشير الكاتب إلى أن هناك كثيرا من التكرار الممل فى القرآن مثل قوله:
"فبأى آلاء ربكما تكذِّبان؟"، الذى تكرر فى سورة "الرحمن" إحدى وثلاثين مرة
رغم أن آيات السورة كلها لا تتجاوز ثمانى وسبعين آية، وكذلك قصص الأنبياء
التى تكرر كل منها فى عدة سور.ثم يختم كلامه قائلا إن فى القرآن من الأخطاء
النحوية ما يتراوح بين خمسة عشر وعشرين خطأً، وإن لم يقف منها إلا عند قوله
تعالى: "إن هذان لَساحران"، الذى كان ينبغى، بناءً على ما يقول، أن يجىء
على النحو التالى: "إنّ هذين لَساحران" (طه/ 63) بنصب كلمة "هذين" بوصفها
اسم "إن" على ما يعرفه أى طالب ثانوى عنده إلمام بأساسيات القواعد العربية.
أما أن تجىء فى القرآن مرفوعة فهو "خطأٌ بالثُّلُث: completely wrong" كما
يقول.
هذا مجمل كلام الكاتب فى انتقاده للقرآن، والآن نبدأ النظر فيما قال: فأولا
ليس صحيحا أن المسلمين يحصرون إعجاز القرآن فى الناحية البلاغية والأسلوبية
وما أشبه مما يوحى به كلام الرجل، فالواقع أن هذا ليس سوى رأى من الآراء،
وهو رأى قلة منهم قليلة، أما الآراء أخرى فتجعل الإعجاز متوزعا على عدة
وجوه. ولو أن الكاتب الذى صدَّع أدمغتنا بالنقل عن السيوطى لإيهامنا بصدق
ما يقول، قد اهتم ذات الاهتمام بالنقل عن السيوطى فى هذه النقطة لما قال
هذا الذى قال، فقد أفرد السيوطى فصلا كاملا لهذا الموضوع عنوانه "في إعجاز
القرآن" أورد فيه الآراء المختلفة: فمن العلماء من قال بالصرفة، أى أن الله
سبحانه وتعالى قد صرف عزائم العرب عن التفكير فى مواجهة تحدى القرآن لهم أن
يأتوا بمثله أو بعشر سُوَرٍ منه أو حتى بآية واحدة من آياته، فلم تتحرك لهم
إرادة نحو هذه الغاية. ومنهم من اعترض على هذا التفسير قائلا إن هذا يعنى
أنهم لو كانوا قد عزموا على معرضة القرآن والإتيان بقرآن مثله فلربما نجحوا
فى ذلك، ومن ثم لا يمكن أن يكون هذا إعجازا، إذ الإعجاز إنما هو استحالة
الفعل مع الرغبة فيه وتوفر الدواعى له. ومن العلماء من تريث عند الجانب
البيانى والبلاغى فعلا بما يُفْهَم منه أن هذا الوجه هو أظهر وجوه إعجازه.
لكن الاتجاه العام، كما قلنا، هو عدم قصر الإعجاز القرآنى فى وجه واحد.
وليس هذا الرأى وليد اليوم، بل هو موجود منذ وقت مبكر. ولقد أورد السيوطى
نفسه آراء بعض العلماء فى هذا السبيل: "وقال قوم: وجه إعجازه ما فيه من
الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب. وقال آخرون: ما
تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها
وحضرها. وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر
ذلك بقول أو فعل كقوله: "إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا"، "ويقولون في
أنفسهم: لولا يعذبنا الله". وقال القاضي أبو بكر: وجه إعجازه ما فيه من
النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام
العرب ومباين لأساليب خطاباتهم. قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته.
قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في
الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع
به كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة، وله طريق
تسلك. فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى ولا إمام يقتدى به ولا يصح
وقوع مثله اتفاقًا". ولعل القارئ قد تنبه إلى أن من العلماء من لا يَعُدّ
البلاغة والبيان، أو على الأقل لا يعد جزءا من هذه البلاغة والبيان، وهو
البديع ومحسناته، داخلا فى الإعجاز لأنه كما قالوا يمكن تعلمه لمن رامه.
وبالمثل ينقل السيوطى عن الإمام الخطابى أن وجوه الإعجاز متعددة لا تنحصر
فى جانب واحد: " وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي
إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام.
فأما أن توجد مجموعةً في نوع واحد فلم توجد إلا في كلام العليم القدير،
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن
نظوم التأليف مضمَّنًا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته
ودعائه إلى طاعته وبيانه لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ
وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها
واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أَوْلَى منه ولا يُتَوَهَّم في
صورة العقل أمرٌ أليق به منه مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من
مَثُلاَت الله بمن مضى وعاند منهم منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار
الآتية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول
عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأداء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر
يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته
بمثله أومناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة إنه شعر لمّا
رأوه منظومًا ومرة أنه سحر لمّا رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه. وقد كانوا
يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا
أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه
لطلاوة. وكانوا مرة بجهلهم يقولون: أساطير الأولين اكتتبها فهي تُمْلَي
عليه بكرة وأصيلا، مع علمهم أن صاحبهم أُمِّيّ، وليس بحضرته من يملي أو
يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز. ثم قال:
وقد قلت في إعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في القلوب وتأثيره
في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع
السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في
حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعال:ى لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ
لرأيتَه خاشعًا متصدعًا من خشية الله. وقال: الله نزَّل أحسن الحديث كتابًا
متشابهًا مَثَانِيَ تقشعرّ منه جلود الذين يخشَوْن ربهم. وقال ابن سراقة:
اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوهًا كثيرة كلها حكمة
وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءًا واحدًا من عشر معشاره، فقال قوم:
هو الإيجاز مع البلاغة.وقال آخرون: هو البيان والفصاحة. وقال آخرون:
هو الوصف والنظم. وقال آخرون: هو كونه خارجًا عن جنس كلام العرب من
النظم والنثر والخطب والشعر، مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم
وألفاظه من جنس كلماتهم، وهو بذاته قبيلٌ غير قبيل كلامهم، وجنس آخر متميز
عن أجناس خطابهم، حتى إن من اقتصر على معانيه وغيَّر حروفه أذهب رونقه، ومن
اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته، فكان في ذلك أبلغ دلالة على
إعجازه. وقال آخرون: هو كون قارئه لا يكلّ، وسامعه لا يمل، وإن تكررت
عليه تلاوته. وقال آخرون: هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية.
وقال آخرون: هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع. وقال
آخرون: هو كونه جامعًا لعلوم يطول شرحها ويشقّ حصرها. وقال الزركشي في
البرهان: أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل
واحد على انفراده، فإنه جمع ذلك كله، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده
مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق: فمنها الروعة التي له في
قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقر والجاحد. ومنها أنه لم يزل ولا يزال
غضًّا طريًّا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين. ومنها جمعه بين
صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبًا في كلام البشر.
ومنها جعله آخر الكتب غَنِيًّا عن غيره، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد
تحتاج إلى بيانٍ يرجع فيه إليه كما قال تعالى: إن هذا القرآن يقصّ على بني
إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقال الرماني: وجوه إعجاز القرآن تظهر
من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة والتحدي للكافة
والصَّرْفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل
معجزة. قال: ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع
الكلام معروفة: منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها
المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن
العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة ويفوق الموزون الذي هو أحسن
الكلام".
ونضيف إلى ذلك ما يثبت كل يوم من إعجاز القرآن العلمى، سواء التاريخى أو
الجغرافى أو الطبى أو الكيميائى أو الصيدلى أو الفيزيائى... مما أفاض
ويُفِيض فيه العلماء المختصون، وما كان بعضه سببا فى إسلام عدد من كبار
علماء الغرب أنفسهم. وهناك مواقع مشباكية خاصة بذلك الجانب الإعجازى فى
القرآن المجيد. ولا يقدح فى الأمر أن بعض من يتناولون هذا الموضوع قد
يغالون فى تفسير الآيات بحيث تدل على تناول القرآن لهذه النقطة أو تلك رغم
أن الأمر ليس كذلك، فما من شأن من شؤون الحياة إلا وتدخله المغالاة من جانب
المتحمسين فلا يكون هذا سببا عند العقلاء فى رفض الموضوع بِرُمّته.
وقد اهتم بعض الدارسين بالجانب الإحصائى فى القرآن الكريم فأدهشهم ما يسوده
من توازنات عددية بين الموضوعات المتقابلة أو الموضوعات المتقاربة: فمثلا
تكرَّرَ ذِكْر كل من الدنيا والآخرة 115 مرة، وذِكْر كل من الموت والحياة
ومشتقاتهما 145 مرة، وذكر كل من الملائكة والشياطين 88 مرة، وذكر كل من
الشدة والصبر مائة مرة واثنتين، وذكر كل من المصيبة والشكر 75 مرة، وذكر كل
من إبليس والاستعاذة بالله 7 مرات، وذكر كل من الصالحات والسيئات بمشتقاتها
167 مرة. كما تكرر ذكر الجزاء 117 مرة، على حين تكرر ذكر المغفرة ضعف ذلك،
وبالمثل تكرر ذكر الفجار 3 مرات، والأبرار ستا، وتكرر ذكر العسر 12 مرة،
بينما تكرر اليسر 36 مرة، أى ثلاثة أضعافه. كذلك لوحظ أن كلمة "قُلْ"
أَمْرًا من الله سبحانه قد تكررت 332 مرة، وهو ذاته مجموع ألفاظ "قالوا"...
وهكذا. ولا ريب فى أن هذا لون آخر من ألوان الإعجاز القرآنى، وأشهر من
تناوله فى دراساته المرحوم عبد الرزاق نوفل.
ومما يتميز به القرآن الكرم عن سائر الكتب: البشرى منها والإلهى، أنه هو
وحده الكتاب الذى يهتم أتباعه بحفظه فى الصدور بالملايين: فى كل الأقطار
وفى كل العصور، وفى أوقات القوة وفى أوقات الضعف والانهيار، ومن كل الأجناس
المسلمة والفئات العمرية، يستوى فى ذلك من يعرف العربية ويفهمها ومن لا
يعرف ولا يفهم. كما يتميز بأنه قد نشأ حوله وفى خدمته عدد من العلوم
المسماة بالعلوم القرآنية مثل إعراب القرآن، والمكى والمدنى، والناسخ
والمنسوخ، وأسباب النزول، ورسم المصحف، والقراءات، والتفسير، والإعجاز،
والتلاوة وأحكامها...إلخ. وبلغ من اهتمام المسلمين به أنهم حرصوا حتى على
إحصاء آياته وكلماته وحروفه، وهو ما لم يقع لأى كتاب آخر دينيا كان أو
دنيويا! وهذا من أسرار بركاته وإعجازه!
وهناك جانب آخر قد يصحّ ذكره هنا، ألا وهو أن الذى ينظر فى أسلوب القرآن
الكريم وأسلوب الحديث النبوى الشريف نظرا نقديا متأنيا سوف يلحظ أنهما من
نسيجين مختلفين تماما بحيث لا يمكن أن يقال إن محمدا هو مؤلف القرآن،
فالمعروف أن هناك بصمةً أسلوبيةً لكل واحد من الكتاب أو المتحدثين تميزه عن
نظرائه مهما كان المنزع الذى ينزعون عنه متشابها. وقد يمكن أن نسمى هذا
إعجازا أسلوبيا، بمعنى أنه يستحيل أن يكون محمد هو صاحب هذا القرآن. وعندما
أقول أنا بالذات هذا الكلام فإنى لا أقوله تهويشا، بل أقوله من واقع دراسة
قمت بها منذ ستة عشر عاما، وإن تأخر نشرها حتى عام 2000م، وعنوانها:
"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"، وتقع فيما يقرب من 600 صفحة. ولن يمنعنى
كونى صاحبها من القول بأنها أول دراسة من نوعها فى تاريخ الفكر الإسلامى لا
غرورا ولا تنفُّجا ولا رغبة فى الظهور بل تقريرا لواقع لا يُنْكَر ورغبة فى
تنبيه الأذهان إلى خطورة هذه الدراسة التى لن يمنعنى كونى صاحبها أيضا من
القول بأنها مع ذلك ليست إلا بداية لدراسات مثلها تتناول ما لم أتناوله
ويعرف أصحابها كيف يستعملون الحاسوب أفضل منى ويحرصون على اتباع المنهجية
العلمية بطريقة أكثر صرامة. وبالمناسبة فإنى، عندما كتبتها فى سنة 1989م،
لم يكن عندى جهاز، ولم أكن أستطيع أن أخط حرفا واحدا على تلك الآلة، بل كنت
أستعمل عينى ويدى على نحو بدائى، لكنه والحمد لله كان رغم بدائيته مؤثرا
ووصل بى إلى نتائج عجيبة، وكله بفضل الله. وفى هذه الدراسة لم أضيع وقتى فى
الكلام العام، بل غُصْتُ مباشرة فى المقارنات بين كتاب الله وأحاديث رسوله
من ناحية اللفظ والصيغة والتركيب والصورة البيانية وزاوية الرؤية والبناء
القَصَصى والقَسَمى ...إلخ. وهى مقارنات أقرب إلى الإحصاءات منها إلى أى
شىء آخر، وكنت أشفعها بذكر النتائج الدقيقة والعجيبة التى توصلتُ إليها من
خلال هذه المقارنات.
كما أن هناك وجها إعجازيا آخر للقرآن الكريم، فمَنْ من الذين تنبأوا فى
عصره أو بعد عصره يا ترى كان لوحيهم الذى جاؤوا به هذا التأثير الرهيب الذى
كان للقرآن أو هذه النتائج الباهرة التى أثمرها القرآن، سواء على مستوى
الفتوحات وتأسيس الإمبراطوريات، أو على مستوى الروح والعقيدة، أو على مستوى
النفس والأخلاق، أو على مستوى التقدم الحضارى، أو على مستوى الأعداد
الهائلة التى دخلت وما زالت تدخل فى دين الله أفواجا حتى فى أوقات انهيار
المسلمين عسكريا واقتصاديا وعلميا كما هو حاصل الآن ورغم أن المسلمين لا
يعرفون التبشير الممنهج الذى يتبعه النصارى مثلا؟ وعندنا مسيلمة الكذاب
وسجاح والأسود العنسى قديما، وعندنا الباب وغلام أحمد ورشاد خليفة حديثا،
فأين أتباعهم؟ وأين تأثيرهم؟ إن ديانات هؤلاء الأخيرين مثلا لأشبه ما تكون
بأكشاك سجائر مما تبيع اللب والسودانى والدخان والبونبون فى الظاهر،
والحشيش والأفيون والبانجو والهيروين فى باطن الأمر وحقيقته، وكان الله يحب
المحسنين، ويلعن المسيئين الخائنين! ولن أتحدث عن المساعدات والمؤامرات
التى كانت ولا تزال وراء أمثال هذه النبوات ومدّعيها والإمكانات الضخمة
التى تسخرها القوى العالمية لهم من أجل ضرب الإسلام. ثم ها هى ذى الصليبية
العالمية تحاول على مدى القرون أن تقضى على الإسلام، لكن الله غالب على
أمره. لقد كان الإسلام ينهض بعد كل محنة أكثر قوة ونقاء وحيوية، ولن
يُخْلِف هذا الدين العظيم وعده لنا هذه المرة أيضا رغم القنابل النووية
التى تنهال على أتباعه، بل حتى لو افترضنا أن أتباعه الحاليين قد أبيدوا
إبادة، إذ إنى موقن أنه سيعود، وسوف يكون انبعاثه من بلاد هؤلاء الذين
يحاربونه نفسها، ولسوف يثبت المستقبل صدق هذه الكلمات. والأيام بيننا،
ودعونا من الأوغاد الأنغال ممن أَلْقَوْا بيد الاستسلام لأعداء دينهم
وأمتهم متصورين أن أمريكا قد ملكت العالم إلى الأبد، جاهلين فى غمرة انخلاع
قلوبهم المنخوبة والمنخورة أن أمريكا ليست إلا المسيخ الدجال أو صورة من
صوره قد تُعْشِى أعين المرمودين، لكنها لا تستطيع أن تؤثر ولا شَرْوَى
نَقِير فى قلوب المؤمنين المعتزين بربهم ورسوله. ويكفى أن أمريكا فى الفترة
الأخيرة، وبعد أن أفلستْ فى حربها التى تشنّها على دين الله، لم تجد من
تجنده لمحاربة الإسلام إلا السحاقيات والزانيات اللاتى يحملن سفاحا
والمتهوسات المهلوسات اللاتى يجب عرضهن على طبيب عقلى ونفسى معا رغم أنهن
قد يكنّ ممن يمارسن الطب النفسى، وذلك على طريقة الأطباء النفسيين الذين
يظهرون فى أفلامنا ويثيرون رثاءنا واستهزاءنا جميعا، إذ يتبين لنا أنهم
أحوج إلى العلاج والرعاية من المرضى الذين يترددون عليهم.
ثم إن الكاتب قد شاء له كرمه البالغ أن يقر بأن أسلوب القرآن فى بعض آياته
وسوره (لاحظ: فى بعض آياته وسوره فقط) هو أسلوب بليغ ومعبر حقا. وقد كان
ينبغى أن نشكر له هذه الشهادة لولا أنه رجل أعجمى لا يفهم شيئا فى بلاغة
القرآن، ومن ثم فلا يعتد به ولا بما يقول. كما أنه لم يقل ذلك حُبًّا فى
القرآن ولا رغبةً فى أن يقول كلمة حق وصدق، بل ليمهد به إلى الزراية على
كتاب الله، حتى إذا اعترض عليه أحد قيل له إن الرجل قد قال فى القرآن ما
يرضى ضميره ولم يقصد الإساءة إليه بل تبيان وجه الحق فيه، وإلا لذمَّ
أسلوبه على طول الخط. ودليلنا على هذا هو مسارعته فى الحال إلى القول بأن
القرآن لا يخلو من كثير من الأخطاء الواضحة التى تخرج على أبسط قواعد النحو
والصرف وأساليب التعبير الأدبى فى لغة العرب، كما أن فيه كثيرا من الألفاظ
التى لا وجود لها فى أية لغة، فضلاً عن احتوائه على عدد كبير من المفردات
التى لا يمكن أن يفهمها أحد، وهو ما أقرّ به الصحابة أنفسهم.
قد يقول بعضهم: وماذا فى أن يكون فى القرآن هذا الذى يدّعيه الكاتب؟ لكننا
نعرف أنه إنما قال هذا للخروج منه بأن القرآن ليس وحيا سماويا بل كلاما
اخترعه محمد وزعم أنه وَحْىٌ أُوحِىَ إليه من عند الله. ولسوف أفاجئه هو
ومن يرافئونه على مثل هذه الدعوى فأسلك فى الرد على هذا القىء سبيلا لا
يتوقعها هذا الجاهل ولا خطرت له ببال، إذ سأفترض أن محمدا هو حقا صاحب هذا
القرآن، ثم أعاجله بمفاجأة لا تقلّ عن الأولى إذهالا إن لم تزد، وهى أن
القرآن رغم هذا يظل فوق المؤاخذة من هذه الناحية. لماذا؟ "هذه هى المسألة"
كما يقول شكسبير! فالمعروف أن أية لغة هى فى الأساس من صنع أهلها الأوائل
الذين تكون ممارستهم لها حينئذ بالسليقة، أى دون أن يكونوا واعين تماما
بالقواعد التى تحكمها، بل يتشرَّبها كل جيل من الجيل السابق عليه تشرُّبا.
ثم تأتى مرحلة أخرى بعد ذلك تُجْمَع فيها اللغة وتُسْتَخْلَص قواعدها من
كلام أهلها، فما قالوه يكون هو الصواب، وما لم يقولوه أو لا يجرى على
الخطوط التى نسجوا عليها لا يكون مقبولا.
ولْنطبِّق الآن هذا الكلام على العربية فنقول: لقد كان الجاهليون يمارسونها
بالسليقة، وكان كلامهم هو مقياس الصواب والخطإ. وبطبيعة الحال فإن شعراءهم
وخطباءهم كانوا يمثّلون أرقى المستويات اللغوية لكونهم أفضل قومهم ثقافة
وذوقا أدبيا ورهافة حس، وكان محمد على أسوإ الفروض واحدا من هؤلاء، مَثَلُه
مَثَلُ امرئ القيس وطَرَفة وزُهَيْر والأعشى وقُسّ بن ساعدة وأُمَيّة بن
أبى الصَّلْت وحَسّان بن ثابت وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أُخِذَتْ
عنهم اللغة، ومن كلامهم قُعِّدَتْ قواعدها. فهل سمع أحد أن شخصًا قد خَطَّأ
أيًّا من هؤلاء الشعراء أو الخطباء رافضًا أن يأخذ عنهم لغة العرب؟ إن هذا
لم يحدث، ولن يحدث. فقرآن محمد إذن هو، على أسوإ الفروض، مثل شعر امرئ
القيس مثلا أو خُطَب قُسّ بن ساعدة، أى أنه هو المعيار الذى يُحْتَكَم إليه
ويُؤْخَذ منه ويُهْتَدَى به.أما إذا تطاول أحد وتطلع إلى تخطئته فتلك هى
الطامّة الكبرى، وهذا ما فعله ذلك الأعجمى!
وفضلا عن ذلك ينبغى ألا يفوتنا أنه لو كان فى القرآن الكريم أى خطإ لغوى
مهما تَفِه لملأ مشركو العرب الدنيا صياحا واستهزاء بمحمد. لقد افْتَرَوْا
عليه الأكاذيب ولم يألوا جهدا فى اتهامه زورا وبهتانا بأنه مجنون وأنه ساحر
وأنه كذاب وأنه إنما يعلمه بشر، ولكنْ رغم ذلك كله لم يجرؤ أى منهم قط أن
يهمس مجرد همس بأن فى القرآن أخطاء لغوية، مع كثرة ما تحداهم أن يأتوا
بقرآنٍ مثله أو بعشر سُوَرٍ منه أو حتى بسورةٍ واحدةٍ تشبه سُوَرَه، ومع
كثرة ما نَشِبَ بينهم وبينه من حروبٍ كلاميةٍ ومعاركَ بالسيف والرمح
والحصان. فما معنى هذا؟ إن أعداء الرسول من المبشِّرين لا يخجلون، بل يلقون
بأنفسهم فى المعاطب والمهالك دون تبصر فى العواقب! ذلك أنهم إنما يحركهم
الحقد والدناءة، وناسٌ هذه دوافعهم كيف ننتظر منهم أن يُعْمِلوا عقولهم أو
يتقوا ربهم؟
وهناك شىء مهم جدا لا بد من توضيحه قبل أن نبدأ الرد على دعاوى الكاتب، ألا
وهو أن ما يشير إليه دائما من قواعد يزعم أن القرآن قد خالفها فى هذا
الاستعمال أو ذاك قائلاً إن كل طالب فى المرحلة الثانوية يعرفها ولا يمكنه
أن يخطئ فيها، هذه القواعد لا تغطى كل الاستعمالات العربية الصحيحة، بل
تمثل فقط بعضا من هذه الاستعمالات. ذلك أن اللغة واسعة جدا جدا، أما
القواعد التى يدرسها الطلاب فى المدارس فهى جزء صغير منها. ولو رجع الباحث
إلى كتب النحو القديمة لوجد محيطًا زخَّارًا متلاطم الأمواج واستعمالاتٍ
متعارضةً تَعَارُضَ القبائل العربية القديمة، بل لو رجع الباحث إلى النصوص
الشعرية الجاهلية بنفسه لوجد أن ما تقوله كتب النحو هذه لا يغطى بدوره كل
الاستعمالات اللغوية الجائزة، وهو ما أتحقق منه كل يوم. فكم من استعمال
يؤكد علماء النحو واللغة أنه استعمال خاطئ أجد له شواهد غير قليلة من الشعر
العربى القديم، وذلك بفضل الحاسوب والأقراص المدمجة التى تضم الشعر العربى
كله تقريبا، ويمكن الباحث أن يحصل منها على مبتغاه فى دقائقَ قليلةٍ لا
أسابيعَ أو شهورٍ أو أعوامٍ كما كان يفعل اللغوى القديم، إذ كل ما يحتاجه
هو النقر بالفارة على كلمة "ابحث" فيكون بين يديه كنز سليمان اللغوى متمثلا
فى الشواهد الشعرية أو النثرية الراجعة إلى كل عصور الأدب العربى تقريبا.
لنأخذ مثلا "المُثَنَّى"، الذى لا يعرف الطلاب عنه إلا أنه يُعْرَب بالألف
رَفْعًا، وبالياء نَصْبًا وخَفْضًا، لكن هذا ليس إلا وجها واحدا فى
استعماله، إذ كانت هناك قبائل عربية تُعْرِبه بالألف فى كل الأحوال، وهو ما
أشرتُ إليه إشارة ضاحكة فى مقال لى سابق حين سُقْتُ المثل الشعبى الذى
يردده الشحاذون تحنينا للقلوب فيقولون: "من قدّم شيئا بيداه، التقاه" بدلا
من أن يقولوا: "بيديه". ثم نأخذ مثالا آخر، وهو "إن وأخواتها"، التى لا
يعرف الطلاب عنها أكثر من أنها تنصب اسمها وترفع خبرها. ولهذا أخذتنى
المفاجأة والدهشة عندما وجدت فى بعض النصوص القديمة اسمها وخبرها كليهما
منصوبا، وظننت أنه خطأ، إلى أن وجدت أن من العرب القدامى من كان ينصب اسمها
وخبرها جميعا. وبالمثل يمكننا أن نشير إلى إعراب "الأفعال الخمسة"، التى
درسنا أنها تُرْفَع بثبوت النون وتُنْصَب وتُجْزَم بحذفها، ثم صَدَف أن
وجدت بشار بن برد يحذف نونها دون ناصب أو جازم، وظننت أنه قد أخطأ تحت ضغط
الضرورة الشعرية، ثم اتضح لى أن معلوماتى هى القاصرة، إذ لم يدرّسوا لنا فى
قسم اللغة العربية أن من العرب من كانوا يحذفون نونها فى كل الأحوال. كذلك
كانت هناك قبائل لا تمنع أى اسم من التنوين على خلاف ما ندرس فى أبواب
النحو من أن ثَمَّةَ ضُروبًا من أسماء الأعلام والصفات وغيرها تُمْنَع من
الصَّرْف بشروط أو بغير شروط. وكنت أول ما رأيت من الكتّاب الصحفيين من
يقول: "سنينٌ، سنينًا، سنينٍ" (وهو مصطفى أمين) أستغرب ذلك أشد الاستغراب
ولا أتصوره، وأعزوه إلى الجهل بالقواعد النحوية، إلى أن عرفت أن هذه طريقة
أخرى من طرق إعراب هذه الكلمة، إلى جانب "سنونَ، سنينَ" و"سَنَواتًٌٍ/
سَنَهاتًٌٍ". كما أذكر أنى قد ضحكت حين سمعت للمرة الأولى أن من العرب من
كانوا يقولون فى حال الرفع: "عاد القوم الَّذُون سافروا" مثلا، إلى جانب
"الذين" فى حالة النصب والخفض، لكنى الآن لم أعد أضحك بعد أن تبين لى أن ما
كنا نعرفه لم يكن يزيد على القشور. وبينى وبينكم، وما زال الذى نعرفه حتى
الآن لا يزيد على القشور، لكن أرجوكم أن تتركونا نأكل عيشًا وتكتموا هذا
الكلام علىّ حتى لا يطمع فىّ طلاّبى، رغم أنى دائما ما أقول لهم هذا، لكن
بطريقة ماكرة توهمهم أننى حين أقوله فمن باب التواضع ليس إلا، ومن هنا
فإنهم لا يصدّقون أننى لا أعرف شيئا أكثر من القشور ويظلون على عماهم
متصورين أن تحت القبة شيخا... وقد كان هذا سببا فى أننى لم أعد أسارع إلى
تخطئة أى استعمال إلا بعد أن أذهب فأراجع على الأقل "الموسوعة الشعرية"
التى فى حوزتى والتى تضم كل الشعر العربى قديمه وحديثه تقريبا ونحو
ثلاثمائة كتاب من أمهات كتب التراث الأدبية والنقدية. فهذا المبشِّر
الأعجمى على أحسن الفروض، وهو فرض مستبعد تماما، لا يزيد إذن عن ذلك الطالب
الذى لم يعرف من اللغة العربية إلا الجلوس على ساحلها ومدّ رجليه فى الماء
ثم يزعم بعد هذا أنه قد غاص فى أعماقها ووصل إلى قرارها وأتى منها بكنوز من
الدُّرَر واللآلئ، وهو لم يكد يعرف منها شيئا. وعلى هذا ينبغى على الأقل أن
نميز بين الشاعر القديم والأديب المعاصر عندما نحكم على لغتهما، إذ بينما
يمكننا مطالبة أديبنا المعاصر بالتزام القواعد النحوية والصرفية التى
درسناها فى المدارس واستقر عليها الوضع، فإنه من الظلم القول بأن الشاعر
القديم، الذى لم تكن القواعد على عهده قد وُضِعَتْ فى قوالبها التى نعرفها
وثبتت على وضعها النهائى، قد أخطأ بسبب عدم التزامه بهذه القواعد. ذلك أنه
إن كان قد أهمل قواعدنا الحالية فإنه مع ذلك لم يخرج عن اللغة، إذ اللغة،
كما قلت، بحرٌ زخّارٌ فيه العجب العُجَاب!
وبالنسبة لما قاله صاحبنا عن الحروف المقطَّعة نجيب بأن الرأى القائل
بعجزنا عن التوصل إلى معنى هذه الحروف هو رأى بعض العلماء فحسب، بينما هناك
فريق آخر يرى أن المقصود بها تنبيه المعاندين إلى أن القرآن مؤلف من هذه
الحروف وأمثالها، ومع ذلك لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بسورة منه.
ونحن إذا ما قرأنا الآية التى تلى هذه الأحرف فى كل سورة تقريبا فسوف نجد
أن هذا تفسير جِدّ وجيه. ومن ذلك قوله تعالى فى أول "البقرة": "ألم* ذلك
الكتاب لا ريب فيه"، وفى أول "الحِجْر": "ألر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين"،
وفى أول "الشورى": "حم* عسق* كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله
العزيز الحكيم"...وهكذا، إذ المعنى فى الشاهد الأخير على سبيل المثال أنه
من هذه الحروف وأشباهها (وهذا معنى قوله تعالى: "كذلك) يوحى إليك وإلى
الذين من قبلك الله العزيز الحكيم". وقس على ذلك السُّوَرَ الباقيةَ، وإن
لم يأت التعبير فيها دائما على هذا النحو المباشر، بل تنوَّع من سورة
لأخرى. أما السورتان أو الثلاث التى لا يوجد فى أولها مثل هذه الإشارة ففى
الكلام فيها حذف كالحذف الذى يقابلنا فى كثير من آيات القرآن الكريم جريًا
على سنة العرب وغير العرب فى لغاتهم.
وللمسلمين آراء أخرى فى تفسير هذه الحروف: منها أنها أسماء للسور التى
تبتدئ بها. ومن هذا أننا، عندما كنا صغارا نحفظ القرآن فى الكتّاب،كنا نقول
مثلا: لقد وصل فلان فى حفظه للقرآن إلى "الحواميم". وبعض العلماء يقولون
إنها اختصار لأسماء الله، وبعضهم يقول: بل هى اختصار لصفاته تعالى، فإذا
أخذنا "ألم" مثلا فإن "الألف" تشير إلى "آلاء الله"، و"اللام" إلى "لطفه"،
و"الميم" إلى "مجده وملكه"... وهكذا. ومع أن الاتجاه الحديث فى التفسير
بوجه عام لا يأخذ بهذا الرأى فإنه، رغم كل شىء، أَوْجَهُ كثيرا جدا من
التفسير البهلوانى الذى يدّعى كاتب سفر "دانيال" فى العهد القديم أن دانيال
قد فسّر به رؤيا المَلِك البابلى حين رأى فى منامه كتابة مرسومة ليس لها
معنى هذا نصّها: "مَنَا مَنَا تَقِلْ وفَرْسِين"، إذ قال له: "مَنَا: أى
أحصى الله مُلْكك وأنهاه. تَقِل: أى وُزِنْتَ فى الميزان فوُجِدْتَ ناقصا.
فَرْس: أى قُسِّمَت مملكتك ودُفِعْتَ إلى ماداى وفارس". ترى أيمكن أن يدخل
فى رُوع أحد أن يهوديًّا منفيًّا فى مملكة ذلك العاهل يمكن أن يجبهه بهذا
الكلام الفظيع؟ وأدهى منه وأطمّ أن يدَّعى مؤلف السفر أن المَلِك، من
إعجابه بهذا التفسير، قد ألبسه الأرجوان وطوَّق عنقه بالذهب! إن هذا لهو
المستحيل بعينه، إذ لو صحت هذه الرواية، ولا أحسبها صحيحة أبدا، لما كان رد
فعل الملك شيئا آخر غير تطيير رقبة ذلك اليهودى بالسيف فى التو واللحظة!
لكن مؤلف السِّفْر يعرف أن قُرّاءه داقّون عصافير ومختومون على قفاهم،
ولهذا يتوسع مؤلفو الكتاب المقدس فى هذه "المطاوى" غير المقدسة! على أن
المسرحية لمّا تكتمل فصولا، إذ تمضى القصة فتقول إن المَلِك البابلى قد
قُتِل فى تلك الليلة ذاتها وانتقل مُلْكه فعلا إلى الملك داريوس المادى
(دانيال/ الإصحاح الخامس كله).
بَيْدَ أنه فى العقود الأخيرة قد اكتُشِف، عن طريق الحاسوب، مغزى إضافى
لورود هذه الحروف فى أوائل السور، إذ وُجِد أن الحرف الذى يتصدر آيات
السورة هو أكثر الحروف دورانا فيها، أما إذا كان هناك حرفان أو أكثر فإن
تردد أولها يكون أكثر من تردد الثانى، وهذا أكثر من تردد الثالث...وهكذا.
ولا تزال الأيام حبلى بالكثير من مثل هذه الاكتشافات الخاصة بالحروف
والأرقام.
ثم إن الذى يقرأ كلام هذا الأعجمى المتطاول يظن أن كتابهم المقدس قد خلا من
الألفاظ التى حيرت مفسريه رغم أن أسلوبهم فى التفسير يفتقر إلى الانضباط
والمنهجية ويتسع لكل شىء ولأى شىء. ولن أذكر للببغاء إلا مثالا واحدا هو
كلمة "سلاه"، التى وردت فى "المزامير" 63 مرة، وثلاثا فى "حبقّوق"، والتى
اختلف مفسروهم فى شرحها اختلافا شديدا وما زالوا رغم أنهم، كما قلت، لا
يتقيدون بمنهج فى تفسيرهم! ثم فلنفترض بعد ذلك كله أن هذه الحروف المقطعة
ليس لها معنى، فأى ضير يا ترى سوف يترتب على وجودها فى أوائل السور؟ بل أية
فائدة يا ترى سيحرمنا منها وجودها فى ذلك المكان؟ لقد كان القدماء يَصِفون
من يثير مثل هذه المماحكات بأنه "لُكَع"! وأخيرا فحتى لو قلنا إنه قد جىء
بها لمجرد التنبيه ولفت الآذان والأذهان من خلال الإدهاش بشىء جديد طازج،
أفيكون هذا شيئا قليلا؟
وينفى الكاتب أن يكون جمال الأسلوب وسموه غاية لله فى أى وحى ينزله على أحد
من رسله، قائلا إنه سبحانه ليس معلما للغة العربية ولا يعنيه أن ينشر هذه
اللغة فى العالم، بل الذى يهمه أن يوصل المضمون الذى يريد توصيله للبشر كى
يشعروا بالسكينة والبهجة. والحق أن هذا خبط على غير هدى وخلط للمفاهيم، إذ
من قال إن الله سبحانه حين ينزِّل وحيا بأسلوبٍ رائعٍ على نبى من أنبيائه
إنما يحوّل نفسه بهذه الطريقة إلى مدرس لتلك اللغة؟ إن هذا لتفكير مضحك
عجيب! وهل نفهم من هذا أنه سبحانه عليه أن ينزِّل وحيه بأى أسلوب، والسلام؟
وما المانع من أن يكون مضمون الوحى فخمًا ساميًا، وأسلوبه فخمًا ساميًا
كذلك فيجمع بذلك بين السُّمُوّيْن حتى يليق بجلال الله وجماله وكماله؟ أم
ترى الكاتب العبقرى يرى فى هذا ما يقدح فى ألوهيته سبحانه؟ وهل القرآن قد
تحول بسبب من إبداعه الأسلوبى إلى كتاب فى قواعد النحو والصرف، أو إلى معجم
لغوى مثلا؟
ثم إن الكاتب يسم اللغة العربية بأنها لغة مندثرة، فبأية أمارة كان ذلك يا
ترى؟ وأية لغة إذن تلك التى نتكلم بها ونكتب الآن؟ يقينا ليست هى اللغة
الصينية أو البنغالية مثلا، أم لكاتبنا الهمام رأى آخر؟ أما إن قيل إن
العربية اليوم ليست هى العربية التى كانت فى الجاهلية، فإننا لا نشاحّ فى
هذا، بل نتفهمه ونتقبله ولا نجد فيه أية غرابة أو معابة، لسببٍ جِدّ بسيط،
وهو أن هذه سُنّة لغوية عامة لا تفلت منها لغة من اللغات قَدُمَتْ تلك
اللغة أم حَدُثّتْ. ومع هذا فإن أسلوب القرآن مازال غَضًّا إلى حدٍّ كبيرٍ
بالنسبة لأسلوب الشعر الجاهلى مثلا أو حتى الإسلامى والأموى، بل والعباسى
أيضا، سواء من حيث المفردات أو العبارات أو التراكيب، مع التسليم بأن هناك
تراكيبَ قرآنيةً لم تعد تستخدم الآن إلا على سبيل الندرة، إلا أن ورودها فى
القرآن الذى يقدسه المسلمون ويحبونه مهما بلغ بفريق منهم الجهل والأمية قد
عصمها من الاندثار وجعلها مفهومةً ولو فهمًا مقاربًا رغم كل شىء! ودعنا من
اللغات الأخرى التى تتسع فيها مسافة الخُلْف بين أساليب عصورها المختلفة،
كالإنجليزية مثلا حيث تختلف لغة تشوسر عن لغة العصر الحالى اختلافا رهيبا
فكأنهما لغتان منفصلتان. ليس ذلك فحسب، بل إن بَرَكة القرآن قد حفظت لغة
يَعْرُب كل هاتيك القرون وستحفظها إلى ما شاء الله، بخلاف اللغات الأخرى
بما فيها اللغات السامية أخوات لغة القرآن، فقد اختفت تلك اللغات وأصبحت من
حكايا التاريخ الغابر، باستثناء اللغة العبرية التى بعثها أهلوها فى العقود
الأخيرة بعد قيام دولة الصهاينة. ومع ذلك فالعبرية المبعوثة هى شىء مختلف
إلى مدى بعيد عن العبرية القديمة، وهذه العبرية الجديدة مصيرها إن شاء الله
إلى اختفاء مع زوال الدولة الصهيونية. أما متى؟ فقل: عسى ألا يكون بعيدا!
وإذا كانت هناك مشكلة فى فهم القرآن فهى ناتجة من أن للقرآن أدواتِه
ومداخلَه التى يتعين على من يريد فهمه الفهم الدقيق والعميق أن يتوسل بها،
ويأتى على رأسها ما يسمى فى "علوم القرآن" بــ"أسباب النزول"، وهى الظروف
التى واكبت نزول هذا النص أو ذاك من نصوص القرآن، إذ القرآن يقوم على
الإيجاز وتجنب التفاصيل والتفريعات، ويكتفى عادة بالخطوط العامة مهملاً
الأسماء والتواريخ وتحديد الأماكن...إلخ، على عكس الحال مع مؤلفى العهد
القديم والعهد الجديد الذين جعلوا وُكْدهم التأريخ لبنى إسرائيل وأنبيائهم،
فجاء ذانك الكتابان أقرب للسيرة النبوية منهما للقرآن فى الغاية وطريقة
التأليف، بل إن السيرة النبوية فى التفاصيل والتفصيصات فى غير قليل من
المواضع لتبدو بالنسبة لهما وكأنها النسمة البليلة بالنسبة لحر الصيف
المرهق بل المزهق. وعلى أية حال فمعروف أن من يريد دراسة نص ما وتذوقه عليه
أن يلم بعدة أشياء كى يصل إلى مبتغاه من هذا الفهم والتذوق على أحسن ما
يرام، أما من يريد أن يفهم أى فهم والسلام، ولو كان فهما مغلوطا أو ضبابيا،
فهذا شأن آخر، ولن نتكلم فى هذه الحالة عن التذوق والاستمتاع. إن الفهم
والتذوق الصحيح يقتضيان أن يكون القارئ على معرفة كافية بقواعد اللغة
والبلاغة، ومقدرة على استعمال المعجم، وإلمام معقول بالخلفية التاريخية
والجغرافية والاجتماعية والنفسية التى تقف خلف النص، وأن يكون صاحب ممارسة
ودربة فى ميدان القراءة واستطعام الأساليب الأدبية، وإلا فلن يتحقق له
الفهم والتذوق المطلوبان.
أما قوله إن فى القرآن مئات الألفاظ التى حيرت الصحابة واستعصت على أفهامهم
فهو كلام سخيف وتافه وكذاب مثل صاحبه لا يؤبه له ولا يوقف عنده! إن كل ما
ضربه من أمثلة على دعواه هذه لا يعدو مثالين، ولا أظن أن الصحابى المذكور
فى كل حالة لم يكن يفهم دلالة اللفظ بالمعنى الذى يريد الكاتب أن يخيّله
لنا، بل كل ما هنالك أنه لم يكن يحدد المعنى على وجه الدقة كما يحدث لكثير
منا مع بعض النصوص، إذ تبقى هناك ألفاظ لا يتضح معناها تمام الاتضاح، ولا
يمنع هذا من فهم النص رغم ذلك، إذ من قال إن كل قارئ يفهم كل نص يطالعه
فهما دقيقًا عميقًا بحيث لا يكون هناك أى لفظ إلا وكان معناه مَجْلُوًّا
تمام الجلاء؟ ثم إنه إذا لم يفهم قارئٌ ما كلمةً أو عبارةً أو تركيبًا فليس
معنى هذا أن هذا اللفظ أو ذلك التركيب أو تلك العبارة غير قابلة للفهم
بالنسبة لكل القراء كما يزعم الكاتب، وإلا فالسؤال هو: فمن إذن يا ترى
شَرَحَ الكلمتين المذكورتين للصحابيين الجليلين؟ إنهم أشخاص عرب آخرون، لا
أشخاص أَتَوْا من الفضاء الخارجى. ومن الواضح أن اللفظين اللذين ذكرهما
الكاتب هما من الألفاظ الخاصة بقبيلة أخرى غير التى جاء منها الصحابى موضع
التعليق، فمن الطبيعى ألا تكون اللفظة واضحة المعنى لمن لا ينتمى إلى تلك
القبيلة. ذلك أن القرآن لم يقتصر فى بعض الحالات على لهجة قبيلة واحدة.
وهذا كله إن كانت مثل هذه الروايات فعلا صحيحة. وها هو ذا ابن عباس يفسر
كلمة "الأبّ" ببيت من الشعر وردت فيه يدل على أنها نبات من النباتات. وقد
جاء هذا الكلام فى "الإتقان" للسيوطى، لكنك، أيها المبشر الرقيع، لم تورده
لأنه يكذّبك فى أصل وجهك. وهذا هو نص السؤال الذى طرحه نافع بن الأزرق على
ابن عباس وجواب ترجمان القرآن عليه كما نقله السيوطى عن "مسائل نافع بن
الأزرق": "أَخْبِرْني عن قوله تعالى: وأَبًّا. قال: الأبّ: ما يعتلف
منه الدواب. أمَا سمعتَ قول الشاعر:
ترى به الأبَّ واليقطين مختلطًا على الشـ*ـــــــريعة يجري تحتها الغرب؟"
أما زعم ذلك المجنون أن النبى لم يستطع هو أيضا أن يفهم معنى هذه الألفاظ
فلا أدرى ماذا أقول بشأنه. ألم يحاول الكاتب الأحمق أن يسأل نفسه: فكيف يا
ترى تسللت هذه الألفاظ التى لم يكن النبى يفهمها إلى القرآن، الذى يزعم
المؤلف أنه مخترعه؟ إنه ما من كلمة فى القرآن إلا وهى تعنى شيئا فى سياقها
وتشعّ بالإيحاءات وتنفح بأنفاس الجمال والجلال، لا تتخلف كلمة واحدة عن
ذلك، وهو ما يدل على أن كل لفظة من ألفاظه كانت مقصودة معروفة المعنى
مشحونة بالإيحاءات والإيماءات منذ البداية. أما ادعاء المؤلف أن الصحابة قد
سألوا النبى عن عدد من الألفاظ فعجز عن شرحها لهم فهو ادعاء من شأنه أن
يسوق صاحبه إلى مستشفى الأمراض العقلية، إذ ما الذى يحمل النبىَّ على أن
يضمن قرآنه مثل هذه الألفاظ؟ ألا يعرف أنه سوف يُسْأَل عن معانيها، وأنه
سوف يُعَرِّض نفسه لحَرَجٍ بالغٍ، بل قد تواجَه رسالته كلها عندئذ بالتكذيب
إنْ هو لم يعرف كيف يشرحها لهم؟ وهذا لو قبلنا أصلا أن يُقْدِم الرسول عليه
السلام على استعمال ألفاظ ليس لها دلالة فى ذهنه، بما يعنى أنه كان يستعمل
ألفاظا لا وجود لها فى اللغة، إذ أَنَّى لإنسان بألفاظ لا يعرف لها معنى
فيستخدمها فى كلامه؟ فإن قيل إنه كان يحفظها ويرددها دون فهم قلنا إن الشخص
فى هذه الحالة يكون عنده فهمه الخاص (والخاطئ بطبيعة الحال) لهذه الكلمات،
أما أن يقال إنه لم يكن يعرف لها معنى البتة فهذا لا يجوز عند أصحاب
العقول، اللهم إلا إذا كان رجلا هازلا، وكانت الظروف التى يتحدث فيها ظروفا
تبعث على الهزل أو على الأقل تتحمله! وأين هذا من ظروف الرسول عليه الصلاة
والسلام أو من شخصيته أو شخصية أصحابه؟ وبطبيعة الحال فأنا لا أقول عن
الرسول إنه هو مؤلف القرآن لأنى، والحمد لله، أعقل من هذا، بل لقد أنفقت
عمرى فى البرهنة العقلية على أنه رسول من عند رب العالمين وأن القرآن الذى
أتى به هو كتاب الله سبحانه، لكن طبيعة المجادلة هى التى تجعلنى أتسامح
غاية التسامح مع أمثال ذلك المبشر الأحمق حتى أُبْطِل له كلّ شبهة ولا أترك
له ولا ثَقْب إبرة ينفذ منه.
كذلك يقول الكاتب إن فى القرآن كثيرا جدا من الألفاظ التى لا وجود لها فى
أية لغة من اللغات. وهذا كلام عجيب لا معنى فى الواقع له إلا أن المبشرين
الذين يحاربون القرآن قد فقدوا عقولهم. طيب يا ابن الحلال (وابن الحلال هذه
هى على سبيل التهكم لا الحقيقة! أقولها، ورزقى على الله، حتى يفهم المسكين
قصدى ولا يظن أنى أمدحه، فمن الواضح أن آلة الفهم لديه معطلة أو معطوبة أو
من نوع مضروب غير يابانى) أقول: طيب يا ابن الـحلال، إذا كان الصحابة قد
عجزوا عن فهم هذه المئات من الألفاظ القرآنية، ومن قبلهم الرسول نفسه،
فمعنى ذلك أن النص القرآنى هو نص مغلق (مغلق لا بالمعنى الحداثى المأفون
الذى يريد من ورائه الحداثيون أن يفصلوا أى نص عن سياقه حتى يعيثوا فيه
فسادا بالتفسيرات الشيطانية بشبهة أن مؤلفه قد مات، وخلّف بنات، وأصبحوا هم
الورثة له يفعلون به ما يشاؤون وما تشاء لهم شياطينهم، مع أن الله سبحانه
قال إن الذين يستحقون إرث الأرض (وقِسْ عليها كل إرثٍ صالحٍ آخَر) إنما هم
"عبادى الصالحون"، بل بمعنى أن النص القرآنى الكريم غير قابل للفهم)، إذ
ليس هناك، كما ترى، باب أو حتى ثغرة فى جدار يمكن أن ينفذ منها القارئ إلى
فهمه، وإلا فما الذى يبقى من النص القرآنى حين يدعى هذا الرجل العجيب أنه
يحتوى على مئات من الألفاظ التى لا يستطيع أحد فهمها ولا حتى الرسول نفسه
الذى أتى به، سواء قلنا إنه أتى به من عند الله أو من عند نفسه؟ طيب (وإن
شاء الله يَطِيب ويَنْهَرِى لقاء ما شغلنى عن عمل شىء مهم بدلا من توضيح
غبائه وهَطَله والتواء عقله ونيته)، طيب إذا كان الأمر كما تقول يا ذكى
(و"ذكى" هنا مستعمَلة على سبيل السخرية، فلا يَغُرَّنّك ظاهر القول!)، فكيف
تم تفسير هذه الألفاظ فيما بعد وفَهِمَ الناس القرآن إذن وفسَّروه ودرسوه
وترجموه: مسلمين وغير مسلمين؟ أم تراك تقول إنهم، حين فسروا هذه الألفاظ،
قد أَعْطَوْها تفسيراتٍ كُلّشِنْكانيّةً؟ وهذه الكلمة الأخيرة لن تفهمها
بطبيعة الحال ما دمت لا تفهم السهل المباشر!
يا أخى القارئ الكريم، هأنتذا ترى كيف يحارب المبشرون قرآن الله المجيد
ويرسلون إلينا الرسائل يحرضوننا على ترك الإسلام والكفر بسيد الرسل
والأنبياء قائلين إننا ينبغى أن نعود ثانية إلى ديانة أجدادنا المصريين
الذين أُكْرِهوا على الإسلام إكراها بالقتل والتعذيب والاضطهاد واغتصاب
النساء! يعنى: يأمروننا بالكفر بعد إذ نحن مسلمون، مرددين هذه المرة كذبة
أخرى بدلا من الكذبة القديمة التى كانت تقول إن المسلمين ليسوا مصريين بل
عرب محتلون، ولما انكشف سخف هذه الفِرْية (التى كان سخفها مكشوفا من
البداية، لكن فهمهم البطىء مثل حاسوبى الذى أكتب عليه الآن قد استغرق وقتا
طويلا ومملا حتى فهمها كما فهمها الآخرون للوهلة الأولى)، لما انكشف سخف
هذه الفرية غيَّروا الأسطوانة كما نسمع وتسمعون، وشرعوا يتهمون العرب بأنهم
أكرهوا أجدادنا على اعتناق الإسلام واغتصبوا نساءهم! يا سيدى، نحن راضون،
وعلى رأى المثل: أنا راض، وأبوها راض، فما دخلك أنت يا قاض؟ ولا أظن أننا
سنترك توحيد محمد النقى إلى غيره، فلينصرف كل منا إلى ما يعتنقه، ولا داعى
للشتم ليل نهار فى رسولنا الكريم والدين القيّم الذى أتى به والقرآن المجيد
الذى نزل عليه، هذا الشتم الذى يدفعنا إلى الرد مضيعين وقتنا بدلا من
إنفاقه فى شىء مهم، ولولا هو ما اهتممنا بالحديث فى هذه الموضوعات، فكل
إنسان حر فى معتقده وعبادته، لكن هناك للأسف أقواما لا يحبون أن يشيع
السلام بين طوائف العباد.
ويشير المؤلف إلى أن فى "الإتقان" لجلال الدين السيوطى فصلاً كاملاً يزيد
على مائة صفحة بعنوان: "فيما وقع فيه بغير لغة العرب" خصَّصه كله لـلكلمات
القرآنية التى تحتاج إلى شرح، كما يؤكد قائلا إن مفردات اللغة العربية
الفصحى وبعض تعبيراتها لم تعد تستعمل الآن بَتَّةً حتى من قِبَل العرب
أنفسهم، فضلا عن أن العربية ذاتها هى من التنوع والتشعب حتى لقد قال
الشافعى عنها إنها لا يحيط بها إلا نبى. ومن ثم فهو يتساءل: ما الفائدة يا
ترى التى يمكن أن يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا الكتاب مصوغا
بلغة صعبة حتى على العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة أن العلماء
المسلمين يصرون على أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة وجه إعجازه
عن طريق الترجمة، ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى، ولا يريد
أحدا من غير العرب أن يقرأ القرآن؟
ويقول الكاتب المسكين (لكن ليس من المساكين الذين هم أحباب الله، فأولئك هم
الأطفال البرءاء، أما هو وأمثاله فليسوا من البراءة ولا البراءة منهم فى
شىء) يقول إن السيوطى قد خصص نحو مائة صفحة لشرح الكلمات الصعبة فى القرآن
بما يعنى أن القرآن صعب الفهم لأنه مكتوب بلغة صعبة. وهذا الكلام من كاتبنا
المسكين (المسكين بالمعنى الذى تعرفون، فلا داعى للتوضيح مرة أخرى) ينسف كل
ما قاله عن وجود مئات الألفاظ فى القرآن غير قابلة للفهم، فهذا هو السيوطى
رضى الله عنه، ولا رضى عن كل كذاب مداور يحاد الله ورسوله ويدعو إلى الكفر،
قد استطاع شرح الكلمات التى كان هذا الكذاب يزعم قبل قليل أنها لا يمكن
فهمها أبدا ولا بالطبل البلدى (أو بالأوركسترا السيمفونى، وذلك حسب موقعك
من خريطة التذوق الموسيقى: فإن كنت مثل حالاتى وحالات يوسف السباعى ومن لفّ
لفّنا فتوكل على الله واختر الطبل البلدى (البلدى يُؤْكَل!)، وأما إن كنت
على شاكلة حسين فوزى وفؤاد زكريا وأمثالهما فسبيلك السيمفونيات). وهذه
واحدة، أما الثانية فلو أن القارئ الكريم كلف نفسه ورجع إلى السيوطى وطالع
تلك الكلمات فلسوف يتبين له فى الحال أن الأغلبية الساحقة منها لا تحتاج
إلى أى شرح، وأن كثيرا من المتبقى بعد هذا إنما يشرحه السيوطى بمعناه
المجازى الذى يظن أنه يحتاج إلى توضيح، مع أن الأمر ليس بمثل هذه الحاجة.
وإليكم البيان بأول ثلاثين لفظا من الألفاظ التى أوردها السيوطى فى قائمته
المذكورة وشَرَحَها:
"يَعْهَمُون: يتمادَوْن. مطهَّرة: من القذر والأذى. الخاشعين:
المصدِّقين بما أنزل الله. وفي ذلكم بلاء: نعمة. فُومها: الحنطة.
إلا أمانيّ: أحاديث. قلوبنا غُلْف: في غطاء. ننسخ: نبدّل.
نُنْسِها: نتركها فلا نبدّلها.مثابة: يثوبون إليه ثم يرجعون.
حنيفًا: حاجًّا. شطره: نحوه. فلا جناح: فلا حرج. خطوات
الشيطان: عمله. أُهِلّ به لغير الله: ذُبِح للطواغيت. ابن
السبيل: الضيف الذي ينزل بالمسلمين. إنْ تَرَك خيرا: مالاً.
جَنَفًا: إثمًا.حدود الله: طاعة الله. لا تكون فتنة: شِرْك.
فَرَضَ: حرَّم. قُلِ العفو: ما لا يتبين في أموالكم.
لأَعْنَتَكم: لأَحْرَجَكم وضيَّق عليكم. ما لم تمسّوهن أو تفرضوا:
المس: الجماع. والفريضة: الصَّدَاق. سكينة: رحمة. يئوده:
يثقل عليه. صَفْوان: حجر. صَلْد: ليس عليه شيء. متوفّيك:
مميتك". هذا، وأحب أن أضبف شيئا، ألا وهو أننا لو قرأنا هذه الكلمات فى
سياقها من الآيات الكريمة ما احتجنا فى فهمها إلى أى شرح تقريبا، وهذا هو
الفهم الذى يحتاجه كل إنسان، أما لو كان قصدنا التعمق فى التفسير والتحليق
فى آفاق النص العليا التى لا تهم إلا المتخصصين ومن يلوذون بهم فهذا شىء
آخر. وللعلم فإن المعجم القرآنى ليس كبيرا كما قد يظن بعض الناس، فمعنى
وجود مئات الألفاظ فيه غير قابلة للفهم أنه لا فائدة فى القرآن الكريم ولا
أمل من ورائه فى الهداية أو التعليم، فكيف يا ترى تطوّر المسلمون كل هذا
التطور وكانت لهم حضارتهم وثقافتهم وعقيدتهم وتشريعاتهم التى تختلف اختلافا
كبيرا عما فى أيدى الآخرين حتى من الذين يقولون إنهم يؤمنون بعيسى وموسى
عليهما السلام؟ وكيف يا ترى نفسر وجود هذه الطوائف المتتالية على مدى
القرون من المفسرين ومعربى القرآن ومستخلصى العقائد الإيمانية والقواعد
الفقهية والنظم الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية منه؟
أكل هؤلاء مجانين أو على الأقل مضللون، وأنت وحدك الذى تفهم الفُولة
وقشرتها؟ ما أصدق فمك الطاهر الشريف يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم، حين
قلت: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما
شئت!".
وإضافة إلى هذا فإن تخطئة الكاتب الكذاب للقرآن الكريم تدل على أنه، وهو
الأعجمى، يفهم القرآن، على الأقل فى نظر نفسه (إلهى يَنْطَسّ فى نظره!
قولوا: آمين!)، فما بالنا بالعرب، بل بالصحابة، بل بالرسول، الذى جُنَّ
الرجل الباذنجان هذا وزعم أنه عليه السلام لم يكن يفهم القرآن؟ طيب لماذا؟
ألا يدل هذا يا كذاب يا قرارىّ أن القرآن قد جاءه من خارج نفسه ولم يؤلفه
هو؟ أليس هذا هو مقتضى هذه الكذبة البلقاء التى كَذَبْتَها وانقلبتْ عليك
شأن كل من يقف فى طريق القرآن كما انقلبتْ منذ غير بعيد على ملفقى "الفرقان
الحق" حسبما بينتُ من خلال الكتاب الذى رددتُ فيه عليهم وفضحتهم وهتكت ستره
وسترهم، هذا الكتاب الذى سرقه "أبو عبد الرحمن" منى حرفيا (شُفِ الوقار
الذى فى اسم "أبو عبد الرحمن"، وليس شىء منه فى اسم العبد لله، مع أن هذا
السارق لا يزال فى طور الشباب، وليس رجلا كبيرا مثلى! لكن ماذا نقول فى
عُدّة الشغل ومستلزماته؟)، وبعد أن سرقه منى غنيمةً باردةً زعم فضيلته أنه
قد واصل الأيام والليالى فى تأليفه خدمةً لكتاب الله ودفاعًا عن دينه (يا
ليتها ما زَنَتْ ولا تصدَّقَتْ!)، ولم ينس توجيه الشكر لــ"أم عبد الرحمن"
على ما بذلته معه من جهد وما شجعته به أثناء... أثناء ماذا؟ أثناء سطوه
طبعا على كلامى وفكرى. الواقع أنها حاجة تكسف وتبعث على الاشمئزاز! لكن ما
علينا من هذا الآن، وتَعَاَلْوا إلى ما كنا بصدده! ألا إن موعدنا الصبح،
وليس الصبح ببعيد!
وجوابا على سؤال المبشِّر الذى يقول فيه: "ما الفائدة يا ترى التى يمكن أن
يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا الكتاب مصوغا بلغة صعبة حتى على
العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة أن العلماء المسلمين يصرون على
أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة وجه إعجازه عن طريق الترجمة،
ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى، ولا يريد أحدا من غير العرب أن
يقرأ القرآن؟"، جوابا على هذا نقول إنه إذا كان هناك من علماء المسلمين من
لا يجوِّز الترجمة فهناك فى الوقت نفسه من لا يجد بأسا، بل يرى الفائدة كل
الفائدة، فى الترجمة، على أن يُفْهَم من الترجمة أنها ليست قرآنا بل مجرد
محاولة لنقل معانيه إلى اللغات الأخرى. وهو موقف مستنير جدا، سواء فى
تجويزه الترجمة أو نظرته إلى عملية الترجمة ذاتها على أنها ليست هى الأصل
نفسه، بل مجرد محاولة لنقل المعانى التى يحتوى عليها هذا النص من لغة إلى
أخرى لا غير. وبالمناسبة فهذا الكلام ليس خاصا بالقرآن وحده، يل يصدق على
ترجمة أى نص، وبالذات النصوص الأدبية، وإن ظل للقرآن مع ذلك وضعه الخاص من
حيث إعجازه وكثافة عبارته وأسلوبه الفذ الفريد وطبيعة كثير من موضوعاته
التى تتجاوز نطاق الخبرة البشرية مما يتعلق بعالم الغيب وما أشبه. وعلى كل
حال فالله سبحانه وتعالى لم يَنْهَ عن ترجمة كتابه، بل هو مجرد رأى لبعض
العلماء يأخذ به من يأخذ، ويَدَعُه من يَدَع. وعلى كل حال مرة ثانية فهذا
هى ذى الترجمات القرآنية بجميع لغات العالم تقريبا تملأ المكتبات، فلا داعى
لكل هذه الضجة التى يزعج بها الكاتب آذاننا جهلاً منه وتساخفًا.
ومما انتقده المؤلف على القرآن أنه استخدم بعض الكلمات فى عكس معناها جريا
على سنة العرب فيما يعرف فى لغتهم بــ"ألفاظ الأضداد"، إذ نراه يستخدم مثلا
كلمة "بعد" بمعنى "قبل"، مربكا القارئ بهذه الطريقة الغريبة فى استعمال
الكلمات فى عكس ما عُرِف لها من معنى. وهو هنا يستشهد بالسيوطى، الذى ينقل
عن ابن خالويه أن "بعد" قد استعملت فى القرآن بمعنى "قبل" فى موضعين أحدهما
قوله تعالى: "ولقد كتبنا فى الزَّبور من بعد الذِّكْر أن الأرض يرثها
عِبَادِىَ الصالحون""، مع أن تفسير الآية لا يحوج إلى كل هذا التكلف الذى
لجأ إليه ابن خالويه ظنا منه، فيما أتصور، أن "الذِّكْر" هنا هو القرآن
الكريم، وما دام الزبور قد جاء قبل القرآن فــ"بعد" إذن فى الآية تعنى:
"قبل". لكن الحقيقة تقتضى أن نقول إن الآية لا تحوج كما قلنا إلى هذا
التفسير المعكوس، إذ المعنى فيها أن الله سبحانه وتعالى، بعد أن ذكَّر
الناس فى الزبور بالإيمان به سبحانه وبوجوب التمسك بالهدى والصلاح، قد كتب
فى الزَّبور نفسه أيضا أن الأرض يرثها عباده الصالحون. وقد رجعتُ بعد هذا
إلى "تفسير التحرير والتنوير" للشيخ الطاهر بن عاشور فوجدته يقول نفس ما
قلت، وإن كان قد أضاف أن هناك من يقول إن "الذكر" المراد هنا هو "التوراة"،
وهى قد نزلت قبل الزبور، ومن ثم فلا تضاد ولا يحزنون. أى أن المسألة هى
مجرد اجتهاد من السيوطى وابن خالويه، اجتهاد مشكور بلا ريب، وإن كنا لا
نشاطرهما نتيجته. وهذا نص ما كتبه ابن عاشور: "ومعنى "مِنْ بَعْد الذِّكْر"
أن ذلك الوعد ورد في الزَّبُور عقب تذكيرٍ ووعظٍ للأمة. فبعد أن أُلْقِيَتْ
إليهم الأوامر وُعِدُوا بميراث الأرض. وقيل: المراد بــ"الذكر" كتاب
الشريعة، وهو التوراة". كذلك فقوله تعالى فى الآية 30 من سورة "النازعات":
"والأرضَ بعد ذلك دَحَاها" معناه: "فوق ذلك، فضلا عن ذلك، إلى جانب هذا"،
وهو مثل قوله سبحانه "فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟" (الجاثية/ 6)،
"فإن الله هو مولاه (أى مولى رسول الله) وجبريل وصالح المؤمنين. والملائكة
بعد ذلك ظهير" (التحريم/ 4)، "ولا تُطِعْ كلَّ حلاّفٍ مَهِين* همّازٍ
مشّاءٍ بنَمِيم* منّاعٍ للخير معتدٍ أثيم* عُتُلِّ بعد ذلك زَنِيم" (القلم/
10- 13). وإذن فلا مشكلة هنا أيضا تستدعى كل هذا التصايح المضحك!
ونأتى إلى كلمة "ييأس"، التى يظن الرجل أنها لا تعنى فى العربية إلا شيئا
واحدا، مع أن تعدد معانى اللفظ الواحد هو ظاهرة معروفة فى كل اللغات، بل هو
من البدائه والمسلَّمات. لنأخذ مثلا كلمة "ضَرَب" ولننظر إلى معانيها
المختلفة فى الاستعمالات التالية: "ضرب فلان فلانا على وجهه، وضرب الطبّاخ
البيض فى الخلاط، وضرب موسى لقومه طريقا فى البحر، وضرب الله عليهم الذلة
والمسكنة، وضربنا حول الأعداء نطاقا أو حصارا، وضربهم الله بالطاعون،
وضربهم الزلزال، وضربت الدولةُ العُمْلَةَ الجديدة، وضربتُ عن هذا الأمر
صفحا، وضرب الثور البقرة، وضرب عليهم الجزية، وضرب لهم موعدا، وضربه
مَقْلَبا، وضرب الأستاذ لنا مثلا، وضربت شادية خمسة فى ستة بثلاثين يوما،
وضربت هدى سلطان لحبيبها الودع"، وبالمناسبة فأنا أكرّ هذا من ذاكرتى، وإلا
ففى المعجم معانٍ أخرى لهذا الفعل. فهل إذا استخدم أحدنا الفعل "ضرب" فى أى
معنى غير الضرب الذى نعرفه يكون قد أخطأ كما يريد منا المبشِّر الأحمق أن
نعتقد؟ ضربك الله على قلبك يا بعيد! وعلى هذا فما وجه الغرابة فى أن يكون
للفعل: "ييأس" أكثر من معنى؟ لقد كان من العرب من يستخدمه فى معنى "الكف عن
الأمل"، وكان هناك من يستخدمه فى معنى "العِلْم"، فأين المشكلة إذن؟
وبالمناسبة فمؤلفو العهد القديم كثيرا ما يستعملون الفعل: "عرف" بمعنى
"جامَعَ"، والمسافة بين الأمرين أبعد من المسافة بين "يئس" و"عَلِم" كما
يرى القارئ. وهذه بعض الأمثلة على ما نقول: "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت
وولدت قايين" (تكوين/ 4/ 1)، "وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت حنوك" (4/
17)، "وعرف آدم امرأته أيضا فولدت ابنا ودَعَتِ اسمه شيثا" (4 /25)،
"فنادَوْا لوطا وقالوا له :أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟
أَخْرِجْهما إلينا لنعرفهما" (19/ 5)، "وكانت الفتاة حسنة المنظر جدا،
وعذراء لم يعرفها رجل" (24/ 16)، "وفيما هم يطيِّبون قلوبهم إذا برجال
المدينة، رجال بني بليعال، أحاطوا
بالبيت قارعين الباب وكلموا الرجل صاحب البيت الشيخ قائلين: أخرج الرجل
الذي دخل بيتك فنعرفه*...* فلم يُرِدِ الرجالُ أن يسمعوا له. فأمسك الرجل
سُرِّيَّته وأخرجها إليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح.
وعند طلوع الفجر
أطلقوها" (قضاة/ 19/ 22، 25)، "وشاخ الملك داود (يقصدون النبى داود، عليهم
لعنات الله والملائكة والناس والجن أجمعين)، تقدم في الايام. وكانوا
يدثِّرونه بالثياب فلم يدفأ* فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة
عذراء، فلْتقف أمام الملك، ولْتكن له حاضنة، ولْتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا
الملك* ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل، فوجدوا أبيشج الشونمية
فجاءوا بها إلى الملك* وكانت الفتاة جميلة جدا فكانت حاضنة الملك. وكانت
تخدمه، ولكن الملك لم يعرفها" (الملوك الأول/ 1/ 1- 4). فما رأى سخيفنا
الثقيل الظل، الوخيم النفس، الكليل الذهن، البليد العقل، الغليظ الإحساس؟
ونستطيع أن نَسُوق، على تعدد المعانى لِلَّفْظ الواحد، مثالا من كل من
اللغة الإنجليزية والفرنسية حتى يخرس هذا الجاهل: فعندنا فى الإنجليزية
مثلا كلمة "bull" التى تعنى، كما هو معروف، "ثورا"، لكنها تعنى أيضا
"مرسوما بابويا" و"مُضاربا فى البورصة" و"قَلْب الهدف (الذى نصوّب
عليه)"...إلخ، أما من الفرنسية فسنأخذ الفعل"manger"، الذى يدل، إلى جانب
معناه المعروف، على المعانى المختلفة التالية: "manger toute sa fortune,
manger beaucoup d argent dans cette affaire, manger la consigne, manger
le chemin, manger de la vache enragee, manger du cure, manger de la
prison, manger de baisers"، وترجمته على الترتيب: "بدد كل ثروته، خسر
كثيرا من المال فى هذه القضية، نسى المهمة المكلف بها، ينهب الأرض نهبا،
عانى شظف العيش، يعادى الأكليروس (بينى وبينكم له كل الحق، إن لم يكن من
أجل شىء فمن أجل هذا المبشر السخيف!)، قضى وقتا طويلا فى السجن، غَطَّا(ه)
بالقبلات".
والآن أحسب أن القارئ الذى كان خالى الذهن من هذه المعلومات (وهو القارئ
الذى يضع هؤلاء المبشرون أعينهم عليه لأن من السهل على من كان خالى الذهن
أن يسرع إلى الاقتناع بما يبدو للعين المتعجلة أنه صواب)، هذا القارئ أحسب
أنه قد أصبح الآن مهيَّئًا لِكَشْف الدجل الذى كان المبشر الخبيث يريد أن
يمارسه عليه وتَفَهُّم ما تقوله لنا المعاجم والأشعار من أنه لا شىء فى
استعمال كلمة "يأْس" بمعنى "العِلْم"، ولا حتى بمعنى "السّلّ"، وهذا المعنى
الأخير هو شىء جديد نضيفه بالمرة كى يتيقن القراء أن اللغة أوسع من أن يفتى
فيها هذا الجاهل الذى لم يكتف بما أنعم الله به عليه من جهل، بل أضاف إليه
الخبث والكيد الوضيع. ومن شواهد استعمال "اليأس" فى معنى "العلم" قول
سُحَيْم بنُ وَثِيلٍ اليَرْبُوعِيُّ الرَّياحِيُّ:
أَقُولُ لَهُمْ بالشَّعْب إِذْ يَيْسِرُونَنِي: * * * أَلَمْ تَيْأَسُوا
أَنِّي ابنُ فارِسِ زَهْدَمِ؟
أى "ألم تعلموا...؟"، وكذلك قول مالك بن عوف:
لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه * * * وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
أما استعمالها فى معنى "السّلّ" فمنه قول أبى العَاصِيَةِ السُّلَمِىّ:
فَلَوْ أَنَّ داءَ اليَاسِ بِي فأَعَانَنِي * * * طَبِيبٌ بأَرْوَاجِ
العَقِيقِ شَفانِيَا
وفى "أساس البلاغة" أن استعمال "اليأس" بمعنى العلم هو استعمال مجازى، وأن
دلالة قولنا مثلا: "قد يَئِسْتُ أَنّكَ رَجُلُ صِدْقٍ" على معنى "العِلْم"
سببه أَنَّ الطَّمَع يصاحبه القَلَقَ، ومع انْقِطَاع القلق يكون السُّكُون
والطُّمَأْنِينَة كَمَا هو الحال مَعَ العِلْم، ولِذلك قِيلَ: اليَأْسُ
إِحْدَى الرّاحَتَيْنِ.
أما بالنسبة لاعتراض متفيهقنا على مجىء كلمة "نجْم"، فى القرآن بمعنى
"النبات الذى لا ساق به" فنسوق فى تفنيده وفضحه بعض ما جاء فى "لسان العرب"
حول هذه الكلمة مع بعض التصرف: "نَجَمَ الشيءُ يَنْجُم نُجوماً: طَلَعَ
وظهر. ونَجَمَ النباتُ والنابُ والقَرْنُ والكوكبُ وغيرُ ذلك: طلَعَ. قال
الله تعالى: "والنَّجْمُ والشجرُ يَسْجُدان"ِ. وفي الحديث: "هذا إِبَّانُ
نُجومِه"، أَي وقتُ ظهورِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. يقال: نَجَم النبتُ
يَنْجُم، إذا طلع. وكلُّ ما طلع وظهر فقد نَجَم. وقد خُصَّ بالنَّجْم منه
ما لا يقوم على ساقٍ، كما خُصَّ القائمُ على الساق منه بالشجر. وفي حديث
حُذَيفة: "سِراجٌ من النارِ يَظْهَرُ في أَكتافِهم حتى يَنْجُم في
صُدورِهم". والنَّجْمُ من النباتِ: كلُّ ما نبتَ على وجه الأَرض ونَجَمَ
على غيرِ ساقٍ وتسطَّح فلم يَنْهَض، والشجرُ كلُّ ما له ساقٌ. ومعنى
سُجودِهما دَوَرانُ الظلِّ معهما. قال أَبو إِسحق: جائز أَن يكون النَّجْمُ
ههنا ما نبت على وجه الأَرض وما طلع من نُجومِ السماء. والنُّجومُ: ما
نَجَمَ من العروق أَيامَ الربيع، ترى رؤوسها أَمثالَ المَسالِّ تَشُقُّ
الأَرضَ شقًّا. ابن الأَعرابي: النَّجْمةُ: شجرةٌ، والنَّجْمةُ: الكَلِمةُ،
والنَّجْمةُ: نَبْتةٌ صغيرة، وجمعها "نَجْمٌ"، فما كان له ساقٌ فهو شجر،
وما لم يكن له ساقٌ فهو نَجْمٌ. وللحرث بن ظالم المُرّيّ يهجو النعمان:
أَخُصْيَيْ حِمارٍ ظَلَّ يَكْدِمُ نَجْمةً؟ * * * أَتُؤْكَلُ جاراتي،
وجارُك سالمْ؟
والنَّجْمُ هنا: نَبْتٌ بعينه، واحدُه: "نَجْمةٌ"، وهو الثَّيِّلُ. وقال
أَبو نصر: الثَّيِّلُ الذي ينبت على شُطُوطِ الأَنهارِ، وجمعه: "نَجْمٌ"؛
ومثلُ البيت في كون "النَّجْم" فيه هو الثَّيِّل قولُ زهير:
مُكَلَّلٌ بأُصولِ النَّجْمِ تَنسجُه * * * ريحُ خَرِيقٌ، لِضاحي مائة
حُبُكُ
وجاء في التفسير أَيضاً أَن النجم: نُزول القرآن نَجْمًا بعد نَجْمٍ، وكان
تَنزل منه الآيةُ والآيتان. وقال أَهل اللغة: "النجمُ" بمعنى النُّجوم،
و"النُّجوم" تَجْمع الكواكب كلها".
والملاحظ أن كلمة "النجم" فى سورة "الرحمن" قد أتت بعد ذكر "الشمس والقمر"
من ناحية، وقبل "الشجر" من الناحية الأخرى. وعلى هذا فلكل فريق من الفريقين
وجهة نظره: فمن فسَّرها بالجِرْم السماوى فقد ألحقها بالشمس والقمر
قُبَيْلَها، ومن فسَّرها بالنبات فقد ألحقها بالشجر عَقِبها. ومن ثم فلا
داعى لتخطئة أى من التفسيرين اللذين أرى أن الأحجى هو الأخذ بهما معا،
بمعنى أن النجم الذى فى السماء وكذلك النجم الذى فى الأرض كليهما يسجدان
لله تعالى مع الشجر. وأظن بعد هذا أن الأمر قد اتضح اتضاحا تاما بما يسد
المسالك على هذا المبشر الجهول الذى يريد من القرآن الكريم أن ينزل من
عليائه على مقتضى جهله وعِيّه وفساد ذوقه اللغوى والبلاغى!
والآن إلى كلمة "لا" فى قوله تعالى: "فلا أُقْسِم بمواقع النجوم" وأشباهها،
التى يرى الكاتب أن النص القرآنى فيها مربك، إذ يستخدمها وهو يريد الإثبات
مع أنها للنفى. والعلماء يقولون إن "لا" هنا وفى قوله عز ّشأنه عن
المشركين: "وما يُشْعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟"، وقوله تعالى لإبليس
حين رفض السجود لآدم: "ما مَنَعك ألاّ تسجد إذ أَمَرْتُك؟"، وقوله عز من
قائل على لسان موسى يعاتب هارون على أنه لم يتبعه حين عبد بنو إسرائيل
العجل أثناء غيابه للقاء ربه: "مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ألاّ
تَتَّبِعَنِي؟"، وقوله سبحانه: "وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ"، وقوله جلَّتْ قدرته: "يا أيها الذين آمنوا،
اتَّقُوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كِفْلَيْن من رحمته ويجعل لكم نورا
تمشون به. والله غفور رحيم* لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شىء من
فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم"، هى
للتوكيد لا للنفى، ومن ثم فلا مشكلة. وقد تحقق التوكيد من أن المعنى المضمر
فى قوله تعالى مثلا: "ما منََعَك ألاّ تسجد إذ أَمَرْتُك؟" هو: "ما منعك من
السجود وجعلك لا تسجد؟" أو "ما منعك من السجود وقال لك: لا تسجد...؟"، أما
فى قوله عز ّشأنه: "وما يُشْعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟" فالمعنى هو:
"وما يُشْعِركم (أيها المؤمنون) أنها (أى الآيات التى كان المشركون
يطلبونها من النبى) إذا جاءت سوف يؤمنون فعلا كما يقولون؟ بل الواقع أنهم
لايؤمنون"، فكأنه كرَّر المعنى بطريقتين مختلفتين. وبطبيعة الحال لا يمكن
أن يكون كل ذلك خطأً ثم لا يلفت نظر أحد من المشركين، وهم الذين كانوا
يتربصون بالدعوة وصاحبها الدوائر، إذ ليس من المعقول أن يفلتوا مثل هذه
الفرصة التى أتتهم لحدّ بيوتهم دون سعى منهم أو تعب. ومن شعرٍ منسوبٍ إلى
آمنة أم الرسول نقرأ هذا البيت:
فَاللَّه ينهاكَ عن الأصنامِ * * * أن لا تُوَاليها مع الأقوامِ
ومثله قول حاتم الطائى:
أَلا أَرِقَت عَيني فَبِتُّ أُديرُها * * * حِذارَ غَدٍ أَحْجَى بِأَن لا
يَضيرُها
ثم هذا البيت الذى أورده ابن منظور فى "لسان العرب":
وتَلْحَيْنَنِي في اللهو أن لا أحبّه * * * ولِلّهْوِ داعٍ دائِبٌ غير
غافلِ
و هذا البيت الذى جاء فى "محيط المحيط":
وآلَيْتُ آسَى على هالِكٍ *** وأَسْأَلُ نائحةً: ما لَها؟
أى حلفت إننى لن آسى على أى شخص يموت. وكذلك هذان البيت الذى وجدته فى
"إعراب القرآن" للحلبى:
أفَعَنْك لا بَرْقٌ كأن وميضَه * * * غابٌ تسنَّمه ضِرامٌ مُثْقَبُ؟
ولعلنا لا نخرج عن موضوعنا إذا أوردنا بيت جميل بن معمر الذى يقول فيه:
لا لا أبوح بحبِّ بَثْنَةَ، إنها * * * أخذتْ عَلَىَّ مواثقًا وعُهُودا
فهو فى الوقت الذى يؤكد فيه أن لن يبوح بحبه لبثينة نراه يرفع صوته فاضحًا
هذه العاطفة. أى أنه يقول إنه لن يبوح، لكنه يبوح، وبَوْحُه إنما يتم عن
طريق الكلام نفسه الذى يؤكد به عدم البَوْح. وعلى الناحية الأخرى نجد العرب
يحذفون "لا" فى الوقت الذى يريدون فيه النفى كما هو الحال فى قوله تعالى:
"قالوا: تاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُر يوسفَ حتى تكون حَرَضًا أو تكون من
الهالكين" (أى "لا تفتأ")، "يبيّن الله لكم أن تَضِلّوا" (أى "لئلا
تضلوا")، " إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السمواتِ والأَرضَ أَنْ تَزُولا " (أى
"لئلا تزولا"). ومعروف أن الكلمة الواحدة قد يكون لها معانٍ متعددة،
وأحيانا متباعدة بل متناقضة، وهذه طبيعة اللغة، والسياق هو الذى يحدد
المعنى المراد. وفى الفرنسية مثلا يستخدمون فى الجُمَل الشَّكِّيّة
المُثْبَتة حرف النفى مع أن لا نفى هناك كما نعرف. وأكتفى بهذا، وفيما
قلناه غُنْيَة عما لم نَقُلْه، إذ يستطيع القارئ بما طالعه هنا أن يقيس
عليه ما لم نتناوله من السخف الساخف الذى يمطرنا به ذلك الجهول الخبيث!
ويعترض هذا الجهول على أن فى بعض المواضع من القرآن حذفا، ولا أدرى ما وجه
العيب فى هذا، إذ هناك بلاغة الصمت والحذف مثلما أن هناك بلاغة الكلام
والذِّكْر. وليست هناك لغة واحدة على وجه الأرض تخلو من الحذف، والحذف
الكثير، أما القول بغير هذا فهو جهل وغباء مطبق أو كَيْد رخيص يراد به
الضحك على ذقون الأغرار من المسلمين الذين يكتب لهم هؤلاء المبشرون ومن
يشايعهم على غاياتهم مستهدفين خَتْلهم عن دينهم وخَلْعهم منه بهذه الطرق
الخبيثة لمن لا يعرفها، والساذجة لمن يعرف كيف يتعامل معها ومع أصحابها!
وليس من المعقول أن يكون الأسلوب كله فى جميع الفنون والكتابات وعند جميع
المؤلفين ماء واحدا لا يتغير أبدا. إن هذا مناقض للطبيعة البشرية تمام
المناقضة، تلك الطبيعة التى خلقها الله بحيث تضيق بالوتيرة الواحدة إذا
طالت، وتشعر من جرائها بالملل الخانق. وفضلا عن هذا فإن الحرص على أن تكون
كل الجمل تامة فيه اتهام للقارئ بأنه لا يزال قاصرا لا يعرف كيف يُكْمِل
الكلام. ثم إن فى الإيجاز بالحذف وغيره مندوحة لإظهار البراعة الفنية
والتفاوت من ثم بين كاتب وكاتب. فكيف يريدنا هذا الرجل أن نفرّط فى كل هذا
كى نرضى شهوته الأثيمة الجاهلة فى الزراية على القرآن؟
وفى معلقة امرئ القيس مثلا يقابلنا هذا البيت الذى يقول فيه عن لقائه
بحبيبته:
فلما أَجَزْنا ساحةَ الحىِّ وانتحى * * * بنا بطنُ خَبْتٍ ذى حِقافٍ
عَقَنْقَلِ
والذى انتهى دون أن يذكر جواب "لَمَّا"، وبهذا استطاع الشاعر أن يثير خيال
السامع لينطلق فيتصور على هواه كل ما يمكن أن يكون قد وقع بينه وبين
حبيبته! وفى الكتاب المقدس عند صاحبنا نقرأ مثلا: "وندم بنو إسرائيل على
بنيامين إخوتهم" (قضاة/ 21/ 6)، و"بنيامين" (المبدل منه) فرد، والبدل
"إخوتهم" جمع، فهل نملأ الدنيا صراخا وعويلا بأن هذا خطأ كما فعل جاهلنا
حين أخذ يلطم خدوده التى سيسليها الله فى قعر الجحيم لأن القرآن قال:
"فإنها من تَقْوَى القلوب" (الحج/ 32)، ولم يقل: "فإن تعظيمها (أى تعظيم
شعائر الحج) من أفعال ذوي تقوى القلوب"! أرأيتم أيها القراء الكرام سخفا
وتنطعا وتفيهقا كهذا السخف والتنطع والتفيهق التبشيرى الذى بلانا الله به
على أيدى هذا الأحمق؟ من يا ترى ممن أنعم الله بنعمة الذوق يمكن أن يقول
إننا ينبغى أن نترك الأولى ونركن للثانية؟ ألا شاهت الوجوه والعقول
والأذواق جميعا! إن من السهل إدراك أن معنى عبارة الكتاب المقدس هو: "وندم
بنو إسرائيل على بنى بنيامين". هكذا ببساطة ودون تساخف!
ومن الحذف أيضا فى كتاب صاحبنا المقدس: "ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي
ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ* وَنَفْسِي
قَدِ ارْتَاعَتْ جِدّاً. وَأَنْتَ يَا رَبُّ فَحَتَّى مَتَى؟" (مزامير/ 6/
2- 3)، إذ أين بقية الكلام فى "حتى متى؟"؟ ومنه أيضا النص التالى: "الرجل
اللئيم، الرجل الأثيم، يسعى باعوجاج الفم* يغمز بعينيه. يقول برجله. يشير
بأصابعه" (أمثال/ 6/ 12- 13)، لأن السؤال هو: ما معنى "يسعى باعوجاج الفم.
يغمز بعينيه. يقول برجله. يشير بأصابعه"؟ ليس فى الكلام جواب عن هذا، ومع
ذلك فإن السياق يشير إلى المحذوف، ويجد الذهن فى ذات الوقت لذة فى التوصل
إلى ما غاب عن النص. أما ما يريده المبشر الجاهل فإنه قد يصلح فى الكُتّاب
مع الأطفال الذين بدأوا لتوّهم عملية التعلم، فهم محتاجون إلى أن نوضح لهم
كل شىء، وإلا ضلّوا.
أما قوله عز من قائل: "فلا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم. إنما يريد الله
ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتَزْهَق أنفسهم وهم كافرون" فليس فيه تقديم
وتأخير كما ظن السيوطى، وانتهزها صاحبنا فرصةً فأخذ يشنع على القرآن. لقد
نزلت الآية فى ابن سَلُول رأس النفاق والضلال على عهد الرسول، وكان ذا مال
وولد ورئاسة فى قومه، لكن الله سبحانه لم يكتب له الهداية فتحوَّل كل ذلك
شقاء وتعاسة له، إذ كان ابنه المسلم المخلص يعاديه ويكرهه لنفاقه ومؤامراته
على الرسول والمسلمين، بل لقد بلغت كراهيته له أنْ عرض على الرسول عليه
السلام أن يقتله لو أراد حتى يريح المسلمين والإسلام من شره، لكن الرسول
أمره ببرّه وأعلن أنه سوف يتحمله إلى آخر المدى. كذلك كان على هذا المنافق
أن يدفع الزكاة وأن يشارك فى نفقات الغزو بوصفه فى ظاهر الأمر من المسلمين،
رغم عدم إيمانه بشىء من ذلك ولا بأن الله مكافئه عليه. أى أن المال والولد
قد صارا عذابا له فى الدنيا. ثم إنه مات كافرا بنفاقه الذى أرداه جهنم،
وبئس المصير! وهكذا يرى القراء الكرام أنه ليس فى الآية أية مشكلة على
الإطلاق!
وبالنسبة لقوله تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ أفأنت تكون عليه وكيلا؟"
فلا أدرى فى الحقيقة أين وجه الاعتراض على التركيب فيه، إذ ليست هناك أية
صعوبة فى فهمه سواء قلنا إن كلمة "إلهه" هى المفعول الأول أو هى المفعول
الثانى. كما أن الرَّذْل لم يوضح لنا وجه اعتراضه سوى أن فيه تقديما
وتأخيرا؟ ترى أفيه صعوبة فى الفهم؟ أبدا. ترى أفيه هلهلة أو ركاكة فى
التركيب؟ ولا هذه. إذن ماذا؟ لا أدرى كما قلت، ولا أظن إلا أنه أراد أن
يثير عَجَاجًا سخيفًا فارغًا مثل عقله الفاضى السخيف! وهذا لو كان فيها
فعلا تقديم وتأخير، إذ من الممكن أن يكون المعنى أن ذلك الكافر قد جعل هواه
إلها له، أو نزل بمفهوم الإله من عليائه التى تليق بجلاله سبحانه إلى أن
جعله تابعا لهواه، خالعًا بذلك تصوراته التافهة على مفهوم الألوهية العظيم.
وأخيرا أرى من المفيد أن أسوق ما فسَّر به الإمام الطبرى الجليل هذه الآية
حتى يتضح ما أقول تمام الاتضاح: "الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:
"أَرَأَيْت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهه هَوَاهُ؟ أَفَأَنْت تَكُون عَلَيْهِ
وَكِيلا؟" يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره: "أَرَأَيْت" يَا مُحَمَّد "مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهه" شَهْوَته الَّتِي يَهْوَاهَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل
مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَعْبُد الْحَجَر، فَإِذَا رَأَى أَحْسَن مِنْهُ
رَمَى بِهِ، وَأَخَذَ الآخَر يَعْبُدهُ، فَكَانَ مَعْبُوده وَإِلَهه مَا
يَتَخَيَّرهُ لِنَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "أَرَأَيْت
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهه هَوَاهُ؟ أَفَأَنْت تَكُون عَلَيْهِ وَكِيلا؟".
يَقُول تَعَالَى ذِكْره: أَفَأَنْت تَكُون يَا مُحَمَّد عَلَى هَذَا
حَفِيظًا فِي أَفْعَاله مَعَ عَظِيم جَهْله؟".
ونأـى إلى قوله جل شأنه: "إن هذان لَساحران"، الذى كان ينبغى بناءً على ما
يقول أن يجىء على النحو التالى: "إنّ هذين لَسَاحران" (طه/ 63) بنَصْب كلمة
"هذين" بوصفها اسم "إن" على ما يعرفه أى طالب ثانوى عنده إلمام بأساسيات
القواعد العربية، أما أن تجىء فى القرآن مرفوعة فهو "خطأٌ بالثُّلُث:
completely wrong" كما يقول. وتعليقًا على كلام المبشر الجهول نقول إنه لم
يبين طريقة النطق لكلمة "إن" التى كان ينبغى فى رأيه أن يأتى اسم الإشارة
بعدها منصوبا: هل هى "إنْ" بسكون النون كما جاءت فى إحدى القراءات؟ أم هل
هى "إنّ" بتشديد النون كما جاءت فى قراءة أخرى؟ لأنها إن كانت بتسكين النون
فلا مشكلة على الإطلاق، لأن هذه هى ما تسمَّى فى النحو بــ"إن المخفَّفة من
الثقيلة"، أى التى أصبحت نونها مسكَّنة بعد أن كانت مشدَّدة، وهى فى هذه
الحالة لا تنصب اسمها بالضرورة، أى أنه لا شىء يستحق أن نقف عنده فيها.
لكنها إذا كانت مشددة النون كان الأمر يحتاج لشىء من التوضيح: التوضيح لا
الدفاع، إذ القرآن أكبر من أن يحتاج منى أو من غيرى إلى أى دفاع، فهو الذى
يفرض القاعدة، وليست القاعدة هى التى تُفْرَض عليه، لا لمجرد أنه من عند
الله، فقد سبق أن قلنا إنه حتى لو كان من عند الرسول فإنه حينئذ يكون هو
الأساس الذى يقاس عليه لا العكس.
أما الكلمة التى نقولها على سبيل التوضيح: التوضيح لمن ليس فى قلوبهم مرض،
بل لمن يبتغون وجه الحق، فهى أن من العرب القدماء من كانوا يُعْرِبون
المثنى بالألف فى كل الأحوال: رفعًا ونصبًا وخفضًا فيقولون: "ضربنى
الزيدان، ورأيتُ الزيدان، ومشيتُ مع الزيدان". ومنه قو ل الشاعر:
تَزَوَّد منّا بين أُذْناه طعنةً * * * دعتْه إلى هابى التراب عقيمِ
بدلا من "بين أذنيه". ومنه أيضا البيت التالى:
أعرفُ منها الجِيدَ والعَيْنَانا * * * ومَنْخِران أَشْبَها ظَبْيانا
بدلا من "العينين" و"مَنْخِرَيْن". وقد يكون فى الآية قَطْعٌ لــ"إنّ" عن
اسمها وخبرها فبقيا مرفوعين، أو كأن ضمير شأن قد توسط بينها وبينهما
تقديرًا فمنعهما من التأثر بها. ومع ذلك فقد وردت "هذان" فى قراءة ثالثة
منصوبةً بالياء جريا على الإعراب المشهور. أقول: "المشهور" لا الصحيح،
فكلاهما (كما هو واضح من كلامى) إعرابٌ سليم. ومجيئها فى هذه القراءة
الأخيرة بالياء يدلّ على أن المسألة ليست أبدا خطأ فى الإعراب كما فَهقََت
اسْتُ مبشِّرنا الرقيع، عليه وعليها لعنات الخلق أجمعين، بل مسألة تنوع فى
القراءات. وكلها صحيحة، لا لأننا نراها كذلك، بل لأنها هى بطبيعتها كذلك
رغم أنوف المبشرين الجهلاء، وإلا فهل يتأثر قانون الجاذبية مثلا بما قد
يتقوَّله عليه بعضُ الجاهلين فيتوقف عمله بناء على هذا؟ كلا، بل يبقى هذا
القانون كما هو مهما كان موقف الجهلة منه أو رأيهم فيه!
كذلك يعيب صاحبنا القرآن زاعمًا أن هناك كثيرا من التكرار المملّ فى مثل
قوله جلّ من قائل: "فبأى آلاء ربكما تكذِّبان؟"، الذى تكرر فى سورة
"الرحمن" إحدى وثلاثين مرة رغم أن آيات السورة كلها، كما يقول، لا تتجاوز
ثمانى وسبعين آية، وكذلك قصص الأنبياء التى تكرر كل منها فى عدة سور.
والعجيب أن يقول مبشرنا ذلك، وهو الذى يقوم دينه على عدة أناجيل يتناول كل
منها حياة المسيح عليه السلام وتلاميذه وجهاده فى تبليغ دعوته إلى قومه، مع
شىء من التلوين يين كل إنجيل وآخر! كما أن العهد القديم كثيرا ما يورد
القصة الواحدة أو الموضوع الواحد عدة مرات فى أكثر من موضع منه. ترى كم من
المرات دمدم الله أو دمدم هذا النبى أو ذاك باللعنات على رؤوس بنى إسرائيل
بنفس الكلمات تقريبا أو بكلمات مشابهة؟ وكم من المرات تحدث العهد القديم عن
أسباط بنى إسرائيل بأسماء رؤسائهم وأعدادهم ومساكنهم والطرق التى سلكوها فى
تنقلاتهم...إلخ؟ فالملل الذى يصيب قارئ الجزء الأخير من سفر "الخروج" وكل
أسفار "الأخبار" و"العدد" و"التثنية" وأوائل "الأيام الأول" أمر لا يطاق.
إنه يصل إلى حد الغثيان والدُّوار وانبهار العينين: فمن سلاسل نسبٍ وأسماء
أشخاصٍ ومواقعَ تتتابع وتتداخل ويأخذ بعضها برقاب بعض مع النص فيها على
تفصيلات تفصيلات التفصيلات، إلى حوادثَ يتكرر ذكرها، وعهودٍ يُعَاد
صَوْغها...إلخ حتى تتركك القراءة جثة هامدة. وفى "المزامير" و"الأمثال" يظل
الإنسان يطالع نفس الأفكار والمشاعر مصوغةً بنفس العبارات أو بعبارات
مقاربة على مدى مائة وستين صفحة من الصفحات المزدحمة حتى ليختنق اختناقا.
ثم هناك الأسفار الخاصة بأنبياء بنى إسرائيل التى تكتظ بتقريع هؤلاء
الأنبياء لقومهم الصِّلاب الرقبة وشتمهم لهم ولعنهم إياهم وشماتتهم بهم
وتنبُّئهم بما ينتظرهم من مستقبل أسود مما يستغرق مئات الصفحات.
أما بالنسبة للعبارات والجمل التى تتكرر بنصها، فهل نَسِىَ المبشِّر مثلا
عبارة "فإن إلى الأبد رحمته"، التى تكررت ستًّا وعشرين مرة فى ستٍّ وعشرين
جملة هى مجموع المزمور الخامس والثلاثين بعد المائة، كما تكررت قبل ذلك فى
المزمور السابع عشر بعد المائة فى الآيات الثلاث الأولى والآية الأخيرة.
ومثلها كلمة "سلاه"، التى تكررت كثيرا فى عدد من المزامير تكرارا متقاربا.
ولنأخذ أيضا: "سبِّحوا الله فى قدسه. سبِّحوه فى جَلَد عزته. سبحوه لأجل
جبروته. سبحوه بحسب كثرة عظمته. سبِّحوه بصوت البوق. سبحوه بالدف والرقص.
سبحوه بالأوتار والمزمار. سبِّحوه بصنوف السماع. سبحوه بصُنُوج الهتاف. كل
نسمة تسبِّح الرب"، وهى كل المزمور المائة والخمسين. وفى الفصلين الأول
والثانى من سفر "الجامعة" تظل تتردد فى آذاننا فى إلحاح مزعج أن "الجميع
باطل وكآبة الروح" حتى نُصَاب فعلا بالكآبة. أما فى بداية الفصل الثالث
قتأتى عبارة "للشىء الفلانى وقت" ثلاثين مرة على النحو التالى: "لكل غرض
تحت السماء وقت: للولادة وقت، وللموت وقت. للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت...
للاعتناق وقت، وللإمساك عن المعانقة وقت... للتمرين وقت، وللخياطة وقت..."
وهكذا إلى آخر المرات الثلاثين. وفى الفصل الأربعين من سفر "يشوع" تتكرر
عَشْرَ مراتٍ تقريبا عبارةُ "الأمر الفلانى والأمر الفلانى شأنهما كذا
وكذا، ولكن الأمر العلانى فوقهما". وفى الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل
متى تقابلنا العبارة التالية سبع مرات منسوبة للسيد المسيح فى صفحة واحدة
ليس غير: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون"، ومثلها فى نفس
الإصحاح عبارة "أيها العميان"، أو "أيها الجهّال والعميان" موجَّهة إلى
طائفة الفريسيين. وعلى مدى الإصحاحين الثانى والثالث جميعا من "رؤيا يوحنا"
تقابلنا بعد كل عدة آيات جملة "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح
للكنائس"... وهذه مجرد أمثلة معدودة! إن التكرار، كما هو معروف، أداة من
أدوات البلاغة، وبخاصة فى الخُطَب وما أشبه. ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن
القرآن إنما كان يتم تبليغه شفويا أولا بأول ردًّا على مواقف كانت تتكرر
بنفس الأحداث والكلمات تقريبا فى المرحلة المكية التى يمكن تلخيصها فى
تكذيب الكفار للرسول فى كل مكان يذهب إليه وتحذيرهم الناس منه وصفيرهم
واستهجانهم لما يقول واتهامهم إياه بأنه كذاب وساحر ومجنون وبأنه ينقل ما
يتلوه عليهم من كتب الأولين. ومن ثم يمكننا أن نتصور الجو الذى كانت تنزل
فيه آيات القرآن على الرسول عليه السلام والدواعى التى كانت تستلزم تكرار
بعض العبارات والتقريعات، والتى هى مع ذلك أخف كثيرا من نظيراتها فى الكتاب
المقدس. والآن ألا يرى القارئ الكريم كيف أن هؤلاء المبشرين يلجأون إلى
أساليب غير شريفة فى حربهم للقرآن معتمدين على جمود وجههم وقدرتهم الفائقة
على الكذب والتدجيل واللف والدوران وعلى أن المسلمين لا علم لهم بكتاب
أولئك المبشرين. ثم هم بعد هذا كله لا يرعوون إذا ما فضحهم فاضح، بل يظلون
يرددون انتقاداتهم الكاذبة السخيفة للقرآن، ولسان حالهم يقول: كم يا ترى
مِنَ القراء مَنْ عنده الاهتمام أو الوقت الذى يمكن أن ينفقه فى التحقق من
كذب ما نقول؟ ثم يمضون فى ترديد الأسطوانة المشروخة معتمدين على أن طلقة
الرصاص إن لم تُصِبْ فإنها على الأقل تزعج!
ومما أورده الكاتب عن السيوطى أن "من الآيات ما أَشْكَلَتْ مناسبتها لما
قبلها. من ذلك قوله تعالى في سورة "القيامة" (13- 19): "لا تُحَرِّكْ به
لسانَك لِتَعْجَل به"، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جدًّا،
فإن السورة كلها في أحوال القيامة...". والأمر أبسط من هذا كثيرا، ويمكن
فهمه فى ضوء ما يحدث أحيانا من بعض المحاضرين أو الخطباء حين يقطعون ما هم
فيه فجأة ليعلّقوا على شىء وقع أثناء الكلام أو يوجِّهوا الحديث لأحد
المستمعين، ثم يعودوا مرة أخرى لما كانوا فيه، وكأن شيئا لم يكن. ويمكن
تشبيهه أيضا بالأحفورة الناتجة عن بركان مثلا، إذ تفاجئ الحُمَمُ حيوانًا
أو شخصًا فتجمّده إلى الأبد على وضعه الذى كان عليه عند انفجار البركان
وانصباب الحُمَم بحيث يبدو شيئا خارج السياق بمعنى من المعانى وداخله بمعنى
آخر. وكثير منا قد قرأ، ولا شك، عن البركان الذى باغت أهل بومباى فى
التاريخ القديم ودفنهم تحت ركامه إلى الأبد مبقيًا بذلك عليهم فى ذات الوضع
الذى كان كل منهم فيه ساعة حدوث الكارثة! ولقد رأيت ذات مرة، وأنا شابٌّ،
صُوَر الحفل الخاص بخِطْبة أحد الزملاء، فلاحظت فى إحدى الصور شخصا فى
الطرف الأيسر ينظر للزميل الموجود فى أقصى يمين الصورة نظرةً غير مريحة،
على حين كان الصديق مشغولا فى تلبيس عروسه الشبكة. ولما سألت الصديق عن ذلك
الشاب وعن سر نظرته الغريبة أجابنى ضاحكا: لقد كان يريد أن يخطبها لنفسه،
لكنها كانت من نصيبى أنا. وطبعا لم يكن من هَمّ المصوِّر أن يصور ذلك الشاب
بل الخطيبين فقط، أما من عداهما، بما فيهم هذا الشخص، فظهورهم فى الصورة
أمر عارض. ومع هذا فقد ثبّتت اللقطةُ نظرة الشاب المنافس لصديقى ما بقيت
الصورة. كذلك نسمع فى تسجيل بعض الحفلات الغنائية لأم كلثوم صوت كُحَّة
أثناء انتقال العزف الموسيقى من مقطع غنائى إلى آخر، ولا ندرى أهى التى
تَكُحّ أم أحد أعضاء الفرقة الموسيقية. المهم أن جهاز التسجيل قد التقط
الكُحَّة وثبّتها تثبيتا دائما بحيث نظل نسمعها كلما استمعنا إلى الأغنية
رغم أنها لم تكن فى الحسبان، ورغم أنها ليست عنصرا من عناصر الأغنية، لكن
هكذا جرت الأمور. وبنفس الطريقة نرى أن الآيات التى نحن بسبيلها قد ثتبتت
الموقف الذى نزلت فيه إلى أبد الآبدين، كما أنها من جهة أخرى تدل على
تلقائية عجيبة من شأنها أن تُشِيع فى النص مزيدًا من الحرارة والحيوية!
ويتبقى ما قاله الرجل عن رسم القرآن الأول الذى لم يكن فيه نَقْط ولا
تشكيل، إذ تساءل كيف أن الله لم يُنْزِل القرآن منقوطا مشكَّلا كى يمنع
الخطأ فى نطقه؟ وهو سؤال غريب، وإلا فعلينا أن نعمِّمه فنقول: ولماذا لم
يخلق الله البشر من أول الأمر جاهزين لكل مشكلة تقابلهم فيحلّونها فى التو
واللحظة بدلا من المرور بكل هذه المراحل التاريخية الطويلة التى استغرقت
الآلاف المؤلفة من السنين، إن لم تكن الملايين، بما فيها من عناء وتعب وتعس
وشقاء يعرفه كل إنسان؟ ولماذا كانت الأمراض والشرور والكذب والزنا والخمر
والكفر والقتل والقلق والملل والغدر والخيانة والضعف والعجز...؟ ولماذا
كانت الرسل والأنبياء، ولم ينزل البشر من بطون أمهاتهم مهتدين؟ بل لماذا
كان عليهم أن يتعلموا كل شىء تعلما بدلا من أن يُخْلَقوا كالنحل والنمل
والمعز والفراش وسائر الحيوانات والحشرات والطيور عارفين بفطرتهم ما ينبغى
عمله؟ بل لماذا كان موتٌ وابتلاءٌ ولم يكن خلودٌ وسعادةٌ من الأصل؟ بل
لماذا ابْتُلِىَ البشر بك وبأمثالك من الضلاليين الكذابين ولم يقصف عمرك من
قبل حتى يستريحوا أو أستريح أنا على الأقل من وجع الدماغ الذى أتجشمه فى
الرد عليك كما يتجشم الطبيب المتاعب فى مكافحة السرطان والإيدز مثلا؟ إن
سؤال الرجل لهو سؤال ساذج مغرق فى السذاجة، أو خبيث عريق فى الخباثة،
وكلاهما أضرط من أخيه! ثم إننا سائلوه: أترى العرب كانوا سيفهمون الرسم
القرآنى الجديد لو نزل عليهم جاهزا من السماء مختصرا الوقت والجهد والتجارب
ومراحل التعليم الطويلة التى مروا بها؟ هاتوا لى شيئا مثل هذا حدث فى
التاريخ ولم يحوج البشر إلى بذل الجهد وإنفاق الوقت وتجشم التعب والإرهاق
ومكابدة الضيق والملل والإحباطات قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم من إتقان العلم
الجديد. ما كانت العين بكت! يدك فى يدى يا أخا التبشير، وأرنى همتك! فأنا
"نَفْسِى ومُنَى عَيْنِى" أن أتوصل لطريقة تمكّننى من الرد على سخفك هذا
دون أن أقرأ شيئا أو أكتب حرفا أو أجلس أمام الحاسوب وأتعرض لمشاكل
استعماله، بل يكفى أن أنظر إليه من بعيد (أو لا أنظر)، وفى نيتى أن يتولى
هو الرد عليك فيقوم فى الحال بهذا الرد، ثم يزيد هو من عنده كرما منه
وتفضلا فيحضرك أمامى لأظل أضربك على أصداغك حتى يظهر لك صاحب يعتقك من يدى.
أليست رغباتنا ومطالبنا ستتحقق هكذا بمجرد خطورها ببالنا فى الجنة، التى لن
تَرِيح أنت وأمثالك رائحتها ولو على بعد سبعين خريفا (خريفًا ضوئيًّا لا
خريفًا عاديًّا) بمشيئة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم
يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
ومن جهة أخرى فإن الطريقة التى كان العرب يكتبون بها آنذاك كانت تقوم
بالمهمة المطلوبة فى تلك المرحلة التاريخية. حتى إذا لم تعد تلبى مطالبهم
رأيناهم يطورونها لتتواءم مع الوضع الجديد شأن كل شىء فى الدنيا: يكون فى
حينه كافيا وفوق الكافى، ثم بمرور الأيام لا يبقى كذلك. وإذا كنا نحن الآن
نرى أن ذلك الرسم ينقصه الكثير فإنهم هم لم يكونوا يَرَوْنَه بنفس العين،
وإلا فكيف كانت حياتهم منضبطة فى كتابة الديون والمعاهدات وتسجيل الحوادث
والأسماء والحقوق وسائر المعلومات؟ إن معنى كلامك أن حياتهم كانت متوقفة
تماما إلى أن اخترعوا التنقيط والضبط بالحركات والمدّ؟ فهل هذا صحيح؟ لا
يقول بذاك إلا جاهل! إننا الآن مثلا لا نستطيع أن نعيش بدون السيارات
والطائرات والمكيفات والثلاجات والمذياعات والمرناءات والحواسيب...إلخ، لكن
أجدادنا لم يكونوا يشعرون بحاجة إلى شىء من هذا، ببساطة لأنه لم يكن لشىء
من هذا وجود، ولا كانت حياتهم قد تطورت إلى الحد الذى أصبح استعمال هذه
الآلات معه لازما لزوم الهواء للتنفس!
إن الخفيف الظل يتساءل: ماذا لو أن طالبا الآن كتب لأستاذه بحثا دون نقط أو
حركات؟ أويعطيه الأستاذ حينئذ شيئا غير الصفر؟ ألا إنك لبكّاش من الطراز
الأول أيها الرجل، وإلا فإننى أتساءل بدورى: ترى لو أن أحدنا عاش الآن فى
الكهوف أو على أغصان الأشجار، وكان عليه أن يأكل اللحم نَيِّئًا ويشرب من
البِرَك الآسنة، ويترك جسده دون أن يستره أصلا أو يستره على أحسن تقدير
بأوراق الشجر، ويستخدم رجليه فى السفر والترحّل، ويدفع عن نفسه أخطار
أعدائه من البشر والحيوانات بالظِّئْر، ويقضى الليل فى ظلام دامس أو فى ضوء
القمر على الأكثر، ولا يعرف شيئا اسمه المدرسة أو الرعاية الصحية أو
المذياع أو التلفاز أو الصحيفة، أكانت حياته فى ظروف العصر الحالى تنجح
وتستمر؟ فهذا مِثْل هذا! إن حياة الرجل البدائى بهذا الوضع الذى وصفناه
كانت ناجحة وموفقة إل حد بعيد، كما أن حياتنا بأوضاعها الحالية ناجحة
وموفقة إلى حد بعيد، لكن ظروف الرجل البدائى لا تصلح الآن بتاتًا، مثلما لن
تكون ظروف حياتنا الحاليّة صالحة بعد فترة من الزمن. والأمور كما نعرف
نسبية، وهذه هى الحقيقة دون حذلقات تبشيرية مضللة!
ثم إن العرب لم يكونوا يكتفون بتسجيل القرآن كتابة، بل كانوا يحفظونه فى
الصدور. أى أنه كان محفوظا حفظا مضاعفا، كما أنهم فى كل مرحلة من مراحل
تدوينه كانوا يستعملون هاتين الطريقتين معا، ومن هنا كان ذلك الحفظ المذهل
لكتاب الله الذى استمرت جماهير المسلمين حتى من غير العرب تحفظه وتتبرك
بحفظه فى قلوبها على مدى القرون رغم وجود المصاحف، وهو ما لم وما لن يحدث
لأى كتاب آخر. وكما قلت فالأمور نسبية، ومن هنا كان يكفى أن تقع عين الواحد
منهم على الرسم الذى يراه صاحبنا ناقصا معيبا حتى ينطلق كالريح المرسلة
بالخير، وهو ما يقع لنا الآن نحن الذين نحفظ القرآن أو للذين تعلموا على
الأقل الرسم العثمانى المتَّبَع فى كتابة المصحف، إذ لا نجد أية مشكلة على
الإطلاق فى قراءته دون خطإ رغم مخالفته فى بعض الأشياء لقواعد الإملاء
المعمول بها حاليًّا وخلوّه تماما من علامات الترقيم التى نعرفها. ولا
يقتصر هذا على العرب، بل يَشْرَكهم فيه المسلمون الأعاجم حتى لو لم يعرفوا
من العربية شيئا آخر سوى قراءة القرآن. أما اختلاف الحكم الشرعى أحيانا
بسبب هذا الرسم فهو مقصود، إذ القرآن قد نزل على ما يُعْرَف فى تاريخه
بــ"السبعة الأحرف"، وهى طرقٌ سبعٌ لأدائه من باب التوسعة على العرب الذين
لم يكونوا قد اعتادوا جميعهم بكل مستوياتهم الثقافية على استخدام لغة
موحَّدة بعد، بل كانت تتوزعهم لهجات تختلف قليلا أو كثيرا، إلى جانب اللغة
الفصحى التى لا نظن أن كل عربى كان يعرفها بنفس الدقة والتعمق اللذين كان
يعرف بهما لهجة قبيلته. وقد كان الخط العربى آنذاك بقلة قيوده مما يسهِّل
تأدية القرآن بهذه الأحرف السبعة جميعها رغم ما يوجهه الكاتب لهذا الخط
بسبب ذلك من انتقادات.
الرئيسيه |