يا نصارى العالم : ابن تيمية يقول لكم
بسم الله الرحمن الرحيم شبهه أخرى :-
المسيح ليس هو الله ولا ابن الله
!!!
إن ما
أوردته أناجيل النصارى على لسان المسيح – عليه السلام – من كونه
ابن الله و أن الله حل فيه أو كون الله هو المسيح إلى غيرها من التهم وإعطاء
المسيح عليه السلام صفات ما لله سبحانه ، نقول : إن تلك العقائد هي مما ألصق بالسيد
المسيح – عليه السلام – و هو منه بريء ، لمنافاته لعقيدة التوحيد التي جاء بها
كغيره من الرسل ، إذ يستحيل أن يصف المسيح نفسه بأوصاف الله عز وجل من الأزلية و
الأبدية و العلم المطلق بكل شيء والوجود في كل مكان .. إلى غير ذلك من الصفات والأفعال
الخاصة بالله عز وجل
و لو فرض –
جدلاً – أن شيئاً من هذه الأقوال قد جاء
على لسان المسيح – عليه السلام – مما يتضمن وصفه لنفسه بالبنوة والإلوهية ، فإن
بالضرورة ليس بالمعنى الذي يقصده المسيحيون من هذه الألفاظ ، فإن هذه الألفاظ قد وردت في الأسفار الكتابية بمعان أخرى ذكرها ابن
تيمية في معرض رده على المسيحيين الذين يحتجون
على قولهم ببنوة المسيح لله تعالى و إلوهيته بما ورد في أناجيلهم من النصل على
ذلك .
و كذلك فعل
غيره من العلماء في إبطالهم لاستشهادات النصارى على عقيدتهم
الباطلة هذه من الكتاب المقدس .
لو فرض ذلك لابد وأن يؤول لفظ البنوة و الإلوهية في حق المسيح بما لا يتنافى مع
العقيدة الصحيحة في الله والمسيح ككونه
دالاً على تكريمه و قربه من الله ، أو دالاً على رئاسته الدينية و شرفه و كونه
متكلماً باسمه ، حاكماً بحكمه ، عاملاً بوصاياه .. الخ ، لاسيما إذا علمنا أن
أسفار العهد القديم كانت تطلق لفظ البنوة على إسرائيل و على داود و غيرهما كما كانت
تطلق لفظ الإلوهية على موسى – عليه السلام – وعلى غيره من قضاة بني إسرائيل بهده
المعاني ، بذكر التأويلات الصحيحة لما ورد في الأناجيل من ألفاظ الأبوة والبنوة والإلوهية .. الخ ، ليست إذاً بنوة المسيح
وإلوهيته – حتى لو فرضت صحة هذه النصوص – بنوة و
إلوهية حقيقية ، بل مجازية يجب أن تؤول نصوصها بما لا يتضمن فساداً في العقيدة ، ولا
مخالفة للتوحيد ، و لتتفق مع النصوص المحكمة في العقيدة .
زد على ذلك
– على فرض صحة نقله – لابد وأن يفهم على ضوء بقية ما تضمنه الكتاب المقدس من خصائص
البشرية للمسيح – عليه السلام – .
أما ما
أسند إلى المسيح من أفعال الله – عز
وجل – فهو نوع من التحريف الذي ألحقه المسيحيون بعقيدتهم التوحيدية الصحيحة ، و
ما داموا قد انحرفوا و ألهوا المسيح ، فمن الطبيعي أن يضيفوا إليه أفعال الألوهية
، وإذا كان تأليههم المسيح اعتقاد باطل ، فإن إضافتهم إليه أعمال الإلوهية
يعد أمراً باطلاً هو الآخر ، فإن مقتضى استحالة الإلوهية في حق المسيح هو
استحالة أفعالها في حقه كذلك .
والذي
يتمعن فيما يستدلون به هنا من نصوص ، يجد
أنها لا تتضمن في الحقيقة وصف المسيح لنفسه بالأزلية – كما يزعمون – بل أقصى ما فيها
تقدير الله لنبوته ، و تمجيده له في قدره السابق ، قبل أن يخلق الخلائق ، و هذا
أمر وارد في حق كل نبي من الأنبياء .
أما
المعجزات : كمعجزة إحياء الموتى ، فلم يفعلها المسيح
باعتباره إليهاً قادراً على كل شيء ، وإنما فعلها بالقدرة التي منحها
الله له ، و بعد أن تضرع إلى الله الذي أرسله طالباً تأييده ، و ليس في هذا
ما يدل على إلوهيته و لكنه يدل على نبوته ، وتأييد الله له بهذه المعجزات .
أما ما
يزعمونه من جلوس المسيح على يمين الرب ، لدينونة الخلائق ، فذلك أمر
باطل ، دفعهم إليه غلوهم في حق المسيح ، فالله هو مالك يوم الدين ، و هو المتفرد بحساب
الخلائق في ذلك اليوم . و لو فرض وأن تعميد الناس إنما يكون باسمه مع اسم الله و
روح القدس – مما تضمنه إنجيل متى – فهذا ليس على سبيل المشاركة في الإلوهية ، و
إنما على سبيل البركة باعتباره نبي الله .
و بديهي أن عيسى – عليه السلام – لا يمكن أن يرد على لسانه إقراره لـ (
توما ) في وصفه له بالإلوهية ، و هو النبي
الداعي إلى التوحيد ، و سوف يجيب ربه يوم القيامة – إذا سأله عن تأليه الناس له –
قائلاً : {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم }[المائدة/117]
.
و غاية
القول : إن ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح – عليه
السلام – إما أن تكون شواهد مكذوبة النسبة إلى المسيح – عليه السلام – أو محرفة في
نقلها و ترجمتها ، أو تكون متضمنة لألفاظ مؤولة لا ينبغي فهمها إلا في ضوء استعمال الكتب
المقدسة لها ، و على ضوء بقية النصوص الأخرى التي تتضمن النص على بشرية المسيح –
عليه السلام – و غيره من الأنبياء .
و سوف يتضح بجلاء بطلان ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح بعد أن نعرض
فيما يأتي إبطال ابن تيمية و غيره من
العلماء لما يستدل به النصارى من أدلة أخرى غير تلك التي أوردناها و أبطلناها في هذا
المقام .
يذكر ابن
تيمية أن عقيدة اليهود و النصارى في شأن المسيح – عليه السلام –
على طرفي نقيض . فاليهود لم يعطوا المسيح حقه الذي منحه الله إياه ، فزعموا أن ولد
زنا ، و أنه كذاب و ساحر ، و لم يؤمنوا به .
أما
النصارى فقد غالوا في تعظيمه لدرجة تأليهه ، فقالوا عنه : إنه الله و ابن الله ، بل صار من يقول فيه القول الحق من علمائهم و عبادهم يجمعون
لهم مجمعاً و يلعنونهم فيه على وجه التعصب ،
وإتباع الهوى ، و الغلو فيمن يعظمونه . الجواب الصحيح ( 2/88 ) .
و يبطل ابن
تيمية عقيدة النصارى هذه في بنوة المسيح لله تعالى و إلوهيته ، و أدلتهم
عليها من جهات متعددة ..
فهو يبطلها
بإبطال أدلتهم من الكتاب المقدس – عندهم - ، و
كذلك بإبطال استدلالهم عليها – في زعمهم – بالقرآن الكريم .
تفصيل ذلك
: المقصود هنا – كما يقول ابن تيمية - : بيان بطلان احتجاج النصارى على أن المسيح هو الله ، أو ابن الله ، أو أنه كلمة الله
الخالقة ، و أنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا
باطنه حجة كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله ، و إنما تمسكوا بآيات متشابهات ، و
تركوا المحكم ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله }[آل عمران/7] . والآية -كما يقول ابن تيمية –
نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعاً . الجواب الصحيح (2/304) .
يقول ابن
تيمية : ثم يقال للنصارى في هذا المقام : أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو
الله إلا بهذه الكتب ، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله
معصومون ، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله ، فصار ذلك
دوراً ممتنعاً .- والدور هو : توقف الشيء على نفسه ، أي يكون هو نفسه عله لنفسه ،
بواسطة أو بدون واسطة والدور مستحيل بالبداهة العقلية . أنظر : ضوابط المعرفة لعبد
الرحمن الميداني ( ص333) - . فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ،
ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ، ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله ،
فصار ثبوت الإلهية متوقفاً على ثبوت إلهيته ، و ثبوت كونهم رسل الله متوقفاً على
كونهم رسل الله ، فصار ذلك دوراً ممتنعاً . الجواب الصحيح ( 1/357 ) .
إبطال ابن
تيمية لاستدلالات النصارى على بنوة المسيح وألوهيته بالتوراة ثم بالإنجيل
.
أولاً :
إبطال أدلتهم من التوراة :
يستشهد النصارى على عقيدتهم ببنوة المسيح لله تعالى و أبوة الله له وبالتالي
على إلوهية المسيح ، ببعض نصوص التوراة
التي تتضمن هذه الألفاظ الدالة على تلك العقائد ، فقد قالوا : نحن معشر النصارى لم
نسم المسيح بهذه الأسماء من ذات أنفسنا ، بل الله سماه بها ، و ذلك أنه قال على لسان
موسى النبي في التوراة مخاطباً بني إسرائيل : أليس هو أباك و مقتنيك ، هو عملك وأنشأك
. سفر التثنية ( 32 : 6 ) . أي أن اسم الأب أو كلمة الأب قد استعملت في التوراة
بالنسبة لله عز وجل ، فلم يكونوا – في نظر أنفسهم – هم المبتدعين لتلك الكلمة في حق
الله عز وجل ، ولا ما تستتبعه تلك الكلمة من النبوة بالنسبة للمسيح .
و قد أجاب
ابن تيمية على ذلك بقوله : إن في هذا الكلام أنه سماه أباً لغير المسيح – عليه
السلام – و هذا نظير قوله لإسرائيل : أنت ابني بكري - سفر الخروج ( 4 : 22 و 23 ) - و
لداود : ابني و حبيبي – مزمور ( 89 : 26 . 27 ) – و قول المسيح : أبي وأبيكم – يوحنا
( 20 :17 ) - ، و هم يسلّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب ، لا
بمعنى التولد الذي يخصون به المسيح .
ثم إن هذا الدليل الذي يستدلون به على بنوة المسيح لله تعالى و إلوهيته هو حجة
عليهم ، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته
أباً لغير المسيح ، و ليس المراد بذلك إلا معنى الرب ، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب
يراد به الرب ، فيجب حمله ف يحق المسيح على هذا المعنى ، لأن الأصل عدم
الاشتراك في الكلام ، وأن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح إنما يثبت إذا علم أنه أريد به المعنى الذي ادعوه في المسيح ،
فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب
لزم الدور ، فإنه يعلم أنه أريد به ذلك المعنى ، من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق
الله هذا المعنى ، ولا يثبت ذلك حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح ،
فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما ، فتبين أنه لا علم عندهم
بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع .
ثم إنه لا
يوجد في كتب الأنبياء و كلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت ، ولا إطلاق اسم
الابن و المراد به شيء من اللاهوت ، و لا كلمته ولا حياته ، بل لا يوجد لفظ الابن
إلا والمراد به المخلوق ، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق ، و حينئذ فيلزم من
ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت ، و هذا يبطل قولهم : إن الابن و
روح القدس صفتان لله ، وإن المسيح اسم اللاهوت والناسوت ، فتبين أن نصوص كتب
الأنبياء تبطل مذهب النصارى و تناقض أمانتهم . الجواب الصحيح ( 2 / 123 ) .
ثانياً :
إبطال أدلتهم من الإنجيل :
يستشهد
النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن
ألفاظاً دالة على تلك العقائد، فقالوا: عمدوا الناس باسم الأب و الابن والروح القدس
. متى ( 28 : 19 ) .
و قد رد
ابن تيمية على ذلك بقوله : هذا النص هو عمدتكم على
ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة ، و ليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصاً ولا ظاهراً ،
فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله ، ولم يسم أحد
من الأنبياء علم الله ابنه ، ولا سموا كلامه ابنه ، و لكن عندكم أنهم سموا عبده أو
عباده ابنه أو بنيه ، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعَلم ابن الله ،
و كلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح ، و هو حمل للفظ على ما لم يستعمله هو ولا
غيره فيه لا حقيقة و لا مجازاً ، فأي كذب و تحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا ، و
لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابناً ، و قدرته ابناً ، فتخصيص
العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله ،
فكيف إذا لم يكن كذلك ...
بل ظاهر
هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون
به في لغتهم الرب ، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي ، و هو هنا المسيح ، و
الروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك ، و بهذا فسر هذا
الكلام من فسره من أكابر علمائهم . الجواب الصحيح ( 2/131-134 )
بتلخيص .
كما و
يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله عز وجل بما يدعونه و يتأولونه
كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم ، فيقولون :
1 – إنه قد
جاء في هذا الكتاب – يقصدون القرآن الكريم – الذي جاء به هذا الإنسان – أي محمد صلى الله عليه وسلم – {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و
كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه}
[النساء/171] . و يقولون : و هذا يوافق قولنا : إن المسيح لاهوت و ناسوت ، إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ
من مريم ، و كلمة الله و روحه المتحدة فيه ،
وحاشا أن تكون كلمة الله و روحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين ، فأشار بهذا إلى
اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة . نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية ( 2/279 ) .
و قد رد
ابن تيمية على استشهادهم هذا بقوله : إن دعواكم - أيها النصارى – على
محمد صلى الله عليه وسلم أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما تزعمون أنتم فيه ،
هي من الكذب الواضح المعلوم ، فلو ادعى اليهود على محمد صلى الله عليه وسلم أنه
كان يكذّب المسيح عليه السلام و يجحد رسالته ، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان
يقول : أنه رب العالمين وأن اللاهوت والناسوت ، و محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر
فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك ، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى {
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد
أن يهلك المسيح بن مريم وأمه و من في الأرض جميعاً }[المائدة/17] .
و قوله
تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم و قال المسيح يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار
و ما للظالمين من أنصار } [المائدة/72] .
و قوله تعالى { وقالت اليهود عزيز ابن الله و قالت النصارى المسيح بن الله
ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين
كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون }[التوبة /30] .
إلى غير
ذلك من أمثال هذه الآيات ، فكيف يزعمون أن القرآن يثبت لاهوت المسيح و هو يكفّر صراحة – كما رأينا – من يثبت بنوته لله تعالى و ألهيته .
2 - و
يقولون أيضاً في استدلالهم على إلوهية
المسيح بآيات الكتاب الكريم في موضع آخر : أن الله قد سماه كذلك في هذا الكتاب
خالقاً ، حيث قال : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً
بإذني }[المائدة/110] . و هذا مما يوافق رأينا – والكلام للنصارى - واعتقادنا في
السيد المسيح لذكره ؛ لأنه حيث قال {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه
فيكون طيراً بإذن الله } أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت . نقلاً عن
الجواب الصحيح لابن تيمية( 2/ 287 ) .
و قد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله : إن جميع ما يحتج به النصارى من هذه
الآيات – و غيرها – هو حجة عليهم لا لهم ، و ذلك من
وجوه :-
الوجه
الأول : أن الله لم يذكر عن المسيح خلقاً مطلقاً ، ولا
خلقاً عاماً ، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى ، في كثير من الآيات . وأما المسيح عليه
السلام فقال فيه : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني .. الآيات } و قال المسيح
عن نفسه : { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن
الله .. الآيات } ، فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله ، فكيف يكون هذا الخالق هو
ذاك ؟!
الوجه
الثاني : أنه خلق من الطين كهيئة الطير ، والمراد به : تصويره
بصورة الطير ، و هذا الخلق يقدر عليه عامة الناس ، فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من
الطين كهيئة الطير ، و غير الطير من الحيوانات ، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح
فيصير طيراً بإذن الله عز وجل و ليس مجرد خلقه من الطين ، فإن هذا أمر مشترك .
الوجه
الثالث : أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير المحرم والنفخ بإذن
الله تعالى ، و أخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله ، و أخبر الله أن هذا من
نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعلى {إن هو إلا عبد أنعمنا
عليه و جعلناه مثلاً لنبي إسرائيل }[الزخرف/59] .
و قوله تعالى { يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك
بروح القدس تكلم الناس في المهد و كهلا ، و
إذ علمتك الكتاب و الحكمة والتوراة و الإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير
بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني و تبرئ الأكمه و الأبرص بإذني و إذ تخرج الموتى
بإذني } [المائدة/110] .
و هذا كله
صريح في أنه ليس هو الله ، إنما هو عبد الله
فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء ، و صرح بأن الآذن غير
المأذون له ، و المعلِّم ليس هو المعلَّم ، و المنعم عليه و على والدته ليس
هو إياه ، كما ليس هو والدته .
الوجه
الرابع : إنهم قالوا : أشار بالخالق إلى
كلمة الله المتحدة في الناسوت ، ثم قالوا في قوله { بإذن الله } أي بإذن الكلمة
المتحدة في الناسوت ، و هذا يبين تناقضهم و افتراءهم على القرآن ؛ لأن الله أخبر في
القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، ففرق بين المسيح و بين
الله ، و بين أن الله هو الآذن للمسيح ، و هؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت
المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق ، و هو الآذن ، فجعلوا الخالق هو الآذن ، و هو
تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن .
الوجه الخامس : إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه ،
فإنهم يقولون : هو إله واحد ، و هو الخالق ،
فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه و ينعم على نفسه ؟!
الوجه
السادس : إن الخالق إما أن يكون الذات الموصولة بالكلام ، أو الكلام الذي هو صفة للذات ، فإن كان هو الكلام ، فالكلام صفة لا تكون ذاتاً قائمة
بنفسها خالقة ، و لو لم تتحد بالناسوت ، واتحادها بالناسوت
دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكناً ، فكيف و هو ممتنع ؟!
و إذا كان
الخالق هو الذات المتصفة بالكلام ، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب
العالمين ، و عندهم هو الأب ، و المسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل
شيء ، و القرآن يبيّن أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير ،
فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ، ولا صفة من صفاته ، فليس المسيح
هو الله ، و لا ابن قديم أزلي لله ، و لكن عبده فعل بإذنه .
الوجه
السابع : قولهم فأشار بالخالق على كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي : ( بكلمة الله
خلقت السماوات و الأرض ) فيقال لهم : هذا النص
عن داود حجة عليكم ، كما أن التوراة والقرآن و سائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم ،
فإن داود عليه السلام قال : ( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) و لم يقل :
إن كلمة الله هي الخالقة ، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله .
والفرق بين
الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلق السماوات والأرض أمر
ظاهر معروف ، كالفرق بين القادر والقدرة ، فإن القادر هو الخالق ، و قد خلق الأشياء
بقدرته ، و ليست القدرة هي الخالقة .. فالله تعالى يخلق بقدرته و مشيئته وكلامه، و
ليس صفاته هي الخالقة.
الوجه
الثامن : إن قول داود عليه السلام : ( بكلمة
الله خلقت السماوات و الأرض ) يوافق ما جاء في القرآن و التوراة ، و غير ذلك من كتب
الأنبياء ، إن الله يقول للشيء {كن فيكون} و هذا في القرآن في غير موضع و في
التوراة قال الله : ( ليكن كذا ليكن كذا ) .
الوجه التاسع : قولهم : ( لأنه ليس خالق إلا الله و كلمته و روحه ) . إن
أرادوا بكلمته كلامه ، و بروحه حياته فهذه من
صفات الله ، كعلمه و قدرته ، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنه روح
الله ، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله ، فقد
كذب عليه ، ثم يقال : هذا كلامه و حياته من صفات الله كعلمه و قدرته ، وحينئذ فالخالق
هو الله وحده و صفاته داخلة في مسمى اسمه ، لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه
بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه ، فإن الله لا شريك له ، و لهذا
لما قال تعالى {الله خالق كل شيء} دخل كل ما سواه في مخلوقاته ، و لم تدخل صفاته
كعلمه و قدرته و مشيئته و كلامه ، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له
.. وإن أرادوا بكلمة روحه المسيح ، أو شيئاً اتحد بناسوت المسيح ، فالمسيح عليه
السلام كله مخلوق كسائر الرسل و الله وحده هو الخالق
الوجه
العاشر : إن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح ؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت ، و هو عند النصارى اسم
اللاهوت والناسوت لما اتحدا ، و الاتحاد فعل حادث
عندهم ، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحاً ، فعلم أن داود لم يرد
بكلمة الله المسيح ، و لكن غاية النصارى أن يقولوا : أراد الكلمة التي اتحدت فيها –
أي مريم – بجسد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله
{إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة
و من المقربين }[آل عمران/45] .
فالكلمة
التي ذكرها، و إنها هي التي بها خلقت
السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله .
فاحتجاجهم
بهذا – أي بأن المسيح باعتباره كلمة الله خلق الأشياء – على الكلمة
الخالقة بإذنه ، هذا احتجاج باطل ، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات و الأرض لم
يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم و المسيح لابد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه
لم يرد بالكلمة المسيح . أنظر : الجواب الصحيح (2 /287 – 293
) .
3 - و
يستشهد النصارى أيضاً على صحة بنوة المسيح لله وألويته بقوله تعالى { إن مثل عيسى عند
الله كمثل آدم خلقه من تراب ..الآية }[آل عمران/59 ] .
فقالوا :
قد عنى بقوله : مثل عيسى ، إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة ، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط .
و كما أن
آدم خلق من غير جماع ولا مباضعه، فكذلك
جسد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعه، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد
المسيح ذاق الموت.
و قالوا
كذلك : و قد يبرهن على عقيدتنا أيضاً بما ذكره القرآن
عن المسيح من أن الله ألقى كلمته إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا : إن كلمة الله
الأزلية الخالقة حلت في مريم و تجسدت بإنسان كامل . أنظر : الجواب الصحيح ( 2 / 294 ) .
و قد أجاب
ابن تيمية رحمه الله عن ذلك بما يأتي :
أولاً : إن
قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام
الممكنة ؛ ليبين عموم قدرته ، فخلق آدم من
غير ذكر ولا أنثى ، و خلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى ، و خلق المسيح من أنثى
بلا ذكر ، و خلق سائر الخلق من ذكر و أنثى ، و كان خلق آدم و حواء أعجب من خلق المسيح
، فإن حواء خلقت من ضلع آدم ، و هذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم ، و خلق آدم
أعجب من هذا و هذا ، و هو أصل خلق حواء ؛ فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو
أعجب من خلق المسيح ، فإذا كان سبحانه قادراً أن يخلقه من تراب ، و التراب ليس جنس بدن
الإنسان ، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان ؟ و هو سبحانه خلق
آدم من تراب ، ثم قال له كن فكان لما نفخ فيه من روحه ، فكذلك المسيح نفخ فيه من
روحه ، و قال له كن فكان ، و لم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتاً وناسوتاً ، بل كله
ناسوت ، و كذلك المسيح كله ناسوت .
وهذا كله يبين به إن المسيح عبد ليس بإله ، وأنه مخلوق كما خلق آدم ، و قد أمر
الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباهل من قال
أنه إله ، فيدعوا كل من المتباهلين أبنائه و نسائه و قريبه المخلص به ثم يبتهل
هؤلاء و هؤلاء يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين ، فإن كان النصارى كاذبين في
قولهم : هو الله ، حقت اللعنة عليهم ، و إن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذباً
حقت اللعنة عليه ، و هذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق .
و النصارى
لما لم يعلموا أنهم على حق نكلوا عن المباهلة ، و قد قال تعالى عقب ذلك { إن هذا لهو
القصص الحق و ما من إله إلا الله .. الآية}[آل عمران/62] . تكذيباً للنصارى
الذين يقولون : هو إله حق من إله حق ، فكيف يقال : إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت
وناسوت و أن الناسوت فقد دون اللاهوت ؟
و بهذا ظهر الجواب عن قولهم : أعني بقوله : – عيسى – إشارة إلى البشرية المأخوذة
من مريم الطاهرة ؛ لأنه لم يذكر الناسوت
هاهنا اسماً للمسيح ، إنما ذكر عيسى فقط .
فإنه يقال لهم : عيسى هو المسيح بدليل قوله تعالى {إنما المسيح عيسى بن
مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح
منه .. الآية} و قوله تعالى {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ..
الآية } فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله و إنما هو ابن مريم ، والذي هو ابن من مريم
هو الناسوت ، و أنه ليس إلا رسول .
ثانياً : قولهم : ( و قد يبرهن أيضاً – أي عقيدتهم في المسيح من أنه إله و ابن
إله – بما ذكره القرآن عن المسيح من أن
الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا نحن معشر النصارى : إن كلمة
الله الخالقة الأزلية حلت في مريم ، واتحدت بإنسان كامل ) . نقلاً عن الجواب الصحيح لابن
تيمية ( 2/294 ) .
فيقال لهم
: أما قول الله في القرآن فهو حق ، و لكن ضللتم
في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء ، وما بلّغوه عن الله
و ذلك أن الله تعالى قال : {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة من
اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ، و يكلم الناس في
المهد و كهلاً و من الصالحين ، قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، قال كذلك
الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }[آل عمران/45-47 ] .
ففي هذا
الكلام وجوه تبيّن أنه مخلوق ، ليس هو ما يقوله النصارى ، منها : أنه قال
( بكلمة منه ) و قوله : ( بكلمة منه ) نكرة في الإثبات ، يقتضي أنه كلمة من
كلمات الله ، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى .
و منها :
أنه بيّن مراده بقوله ( بكلمة منه ) أنه مخلوق ، حيث قال {كذلك الله يخلق ما يشاء ، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }.
و قال في
الآية الأخرى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون } . وقال تعالى أيضاً {ذلك عيسى بن مريم قول
الحق الذي فيه يمترون ، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما
يقول له كن فيكون } .
فهذه ثلاث
آيات في القرآن تبيّن أنه قال له ( كن ) فكان ،
و هذا تفسير كونه ( كلمة منه ) .
و قال (
اسمه المسيح عيسى بن مريم ) فأخبر
أنه ابن مريم و أخبر أنه وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ، و هذه كلها صفة
مخلوق و الله تعالى و كلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك . و قال تعالى
على لسان مريم {أنى يكون لي ولد } فتبين أن المسيح الذي هو الكلمة ، هو ولد مريم
لا ولد الله سبحانه و تعالى ..
فمع هذا
البيان الواضح الجلي ، هل يظن ظان أم
مراده بقوله : ( و كلمته ) أنه إله خالق ، أو أنه صفة لله قائمة به ، وأن قوله ( و
روح منه ) المراد به : أنه حياته ، أو روح منفصلة من ذاته ؟! أنظر الجواب الصحيح ( 2
/ 299- 301) بتلخيص .
و لنا في
هذا المقام كلمة :
بعد ردود
ابن تيمية رحمه الله على النصارى فيما يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن ، فإذا كانوا يستشهدون بآيات القرآن على أنها من كلام
الله ، أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ،
ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله ، أو العقيدة التي يعتقدها محمد صلى
الله عليه وسلم ، ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع ، فلا
يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك ، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله ، لابد وأن تفهم على ضوء
الآيات الأخرى التي تنفي إلوهية المسيح و
بنوته ، و تكفر من يقول بهما ، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يؤله أمه ، والتي
تثبت كذلك اعترافه ببشريته .
على ضوء
ذلك كله لابد و أن تفسر الآيات التي
وصفت المسيح بأنه كلمة الله و روح منه ، و إلا فهو إيمان ببعض الكتاب و كفر بالبعض
الآخر ، كما هو ديدنهم . و سواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله أو كلام محمد
صلى الله عليه وسلم فلابد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في المسيح من كل ما
جاء في حقه من آيات . و هذا هو ما فعله شيخ الإسلام ، حيث جمع في مناقشتهم بين ما
يستشهدون به من آيات القرآن ، و ما غضوا الطرف عنه من الآيات الأخرى ، و بذلك يكون
التصور الكامل للعقيدة القرآنية في المسيح ، و في نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على
عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة ، و بطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى
- يحتج
النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والإلوهية دون سائر الأنبياء والرسل بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتحدت بالمسيح من
دون سائر البشر ، فكان ابناً بالطبع و ليس ابناً
بالوضع الجواب : إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر ؛ لأن سائر
البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات ، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم
علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ، و خلقوا من ماء الأبوين ( الأب والأم ) .
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل ، بل ما نفخ روح القدس في أمه حبلت به ، و قال
الله له ( كن ) فكان ، و لهذا شبهه الله بآدم في قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فإن آدم عليه السلام خلق من تراب و ماء فصار
طيناً ، ثم أيبس الطين ، ثم قال له : ( كن ) فكان بشراً تاماً بنفخ الروح فيه ، و
لكن لم يسم كلمة الله ؛ لأن جسده خلق من التراب والماء ، و بقي مدة طويلة يقال
: أربعين سنة ، فلم يكن خلق جسده إبداعياً في وقت واحد ، بل خلق شيئاً فشيئاً ، و
خلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة ، وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده
خلقاً إبداعياً بنفس نفخ روح القدس في أمه ، قيل له : ( كن ) فكان له من الاختصاص –
بكونه خلق بكلمة الله – ما لم يكن لغيره من البشر . أنظر الجواب الصحيح ( 2/166) .
- يقول ابن
تيمية : إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني
آدم ، و قالوا : ( إنه إله تام وإنسان تام ) ، و ليس فيه من الإلهية شيء فما بقي -
مع هذا – يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه .
فلو قال
القائل : إن موسى بن عمران كان هو الله ، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر و قد سماه
الله في التوراة إلها لهارون و لفرعون .
انظر سفر الخروج (4 :16 ، 7 :1 ) . والجواب الصحيح ( 3/174) .
ثم يقول :
والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح قد وجدت لغير المسيح ، ولو قدر أن المسيح
أفضل من بعض أولئك ، فلا ريب أن المسيح عليه السلام أفضل من جمهور الأنبياء ، أفضل
من داود وسليمان و أصحاب النبوات الموجودة عندكم ، و أفضل من الحواريين ، لكن مزيد
الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة ، كفضيلة إبراهيم وموسى و محمد صلوات
الله عليهم و سلامه ، و ذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل ، كما قال تعالى {ما
المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر
كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } و قال تعالى { و قال المسيح يا بني
إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه
النار و ما للظالمين من أنصار } .
وجماع هذا القول : إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم و يدّعون اختصاصه به من
كونه ابناً لله و كونه مسيحاً و كون الله حل فيه
، أو ظهر أو سكن أو أظهر المعجزات على يديه .. كل ذلك موجود عندهم في حق غير
المسيح ، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو
الله أو ابن الله بل قد عرف – باتفاقهم واتفاق المسلمين – أن المراد بتلك
الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته ، و هداه و نوره ومثاله العليّ في قلوب عباده
الصالحين .
و الحمد
لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
كتبه : أبو
عبد الله الذهبي
====================================================
بارك الله فى علماء المسلمين فى حجة الأسلام ابن تيمية الذى علمنا كيف
نفند ونناظر وندفع الحجة بالحجة والأستلال السليم
وليس القياس الفاسد والتأويل الباطل