الكتاب
الفضيحة!(2)
"مقدمة فى فقه اللغة العربية"؟
أم فى الجهل والحقد والبهلوانية؟
د. إبراهيم عوض
الموقع والمدونة:
http://ibrawa.coconia.net/index.htmhttp://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
ولقد
وقعت فى الكتاب أخطاء جمة رهيبة تدل على أن معرفة الدكتور لويس بموضوع كتابه وكذلك
بلغة العرب معرفة ضحلة تماما. وسوف نحاول فيما يلى من صفحات أن نستعرض بعض هذه
الأخطاء، بعضها فقط: ولنأخذ أولا عنوان كتابه: "مقدمة فى فقه اللغة
العربية"، ونتساءل: ما معنى "فقه اللغة"؟ إن الكتاب كله من أوله
إلى آخره لا يتعرض من اللغة العربية إلا لجانبها الصوتى، وفى مجال واحد من مجالات
الصوتيات، ألا وهو تحول نطق الحروف من صوت إلى صوت بغية القول بأن ألفاظ اللغة
العربية جميعها تقريبا مستقاة من اللغات الأخرى. وهذا كل ما هنالك، وكان الله يحب
المحسنين! ومع ذلك فإنه يأنس فى نفسه التهور الكافى لعَنْوَنَة كتابه بهذا العنوان
البراق الذى يحسب من يقرؤه أن تحت القبة شيخا، على حين نعرف أنه ليس هناك إلا ما
دفنّاه معا! إن فقه اللغة يشمل علم الأصوات وعلم الصرف وعلم النحو وعلم المعاجم،
بيد أن كتاب الدكتور لويس لا يتناول من كل ذلك إلا الصوتيات، ومن جانب واحد ليس
إلا، ودعنا من أنه لم يتبع مناهج العلماء مؤثرا عليها أساليب أخرى لا تمت للعلم
بصلة. والغريب أن يذهب رغم ذلك فيزعم أنه قد أتى فى كتابه هذا الضحل بما لم تأت به
الأوائل ولا الأواخر، إذ أخذ يختال ويُدِلّ بعلمه الذى يعرفه كل أحد له أدنى اتصال
بالدراسات اللغوية قائلا إن فقه اللغة بفروعه الكذا والكذا قد عرفته أوربا منذ
القرن التاسع عشر وإنه يريد أن يطبق هذا الكلام على اللغة العربية، وكأن الأساتذة
العرب الكبار المتخصصين فى ذلك المجال فى العصر الحديث ويؤلفون فيه الكتب
والدراسات الرصينة منذ عشرات السنين كانوا يقشّرون بصلا طول الوقت. ودعنا من فطاحل
علمائنا القدامى الذين سبقوا الغرب بقرون وتعلم الغرب على أيديهم أيام أن كنا
متقدمين وكانوا متخلفين بل متوحشين. وهو، فى هذا، يذكرنا بالريفى الساذج الذى ذهب
إلى المدينة لأول مرة واطلع هناك على بعض مظاهر الحضارة وآلاتها فنسى نفسه وشرع،
كلما جلس إلى أحد من أهل الحَضَر، يشرح له أصول الحضارة وأدواتها ويفيض فيما يعرفه
كل حَضَرِىّ لأنه من أَوَّلِيّات الحضارة، غير دارٍ أن ما يظنه العِلْمَ
اللَّدُنِّىَّ ليس إلا قشورا سطحية لا تساوى عند العالِمين شيئا.
والواقع
أن الدكتور لويس يتصور العلم على أنه برميل موجود فى دماغه جاهز، وما عليه إلا أن
يمد المغرفة فيه فتخرج بما يريد فيصبها فى الأطباق والصحون (أى الكتب والمقالات)
للقراء، ناسيا أن رأسه لا يسع كل شىء ولا يستطيع أن يستوعب كل شىء، وأنه لا يوجد
إنسان يعرف كل شىء، وحتى لو كان يعرف شيئا من الأشياء معرفة جيدة وأراد أن يكتب
فيه كتابة علمية فعليه التثبت منه بالرجوع إلى الكتب والدراسات والمعاجم
والموسوعات حتى يضمن أنه لم يشطّ أو يَنْسَ مثلا. وعلى أساس من هذا التفكير المهلك
لصاحبه والمعرّضه للفضائح نجده يفسر "القوارير" بأنهم
"الأطفال" (ص 184). كيف كان ذلك؟ البركة فى النظرية البرميلية! لقد ذكر
ابن منظور الأصلى السليم لا ابن منظور القبطى التقليد أن "القارورة: واحدة القَوارير من الزُّجاج. والعرب تسمي
المرأَة: القارورة، وتكنِّي عنها بها. والقارُورُ: ما قَرَّ فيه الشرابُ وغيره،
وقيل: لا يكون إِلا من الزجاج خاصة. وقوله تعالى: قَوارِيرَ قواريرَ من فضة، قال
بعض أَهل العلم: معناه أَوانيَ زُجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير. قال ابن سيده:
وهذا حسن... والقارورة: حَدَقة العين، على التشبيه بالقارورة من الزجاج لصفائها
وأَن المتأَمّل يرى شخصه فيها... ابن الأَعرابي: القَوارِيرُ شجر يشبه الدُّلْبَ
تُعْمَل منه الرِّحالُ والموائد. وفي الحديث أَن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال
لأَنْجَشةَ وهو يَحْدُو بالنساء: رِفْقًا بالقَوارير! أَراد، صلى الله عليه وسلم،
بـ"القوارير" النساء. شبههن بالقوارير لضعف عزائمهن وقلة دوامهن على
العهد، والقواريرُ من الزُّجاج يُسْرِع إِليها الكسر ولا تقبل الجَبْرَ. وكان
أَنْجَشَةُ يحدو بهن رِكابَهُنَّ ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن، فلم يُؤْمَنْ
أَن يصيبهن ما يسمعن من رقيق الشعر فيهن أَو يَقَعَ في قلوبهن حُداؤه، فأَمر
أَنجشَةَ بالكف عن نشيده وحُدائه حِذارَ صَبْوَتِهن إِلى غير الجميل. وقيل: أَراد
أَن الإِبل إذا سمعت الحُدَاء أَسرعت في المشي واشتدت فأَزعجت الراكبَ فأَتعبته،
فنهاه عن ذلك لأَن النساء يضعفن عن شدة الحركة". فهل رأى القارئ الكريم فى كلام هؤلاء العلماء أن
"القوارير" فى أى معنى من معانيها هى الأطفال؟ أترك لكم التعليق على
ذلك!
فهذا
أولا، وبعد "أولا" تأتى بطبيعة الحال "ثانيا"،
و"ثانيا" هنا هى ما قاله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى كلامه
عن جذر كلمات "كور" و"صنم" و"جلّة"
و"قلّة" فى اللغة العربية والعامية المصرية، وهو (كالعادة التى تعودناها
منه) جذر من لغة هندوأوربية فى القديم أو فى الحديث لا وجود له فى كثير من الأحيان
فى أية لغة رغم كل ما يمارسه "أستاذنا الدكتور لويس عوض" من بهلوانيات
لم أر نظيرا لها من قبل، بل هو جذر يفترضه افتراضا وهو جالس منجعصا على المصطبة،
وهات يا فتاوى. لكننى لن أتناول هنا إلا شيئا واحدا هو زعمه الجاهل أن كلمة
"كرة" (التى يطلب من القارئ أن يقارن بينها وبين "كورة" فى
العامية المصرية) "كان معناها الأصلى لا يحمل فقط معنى الاستدارة الكروية،
ولكن يحمل أيضا معنى تشكيل الطين والصلصال لعمل "الصنم"
و"الصورة" على عجلة الفخّارين (قارن "جلة" العربية
و"قلة" العامية المصرية)" (ص 191). ترى، وأستحلفكم بالله أيها
القراء الشرفاء أن تصدقونى القول، هل رأيتم قط أو سمعتم أو حتى تخيلتم أن الأصنام
تُصْنَع على عجلة الفخارين؟ لماذا يا أستاذنا الدكتور؟ أأصنام هى أم قُلَل قِنَاويّة؟ ومتى كانت الأصنام تصنع من الفخار؟ يا رجل، حنانيك بنفسك،
ولا تجعلها ملطشة لكل رائحٍ أو غادٍ! ثم ما حكاية الجلّة التى تصنع على عجلة
الفخارين؟ وأية جلّة يا ترى؟ أهى الروث (الجَِلّة) الذى ينزل من مؤخرة البهائم؟
والله إننا لا نستطيع أن نشاركك هذه الخبرة التى لم يخبرها أحد من البشر من قبل
ولا سيخبرها من بعد، اللهم إلا إذا كان الزمان يدخر لنا مفاجأة لا تخطر على البال
ويهبنا عباقرة مثلك يفتحون فتحا فى عالم الجلّة! أم هى القفّة (الجُلّة) التى يضع
المصريون فيها الغلال والدقيق والتمر والفول والحمص والبذور وتُصْنَع من الخوص؟
الواقع أن هذه أدهى وأضلّ، وتحتاج هى أيضا إلى عبقرى جِلاّوىّ من نفس الطراز، إذ
مبلغ علمنا القاصر أن الخوص لا يشكَّل على عجلة الفخارين
ولا على عجلة غير الفخارين!
ثم ما معنى
القول بأن كلمة "القلة" عامية مصرية؟ معناه طبعا هو أنها ليست عربية، على الأقل: بهذا النطق أو بهذا المعنى؟ لكن
طلَع نَقْبُك (ككل مرة) على شونة، وضاع جهدك الذى بذلته طول الليل فى نقب الجدار
على الفاضى وخرجت من المولد (يا ولداه!) بلا حمّص أو حتى حَبّ العزيز الذى
الرُّبْعة منه بقرش! سأتركك وأترك السادة القراء مع هذا النص من معجم "محيط
المحيط" لصاحبه بطرس البستانى (النصرانى ليكون أبلغ رد عليك وليعرف القراء أن
العلم والبهلوانية أمران متعاكسان لا يتلاقيان ولا يتفاهمان حتى لو اتحد الدينان
بين العالم والبهلوان: "القُلَّة: الحُبُّ
العظيم. وقيل: الجَرَّة العظيمة. وقيل: الجَرَّة عامة. وقيل: الكُوز الصغير،
والجمع قُلَل وقِلال. وقيل: هو إِناءٌ للعرب كالجَرَّة الكبيرة. وقال جميل بن معمر
:
|
وشَرِبْنا الحَلالَ من قُلَلِهْ |
وقِلال هَجَر: شبيهة بالحِبَاب. قالَ حسان:
|
وقد كان يُسْقَى في قِلالٍ وحَنْتَمِ |
وقال الأَخطل:
|
مَتْنَيْه
حَمْلُ حَناتِمٍ وقِلالِ |
وفي الحديث: "إِذا بلَغ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل نَجَسًا"، وفي
رواية: "لم يحمِل خَبَثا". قال أَبو عبيد في قوله "قُلَّتين": يعني هذه الحِبَاب
العِظام، واحدتها قُلَّة، وهي معروفة بالحجاز، وقد تكون بالشام. وفي الحديث في ذكر
الجنة وصِفَة سِدْرة المُنْتَهَى: "ونَبِقُها مثل قِلال هَجَر". وهَجَر:
قرية قريبة من المدينة، وليست هَجَر البحرين، وكانت تُعْمَل بها القِلال. وروى شمر
عن ابن جريج قال: أَخبرني من رأَى قِلال هجر: تسع القُلَّة منها الفَرَق. قال عبد
الرزاق: الفَرَق أَربعة أَصْوُع بصاع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن
عيسى بن يونس قال: القُلَّة يُؤْتَى بها من ناحية اليمن تَسَع فيها خمس جِرار أَو
سِتًّا. قال أَحمد بن حنبل: قدر كل قُلَّة قِرْبتان. قال: وأَخشى على القُلَّتين
من البَوْل، فأَما غير البَوْل فلا ينجّسه شيء. وقال إِسحق: البَوْل وغيره سواء
إِذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجسه شيء. وهو نحو أَربعين دَلْوًا أكثر ما قيل في
القُلَّتين. قال الأَزهري: وقِلال هَجر والأَحْساء ونواحيها معروفة تأْخذ القُلَّة
منها مَزادة كبيرة من الماء، وتملأُ الرواية قُلَّتين. وكانوا يسمونها: الخُرُوس،
واحدها خَرْس، ويسمونها: القلال، واحدتها قُلَّة". ومن هذا النص نعرف بكل
وضوح أن "القلة" بهذا اللفظ، وكذلك بالمعنى الذى نعرفه فى مصر، كانت
معروفة لدى العرب منذ قديم الزمان، وعلى أنواع متعددة، ووردت فى الأحاديث النبوية
وفى كتب الفقهاء الأوائل. ترى ماذا يريد "أستاذنا الــ... إلخ" أكثر من
ذلك كى يعرف أنه جاهل باللغة التى يفتى فيها "على أذنه" دون احتشام من
علم أو منهج ودون استعداد للموضوع وكأنه ذاهب لشراء شروة طماطم من سوق القرية؟ لا
يا دكتور، هذا عيب! واضح أن "العلقة" التى أعطاكها المرحوم محمود شاكر
ووضعك فيها فى الفلقة ولهلب أخمص قدميك بالخيزرانة لم تُحَوِّق فى بدنك! ترى ماذا
كان ينبغى للرجل أن يصنعه معك حتى يؤثر تعليمه فيك؟ آمنّا بالله ربا، وبالإسلام
دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وبــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" بموضوع كتابه
هذا جهولا!
ونأتى
إلى "ثالثا" حيث نجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" (كما يحرص
بعض الدراويش المتواجدين أن يلقبوه) يظن أن قوله تعالى: "إِرَم ذات
العماد" إنما هى أبنية تقام، وليست هى القوم الذين أقاموا الأبنية! لنسمع ما
يقول أستاذنا الدكتور: "وفى كلام العرب عن تاريخهم الأسطورى أن مكة والحجاز
بعامة قبل أن ينزل بها العرب كان يسكنها قوم يسمون: "العماليق" فى
الجاهلية الأولى. وفى اسم "عماليك" عناصر فونوطيقية من "عمو"،
فإن كانت هذه الصلة الاشتقاقية قائمة استخلصنا أن هذا "الخازو"
و"العمو" انتشروا بعد خروجهم من مصر فى المنطقة كلها من الحجاز إلى أرض
الكنعانيين، وأنهم كانوا شعبين: شعب من "الكاسى" أيا كان هؤلاء، وشعب من
"الأراميين" أو "العرب" أو "أولاد العمو" أو
"العمرو" أو "العرمو" أو "الأرمو" (الذين أقاموا
إرم ذات العماد؟")" (ص 271). إلى هذا الحد يتدهدى الدكتور لويس فى العلم
والفهم، ثم تسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يتصدى للكلام فى القرآن ولغة القرآن،
وكأننا نلعب "جحشة الجرن"! يقول الله تعالى: "ألم تر كيف فعل ربُّك
بعاد* إِرَمَ ذات العِمَاد* التى لم يُخْلَق مثلُها فى البلاد* وثمودَ الذين جابوا
الصخر بالواد* وفرعونَ ذى الأوتاد* الذين طغوا فى البلاد* فأكثروا فيها الفساد*
فصب عليهم ربك سَوْطَ عذاب؟* إن ربك لبالمرصاد". وواضح من الآيات أن
"إِرَم" هى الناس، وأى حمار يفهم ذلك بدلالة مجيئها بدلاً من
"عاد"، وكذلك بدلالة عَطْف "ثمود" و"فرعون" عليها،
وكل هؤلاء ناس، وبدلالة قوله سبحانه إنه أنزل عليهم (بما فيهم إرم) عذابا رهيبا،
والعذاب لا ينزل على المبانى يا "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، بل على البشر،
لأنه ليس عندنا فى الإسلام مثلا تينة تُلْعَن فتَيْبَس لخلوّها من الثمر الذى نحتاج إلى أكله بسبب قرصة الجوع رغم
أن الآلهة لا تجوع ولا تحتاج إلى طعام أو شراب! ذلك أن التينة لا تشعر ولا تفهم
ولا ترتكب من ثم ذنبا تعاقب عليه. ومثلها فى ذلك المبانى ذات العماد التى لم
يُخْلَق مثلها فى البلاد والتى ظننتَها، لقلة بضاعتك من العلم، هى نفسها إِرَم ولم
تجد غرابة فى معاقبتها لتعوّدك على معاقبة غير المسيئين. ثم يقول بعض الدراويش
الذين أخذتهم الجلالة إنك "أستاذنا الدكتور لويس عوض". أَخَفْتَنى يا
درويش منك له!
ونبلغ
"رابعا" ليطلع علينا كالعادة (وكالعادة أيضا يطلع نقبه على شونة) "أستاذنا الدكتور لويس عوض" متفلسفا متحذلقا، بعد أن لف ودار واستعمل لغة الأَعِيّاء
قائلا إنه قد لاحظ "أن الصفات العربية التى على وزن "أَفْعَل" لا
علاقة لها بصفة "أَفْعَل التفضيل". إنما هى صفات تشترك جميعا فى أن
صدرها يبدأ بالهمزة، وهذا القالب مألوف فى تكوين الصفة العربية. ولكن هذه الألفاظ
المتصلة فى معانيها تشترك جميعا فى ظاهرة واحدة، وهى الدلالة على سلب البصر أو
فقدانه بطريقة أو بأخرى: مثلا "الأكمه" فى لسان العرب فاقد البصر منذ
ولادته، و"الأعشى" العاجز عن الإبصار فى ضوء الشمس أو أى ضوء شديد،
و"الأعمش" فى مصر ضعيف البصر جدا، وربما كانت مركبة من "أعمى"
و"أعشى" فخرجت منها "أعمش"، و"الأعور" فاقد إحدى
العينين، و"الأحول" طائش إحدى العينين. واجتماع هذه المفردات البصرية
على معنى سلب البصر بطريقة أو بأخرى يدل على أن النحو العربى عرف ما عرفته اللغات
الهندية الأوربية، على الأقل منذ اليونانية واللاتينية من النفى بالأداة "أ:a " أو "أب:ab " أو "أن: an"، تدخل على أول الكلمة فتنفيها أو تسلب معناها أو تدل على الانحراف فى مفهومها، كما فى
قولهم: "مورال: Moral":
أخلاقى، و"أمورال: Amoral":
لاأخلاقى، و"إيسثزيا: Aesthesia":
شعور، و"أنسيثزيا: Anaesthesia":
بمعنى "تخدير"، أو حرفيا: "فقدان الشعور". وهكذا يكون المعنى
الحرفى لـ"أعمى" و"أكمه": أ+ عَمَى، وأ+ كَمَه": مَنْ لا
عينين له" (ص 343- 344).
والآن
تعال أيها القارئ الكريم نقف قليلا أمام هذا النص القصير لأريك العجب العاجب
والجهل الجاهل والكلام الذى لا رأس له ولا ذيل مما لا يصدر إلا عن أفواه العباقرة
الذين يتكلمون وهم غائبو الذهن بسبب فنائهم فى عالم الإلهام. يقول العبقرى الملقب
عند بعض خلق الله بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" إنه "يلاحظ أن
الصفات العربية التى على وزن "أفعل" لا علاقة لها بصفة "أفعل
التفضيل"..."، وهو ما يعنى أن الصفات العربية التى على وزن
"أفعل" لا يمكن أن تكون صفات على وزن بعينه من "أفعل" هو وزن
"أفعل التفضيل"! هل فهمت شيئا؟ إن كنت فهمت شيئا من هذه الهلاوس فأنجدنى
به وحياة والِدَيْك! فهذه واحدة، أما الثانية فهى قوله عن الصفات التى على وزن
"أفعل" وليس فيها تفضيل : "إنما هى صفات تشترك جميعا فى أن صدرها
يبدأ بالهمزة". لكن "أفعل التفصيل" يبدأ هو أيضا والله العظيم
بالهمزة. وهذا هلواس آخر! والثالثة هى قوله إن هذه الصفات تعنى دائما سلب الصفة أو
نفيها. وهذا جهل مبين، فالعبقرى الملقب بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" لا
يعرف ما يعرفه كل طالب فى المرحلة الإعدادية من أن الكلام هنا عن أحد أوزان
"الصفة المشبهة"، ومعروف أن "الصفة المشبهة" لا تجىء دائما
على وزن "أفعل"، بل تجىء أيضا على وزن "فَعِل"
و"فَعْلان" و"فَعِيل" و"فُعْل" و"فَعَل"
و"فَعْل" و"فُعَال" و"فَيْعِل"، وأن صيغة
"أفعل" ليست خاصة بالفقدان وحده، بل تدخل فيها الألوان والمحاسن والعيوب.
والدليل على ذلك الأمثلة التالية، وهى مما وفد على ذهنى عفو الخاطر: "الأزهر
والأحمر والأزرق والأبيض، والأَغَنّ والأَعْيَن والأَغْيَن والأدعج والأوطف
والأحور والأشمّ والأقنى والأَلَفّ والأفْوه والأشدق والأشنب والأقبّ والأغرّ
والأبلق والأجهر والأقرن والأزبّ والأجْيَد والأشعر والأقعس، والأعرج والأبجر
والأبخر والأثرم والأقطع والأجذم والأبرش والأبرص والأبقع والأبهق والأرقش والأعلم
والأقطش والأثرم والأصلم والأصم والأقطع والأملط والأخنف والأعجم والألكن والأخرس
والأدرد والأخنّ والأرسح والأبتر والأرمل والأحمق والأبله والأخرق".
ومع
ذلك فخَلِّنا معه إلى أن تنفقع مرارتنا، فهو يقول إن "النحو العربى عرف ما
عرفته اللغات الهندية الأوربية، على الأقل منذ اليونانية واللاتينية، من النفى
بالأداة "أ:a "
أو "أب:an " أو "أن: an"، تدخل على أول الكلمة فتنفيها أو تسلب معناها أو تدل على الانحراف فى مفهومها، كما فى
قولهم: "مورال: Moral":
أخلاقى، و"أمورال: Amoral":
لاأخلاقى، و"إيسثزيا: Aesthesia":
شعور، و"أنيسيثزيا: Anaesthesia":
بمعنى "تخدير"، أو حرفيا: "فقدان الشعور". وهكذا يكون المعنى
الحرفى لـ"أعمى" و"أكمه": أ+ عَمًى، وأ+ كَمَه": من لا
عينين له"...". وبالله أستحلفك أيها القارئ: هل يعرف النحو العربى النفى
بـ"أن"؟ فلِمَ لَمْ تتحفنا عبقرية سيادته التى لم تلدها ولادة ببعض
الأمثلة؟ بل هل يعرف النحو العربى النفى بـ"أ"؟ فماذا نقول فى الصفات
التى على وزن "أفعل" وتدل على حُسْن أو لون؟ ومرة أخرى خلِّنا معه وتعال
نسأل: كيف تكون الهمزة التى فى أول "أفعل" دليلا على النفى والفقدان كما
يزعم، وفى ذات الوقت تكون الهمزة فى أول "أعمى" و"أكمه" دليلا
على العمى والكمه؟ أليس المفروض بناء على هذه الهلاوس الصرفية التى لم ترد فى كتاب
ولا كشكول ولا حتى نوتة موسيقية أن يكون معنى "أعمى" هو المنفىّ عنه
العَمَى، ومعنى "أكمه" المنفىّ عنه الكَمَه، أى المبصر فى الحالتين؟
أرأيت أيها القارئ كيف تكون العبقرية؟ ربنا، لا تؤاخذنا بما فعل الجهلاء منا بنا!
وفى
هذا السياق (ص 345) يزعم الجهل الغليظ أن الأعشى هو الذى لا يستطيع أن يواجه ضوء
الشمس، مع أن الأعشى هو من لا يستطيع الإبصار ليلا لا نهارا، أو إذا أردت التوسع
فهو الذى لا يستطيع الإبصار لا ليلا ولا نهارا. وعلى هذا فما قاله جنابه العالى عن
"الأعشى" لا يساوى شَرْوَى نقير! ومثل ذلك فى الدلالة على الجهل قوله إن
تكرار الفاء فى كفيف للتكثير، وهذا غير صحيح، بل التكثير فيما لو قلنا:
"كفَّف"، أما الفاءان فى "كفيف" فهما الفاءان الموجودان فى
الفعل "كَفَّ"، وليس فى "كَفَّ" تكثير بأى معنى. وهو ما يبين
لنا أنه يعتمد على فتافيت علم وعلى حذلقة وتنطع وغرور يخيِّل له أنه لا يوجد من
يساويه فى العلم كما قال مرة لنبيل فرج ولأحد الأصدقاء المذيعين! لقد قرأ، وهو
طالب فى المدرسة ذات يوم، أن تضعيف الفعل الثلاثى "قد" يدل على التكثير،
ومعروف أن التضعيف هو تكرار الحرف، فلما رأى كلمة "كفيف" ووجد أن حرف
الفاء فيها مكرر مرتين ظن أن ذلك هو التضغيف الذى يدل على التكثير، ونسى أن
المسألة إنما تتعلق بالفعل الثلاثى حين يكرَّر حرف من حروفه، وأنها إنما تتعلق به
فى بعض الحالات لا فيها كلها. ونحن هنا لسنا مع فعل ثلاثى بل مع صفة
"فَعِيل" من "كَفَّ" كما قلنا. وحتى لو أردنا أن نخدع أنفسنا
لنقيم له العذر وقلنا إنه ربما راح ذهنه إلى صيغة "فعيل" التى للمبالغة
واختلط الأمر عليه فاضطرب بين التكثير عن طريق التضعيف والتكثير عن طريق صيغ
المبالغة، فالجواب هو أن "فعيل" هنا هى بمعنى "مفعول" ولا
تفيد تكثيرا بأى حال، مثل "جريح" و"قتيل" و"صنيع"
و"كسير" و"عصير". أى أن الأسداد مضروبة على عبقريّنا من أى
اتجاه أراد أن يخرج منه، أو أردنا نحن التصدق عليه بإخراجه منه!
ومن
قلة بضاعته من العلم أيضا تأكيده أن البحر "الأحمر" قد سُمِّىَ هكذا على
اسم "الحميريين"، وهذا نص كلامه: "وقد سمَّت اليونان
الحِمْيَرِيّين: "الهومريين:Homerites
". ولا شك أن البحر الأحمر قد اتخذ اسمه من اسم
"حِمْيَر" أيام سطوتها فى القرن الأول قبل الميلاد. كذلك فإن اسم
"إريتريا:Erithrea "
يعنى باليونانية: "الحمراء". وقد كانت إريتريا جزءا من مملكة سبإ وذو
ريدان" (ص 46، وانظر كذلك ص 561). هذا ما قاله، أما نحن فأول شىء نتعرض له هو
هذا الخلط بين الحميريين وإريتريا والبحر الأحمر، إذ كيف فاته أن تسمية
"البحر الأحمر" بهذا الاسم لم تُعْرَف لدى العرب، فضلا عن أن تنتشر، إلا
بعد الإسلام بعدة قرون؟ ذلك أن هذه التسمية لم تقابلنى على كثرة تنقيرى واستقصائى
إلا مرات قليلة، وفى بعض الكتب التراثية المتأخرة لا غير: منها مرة عند العماد
الأصفهانى (ق 12م) فى كتابه: "خريدة القصر" لدن حديثه عن دولة آل
الصليحى فى الجزيرة العربية، ومرة فى "أخبار الزمان" للمسعودى فى سياق
تعرضه لما أفاء الله على حام بن نوح من البلاد والبحار، ومرة فى "جماهر"
المقريزى وهو يتحدث عن غرق فرعون فى ذلك البحر، ومرة عند الجبرتى أثناء تعرضه
لدعاوى الفرنسيس فى أنهم إنما أتوا إلى مصر ليرتقوا بها وينظموا ملاحتها بحيث يكون
لها طريقان: طريق إلى البحر الأسود وطريق إلى البحر الأحمر جميعا. ومع ذلك
فالمقصود بالبحر الأحمر عند الجبرتى غير واضح تماما لاقترانه بالبحر الأسود من
جهة، ولأن مصر من جهة أخرى لم تكن محرومة فى أى يوم من الأيام من الوصول للبحر
الأحمر حتى يوصلها الفرنسيس إليه، إذ هى تطل عليه وتلتصق به. على أن أولئك الكتاب قد استعملوا مع ذلك اسم "بحر
القلزم" أيضا. أى أن العرب القدماء قد ظلوا طوال تاريخهم تقريبا يستعملون اسم
"بحر القلزم، اللهم إلا القليلين منهم فى العصور المتأخرة. بل إن من بين
العلماء العرب فى العصر الحديث من يستخدم تسمية "بحر القلزم" كرفاعة
الطهطاوى، الذى استعمل هذا الاسم أولا ثم شفعه بالتسمية الحالية. هكذا: "بحر
القلزم المسمَّى: البحر الأحمر" (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ تحقيق د.
مهدى علام ود. أحمد أحمد بدوى ود. أنور لوقا/ وزارة الثقافة والإرشاد القومى
بالإقليم المصرى/ 1958م/ 71). ولا يزال بعض المؤلفين العرب حتى الآن يستعملون
التسمية العربية القديمة عند كلامهم عنه فى تاريخ العرب خَلْقًا للجو التاريخى أو
مُجَرَّدَ استطرافٍ لذلك الاسم القديم.
ولو
كان كلام الدكتور لويس يستحق أن يكون محلا
للمناقشة، أفلم يكن المنتظر أن يسميه العرب: "البحر الحِمْيَرِىّ" نسبة
إلى "حِمْيَر" كما قالوا فى "البحر الأبيض": "بحر
الروم"؟ لكنهم، كما قلنا، لم يكونوا يسمونه تقريبا إلا بــ"بحر القلزم"
مما لا علاقة له لا بكلمة "حمير" ولا بأى شىء من مادة "حمر"
البتة. و"القلزم" مدينة مصرية كان تطل على ساحل ذلك البحر قريبا من
السويس، وما كان العرب ليستعيضوا بها عن كلمة "حمير" لو كان هناك أدنى
شبهة فى وجود صلة بين اسم ذلك البحر واسم هؤلاء القوم اليمانين، على الأقل قياسا
على تسميتهم "البحر الأبيض" بـ"بحر الروم". ثم هل لكلمة
"حمير" أصلا صلة باللون الأحمر؟ ولماذا كان اللون الأحمر هو اللون
الوحيد الذى اشتُقَّتْ منه هذه الصيغة النادرة الوجود فى لغة العرب، صيغة
"فِعْيَل"؟ ذلك أنه ليس لدينا "زِرْيَق" أو
"خِضْيَر" أو "صِفْيَر"
ولا أىّ "فِعْيَل" من الألوان الأخرى الباقية، فلماذا
"حِمْيَر" إذن وحدها؟ كذلك لماذا لم يظهر معنى الحمرة فى تسمية الإغريق
لهم كما رَاعَوْا هذا فى "إريتريا" حسب كلام الدكتور إن كان لنا أن نركن
إلى ما يقول؟ صحيح أن ابن الكلبى قد ذكر أن حِمْيَر لُقِّب بذلك لأنه كان يلبس حُلَلاً
حُمْرًا، لكن أصحاب المعاجم العربية يضعّفون هذا التوجيه. على أية حال فالحق، كما
قلنا قبلا، أن تسمية "البحر الأحمر" هذه لم تعرف إلا عند المتأخرين من
الكتاب العرب، وكان اسمه قبل ذلك لديهم، مع استمراره أيضا بعد ذلك إلى جانب اسم
"البحر الأحمر"، هو "بحر القلزم" نسبةً إلى مدينة "القلزم"،
وهى (كما جاء فى "الروض المعطار" لابن عبد المنعم الحميرى) "مدينة
من أعمال مصر على ساحل البحر، وبها يعرف البحر فيقال: بحر القلزم، وبها المراكب
للتجار. وسُمِّيَ: "القلزم" لأنه في مضايق بين جبال، والقلازم: الدواهي
والمضايق. وهي مدينة صغيرة متقنة البناء ليس فيها زرع ولا شجر، وإنما تمار من أرض
مصر. ويضيق عندها البحر حتى يأتي كالنهر، ويمر كذلك دون مدينة القلزم إلى الشمال
عشرة أميال وينقطع. وشُرْب أهل مدينة القلزم من جزيرة هناك ومن السويس، يجلب على
الظهر، وهي بئر بطريق مصر على ثلاثة أميال من مدينة القلزم".
وقد
استخدم الدكتور لويس نفسه تسمية "بحر القلزم" فى كتابه هذا (ص 430)،
فكيف لم يتنبه إذن إلى ضَعْف ما أتحفنا به من تأكيدٍ بل من قَطْعٍ وجَزْمٍ لا يقوم
على أى أساس سوى أنه نظرية ضعيفة من النظريات التى بحاول العلماء أن يفسروا بها
اسمه؟ وهذه النظرية لا تظهر بين نظيراتها إلا على استحياء حسبما يمكن القارئ أن
يتحقق من المقال الإنجليزى الذى خصصته "الويكيبيديا" (الموسوعة المشباكية) لذلك البحر بعنوان "The Red Sea" (أما المقال الفرنسى فيخلو من التعرض لاسم البحر، فى الوقت
الذى لم يُكْتَب حتى تاريخه: 12/ 10/ 2006م مقال عن هذا البحر باللغة العربية)،
وبخاصة أن القائلين بتلك النظرية على ضعفها واستحيائها يشيرون إلى أن كلمة
"حمير" تدل على اللون الأحمر، وهو ما ضعّفته المعاجم العربية
كـ"لسان العرب" و"تاج العروس"، اللذين يحتلان القمة فى قائمة
تلك المعاجم. كما أن الحميريين لا يمثلون كل تاريخ اليمن، فضلا عن أن اليمن إنما
ترتبط فى الأذهان ببوغاز باب المندب وحده أكثر من ارتباطها بالبحر الأحمر جميعه،
إلى جانب أنها ليست أكبر الدول المطلة على ذلك البحر، وإلا فأين مصر مثلا والحبشة؟
فلماذا يسمى البحر الأحمر باسم مأخوذ من اسم بعض حكامها دون بقية الدول المطلة
عليه والتى تساحله لمسافات طويلة، على عكس اليمن التى تنزوى عند فتحته الجنوبية
مطلة على بوغاز باب المندب كما أشرنا؟ وأين هى الدول المطلة على ذلك البحر التى
ترضى ذلك؟ أما تسميته: "بحر القلزم" نسبةً إلى مدينة مصرية فأمر مفهوم،
إذ كانت مصر ولا تزال أكبر الدول الواقعة على هذا البحر، علاوة على أنها تطل على
جزء طويل جدا من ساحله على عكس اليمن. وهذا لو كان قد سُمِّىَ فى التاريخ القديم
فعلا بــ"البحر الأحمر"! ثم إن د. لويس عوض، بعد ذلك كله، لا يشير إلى
المصدر الذى استقى منه ذلك التفسير المتهافت، بل يسوقه وكأنه من بُنَيّات أفكاره
تصورا منه، لقلة اطلاعه، أنه أتى بذِبْحٍ عظيم!
وهناك
نظريات أخرى من بينها أن "The
Red Sea" إنما هى تحريف لــ"The Reed Sea: بحر قصب الغاب"، الذى ورد ذكره فى سِفْر الخروج (وهو
التفسير الذى لم يقدم "The New Bible Dictionary" لمحرره J. D.
Douglas تفسيرا سواه أثناء تناوله لمادة "بحر"، ولا أدرى كيف
يكون ذلك لأنه يستلزم أن تكون اللغة التى حدث فيها اللَّبْس الأصلى مشابِهة للغة
الإنجليزية فى أن الكلمتين فيها متقاربتان هجاء ونطقا، وأن يكون تركيب الكلام هناك
هو ذاته فى الإنجليزية بحيث يأتى الاسم الدالّ على "الغاب" سابقا على
كلمة "بحر" كما تسبق الصفات موصوفاتها فى لغة جون بول وتؤدى نفس مهمة
النعت التى تؤديها تلك الأسماء فى الإنجليزية، أو شىء كهذا على نحو من الأنحاء)،
أو أنها ترجع إلى جبال "إدوم" القريبة ذات اللون الأحمر، أو أنها إشارة
إلى نوع من الفُطْريّات ينمو قريبا من سطح ماء البحر الأحمر ويزدهر لونه الأحمر كل موسم...
إلى آخر ما ورد من تلك النظريات فى المقال المذكور.
كذلك
قرأت فى تعليق منشور بــ"منتديات أنساب أون لاين" تحت عنوان "محطات
جغرافية وإستراتيجية (البحر الأحمر)"
الفقرة التالية: "أشارت المصادر إلى أن الباحثين غير متأكدين من أصل اسمه،
لكن الشائع جدا أن البحر الأحمر سمي بهذا الاسم بسبب نوع من الطحالب التي تكوّن زَبَدًا
بُنِّيًّا يميل للحمرة خلال فترة الصيف، وقد عُرِف عند العرب الأقدمين ببحر القلزم".
و هذا، فى الغالب، هو التعليل الصحيح لتلك
التسمية، وهو ما وجدته أيضا دون أى تفسير آخر معه فى موقع "Eritrea. be"،
إذ قرأت فيه تحت عنوان "The
Red Sea" ما يلى: "The
ويلفت النظر فى "الروض المعطار فى خبر
الأقطار" لابن عبد المنعم الحميرى ذكره لــ"البحر الأسود"، وإن لم
يكن واضحا أى بحر يقصد. ومعنى هذا أنه استخدم تسمية لونية لبحر من البحور، ومن ثم
فلو كان هناك أدنى ارتباط لونى بين "البحر الأحمر"
و"الحميريين" لكان تنبه لهذا وتحدث عنه باعتباره حميريا يعرف لغة الحميريين
وخطهم الـمُسْنَد. كذلك ذكر النويرى "البحر الأسود" فى "نهاية
الأرب" أكثر من مرة، كما ورد ذلك البحر عند القزوينى لدن كلامه عن
"الأندلس" مقصودا به بحر الظلمات، أى المحيط الأطلسى. على أية حال فإن
تسمية "البحر الأحمر" هى تسمية لونية لا نَسَبِيّة، مثلها فى ذلك مثل
البحر الأبيض والبحر الأسود والنيل الأزرق والنهر الأصفر والجبل الأخضر... إلخ.
ثم
إن المسألة رغم ذلك كله لم تنته بعد، إذ قرأت أن
الإغريق كانوا يطلقون على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" (؟)،
على حين يدعوه العبرانيون: "ها- يم"، أي اليَمّ، والرومان: "بحر
ربرب" أو "بحر ربرم" حسبما هو منشور فى موقع "حوار الخيمة
العربية" تحت عنوان "عرب ما قبل الإسلام". وفى مادة "البحر
الأحمر" من "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ أنه
"هو بحر سُوف (خر 10: 19… إلخ )، ويسمي في مواضع كثيرة:
"البحر" فقط (خر 14: 2 و9 و 16 و21 و31، 15 : 1 و4 و8 و19 و21...)"،
وأن "الاسم العبري "يَمّ- سوف" قد أثار الكثير من الجدل حوله، فكلمة
"يَمّ" هي الكلمة التي تطلق على "البحر" أو أي مجتمع للمياه. وإذا أُطْلِقَتْ بدون وصف أو إضافة فقد تعني البحر
المتوسط أو البحر الميت أو البحر الأحمر أو بحر الجليل، بل قد تدل في بعض المواضع
على نهر النيل أو نهر الفرات… وكلمة "سُوف" تعني
"الحَلْفاء"، وهي شجيرات تكثر في المناطق السفلي من النيل والأطراف
العليا (الشمالية) من البحر الأحمر. وقد خبأت أم موسى السَّفَط الذي وضعت فيه
ابنها الرضيع "بين الحلفاء" (خر 2: 3 و5). وحيث إن كلمة "سُوف"
لا تعني "أحمر"، كما أن لون الحلفاء ليس أحمر، اختلفت الآراء حول سبب
تسمية البحر الأحمر بهذا الاسم: فزعم البعض بأنه
سمي بــ"الأحمر" بالنسبة لمظهر الجبال التي تكتنفه من الغرب.
وزعم البعض الآخر أنه سمي هكذا بالنسبة للون المياه الناتج عن وجود الشعاب
المرجانية الحمراء وغيرها من الأعشاب البحرية. ويرجح البعض أن الاسم نشأ أصلاً من
اللون النحاسي الذي يتميز به سكان شبه الجزيرة العربية المتاخمة له من الشرق.
والاسم "يم سوف" (بحر سوف)، وإن كان يطلق على كل البحر، فإنه كان يطلق
بصفة خاصة على الجزء الشمالي الذي لا يُذْكَر في الكتاب المقدس سواه بما فيه خليج
العقبة وخليج السويس اللذان يضمان بينهما شبه جزيرة سيناء". وفى ذات الموسوعة، وفى مادة "بحر" نجد ما يلى:
"ويسمي البحر الاحمر:
"بحر سوف" (ومعني هذا الاسم حرفيا هو "بحر قصب الغاب"- خر 10:
19، عد 14: 25، تث 1: 1، يش 2:10، قض 11: 16، 1، مل 9: 26، نحميا 9: 9، مز 106: 7،
إرميا 49: 21)، كما يسمى: "البحر الأحمر" (أعمال 7: 36، عب 11: 29)، و
"بحر مصر" (إش 11: 15)". لكن ينبغى أن أسارع فأوضح للقارئ أن مصطلح "البحر
الأحمر" فى ذلك الوقت لم يكن يقتصر على البحر المسمى بهذا الاسم الآن، بل كان
يشمل معه بحر العرب وبحر الهند أيضا طبقا لما يخبرنا به "The New
Bible Dictionary"
فى مادة "Red Sea". ألا يرى القارئ معى بعد هذه الجولة الممتعة (التى أعترف وأقر أنها رغم ذلك
لم تشف الصدر تماما لأننا نضرب فى مجاهل الماضى البعيد دون أن يكون بين أيدينا شىء
فى الموضوع كتبه من يعنيهم الأمر من القدماء) ألا يرى أن ما قاله الدكتور لويس عوض
هو تسرعٌ أهوجُ لا يليق بحامل قلم محترم، وجَزْمٌ بالتأكيد دون أن يقدم لنا ما يسوغ
هذا الجزم؟ فما بالك إذا كان الذى يجترح مثل هذه الأخطاء الفاضحة رجلا يقال عنه:
"أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟ أليس هذا أمرا مخجلا؟
كذلك نراه (ص
397) ينطق كلمة "هن" (التى تدل،
فيما تدل، على فرج المرأة) بضم الهاء وتشديد النون (هكذا: "هُنّ").
والصواب هو "هَنٌ"، وإذا أكملوا حروفها ورجعوا بها إلى أصلها الأصيل
قالوا: "هَنَوٌ"، وإن كان بعضهم يشدد النون مع فتح الهاء، وهو قول تذكره
بعض المعاجم فقط على استحياء. وكثير من العرب يعربها كالأسماء الخمسة، فيقولون:
"هذا هَنُوك، ورأيت هَنَاك، ونظرت إلى هَنِيك"، ويسميها النحويين حينئذ:
"الأسماء الستة". ترى أيصح أن يكون الرجل بهذا الضعف المزرى فى لغة القرآن
بحيث يخلط بين اسم فرج المرأة وبين لقب أحد معلقى الكرة المصريين الآن ثم يتصدى
لتلك المهمة المستحيلة، مهمة تتبع اللغات البشرية كلها تقريبا على مدى الدهور
جميعا ومعرفة موضع اللغة العربية على خريطتها على وجه الدقة، وكأنه إله يعرف تاريخ
البشر وكل ما يتعلق بلغاتهم ومسيرة كل لغة منها والعوامل المختلفة التى أثرت فى
هذه المسيرة: اقتصادية كانت أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو بيولوجية أو
عسكرية أو جغرافية أو ذوقية لا يغيب عنه منها شىء؟ تبارك الخلاق فيما خلق، وتبارك
لويس عوض فيما نطق!
والواقع أن
شواهد شِحّة البضاعة العلمية فى هذا الكتاب كثيرة جدا، بيد أننا لا نستطيع أن
نحصيها كلها هنا، وإلا فلسوف نحتاج إلى مجلدات، ومن ثم نكتفى ببعض الشواهد عن
باقيها، وهذا شاهد آخر، إذ ظن عبقرينا الهمام (إلهى يحرسه من العين! قولوا: آمين)
أن كلمة "قُرّة" فى قولنا: "قرة العين" تعنى إنسان العين أو
"النِّنّى" كما يقال فى العامية (ص 401). وهو أمر غريب يدفعنا إلى
التساؤل عن سر كل هذه الجراءة لدى "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى التهجم
برعونة شديدة على مثل ذلك الموضوع الصعب جدا إلى درجة الاستحالة! إن "القُرّة"
ليست جزءا من أجزاء العين كما ظن بعبقريته عبقرينا الدكتور، بل هى تعبير عن الفرح
والسعادة، بسبب رَبْط العرب بين "القُرّ" (أى البرودة) والسعادة، وكذلك
(فى المقابل) بين "السخونة" والتعاسة. ومن هنا قالوا: "سُخْن
العين" بإزاء "قرير العين"، ولو كانت "قرة" اسما لجزء من
العين ما جاءت منها الصفة: "قرير" لأنه لا علاقة بين هذا وذاك. ثم هل
سمع أى واحد منا بمن يقول مثلا: "فلان قُرّة عينه جاحظة"؟ ألا إن ذلك لو
حدث لكانت فضيحة بجلاجل! لكن أستاذنا الدكتور ولا هو هنا! طبعا، أليس عبقريا ملهما
صلى الله عليه وسلم؟ وفى العامية التى يريد جنابه الشريف أن يحلها محل الفصحى
نقول: "عينى عليك باردة"، بمعنى "قريرة"، أى أنا مسرور وسعيد!
لكن ماذا تقول فى عبقرية أستاذنا الدكتور التى تخرّ من جوانبه فلا يستطيع لها حبسا
ولا إمساكا؟ عينى عليك باردة يا دكتورنا!
وإلى القارئ
مثالا آخر ينزّ (لا بل يسيل) تنطعا وسخافة، إذ قال (ص 405) إن كلمة "Loin"
الإنجليزية معناها "عانة"، وهى "الجزء من الجسم حيث يلتقى أسفل
البطن بأعلى الفخذ". والمعروف أن "Loin" معناها
الخصر أو الحقو، أى الموضع المناظر لذلك من الخارج وليس الموضع الذى ذكره. وليس فى
المعاجم الإنجليزية العربية التى عندى (كقاموس إلياس العصرى، وقاموس النهضة
لإسماعيل مظهر، وقاموس أوكسفورد) أن "Loin" تعنى
"عانة"، ولا فى المعاجم العربية الإنجليزية (كقاموس ورتبات، وقاموس
إلياس، وقاموس هانز فير، وقاموس المورد لروحى البعلبكى) أن"عانة" تعنى"Loin". بل لا
يوجد فى القسم الإنجليزى الفرنسى من معجم "Harrap's
New Shorter French & English Dictionary" مثلا أن "Loin" تعنى
"Aine" الفرنسية التى زعم لويس عوض أنها تعنيها والتى
تدل على "العانة" بالمعنى الذى سقناه قبل قليل، ولا فى القسم الفرنسى
الإنجليزى من ذات المعجم أن "Aine" تعنى
"Loin". صحيح أن الكلمة فى حالة الجمع وفى الاستعمال
الشعرى وأسلوب الكتاب المقدس قد تعنى منطقة العورة أو الأعضاء التناسلية، إلا أن
هذا معنى خاص لا يستعمل إلا فى الشعر والكتاب المقدس كما قلنا وعلى سبيل المجاز
وبصيغة الجمع فقط، ثم هو بعد ذلك كله لا يدل على العانة تحديدا، بل تدخل فيه مع
غيرها عرضا. كما أن منطقة العورة لا تقتصر على الجهة الأمامية من منتصف الجسد، بل
تشمل (فيما هو معروف) المنطقة الخلفية كذلك. وأغلب الظن أن معنى الكلمة بصيغة
الجمع فى الكتاب المقدس وفى الشعر قد جاء من أن الإنسان لكى يغطى عورته فعليه على
الأقل أن يلبس شيئا يصل للخصرين ويلتف حولهما (أى المئزر) كما يفعلون فى المجتمعات
البدائية والحارة. ومن هنا جاءت كلمة "Loin-cloth".
المهم أن سيادته قد جرجرنا إلى كل هذا لكى
يتحفنا بما جادت عليه مُوَشْوِشَةُ وَدْعِه وضاربةُ رَمْلِه بأن الألف واللام فى
كلمة "العانة" إنما هما من أصل الكلمة، وذلك بغية أن يدفع بكلمة
"عانة" إلى الأمام قليلا (على طريقة "إِدِّى لزُوبَة زَقَّة")
فتقترب من كلمة "لُويِنْ: Loin" شيئا ما،
وهو ما يعنى أن نقول من الآن فصاعدا: "الألعانة" بدلا من
"العانة" إلى أن نلقى الله يوم القيامة ونبتهل إليه أن يأخذ لويس عوض
أخذ عزيز مقتدر وأن يرينا فيه ساعة (ساعة لا أكثر) لقاء هذا الغثاء والهراء الذى يظل يرمينا به ويبلونا
طوال الكتاب كله، وإنه لمن يعرف مدى علم "أستاذنا الدكتور لويس عوض"
لَبَلاءٌ عظيم! قادر يا كريم! وربنا يستر ولا يقول "أستاذنا الدكتور لويس
عوض": إن "الألعانة" ينبغى أن تكون فى الأصل "قلعانة"،
من "قلع"، أى "خلع" ملابسه ليرينا عانته، وهذا دليل آخر على
أن "العانة" (آسف: الألعانة". آه يانا، يا مَيِّت من الحسرة
وانفقاع المرارة يانا!) هى "لُويِنْ" فعلا! أما كيف كان ذلك؟ فاسأل يا
أخى الكريم بَيْدَبا الهندى الذى لا يعرف شيئا عن التمرهندى رغم أنه هندى، ولا
تظنّ بى الظنون فتحسب أننى هندى!
وإلى القارئ مثالاً آخر على هذا التسرع الأهوج
الذى لا يحترم العلم ولا القراء فيهجم على الموضوع دون استعداد ولا مراجعة، بل دون
الحد الأدنى من المعرفة فيه، وهو قول الدكتور لويس عن أصل كلمة "الذباب"
على طريقته فى إرجاع كل كلمة عربية تقريبا إلى لغة أخرى بغية أن يوقع فى نَفْس
القارئ العربى أن لغته مستعارة وليست أصلية، إلا أن الله يأبى إلا أن يهتك سوأته
العلمية ويكشف جهله المخزى، والله غالب على أمره: "أما جذر "ذبابة"
العربية فهو جذر "Abeille" الفرنسية
بمعنى "نحلة". وهو فى البروفنسالية "أبيثا: Abetha"،
ومصدرها هو "أبيس: Apis" فى
اللاتينية بمعنى "نحلة"... والجذر مصرى قديم نجده فى الفعل:
"عَفَّ" فى العامية المصرية (كما فى التعبير: "عَفَّ الطير"
أو "عَفَّ الدِّبّان" مثلا، بمعنى "حط على الطعام). وفعل
"عَفَّ" لا يستخدم إلا للذباب، وهو من القبطية: "أَفْ" بمعنى
"ذبابة"... حتى "طَيْر" فى العامية المصرية بمعنى
"ذباب" لا أظن أنها من جذر "طار يطير"، وإنما هى صيغة من
"Taon" (كلمة فرنسية أشار إليها الدكتور نفسه قبل
قليل) بمعنى "ذباب الحمير". ومن نفس جذر "أب: Ap"
كلمة "يعسوب" العربية، وكلمة "Wasp"
الإنجليزية، وهما بمعنى "ذكر النحل" أو "دبور" (فى الإنجليزية
الوسيطة "واسبى: Waspe"، وفى
الأنجلوسكسونية "وابس: Waps" أو
"فسبا: Vespa"، وفى
الجرمانية العالية القديمة...، وفى الألمانية...، وفى اللهجة البافارية...، وفى الجرمانية
الواطئة القديمة...، وكلها بمعنى "يعسوب"..." (ص 495). وقد أخذ
الأمرُ منه فقرات وفقرات تحنجل فيها بين أسماء اللغات المختلفة التى لا يعرف منها
شيئا إلا كما أعرف أنا لغة النمل مثلا.
والحق أن هذا
الكلام لا يرد عليه بمناقشة علمية، بل ينبغى أن يكون الرد بصوت من الفم لا نسميه
تجنبا لخدش الذوق العام. ومع ذلك فلسوف نرد عليه بمناقشة علمية. وواضح أن جنابه لا
يعرف الفرق بين "اليعسوب" و"الدبّور" كما ينطقه، أو
"الزنبور" كما هو فى الفصحى التى تُقْذِى وتؤذى عينه وتخزه بل تلدغه فى
قلبه فيأخذ فى اللف والدوران كالدائخ من الحقد ويذهب فيسطو على كتاب إنجليزى فى
علم اللغة المقارن مضيفا إليه بعض السخافات التى يطنطن بها بعض نصارى مصر الآن،
يريدون إيهام الأغلبية الساحقة الماحقة من المسلمين فى أرض الكنانة أن "لغة
قرآنكم مأخوذة من القبطية". "يا خى انّه" كما يقول إسماعيل يس رحمه
الله! "اليعسوب" يا سيد منك له هو ذَكَر النحل، أما الزنبور (أو كما يحب
الدكتور لويس أن يقول: "الدَّبّور"، أو كما كنا نقول فى طفولتنا وصبانا:
"الضَّبّور"، أيام أن كنا نحن أيضا جهلاء فى غَرارة طفولتنا الأولى نحسب
أنه كما ينتج النحلُ العسلَ الأبيض الشهىّ اللذيذ، فإن "الضبابير" تنتج
العسل الأسود المطيّن بستين نيلة)، أقول: أما الزنبور فهو حشرة طائرة أضخم كثيرا
من النحل وأغمق فى اللون منها، وإذا كان من النوع القارص فلسعته شديدة الألم، كما
أنه لا يفرز عسلا، وطنينه غليظ. ببساطة شديدة إذن: ليست هناك صلة بين "اليعسوب"
والــ"Wasp"، لأن كلا منهما شىء مختلف عن الآخر تمام
الاختلاف. أى أن الحذلقة والحنجلة التى ظل الدكتور لويس يأتيها ويتباهى بها طوال
تلك الفقرات العجيبة كما تتباهى القرعاء بشعر بنت خالة أم ابن عمها قد ضاعت فى
الهواء كما ضاع كتابه كله المفعم بهذا اللون الغليظ من التهور. وهذا إن حصرنا
أنفسنا وكلامنا فى النحل والزنابير، وإلا فلليعسوب معان أخرى منها أنه "طائرٌ
أطول من الجرادة لا يضمُّ جناحه إذا وقع، تُشبَّه به الخيلُ في الضُمْر"
(ولعله "الرَّعّاش" الذى كنا نسميه فى قريتنا: "الشيخة
عزيزة")، وهو أيضا "فَراشَةٌ مُخْضَرَّةٌ
تطِيرُ في الربيع"، و"غُرَّةٌ في وجْهِ الفرس مُسْتَطيلَةٌ تنقطع قبل
أَن تُساوِيَ أَعْلى المُنْخُرَيْنِ. وإِن ارتفع أَيضًا على قَصَبة الأَنف وعَرُضَ
واعْتَدلَ حتى يبلغ أَسفلَ الخُلَيْقَاءِ فهو يَعْسُوب أَيضًا، قلَّ أَو كَثُر، ما
لم يَبْلُغِ العَيْنَيْنِ"، كما يقال للسَّيِّد: "يَعْسُوبُ قومه"! ترى هل يكفى
هذا؟ أم هل أمضى فى المزيد؟
كذلك فقوله إن
كلمة "طير" فى العامية المصرية بمعنى "ذباب" ليست من جذر
"طار يطير"، بل صيغة من "Taon" بمعنى
"ذباب الحمير"، هو قول يدل على بهلوانية عريقة ضاربة فى جذور الأعصاب عنده،
فهو يتنكب دائما وبشكل منهجى كل منطق وكل علم، ويروح فى ألوان من التشنجات الحاقدة
بغيتها التقليل من شأن اللغة العربية، وكأن العرب كانوا يضعون أيديهم طول الوقت
على خدودهم لا يفعلون شيئا حتى ولا طرد الذباب عن وجوههم الساكنة الجامدة وأفواههم
الفاغرة من البلادة انتظارا لعودة رسلهم الذين بعثوا بهم فى كل أرجاء المعمورة
يطوفون ببلاد الجرمان والسكسون والبافاريين والغال والإسبان والرومان والهنود
والفرس، وكذلك الصين وتايلاند واليابان بالمرة (أليس لهم نفس فى هوجة عرابى هذه؟)،
وبلا أدرى ماذا أيضا من البلاد والجنسيات، كى يأتوهم بما جَدَّ من ألفاظ فى كل
مناحى الحياة فيُدخلوها فى لغتهم البزرميط التى تشبه مرقعة الحاوى، كل رقعة من
بلد، بدلا من إجهاد عقولهم الخاوية فى اختراع الكلمات والجمل، فهم يؤثرون استيراد
مثل تلك المشغولات اللغوية على إنتاجها بأنفسهم! تبًّا لكم أيها العرب من كسالى
متخلفين لا تعرفون كيف تخترعون حتى ولا كلمة "طير" للدلالة على
"الذباب" الذى يعفّ على وجوهكم وأفواهكم، وتؤثرون أن تنتظروا عودة
رسولكم من فرنسا حاملا إليكم البشرى السعيدة بأنهم يقولون: "Taon"
لــ"ذباب الحمير". نعم عودة رسولكم الذى طال عليكم غيابه لأنه بعد أن
وصل إلى فرنسا قالوا له: "عليك ببلاد يسمَّى فيها القيراط، ويقال لأهلها:
القبط، فهم الذين اخترعوا هذه الكلمة، وكانت فى البداية "أَفْ"،
فأخذناها نحن وقلبناها إلى "طاؤن"، فعليك بالأصل جريا على المثل الذى
يقول: "ع الأصل دوَّر". ثم إنكم أنتم وهم أقارب، إذ هم أخوالكم،
والأقربون أولى بالمعروف. كما أنكم أنتم وهم جيران، وليس بينكما إلا فركة كعب
عَوْمًا فى بحر القلزم يا أخا العرب"، فجاء إليكم رسولكم وهو يلهث من الدوخة
ما بين بلاد الغال وبلاد الأَفّ والعَفّ. إلا أنكم بعد ذلك كله ومع ذلك كله ورغم
ذلك كله، شأن كل عريان الـــ.. ويحب التجميز أو كأى أقرع ونُزَهِىّ، تَأْبَوْن إلا
أن تحرّفوها من "تاؤن" إلى "طير" وتتوسعوا فى معناها بحيث
تغطى كل أنواع الذباب ولا تقتصر على ذباب الحمير وحده"!
هل رأى القراء
تفاهة فى الكيد أتفه من هذه التفاهة؟ لقد كان العرب يطلقون كلمة "طير"
على كل ما له جناحان يتحرك فى الهواء بهما، ويدخل فى ذلك الذباب والجراد والنحل
والزنابير والبعوض... إلخ. وفى "لسان العرب" لابن منظور: "الطَّيْرُ...:
اسمٌ لجماعَةِ ما يَطيِر، مؤنَّث، جمعُ "طائِرٍ"، كـ"صَاحِب وصَحْب"...".
أى أن قولهم، ومن ثم قول المصريين بدورهم، عن "الذباب": "طير"
لا غرابة فيه البتة، فهو نوع من التخصيص. وعلى نفس الشاكلة كنت أسمع الإنجليز
يقولون عن المكنسة الكهربية: "هوفر"، مع أن هناك شركات أخرى غير هوفر
تنتجها، كما أنها ليست الآلة الوحيدة التى تنتجها تلك الشركة. ولا معنى إذن لكل
هذه الجولة العريضة الطويلة كى يقنعنا سيادته بهذه البلاهات التى لا تجوز إلا على
تلاميذ "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! بل إن الإنجليز حين بحثوا عن اسم
للذباب لم يجدوا إلا كلمة "fly" المشتقة
من الطيران ذاته، وكأنهم يخرجون ألسنتهم
لــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض"، الذى تخصص فى لغتهم وأدبهم ما
شاء له التخصص، وأقام فى بلدهم ما أقام، وقرأ من كتبهم ما قرأ، وشمخ بأنفه بالباطل
ما شمخ، ثم تفوته هذه الملاحظة البسيطة جدا والفاضحة جدا والمخزية جدا لمن وهبهم
الله عقلا لكنهم آثروا خلع عقولهم! وأخيرا وليس آخرا: ما العلاقة بين كلمة "طير"
وكلمة "تاؤون"؟ الواقع أن مثل هذه العلاقة المدّعاة ليس لها أى وجود إلا
فى سمادير بعض العقول المبتلاة بآفة الانسلاخ من ضوابط المنطق والتمرد على قواعد
الانضباط الفكرى! وهو ما يسمونه فى العامية المصرية: "كلام فى الهجايص"
من نوع "الفيل فى المنديل"، و"الفِلّة فى الفانلة"!
أما
"عَفّ" فى قولنا: "عَفّ الدّبان على وِشّه" فهى من "عَفَّ اللبنُ
يَعِفّ" (أى اجتمع فى الضرع أو بقى فيه)، وكما نلاحظ فإن عين مضارع هذا الفعل
فى العامية مكسورة كالفصحى سواء بسواء،
مما يؤكد أنه منها وليس من القبطية ولا المهلبية. وقد نبه د. عبد المنعم سيد عبد
العال إلى فُصْحَوِيّةِ أَصْلِها فى "معجم الألفاظ العامية المصرية ذات
الأصول العربية" (مكتبة النهضة المصرية/ 1971م/ 149)، وإن كنت لا أوافق على
عنوان معجمه تماما لما قد يوحيه من أن الألفاظ العامية التى ترجع إلى أصل عربى هى
الاستثناء، مع أنها تمثل الأغلبية الساحقة، بخلاف الألفاظ التى ترجع إلى أصول
أجنبية، فإنها بطبيعتها قليلة، إذ العامية هى مجرد مستوى من مستويات اللغة وليست
لغة غريبة عن الفصحى. وعلى هذا فمن المنطقى بل الواجب الحتم أن يخطر، أول ما يخطر
على بالنا إذا ما فكرنا فى أصل أى لفظ عامى، أن نفتش فى الفصحى حيث يكون أصله. أما
الألفاظ العامية ذات الأصول الأجنبية فتمثل الاستثناء. هذا ما يقضى به المنطق
والعلم ووَضْع اللهجات العامية فى كل اللغات، على الأقل: تلك اللغات التى نعرفها،
أما اللف والدوران الذى يبرع فيه بعض من يمسكون بالقلم متشبهين بالأساتذة العلماء
ثم يتيهون بذلك كأنهم أساتذة علماء فعلا فإنه لا ينفع ولا يشفع!
ومن الشواهد
على أن العرب كانوا يعدّون الذباب من الطير ما جاء مثلا فى كتاب "أخبار أبى
القاسم الزَّجّاجى" للزجاجى نفسه: "قال أبو عبد الله الكرماني: ما يُعَدّ
في خلق الفرس من أسماء الطير: "الصّردان"، عرقان مكتنفان اللسان. ويقال:
بياض في الظهر. و"الذباب"، إنسان العين. و"الديك":، ما انحنى
من لحييه... و"اليعسوب"، الغرة الرقيقة المستطيلة. و"الهامة"،
مؤخر الدماغ، ويقال: إنها الدماغ... و"العصفور"، عظم ناتئ في كل جبين،
وإذا شالت الغرة فدقت ولم تجاوز العينين فهي "العصفور"...". وفى
كتاب "الأشباه والنظائر" للخالديَّيْن مثل ذلك، إذ قالا نقلا عن
الأصمعى: "في الفَرس اثنان وعشرون اسما من أسماء الطَّير: الفَرْخ والهامَة
والحرّ والنَّعامة والصُّرَد والسّمامة والفَراش والخشاش والصُّلصل والصَّداة
والناهض والحدأة والرَخَم والقَطاة والخطَّاف والنسور والخَرَب والعصفور
والدَّجاجة والغراب والذباب والعُقاب...". وفى "الحيوان" للجاحظ
هذان البيتان اللذان استعار أبو زبيد الطائى فيهما اسم "الطير" للذباب.
وهذا أكبر دليل على سخف ما يقوله لويس عوض بغشم ودون احتراس:
تذبُّ عنهُ
كفٌّ بها رَمقٌ * طيرًا عكوفًا كزُوَّرِ العُرُسِ
إذا وَنَى
ونْيَةً دَلَفنَ له* فهنَّ مِنْ والغٍ ومُنْتَهِسِ
وقال الجاحظ
تعليقا على البيتين: "والطّير لا تَلِغ، وإنما يَلِغ الذباب، وجعله من الطّير.
وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه، فإذ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر، جاز أن
يستعير للطير وَلْغ السِّباع فيجعَل حَسْوها وَلْغًا". والشاهد فى البيتين أن
الكلام فيهما عن الذباب، لكن الشاعر استعمل له كلمة "الطير"، ثم سواء
بعد ذلك أكان الذباب يُعَدّ فعلا فى الطير كما قلنا آنفا أم كان استعير له ذلك
الاسم على ما يقول الجاحظ، الذى لا أوافقه فى كلامه لأننا رأينا العرب تعد الذباب
من الطير، إذ له أجنحة يطير بها، وهم أنفسهم ينسبون إليه فعل الطيران فيقولون:
"طار الذباب وتطاير وطيّرته أنا...".
ومثله فى ذلك
هذا النص من كتاب "المفصَّل فى صنعة الإعراب" للزمخشرى حيث سمى الذباب:
"طائرا". يقول عالمنا الكبير تحت عنوان "الإخبار عن كل اسم في جملة
سائغ إلا إذا منع مانع": "وطريقة الإخبار أن تصدّر الجملة بالموصول
وتزحلق الاسم إلى عَجُزها واضعا مكانه ضميرا عائدا إلى الموصول. بيانه أنك تقول في
الإخبار عن زيد في "زيد منطلق": "الذي هو منطلق زيد"... وعن
خالد في "قام غلام خالد": "الذي قام غلامه خالد" أو "القائم
غلامه خالد". وعن اسمك في "ضربت زيدا": "الذي ضرب زيدا أنا"
أو "الضارب زيدًا أنا". وعن الذباب في "يطير الذباب فيغضب زيد":
"الذي يطير فيغضب زيد: الذباب" أو "الطائر فيغضب زيد: الذباب"...". وكذلك هذا الشاهد من كلام صلاح الدين الصفدى فى كتابه:
"الوافى بالوَفَيات" تعليقًا على البيتين التاليين للمعرى اللذين استخدم
فيهما كلمة "الذباب" على سبيل التورية:
مثل
وَشْي الوليد وإن كا* نت من الصنع مثل وَشْي حبيبِ
تلك
ماذيّةٌ، وما لذباب السيــ * ــف والصيف عندها من نصيبِ
إذ
قال إنه "استخدم لفظ الذباب في معنييه: الأول طرف السيف. والثاني الذباب،
الطائر المعروف، وهو الذِّبّان"، فجعل الصفدى الذباب طائرا. وفى "جمهرة
الأمثال" لأبى هلال العسكرى تعليقا على المثل القائل: "أبخلُ من أبي
حباحب، ومن حباحب": "قالوا: هو رجل من العرب كان لبخله يوقد نارًا
ضعيفة، فإذا أبصرها مستضىء أطفأها. وقيل: يعني بها النار التي تنقدح من سنابك
الخيل، وهي نار اليراعة. وهي طائر مثل الذباب، إذا طار بالليل حسبته شرارة".
فسمَّى العسكرىُّ أيضا الذبابَ طائرا. ووالله إننى لأشعر بالخجل أن أشغل نفسى
وأضيع وقتى بمناقشة تلك التنطعات، لكن ما العمل وهناك من يقول: "أستاذنا
الدكتور لويس عوض"؟ إذا كان هذا أستاذا، فكيف يا ترى تكون تلاميذه؟ ألا
أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهم من تلاميذ!
وهو
يسخر مما يقوله المصريون من أن الثعلب إذا حوصر ورأى أنه مأسور أو مقتول لا محالة
فإنه يتماوت ويخرج من بطنه ريحا منتنا، أو "يفسو" كما يقول العامة حسبما
جاء فى كتابه، مؤكدا أن ذلك ليس سوى أسطورة، وزاعما أن المسألة لا تعدو أن يكون
المصريون قد خلطوا بين مادة "فسا" وبين الجذر "فخ/ فس/ فكس"،
الذى اشتُقَّت منه كلمة "ثعلب" فى اللغات الأخرى، فأطلقوها على ما
يزعمون أن الحيوان المكار يخرجه من بطنه من ريح منتنة لدى شعوره بالخطر المحدق.
وهو، فى حقيقة الأمر، لم يكتب هذا بالضبط، إذ هو لا يستطيع أن يكون دقيقا إلى هذا
الحد لأن ثقافته، كما هو واضح، قائمة على الخطف والسرعة كثقافة أستاذه محمد مندور،
بل جاء كلامه هكذا: "ومن الطريف أن نذكر الأسطورة المصرية الشائعة للتدليل
على مكر الثعلب أنه "يفسو" ليطرد الناس عنه". ثم يمضى معللا هذا
التخلف الذى يرمى به المصريين فيقول: "والأرجح أن هذه الأسطورة بنيت لاختلاط
مادة "فسا" المعروفة بكلمة "فخ" و"ويس" أو"فيكس"، فهو صيغة
منقرضة من اسم الثعلب، فهو نوع مألوف من الإتيمولوجيا الشعبية قصد منه حفظ
جذر Fs= Ps= Wps=
Lps" (ص 442). وكل هذا التخبط الغليظ الوجه قد أريد به خدمة هدف
واحد، وهو القول بأن المصريين لم يأخذوا عن العرب كلمة "فسا"، بل
أخذوها، مثلما زعم أنهم أخذوا أيضا كلمات"ثعلب" و"ذئب"
و"كلب"، من أصل أجنبى واحد (بعد أن أدخلوا عليها بعض التحويرات، لكن دون
أن يقدم ولو شبهة دليل واحد على ما يقول)، وفوقها أيضا كلمة "دحلبَ"،
التى يزعم أنها مأخوذة من نفس جذر تلك الكلمات الثلاث، إذ إن كلمة
"دحلب" (كما يقول) تدل على التسلل فى مكر شأن الثعالب (الصفحة السابقة).
وهو يسلك فى هذا السبيل طرقا كلها التواء لا يمكن أن تخطر للشيطان نفسه على بال،
فهو يلوى عنق الكلمات والمفاهيم ويتشقلب فى الهواء شأن البهلوانات بغية التعمية
على ما يريد التسلل به إلى الأفئدة والعقول، إلا أن الله له بالمرصاد والفضح وهتك
الستر والسر!
وأول
شىء نقوله فى الرد على هذا الكلام الممخَّط هو أن الثعلب مشهور فعلا بأنه عندما
يحدق به الخطر الداهم يتماوت. وكنت أسمع هذا فى طفولتى فى القرية من أولاد جيراننا
الفلاحين، كما أكده لى بعض مهندسى الزراعة الذين سألتهم قبل أيام. وبالمثل ذكره
الكاتب المصرى محمد قنديل البقلى فى كتابه: "الأمثال الشعبية"، إذ كتب
فى تعلبقه على المثل القائل: "مكّار زَىّ التعلب" أن "الثعلب يشتهر
بالمكر والخداع، فإذا أحس بأنه سيقع فى فخ الصياد تماوت ونفخ بطنه حتى إن من يراه يظن
أنه ميت حقيقة فيتركه" (محمد قنديل البقلى/ الأمثال الشعبية/ الهيئة المصرية
العامة للكتاب/ 1987م/ 725). كذلك كتب الجاحظ نفس الكلام فى كتابه:
"الحيوان"، والجاحظ لم يكن مصريا بحال (أم ترى الدكتور لويس سيصيّره
مصريا على طريقته فى التأريخ للُّغات واشتقاق الكلمات؟)، بل كان من البصرة. وقد
استشهد ذلك الأديب الكبير فى هذا المضمار بحادثة شاهدها أخ لأحد أصدقائه فقال:
"حدَّثني صديقٌ لي قال: تعجَّبَ أخٌ لنَا من خُبث الثَّعلب، وكان صاحبَ قَنْص،
وقَالَ لي: ما أعجب أمر الثعلب! يفصل بين الكلب والكلاَّب، فيحتالُ للكَلاَّب بما
يعلم أنَّه يَجوز عليه، ولا يحتال مثل تلك الحيلة للكلب، لأنّ الكلب لا يَخفى عليه
الميِّت من المغشيِّ عليه، ولا ينفع عنْدَه التَّماوت. ولذلك لا يُحمل من مَات من
المجوس إلى النَّار حتى يُدْنَى منه كلبٌ لأَنّه لا يَخفى عليه مغْمُور الحِسِّ:
أحَيٌّ هُوَ أو ميت. وللكلب عند ذلك عمل يستَدِلُّ بِهِ المجوس. قال: وذلك أنِّي
هَجَمْتُ على ثعلبٍ في مَضيق، ومعي بُنَيٌّ لي، فإذا هو ميِّتٌ منتفِخٌ، فصدَدْت
عنه، فلم ألَبثْ أن لحِقتني الكلاب، فلمَّا أحسَّ بها وثَب كالبرق، بعد أن تحايَدَ
عن السَّنَن. فسألت عن ذلك، فإذا ذلك من فِعلِه معروفٌ، وهو أنْ يستلقيَ وينفخَ
خواصرَه ويرفعَ قوائمه، فلا يشكُّ مَن رآه من الناس أنّه ميِّت منذ دهر، وقَدْ
تَزكَّرَ بالانتفاخِ بدنُه. فكنتُ أتعجَّب مِنْ ذلك، إذْ مررْتُ في الزُّقاق الذي
في أصل دار العبَّاسيّة ومنفَذه إلى مازن، فإذا جرو كلبٍ مهزولٌ سَىِّء الغذاء قد
ضربه الصِّبيان وعقَروه ففرَّ منهم ودخل الزُّقاق، فرمى بنفسه في أصل أُسطُوانة
وتبِعوه حتَّى هَجمُوا عليه، فإذا هو قد تَمَاوَتَ فضربوه بأرجلهم فلم يتحرَّكْ
فانصرفوا عنه، فلمَّا جاوزُوا تأمَّلت عينَه، فإذا هو يفتَحُها ويُغمِضها، فلمّا
بعدوا عنه وأمِنَهم عدا، وأخذَ في غير طريقهم، فأذهَبَ الذي كان في نفسي للثَّعلب،
إذ كان الثَّعلب ليس فيه إلاَّ الرَّوَغان والمكر، وقد ساواه الكلبُ في أجودِ حِيَلهِ".
وفى
كتاب اليُوسِىّ: "زهر الأَكَم فى الأمثال
والحِكَم"، وهو أيضا (ثلاثة
أيمان بالله العظيم) لم يكن مصريا قط، بل
مغربيا من أهل القرن السابع عشر الميلادى: "الثعلب... موصوف بالمكر والاحتيال،
مشهور بذلك. ومن مكره إنّه إذا رأى الغلبة عليه تماوت حتى لا يُشَكّ في موته فإذا
غُفِل عنه وثب هاربا". أما الريح المنتنة التى يقال إنه يخرجها من بطنه حين
يتحقق أنه سيقع فى الحصار ولا يستطيع الإفلات فقد كنت أسمعها وأنا صبى صغير من
أولاد الفلاحين من جيرتنا ممن يذهبون دائما إلى الحقول ويشاهدون الثعالب ويعرفون
الكثير عن طبائعها وسلوكها، بيد أننى لم أستطع العثور على شىء من هذا صريح وأنا
بصدد تجهيز هذه الدراسة رغم ما بذلته من جهد للوصول إلى حقيقة هذا الأمر فى
المشباك، وإن كانت حكاية الجاحظ وكلام البقلى واليوسى يقتضى ذلك.
هذا
أولا، أما ثانيا فهو أن منطق الدكتور لويس عوض مضحك لتفاهته وسخفه، إذ ما معنى أن
يطلق المصريون على الريح التى تخرج من بطن الثعلب الاسم الذى كان يُطْلَق على
الثعلب نفسه فى اللغات القديمة التى ذكرها؟ ترى ما العلاقة بين الثعلب والفساء؟
وهل الثعلب وحده هو الذى يفسو من دون المخلوقات الحية؟ إذن فيمكننا بهذه الطريقة
أن نسمى كلام الدكتور لويس هنا "ثعلبا"! ثم إنهم، حسب كلامه الأعوج، لم
يكتفوا بهذا بل اشتقوا من ذلك الاسم فعلا هو "فسا يفسو"! كذلك إذا ثبت
أن حكاية الريح المنتن هذه ليست إلا أسطورة تكون قد غطَّت ووطَّت، إذ معنى ذلك
أنهم اخترعوا شيئا لا وجود له، ثم زادوا فبحثوا عن تسمية لذلك الشىء فوجدوها فى
لغتهم العربية، لكنهم أبَوْا إلا أن يبحثوا عنها فى لغة أخرى ماتت وشبعت موتا حتى
وجدوا فى تلك اللغة كلمة "ثعلب" فأخذوها وأطلقوها على
"الفساء" الذى يزعمون كذبا أن الثعلب يخرجه من دبره. ولا أدرى لماذا
فعلوا ذلك إلا أن يكونوا مجانين قد فقدوا عقولهم ولم يبق إلا أن يسيروا فى الشوارع
عراة يريلون! إذ إن تصرفهم هذا يفتقر تمام الافتقار إلى الحكمة، وبخاصة أن التحقق
من الموضوع واكتشاف حمق ما وقعوا فيه مسألة فى غاية السهولة!
قلت
إننى لم أجد حكاية الفساء هذه صريحة فيما قرأت على المشباك من المقالات والدراسات
الفرنسية والإنجليزية كما سلفت الإشارة من قبل، لكن تفسير ذلك ممكن فى ضوء ما يمكن
أن يقال من أن الثعالب فى بلادنا إنما تأكل، كما نأكل نحن، الفول والطعمية، بخلاف
ثعالب أوربا التى كتب عنها العلماء ما كتبوا عن طباع الثعالب، فإنها تأكل الجاتوه
والمارون جلاسيه فلا تخرج ريحا أصلا، فضلا عن أن يكون هذا الريح منتنا، أما
ثعالبنا آكلة العدس والبصارة، ومحرِّشة بطنها بالفجل والكراث والبصل فأجارك الله!
إلا أن علماء أوربا الذين يكتبون فى هذه المسائل لا يضعون ثعالبنا فى اعتبارهم
للأسف، ومن هنا لم أجد فى الكتب والدراسات التى رجعت إليها شيئا عن هذا..
أيا ما يكن الأمر فليس من المعقول أن يترك
المصريون لغتهم العربية ويذهبوا إلى اللغات الأجنبية كى يقترضوا منها كلمة موجودا
مثلها وأنتن منها فى لغتهم من أجل أن يطلقوها على شىء لا وجود له ويمكن بسهولة
شديدة التحقق من أنه عديم الوجود! ترى هل تتعلق هذه الكلمة بشىء ليس له وجود فى
ثقافتنا؟ ترى هل هناك فرقٌ موسيقىٌّ مثلا بين الكلمتين لصالح اللغة الأجنبية؟ ثم
لماذا يأخذ المصريون كلمة "ثعلب" فى تلك اللغات ويطلقونها على الفساء؟
ولماذا، بعد أن أخذوا كلمة "ثعلب" من اللغات الأجنبية، لم يمدوا هذه
الكلمة نفسها ويعطوها الدلالة على تلك الريح الكريهة أيضا بدلا من أن يأخذوا أولا
الكلمة التى تعنى "الثعلب" من تلك اللغات ثم يحوّروها إلى كلمة
"ثعلب" العربية ثم يطلقوها على ذلك الحيوان، ثم يعودوا كرة أخرى فيأخذوا
كلمة "ثعلب" من تلك اللغات نفسها ليطلقوها على الفُسَاء لكن دون تحوير
(أو كما يقول "أستاذهم الدكتور لويس عوض" بحذلفته البغيضة، كى يشده
العقول ويخرسها فلا تفكر ولا تتكلم: دون "ميتاتيز") هذه المرة؟
إن هذا ليشبه ما صنعه ذلك الأحمق الذى عثر فى
الطريق ذات يوم على زِرّ بدلة، فما كان منه إلا أن شرع يقتصد من قوته وقوت عياله
ويقرمط عليهم وعلى نفسه غاية القرمطة كى يشترى بدلة للزر! إذن ففيم المشكلة؟
الواقع أنه لا توجد مشكلة ولا دياولو إلا فى بعض الأذهان المنكوسة الملحوسة
المنحوسة التى ترى الشىء تحت أنفها يكاد أن يخزق عينيها لكنها تترك هذا كله وتسافر
فتجوب بلاد الله خلق الله وتدوخ وتدوّخنا معها (ربنا يدوخها السبع دوخات! قادر يا
كريم!) بحثا عن ذلك الشىء! إن الذى يقرأ كتاب لويس عوض ولا يعرف اللغة العربية سوف
يظن أننا إزاء مشكلة عويصة القرار لا تقبل الحل ولا النقض أو الإبرام! ثم ماذا
يقول الحمقى إذا عرفوا أن الثعلب ليست هى التسمية الوحيدة عندنا لذلك الحيوان، بل
هناك أيضا "تَتْفُل" و"أبو الحصين" مثلا؟ ثم هل يكفى أن يكون
هناك حرف مشترك بين لفظين فى لغتين مختلفتين بل متباعدتين تمام التباعد حتى نقول
إن أحدهما مشتق من الآخر؟ طيب، فلم لا تكون اللغة الأجنبية هى التى أخذت من لغتنا؟
بل لماذا أخذ العرب كلمة "الثعلب" عن غيرهم من المتكلمين؟ هل لدلالتها
على مخترع حضارى لم يكونوا يعرفونه فاستوردوه، ومعه اسمه الذى يدل عليه؟ ألا بئست
العقول العمياء!
ومن
هذا الوادى المضحك أيضا ما زعمه لويس عوض من الشَّبَه الشديد بين العاج
والآبُنُوس، التى يكتبها كالعامة: "أبنوس" من غير مدّ! وهذا كلامه
بحرفه: "والدليل على ذلك أن كلمة "أبنوس" لها صيغ متعددة فى
المجموعة الهندية الأوربية يختلط فيها معنى "أبنوس" ومعنى
"عاج": فمن ناحية اشتقاقية نجد أن "إبونى: Ebony" الإنجليزية و"إبين: ébène" الفرنسية و"أبينوس: Ebenus" فى اللاتينية البائدة وفصيحها فى اللاتينية الكلاسيكية
"هبينوس: Hebenus"... كلها تعنى "أبنوس"... وبالمثل فإن
الكلمة "إيفورى: Ivory"
الإنجليزية و"إيفوار: Ivoire"
الفرنسية، وكلاهما بمعنى "عاج"، مشتقة من الجذر اللاتينى "Ebor" بمعنى "عاج"... و"إيبور: Ebor" و"إبين: Eben"
و"هبين: Heben" صور من نفس الجذر الذى أفضى إلى "Ivory" أو "Eben"
(؟!) فى الإنجليزية ونظائرها فى اللغات الأوربية بمعنى "أبنوس"
و"عاج". ورغم اختلاف الأبنوس عن العاج، فالأول من شجرة الأبنوس، والثانى
من سن الفيل، فقد كان لهما اسم واحد لشدة الشبه بينهما. والأصل طبعا هو العاج أو
سن الفيل لأنه طبيعى، أما الأبنوس فهو صناعى، وبالتالى فهو المجاز. ولكن المهم فى
كل هذا هو أن "Ebor" أو "Eben"
أو "Heben"
هى جذر "فيل" العربية، و"إيفان" فى "Elephant" الهندية الأوربية"، كما أنه
جذر لكلمة "إبل"..." (ص 451). وكان قد قال (ص 266- 267) إن كلمة
"abw:
أبو" فى المصرية القديمة التى تعنى "الفيل، والعاج، وسن الفيل" قد
دخلت كلمة "أبنوس" العربية و"Ebony" الإنجليزية و"Ebène" الفرنسية. ولن أتعرض هنا لما اعتسفه من غثاءٍ مُغَثٍّ فى
هذا السبيل، بل سأتوقف فقط عند ذلك التشابه المزعوم بين العاج والآبنوس الذى لم
أسمع به من قبل، لكن بعد أن ننبه إلى أن معجم "Nouveau Petit Larousse" (ط1972م) ينص على أن الأصل
اللاتينى لكلمة "Ivoire"
هو "Ebur"،
كما أن معجم "Webster's New
Collegiate Dictionary" (ط1951م) يرجع كلمة "Ivory" إلى "Eboreus"،
وليس "Ebor"
فى أى منهما كما يقول لويس عوض. كما أن المعجم الأخير يرد "Ebony" إلى "Ebenus"
اللاتينية، على حين يردها المعجم الأول إلى "Ebenos" اليونانية لا كما قال
الدكتور لويس! وإن كان من الممكن القول بأن سبب هذا الاختلاف إما أن يكون راجعا
إلى خطإ الدكتور لويس كما أخطأ فى كثير جدا مما حبره يراعه فى هذا الكتاب معتمدا
على ما يخطر له وهو يكتب، وهذا افتراض قوى جدا، وإما أن يكون راجعا إلى أن الآراء
فى تأصيل الكلمات وإرجاعها إلى مصادرها الأولى مختلفة جدا فى كثير من الأحيان (فما
بالنا بالدكتور لويس الذى يأخذه الغرور القاتل المهين الموقع لصاحبه فى المآزق
والمهالك فيذهب يتخيل نفسه إلها قد أحاط بلغات العالم كلها تقريبا قديما وحديثا
وجلس وقد بسط أمامه خريطة لتلك اللغات وأخذ يفتى على طريقة ضاربة الرمل والودع دون
كابح من علم أو منهج سوى النزوات البهلوانية التى لا تحق حقا ولا تبطل باطلا؟)،
وإما أنه نقل ما نقله من كتاب كونى وغيره من غير تدقيق.
ترى
هل سمع القراء الكرام أن أحدا قال يوما إن العاج والآبنوس شىء واحد كما قال
"أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟ إن العاج (بافتراض تسليمنا للويس عوض بما
يقول من أنه سن الفيل فقط) هو ذو لون أبيض ناصع يشبّهون به الأشياء البيضاء
الجميلة، أما الآبنوس فهو على النقيض من ذلك أسود، بل يُضْرَب به المثل فى السواد.
ولذلك فإن الصفة: "ebony"
تعنى فى الإنجليزية أيضا: "أسود كالآبنوس"، ويشبهه قولهم فى الفرنسية عن
الشعر الأسود الجميل: "cheveux
d'ébène". ثم إن العاج جزء من جسم حيوان، أما الآبنوس فمأخوذ من
شجرة. فما وجه الشبه بين هذا وذاك؟ فإذا عرفنا أن العاج عند العرب، أو عند بعضهم
على الأقل، ليس هو سن الفيل، أو على أدنى تقدير: ليس سن الفيل فقط، بل يندرج فيه
أيضا ظهر السلحفاة البحرية، وكذلك كل عظم، بل إن منهم من يقول إن العاج يطلق أيضا
على سوار المرأة (ويُنْظَر فى ذلك "تاج العروس" للزبيدى مثلا)، إذا عرفنا
ذلك تبين لنا كم هى محدودة وملتبسة معلومات "أستاذنا الدكتور لويس عوض"،
وأن ما يعرفه فى هذا الصدد هو، على فرض صحته (رغم أنه غير صحيح كما تبين لنا)، لا
يزيد عما يعرفه العوام.
على
أن هذه ليست كل المشكلة، بل المشكلة الحقيقية هى أن الرجل لا يعرف شيئا عن المنهج
العلمى أو قيم العلم الصحيحة التى تتمثل فى التواضع أو على الأقل: شىء من التشكك،
وكذلك العمل الدؤوب على استكمال النقص الموجود فى المعلومات لدى للشخص، وبخاصة إذا
كان يراد تنصيبه أستاذا للأولين والآخرين حتى ميقات يوم معلوم هو يوم الدين
كــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" كائد العُذّال من يومه! إننى مثلا أعترف
بأنه تنقصنى معلومات كثيرة فى أبسط الأمور، إلا أننى أحاول إذا ما بدا لى أن
أتناول شيئا يتصل بها أن أستكمل على قدر ما أستطيع هذا النقص حتى لا أفتضح. صحيح
أننى مهما فعلت فلن أستكمل الأمر تماما، وهذا ما دفعنى ذات يوم أن أكتب مقالا
طويلا عريضا عن "أخطائى" التى تنبهت لوقوعها فى مؤلفاتى، بيد أن تلك
الثقة الجهول بالنفس التى عند بعض الناس من شأنها أن تهتك الستر الذى يغطى سوأة
صاحبها. عافانا الله بكرمه ومَنّه وجميل ستره من كل ثقةٍ جهولٍ فاضحة!
والآن
إلى دعواه السمجة بأن كلمة "خبر" فى قولنا: "أصبح فى خبر كان"
لا تعنى "الخبر" الذى نعرفه، بل هى كلمة مصرية قديمة (hpr) معناها "كان"، أخذها المصريون من لغتهم السابقة وصاغوا
منها فى عاميتهم التعبير المشهور: "أصبح فى خبر كان"، أى أننا نحن
المصريين حين نقول: "خبر كان" فإننا نعنى "كان كان" مكررين
بذلك الكلمة مرتين (ص 179). إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن كلمة "خبر"
فى المصرية القديمة، حسبما ذكر، لا تقتصر على هذا المعنى بل تعنى أيضا "صار،
وقع، حصل، خلق، أوجد". وأول سؤال نطرحه هو: من قال إن لفظ "خبر" فى
التعبير المذكور مأخوذ من المصرية القديمة؟ هل هناك برهان على مثل تلك الدعوى؟
وكيف اتخذت تلك الكلمة طريقها إلى لسان العرب؟ ولماذا اختار لويس عوض معنى
"الكينونة" لهذا الفعل دون سائر المعانى الأخرى التى لا صلة لها
بالكينونة؟ وهذا كله إن كان الأمر فى المصرية القديمة كما يقول. ثم هل هذا التعبير
تعبير عامى مصرى أو هو تعبير فصيح؟ وهل هو مقصور فى الفصحى على استعمال المصريين
أو هو مستعمل عند العرب جميعا؟ وهل هو تعبير محدث أو استعمال قديم؟ وقبل ذلك هل
يعقل أن يستخدم المصريون الكلمة مرتين، كل مرة منهما بلغة مختلفة؟ فلماذا يا ترى؟
هل فى الكلمة شىء استثنائى يجعلهم يأتون هذا الصنيع الأحمق؟ وهل يجوز فى العقل أم
هل يسوغ فى الذوق أن نقول: "أصبح فلان فى كان كان"؟ وهل لذلك أصلا من
معنى؟ أم تراه يقصد لعبة الــ"كان كان" فى الكوتشينة؟ يا للهزل!
كذلك هل يصح فى العلم أن نترك السبب الواضح
المباشر إلى سبب ملتو غريب لا يمكن أن يخطر على البال ولا يقبل به العقل ولا
يستسيغه الذوق؟ إن المعنى المراد من العبارة حسب فهمنا نحن لا حسب التأويل السخيف
الذى جاء به لويس عوض هو معنى واضح على أحسن ما يكون الوضوح، إذ المقصود أن فلانا
بعد أن كنا نتحدث عنه فنقول: هو موجود ومتفوق وغنىّ مثلا أصبحنا بعد وفاته نقول
عنه إنه "كان" موجودا، و"كان" متفوقا، و"كان"غنيا.
أى أنه "كان" ثم لم يعد له وجود، على أساس أن خبر المبتدإ فى مثل هذه
الأحوال يدل على الزمن الحاضر، بخلاف "كان"، التى تقلب زمن الخبر من
الحاضر إلى الماضى. ترى هل من تعسف فى هذا التفسير؟ أويجد فيه القراء أية بهلوانية
أو مدابرة للمنطق أو لذوق اللغة كما هو الحال فى كلام لويس عوض؟ أما القول بأنه
تعبير عامى مصرى فغير صحيح لأن الصيغة الفُصْحَوِيّة واضحة على سيمائه أتم الوضوح،
إذ العامية المصرية أو أية عامية عربية أخرى لا تعرف "كان" وأخواتها، ومن
ثم لا تعرف "خبر كان". كما أن هذا التعبير ليس مقصورا على المصريين بل
يستخدمه العرب جميعا! وقد وجدت بالمصادفة وأنا أعد هذه الدراسة، أن لويس عوض نفسه
قد استخدمه بلا أية حذلقة فى المعنى الذى يزعم هو أنه غير صحيح، إذ يقول فى كتابه:
"رحلة الشرق والغرب" على لسان القنصل البريطانى فى يوغوسلافيا فى أوائل
السبعينات من القرن الماضى إنه لولا نائب المحافظ فى بور سعيد أثناء العدوان
الثلاثى على مصر لكانت الجماهير فى تلك المدينة قد فتكت به ولكان الآن "فى
خبر كان" (سلسلة "اقرأ"/ العدد 354/ يونيه 1972م/ 48).
وكعادتى، كلما قدمت رأيا لى فى مسألة لغوية
يخالف ما يقوله الآخرون، ذهبت أبحث عن شواهد تبين أن ذلك التعبير إنما هو تعبير
فصيح، وأن العرب لا يعرفونه اليوم فقط، بل كانوا يعرفونه من قبل. وهذه هى الشواهد
المذكورة: يقول ابن الجوزى فى "المدهش" (وابن الجوزى بغدادى من أهل
القرن الثانى عشر الميلادى): "أين الراحلون؟ كانوا بالأمس. صحَّت حجة الموت
فبطلت حجة النفس، واعتقلهم حاكم البِلَى على دين الرَّمْس، وكفَّ أَكُفّ الحس، بعد
تصرف آلة الخمس، واستوعر عليهم الحصر واستطال الحبس، وأصبحت منازلهم "كأنْ لم
تَغْنَ بالأمس". يا قليل اللبث، خل العبث، كم حدث جدث في حدث؟ يا موقنًا
بالرحيل وما اكترث، اقبل نصحي ورُمَّ الشعث.
إذا
نلت من دنياك خيرًا ففز به* فإن لجمع الدهر من صرفه شتا
فكم
من مشت لم يصيف بأهله* وآخر لم يدركه صيف إذا شتى
انْتَهِبْ
نثار الخير في مكان الإمكان، قبل أن تدخل في خبر كان، قبل معاينة الهول المخوف
الفظيع، وتلهف المجدب على زمان الربيع. إنما أهل هذه الدار سَفْرٌ لا يحلون عقد الركاب
إلا في غيرها، فاعجبوا لدار قد أدبرت والنفوس عليها والهة، ولأخرى قد أقبلت والقلوب
عنها غافلة". وفى "معجم البلدان" لياقوت الحَمَوِىّ (وهو من أهل
القرن الثانى عشر والثالث عشر الميلاديين) عن مدينة هراة الخراسانية: "وجاءها
الكفار من التتر فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك
في سنة 618". وفى "المقامات الزينية" لابن الصيقل الجزرى (من أهل
القرن الثالث عشر الميلادى) نقرأ: "ولّما رسَخَتْ قَدمُ ساقِ المسرّةِ الريّانِ
وانسلخَتْ أُهُبُ الظُّلَم عن مرابض الظّيَّان أقبلنا بمُنْصُلِ الصلةِ الصقيل،
معتذرينَ إليهِ من ذلكَ التثقيل، فألفيناهُ قد بلقعَ المكان، ودخلَ في خبرِ كان".
وفى "أعيان العصر وأعوان النصر" للصَّفَدِىّ عن على بن يوسف الحسن أنه
"نَظَمَ ونَثَر، وقرأ بنفسه الحديث والأثر، ولم يزل على حاله إلى أن دَثَر،
ودخل في خبر كان وغَبَر، وتُوُفِّيَ رحمه الله تعالى". والصفدى ليس مصريا،
وهو من أهل القرن الرابع عشر الميلادى. وبالمثل نجد قول ابن حجة الحموى (الذى عاش
فى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين) فى كتابه: "ثمرات الأوراق فى
المحاضرات": "ووصل المملوك بعد الفجر إلى البلد وقد تلا بعد زخرفة في سورة
الدخان، فوجب أن أُجْرِي الدموع على وجيب كل رَبْع وأُنْشِد، وقد دخل صبري بعد أن
كان في خبر كان:
دمعٌ
جرى فقضى في الرَّبْع ما وجبا"
وفى
"فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عرب شاه الدمشقى (وهو من أهل
القرنين 14- 15 م): "ذَكَر أهل السِّيَر ونَقَلة الأثر أن الملك أنوشروان كان
راكبا في السيران، فجمح به فرسه وقوى عليه نفسه، فاستخف شانه وجبذ عنانه، فهمزه
ولكزه وضربه ووخزه، فزاد جموحا وماد جموحا، فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان
أن يقع، فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان ". وفى
"نفح الطيب" للمقرى (ق 16- 17م) عن أبى حيان الأندلسى عند وفاته: "ولم
يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان، وتوفّي رحمه الله تعالى
بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة
خمس وأربعين وسبعمائة". وفى رحلة ابن بطوطة:
"هذه حلب، كم أدخلتْ ملوكها في خبر كان، ونسخت
صَرْف الزمان بالمكان". وفى "نفحة
الريحانة ورشحة طلاء الحانة" للمحبّى: "وأراهم خلفوا من دخل في
خبر كان، على أبدع ما في الإمكان"... وغير ذلك كثير. ونختم بهذا البيت الشعرى
لأحمد محرم:
وأَمْسَى
الذي كان ملء العيو* ن في قومه أثرًا أو خَبَرْ
وهو
يدور فى نفس المدار الذى يدور فيه قولنا: "أصبح فى خبر كان" مما يدل على
أن هذا التعبير الأخير لا يمكن أبدا أن يكون مركَّبا من العربية والمصرية القديمة
بمعنى "كان كان". وقبل ذلك فالعبارة، كما هو واضح، ليست عامية بل فصيحة.
وفوق هذا فثمة تعبيرات كثيرة أخرى فى لغتنا عمادها كلمة "خبر"، وهو
برهان على أن قولنا: "أصبح فى خبر
كان" ليس شيئا استثنائيا بحيث يمكن أى متنطع أن يزعم بشأنه المزاعم
المتهافتة، ومنها "عند جُهَيْنَةَ الخبر اليقين"، "جاء بوَرِكَيْ
خبر" (أى جاء بالخبر بعد أن استثبت فيه كأنه جاء
به أخيرا، لأن الورك متأخرة عن الأعضاء التي فوقها. والمعنى أتى بخبرٍ حَقّ)، "فلان ذو خبر بهذا الموضوع" (أى على علم به)،
"وافق الخُبْرُ الخَبَر"، "أصبح خبرا من الأخبار"، "أصبح
خبرا يُرْوَى"، "لم يعد يُسْمَع له خبر"، "لا حِسّ ولا
خبر"، "مالي به
خبر" (أي ليس لدىّ به علم)، "أتاه
بالخبر اليقين"، "نزل الخبر على رأسه كالصاعقة"، "أتانا خبره" (بمعنى
"مات")، "خبر السماء" (الوحى)، "ما الخبر؟" (أى
ماذا حدث؟)، علاوة عما نردده من تعبيرات فى الحياة اليومية مثل: "يا
خبر!"، "خبر أسود!"، "خبر مطيّن!"، "يا خبر بفلوس،
بكرة يبقى ببلاش"، "اكْفِ ع الخبر ماجور"، "إن شا الله ييجى
خبره"... وهذا كله فى المفرد وحده، ولا داعى للدخول فى صيغة الجمع فى مِثْل
المَثَل الشِّعْرِىّ المشهور: "ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ".
ترى
بالله لماذا تستعير العربية كلمة "خبر" بمعنى "كان" من
المصرية القديمة؟ أوليس فيها كلمة "كان"؟ أوليس فيها كلمة
"خبر" بالمعنى الذى نعرفه والذى لا يمكن أن يعنى هذا التعبير شيئا آخر
سواه؟ ثم لماذا يوالون بين الكلمة وبينها هى نفسها بلغتين مختلفتين فى معنى تافه
وواضح كهذا؟ بل إنى لأمضى إلى أبعد من ذلك فأطالب من يزعم هذا الزعم السخيف أن
يثبت لنا أن ذلك التعبير كان موجودا فى المصرية القديمة! الحق أن هناك ناسا عندهم
من البرودة وجمود الوجه بحيث لا يجدون أى حرج فى الزعم والإلحاح بأن الجمل قد صعد
النخلة. وعبثا تحاول أن ترد عليهم بأن الجمل يستحيل أن يصعد النخلة، لأنهم سوف
يصدعون دماغك بأنه يصعد فعلا النخلة، والدليل على ذلك أنه قد صعد النخلة. أليسوا
قد زعموا أنه قد صعد النخلة؟ فماذا تريد من دليل أفضل من هذا؟ أى أنهم يجعلون
دليلهم هو ذات كلامهم، مستخدمين طريقة المصادرة على المطلوب. ومثل هؤلاء لا يصلح
معهم لكى تفضحهم على رؤوس الأشهاد إلا أن تقول لهم: هذا هو الجمل، وهذه هى النخلة،
فأرونا كيف يمكن أن يصعد الجمل النخلة. وبالمثل نقول للويس عوض: هات لنا هذا
التعبير من المصرية القديمة ونَقِّطْنا بسُكَاتك وأرحنا من هذه الثرثرة البغيضة
على غير طائل!
وفى
معجم قديم كـ"القاموس المحيط"، وهو ما هو بين المعاجم الفصيحة: "دخل
الأمرُ في خبر كان: مضى". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى
(اللبنانى): "أصبح المشروعُ في خبر كانَ، أي زال واضمحلّ أو مضى"، وليس
فيه أى كلام من قريب أو بعيد عن أن التعبير مأخوذ من العامية كما هى عادة هذا
المعجم عند إيراده شيئا ذا أصل عامى. وفى "المعجم الوسيط" (فى مادة
"كان"): "دخل فى خبر كان" أى مضى. وليس فيه أيضا أية إشارة
إلى أنه عامى الأصل كما هى عادته فى مثل هذه الحالة. وفى معجم
"الغَنِىّ" لمؤلفه
"المغربى" الدكتور عبد الغني أبو العزم (فى
مادة "خبر") أن قولنا: "هَذَا الأَمْرُ أَصْبَحَ في خَبَرِ
كَانَ" معناه "أَصْبَحَ أَمْرًا مَنْسِيًّا". وكما يرى القارئ فمن
المستحيل هنا كذلك تأويل الكلام على أساس أن كلمة "خبر" معناها
"كان"، وإلا فلا ملامة على السامعين إذا أخذونا من فورهم إلى السراية
الصفراء!
ولقد
قمت بجولة على المواقع المشباكية العربية غير المصرية فإذا بى أعثر على عشرات
المشاركات المختلفة من قصائد ومقالات وإعلانات وتعليقات عنوان كل منها هو:
"فى خبر كان". وبالمناسبة فهذا التعبير قلما تعرفه العامية فى مصر أو فى
غيرها إلا على ألسنة المتعلمين والمثقفين، إذ هو تعبير فُصْحَوِىّ فى الأساس. ليس
ذلك فحسب، بل هو فى الواقع تعبير عربى حَصْرًا، أى لا تعرفه اللغات الأخرى. ذلك أن
مفهوم "خبر كان" لا يوجد إلا فى لغة العرب حيث هناك باب للأفعال النواسخ
فى كتب النحو يتحول خبر المبتدإ فيه إلى "خبر كان" أو إحدى أخواتها،
ويعتريه النصب بعد أن كان مرفوعا، علاوة على تحوله، مع "كان" وعدد من
أخواتها، من الحاضر إلى الماضى كما قلنا.
وفضلا
عن ذلك كله فالعبارة موجودة أصلا فى كتب النحو بمعناها الحقيقى بما يدل على أنها
كانت جاهزة تحت يد من يريد التقاطها وإعطاءها المعنى المجازى الذى نحن بصدده الآن.
ومن الأمثلة على ذلك قول ابن جِنِّىّ فى
"الخصائص": "وأجاز أبو الحسن زيادة الواو "في
خبر كان"،
نحو قولهم: كان ولا مال له، أي كان لا مال له"،
وقول الزمخشرى فى كتابه: "المفصَّل فى صنعة الإعراب": "ويُضْمَر
العامل "في خبر كان" في مثل قولهم: الناس مجزيّون بأعمالهم: إن خيرًا فخَيْر، وإن
شرًّا فشَرّ. والمرء مقتول بما قتل به: إن خنجرًا فخنجر، وإن سيفًا فسيْف. أي إن
كان عمله خيرًا فجزاؤه خير، وإن كان شرًّا فجزاؤه شَرّ"، وقول ابن أم قاسم المرادى فى "الجَنَى الدانى فى
حروف المعانى": "وذكر ابن مالك أن لام الجحود هي المؤكدة لنَفْيٍ "في خبر كان" ماضية لفظًا أو معنًى"،
وكذلك قول عبد القادر البغدادى فى "خزانة الأدب": "وأجاب بأن أصل
خبر كاد أن يكون اسمًا كما "في خبر كان"، ولذلك استعمل ذلك الأصل
المرفوض في البيت، فالفعل واقعٌ موقع الاسم نظرًا إلى الأصل"... إلخ. أما الدكتور لويس فهو بكلامه ذاك إنما يلعب فى
الوقت الضائع، كما أن طريقته فى التفكير ليست فى الواقع طريقة أهل العلم، بل طريقة
العوامّ أحلاس المصاطب، فهو فى الواقع لا يبغى، بزعمه أن اللغة العربية مدينة
للمصرية القديمة والقبطية، سوى المكايدة
كراهيةً منه للغة القرآن وللقوم الذين حملوا إلينا كتاب الله المجيد،
وهيهات، اللهم إلا فى الأحلام والأوهام مما ليس على من يلجأ إليها من حرج، بشرط أن
يبقى حبيس أحلامه وأوهامه لا يخرج عنها إلى فضاء العلم ويزاحم بها فى سوقه، وإلا
فلا يلومنّ إلا نفسه إن أراه العلماء شُغْلَه وجَرّسوه وجعلوا من لا يشترى يتفرج!
وكثيرا
ما توفقت وأنا أقرا كتاب لويس عوض، وكذلك وأنا أناقش هنا بعض ما يتضمنه من سخافات
وتفاهات، وسألت نفسى: أيصح أن أستمر فى الاشتغال بهذه السخافات والتفاهات نازلا
بذلك على حكم صاحبها، إذ يصرفنى عما يفيد بما لا يترتب عليه سوى إهدار الوقت
والجهد فى قراءة هذه الهلاوس والرد عليها؟ وأكاد أنصرف لولا، وآه من لولا، نعم
لولا أن هناك باعةً سرِّيحة تخصصوا فى البكش وبرعوا فى الضحك على عباد الله الأغرار
فتراهم يرفعون عقائرهم بالصياح المنغَّم مع القسم المغلَّظ بالله إنهم لا يقولون
إلا الصدق، ولا شىء غير الصدق، وإن ما يعرضونه من سلع إنما هو بضاعة أصلية ممتازة
ورخيصة الثمن، ثم لا يقف المشهد عند هذا الحد، بل نشاهد فريقا من المطيباتية
يُقْبِلون من بعيد على نحو يوهم من لا يعرف خبيئة الأمر أنهم أَتَوْا بالمصادفة
المحضة والْتَقَوْا هناك على غير ميعاد، ثم يأخذون فى تقليب السلع وعليهم علائم
الجِدّ والاهتمام، ثم يشرعون بعد ذلك فى الثناء عليها والتصفيق لها والتظاهر بالشراء منها
والإعراب عن الانبهار بها. فخوفا من أن يقع عباد الله الطيبون فى حبائل أولئك
النصابين المحتالين وصبيانهم كان لا بد من "تضييع" الوقت فى مناقشة هذه
السخافات والتفاهات حسبةً وابتغاءً لأجر الكريم المتعال.
ومن
نفس الوادى ، وادى الجهل وقلة البضاعة العلمية والمنهجية، قوله إن لفظ
"البَنَان" لفظ مفرد لا جمع له. وهو يرجع بها إلى كلمة "Finger" التى يفترض جنابه العالى أنها كانت أولا "Penger"، ثم يعود فيفترض ثانية (على طريقة "سكتنا له، دخل
بحماره") أن "Penger"
هذه قد أصبحت "Pener"
مع تطويل حرف الــ"e"
الثانى حتى تكون قريبة من "بنان" (ص 418). ولن أناقش افتراضَيْه
الـمُضْحِكَيْن اللذين يأخذ راحته وحريته تماما فى افتراضهما مثل أى ولد سخيف مدلل
فاسد يعبث بلعبته دون أن يكون لأحد الحق فى التعقيب على هذا التخريب، بل سأحصر همى
فى مراجعة الجهل المتمثل فى حسبانه أن كلمة "بنان" كلمة مفردة، وأنه لا
جمع لها، وأنها من ثم لا تعنى "إصبعا" بإطلاق، بل إصبعا بعينه هو
البنصر. ولماذا البنصر؟ لا أدرى، فهذا ما شاءه "أستاذنا الدكتور لويس"،
ولا راد لمشيئته العابثة المخربة. فليعلم إذن لويس أن كل ما قاله جهل فى جهل فى
جهل فى جهل... من هنا للصبح، ليس صبح الغد، بل صبح يوم القيامة (يا دين النبى!).
نعم ليعلم لويس أن كل ما قاله جهل فى جهل فى جهل فى جهل، إذ "البنان"
ليس لفطا مفردا، بل هو كــ"شجر" و"ورد" و"سِدْر"
مثلا، أى جمع لا مفرد، ويسمى: اسمَ جنسٍ جمعيًّا، ومفرد هذا اللون من الجموع يكون
بإضافة "تاء التأنيث" إليه، فنقول: "شجرة، وسِدْرة، وزهرة، ووردة،
ونخلة، وتوتة... وتوتة توتة خلصت الحدوتة!". وعلى هذا فمفرد "بنان"
هو "بنانة"، وكان الله يحب المحسنين! أما القول بأن كلمة
"بنان" لاتدل على"إصبع" بوجه عام، بل على "البنصر"
بالذات فجوابى عليه هو أن يقوم من يقول بذلك ويغطى نفسه جيدا لأن ما يقوله عيب لا
يصح! فاللغة لا يصلح لها هذا التنطع الجاهل الثخين الوجه. أجل، لأنها ليست بنت
اليوم حتى يفتى فيها لويس، بارك الله فى عقله وعلمه! بل هى موجودة منذ دهور، على
الأقل قبل أن نصطبح بوجه لويس! أليس كذلك؟ ومن ثم فليس لمن يقول كما قال لويس عوض
إنه كان ينبغى أن يكون هناك "التِّنْصَر" مثلما هناك "الخنصر"
و"البنصر" إلا مستشفى الـــ... لا لا، لا داعى للتكملة، فالطيب أحسن!
وهو يدعى أن
الصفة: "هَصُور" ليس لها اشتقاق واضح فى اللغة العربية، ومن ثم يرجح
أنها كانت اسما من أسماء الأسد ثم ذهبت مذهب الصفة (ص 444). لكن هل هذا صحيح؟ كلا،
بل اشتقاقها واضح، إذ هى مأخوذة من الفعل: "هَصَر"، أى أخذ الشىء نحوه
وكسره وحطمه، بالإضافة إلى بعض الدلالات الأخرى. جاء فى معجم "محيط
المحيط" مثلا: "هصَرهُ يهصِرهُ هَصْرًا: جذبهُ وأمالهُ. والشيءَ: كسرهُ
ودفعهُ وأدناهُ. والغصنَ وبالغصن: عطفه وكسره من غير بينونة أو ثناهُ ومدَّهُ إلى
نفسهِ، أو هو عَطْف أيّ شيءٍ كان. وفي حديث الركوع: "ثم هصر ظهرهُ"، أي
ثناهُ ثَنْيًا شديدًا في استواءٍ بين رقبته وظهره. وقال امرؤُ القيس:
هَصَرْتُ
بفَودَيْ رأسها فتمايلتْ* علىَّ هَضِيمَ الكَشْح رَيَّا الـمُخَلْخَلِ
انهصر واهتصر: مطاوعا هَصَر. واهتصر الغصنَ: بمعنى هصرهُ. والنخلةَ: ذلَّل
عذوقها وسوَّاها. الهَصْرَة والهَصَرَة: خرزة للتأْخيذ.
الهَيصُور والهَيْصَر والهَيْصَار والهَصَّار والمِهْصَر والهُصَرَة والهاصِر
والهَصْوَرَة والهَصْوَر والمِهْصَار والمِهْصِير والهَصِر والهُصَر والمُهتصِر
والهَصُور: الأسد، لأنهُ يهصر فريستهُ".
ثم هل يحل اقتراح لويس عوض
المشكلة؟ أبدا، بل سنظل نرواح أماكننا، إذ السؤال هو: وعلام تدل تلك الصفة إذا
قلنا إنها متحولة من اسم للأسد إلى صفة له؟ ستظل دالّةً على الأخذ العنيف والكسر
والتحطيم كذلك. فكأنك يا أبا زيد ما غزوت! ثم كيف يجوز لواحد منا الآن، أى بعد أن
برزت اللغة العربية إلى الوجود بأحقاب لا يعلمها إلا الله (ومعه لويس عوض طبعا حسب
أوهامه القاتلة!)، أن يذهب فى بيداء التخمينات الساذجة المضحكة ويتخيل ثم يخال،
ويضع تاريخا جديدا للُّغة ما أنزل الله به من سلطان، تاريخا لا تماسك فيه ولا منطق
ولا علم ولا فهم، تاريخا لا يستند إلا إلى العناد والتمرد ومحض الرغبة فى التشكيك
فى كل شىء وترك القارئ مبلبل النفس والعقل تمهيدا للمرحلة التالية، مرحلة القضاء
على اللغة ذاتها بعد أن اجتاحت الرِّيَبُ كالنار كلَّ شىء؟
ومن ذات
الوادى، وادى الجهل المركب، قول "أستاذنا وتاج رأسنا ورأس من خلفونا وتركونا
مع لويس عوض للضياع والخسران" إن كلمة "بَوّ" معناها "العجل
الصغير" (ص 434). وهذا جهل شنيع، وبخاصة من رجل أبت له همته القعساء إلا أن
يقعد مقعد الإله فيفتى فى شؤون اللغات جميعا على مدار التاريخ الإنسانى كله تقريبا
دون أن يرفق بنفسه (وهذه هو حُرٌّ فيها) ودون أن يرفق بنا (وهذه ليس هو حُرًّا
فيها، بل تثير أعصابى وتجعلنى أكتب ما أكتب الآن ردا على هذا الصداع الذى يسببه
لنا هذا الجهل الفاحش). نعم إن هذا جهل شنيع، بيد أن الأمر لا يقف عند حدود هذا
الجهل الذى كان يمكن صاحبه أن يزيحه عن عقله لو أنه رجع إلى أى معجم. لكنه طبعا
أبو زيد زمانه، بل أبو زيد كل الأزمنة والأمكنة، أبو زيد السالك صاحب السكة التى
كلها مسالك، ومزالق، من كثرة ما يرمى بنفسه فى المهالك، من حالق، فى الظلام
الحالك، فتصبح فضيحته خبر الممالك والبيالك والشفالك، وحديث المصاطب والأرائك،
مستطيرا كلهيب الحرائق، دون عوائق! المهم أن الأمر ليس أمر جهل فحسب، بل أمر حواة
جاهزين لكل ما تريده الجماهير منهم من ألاعيب. ذلك أنه يرتب على هذا الجهلِ القولَ
بأن الجذر: "بو" هو أساس كلمة
"بقرة" (وكذلك الثور، لأن البقرة لا تستطيع أن تدبر شؤونها وحدها فى
مجتمع ذكورى متخلف، وتحتاج إلى رجل. صحيح أنه "راجل طور" كبعض الناس،
لكنه رجل والسلام، وظِلّ رَجُل ولا ظِلّ حائط!)، نعم، "البَوّ" هو أساس
كلمة "بقرة" و"ثور" فى كل اللغات الرئيسية فى العالم تقريبا.
فانظر إلام جَرَّ الرجلَ غرورُه. لقد جرّه إلى حتفه، و"راح فى
الكازوزة"! والكازوزة، كما تعرفون حسب العلم اللويسى العوضى، مأخوذة من نفس
الجذر الذى أخذت منه كلمة "كِزّ" و"جِزّ" و"هِزّ يا
وِزّ" و"حَطَّة يا بطة يا دقن القطة" و"نطّة"
و"شطة" (لاعب الأهلى القديم، وكان سودانيا، وكان يحب النط، فلذلك ذكرناه
بعد كلمة "نطة") و"شنطة" و"وزة وبطة" و"واك
واك واك" و"كاك" و"ماك" و"كرباك"، (وهى صيغة
أخرى من "كرباج"، ولاحظوا أنها قريبة فى جرسها من كلمة
"عربجى"، وهو الرجل الذى اخترع منطاد زبلن الذى تعاورته قبلا الصيغ
التالية: "زبرن، زربن، كربن، كرجن، برجن، عربن، عربج"، وهذه الصيغة
الأخيرة هى التى أدت إلى ظهور كلمة "عربجى"، وكان هذا العربجى يمسك
كرباجا ويلسع به من يتشعلقون فى مؤخرة المنطاد. ولهذا سنضيفه إلى هذه القائمة
ونقول: "عربجى")، و"حنطور" و"الإلهة حتحور بنت
الطور" (لاحظ التشابه اللفظى بين "حنطور" و"حتحور"،
فأبوها كان رئيس العربجية فى زمانه)، وبعد "حنطور" يأتى بطبيعة الحال
"شَفْتُور" و"عَجُّور" و"بَعْجُور"،
و"جرَاك" (أى معَسّل عند السعوديين) و"حراك" (لامعنى لها هنا،
وإن كان لها معنى كل المعنى عند الحداثيين، لكننا ذكرناها توطئة للكلمة التالية)
و"حراج" (سوق الكانتو عندالسعوديين أيضا) و"لجاج"
و"اعوجاج" و"ارتجاج" و"زعيط ومعيط ونطاط الحيط"
و"الحيض" و"كرتونة البيض" (لاحظ العلاقة بين البيض والحيض،
فقد كانت النساء زماااااااااان يبضن ولا يلدن، ولذلك كان البيض رخيصا)
و"النفاس" و"الوسواس الخناس" "والسكسكة فى
الحمبلاص" و"لحمة الراس" و"الفشة والكرشة والمرشة من عند
المعلم أبو لباس" (وهذه الكلمات الثلاث بينها توتولوجى. وأرجو أن تسامحونى فى
"أبو لباس" هذه، فبدونها لن يكون هناك سجع)، و"أُسْتُرْجِى"
(على جَرْس "توتولوجى")، و"عطشجى" (مثلها)، و"قطار قليوب"
(الذى كان سببا فى كارثته العطشجى)، و"أبنوب" (على وزن
"قليوب"، وهو صاحب وكالة الحبوب هو والمعلم "أبو سريع"
اللهلوب)، و"قطار الشرق السريع" (ماشية مع "أبو سريع" طبعا)،
و"أرسين لوبين" (ملحوظة: "قطار الشرق السريع" قصة من قصص
أرسين لوبين كانت مشهورة فى اللغة السنسكريتية أيام الله لا يعيدها ولا يعيده هو
أيضا. وبعد أرسين لوبين تأتى، لزوم النغم الموسيقى، كلمة "مسطرين"،
ولهذا نقول:) و"مسطرين"، و"حسنين ومحمدين"، و"أبو
العينين"، و"أروح فين، وآجى منين؟". لا تضحكوا، فإن ما صنعه لويس
عوض فى معظم صفحات كتابه لا يختلف كثيرا عن هذا سوى أنه يرسم على وجهه ملامح
الوقار (الزائف طبعا)، أما أنا فلا أتمالك من الضحك على هذا الوقار الكاذب، والعقل
الهارب، والجهل الكارب!
يااااااااااه،
لقد نسيت فى غمرة هذا العلم اللَّدُنِّىّ أن أذكر لكم المعنى الصحيح لكلمة
"بَوّ". ولسوف نكتفى بــ"لسان العرب" و"المحيط" عن
المعجمات الباقيات: يقول ابن منظور إن "البَوّ (غير
مهموز): الحُوار. وقيل : جلده يُحْشَى تِبْنا أَو ثُمَاما أَو حشيشا لتَعْطِف عليه
الناقة إذا مات ولدها ثم يُقَرَّبُ إلى أُم الفصيل لتَرْأَمَهُ فتَدِرَّ عليه.
والبَوُّ أَيضا: ولد الناقة. قال:
|
إذا ذكَرَتْه آخِرَ الليلِ حَنَّتِ |
وأَنشد الجوهري للكميت: "مُدْرَجة
كالبَوِّ بين الظِّئْرَيْن". وأَنشد ابن بري لجرير: "سَوْق الروائمِ بَوًّا بينَ
أَظْآرِ". وفى "المحيط": "البَوُّ: ولد الناقة.-: جِلْد ولد الناقة يُحْشَى تِبنًا
فيقرَّب من أمّ الفصيل فتُخْدَع وتعطف عليه فتَدِرُّ. ومنه المثل: أخدعُ من
البّوِّ". ولعلى أفيد القراء شيئا إذا قلت إن "البَوّ"، كما عرفناه
ونحن صغار، هو كرة ضخمة كبيرة من الخرق القديمة الملفوفة بالحبال اليدوية كان
الفلاحون يلعبون بها،
وقد شاطرتهم هذا اللعب أحيانا فى خمسينات القرن الماضى وبعض أوائل ستيناته، ثم
اختفت تماما بعد ذلك. وواضحةٌ الصلة بين هذه الكرة والبَوّ الذى كانت العرب قديما
تحشوه تبنا لخداع الناقة استدرارًا للبنها.
ومن جهله المغرض الذى يوقعه الله فيه دائما كى يفضحه ويشهّر به فى العالمين
قوله (ص 552) إن "الصَّيْقَل" هو لوح الفضة الذى يستخدم مرآةً، وذلك كى
يتخذه تكأة للقول بتحول إحدى الكلمات الأجنبية إلى كلمة عربية، مع أن
"الصَّيْقَل" إنما هو شَحّاذ السيوف الذى يجلوها كما جاء فى
"الصحاح" للجوهرى، و"تهذيب اللغة" للأزهرى، و"لسان
العرب" لابن منظور، و"تاج العروس" للزبيدى، و"محيط
المحيط" للبستانى، و"المعجم الوسيط"، و"الرائد" لجبران
مسعود، و"لاروس" للدكتور خليل الـجُرّ مثلا، وليس لوح الفضة المزعوم فى
كلام الدكتور لويس. كما فاته فى ذات السياق أن كلمة "سَجَنْجَل" التى
وردت فى معلقة امرئ القيس هى فى الأصل كلمة مستعارة من لغة الروم كما جاء فى
"أدب الكاتب" لابن قُتَيْبَة و"خزانة الأدب" للبغدادى
و"محيط المحيط" للبستانى مثلا، إذ ذكر "أستاذنا الدكتور لويس
عوض" أنها عربية، ثم مضى فبنى كلامه على هذا الأساس، وهو الذى لا تفوته فرصة
دون أن يزعم أن الكلمة العربية الفلانية أو العلانية أو الترتانية مأخوذة من هذه
اللغة الأجنبية أو تلك. والسبب هو أنه قليل العلم فى الميدان الذى تصدى فيه
للكتابة فلم يعرف ما قال العلماء العرب أنفسهم فى أصل كلمة
"السَّجَنْجَل".
وهو
يقول إن جذر "بيو" اليونانى الذى يعنى "حياة" (كما فى "بيولوجى"
و"بيوجرافى") لا يزال موجودا فى اللغة العربية متمثلا فى عبارة
"حياك الله وبياك" (بمعنى "أحياك الله وأحياك") وفى غيرها مما
يشير إلى ذكرياتٍ للَّفظةِ قديمةٍ هذه بقاياها (ص 218). فأما فى غير
"بياك" فلم يورد أى شاهد، ولهذا نضرب عنه صفحا ونعده كلاما فى الهواء لا
يعنى شيئا، فالكلام المرسل ليس عليه حساب، وما أسهله على كل من أراده. لكننا نقف
قليلا بإزاء تعبير "حياك الله وبياك"، الذى يقول عنه إنه نوع من
"التوتولوجى"، أى تكرار المعنى بعبارات مختلفة دون أن يترتب على هذا
التكرار زيادة فى وضوح المعنى. وعنده أن "حياك" عربية بمعنى
"أحياك"، أما "بياك" فيونانية، ولها نفس المعنى كما سبق
بيانه. أى أن معنى العبارة هى "أحياك الله وأحياك".
وأولا
نقول إن "حياك" هنا مختلَف فى معناها، ولم يذكر المعجميون أنها تعنى
"أحياك" كما قال الدكتور لويس، بل قالوا إنها تعنى الدعاء للشخص بالبقاء
أو بالمُلْك أو بالتحية. ثم ما معنى أن يُدْعَى لإنسان بالحياة إذا كان حيا فعلا؟
لو قيل مثلا: "أحياك الله حياة طيبة" لكان للكلام معنى، أما أن نقول:
أحياك الله" هكذا بإطلاق فلا تصح إلا إذا كان المدعوّ له ميتا فندعو له حينئذ
أن ينقله الله من حالة الموت إلى حالة الحياة. فهل يصح أن نخاطب ميتا؟ ثم متى أحيا
الله إنسانا بعد موته على غير يد عيسى عليه السلام الذى أعطاه الله المقدرة على
إحياء الموتى، أجل متى حدث ذلك حتى يكون ثمة أمل باستجابة مثل ذلك الدعاء؟ إذن
فالأبواب موصدة فى وجه لويس عوض أَنَّى اتجه!
وثانيا لو صح
هذا الذى يزعمه لويس فإنه لا يسمَّى: "حشوا" كما زعم، إذ الحشو ما كان
لفظه زائدا على أصل المعنى دون أن تحمل الزيادة معها فائدة. وهذا الذى بين أيدينا
ليس من الحشو، بل من التكرار الذى يراد به التأكيد، وبخاصة أن اللفظ الثانى (حسب
كلامه) مأخوذ من لغة أخرى، فهو يعطى الكلام نكهة منعشة، كما كنا نبتهج ونحن نسمع
فى شبابنا إحدى أغانى الفلم الهندى "سانجام" حيث يردد المغنى عبارة
"أحبك" بعدة لغات مختلفة: (هكذا حسب ما أذكر بعد أربعين عاما:"ich liebe dich, I love you, Je vous aime").
وعلى هذا فحتى فى أمر بسيط كهذا لا يستطيع لويس عوض أن يقول شيئا سليما، وهو ما
يؤكد ما لاحظته من قبل من أنه يكتب ما يعن لخاطره دون أن يكلف ذلك الخاطر التثبت
مما يكتب. وهذا هو العبث بعينه، إذ مطلوب من الكاتب ألا يخط شيئا دون أن يكون
متيقنا من صحته، وبخاصة فى مثل تلك المسائل التى لا تكلف من يطلبها أكثر من أن
يفتح كتابا من كتب البلاغة، وهى أكثر من الهم على القلب!
بيد أن لويس عوض لم يفعل، وهو لم يفعل لأنه
مغرور، مع أن العلم ليس فيه كبير! والغرور والانتفاخ فى العلم دليل على الضحولة والسطحية، إذ العالم الحق كلما ارتقى وازداد نطاق معارفه
اشتد تواضعه واستوثق أنه ليس إلا جاهلا كبيرا، وإن كان جهله من النوع البسيط الذى
يستحث صاحبه على الاجتهاد فى إزالة حجب الظلام عن عقله! والحشو، كما ألمحنا،
هو تكرار المعنى بعبارات أخرى دون أن تترب
عليه فائدة. إلا أن هذا المثال، إن صح ما يقوله فيه الدكتور لويس، لا يقوم على
تكرار المعنى بعبارات مختلفة، بل بنفس الألفاظ لكن بلغة أخرى. كما أن التكرار هنا،
لو صح ما يقوله لويس عوض، من شأنه أن يضفى على الكلام تأكيدا. وأخيرا فإن الحشو قد
يقع فى أسلوب كاتبٍ فردٍ، أما أن يقع فى عبارة يرددها العرب جميعا فى كل العصور
دون أن يتنبهوا إلى هذا فيتجنبوه بل يظل يستعمله كبار الكتاب والشعراء وصغارهم
والجمهور العادى فلم أسمع به!
وليسمح
لى القراء الكرام بلفت نظرهم فى هذا السياق إلى مصيبة أخرى من مصائب "أستاذنا
الدكتور لويس عوض" فى باب هذا "التوتولوجى" اللعين الذى لو كنت أنا
من الأستاذ الدكتور ما جئت بسيرته على لسانى إلى أن أموت وأشبع موتا وأبعث فى
العالم الآخر ثم لا أفكر فى الإتيان بسيرته بعد هذا كله رغم ذلك على لسانى، إذ قال
لا فض فوه (أو "فُضَّ" حتى يريحنا من خوتة الدماغ التى يزعجنا بها على
مدى مئات الصفحات دون أن يصيبه صداع ولا ملل ولا قرف، وهو ما يرشحه لموسوعة جينز
العالمية) عن "تاتا خَطِّى العتبة": إنها تعبير توتولوجى! ثانٍ يا
دكتور؟ أوبعد هذا كله لم تحرِّم؟ قلنا إن التوتولوجى هو تكرار المعنى بعبارات أخرى
لا تضيف جديدا، فهو إذن مجرد حشو. وعلى هذا فــ"تاتا خَطِّى العتبة"
ليست من التوتولوجى فى شىء. وهذه عبارة "أستاذنا الدكتور لويس عوض":
"وربما كان هناك تعبير توتولوجى فى التعبير المصرى المألوف فى لغة الأطفال:
"تاتا خَطِّى العتبة" قُصِد به، مع اللعب على الألفاظ العربية، حفط جذر
"ات" كما فى "تا" و"خط" و"عت" فى
"عتبة" (ص 268). أرأيت أيها الصديق القارئ كيف يصبح مجرد تكرار الجذر فى
عبارة من العبارات "توتولوجى"؟ وهذا لو صح أن هناك تكرارا فى الجذر فى
تلك العبارة! إن ما يقوله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" ما هو إلا
خنفشاريات بهلوانية لا تسمن ولا تغنى من علم! وعوضنا على الله فى لويس بن عوض!
والله إنى لأشعر بالخجل أَنْ كان هناك جامع بينى وبين أستاذنا الدكتور لويس عوض،
هو لقب "عوض"!
وثالثا
ليست معنى كلمة "بيّاك" فى العبارة التى بين أيدينا "أحياك"،
بل معناها: "بيَّنه ووضَّحه، أو سَرّه وعجَّل له ما يحب، أو بوّأه مكانا
حسنا". وهناك من هذه المادة أيضا قولهم: "هَىّ بن بَىّ" أو
"هيّان بن بيّان"، بمعنى "فلان بن فلان". ويمكن أن نضيف إلى
ذلك (لكن بالواو لا بالياء) الفعل: "باء" فى "باء إلى" بمعنى
"رجع"، و"باء بالذنب أو بالمسؤولية": أقرّ بهما، و"باء
بفلان": قُتِل به، و"بوّأه المكان الفلانى": أنزله إياه. ومنه أيضا
"بِيئة"، وهو المكان الذى ينتمى له الشخص أو يرجع فى آخر المطاف إليه،
و"الباءة"، أى الزواج، و"القوم بَواءٌ فى هذا" أى أَكْفاء...
إلخ. وكما هو واضح لا علاقة لهذا كله، لا فى المعنى ولا فى الاشتقاق، بالمقطع
"بيو: bio"
اليونانى الذى تقرّ اللغات الأوربية أنها قد أخذته عمدا ووضعته فى أول بعض الكلمات
فيها للدلالة على معنى "الحياة". كما أن الطريق الذى اتخذه هذا المقطع
فى رحلة دخوله للغات الأوربية الحديثة طريقٌ لاحِبٌ معلومٌ للجميع. وهذه اللغات
حديثة عهد بالوجود، فهى محتاجة إذن إلى هذه الاستعارة، فضلا عن أن هناك جامعا يجمعها
باليونانية هو الخلفية الأوربية وانتماؤها جميعا إلى مجموعة اللغات الهندية
الأوربية، أما العربية فمن اللغات السامية، ولا علاقة لها بها. وعلى هذا فكل ما
كتبه لويس عوض فى هذا الموضوع هو عبث فى عبث فى عبث وتضييع للوقت والجهد: لا وقته
هو وجهده، فمن الواضح أن وقته كان طويلا وفاضيا، بل وقتنا نحن وجهدنا، إذ يترك
السبيل الواضحة المستقيمة التى يقتضيها العقل والمنطق والعلم والتاريخ، ويضرب فى
بيداء مضلة مهلكة عنادًا جاهلاً وكبرًا أثيمًا.
ولولا أننى
آليت على نفسى أن أفضح عجزه وبهلوانيته وقلة
بضاعته من العلم حتى لا يأخذ الشباب ما يكتبه فى هذا المضمار مأخذ الجد ويظنوا أن
تحت القبة شيخا وحتى أجنّبهم مزالق الطريق الوعر فى هذه الأيام التى ساد فيها
الرويبضات لما جشمت نفسى هذا الجهد فى الرد على رجل كلويس عوض مكشوف المقاتل بادى
السوءات! والعبارة على كل حال تقترب من باب الإتباع، كقولنا: "قسيمٌ
وسيم"، و"حَسَنٌ بَسَن"، و"ضئيلٌ بئيل"، و"قبيحٌ
شقيح"، و"جَظٌّ جَعْظ"، و"شيطانٌ لَيْطَان"،
و"هَشٌّ بَشٌّ"، و"ثائر فائر"، و"حائر بائر"،
و"ندمان سدمان"، و"اللَّحْظ واللَّفْظ" (من كلام طه حسين)،
و"عَلِيلٌ بَلِيلٌ" (للنسيم)، و"عِيَانًا بيانًا"،
و"حارٌّ جارٌّ"، و"لَقًى بَقًى" (مرمىٌّ مطروح)، و"لَقْلاقٌ
بَقْباقٌ"، و"ثَرْثارٌ بَرْبار"، و"فُلاَن وعِلاّن"،
و"هَبَّ ودَبَّ"، و"هنّاه ومنّاه" (تقال فى وسوسة الشيطان)،
و"أبتعين أبصعين (أى جميعا)". ومنه فى العامية: "إِهِئْ
مِهِئْ"، و"الهُؤْ النُّؤْ"، و"سَلْقَط مَلْقَط"،
و"سَدَاح مَدَاح"، و"التَّبَات والنَّبَات"، و"خَبْص
ولَبْص"، و"حانا ومانا"، و"حاتا باتا"، و"حَتَتَكْ
بَتَتَكْ"، و"حَلاَل بَلاَل"، و"طويل هبيل"، و"هِيلاَ
بِيلاَ"، و"السَّحّ الدَّحّ"، و"السَّحّ النَّحّ،
و"حَطّة يا بطَّة"، و"كانى مانى"، و"شُرُمْ
بُرُمْ"، و"خايب ونايب"، و"شافع ونافع"، و"شايب
وعايب"، و"كِرْشَة ومِرْشَة"، و"الصباح رباح"،
و"سِيما وقِيمَة"، و"سَلْطَحْ مَلْطَحْ" (من فلم "إشاعة
حب")، و"خِيبَة بالوِيبَة". وما زال الكبار منا يذكرون ما كان
الناس فى مصر يرددونه وراء شويكار فى
ستينات القرن الفائت من قولها فى إحدى تمثلياتها فى غُنْجٍ سمج: "خالِصْ
مالِصْ"، وإذا زوَّدتْ عيار السماجة قليلا قالت: "خالص مالص بالص"،
وإذا تمادت فى السماجة قالت: "خالص مالص بالص جالص" بمعنى "تماما/
أبدا"! ومن المعروف فى الإتباع أنه قد يكون للكلمة الثانية معنى قريب من معنى
الكلمة الأولى كما فى بعض الشواهد المارة، أو قد تجىء بلا معنى سوى هذا التناغم
الموسيقى المنعش الذى نراه فى بعض الشواهد الأخرى.
وأخيرا
لقد كان بمستطاعنا أن نقول إن اليونانية هى التى أخذت كلمة "بيو" من
"بيّاك" و"باءَ" وأمثالهما، لكننا لسنا كلويس عوض فى الثرثرة
الفارغة واللامبالاة ورمى الكلام على عواهنه دون مبالاة بالعقابيل وحشو الصفحات
بأى شىء، والسلام، وإلا لكان علينا أن نبين بالدليل القاطع أو ما يقرب منه أن
اليونانية إنما أخذت هذه الكلمة من اللغة العربية، وأن نبين فوق ذلك بالدليل أيضا
المسار الذى اتخذه هذا الانتقال بين اللغتين. أما أن ينجعص الإنسان فوق المصطبة
ويتجشأ من أعماق بطنه بصوت كريه السمع والرائحة ثم يفتى فيما لا يحسنه دون تبصر أو
برهان أو فقه أو فهم فهذا شىء آخر لا صلة بينه وبين العلم، على الأقل العلم الذى
نعرفه وتربينا على احترام منهجه. أما إن كان هناك علم آخر يسمح بها، لا بل يباركه
ويرحب به ويصفق لصاحبه ويطنطن باسمه، فذلك شىء آخر لا يشرفنا أن تكون لنا به أية علاقة!
*****
وفوق كل ما
مر هناك خطأ رهيب آخر يقع فيه بصفة دائمة "أستاذنا وتاج رأسنا وحبة عيننا
الدكتور لويس عوض"، وما أكثر أخطاءه وأدومها وأفدحها، ألا وهو حديثه عن
العامية المصرية بوصفها لغة تختلف عن العربية الفصحى اختلافا جذريا ولا صلة لها
بها، وكأن المصريين يتكلمون باللاوندى مثلا. ومعروف لكل إنسان، حتى من لم يذهب إلى
الكتاب ليفك الخط، أن العامية هى مجرد مستوى من مستويات اللغة نفسها التى ينتمى
إليها المستوى الفصيح. ومعروف كذلك، إلا لمن أعمى الله قلبه وعينيه جميعا، أن
العامة فى أية أمة يفهمون اللغة العصحى كما يفهمون العامية إلى حد كبير ما دام
مستوى الفكر المعبَّر عنه لا يرتفع كثيرا عن مستواهم الثقافى، وإلا تحولت المشكلة
فى هذه الحالة من مشكلةِ عاميةٍ وفصحى إلى مشكلة مستوًى ثقافى ومستوى ثقافى آخر،
بالضبط مثلما لا يستطيع واحد مثلى أن يفهم بسهولة أى شخص يتناول بالحديث أو
بالكتابة موضوعا بعيدا تماما عن مجال تخصصى وقراءاتى واهتماماتى. ذلك أن العامية
فى أية لغة، كما قلنا ونقول دائما، هى ذاتها الفصحى مع بعض التحويرات التى قد تدخل
على بعض الالفاظ أو التراكيب، فضلا عن تخليها عن الإعراب (بالمناسبة كنت أشاهد أمس
فى قناة "الجزيرة" برنامجا عن اغتيال الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة
"الإخوان المسلمين"، وكان من المتحدثين اللواء فؤاد علام صديق الإخوان
اللدود فراعنى أنه كثيرا ما يعرب الكلمات، بل ويعربها إعرابا صحيحا). كما أن
العامية كثيرا ما تضيف إلى اللغة مفردات وتعبيرات وصورا ليست فى الفصحى، لكن هذا
لا يجعل من هذه المفردات ولا تلك التعبيرات والصور شيئا أجنبيا عن اللغة. والدليل
على ذلك أن فريقا من الكتاب الفصحاء يتبنَّوْن كثيرا من هذه الإضافات العامية فى
أساليبهم، وكل ما يفعلونه هو إجراؤها على مقتضى الإعراب وإرجاعها إلى صيغتها
الفُصْحَوِيّة إذا كانت قد تعرضت لشىء من التحوير.
وأنا من هذا
النوع من الكتاب، وإذا أراد القارئ شواهد على ذلك فأمامه الدراسة مملوءة بمثل تلك
الألفاظ والعبارات والصور، ومنها عبارة "أستاذنا وتاج رأسنا وحبة عيننا"
التى لم أفعل فيها شيئا سوى أن أعدت "الألف" فى "راسنا" همزةً
فصارت: "رأسنا"، وإن كان إبقاؤها كما كانت بالألف لا يخرجها عن المستوى
الفصيح، إذ من العرب القدماء من لم يكن يهمز، ومنهم أهل مكة ذاتها، فكانوا يقولون
كما نقول الآن فى العامية: "راس"، "كاس"، "بير"،
"شُوم"، "لولو"... ومع ذلك فقد همزتُ الكلمة هنا لأننا فى
الفصحى الآن لا نسهّل الهمز بل نحققه، وهذا كل ما هنالك. ولو كانت العاميات لغات
مستقلة برأسها لا مستويات من اللغة إلى جانب المستوى الفصيح لكان معنى هذا أنه ما
من شعب فى الدنيا إلا ويتكلم عددا كبيرا من اللغات بعدد العاميات التى يتكلمها
سكان المناطق المختلفة فى البلاد، علاوة على الفصحى ذاتها، وهذا مما لايقول به
عاقل ولا مجنون. بيد أن الدكتور لويس صاحب غرض، والغرض مرض، وقد غطى المرض الذى
يعانى منه وتتلوى مصارينه بسببه على بصره وبصيرته! وما يقوله لويس عوض هو جزء من
سياسة الخطوة خطوة لقتل اللغة العربية وإحلال العامية محلها. ولعلكم لم تَنْسَوْا
بَعْدُ كتابه سئ الذكر: "بلوتولاند" الذى كتبه بالعامية وأعلن فيه أنه
يريد كسر رقبة البلاغة الفصيحة. وفى هذا الصدد ينبغى أن نذكر دعواه الكاذبة بأن
المسلمين فى مصر يزعمون أنهم "من سلالة العرب الشريفة"، تلك الدعوى التى
أراد أن يعادل بها إقراره بما يردده الأقباط فعلا من الزعم الخرافى بأنهم هم وحدهم
الذين ينحدرون من سلالة قدماء المصريين، وأنهم من ثم أصحاب مصر الأصليون، وذلك
كيلا يكون أحد أحسن من أحد، مع أن أحدا من المسلمين قديما أو حديثا لم يقل هذا قط
(انظر نسيم مجلى/ لويس عوض ومعاركه الأدبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/
417). ومما يجرى فى ذلك المجرى أن بعض الأقباط صاروا الآن يتبَارَوْن فى إرجاع الكلمات
العامية المصرية إلى أصل قبطى فيزعمون أن هذه الكلمة أو تلك أصلها فى القبطية كذا
أو كيت، مع أنها كلمة عربية مائة فى المائة، وكل ما فى الأمر أن الاستعمال العامى
لها قد أدخل عليها شيئا من التحوير كما شرحنا قبل قليل.
ومن هذا أيضا أن فريقا من السياسيين المصريين
الكارهين للعروبة وما يرتبط بالعروبة من ثقافة وفكر وغير ذلك كانوا قد تداعَوْا
قبل سنوات قلائل إلى تأسيس حزب يتبنى طرد اللغة الفصحى وإحلال العامية محلها بشبهة
أنها لا الفصحى هى لغة المصريين. وكانوا قد أعلنوا، حسبما قرأنا فى الصحف، أنهم
يريدون ترجمة القرآن الكريم إلى العامية حتى يفهمه الناس! أى أننا بدلا من أن نقول
مثلا: "يا أيها الناس، ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له. إن الذين تَدْعُون من دون
الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له..." يتعين علينا أن نقول: "يا بنى
آدوم منك له له، تعالوا اسمعوا المثل اللى بيقول: المساخيط اللى بتعبدوهم دول بدل
ربنا لا ممكن أبدا انهم يخلقوا دبانة من الدبان اللى على وشكو ده يا أوساخ يا
لمامة. أُوم فزّ انت وهوّ من أُدّامى. جات البُعَدا شُوطه تاخدكو كلكو على وِشّ
بعضكو انتو والدبان اللى على خِلْقِتْكو الغَبْرا...". وبعد قليل لن يكون هناك
قرآن ولا يحزنون، والبقية فى حياتكم يا أهل مصر الطيبين! وهذه هى الغاية البعيدة
التى يرمى إليها كتاب الدكتور لويس جريًا على آثار المستشرقين والمبشرين ممن يأكل
الحقد قلوبهم على القرآن الكريم الذى يعرفون حق المعرفة أنه هو العقبة الكأداء
المانعة لأوربا والغرب من ابتلاع العالم العربى والإسلامى. وللعلم فدراستى هذه
التى بين يدى القارئ الكريم الآن يمكن أن يفهمها أى شخص يستطيع القراءة رغم أنها
مكتوبة بالفصحى، اللهم إلا بعض المصطلحات المغرقة فى التخصص.
ومن الأمثلة
على استبلاه لويس عوض وحديثه عن العامية المصرية على أنها لغة أخرى غير العربية
قوله إن الجذر: "Gen"
فى المجموعة الهندية الأوربية هو أساس كلمة "ضنا" (ص 187- 188)، التى
يصفها بــ"المصرية"، وكأن للمصريين لغة أخرى خاصة بهم غير العربية.
والكلمة، كما نعرف، تجرى على لسان المرأة المصرية عندما يحرقها قلبها على ابنها فتقول:
"يا ضنايا يا ابنى"، لكن "أستاذنا الدكتور" يزعم أنها غير
معروفة الأصل أو المعنى، طبعا إلى أن هَلّ هو علينا بطلعته البهية فانحل اللغز
الذى أرّق الدنيا واللغويين طوال القرون وحَلّه سعادته بفرقعة إصبعه النُّونُو
كَوَنُّونُو. والواقع أن كلمة "ضنا/ ضنى" عربية فصيحة: وإذا نطقناها على
أنها واوية الأصل وكتبناها من ثم بالألف كانت من "ضَنَت المرأة"، أى كثر
نسلها. وإذا نطقناها على أنها يائية الأصل وكتبناها من ثم بالياء لا بالألف كانت
من الفعل: "ضَنِىَ" بمعنى: أصابه الهزال من التعب. وقد يوصف المريض
النحيل نفسه بهذه الكلمة فيقال: "فلانٌ ضَنًا". وعلى هذا فالكلمة تعنى
فيما أفهم: "يا ابنى الذى ضَنِيتُ (أى تعبت حتى هُزِلْتُ) فى حمله
وتربيته"، أو "يا ابنى الذى يئنّ ويعانى"، إذ تقال هذه العبارة
عادة عند إشفاق الأم أو حزنها على ابنها. أو يمكن أن تكون هى "ضَنْءٌ"
الفصحوية كما قال د. عبد المنعم سيد عبد العال، ثم سُهِّلت الهمزة واستعيض عنها
بألف وعوملت معاملة المقصور، ومعناها "ولد" (معجم الألفاظ العامية
المصرية ذات الأصول العربية/ 135). ولا داعى لأية حذلقات ثقيلة الظل وخيمة
الأنفاس. أما ربط الدكتور لويس بين "يا ضنايا يا ابنى"
و"الضانى" فيبدو أنه كتبها وهو جائعٌ قَرِمٌ إلى اللحم، أو كما كنا نقول
ونحن صغار فى القرية: "شهوان اللحمة"!
ومثل ذلك
زعمه أن اسم "عشماوى" الذى يطلقه الناس فى مصر على الشرطى المختص بشنق
المحكوم عليهم بالإعدام هو صيغة من الجذر الجرمانى: ":Henchen
يشنق" والإنجليزى: ":Hangman الشنّاق"، وكأن المصريين لا
يعرفون فى لغتهم العربية كلمة "شنّاق" أو "خنّاق" حتى يعجزهم
توفير اسم لذلك الرجل إلا بعد أن وجدوه فى الجرمانية العالية والإنجليزية. ولكن
التفسير الصحيح هو أن هذا اسمُ شنّاقٍ مشهورٍ أُخِذ وعُمِّم واستُعْمِل "اسم
علم للجنس" لا "اسم علم لفرد واحد"، وذلك كقولنا: "جابوا له
فرقة حسب الله" لأى فرقة موسيقية شعبية، وكما كان كثير من أهل قريتنا فى
الخمسينات يقولون عن أى حافلة ركاب: "الكافورى" على اسم صاحب الشركة
التى كانت تسيّر الحافلات فى منطقتنا، ثم عُمِّم الاسم حتى صار يُسْتَعْمَل لكل
حافلة حتى لو لم تنتم إلى هذه الشركة. ومثله "أم على"، وهو طبق حلواء
لذيذ سُمِّىَ باسم أول من طهته، وهى "أم على" ضَرّة شجرة الدر، التى
قتلتها ثم أمرت بصنع هذا الطعام الحلو ووزعته على أحبابها فى أطباق تشفيا وابتهاجا
بانتقامها من غريمتها. ومثله كلمة "جُرُوبِّى" التى كنا نسمع بائع
الجيلاتى ونحن صغار يسمِّى بها قطع الآيس كريم التى ينادى عليها، مع أن هذه الكلمة
هى اسم حلوانى مشهور فى مصر فى ذلك الحين اتسع استعماله حتى صار يطلق على الآيس
كريم. وأذكر بهذه المناسبة أنه كان معنا ونحن صغار فى الفرقة الأولى
الإعدادية طالب من القرية مات بعد ذلك فى حرب 1967م رحمه الله، وكنا ننتشر بين
امتحانات آخر العام فى الشوارع القريبة من المعهد الذى كنا نؤدى الامتحان فيه فى
طنطا، وكان يدور بيننا الباعة الجائلون ينادون على مبيعاتهم، ومن بينهم رجل يبيع
قطع الجيلاتى فى صندوق نظيف، ويسميه كسائر الباعة فى ذلك الوقت:
"جروبى"، مناديا عليه بقوله: "جروبى النجاح يا سِيدْنا". فكان
زميلنا رحمه الله ينفق كل ما معه على "جروبى النجاح" هذا متصورا أن من
يأكل منه ينجح تلقائيا على حسب ما ينادى البائع الظريف. لكنه للأسف لم ينجح لا ذلك
العام ولا العام الذى يليه، ثم ترك التعليم وتعلم الخياطة فى القرية وبرع فيها وفى
لعب الكرة أيضا، وكان يشبه إلى حد ما محمد شوقى لاعب الأهلى الحالى. وعندنا كذلك
لفظ "الساندويتش" الذى أُخِذ من اسم أول من فكر فيه، وكان رجلا فرنسيا
مدمنا للقمار لا يستطيع ترك المائدة الخضراء، فكان إذا جاع يطلب ممن حوله أن يأتوه
بشطائر يتناولها وهو باق أمام عجلة الروليت. ومثله طبق "الشاتوبريان"،
وهو شرائح اللحم المشوى بالبطاطس، على اسم الكاتب الفرنسى المشهور الذى كان مغرما
بالطبخ والتفنن فيه واخترع هذا اللون من الطعام. ومثله كذلك "الـهُوفَر"،
الذى كنت أسمعهم فى بريطانيا يطلقونه على المكنسة الكهربية من باب التوسع فى
استعمال اسم شركة "هوفر"، التى تصنع تلك المكانس فى بريطانيا رغم أنها
لا تقتصر على صنع تلك الآلة، بل تصنع معها آلات كهربية أخرى. ويشبهه فى ذلك اسم
"سى السيد" (بطل رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ)
و"الخُطّ" (على اسم أحد سفاحى الصعيد قبل عدة عقود). وقد كنت أقلب فى
"معجم العادات والتفاليد والتعابير المصرية" للدكتور أحمد أمين بعد أن
كتبت هذه الفقرة والفقرات التى تليها بعدة أيام فألفيته يقول إن كلمة "الحاتى"
أصلها اسم أسرة مصرية اشتهرت بصنع اللحم المشوى، وإنه من غَلَبَةِ هذه الحرفة
عليهم صار الناس يقولون لكل من يصنع الكباب: "حاتى". بل إنهم اشتقوا من
هذا اللقب فعلا فقالوا: "حتاه يحتيه"، أى أكل مخه وضحك على عقله. ثم عقب
قائلا إن "هذه إحدى الكلمات التى شاهدنا تطورها فى حياتنا، فانتقلت من اسم أسرة
إلى اسم صناعة إلى الدلالة المعنوية" (معجم العادات والتفاليد والتعابير
المصرية/ 149). ومما قرأت فى ذلك القاموس أيضا عبارة "لونه توت عنخ
آمون"، بدلا من "لونه لون توت عنخ آمون"، أى ملون بالأصباغ
الجميلة، وهو تعبير شاع عقب اكتشاف مقبرة ذلك الفرعون التى وجدوا فيها ضمن ما
وجدوا قناعه الذهبى المزركش بالألوان البهيجة (ص 467). ثم لماذا نذهب بعيدا،
وعندنا تسمية أحد دراويش لويس عوض له بــ"ابن منظور المصرى"؟ فهذه مثل
تلك، ولا داعى لكل هذه الحذلقة السمجة!
ومعروف أن
"عشماوى" لقبٌ لكثير من الأسر العربية، ومنها عدة أُسَرٍ فى قريتنا
وحدها. ومن العشماويين الذين قرأت عنهم فى الكتب أو على المشباك محمد عشماوى أحد
وزراء المعارف بمصر فى العهد الملكى، وأحمد عشماوي، وهو رجل أعمال سعودى فى عهد الملك
عبد العزيز تحدث عنه محمد رفعت المحامي فى كتابه: "أسد الجزيرة قال لى"،
وصالح عشماوى، وكان من قيادات جماعة الإخوان
فى مصر أيام عبد الناصر، ومحمد زكى العشماوى أستاذ الأدب السابق بجامعة
الإسكندرية، ومحمد سعيد العشماوى المستشار القضائى المعروف، وعبد الرحمن عشماوى
الشاعر السعودى ذو الاتجاه الإسلامى، وعلى محمود علي عشماوى (السودانى
الجنسية) الذى ورد اسمه فيما يُعْرَف بقضية "التاكسى التعاونى" فى
الخرطوم منذ سنوات، وشخص سعودى
يدير مؤسسة للخدمات فى منطقة مكة المكرمة يدعى: إبراهيم عشماوى، وطالبٌ
سورىٌّ من دمشق تخرج من كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية بجامعة دمشق سنة 2004م اسمه نزار عشماوى. فهل نقول إن كل تلك الأسر تتيمّن وتتباهى باسم
"الخنّاق"؟ أليس هذا أمرا مضحكا؟
والواقع أن
اسم "عشماوى"، بعيدا عن الشقلباظات اللويسعوضية المضحكة، قد أتى من
النسبة إلى "عشما"، وهى بلدة ذكر السخاوى عند ترجمته لبعض رجاله فى
كتابه: "الضوء اللامع" أنها من قرى الغربية، إذ وصف يس بن محمد بن
إبرهيم بن محمد الزين، وكان معاصرا له، بأنه "العشماوي المولد، ثم البشلوشي
الأزهري الشافعي، والد الشمس محمد الماضي، ويعرف باسمه. وُلِد في أوائل القرن (يقصد
القرن التاسع الهجرى) بعَشْما من الغربية"، إلى جانب ترجمته لعدة علماء
عشماوية آخرين، وإن كان السيوطى يقول إن "العشماء" قرية بالمنوفية، وذلك
عند التعرض فى كتابه: "لب اللباب فى تحرير الأنساب" للقب
"العشماوى"، إذ نصّ على أنه نسبة "للعشماء، قرية بمصر من المنوفية".
ومثله الجبرتى، الذى عرض فى كتابه: "عجائب الآثار"، خلال كلامه عن حوادث
المحرم من عام 1124 هــ، لقرية "عشما" (التى ذكر أن الثلج تساقط فيها
ذلك الشهر) على أنها من قرى المنوفية. اللهم إلا إذا ثبت أن هناك أكثر من قرية
بهذا الاسم، وهو جائز جدا. كما ترجم كل من المرادى فى "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" وعبد الرازق البيطار فى "حلية البشر في تاريخ
القرن الثالث عشر" والبابانى فى "إيضاح
المكنون" و"هدية العارفين" لعدد من رجال العلم الذين يحملون لقب
"العشماوى". بل إن هناك رسالة لعبد الباري العشماوي اسمها "الرسالة
العشماوية" فى العبادات قام بشرحها أحمد بن تركي المالكي (من أهل القرن
العاشر الهجرى) في كتاب سماه: "الجواهر الزكية في حل ألفاظ العشماوية".
وهناك كذلك منظومة فقهية تعرف بــ"العشماوية" نسبةً لمؤلفها عبد اللطيف
بن شرف الدين العشماوي الأنصاري المالكي (من أهل القرن الحادى عشر الهجرى)،
و"نَظْم مَتْن العشماوى" فى العبادات أيضا للشيخ الطيب بُو خريص (من
علماء القرن الثالث عشر الهجرى بتونس) الذى تولى شرحه تلميذه أبو العباس أحمد بن
محمد عاشور الصدفي.
وحتى لو لم تكن هنا بلدة اسمها
"العشما" لقد كان لقب العشماوى، كما رأينا، معروفا فى مصر منذ قرون، أى
قبل أن تعرف أرض الكنانة وغيرها من الأقطار العربية بزمن طويل جدا نظام المشانق
الحالى والــ"Hangman"
الذى تحول (حسب قارئة الفنجان اللويسية فى شؤون الهَمْبَكة اللينجويستيكية) إلى
"عشماوى"، ذلك النظام الذى يقول عنه الصحفى محمد صلاح بجريدة
"أخبار الحوادث" إنه لم يكن موجودا على الأقل حتى عشرينات القرن
المنصرم، إذ "لم تكن هناك حجرة إعدام خاصة في
السجون كما هو الحال الآن، بل كانوا يقومون بنصب المشنقة في فناء السجن. وكانت
مشنقة بسيطة، مجرد ثلاثة عوارض خشبية تقام قبل ليلة تنفيذ الحكم ثم تزال بعد
التنفيذ مباشرة. في تلك الأيام لم تكن وظيفة عشماوي قد ظهرت. وكان
بعض حراس السجن يتم اختيارهم عشوائيا لأداء المهمة الثقيلة. وحتي الأصول والاجراءات التي ظهرت فيما بعد لم تكن
تُتَّبَع في تلك الأيام،
فلم يكن يتم تقييد يَدَيِ المحكوم بإعدامه كما
يحدث الآن. ولم يكن يوضع علي رأسه قناع أسود يغطي وجهه وعينيه خلال اللحظات البشعة
التي تسبق الاعدام" (محمد صلاح/ هكذا كان يتمّ الإعدام/ أخبار الحوادث/ 19
يناير 1906م).
وقد سمعت أن رَيّا وسَكِينة الخنافتين
السكندريتين المشهورتين هما أول امرأتين مصريتين ينفذ فيهما حكم الإعدام شنقا،
وكان ذلك فى السادس عشر من مايو 1921م. وكنت، مساء أول من أمس (السبت 19 نوفمبر
2006م) بعد أن كتبت هذه الفقرات بعدة أيام، أشاهد جزءا من فلم "ريا
وسكينة"، وهو الفلم الذى أُنْتِج عام 1953م، وقام ببطولته أنور وجدى وفريد
شوقى ونجمة إبراهيم وزوزو مدى الحكيم، فسمعت "الأعور" (أحد رجال العصابة
التابعة لتَيْنِكَ المجرمتين، وكان يقوم بتمثيل دوره فريد شوقى) يذكر
"عشماوى" فى معرض حديثه عن عقوبة الإعدام. ومعروف أن نجيب محفوظ قد قام
بكتابة سيناريو هذا الفلم، ولكنى لا أدرى أحقَّق المسألة تاريخيا فاستعمل تلك الكلمة
وهو يعرف أنها كانت مستخدمة فى ذلك الوقت، أم جاء استعماله لها فى هذا السياق رمية
من غير رام. لكنى
قرأت أن الأهرام قد صدرت فى اليوم التالى لتنفيذ حكم الإعدام، وفيها تحقيق عن
عملية الشنق تضمَّن الجملة التالية التى ورد فيها ذكر "الجلاّد" لا
"عشماوى": "قالت سكينة: هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي؟
حاسب! انا وليّة لكن جدعة. الموت حق. ولما وقفت سكينة تحت حبل المشنقة قالت:
سامحونا يمكن عيبنا فيكم". وبالمناسبة
فإن المصريين قد يطلقون على كل امرأتين شريرتين اسم "ريا وسكينة" من باب
التوسع كما يفعلون مع اسم "عشماوى"، الذى أصبحوا يطلقونه على أى شناق،
وكما يفعلون كلما رأوا إنسانا يريد أن يدوس القانون دون أن يتعرض للمساءلة، إذ
يقولون له: "ابن بارِم دِيله"، وكما يقولون كلما وجدوا أنفسهم إزاء
مسألة صعبة الحل إنها "حسبة برما"! وإذن فلا معنى لكل هذا اللف والدوران
الذى يجلب الصداع والدوخة للقراء دون أدنى جدوى، على حين أنه لا يخرج فى أحسن
الأحوال عن أن يكون كلام مصاطب رغم توسله بأسماء اللغات الأجنبية المختلفة لزوم
التهويش.
والحق أنه لو كان تخريج لويس عوض للأمر صحيحًا
لكان المستشرقون الإنجليز أول من يتنبه إل ذلك ولسجلوه فى كتاباتهم على أساس أن
اللغة التى استعيرت منها كلمة "عشماوى" هى لغتهم، فضلا عن أنهم كانوا
يحتلون مصر، ومن ثم يَعُون أكثر من غيرهم جدا أن الكلمة المذكورة مأخوذة من "Hangman". فهل هناك نص بهذا المعنى؟ الحق أنْ لو كان هناك مثل هذا
النص ما ترك لويس عوض تلك الفرصة السانحة تضيع من يده بهذه البساطة! كما يغلب على
الظن أن تلك الكلمة لو كانت تمصيرا لـ"Hangman" لكان الأحرى أن يقولوا: "الهَجّان" مثلا لأنها
تعنى الشرطى الشديد الصارم الذى لا يفهم إلا تنفيذ الأوامر، ولا يعرف "يا
امَّه ارحمينى" كما نقول فى مصر، وذلك شىء قريب مما نعرفه عن الشناق. كما
أنها فوق ذلك شبيهة فى الجَرْس بــ"هنجمان"، وليست كـ"عشماوى"
التى لا تربطها صلة صوتية بالكلمة الإنجليزية. ويمكن أن نضيف إلى ما مر أن لقب
"العشماوى" مستعمل فى بعض الدول العربية الأخرى التى تأخذ بعقوبة الشنق،
فلو كانت هذه الكلمة مأخوذة من "Hangman"
لما أخذ الناس فى تلك الدول كلمة "عشماوى" المصرية ولعرّبتها كل دولة
على نحو خاص بها وأعطتها الطابع المحلى مثلما صنع المصريون، بناء على تفسير
الدكتور لويس.
وأخيرا لقد
كان منفّذ عقوبة الشنق وقطع الرقبة وغيرها عندنا قبل العصر الحديث يسمَّى بــ"المشاعلى"
نسبةً إلى المشعل الذي يحمله في سيره
ليلا، (وإن سُمِّىَ أحيانا بــ"الضوئي")، وذلك حسبما جاء تحت عنوان
"المشاعلى" فى "القاموس الإسلامى" بموقع "al-islam.com"، ويصدقه ما نقرؤه فى
"ألف ليلة وليلة"، وفى "البداية والنهاية" لابن كثير، و"مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لابن طولون، و"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغرى بردى،
و"إنباء الغمر بأنباء العمر" لابن حجر العسقلانى، و"عجائب
الآثار" للجبرتى...
إلخ. وقد رجعت إلى الطبعة الثامنة من القاموس العصرى (1951م) لإلياس أنطون إلياس
فلم أجده ذكر كلمة "عشماوى" العامية بين الكلمات التى ترجم بها "hangman" أو "executioner". ومرجع هذا، فيما يبدو لى،
أن الكلمة لـمـّا تكن قد دخلت مجال الاستعمال فى الدلالة على وظيفة
"الشنّاق". ذلك أن إلياس من أصحاب المعاجم الذين يستعملون الألفاظ
العامية إلى جانب الفصيحة بإزاء الكلمات الإنجليزية المراد تفسيرها بالعربية، لكنه
استعمل كلمات "الشنّاق، الجلاّد، المـَشَاعِلِىّ، منفذ الحكم بالإعدام"
فقط. ومعنى هذا أنه كان عندنا المقابل العربى للكلمة، وهو ما ينسف الفرض الغشيم
الجهول الذى وضعه عبقرينا تعسفا وعنادا بأن "عشماوى" لفظة أجنبية. كذلك
لو كانت تلك الكلمة إنجليزية كما يدعى الدكتور لكانت جرت على الألسنة منذ البداية،
إذ إن تعريب أى كلمة أجنبية ليس لها مقابل ناجز جاهز إنما يأخذ عادة وقتا، وتشيع
الكلمة الأجنبية حينذئذ إلى أن يظهر لها منافس قومى، كما هو الحال مع
"سبكتاكل" و"وابور" و"أوتوموبيل"
و"أوتوبيس" و"راديو" و"جُومَة"
و"الفوتبول" و"الجول كيبر" و"الكورنر"
و"الأوردوفر" و"الشيف"... إلخ. وقد يؤكد ما قلته أن إلياس
أنطون إلياس لجأ، ضمن ما لجأ، إلى كلمات عربية صميمة منها كلمة "مشاعلى"
القديمة، ولو كانت كلمة "عشماوى" قد ظهرت لأخذت مكان كلمة
"المشاعلى"، أو جاورتها على الأقل. ونفس الشىء يقال عن الطبعة الثالثة
من قاموسه العربى- الإنجليزى (1930م) الذى لم ترد فيه أيضا كلمة
"عشماوى"، مما قد يؤكد كلامى آنفا. لكننا، على العكس من ذلك، نقابل
"عشماوى" بإزاء كلمة "hangman" فى معجم "The Oxford English-Arabic Dictionary of Current Usage"
الصادر للمرة الأولى عام 1972م والذى يعتمد، فى ترجمته للمفردات الإنجليزية،
الكلمات العامية فى البلاد العربية المختلفة إذا كان هناك مقابل عامى مشهور، إلى
جانب المفردات الفصيحة التى تحتل المكانة الأولى بطبيعة الحال.
والمتحذلق
المداور يزعم أيضا، وهو منجعص فوق المصطبة آخر انسجام، أن كلمة "طشاش"
كلمة مصرية (ص 169)، يقصد أنها ليست عربية. ثم يأخذ فى البكش المعروف عنه والمسجل
باسمه فى الشهر العقارى، فيقول إنها من كذا وكذا حسب طريقته الغثيثة فى إرجاع كل
شىء تقريبا فى لغة القرآن الذى كان يهرى قلبه إلى أصل أجنبى، وكأن العرب فى الزمن
القديم لم تكن له شغلة ولا مشغلة ولا يفكرون فى عمل أى شىء حتى ولا البحث عن كلمات
يعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم، بل كانوا يلزمون أماكنهم لا يَرِيمونها كتنابلة
السلطان. وكانوا إذا رامُوا التعبير عن شىء من ذلك ظلوا جالسين فى أماكنهم لا
يحركون ساكنا أبدا حتى إنهم لا ينشّون الذباب من على وجوههم وأفواههم الفاغرة...
إلى أن يدخل عليهم جذع ابن حلال ويشرع فى الكلام ويتصادف أن ينطق بعض الكلمات التى
تعنى ما كانوا يريدون التعبير عنه (لكن كسلهم كان يمنعهم من بذل جهد فى البحث عنه
فى جوانب أمخاخهم)، فعنئذ وعندئذ فقط ينطقون تلك الكلمات! ألا فاعلموا، أيها
القراء الكرام، رغم تلك العنطزة اللاعلمية أن كلمة "طشاش" عربية فصيحة
أبا عن جد، ولم يعرفها المصريون إلا من لغة القوم الذين ينتمى لهم رسولنا العظيم.
وهذا ما قاله الزبيدى فى "تاج العروس": "الطَّشُّ، والطَّشِيشُ: المَطَرُ الضَّعِيفُ... والطَّشَاشُ مِنَ المَطَرِ كالرَّشَاشِ... وممّا يُسْتَدْرَكُ
عليه (أى على "القاموس المحيط"، بمعنى أنه فاته ذكره): الطَّشَاشُ،
بالفَتْح: ضَعْفُ البَصَرِ، وكَأَنَّهُ مَجَازٌ مَأْخُوذٌ من طَشَاشِ المَطَر إذا
كانَ ضَعِيفا، ومِنْهُ المَثَلُ: الطَّشَاشُ ولا العَمَى". وانظر كذلك "المعجم الوسيط". أى أن الكلمة
ليست عربية فحسب، بل بنى العرب منها مثلا كيلا يتركوا فرصة لأى كذاب قرارى يزعم
أنهم لم يكونوا يعرفونها، وإن كان معروفا أن الكذابين القراريين لا يعجزهم فى ميدان الكذب شىء فى
الأرض ولا فى السماء!
ونفس
الشىء يقوله عن الصفة "زنخ" التى يدعى أنها كلمة مصرية وأنها مأخوذة من
كلمة "hns:
خنش" المصرية القديمة بنفس المعنى. وكيف كان ذلك؟ زعم بَيْدَبَا الفيلسوف
لدَبْشَلِيم الملك أنه كان فى سالف العصر والأوان رجل يقال له: هيّان بن بيّان،
الألعبان الزنّان الطنّان، المزعج كالذِّبّان، يقول إن حرف "الشين" فى
الكلمة السابقة قد تحول بقدرة قادر إلى "زاى"، ومن المعروف أن قدرة الله
لا يقف فى سبيلها شىء، ثم إن الميتاتيز (أو بالأَخْرَى: "الميتاطيز") قد
تكفل بالباقى فانقلبت الكلمة رأسا على عقب، وأصبحت "زنخ" بدلا من
"خنش" (ص 178). ولا أدرى لماذا لم يضف أيضا أن كلمة "خنش"
كانت فى الأصل: "الخُنْش دى مُونْش خِرِشْتُو"، ثم صارت "الكونت دى
مونت كريستو"، وأنه من هذا الجذر كذلك أتى اسم "خريشة" (بائع
الأحذية المشهور فى الزيتون بالقاهرة)، وكِرْشة ومِرْشة وفِشّة ومشّ ومشمش وإشْ
إشْ وفِتْفِتْ (بنتا موسيقار الأجيال) وعِفَّت (عازف الناى فى فرقة أحمد فؤاد حسن،
ما دمنا تكلمنا عن موسيقار الأجيال، وما دمنا قلنا قبلها: "فتفت"، إذ
بينهما تقارب موسيقى كما هو واضح) وأُلْفَت ونفرتيتى وبَفْتَة وفتّة ولحمة وسلطة
وزلطة وسَبَطة ولَبَطة (وَلَدا الفرزدق الشاعر الأموى المعروف) ووزّة وبطّة ولُعَب
وحاجات وماما زمانها جاية، وانت اللى قتلت بابايا، وزعِيط ومْعِيط ونطّاط الحيط
وأبو جلامبو وأم قويق وأم أربعة وأربعين وأم العواجز (السيدة زينب رضى الله عنها)،
واللى يحب النبى يزقّ! لا تضحكوا، فهذه طريقة لويس عوض أحببت أن أطبّقها أمامكم مع
شىء من المنطق والتماسك لا يوجد فى كتابه المخبول. المهم بعد هذه الجولة أن الكلمة
عربية فصيحة بالغيظة فى لويس عوض، وأخذتْها العامية من هناك وقلبت فتحة الزاى
كسرة، وهذا كل ما هناك! ولنسمع ما كتبه ابن منظور (الذى ليس بقبطى) فى "لسان
العرب": "زَنِخ الدهن
يَزْنَخ زَنَخًا: تغيَّر، فهو زَنِخ"، "وسَنِخَ الدُّهْنُ
والطعامُ وغيرهما سَنَخًا: تغيَّر، لغةٌ في "زَنِخَ يَزْنَخُ" إذا فسد
وتغيرت ريحه".
ولنسمع كذلك ما جاء فى "تاج
العروس": "زَنِخَ الدُّهْنُ والسَّمْنُ، كفَرِحَ، يَزْنَخ زَنَخًا:
تَغَيَّرَتْ رائحتُه فهو زَنِخٌ، ككَتِفٍ". لكن لويس عوض رجل ملء هدومه فهو لا يستعين على شيطان جهله بالبحث والتقصى،
بل بفرقعة من إصبعه يحصل على ما يبغى! وسبحان الوهّاب!
وفى ص 180 يزعم "أستاذنا الكبيييييييير" أن كلمة
"حَرَن" مصرية دارجة وأنها مأخوذة من "hn: خن" بمعنى
"عاصٍ" أو "خارج" أو "ثائر". هل رأيت العناد
والجهل؟ الكلمة عربية، وأبوها عربى، وأمها عربية، والنبى عليه الصلاة والسلام عربى
(وهنا مربط الفرس فى هذه الشكاسة!)، ورغم ذلك يصر الدكتور لويس أستاذنا وتاج رأسنا
أنها مصرية دارجة أتت من المصرية القديمة. عنزة، إذن، ولو طارت! يقول عمّنا ابن
منظور الحقيقى، ابن منظور العَالِم وليس ابن منظور الذى لا صلة بينه وبين العلم:
"حَرَنتِ الدابةُ تَحْرُن حِرانًا وحُرانًا وحَرُنَتْ: لغتان. وهي حَرونٌ:
وهي التي إذا استُدِرَّ جَرْيُها وقَفَتْ، وإنما ذلك في ذوات الحوافر خاصَّة...
وفرسٌ حَرُونٌ من خَيْلٍ حُرُنٍ: لا يَنْقادُ، إذا اشتدّ به الجَرْيُ وَقَف. وقد
حَرَنَ يَحْرُنُ حُرُونًا وحَرُنَ، بالضم أَيضًا: صار حَرُونًا، والاسم الحِرانُ...
ويقال: حَرَن في البيع إذا لم يَزِد ولم يَنْقُص". هذا هو العلم، وهذه هى سبيل العلم، وما سوى ذلك ضلال وتخبيص!
ولعنة الله على يوم يحوجنا إلى تأكيد البديهيات لمن يصرون على المجادلة فى نور
الشمس وهو يكاد يُعْشِى أبصارهم!
ويمضى
ابن منظور الذى ليس له صلة بالعلم فى عناده وشكاسته كراهيةً للنبى العربى قائلا إن
هذا الجذر المصرى القديم (جذر "hn")
هو أساس كلمة "حنايا"، التى يزعم حضرة جنابه العالى أن مفردها لا وجود
له، بل هو وجود افتراضى كما يقول، وإذا وُجِد فإنه لا يستعمل أبدا (ص 180). يا عيب
الشؤم! الدكتور لويس يريد منا أن ننزل على حكم بضاعته اللغوية الخاسرة
المـُزْجَاة، أو بالتعبير البلدى المباشر الواضح غير المحتاج إلى
"ميتاطيزات" ولا يحزنون: بضاعته المضروبة، ولا يفكر أبدا أن يرتقى
بمعلوماته أو طريقة تفكيره. شىء يقئّ! فأولا مفرد "حنايا" ليس شيئا
افتراضيا إلا فى عقله الفاضى من العلم الصالح، بل هو موجود على سن ورمح، ألا وهو
"حَنِيّة"، وهى لفظة معروفة تماما إلا لمن كان فى عقله خواءٌ وهباء، وفى
ضميره دَخَلٌ ودَغَل، ومن معانيها "القوس". قال ابن منظور: "والحـَنِيَّةُ:
القوس، والجمع حَنِيٌّ وحَنَايا. وقد حَنَوْتُها أَحنوها حَنْوًا. وفي حديث عمر:
لو صَلَّيْتُم حتى تكونوا كالحَنَايا. هي جمع "حَنِيَّةٍ" أَو "حَنِيٍّ"،
وهما القوس: "فَعِيل" بمعنى "مفعول" لأَنها مَحْنِيَّة أَي
معطوفة". ومن هذا النص يتضح أن "الـحَنِيّة" من الانحناء، أى
الانعطاف والتقوس، ومن ثم تُسْتَخْدَم مصطلحا من مصطلحات فن العمارة كما فى النص
التالى المأخوذ من كتاب "مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لابن طولون،
وهو عن تعديل عمارى تم فى جامع البزورى بدمشق فى القرن التاسع الهجرى: "ووُسِّع
إلى جهة القبلة نحو خمسة أذرع، وجُعِل له ثلاث حنايا على عمودَيْ حجرٍ قرب المحراب
القديم"، وكما فى هذا النص من رحلة ابن
بطوطة فى وصف جدار من جدران المسجد الحرام: "ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب
تحت قِسِيٍّ "حنايا" يجلس بها المقرئون والنساخون والخياطون، وفي جدار
البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها. وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا".
ومثله هذا النص المأخوذ من موقع "صندوق التنمية الثقافية" التابع
للحكومة المصرية، وهو فى الكلام عن التفاصيل العمارية فى قبة الغورى بالقاهرة، إذ
جاء فيه أنها مكونة من كذا وكذا ومن "حَنِيّة متوَّجَةٍ بصفين من المـُقَرْنَصات تحوي شبابيك الإضاءة والتهوية
لفراغ القبة الضريحية... وحَنِيّة متوَّجَة بصَفَّيْن من المقرنصات تحوي شبابيك
الإضاءة والتهوية للمصلَّى (الخانقاه)". ومن موقع "الموسوعة العربية المسيحية" نقرأ عن إحدى الكنائس التى كانت عند جبل الدويلى أنه
"لا
زال قائما بعض أجزاء من جدرانها، وكان لها باحة، وكان جدار هيكلها الشرقي مستطيلا،
وليس على شكل حَنِيّة". "فــ"الحنايا" فى العبارة التى استشهد بها ابن
منظور آخر زمن، وهى: "سكن فى حنايا القلب"، معناها إذن أنه قد استقر بين
الضلوع. والضلوع تشبه القوس كما نعرف، وهذا هو السر فى تسميتها:
"حنايا". فما المشكلة؟ وما الذى يضطر ابن منظور المتحذلق إلى الانحشار
فى هذه المآزق المستحيلة؟ أهى فراغة عين والسلام؟ وإذا كان هذا هو مستوى لويس عوض
المعرفى فى اللغة والفن العمارى فكيف يجد أمثاله جرأة التهجم على ما لا يحسنون؟
ألا رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، وصدق رسول الله حين حذر المؤمنين من تعريض أنفسهم
لما لا يطيقون من البلاء كيلا يُذِلّوا أنفسهم! لكن لُبّ الشكلة إنما يكمن هنا
بالذات، أى فى كراهية هذا الرسول ولغته ولغة القرآن المجيد الذى جاء به! إنها
لمعضلةٌ ولا أبا حَسَنٍ (صِهْر هذا الرسول) لها!
إن
كل ما يفعله "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، ابن منظور القبطى، الباحث
الميتاطيزى من "حَنْجَلة فى المــَنْجَلة" (على شاكلة "الفيل فى
المنديل" و"الفِلّة فى الفانِلّة"، ومعناها أن من يقوم بالحنجلة فى
المنجلة فسوف تُطْبِق المنجلةُ على يده إطباقةً تعصرها عصرا، وتكسرها كسرا!)،
أقول: كل ما يفعله من حنجلة وحركات رُبْع كُمّ هدفه أن يوقع فى رُوع القارئ أن لنا
نحن المصريين لغة تختلف عن لغة العرب. وعليه فإذا جاء سفيهٌ وطالب بترك اللغة
العربية بدا الأمر ساعتها طبيعيا جدا. وليس فى المسألة أية مبالغات، أفلم نسمع منذ
قريب من ينادون بترجمة القرآن إلى اللغة المصرية؟ (يقصدون العامية، بغضًا سامًّا
للغة النبى ولغة القرآن الذى نزل على النبى). لكن، والنبى ومن نبّأ النبى فكان لنا
نبى ولا أى نبى، بعيدة عن شاربك أنت وهو وهى يا كارهى النبى، يا من لا ترتفعون إلى
موطئ قدم النبى! إنها سلسلة مترابطة الحلقات، وإن بدت متباعدة فى الزمان والمكان.
ورحم الله مالك بن نبى، الفيلسوف الجزائرى المسلم الذى كان أستاذا ولا كُلّ
الأساتيذ فى فضح مثل هذه المسسلات وبارعا فى شرح قواعدها وواضعا للمعادلات الخاصة
بفك شفراتها وطلاسمها! إن ابن منظور القبطى يتحدث عن اللغة العربية وكأنها تنفرد
من بين اللغات كلها بأن عامياتها، وبالذات العامية المصرية (إكراما لخاطر "أستاذنا
الدكتور لويس عوض")، هى لغات مختلفة ومنفصلة عنها. الله أكبر! والحق، كما
نقول ونكرر ولا نملّ القول والتكرار، أن العامية فى أية لغة ليست أكثر من مستوى من
مستويات هذه اللغة. أما إذا قيل إن فى عامياتنا ألفاظا أعجمية فالرد سهل جدا وواضح
جدا، وهو أن فى اللغة الفصحى أيضا ألفاظا أعجمية، وتكاد أن تكون الألفاظ الأجنبية
فى اللهجات العامية هى ذاتها فى اللغة الفصحى، بيد أنها فى العامية تبقى فترة أطول
من بقائها فى الفصحى، إذ كثير من الكتاب الفُصْحَوِيّين يحرصون على ترجمة تلك
الألفاظ إلى لسانهم القومى، بالإضافة إلى مجامع اللغة واهتمامها بذلك، أما العامة
فهم لا يُعَنّون أنفسهم بتلك القضية. إنهم يريدون أن يعبروا عن أنفسهم بالعَتِيد
المتاح فى أيديهم، وكفى.
وجريا
على خطته الجهنمية فى الفصل التام بين الفصحى والعامية على أساس أنهما لغتان
مختلفتان، لا لغة ولهجة من لهجاتها، يقول لويس عوض (آسف: "أستاذنا الدكتور
لويس عوض" كيلا يغضب المفتونون ويظنوا أننا لا نقدر عبقريته حق قدرها، مع
أننا نقدر عظيم التقدير عبقريته فى التفاهة والسخافة والتنطع واقتحام باب العلم
دون سند أو عُدّة ودون تردد أو خجل لأننا نعرف أن هذا الأمر يحتاج لمواهب لا تتاح
لكل الناس)، يقول عبقرينا وأستاذنا رغم أنوفنا عند حديثه عن بعض الكلمات التى
تنقلب قافها جيما قاهرية: "والصعيدية المصرية تعرف صيغة جيمية من هذاالجذر
(أى جذر "Cit:
كت" بكاف مفخمة قريبة من القاف كما يقول) فى "جطع"
و"جصف"..."، أى فى "قطع" و"قصف" (ص 193)، وكأن
الصعيدية المصرية جاءت بهذا من عند والديها فى الزمانِ الأولِ! إن عرب الجزيرة
العربية يفعلون هذا قبل أن يفعله الصعايدة بأحقاب وأحقاب، ومعهم كثير من البحاروة
أيضا كما هو معروف. إذن فالصعايدة والبحاروة قد أخذوا هذا النطق من أصحاب اللغة
الأصلاء ولم يأتوا به من عندهم لأنهم حين يتكلمون إنما يتكلمون اللغة العربية لا
اللغة المصرية التى اندثرت مع اعتناق المصريين الإسلام وإقبالهم على قراءة القرآن،
ذلك الكتاب السماوى الأصيل الذى لم تقترب منه يد التزييف والتحريف ويكرهه بعض
العباقرة كراهية العمى، على حين أن قسما آخر من البحاروة يجرى على قلب القاف همزة.
ودُمْتُم!
كذلك
نراه فى ص 196 يزعم أن كلمة "سِوّة" كلمة عامية، بل إنه ليجعلها مادة
كاملة هناك لا مجرد كلمة واحدة، والسلام! وليس فى الواقع شىء اسمه مادة
"سِوّة" فى العامية، بل إن الكلمة فى حد ذاتها ليست عامية بالمعنى الذى
يريد تقريره فى النفوس والعقول، وإنما هى باختصار تحوير لكلمة "سَوْأَة"
الفصحوية كما هو واضح، لكن الأستاذ الدكتور يستبله كعادته على طول الكتاب من أوله
إلى آخره. والحق أن ما يقوله الدكتور لويس إنما هو كيد رخيص مفضوح لا يجوز إلافى عقول البلهاء. نعوذ بالله من
البلاهة والبُلْه عل كل شكل ولون.
وبالمثل
يزعم عبقرينا ابن منظور القبطى فى ص 208 أن كلمة "غموس" مأخوذة من الجذر
الافتراضى: "خبوس: χοβοs" أو "جبوس: Gobos".
وكان قد قال إن مادة "خبز" فى اللغة العربية ترجع إلى الجذر اللثوانى
"كبسنيس: Kepsnis"
بمعنى "مطهو (فى الفرن)" أو "مشوى (على النار)"،
و"كبجاس: Kepejas"
اللثوانية بمعنى "خباز"، وإن "طبخ" و"طبيخ"
و"طها" و"يطهو" هى فى رأيه من جذر "خبز"، وكذلك
كلمة "غموس" تأسيسا على أن جذرها الافتراضى هو "خبوس" أو
"جبوس" كما سبق بيانه. ولا أدرى فى الواقع، ولست إخال أن أحدا غيرى يمكن
أن يدرى، الصلة بين "الغموس" و"الطهو" أو "الشى"،
فالغموس يمكن أن يكون جبنا أو عسلا أو فجلا أو بصلا أو فسيخا أو خيارا أو طماطم أو
لبنا أو سمنا أو سما هاريا يفرتك مصارين كل متنطع رقيع ويأخذه من على وجه الأرض
مما لا علاقة له بطبخ أو طهو. كما أن "الغموس" مأخوذ، كما هو بين جلى
حتى لأعمى العميان، من الفعل: "غمس" لأن الطاعم يغمس لقمته فى الطعام
ويأكل ما تخرج به اللقمة منه، ولا علاقة له بالطَبْخ أو بالطَهْو فى اللثوانية
البتة لا معنًى ولا نطقًا كما هو ظاهر تمام الظهور. وفى الإنجليزية يوجد الفعل:
"dip in"،
وهو يعنى ما يعنيه الفعل: "غمس" فى لغة العرب. ولو كان الأمر كما يخبص
لويس عوض لكانت "خبز" مأخوذة من "الخَبْص" أو
"الكَبْس" أو "الحَبْس" أو "الجِبْس" مثلا، وهى
أقرب لها من الكلمة اللثوانية! ولا معنى لكل هذا الخبص الخبيث الذى لا أدرى كيف لا
يخجل أصحابه من مجرد رؤية أنفسهم بعدها فى صقال المرآة! ثم ما وجه الصلة بين
العربية واللثوانية؟ ولماذا، لو كان هناك أخذ أو تأثر، يجب أن تكون العربية هى
الآخذة أو المتأثرة؟
وفى
ص 227 ينفى حضرته بكل ثقة أن كلمتى "كَفَرَ" و"كَفْرَان"
اللتين يستعملهما المصريون (بمعنى أن فلانا شديد الإرهاق والغيظ وعلى وشك
الانفجار) لا علاقة لهما بمادة "كفر" التى تعنى الخروج عن الدين فى
الفصحى، بل بكلمة "Foror"،
التى أُخِذَتْ منها "Fury"
الإنجليزية و"Furie" الفرنسية، بمعنى "الهياج
والغضب الشديد"، مؤكدا أن قولنا: "حاجة تكفّر" إنما تعنى:
"حاجة تفوّر الدم" لا حاجة تُخْرِج عن الدين. أى أنهما لا تنتميان إلى
لسان العرب ولغة القرآن. لماذا؟ هى كذا لله فى لله! وواضح أن الرجل لا يمتاز عن
العوام فى فهم اللغة، وإلا فكيف لم يستطع رغم كل تصايحاته وانتفاخاته وغروره
(التافه طبعا) أن كلا المعنيين اللذين ذكرهما لا يتناقضان ولا يلغى أحدهما الآخر؟
إن الحاجة التى تفوّر الدم تجعل الإنسان يشعر وكأنه قد كفر أو تدفعه من شدة
إزعاجها إلى الكفر، إذ الكفر عند المسلم هو أبشع شىء فى الوجود، فلا يوجد من ثَمَّ
ما يتفوق عليه فى التعبير عن الغيظ والثورة! وهذا ما يسمى فى علم البلاغة بــ"المبالغة"،
وهو أسلوب من القول تعرفه جميع اللغات، بيد أن الأستاذ الدكتور لا يعرف، كما قلنا
ونقول، شيئا عن التمرهندى أو العرقسوس! واسألوا أنفسكم وقولوا لها: يا أنفسنا، هل
صحيح ما يتساخف به أستاذنا الدكتور ابن منظور القبطى الذى لا يفقه شيئا فى لغة
العرب من أن قولنا: "حاجة تكفّر" لا علاقة لها بالكفر الذى هو تَرْك
الدين؟ وأنا أعرف ما الذى سوف تقوله لكم أنفسكم تمام المعرفة. لماذا؟ لأننى من قلب
هذا المجتمع وأعلم أن ما يقوله ذلك الرجل هلس فى هلس واستبلاه تام وكلام لا يقابَل
عند العقلاء إلا بالاستهجان والاستسخاف!
والواقع
أن موقفه هذا كله لا يزيد عن أن يكون وَسْوَاسًا وتعبيرًا حِوَازِيًّا عن بغضه
للعروبة ولغتها التى بها نزل كتاب الله المجيد على أشرف الخلق وأعظم الرسل، فاضح
الوثنيات وهاتك ستر الملفقين وما أدخلوه على كتبهم من تزييفات! ولو أن ما يقوله
صحيح فماذا عن قولهم فى نفس الموقف ونفس المعنى: "الحاجة دى طلَّعت
دينى"، أو "طلّعت مِلّتى" أو "طلّعت أيمانى (أى
إيمانى)"؟ أسيقول إنها أُخِذت هى أيضا من "Foror"؟ يا للسخف! وخوفا من أن يتنطع أحد فيزعم، عنادا وعجزا ورغبة
فى الجدل لمجرد الجدل، أن اختلاف الصيغة من "كافر" إلى "كَفْران"
يعنى اختلافا فى الجذر، وفى المعنى من ثَمَّ، أبادر أنا من تلقاء نفسى فأقول إن
العامية المصرية كثيرا ما تستعيض بــ"فَعْلان" عن غيرها من الصيغ دون أن
يكون هناك أى تعيير فى الجذر، مثل: "فَطْران، فَهْمان، قَرْفان، كَسْبان،
خَسْران، فَقْران، خَمْران، فَلْتان، تَلْفان، فَسْدان، خَيْبان، نَيْبان،
فَلْسان، عَدْمان، جَرْبان، عَرْجان، طَوْلان، عَمْيان، خَرْيان، مَيْتان،
هَفْتان، تَعْبان، عَيّان، مَرْضان، سَقْعان، بَرْدان، سَخْنان، هَمْدان، خَدْلان،
وَخْمان، صَدْمان، عَدْمان، نَدْمان، زَعْلان، فَرْحان، شَمْتان، عَمْران،
حَرْنان، عَشْمان، طَمْعان، قَنْعان، دَهْشان، تَقْلان، شَرْقان". وكنا، ونحن
صغار، إذا عض طفل طفلا آخر عيّره المعضوض بأنه "شَهْوان اللحمة"، أى
يشتهيها لأنهم فى بيتهم لا يأكلونها، فهو يعض زملاءه لها السبب (وكأن المعضوض يأكل
اللحم أكثر منه، مع أنهم جميعا فى الهوا سوا!). وكثيرا ما نقول: "فلان مُشْ
تَمْران فيه المعروف"، أى لا يثمر فيه الجميل، أو نقول: "فلان طَلْعان
عِينِيه فى الشغل"، أى هو فى عمل مرهق لا يعرف الراحة. ثم ما الذى يربط بين
"فُورُور" و"كَفْران" حتى نقيم الدنيا ونقعدها بهذا السخف
الساخف؟ أما الفعل: "يِكَفَّر" فى قولنا: "شِىءْ يِكَفَّر"
فهو نفسه الفعل فى قولنا بالفصحى: "شَىْءٌ يُكَفِّر" لا يخرج عنه ولا
فيمتو مليمتر، فالفعل ينتقل دائما فى هذه الحالة من صيغة "يُفَعِّل" فى
الفصحى إلى "يِفَعَّل" فى العامية، وكفى الله المؤمنين شر الجدال مع من
لا يفقهون فيتبالهون ويستبلهون!
ومن
الكلمات التى يزعم العبقرى أنها مستقلة عن الفصحى وأنها قد استعيرت مباشرة من لغة
أجنبية، رأسها برأس الفصحى سواء بسواء، كلمة "تخين"، التى يقول إنها
مأخوة من كلمة "كن: Kn"
المصرية القديمة بمعنى "سمن" أو "دهن" أو "سمين"،
والتى يقول إنها مصدر كلمة "دهن" العربية وكلمة "تخين"
المصرية الدارجة (قارن "ثخين" العربية). ويمضى قائلا إنه "ربما
كانت "تا" السابقة هى مجرد أداة تجمدت فى صلب الكلمة وصارت جزءا لا
يتجزأ منها. فالجذر "Kn"
أدى إلى "سم+ ن" وإلى "د+ سم" وإلى "د+ هن" وإلى
"ت+ خين" (ص 291). حسبى الله ونعم الوكيل فى هذا الخبث الجامد الوجه
الثخين الجلد البارد القلب شأن القتالين المحترفين! الدكتور لويس يترك كلمة
"ثخين" الفصيحة التى نتج عن تحويرها فى العامية كلمة "تخين"
(جريا على تحول "الثاء" فى كل الكلمات الفصحى تقريبا "تاءً"
على ألسنة المصريين) إلى القول بأنها مأخوذة عن كلمة "Kn" المصرية القديمة. وبطبيعة الحال لا أظنك قد فاتك، يا قارئى
الكريم، ما استعان به الدكتور لويس من بهلوانية فى القول باشتقاق الكلمة من تلك
الكلمة المصرية القديمة المدعاة يخجل منها العلم والعلماء.
وفى ص 272
يذهب فى وادى الأوهام متصورا أنه يستطيع خداعنا بالقول بأن كلمة "جَدَع"
العامية مأخوذة من كلمة ",dd: عجد (أى "الصبى/ الغلام/
اليافع")" المصرية القديمة بالميتاتيز (أو كما أسميه أنا:
"الميتاطيز")، وهو ما يسمَّى فى الصرف العربى:"القلب
المكانى"، الذى لم يسمع به سيادته البتة رغم تهجمه الأرعن على لسان العرب
نحوا وصرفا وأصواتا ومعاجم، ولذلك يظل يطنطن يهذا "الميتاطيز" طنطنة
مزعجة يتحالى بذلك كالقروى الساذج الذى يظن أنه، بذهابه إلى المدينة وتغميسه رغيفا
من الخبز العادى برغيف من الخبز الفينو، أنه قد أتى بالذئب من ذيله ولم يعد أحد
يملأ عينيه، غير دارٍ أن الخبز الفينو ليس غموسا ولا دياولو وأن أهل المدينة يرمون
لبابه فى الزُّبالة.
ولأنه لا
يعرف شيئا عن لغة العرب يؤهله للفتيا فيها إلا على طريقة المنجعصين على المصاطب،
ولأنه كذلك لا يريد بشىء مما يكتبه فى كتابه هذا بلوغ الحق، نراه يسارع إلى القول
بذلك الهراء والغثاء. بيد أن العلم لا يحسمه كلام المصاطب، بل التفكير المنهجى
المنطقى السليم المستقيم والإخلاص فى البحث والتنقير فى الكتب المحترمة والدراسات
الرصينة والمراجع المعتمدة التى وضعها العلماء المشهود لهم بالصدق والإحاطة. جاء
فى "تاج العروس" أن "الجَذَع: الشَّابُّ الحَدَثُ. ومِنْهُ قَوْلُ
وَرَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ: "يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ"، أَيْ لَيْتَني
أَكُونُ شَابًّا حينَ تَظْهَر نُبوَّتُه حَتَّى أُبَالِغَ في نُصْرَته... ج: جِذَاعٌ،
بالكَسْر، وجُذْعانٌ، بالضَّمِّ، كما في الصّحاح. وفي اللِّسَان: والجَمْعُ جُذْعٌ
وجُِذْعانٌ، الأَخير بالكَسْر وبالضَّمِّ". وفى "لسان العرب" لابن
منظور (ابن منظور العالم لا ابن منظور الواهم. خذ بالك!): أن "الدهر يسمى
جَذَعًا لأَنه جَدِيد. والأَزْلَمُ الجَذَعُ: الدهر لجِدَّته... ويقال: لا آتِيكَ
الأَزْلـَمَ الجَذَعَ، أَي لا آتيك أبدًا لأَنَّ الدهر أَبدًا جديد كأَنه فَتِيٌّ
لم يُسِنُّ". فهذا هو أصل كلمة "الجدع" بالضبط كما تنطق فى العامية
مع قلب الذال دالاً على عادتنا فى لغة الكلام فى مصر، وكذلك بمعنى قريب جدا من
معناها فيها، إذ "الجَذَع" هو الرجل الفتِىّ القوى النشيط الذى يعوَّل
عليه وعلى قدرته على أداء المطلوب، وذلك فى الشباب أقوى منه فى أية سن أخرى.
وأخيرا فإن الهجاء اللاتينى لكلمة ",dd" لا يقول أبدا إن هناك صلة بينه
وبين كلمة "جدع" ولا حتى كلمة "عجد" التى لا أدرى من أين جاء
بها!
هذا ما يقضى به العقل والمنطق ومنهج العلم، أما
المكايدة للعرب والعربية فلا يوصّل إلى طائل ولا يؤكّل عَيْشًا: لا عيشًا فينو ولا
حتى عيشًا من أبو خمسة صاغ المملوء بالمسامير والنشارة والزلط! وأما العمل على
إرجاع عقارب الساعة للوراء وإحلال القبطية محل لغة القرآن بالدَّحْلَبَة الكذابة
فذلك ما لا يكون أبدا يا دكتور لويس! يا دكتور لويس، ليس من المعقول أن يكون أصل
كلمة "جدع" أمامى تحت بصرى وأنفى ولا يكلفنى الحصول عليه إلا أن أبسط
أصابعى لألتقطه (مجرد بَسْط أصابعى ليس إلا)، لكنك ترفض هذا فى عناد حرون حاقد،
وتظل ترقص وتتحنجل وتعزّم بزمزمات وهمهمات فعل من يستعين بالشياطين، مع أن زمن
الاستعانة، أو بالأحرى: الزمن الذى كان السحرة والبهلوانات يعمدون فيه إلى الإيهام
بالاستعانة بالشياطين، قد ولّى إلى غير رجعة على يد الرسول الكريم ماحى الكهانة
والكاهنين، ثم تعود من الغاشية التى تغشى أصحاب الشياطين وأنت تصيح قائلا: وجدتها!
وجدتها! وما وجدت فى الحقيقة سوى الضلال والضياع! أمعقول هذا؟ أمعقول أن نترك
السبيل الواضحة اللاحبة التى يقتضيها المنطق والعلم والتطابق (أو على أقل تقدير:
التقارب القوى) اللفظى والمعنوى بين الكلمات، ثم تريدنا أن نروح معك فى غيبة عن
الوعى كهنوتية متصورا أن العلم يمكن أن يتأسس على غيبة العقل والمنطق والجرى وراء
الأوهام والأحقاد التى كان ينبغى أن تحتفى منذ مئات السنين؟ لا يا دكتور، أنت بهذا
تثير على نفسك السخرية وتجعل الناس كل يوم يتحققون من أن ما صنعه معك محمود شاكر
وتقفيعه يديك ولهلبته أخمص قدميك كان أمرا لا بد منه، أمرا محتوما مقضيا ما دمت لا
تتعلم ولا تريد أن تتعلم ولا تعمل على بلوغ الحقيقة بل على الروغان والزوغان منها
وكأنها عدود لك لدود! لا يا عم، يفتح الله! شف لك لعبة غيرها!
وبعد هذا
بصفحة واحدة (ص 273) يدعى سيادته أن "عكش" (التى يصفها بــ"المصرية
الحديثة"، بكل ما يعنيه ذلك مما هو واضح لكل ذى عينين وعقل من أن العامية
ليست لهجة عربية، بل لغة مستقلة كما سبق أن قلنا مرارا، وذلك توطئة لإزاحة لسان
القرآن وإحلال القبطية محله على طريقة الخطوة خطوة)، أقول إنه يصف الفعل:
"عكش" بأنه كلمة مصرية قديمة مأخوذة من "عجصو"، أى
"الزمام". فما القول إذا ما صككنا هذا الكَذِب القرارى وذلك الخبث
المـَرِيد فى وجهه وعلى قفاه وأعطيناه ركلة فى دبره فوق البيعة حتى يأخذ كل عضو
رئيسى فى جسمه نصيبه من الضرب والإهانة، وقلنا إن هذا الفعل عربى فصيح وإن وجوده
فى العامية المصرية أمر طبيعى تماما، إذ العاميات فى أية لغة إنما هى مستويات من
هذه اللغة، وليس الفرق بينها وبين الفصحى إلا فى التحوير الذى قد يدخل بعض الألفاظ
والعبارات ليس إلا، والباقى هو هو؟ نعم ما القول عندئذ؟ أما أنا فلست أتصور أن
يفىء مثله إلى الحق أبدا ولو أوقدنا له أصبعنا العشر شمعا، بل حتى لو أشعلنا النار
فى أنفسنا احتجاجا على سخف كيده وجمود وجهه كما كان الرهبان البوذيون يصنعون
بأنفسهم فى ستينات القرن المنصرم احتجاجا على الإجرام الأمريكانى فى بلادهم. ذلك
أن أمثاله إنما يقبلون على هذه الدراسات وفى أذهانهم أفكار محددة سلفا يريدون أن
يقرروها فى العقول والنفوس بعيدا عن العلم وعن الحق وعن الخير! تقول مادة
"عكش" فى "تاج العروس": "عَكَشَ الشَّيْءَ عَكْشًا:
جَمَعَهُ، عن ابنِ دُرَيْد. والجَامِعُ: عَكِشٌ، كـ"كَتِفٍ"، والقِيَاسُ
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَاكِشًا. وذاكَ المَجْمُوعُ: مَعْكُوشٌ. وعَكَشَتِ
الكِلابُ بالثَّوْرِ: أَحاطَتْ بهِ. وعَكَشَ فُلانًا: شَدَّ وَثَاقَهُ.
والمَعْرُوفُ فيه عَكْبَشَ، بزِيَادَةِ المُوَحَّدَة".
ثم هناك كلمة
"عَبَل"، التى يدعى بجهل الواثقين، وهو أشنع ألوان الجهل وأشدها خطورة
على الأمن العام، أنها كلمة مصرية حديثة، أى غير عربية، وأنها تعنى "الوساخة
أو القذارة أو النجاسة"، وأنها مأخوذة من الجذر المصرى القديم: "'bw:
عبو" الذى يعنى المعنى ذاته (ص 277). هذا ما قاله هو، والآن إلى قول العلم:
فأما أن "عَبَل" ليست عربية فصيحة فهذه فضيحة أخرى من الفضائح التى كان
لويس عوض يكثر منها سواء وهو رائح، أو قاعد لايبارح، حتى لكأن الفضائح قد عقدت معه
معاهدة لتوريدها فى مقالاته وكتبه، وهى ميزة أخرى ينفرد بها العم لويس وتؤكد
أهليته للدخول فى موسوعة جينز العالمية عن جدارة واستحقاق بسبب هذا اللون الفائح
من الفضائح! فمن معانى "العَبَل" كما جاء فى "لسان العرب":
"كلُّ ورقٍ مفتول غير منبسط كورق الطرفاءِ، وثمرُ الأَرْطَي وهدبهُ إذا غلظ
وصلح أن يُدبَغ بهِ أو الورق الدقيق"، "وأَعْبَل الأَرْطَي، إذا غَلُظ
هدبهُ في القيظ واحمرَّ"، وفى "محيط المحيط": "عَبَلَ الشجرُ،
إذا طَلَع ورَقُه"، وفى "المعجم الوسيط": "جاءَ بعَبَله: غير
مَعْنِيٍّ بِهِنْدَامِهِ ونظافتِه، وأصْلُهُ من الشَّجر يكون عليه ورقُهُ لا
يُشَذَّبُ ولا يُهَذَّبُ". إذن فقولنا فى لغتنا الفصحى أو العامية المعاصرة:
"أخذ فلان الشىء بعبله" معناه أنه أخذه على وضعه الفطرى الأصلى دون
تشذيبه أو إزالة ما يكون عليه من ورق أو هدب أو شوك مثلا، وليس شرطا أن يكون قذرا
أو وسخا إلا بالمعنى الذى شرحناه، وهو ألا يهتم صاحبه بتشذيبه وتنقيته أيًّا ما
يكن نوع هذا التشذيب وتلك التنقية. ثم ما الذى جمع الشامى على المغربى فى لَفْظَىْ
"'bw" و"عَبَل"؟ وما الدليل؟ نعم ما الدليل، بشرط ألا
نلجأ إلى أسلوب الزمزمة والهمهمة والهينمة والهلضمة والبسبسة والوسوسة والوشوشة
رغم أن شادية تقول إنها تحب الوشوشة، إذ نحن الآن فى ميدان العلم لا فى ميدان
الغناء والتمثيل والغنج والدلال النسوى؟ إى والله ما الدليل؟ اللهم لطفا بنا ورأفة
بحالنا كيلا نصاب بالضغط أو يطقّ لنا عرق!
هذا، ولم
نبرح بعد ص 277، إذ يبدو أن الدكتور لويس قد زادت عليه عند هذه الصفحة نوبة
الإسهال اللفظى الذى يصعب حاله ساعتها على الكافر ويجعل الكافر
"كَفْرَان" أكثر مما هو كافر رغم بعض الأنوف الجاهلة التى تقتحم
"مباحث" اللغة العربية، وهى لا تصلح ولا حتى خفيرا جاهلا بريالة فى
"مباحث" الشرطة المصرية. قال "أستاذنا الدكتور لويس عوض" إن
"كلمة "عنج (بالجيم المعطشة): 'nd" المصرية القديمة بمعنى
"عاز" أو"افتقر" أو"احتاج" أو"نقص"
أو"قَلَّ" أو "قليل" فيها عناصر "غنج" التى نعرفها
فى المثل المصرى: "المحتاجة غناجة"، وهو فيما يبدو تعبير توتولوجى تتكرر
فيها كلمة "الحاجة" باللغتين لتعليم اللغة الجديدة العربية (يقصد:
للأقباط أول دخول العرب مصر) بتجاور المترادفَيْن، مع اللعب على اللفظ. ومعنى هذا
أن "غناجة" ليست من الغنج الذى يعنى فى العربية والشامية الحديثة
"دلال" المرأة، ويعنى فى المصرية الحديثة الأصوات الانفعالية التى
تصدرهاالمرأة وقت الجماع، وإنما هى بالمجاز"، وهو ما يعنى بالمفتشر أن هذا
ليس مثلا شعبيا، بل شاهد تعليمى ورد فى كتاب أبو لمعة الأصلى: "كيف تتعلم يا
قبطى يا مبلِّم، اللغة العربية بدون معلّم". لكن يبدو أن أبا لمعة لم يكن
ساعتها فى مزاجه الرائق، لأن المثال بهذه الصورة لا يقول شيئا إلا كما يفسر الواحد
منا فى لحظة من لحظات التحشيش "الماء" بالماء، ولكن بعد الجهد والتطوح
والوقوع فى الأرض عدة مرات والتقايؤ مثلها والتلعثم فى الكلام ضعفها، إذ المعنى
هنا هو أن "المحتاجة محتاجة"!
عفارم عليك
يا دكتور! وصدق من سمّاك: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! وهل فى هذا أدنى
شك؟ طيب، ولماذا لم يقل المـَثَل: "المحتاج غناج" عِوَضًا عن
"المحتاجة غنّاجة"؟ أجل لماذا أصر على أن يكون المحتاج امرأة إذا لم يكن
الغنج المعروف هو المقصود؟ إن المعنى واضح تمام الوضوح لكل ذى عينين فى رأسه،
وعقلٍ تحت فروتها، ألا وهو أن المحتاجة تبذل كل ما عندها من فنون التقرب إلى من فى
يده قضاء حاجتها. وليس بشرط أن يكون غنج الفراش هو المقصود، بل الكلام غالبا على
المجاز، وإن كان من الممكن أن يتحول المجاز إلى حقيقة فعلية فى بعض الظروف. ألم
تسمع يا دكتور لويس عن فلم "أشرف خاطئة" الذى يسوّق بعض الناس به الزنا
والتفريط فى الشرف حتى لا تموت الأم (يا كبدى عليها!) بسبب الحاجة إلى ثمن زجاجة
دواء، وكأن مصر كلها قد تحولت إلى مجتمع من الوحوش لا يحنّ فيه "أحد" على
"إحدى" إلا إذا غنجت وغنجت وغنجت إلى أن يطلع الصباح، ويدركها الديك
الصيّاح، فتسكت عن الغنج والسفاح، بعد أن يكون الشرف قد راح، على يد الكبش
النطّاح؟ ثم إن كلامك يا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" ليس له من معنى إلا
أن هذا المثل (إن صدقنا ما تقول رغم كل ما يملأ كلامك من سخف ونطاعة) يرجع تاريخه
إلى مبدإ دخول المسلمين مصر وإقبال المصارْوة (وفى لغة أخرى:
"المصارْية") على اقتناء كتاب "تعلَّمْ لسان العرب، بمنتهى قلة
الأدب". نعم "قلة الأدب" ما داموا بدأوها بالغنج، ثم جاء الدكتور
لويس فختمها هذا الختام المهبّب بهباب! فهل لديك دليل على أنه يرجع إلى ذلك
التاريخ وأن التلميذات فى مَبْغَى المعلمة نُوسة الحنتوسة المهووسة بأكل
"الباس بوسة" كن يكتبنه على لوح الإردواز وهن يتعلمن لغة الفاتحين؟ وهذا
كله قبل ظهور زيكو القمص المشلوح المنكوح المقبوح، الغنّاج المهتاج النهّاج،
المثلوم المخروم المفروم، والذى لو كان تقدم به الزمن إلى حينها لسمعناهم يقولون
فى الأمثال: "القمّص المحتاج، غنّاج عند الإيلاج".
والآن أيها
القارئ العزيز، دعنى من فضلك ألتقط أنفاسى، فقد سبب لى "أستاذنا الدكتور لويس
عوض" صداعا شديدا فى رأسى رغم أننى شديد التحمل لمثل هذه الألوان الفارغة من
الثرثرة والإسهال الكتابى، وأتساءل: أمن المعقول أن هناك ناسا يكتبون ما يكتبه
الدكتور لويس ويعتقدون فى صحة هذا الغثاء؟ أما أنا فوالله الذى لا إله إلا هو لا
أظن ذلك أبدا إلا إذا فقد الإنسان عقله وأصبح البعيد بلا تمييز. والذى سوف أموت وألقى
الله عليه أن الرجل لا يقول ما يعتقده بالمرة، بل يريد أن يقرر فى العقول شيئا يظن
أنه يمكنه تقريره بالتكرار والإلحاح إلى أن تنضج الظروف فيقال بصريح القول ما
يُرْمَى إليه الآن من بعيد. وقد بدأ المسلسل منذ فترة وخرجت العقارب من جحورها ظنا
منها أن الوقت قد حان للضربة القاضية القاتلة يصوبونها إلى الإسلام وكتابه ولغته!
والآن بعد أن كاشفتكم ببعض ما عندى نعود إلى
موضوعنا فنقول إن لويس عوض يقول إن كلمة "عأ" المصرية القديمة بمعنى
"حمار" موجودة فى "حا" و"شِى"، وكذلك فى
"حصاوى" التى يفسرها بأن معناها "حمار" (ص 279). ترى ما
العلاقة بين "عأ" من جهة وبين "حا" و"شِى" من جهة
أخرى؟ الواقع أن الواحد منا لا يمكن أن يصدق بوجود مثل تلك العلاقة إلا إذا كان
غائب الذهن جَرّاءَ شرب حاجة أصفرة سقاها له الرجال الذين كانوا يخطفون الأولاد
زمان كى يذبحهم أصحابُ مَكَن الطحين الجديدة لتشتغل، والذين من الواضح أنهم ما
زالوا موجودين معنا هنا. اللهم اجعل كلامنا خفيفا على قلبهم يا رب بحق جاه حبيبك
المصطفى! طيب: "حا" وتقال للحمار، فما معنى "شِى" هنا، وهى لا
تقال للحمار بل للحصان؟ ألم يسمع لويس عوض مثلما كنت أسمع فى طفولتى وصباى أغنية
"حا يا حمار البوستة حا! شِى يا حصان البوستة شِى!"، وكذلك المثل الشعبى
الذى يقول: "يِتَخَّنُوا وِدْن الحمار بقُِولِة: شِى" (أى يملأون الحمار
غرورا بمناداتهم له بما ينادَى به الحصان فيقولون له: "شِى" بدلا من
"حا" فيظن نفسه حصانا فعلا لا حمارا)؟ ألم يسمع بهذا وبذاك ويعرف أن
الــ"حا" للحِمَار، والــ"شى" للحصان؟
ألم يكن يقول إنه يتطلع إلى اليوم الذى تسود فيه
العامية وتحل محل لغة القرآن بعد أن يكسر رقبتها، كسر الله رقبة كل خبيث نبيث؟ وهل
معنى "حصاوى": حمار، كما يقول ابن منظور القبطى؟ سلامات يا ابن منظور يا
قبطى! الأقباط على رأسنا من فوق، لأن الأقباط معناها "المصريون". وحتى
لو كان معناها "المصريين النصارى" فقط فهم كذلك على العين والرأس!
أليسوا شركاءنا فى الوطن والتاريخ؟ لكن من قال إنه لا بد أن يكون عندهم بالحنجل
والمنجل ابن منظور كما لدى المسلمين؟ وحتى لو قلنا إنه لا بد، أفلم يجد البعض إلا
الدكتور لويس، وهو ما هو فى العجز التام والموت الزؤام أمام لغة الإسلام؟ إن
"الحصاوى" ليست هى الحمار، بل صفة من صفاته، وذلك كما نقول: بخور جاوى،
وعود هندى، وخيزرانة سويسى، وتلفاز يابانى، وإجرام أمريكى، وتوحش صهيونى، وابن
منظور قبطى، واستبلاه لويسعوضى... وهلم جرا؟ وهذا كله لو أنها
بــ"الصاد"، لكنها بــ"السين"، أى "حساوى" كما
سمعتها فى منزل الدكتور حجر البنعلى وزير الصحة القطرى السابق على لسان أديب
فلسطينى واستغربتها، فأكد لى صاحب البيت والصديق الفلسطينى وصديق آخر سورى فاضل من
رجال التربية والتعليم الكبار أنها نسبة إلى مدينة "الحَسَا" (الأحساء)
السعودية التى كانت مشهورة بالحمير القوية الـجَلْدة.
فإن كان هذا صحيحا، وأغلب الظن أنه كذلك، يَكُنِ
المصريون قد حولوا السين فيها إلى صاد كما فى قول كثير من أهل الريف:
"صَالْخِير"، أى "مساء الخير"، و"شجرة صَنْط" بدلا
من "سنط"، و"مصمار" بدلا من "مسمار"،
و"صَطْل" بدلا من "سَطْل (أى جردل مثل القمص المنكوح، وكذلك مثل
دبره، فهو واسع كالجردل"، و"صُرْم (زيكو) بدلا من "سُرْمه، الذى
يعانى من شَرْمه"... وهكذا! والآن انظر إلى كل هذه البلايا التى نزلت على
رؤوسنا ترفّ من فقرة واحدة من فقرات الدكتور. إن كل فقرة فى كتابه هذا ليست فقرة،
بل فاقرة، أى مصيبة ثقيلة تقصم فقرات الظهر! والله المستعان! والمضحك أن أبو زيد
المسلِّك السالك الذى سِكَّتُه كلها مسالك يرجع كلمة "حصاوى" إلى جذر لا
يعرفه هذه المرة (وهذا حدثٌ كونىٌّ يؤرَّخ به) ولا كتب الله له أن يعرفه لا هو ولا
غيره، والذى يخمن وهو متسلطن فوق المصطبة ساعة عصرية أنه هو الجذر الذى أتت منه
كلمات "Ass"
و"Ane" و"Aselus" و"Assa" و"Asse" و"Assin" و"Asyn" و"Asen"
و"Asni" و"Esal" و"Esel"... وهلم جرا عبر لغات القارة الأوربية فى سيلٍ ثرثارىٍّ
مرهقٍ إلى أن ينفجر شريان فى مخنا، والعياذ بالله. الرحمة يا رب من هذا الإسهال
اللفظى الغثيث. الرحمة يا خلق هو، الرحمة فوق العدل!
ومن مزاعمه
كذلك أن الفعل: "وَلّف" عامى مأخوذ من جذر أجنبى طفق جنابه يطوف بنا على
اللغات التى يقول إن هذا الجذر دخلها بصُوَره المختلفة مثل "Liver: كبد" فى الإنجليزية، و"Lepos: دهن" فى اليونانية، و" :Lobhaاشتهاء"
فى السنسكريتية، و":Libido شهوة" فى اللاتينية، و"Liebe" فى الألمانية وغيرها وغيرها حتى حطّ أخيرا على أرض العامية
المصرية، وفى يده كلمة "لبوة" فوق البيعة حتى تحلو القَعْدَة (ص 380)،
وكأننا لا نقول فى العربية الفصحى: "وَلَفَ القومُ وَلِيفًا: جاءُوا معًا... ووالفهُ
موالفةً ووِلافًا: أَلِفَهُ واعْتَزَى إليهِ واتصل بهِ. والوَلِيف: "الأَلِيف"
أو عاميَّة، وكذلك "الوِلْف" لـ"الإِلْف"..." كما فى
"لسان العرب"، أو "لافَّ القومُ
القومَ: اختلطوا بهم" كما فى "الغنىّ" و"المحيط"، وهو ما
يمكن تخفيف التشديد فيه ليكون: "لافَ"! ونحن الآن نقول:
"التوليف"، أى تركيب الأشياء المتقاربة بعضها مع بعض. وليس فى الأمر أية
غرابة، فتبادل الهمزة والواو لمكانيهما كثير فى العربية، مثل: "وَرَّخ
(أَرَّخ)، و أَقَّتَ (وَقّتَ)، وأَقَطَ (وَقَطَ)، أى صَرَعَ، وإسادة (وسادة)،
مُؤْصَدة (مُوصَدة)، وإشَاح (وِشَاح)، وإعَاء (وِعَاء)، ووِكَاف (إِكَاف)، وهى
البرذعة، والأُجُوه (الوُجُوه)، وإقاء (وِقَاء)، وتوكيد (تأكيد)، وأَبَّ (وَبَّ)،
أى هَبَّ وتهيّأ للحملة، وأُحْدَان (وُحْدَان)، جمع "واحد"، ووَخَذَ
(أَخَذَ)، ووِرْب (إِرْب)، أى العضو، ووِرْث (إرث)، وتَوَاثير (تآثير)، وهم رجال
الشُّرْطة، ومَأْزُور (مَوْزُور)، أى آثِم، وأَزَعَ (وَزَعَ)، أى منع،
و"أَشَرَ" (وَشَرَ)، أى حَزَّز الأسنان، وأَلَتَ فلانا (وَلَتَه)، أى
نَقَصه...".
وكدَيْدَنه
يدَّعى لويس عوض أن كلمتَىْ "زبّ" هى كلمة مصرية، أى غير عربية، فى
مقابل "الذَّكَر" العربية (ص 387). والحق أنها هى أيضا بهذا المعنى
(وبمعانٍ أخرى أيضا) كلمة عربية فصيحة (نعم فصيحة رغم أنف الجهلاء) أخذتها العامية
المصرية من الفصحى، وكل ما هنالك أنها كسرت "الزاى" بدلا من ضمها على
عادة العامية فى كثير من الأحيان كما هو معروف. يقول الجوهرى (وهو من أهل القرن
الرابع الهجرى) فى "صِحَاحه" فى أول مادة "زبب" إن
"الزُّبّ: هو الذَّكَر"، و فصّل صاحب "تاج العروس" الأمر
تفصيلا فقال: "الزُّبُّ بالضم: الذَّكَرُ بلُغَةِ أَهْل اليَمَن، أَي مُطْلَقًا.
وفي فقه اللغة لأَبِي مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيِّ في تقسيم الذُّكورِ: الزُّبُّ
للصَّبيّ، أَو هُوَ خَاصٌّ بالإِنْسَان. قَالَه ابن دُرَيْد، وقال إِنَّه
عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وأَنْشَد:
قَدْ حَلَفَتْ باللهِ: لا أُحِبُّه* أَنْ
طَالَ خُصْياهُ وقَصْرَ زُبُّه
وفي التَّهْذِيب:
الزُّبُّ: ذكر الصَّبيّ بلُغَة اليمن... ج "أَزُبٌّ وأَزْبَابٌ وَزَبَبَةٌ
محرّكَةً"، والأَخِيرُ من النوادر". ولعله يحسن أن نورد هنا أيضا ما
قاله ابن منظور غير القبطى كى يتبين القراء بأنفسهم مدى تدليس ابن منظور القبطى،
لا لأنه قبطى، بل لأنه، بصفته الشخصية، لا يحترم شروط العلم ومنهجه: "والزُّبُّ:
الذَّكَرُ، بلغة أَهل اليَمَنِ، وخصَّ ابن دريد به ذَكَرَ الإِنسان، وقال: هو عربي
صحيح. وأَنشد:
قد حَلَفَتْ باللّهِ: لا أُحِبُّهْ* أَن طالَ خُصْياهُ، وقَصرَ زُبُّهْ
والجمع: أَزُبٌّ
وأَزْبابٌ وزَبَبَةٌ".
وفى ص
292- 393 يضع أستاذنا الدكتور" كلمة "كُسّ" فى مقابل كلمة
"هن" على اعتبار أن الثانية هى وحدها العربية، بخلاف الأولى التى هى
عنده مصرية عامية لا علاقة لها بالفصحى وأنها مأخوذة من لا أدرى أية لغة ومن أى
جذر، إذ طاف بنا على عادته بين أشتات اللغات التى لا يعرف منها إلا الإنجليزية
والفرنسية، موهما إيانا أنه ابن بجدتها كلها على ما يريد الحواريون المدلسون أن
يقنعونا. ولن أتكلم أنا ردًّا على هذا التسرع الجاهل الذى لا يليق بمنهج العلم، بل
سأتنحى وأدع المجال للمرتضى الزبيدى صاحب "تاج العروس" ليقول لنا ما فى
جَعْبته فى هذا الموضوع. قال العالم الجليل الذى لم يكن بكّاشًا ولا هوّاشًا، بل
كان يتثبت دائما مما يقول: "الكَسُّ: الدَّقُّ الشَّديدُ، كَسَّ الشَّيْءَ
يَكُسُّه كَسًّا: دَقَّه دَقًّا شَدِيدًا، كالكَسْكَسَةِ. وهذه عن ابن دُرَيْدٍ...
والكُسُّ، بالضّمّ: اسمٌ للْحِرِ، أَي الفَرْج من المَرْأَة، وليس من كَلامهم
القَديم، إِنَّمَا هُوَ مُوَلَّدٌ كما حقَّقَه ابنُ الأّنْبَاريِّ. وقال
المُطَرِّزيُّ: هو فارسيٌّ، مُعَرَّبُ "كوز". وفي "شِفاءِ الغَليل"
للخَفاجيّ: قالَ الصّاغَانِيُّ في خَلْقِ الإِنْسَانِ: لم أَسْمَعْه في كلامٍ
فَصِيحٍ ولا شِعْرٍ صَحِيحٍ إلاّ في قولِه:
يا قَوْمِ،
مَنْ يَعْذِرُنِي مِن عِرْسِ |
|
تَغْدُو وما
أَذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ |
عَلَيَّ
بالعِقَابِ حَتَّى تُمْـسِـي |
|
تَقُولُ: لا
تَنْكِح غَيْرَ كُـسَّـي؟ |
وقال
بَعْضُهم: إِنّه عربيٌّ، وإِليه ذَهَبَ أَبو حَيّانَ، وأَنْشَدَ قولَ الشاعر:
يا عَجَبا
للسَّاحِقـات الـدُّرْسِ |
|
والجَاعلاتِ
الكُسَّ فَوْقَ الكُسِّ |
قال
شيخُنَا، أَي ذَكَرَه في تَفْسيره الكَبير المُسَمَّى بــ"البَحْر" عند
قوله تعالى: "والَّلاتي يَأْتينَ الفَاحشَةَ"، قال: "المُرَادُ بها
السَّحْق، وهو حَكُّ المَرْأَةِ فَرْجَها بفَرْجِ مِثْلِهَا"، ثمَّ أَنْشَدَ
البيتَ نقلاً عن النَّحّاس أنه سَمِعَه من كلامِ العَرَب... وقد تَوَلَّع
المُوَلَّدُونَ بذِكْره في أَشْعَارهم كثيرا، فمن ذلكَ قول بَعْضهم:
غايَةُ
ما تَشْتَهيه نَـفْـسِـي |
|
منَ الأَمَانِي لـقَـاءُ كُـسِّ |
... وقال آخَرُ:
الأَيْْرُ
للْحِجْر حَرْبَةٌ نُدِبَتْ* لَوْ كانَ للْكُسِّ كانَ كالْفاسِ
... إِلى آخر ما قالُوه ممّا يُسْتَهْجَنُ إِيرادهُ هنا. وأَنا أَسْتَغْفرُ
اللهَ تَعَالَى من ذلك، وإِنّما استطردتُ به هُنَا بَيَانًا لوُرُوده في كلامِ
المُوَلَّدينَ، وإِن لم يُسْمَعْ في الكلام القديم، خِلافًا لما ذَهَبَ إِليه
شيخُنَا من تَصْويب عَرَبِيَّته، ورَدّ كلام ابن الأَنْبَاريّ ومَن وَافَقه. على
أَنَّا إِذا نَظَرْنا من حيثُ اللُّغَةُ وَجَدْنا له إشْتقَاقًا صَحيحًا، من
الكَسِّ الذي هو الدَّقُّ الشَّديدُ، سُمِّيَ به لأَنَّهُ يُدَقُّ دَقًّا شَديدًا،
فلْيُتَأَمَّلْ". نخرج من هذا
بأن الكلمة المذكورة معروفة فى الفصحى منذ قديم الزمان، وليكن أصلها الأصيل بعد
ذلك ما يكون. وهو عندى بكل تأكيد، كما قال الزبيدى رحمه الله، مشتق من
"كَسَّ"، أى دَقَّ. ولو كان من الفارسية فلماذا صرفه العرب عن وجهه
فقالوا: "كس" بدلا من "كوز" التى يستعملونها أيضا فى لغتهم؟
وما
دمنا فى هذا الباب الهباب فلنعرِّج على ما قاله، يحرسه المولى، بشأن كلمة
"يخرى"، إذ زعم أنها مصرية (ص 393)، بمعنى أنها ليست من العربية الفصحى
فى شىء، ليقفز منها إلى القول بأنها مأخوذة من اللغة الفلانية أو العلانية أو
الترتانية... إلى آخر اللغات التى لا تنتهى مما يذكره فى كتابه رغم أنه لا يعرف
منها إلا ما يعرفه كثير من المثقفين عندنا من الإنجليزية والفرنسية. والكلمة عربية
عريقة فى عروبتها، ولا معنى لكل هذا البكش اللغوى الذى ليس فيه شىء من علم اللغة
رغم كل هذا الاستعراض الممل الكريه الذى يخرّ (أم نقول من باب الهومونيم
اللويسعوضى: "يخرى"؟) من كل كلمة من كلمات كتابه العبقرى مثله. وهذا ما
قاله الزبيدى مثلا فى "تاج العروس"، وفيه الكفاية، ولا داعى لأن أسدّ نفسكم
بإيراد الشواهد الكثيرة من الشعر والنثر القديم عند العرب: "خَرِئَ كسمِع
خَرْءًا بفتح فسكون وخَراءةً، ككرِه كَرْهًا وكَرَاهَةً، ويُكْسَر ككِلاءة،
وخُرُوءًا كقُعُود، فهو خارِئٌ. قال الأَعشى يهجو بني قِلابة:
يا
رَخَمًا قاظَ على مَطْلوبِ* يُعْجِلُ كَفَّ الخارِئِ المُطِيبِ
وفي
العباب: أَمَّا ما روى أَبو داوود سليمان بن الأَشعثِ في السنن أَنَّ الكُفَّار
قالوا لسلمان الفارسيِّ رضي الله عنه: "لقد علَّمكُم نبِيُّكم كلَّ شيءٍ
حتَّى الخِراءةَ" فالرواية فيها بكسر الخاء، وهي اللغة الفصحى. انتهى. وتقول:
هذا أَعرفُ بالخِراءةِ منه بالقِراءة. وقال ابنُ الأَثير: الخِراءةُ، بالكسر
والمدّ: التَّخَلِّي والقُعود للحاجة، قال الخَطَّابِيُّ: وأَكثر الرُواةِ يَفتحون
الخاءَ، قال: ويُحتملُ أن يكون بالفتح مصدرًا، وبالكسر اسمًا: سَلَح. والخُرْءُ
بالضَّمِّ ويُفتح: العَذِرَةُ، ج خُروءٌ، كجُند وجُنود، وهو جمعٌ للمفتوح أيضا،
كفَلْس وفلوس، قاله الفَيُّومِيُّ. وخُرْآنٌ بالضَّمِّ على الشذوذ. وخُرُءٌ
بضمَّتين، تقول: رَمَوْا بخُرُئِهم وسُلُوحِهم، ورمَى بخُرْآنِه،
وقد يقال ذلك للجُرَذِ والكَلب. قال بعض العرب: طُلِيتُ بشيءٍ كأنَّه خُرْءُ الكلب.
وقد يكون ذلك للنَّمل والذُّباب، وقال جَوَّاسُ بن نُعيمٍ الضَّبِّيُّ، ويروى
لجوَّاس بن القَعْطَلِ، ولم يَصِحَّ:
كأَنَّ
خُروءَ الطَّيْرِ فوقَ رُؤوسِهِمْ
إذا اجْتَمَعَتْ قَيْسٌ معًا وتَميمُ
متى
تَسَلِ الضَّبِّيَّ عن شَرِّ قَومِهِ
يقُلْ لكَ: إنَّ العائِذِيّ لَئيمُ
وقوله:
كأنَّ خُروءَ الطَّيرِ، أَي من ذلّهم. والموضع: مَخْرَأَة بالهمز، ومَخْراة
بإسقاطها. وزاد غيرُ الليثِ: مَخْرُؤَة، هكذا بفتح الميم وضمِّ الراء، وفي بعضها
بكسرِ الراء، وفي أُخرى بكسر الميم مع فتح الراء. وفي التهذيب: والمَخْرُؤَةُ: المكانُ
الذي يُتَخَلَّى فيه. وعبارة الصحاح: ويقال للمَخْرَجِ: مَخْرُؤَةٌ ومَخْرَأَةٌ.
وقال أَبو عُبَيد أَحمد بن محمد بن عبد الرحمن الهَرَوِيُّ: الاسم من "خَرِئَ"
الخِراء، بالكسر. حَكاه عن الليثِ، قال: وقال غيرُه: جمع الخِراء: خُرُوءٌ، كذا في
العُباب. وقال شيخنا: وقيل: هو اسمٌ للمصادِر كالصِّيامِ، اسمٌ للصَّوْمِ، كما في المصباح.
وقيل هو مصدرٌ. وقيل: هو جمعٌ لخَرْءٍ، بالفتح، كسَهْمٍ وسِهامٍ".
وما
قلناه فى "يخرى" نقوله أيضا فى "يشخّ"، التى يدعى
"أستاذنا الدكتور لويس عوض" كالعادة أنها مصرية، أى لا تعرفها العربية
الفصحى (ص 393- 394)، بغية إيهام القراء بأن فى مصر لغتين مختلفتين وليس لغة واحدة
بلهجاتها المختلفة كأية لغة فى العالم. ولن أفعل هنا أيضا أكثر مما فعلته فى
الفقرة السابقة حين تركت قرائى الكرام مع ما قاله الزبيدى. وأنا عادةً ما أكتفى به
لأنه أشد معجميينا القدماء تفصيلا وآخرهم. قال عالمنا الجليل: "الشَّخُّ:
البَوْلُ، وصَوْتُ الشُّخْبِ إِذَا خَرَجَ من الضَّرْعِ... وشَخَّ ببَوْلِه
يَشُخُّ شَخِيْخًا وشَخًّا: لم يَقدرْ أَن يَحْبِسَه فَغَلبَه، عن ابن الأَعرابيّ.
وعمَّ به كُراع فقال: شَخَّ ببَولِه شَخًّا، إِذا لم يَقْدِرْ على حَبْسه. وشَخَّ
ببَوْلِه وشَخْشَخَ: امْتَدَّ كالقَضِيبِ، أَو مَدَّ به وصَوَّتَ. وإِنَّه لــ"شَخْشَاخٌ
بالبَوْلِ" من ذلك". ترى هل هناك مجال لإضافة شىء آخر؟ لا إخال، ففيما
أوردناه من كلام العلامة الزبيدى الكفاية لإخراس أى صوت جاهل يقدم بكل جسارة، بل
بكل بجاحة، على مواضيع لا يعرف عنها شيئا!
ومع"أستاذنا
الدكتور لويس عوض" نمضى ولا نتوقف كى يعرف القاصى والدانى أن الرجل لا يعرف
شيئا فى موضوع كتابه حتى لو كان يتعلق بالأمور الأولية فيه وحتى لا يجوز على
القارئ الخالى الذهن كلام المطيباتية الخطرين على الأمن الفكرى والعقيدى، فنتوقف
عند زعمه أن كلمة "زَرّ عينه" بمعنى "شدد بصره بحيث يركزه فى
إنسان" هى كلمة مصرية (ص 401)، أى لا علاقة لها بالفصحى، التى لا تزيد
العامية المصرية عن أن تكون لهجة من لهجاتها. فتأمل وتعجب من هذا الغُشْم الغاشم
الغشيم الغَشُوم المِغْشَم المِغْشَام الغَشّام الغُشَمَة المستغشم المتغاشم.
والله لولا أنّ شق الهدوم حرام فى دين سيد المرسلين لشققتها وفششت بها غليلى بدلا
من أن أصاب بالسكر أو بالضغط أو ربما الموت وَحِيًّا. قال الزبيدى فى "تاج
العروس" فى معرض سرده لمعانى ذلك الفعل: "والزَّرُّ: تَضْيِيقُ
العَيْنَيْن. يقال: زَرَّ عَيْنَيْه: ضَيَّقَهما"، وهو الموجود فى المعاجم
التى رجعت لها جميعا. فكيف حال "أستاذنا الدكتور لويس عوض" الآن؟ كان
الله فى عوننا عليه، فإنه ناشف الدماغ متغشمر فى التمرد دون وجه حق!
وهو
يدعى أن كلمتى "شرم" و"صرم" مصريتان مأخوذتان من "Scrotum" اللاتينية: بحذف التاء من "سكروتم"، وأن ذلك تم
فى العصر الرومانى، أى أيام كانت أرض الكنانة مستعمرة رومانية (ص 408). ومعنى هذا
أن الكلمة ليست عربية! فماذا هو قائل هو ومن يتشدد له إذا فضحنا هذه الرعونة
وبرهنّا على أن الكلمتين عربيتان؟ إليكم أولا النصوص المعجمية الخاصة
بــ"شرم"، ونبدأ بمعجم "العين"، وهو معجم قديم جدا، إذ يرجع
إلى القرن الثانى الهجرى: "الشّرمُ: قَطْعٌ من الأَرْنَبة، وقَطْعٌ من ثَفَرِ
الناقة، قيل ذلك فيهما خاصّة. وناقةٌ شَرْماءُ: مَشْرومةٌ. ورجلٌ مَشْرومُ الأنف:
أشْرَمُ. وكان أبْرَهةُ صاحبُ الفيل جاءه حَجَرٌ فَشَرَمَ أنفه، ونجا ليُخبِرُ
قومه، فسُمّيَ: الأشْرَم. وربّما قيل: اشْتُرِمَ ثَفَرها. والشَّرْمُ: لُجّةُ
البَحْر".
وجاء
فى "محيط المحيط" لبطرس البستانى: "الشَّرْمُ و التَّشْرِيمُ:
قَطْعُ الأَرْنَبَةِ وثَفَرِ الناقة، قيل ذلك فيهما خاصة. ناقةٌ شَرْماء وشَرِيمٌ
ومَشْرومَةٌ، ورجل أَشْرَمُ بَيِّنُ الشَّرَمِ: مَشْرُومُ الأَنْفِ، ولذلك قيل
لأَبْرَهَةَ: الأَشْرَمُ. وأُذُنٌ شَرْماءُ ومُشَرَّمَةٌ: قُطِع من أَعلاها شيءٌ
يسير... والشَّرْمُ: الشَّق. شَرَمَهُ يَشْرِمُه شَرْمًا فَشَرِمَ شَرَمًا
وانْشَرَم و شَرَّمَهُ فَتَشَرَّم. والشَّرْمُ: مصدر شَرَمَهُ أَي شَقَّه...
والتَّشْرِيمُ: التَّشْقِيقُ. وتَشَرَّمَ الشيءُ: تَمَزَّق وتَشَقَّقَ.
والأَشْرَمُ: أَبْرَهَةُ صاحبُ الفيل، سمي بذلك لأَنه جاءه حجر فَشَرَمَ أَنفَه...
ويقال للجلد إِذا تشقق وتمزق: قد تَشَرَّمَ. ولهذا قيل للمشقوقِ الشفة: أَشْرَمُ...
ابن الأَعرابي: يقال للرجل المشقوق الشفة السُّفْلَى: أَفْلَحُ، وفي العُلْيا:
أَعْلَمُ، وفي الأَنف: أَخْرَمُ، وفي الأُذُن: أَخْرَبُ، وفي الجَفْن: أَشْتَرُ،
ويقال فيه كُلِّه: أَشْرَمُ... والشَّرِيمُ والشَّرُومُ: المرأَة المُفْضاة.
وامرأَة شَرِيم: شُقَّ مَسْلكاها فصارا شيئًا واحدًا... وكلُّ شَقٍّ في جبل أَو
صخرة لا يَنْفُذُ: شَرْمٌ... الجوهري: وشَرْمٌ من البحر: خَلِيجٌ منه".
وفى "المعجم الوسيط" نقرأ: "شَرَمَ
الشيءَ- شَرْمًا: شَقَّهُ من جانبه. يقال: شَرَمَ أنْفه. وشَرَمَ أُذُنَه: قطَع من
أَعلاها شيئًا يسيرًا، فهو مشرومٌ، وشَرِيمٌ... شَرِمَ- شَرَمًا: انشقَّ. فهو
أشْرَمُ، وهي شَرْماء. (ج) شُرْمٌ. شَرَّمَه: شَقَّقَه. انْشَرَمَ: انشقَّ.
تَشَرَّمَ: تَشَقَّقَ. يقال: تَشَرَّمَ الجلدُ، وتَشَرَّمَتْ نواحي الكتاب.
الشَّرْمُ: كلُّ شَقٌّ غير نافذ في جبل أَو حائط. و- من البحر: خليجٌ منه".
أما
"الصُّرْم" فهو فى العربية "السُّرْم" بالسين، إلا أن العامة
تقلب السين "صادا" كما فى قولهم: "صالخير"، أى "مساء
الخير"، و"مصمار" فى "مسمار"، و"ماصورة" فى
"ماسورة"، و"أَصْمَر، وصَمْرَا" بدلا من "أسمر
وسمراء". وكنت وأنا فى أكسفورد أفتح إذاعة الجزائر فى أواسط سبعينات القرن
الفائت فأستمع كل ليلة إلى برنامج "مع الصاهرين" بالصاد. وفى "محيط
المحيط" لبطرس البستانى (اللبنانى) أن العامة تنطق هذا اللفظ بالصاد. وهذا
يؤكد ما قلته قبل قليل عن ظاهرة قلب السين فى بعض الكلمات على ألسنة العامة
"صادا". على كل حال فإننا نجد فى معجم "العين" للخليل بن أحمد
الفراهيدى مثلا أن "السُّرْمُ: باطنُ طَرَف الخَوْران من الدُّبُر". وفى
"لسان العرب": "روى الأَزهري عن ابن الأَعرابي أَنه سمع أَعرابيًّا
يقول: اللهم ارزقني ضِرْسًا طَحونًا ومَعِدَةً هَضُومًا وسُرْمًا نَثُورًا. قال
ابن الأَعرابي: السُّرْمُ: أُمُّ سُوَيْدٍ. وقال الليث: السُّرْمُ: باطن طرف الخَوْرانِ.
الجوهري: السُّرْمُ: مَخْرَجُ الثُّفْل، وهو طرَف المِعَى المستقيم، كلمة مولَّدة.
وفي حديث عليّ: لا يذهب أَمر هذه الأُمة إِلا على رجل واسع السُّرْم ضخم
البُلُعومِ. السُرْمُ: الدُبرُ، والبُلعُومُ: الحلق. ابن سيده: السُّرْمُ: حرف
الخَوران، والجمع: أَسْرامٌ. قال أَبو محمد الحَذْلَمِيّ: "في عَطَنٍ
أَكْرَسَ من أَسْرامِها".وخص بعضهم به ذوات البَراثِنِ من السباع. ابن
الأَعرابي: السَّرَمُ: وجع العَوَّاء، وهو الدُّبُرُ".
ومن شواهد تلك الكلمة فى الشعر القديم قول ابن
الرومى فى القرن الثالث الهجرى:
كأنه
سُرْمُ بغلٍ حين يُخْرِجُه* عند الرِّياث وباقي الروث في وسطِهْ
وكذلك
قول ابن حجاج من شعراء القرن الرابع:
يخرى
فيخرج سرمه* شبرين من وجع الزحير
وقول
ابن منير الطرابلسى من أهل القرنين الخامس والسادس:
لِحيةٌ
سُرْمُ سِيبَوَيْه* عَلَيها قَدِ انتَهكْ
ولست
أستطيع أن أقتنع بأن الكلمة مولدة كما قال الجوهرى، وإن كان توليدها لا يطعن فى
عربيتها، بل المقصود أن هذه الكلمة ذاتها، وبهذه الدلالة فقط، جديدة: معنًى أو
اشتقاقًا، أما سائر المادة فشىء آخر. وها هو ذا الخليل بن أحمد، وهو متقدم على
الجوهرى كثيرا جدا، لا يشير إلى أنها مولدة، فضلا عن أن الكلمة قد وردت، كما نرى،
فى نصوص تصل لعصر الصحابة وفى أقوال منسوبة لبعض "الأعراب"، مما يدل على
أن الجوهرى غير دقيق. كما أن وجود مادة "سرم" فى اللغة العربية بهذا
التوسع وفى معنى "القطع" يعضد أن الكلمة عربية أصيلة. وفضلا عن ذلك فإن
البستانى فى معجمه: "محيط المحيط" لم يتطرق إلى ذكر توليدها البتة، مع
حرصه على ذلك عادة وإرجاعه الكلمة المأخوذة من لغة أعجمية إلى أصلها الذى يرى أنها
مأخوذة منه. وواضح أن الزعم بأن الكلمتين مأخوذتان من "Scrotum" اللاتينية هو زعم لا معنى ولا أساس له، وبخاصة أن هناك فرقا
كبيرا فى النطق وفى الاشتقاق بين الكلمتين كما هو بين واضح. والمضحك أن يرجع لويس
عوض كلمة "شرج" (التى يعترف بعربيتها، والحمد لله أَنِ اعترف بذلك) إلى
"Scrotum"
أيضا. ولم لا، وكله عند لويس "سكروتم"؟ وسواء كانت الكلمة عربية أصيلة
أو كانت مولدة فإنها موجودة فى كل الأحوال منذ قديم الزمن فى لسان العرب، وليست
مصرية كما يريد لويس عوض أن يضحك على ذقن قرائه، بل أخذتها العامية المصرية من
أمها العربية الفصحى بعد أن غيرت سينها إلى صاد كما صنعت فى بعض الكلمات الأخرى
حسبما رأينا!
ولقد وقف المستشرق الألمانى يوهان فُِكْ فى
كتابه: "العربية- دراسات فى اللغة واللهجات والأساليب" أمام هذه الكلمة
فى شِعْر ابن حجاج الذى سبق الاستشهاد ببيت منه يحتوى على كلمة "سرم" قبل قليل، قائلا إن
"مادة الألفاظ العربية عند هذا الشاعر كثيرا ما يستمدها من لهجة بغداد
الدارجة: ستى، راسمال، شوّشَ (أى "أزعج"). وهى غنية بالتعبيرات الدارجة
على الأقل فى غزل المذكَّر، مثل الكلمة المولَّدة: "سُرْم"، بمعنى
"الدبر"، والصيغة الشعبية لها "صرم". وقد تجنب الكتّاب
الملتزمون للدقة، بسبب ذلك، المشتركَ اللفظىّ لهذه الكلمة، وهو "الصرم"،
بمعنى "الهجر". وأخذ ابن الأثير على المتنبى استعماله هذا اللفظ الفصيح
الذى يكثر فى القديم" (انظر ترجمة الكتاب المذكور للدكتور عبد الحليم النجار/
نشرة د. رمضان عبد التواب/ مكتبة الخانجى/ 1400هــ- 1980م/ 191). هذا، وأرجو أن
يتنبه القراء الكرام لكلام فك عن كلمة "رسمال" ووصْفه لها بأنها عامية
بغدادية، وهى التى يزعم لويس عوض على طريقته العابثة المضحكة التى لا علاقة لها
بالعلم ولا بالعقل أنها عامية مصرية، أى ليست مأخوذة (كما يقول) من كلمة
"رأس" الفصحى (التى لا يمكن فى الواقع إلا أن تكون مأخوذة منها)، ويصر
على أن أصلها هى و"رأس مال" جميعا كلمة "رس: Res" اللاتينية، بمعنى "ملْك/ ثروة" أو بالمعنى
الحرفى: "شىء" (ص 231). فتأمل هذا المنطق المدمر والعناد الأرعن والرغبة
الشريرة فى إثارة الفوضى اللغوية.
وفى
ص 409 نجد أن كلمة "طَرْب" (وهى المنديل الدهنى الذى يغشّى الكرش
والأحشاء والذى يغرم كثير من المصريين بأكله على هيئة شطيرة محشوة لحما) هى أيضا،
حسب دعوى لويس عوض المشرومة، كلمة مصرية، وكأنها ليست محرفة عن "ثَرْب"
الفصحى كعادة العامية فى مصر حين تقلب الثاء تاء (وقد تقترب بها من الطاء فى بعض
الأحيان)، مثل: "ثَوْم (تُوم)، واثنان (اتنين)، وثلاثة (تلاتة)، وثمانية
(تمانية)، وكثير (كتير)، والثالثة ثابتة (التالتة تابتة)، ويثمر فيه الخير
(يِتْمَر)، وثنيّة البنطلون (تَنْية)، وثخين (تخين)، وأثرم (أترم)، وثِقَل
(تُقْل)، و ثعلب (تعلب)، وثُفْل (تِفْل)، ومُثَلَّم (مِتَلِّم)، وثَمَن (تَمَن)،
وثَوْر (تُور)..."، وهذا فى الثاء التى تأتى فى أول الكلمة فقط. وفضلا عن هذا
ينبغى أن نتنبه إلى أن مادة "ثرب" مادة واسعة ومتفرعة الدلالات فى لغة
بنى يَعْرُب مما يدل على تجذرها فيها وأنها ليست طارئة كما يتصور الدكتور لويس أنه
يستطيع أن يوهمنا!
واضح
أنه لا يكلّ ولا يملّ وأن باله آخر روقان، وهل هو خاسرٌ شيئا؟ إن شعاره: إما طابت
أو اثنتان عوراوان! ومن روقان باله أن قولنا عمن خسر كل شىء: "خَسَر الجلْد
والسَّقَط" يعنى عنده: "خسر الجلد والجلد". أى، كما يقول دائما دون
تبصر، "توتولوجى". الله يخرب بيت التوتولوجى وسنينه! ذلك أن
"السَّقَط" عنده هو ":Scunt سكونت"، التى تحولت إلى ":Cunt
كونت" فـ"Cut:
كوت" بمعنى "جلد". يا ألطاف الله! أين أنت يا خواجة بيجو حتى تأتى
وترى أن أبا لمعة الأصلى (الله يرحم أيامه!) كان رجلا طيبا ضيّق منادح الخيال
والـمَعْر والفَشْر، ولم يكن يستحق كل تلك الفضائح منك. يا أخى، أو إذا شئت: يا
والدى، أو إذا أصررت: يا جدّو الدكتور، أنت تعرف تماما مثلما يعرف العبد لله
الغلبان الذى أنت مدوّخه ليلا ونهارا (ربنا على القادر المفترى!)، بل إنك لتعرف
أفضل ألف مرة من هذا العبد الغلبان، أنه لا توتولوجى ولا يحزنون، وأن المسألة وكل
ما فيها، بعيدا عن كل هذه الهَمْبَكَة، أن "السَّقَط" من الذبيحة هو
"الكرشة والمصارين والكوارع ولحم الرأس واللسان" وأن الذى خسر الجلد
وهذه الأشياء فمعناه أنه خسر كل شىء، لأن هذه الأشياء هى أتفه وأرخص ما فى الحيوان
المذبوح، فلو خسرها هى أيضا لكان معنى ذلك أنه خرج من المولد بلا حمص. وإياك أن
تجنِّنى بقولك إن "الحمص" مأخوذ من الجذر الفلانى أو الأصل العلانى أو
اللفظ الترتانى أو الكانى مانى ودكّان الزلابانى فى السنسكريتية أو الجرمانية
العالية أو الإنجليزية الواطئة بنت ستة وستين كلبا... إلى آخر ذلك الكلام الفارغ
الذى تسرقه من كتب الأوربيين ثم تأتى لتتمنظر به علينا كتلك القرعاء التى تتباهى
بشعر بنت أخت زوج امرأة ابن عمة حَماة جارتها! وكحبيبك وأستاذك محمد مندور سارق
جان كالفيه والمازنى كما أثبتُّ بالنصوص والوثائق التى لا تعرف أن تكذب أو تتجمل
فى كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع
الصلبة"! صحيح: "صُحْبَةٌ بعضها من بعض"! يا رجل، حرام عليك! أولا
تهمد قليلا؟ لقد أصبتنا بالخَوْتَة فى دماغنا! وفى "المعجم الوسيط":
"السَّقَطُ: الساقِطُ من كلِّ شيءٍ. و- الرديءُ الحقيرُ من المَتَاع والطعام.
ومنه قيل لأحْشَاءِ الذبيحة كالكَرِشِ والمِصْران: سَقَطٌ".
كذلك
فى "المعجم الوسيط" وفى كل المعاجم أن "الأعمش" كلمة عربية
فصيحة، بيد أن أستاذنا العبقرى الذى تخرّ عبقريته من كل حرف يكتبه يقول إن كلمة
"أعمش" اختراع عامى مصرى مركب من "أعمى" و"أعشى" (ص
242). أرأيتم كيف تكون العبقرية؟ أرأيتم كيف يكون العلم؟ أرأيتم كيف يكون المنهج؟
أرأيتم كيف يكون تأليف الكتب التى لا يستطيعها المتخصصون الكبار فى فقه اللغة
عندنا ويستطيعها "واحد ما فيش غيره" هو الأستاذ الدكتور؟ ستقولون لى إن
المعجم الوسيط وسائر المعاجم تقول إن الكلمة فصيحة، وأنت يا فلان قد قلته ذلك
بعظمة لسانك منذ نصف دقيقة فقط لا غير، فما الذى جرى حتى تغير موقفك بهذه السرعة؟
سأقول لك: انْسَ، أَلْغِ. كلام عيال وحياة والديك! فماذا فى ذلك؟ كان طيشا منى
وتراجعت عنه، والرجوع إلى ما قال الدكتور فضيلة، بل "أبلة فضيلة" ذاتها!
أوتريدنى أن أقول شيئا غير ما قاله الدكتور؟ أولا تعرف أن كلامه هو الكلام؟ أنا
معك فى أن المعاجم تقول إن "الأعمش" كلمة فصيحة وإن معناها، كما جاء فى
المعجم الذى ألفه ابن منظور الحقيقى لا ابن منظور القبطى، هو "الفاسد العين
الذي تَغْسَِقُ عيناه، ومثله الأَرْمَصُ. والعَمَشُ أَن لا تزالَ العين تُسِيل
الدمع ولا يَكادُ الأَعْمشُ يُبْصِرُ بها. وقيل: العَمَش ضَعْفُ رؤية العين مع
سيلانِ دمعها في أَكثر أَوقاتِها. رجل أَعْمَشُ وامرأَة عَمْشاءُ: بيِّنا العَمَشِ.
وقد عَمِشَ يَعْمَشُ عَمَشًا. واستعمله قيس بن ذريح في الإِبل فقال :
فأُقْسِم ما عُمْشُ العُيونِ شَوارِفٌ |
|
رَوائِمُ بَوٍّ
حانِياتٌ على سَقْبِ" |
كما أعرف أنه
كان هناك عالم مسلم شهير جدا جدا أشهر من أستاذنا الدكتور ذاته (تَصَوَّرْ!) لقبه
"الأعمش". لكن هذا كله لا يغير من واقع الأمر شيئا، إذ ما دام لويس عوض
قال، فقوله لا بد أن يمشى، وطظ فى الحق وفى العلم وفى المنهج، لأنه قد رُفِع عنه
القلم فيمن رُفِع عنهم، ومن رُفِع عنه القلم فليقل ما يشاء، وقتما يشاء، وفى
المكان الذى يشاء، وعلى النحو الذى يشاء، وليخبط رأسه فى الحائط من يشاء، فقد مات
العلم ولله البقاء، وسيظل الجهل سيدا رغم أنف الشرفاء من العلماء!
إذا قالت
حَذَامِ فصدِّقوها* فإن القول ما قالت حَذَامِ
وقد قالت
حَذَاِم، فلا بد إذن أن نصدقها لأن قولها هو القول الفصل. ذلك أنها فى ظُهْرِيّةٍ
من الظهريّات الصيفية الحارة، وبعد أكلة فول وبصارة معتبرة، ومعها بعض أقراص
الطعمية وطبق طرشى بقرون الشطة السودانى وكم حزمة فجل وجرجير وكراث وبصل أخضر بطين
البِرَك، أخذت حذام هانم غفوة، وعينك لا تشوف إلا النور، وإذا بها ترى فى المنام
(لكن ربك والحق أنا لا أدرى أكانت مغطاة أم لا)، إذا بها ترى كبار رجال مصر بعد
دخول العرب فاتحين أرض المحروسة بقليل، وقد اجتمعوا فى ميدان العتبة الخضراء
(وأرجو ألا يقول لى أحدكم إن القاهرة كلها على بعضها لم تكن قد وُجِدَتْ بعد، فكيف
يكون هناك عتبة خضراء أو حمراء؟ إذ من قال إننا فى سياق تحقيقات علمية؟ نحن فى
منامات يا حبيبى، والمنامات لا رقيب ولا حسيب عليها ولا على صاحبها)، المهم أن
الست حَذَامِ رأت كبار رجالات مصر وقد اجتمعوا على باب المطافى القائمة فى ذلك
الميدان، المطافى التى اشتراها إسماعيل يس فى الفلم المشهور، وهات يا مباحثات حول
الكلمة التى ينبغى استخدامها للشخص المصاب بالعمش، وهو مرض مصرى لم يكن العرب
يعرفونه حسب بيانات منظمة الصحة العالمية فى ذلك الوقت (أى منظمة صحة عالمية؟ لا
أدرى، ولا الميتاطيز نفسه يدرى!)، فلهذا لم يضعوا له اسما، فقال بعضهم: أعمى، وقال
بعضهم: أعشى. وظلوا يتجاذبون النقاش حتى دخل عليهم أحد مجاذيب الحسين (ولا يقل
أحدكم إنه لم يكن هناك حسين بعد، فهذه منامات كما قلنا)، وإذا به تعجبه الحكاية
فتأخذه الجلالة ويتطوح يمينا ويسارا وهو يصيح: أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى،
أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى... وظل يكرر
الكلمتين على هذا النحو (كما تفعل البنات وهن يقطفن أوراق الوردة التى فى أيديهن:
يحبّنى، لا يحبّنى، يحبّنى، لا يحبّنى...) حتى خانه لسانه بسبب الإرهاق كما يحدث
لأى منا إذا شرع يكرر عبارة "خشب السقف سبع خشبات"، فخلط بين الكلمتين
وقال: "أعمش"! وإذا بالمحتشدين يقومون فيجرون فى الشوارع بلابيص
كأرشميدس هاتفين مثله من الفرحة: وجدناها، وجدناها. ومن يومها والمصريون يباهون
بإدخال هذه الكلمة فى اللغة، وكذلك فى دبر القمص المنكوح! وشكرا للدكتور لويس على
هذا التحقيق التاريخى!
وكعادتنا
نقفز فوق كثير من الصفحات، وإلا فلن ننتهى، كما أن العبرة بأخذ بعض الشواهد ليس
إلا، والباقى يستطيع القارئ أن يرجع إليه بنفسه متى أراد. ونقف أمام قوله إن كلمة
"سلايّة" (أى الشوكة) عامية مصرية ترجع إلى ذات الجذر الذى يرجع إليه
لفظ "Thistle" الإنجليزى، ولفظ كذا الألمانى، ولفظ كَيْت الدانمركى... إلى
آخر الموال المحفوظ السمج الذى اعتدنا عليه فى الكتاب. ولأنى، على الأقل فى هذه
اللحظة من كثرة ما قرأت هذا الهراء، قد فرغ منى الصبر وضاق الصدر رغم شدة تحملى
عادة، فسوف أكتفى بنقل ما كتبه الزبيدى عن هذه الكلمة فى "تاج العروس"
وأترك القارئ معه يقرر ما يشاء: "سَلأَ
الجِذْعَ والعَسِيبَ سَلاًْ: نزع شوكهما. والسُّلاَّءُ، بالضم، ممدود: شَوْك النخل
على وزن القُرَّاء، واحدته سُلاَّءَةٌ. قال عَلْقَمةُ بن عَبْدَةَ يَصف فرسًا:
سُلاَّءَةً كَعَصا النَّهْدِيِّ غُلَّ لَها*
ذُو فَيئةٍ مِن نَوَى قُرَّانَ مَعْجُومُ
وسَلأَ
النَّخْلَة والعَسِيبَ سَلأ: نَزَع سُلاَّءَهما، عن أَبي حنيفة. والسُّلاَّءُ:
ضَرْبٌ مِن النِّصال على شكل سُلاَّءِ النخل. وفي الحديث في صفة الجَبانِ: "كأَنما
يُضْرب جِلْدُه بالسُّلاَّءِ"، وهي شوكة النخلة، والجمع "سُلاَّء"
بوزن جُمّار. والسُّلاَّءُ: ضَرب من الطير، وهو طائر أَغْبَرُ طويل الرجلين".
الواقع أننى أحسد الدكتور لويس على طول البال وممارسته لهذا البكش المفضوح دون أن
يطرف له جفن أو يختلج له ضمير!