" حجة الوداع " بشارةٌ بهذه الحادثة في انجيل يوحنا ( 1 )

 


المهتدي بالله

 

حَجَّ النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم مرةً واحدةً قُبيل وفاته سُمِّيت "حجة الوداع"، وقد جاء في الإنجيل الذي بين أيدي النصارى اليوم ما يُفسَّر بوضوحٍ وقوةٍ أنه بشارةٌ بهذه الحادثة وبصاحبها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإليك ما ورد في رؤيا يوحنا: الإصحاح 14:


(
ثم نظرت وإذا خروف واقف على جبل صهيون ومعه مئة وأربعة وأربعون ألفاً لهم اسم أبيه مكتوباً على جباههم 2 وسمعت صوتاً من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رَعد عظيم. وسمعت صوتاً كصوت ضاربين بالقيثارة يضربون بقيثاراتهم 3 وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعةِ الحيواناتِ والشيوخِ ولم يستطع أحد أن يتعلّم الترنيمة إلا المئةُ والأربعةُ والأربعون ألفاً الذين اشتُرُوا من الأرض 4 هؤلاء هم الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أطهار. هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب. هؤلاء اشتُروا من بين الناس باكورةً للّه وللخروف 5 وفي أفواههم لم يوجد غِش لأنهم بِلا عَيب قُدَّامَ عرشِ الله).


بسبب طول الإصحاح 14 سنقسمه إلى مقاطع ففي هذا المقطع نجد: أنه "رأى خروفاًوالخروف في المنام رَمْزٌ للرجل العظيم كالحاكم صاحب السلطان -كما في تفسير الأحلام لابن سيرين- ويتأكد أنه ليس خروفاً حقيقياًّ بما سيأتي في باقي الرؤيا من اتّباع الناس له ومقارنة اسمه باسم الله (باكورة لله وللخروف) وهذا شرف لا يكون إلا لإنسان رسول. وأما وقوفه على جبل صهيون فمن مبادئ تفسير الأحلام الترميز ومجيء الشيء مكان ما يُشبهه، وفي عبادة الحج وقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عند جبل عرفة فألقى خطبة في الحُجّاج، وجبل صهيون شبيه جداًّ بجبل عرفة. أو قد يكون ما رآه يوحنا هو جبل عرفة فظنه جبل صهيون لعدم معرفته بعرفة، وهذا ليس مستبعداً.


وأما الـ "144.000" الذين معه فهم الذين حجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد وصف جابر بن عبد الله كَثْرَتَهم بقوله: "فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ" رواه مسلم. بل في كتاب سُنن النسائي: "فلم يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِر أن يأتي [إلى المدينة] راكباً أو راجلاً إلا قدم".

وقال جابر أيضاً: "نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا" وقد اعتبرتهم بعض الإحصاءات 114.000 أو 130.000 -كما في السيرة النبوية للنَّدْوي- وتحديد مثل تلك الجموع بدقة ليس يسيراً، فقد يكونون كما في هذا الإصحاح 144 ألفاً.

وأما كون "اسم أبيه مكتوباً على جباههم" فالمقصود بالأب هنا "الله" سبحانه وتعالى، وليس المقصود "الكتابة الحقيقية" بلا شك؛ فليس ذلك من عادة البَشَر، وإنما هي السِّمَة والعلامة الحاصلة من السجود -كما في رؤيا يوحنا: 13/16- وقد أخبر الله في القرآن الكريم بأن هذه السِّمة هي إحدى البشارات والعلامات لأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كُتُبِه السابقة على القرآن كالتوراة والإنجيل فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ...} [الفتح: 29]!!
وأما الصوت "كالمياه الكثيرة" فهو أشبه بالتسبيحات الجماعية التي يَذْكر بها الحجاج "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله"، و"كالرعد العظيم" أشبه بالتكبيرات التي يطلقها الحجيج "الله أكبر".

وأما الصوت "كالضاربين بالقيثارة" و"الترنيمة الجديدة" فهي التلبية باللغة العربية فهي جديدة على الرسالات السماوية فقد كانت النبوة في بني إسرائيل، فألفاظها جديدة بالنسبة ليوحنا وهي كما وصف جابرٌ الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يرفع صوته "يُهِلُّ بِالتَّوْحِيدِ: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ). وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ)".


وأما "العَرش" الذي هم أمامَه فهي الكَعبة، والأربعة الحيوانات -أو "الأحياء الأربعة" كما في طبعة دار المشرق أو "الكائنات الحية" كما في طبعة التفسير التطبيقي- فهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الأربعة الراشدون الذين حجوا معه وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وهم من شيوخ الصحابة.

وأما معنى أنه "لم يستطع أحد أن يتعلمه إلا هؤلاء"؛ فلأنها الحجة الأولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء ليمحو عن هذه العبادة ما دَخَل إليها من الجاهلية والوثنية، ولأجل ذلك أَمَرهم بأن يراقبوا أعماله ويقلدوه فيها بقوله: "لتأخذوا مناسكَكم". ولأجل ذلك تعجب أهل قريش -من غير المسلمين- عندما خالفَهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فتجاوز المَشْعَر الحرام في طريقه إلى عرفة.

وأما كونهم "اشتُروا من الأرض من بين الناس باكورةً لله وللخروف" فهي أيضاً بشارةٌ أخبر القرآن بوجودها في التوراة والإنجيل، حيث هؤلاء باعوا أنفسهم لله، فأَمْرُه عندهم فوق كل أَمْر، قال الله في القرآن: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ~ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
[التوبة: 111،112] فقد حضروا من "كل فَجٍّ عميق" من بقاع الأرض البعيدة، وهم باكورة جُهْدِ النبي بعد 22 سنة من بداية دعوته، وبَعدَهم تَكاثر المسلمون وها هم اليوم مِليار ونصف المليار. وأما لفظ "لله وللخروف" فمعناه: "لله وللرسول" وهذا أسلوب مستخدم في الأدبيات الإسلامية.

وأما أنهم "لم يتنجّسوا مع النساء" فهو كِنَاية عن بُعدهم عن المعاشرة الزوجية، فإن الحجاج يكونون في تهيؤ لهذه العبادة يُسمَّى "الإحرام" ومن الممنوعات فيه المعاشرة الزوجية: "هؤلاء الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب" هذا وصف الصحابة الذين حجوا مع الرسول محمد كما وصفهم جابر: "فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ". وقال أيضاً: "وما عمل به من شيء عَمِلنا به" رواه مسلم. كما أن من وصفهم أنه "لم يوجد غِش في أفواههم" يتفق مع قول الله في القرآن: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فالرَّفَث: المعاشرة الزوجية.

والفسوق: مِنْه الكلام الفاحش. والجدال: الخصومة. ولأنهم حجوا هكذا فهم "بلا عيب قدام عرش الله" قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن حج هذا البيت [الكعبة] فلم يرفُث ولم يفسق رجع كيومِ ولَدَتْه أمُّه" رواه البخاري. أي "غُفِر له ما تقدم مِن ذنبه" كما رواه الترمذي. ومن أوصاف الحجيج حول الكعبة لبس البياض وهو ما ورد في موضع آخر [رؤيا يوحنا: 7/14،13]. (هؤلاء اللابسون الحلل البيضاء... وقد غسلوا حُلَلَهم وبيضوها بدم الحَمَل) [الخروف].




منقول