بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث حول التثليث من موضوعاتي المفضلة ، و لنبدأ فيه بمقتطفات من عقيدة أثناسيوس : (( الإيمان الجامع هو أن نعبد إلها واحدًا في ثالوث ، و ثالوثًا في وحدانية ، ألا نخلط الأقانيم ، و لا نفصل الجوهر ، فإن للآب أقنومًا على حده ، و للابن أقنومًا على حدة ، و للروح أقنومًا آخر ، و لكن لاهوت الآب و الابن و الروح القدس كله واحد ، متساوو المجد أبديو الجلال معًا . . . الآب إله و الابن إله و الروح القدس إله ، و لكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد . . . الآب رب و الابن رب و الروح القدس رب ، و لكن ليسوا ثلاثة أرباب بل رب واحد . . . الدين الجامع ينهانا عن أن نقول بوجود ثلاثة آلهة أو ثلاثة أرباب )) .

و الحق أنه من خلال الكلام السابق يتضح للناظر وجود ثلاثة أشخاص على وجه الحقيقة في عقيدة النصارى وضوحًا بينًا .. و ذلك لأنهم نصوا على وجود و تميز كل واحد منهم على وجه الحقيقة .. أما الوحدانية فهي مجرد دعوى غير واضحة و هي غير المعقول في كلامهم ؛ لأنهم زعموا أن الثلاثة واحد ، و هذا لا يعقل !

و يصدق عليهم في كلامهم أنهم يعبدون ثلاثة آلهة و يجعلونها ضمن مسمى واحد و هو (الله) و بناءً عليه يعتقدون بأنهم موحدون .. و هذا منهم مجرد ذر للرماد في العيون ، لأن ذلك لا يخرجهم من أن يكونوا مشركين يعبدون آلهة مع الله .. و هذا ما يحذره النصارى و يحاولون أن يدفعوه عن أنفسهم بدعوى وحدانية الله .

لكن العاقل يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي و بين ما هو مجرد دعوى .

ثم ننتقل للسؤال الذي طرحه النصارى أمام المسلمين : أي نوع من الوحدانية هي وحدانية الله ؟

يقول د. هاني رزق الله في كتابه " ما معنى أن يسوع المسيح هو ابن الله " :
اتخذ أحدهم مثلاً من الشمس ليقرب معنى الثالوث فقال إن الشمس على هيئة دائرة و هي مضيئة و لها حرارة و قد أخطأ هذا الشخص رغم اجتهاده ، لأن الشمس لو رفعت عنها خاصية الحرارة لصارت ناقصة . أما في الثالوث المقدس (الآب و الابن و الروح القدس) ، نجد أن الله الآب هو إله كامل ، الله الابن هو إله كامل ، الله الروح القدس هو إله كامل ، و هم أقانيم ثلاثة داخل الجوهر الواحد و لا يمكن الفصل بينهم .
( د. هاني رزق الله ، ما معنى أن يسوع المسيح هو ابن الله ص8 )

فها هم ثلاثة حقيقيين و كل من الثلاثة إله كامل حقيقي و تربطهم رابطة واحدة داخل هذا الكيان المسمى (الله) .. و هذا ينقلنا للب الموضوع : إن الوحدانية التي يقصدها النصارى ليست هي التوحيد الذي يعتنقه المسلمون و الذي فيه أن الله واحد على وجه الحقيقة ، بل هم يؤمنون بوحدانية لا تمنع التعدد على سبيل الشركة بين الآلهة .. فالآلهة متشاركة في (وحدة) كما الأسرة عبارة عن وحدة تضم أفرادًا متعددين .

في كتاب قيم اسمه (إله واحد رب واحد روح واحد .. تفسير معاصر للإيمان الرسولي) كتبه هانز جورج لينك و ترجمه بهيج يوسف يعقوب و هو من مطبوعات مجلس الكنائس العالمي الذي يضم جميع الطوائف النصرانية ، يقول المؤلف :
و هذه الوحدة تسمو فوق كل وحدة أخرى ذات شكل حسابي أو منطقي خالص – إنها وحدة الـkoinonia (الشركة) فإن كلاً من وحدة و اختلاف الأقانيم الإلهية لها نفس القيمة في كل من مظهر و كيان الـkoinonia . . . فكل أقنوم من الأقانيم الإلهية يحيا حياة الأقنومين الآخرين ، و هو لا يحيا مع الأقنومين الآخرين فقط ، بل أيضًا من أجلهما ، و الكنائس المحلية المتحدة أيضًا على نفس هذه الصورة ستعيش حياة الكنائس الأخرى ، و تعيش كل الكنائس حياة بعضها ، بينما تحتفظ كل كنيسة بمواهبها الخاصة .
( هانز جورج لينك ، إله واحد رب واحد روح واحد ص53 )

فالله الواحد الذي يعبده النصارى ليس واحدًا حسابيًا ينافي التعدد كما يعتقد المسلمون ، بل هو وحدة تتألف من عدة أفراد بينهم علاقات متواصلة ، و لا داعي للتذكير بأن كل فرد من أعضاء هذه الوحدة هو إله تام كامل .. و على الكنائس أن تكون بينها وحدة على منوال وحدة الله .

يقول الكاتب في موضع آخر :
يختلف تجاوب النص المعدل في (كريه بيرار) مع التحديات التي تثيرها اليهودية و الإسلام إلا أنه أشد وضوحًا من النصوص السابقة ، باستخدامه لفكرة الوحدة المتميزة التي تجمع بين كل من السمو و التأصل ، و حدة لا تمنع التعدد ، على أن المناقشات التي قدمتها نصوص (كريه بيرار) و إن كانت أكثر فلسفة ، إلا أنها تعني نفس المعنى الذي جاء في النصوص السابقة ، أي أن وحدة الله معبر عنها في الشركة التي لا تنفصم بين الأقانيم الثلاثة .
( المصدر السابق ص124-125 )

و يقول كذلك :
إن أقانيم الثالوث هي جزء مما يسميه (مولتمان) : (شبكة اجتماعية) و أن الثالوث هو ثالوث اجتماعي ، كل أقنوم فيه منفتح على الباقيين و معتمد عليهما . و هم يعيشون – بفضل محبتهم الأبدية – في بعضهم البعض ، و يسكنون في بعضهم البعض لدرجة أنهم (واحد) .
( المصدر السابق ص135 )

لا أرى أن هذه التصريحات البينة تحتاج لتعليق .. رغم هذا أكرر أن النصارى يعتقدون بثلاثة أقانيم حقيقية و كل أقنوم من هؤلاء الثلاثة إله تام و كامل .. و هذا شرك صريح لا نزاع فيه ! .. و أن دعواهم في الله الواحد هي مجرد دعوى فموية ليس لها أي أساس من الواقع بل هي غير معقولة و تناقض التثليث صراحةً .

و النصارى بهذا المعتقد لا يخالفون فقط التوحيد الذي يعتنقه المسلمون ، بل يخالفون اعتقاد جميع الرسل و الأنبياء ، حتى كتب العهد القديم و العهد الجديد بين أيديهم تصرح بالتوحيد الحقيقي لله و ليس فيها أي ذكر للأقانيم أو الثالوث .

و الحمد لله على نعمة التوحيد و الإسلام .
 

الرئيسيه