هل إفتدانا المسيح على الصليب ؟؟


سابعا: إبطال الصلب بنبوءات وأخبار الأناجيل والرسائل

تتحدث الأناجيل الأربعة عن صلب المسيح، كخاتمة لوجوده على الأرض، ولكن: هل تنبأ المسيح بأنه سيصلب ؟ وهل عرف بذلك تلاميذه ؟

لا ريب أن إجابة النصارى تتلخص في أن المسيح عرف أنه سيصلب وسيسلم لأعدائه، وأنه أخبر تلاميذه بذلك. وحجتهم في ذلك قول متى: " تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليصلب " ( متى 26/1 ) لكن الناظر في الأناجيل، يرى أيضاً أن المسيح تنبأ بنجاته، بل أعلنها على ملأ اليهود، وتحداهم، وأخبر بأنه غلبهم، وغلب العالم.

فكما تشهد الأناجيل بصلب المسيح، فإنها تنقل عن المسيح شهادته بنجاته، وقد تجاهل النصارى هذه الروايات، ولم يلتفتوا إليها.

ولكن الحقيقة تكمن في أن خبر تنبؤ المسيح بقتله أو صلبه، قول دخيل على الأناجيل، ملحق بها، ويقيم محمد أبو الغيط الفرت الأدلة على ذلك، ومنها:

• أن العبارة في متى وردت بلا مقدمة، ولا مناسبة، ولا تعليق عليها من قبل الحواريين، حتى وكأنها تتحدث عن حدث عادي، فلئن صحت، دل ذلك على أن ابن الإنسان المصلوب المسلّم لأيدي الخطاة، هو غير المسيح.

• ذكر الإنجيليون الثلاثة الذين ذكروا الخبر بأن المسيح سيقوم في اليوم الثالث ( انظر متى 17/23، مرقس 9/32، لوقا 18/33 )، وهذا لم يحصل، بل مكث ما لا يزيد بحال عن ليلتين ويوم.

• يقترن وصف الأناجيل الثلاثة لردة فعل التلاميذ حيال هذا الخبر بكثير من الغرابة، ففي متى ( 26/1 - 2 ) لم يذكر لهم حساً ولا خبراً، بيد أنه في ( متى 26/23 ) ذكر بأنهم " حزنوا جداً " ويفهم منه أنهم فهموا مراده فحزنوا، لكن مرقس يقول: " وأما هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه " ( مرقس 9/32 )، ويؤكد لوقا هذا بقوله: " وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً، وكان هذا الأمر مخفياً عنهم، ولم يعلموا ما قيل ".

• وإضافة إلى تناقض النصوص، فإن في خوف التلاميذ من المسيح ما يدعو للعجب، فقد عرف بدماثة خلقه، وبتحببه لهم، حتى إنه غسل أرجلهم، وكثيراً ما كانوا يسألوه، فِلمْ لم يسألونه في هذا الأمر الخطير؟

• تتحدث المواضع الأربعة – التي ذكرت تنبؤه بالموت - عن تسليم ابن الإنسان، وقتله أو صلبه، ولا تنص على عيسى، لكن اللفظ – وإن تبادر في الذهن إلى المسيح – فإنه يصح أن يطلق على غيره، بدليل أنهم سألوه عن ابن الإنسان مَن هو بقولهم: " من هو هذا ابن الإنسان؟ " ( يوحنا 12/34 ) ولو كان خاصاً هذا اللقب بالمسيح، لما كان في سؤالهم وجه.

• ومما يدل على عدم صحة التنبؤ بالصلب والقتل: فرار التلاميذ، وفيهم بطرس الذي قال له المسيح: " طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك، فقال له: يا رب، إني مستعد أن أمضي معك، حتى إلى السجن، وإلى الموت " ( لوقا 22/32 - 34 )

فدل هذا على معرفتهم بأن المأخوذ غيره، كما قد عرفوا ذلك فهربوا، وقد قال عنهم المسيح: " الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك " ( يوحنا 17/12 ).

ثم بعد ذلك ولأن أمر المصلوب لا يهمهم وقد عرفوا بنجاة سيدهم لم يهتموا بمتابعة المصلوب وهو على الصليب، أو في أثناء المحاكمة، إلا ما جاء عن بطرس ويوحنا وبعض النسوة.

كما تذكر الأناجيل دليلاً آخر على عدم صحة هذه النبوءات عن صلب المسيح، بل تدلل على أن المسيح تنبأ بنجاته وفهم التلاميذ منه ذلك، وقد أشكل عليهم رؤيتهم للمأخوذ وقد قبض عليه، وظنوه المسيح، فوقعوا فيما حذرهم منه المسيح، وهو ما ذكره مرقس في إنجيله، من أن المسيح قال لتلاميذه: " كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة " ( مرقس 14/27 ).

لا تذكر الأناجيل شيئاً عن شك التلاميذ، سوى ما ذكرته عن بطرس الذي أنكر المأخوذ ثلاث مرات ليلة المحاكمة، وأما الآخرون فصمت مطبق، فكيف شك التلاميذ ؟

يجيب العلامة أحمد عبد الوهاب بأن الشك هو تراجع داخل النفس، ويستشهد لتفسيره بما جاء في غير الترجمة العربية، فالنص في التراجم الأخرى تعريبه هكذا:" كلكم ترتدون عن عقيدتكم وتزلون ".

ويفرق بين الإنكار والشك، فالشك عمل قلبي، والإنكار: قد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده في قلبه، والذي وقع من التلاميذ شك لا إنكار. فلقد آمن التلاميذ بالمسيح، وصدقوه فيما تنبأ به، فإذا رأوا ما اعتبروه مخالفاً لنبوءاته، فسوف يحصل منهم الشك، والردة عن العقيدة.

ويورد هنا أحمد عبد الوهاب احتمالين :

الأول: أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، وستُحدث له ألماً ومعاناة، إلا أنها ستفشل، وسينقذه الله من القتل، كما في قوله: " ستطلبونني ولا تجدونني ". وهذا الذي حصل ولم يشاهدوه، بل شاهدوا ما حسبوه وظنوه نقيضه، فقد رأوا المسيح مأخوذاً مصلوباً، فوقعوا في الشك به لأن كلامه لم يتحقق..

والثاني: أن المسيح تنبأ بأن المؤامرة ستنتهي بقتله.

وهذا ما يدحضه العود إلى لحظة القبض على المسيح حيث نجد أن التلاميذ جميعاً قد هربوا، وتركوا المسيح وحده. ويبدو هنا شكهم واضحاً، لقد حصل ما لم يتوقعوه – فيما يظهر لهم -، وما لم يتنبأ به المسيح.

فلئن كان أخبرهم بأن سيُقبض عليه وسيقتل، فليس ثمة ما يثير الشك، وإن كان الاحتمال الأول بأنه سينجو، وأن المؤامرة ستفشل، ولكنهم يجدونه – فيما يظهر لهم - قد قبض عليه، ولم تتحقق نبوءته، فحينئذ وقعوا في الشك.

فالنصارى أمام خيارين :

الأول: نفي الشك عن التلاميذ وتكذيب المسيح.

الثاني: التسليم بأن الأناجيل تذكر نبوءات غير صحيحة تنسبها للمسيح.

فإن رفضوهما فليس لهم إلا أن يصدقوا بفشل المؤامرة، ونجاة المسيح من الصلب.

إذن فلقد تحقق الشك، حين حسبوا المسيح هو المأخوذ والمصلوب، وقد كان أخبرهم بنجاته، كما قد سمعوا منه مراراً، كما سيأتي تفصيله.

وأما سيء الذكر في الأناجيل - بطرس-، فإنه الوحيد من بين التلاميذ الذي ذكر أصحاب الأناجيل شكه، ويتمثل شكه عند النصارى في تنكره للمسيح، قبل أن يصيح الديك صباح تلك الليلة مرة أو مرتين على خلاف بين متى ومرقس.

لكن أحمد عبد الوهاب يفرق مرة أخرى بين الشك والإنكار، فما حصل من بطرس هو إنكار، وليس بشك، فقد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده بقلبه.


تنبؤات العهد الجديد بنجاة المسيح :

إن خبر تنبؤ المسيح بقتله وصلبه، معارَض بنصوص كثيرة، أخبر المسيح فيها بنجاته، ومنها قوله حسبما جاء في يوحنا:
" فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداماً ليمسكوه، فقال لهم يسوع: أنا معكم زمانا يسيراً بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ".

وقد فهم منه اليهود أنه أراد نجاته منهم " فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن ؛ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلم اليونانيين، ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" ( يوحنا 7/32 – 36 ).

ومرة أخرى، جاهر المسيح بنجاته منهم قائلاً " أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب، وأما أنتم، فلا تعلمون من أين آتي، ولا إلى أين أذهب …. قال لهم يسوع أيضاً: أنا أمضي، وستطلبونني وتموتون في خطيتكم، حيث أمضى أنا، لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول: حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال لهم: أنتم من أسفل. أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم …

فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/21 - 29 ).

ثم مرة أخرى، لما أعطى يهوذا اللقمة قال لتلاميذه: " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن..... قال له سمعان بطرس: يا سيد، إلى أين تذهب، أجابه يسوع: حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً " ( يوحنا 13/32 - 36 ).

ومنها أيضا قول المصلوب ( يهوذا ) وهو في المحاكمة: " من الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله " ( لوقا 22/69 ) فقد رأى يهوذا نجاة المسيح بما رآه أو سمعه من المسيح عن نجاته، وما شاهده من نجاة المسيح لحظة ألقي الشبه عليه، وهو يخبر أنه في تلك اللحظة، المسيح في السماء، وقد رفع بقوة الله.

وقد رأى المحققون في هذه النصوص نبوءة واضحة بنجاة المسيح عليه السلام من يد أعدائه، وأنه سيرفع للسماء، فهو المكان الذي لا يقدرون عليه، ولو كان مقصده الموت، فإن ذلك أمر يطيقه كل أحد، كما أن أحداً لا يتحدى بأنه سيموت وهم لن يستطيعوه. لقد كان المسيح يتحدى أعداءه وهو يقول: " هو ذا بيتكم، يترك لكم خراباً، لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن، حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب " ( متى 23/28 - 29 ).

ومن النصوص التي تحدثت أيضاً عن نجاة المسيح قوله: "هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون فيها، كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي، قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " (يوحنا 16/32 - 33) فأين هذا من القول بصفع المسيح وصلبه وضربه ؟

ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح قول يوحنا: " من عند الله خرج، وإلى الله يمضي " ( يوحنا 13/3 ) ولو كان المقصود الموت، فكل الناس إلى الله تمضي، والقول بأن مضيه إنما يكون بعد الدفن ثلاثاً، يحتاج لدليل يثبت ذلك.

ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح ما جاء في متى " فقال لهم يسوع: هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم ؛ ولكن ستأتي أيام، حين يرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون " ( متى 9/15 )، ومقصده رفعه للسماء.

ولئن كان بولس قد تولى كبر القول بصلب المسيح، فإن الحق يراه المتبصر في فلتات لسانه، فيجد ما يدله على نجاة المسيح من الصلب. ومن ذلك قوله في وصف ملكي صادق: " لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم، كاهن الله العلي،.. بلا أب، وبلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولانهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى إلى الأبد " ( عبرانيين 7/1 -3 ) فيفهم من قوله بولس هذا: أن ليس للمسيح نهاية أرضية سابقة، كما هو الحال في ملكي صادق.

ومن ذلك أيضاً: أن في أقوال بولس ما يجعل حادثة الصلب قضية غير مسلم أنها حصلت للمسيح، ويُرى ذلك بالإمعان في هذه الأقوال، يقول بولس: "أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً، شكاً لليهود، وجهالة للأمم " ( كورنثوس (1) 1/ 23 )، وقد قال قبلها: " فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين، فهي قوة الله " ( كورنثوس (1) 1/18 ).

ومن أظهر أدلة نجاة المسيح ما قاله بولس عن المسيح: " في أيام بشريته قَرب تضرعات واستغاثات، وصراخ شديد، ودموع ذوارف للقادر، الذي بوسعه أن يخلصه من الموت، فاستجاب له من أجل تقواه "( عبرانيين 5/7 ).

فهذا النص، شهادة ناطقة، بأن الله استجاب للمسيح تضرعه في تلك الليلة، وصرف عنه ما كان يحذره ويخافه من الصلب.

ولنا أن تساءل عن تضرع المسيح ودعائه وطلبه صرف الصلب عنه، هل كان المسيح بجهل أنه سيصلب، وإذا كان يعلم أنه سيصلب فما فائدة هذا الدعاء والتضرع؟ فقيام المسيح بالدعاء دليل على ثقته بأن الله سيستجيب له.

ثم لا يليق أن يقال بأن الله رد المسيح خائباً بعد هذا التضرع والدعاء، فمثل هذا لا يحصل إلا مع عصاة العباد.

ومما يؤكد استجابة الله للمسيح: ظهور ملاك له ليقويه ( انظر لوقا 22/43 ) فهل كان ذلك الملاك يضحك عليه ؟ أم يعينه فينجيه.

و هذا هو ما يليق بعدل الله ورحمته، وأن الله استجاب للمسيح فأنجاه، وصلب يهوذا الخائن، فهذا أليق بعدل الله وكرمه من القول بعدم استجابته للمسيح، وصلبه.

فاستجابة الله للأنبياء والصالحين حال دعائهم أمر مشهود، فقد وعد رسله بالنجاة ؛ كما وعد دواد " لا أموت، بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب.. إلى الموت لم يسلمني "( مزمور 118/17 – 18 )، وفي رسالة يعقوب " صلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه…" طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها، كان إيليا إنسانا تحت الآلام، ومثلنا صلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر، ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها " ( يعقوب 5/15 – 18 )

وقد استجاب الله عز وجل لإبراهيم لما أمره بذبح ابنه، فامتثل لأمر الله، فأنجى الله ابنه واستجاب له طلبه.

ويؤكد العلامة ديدات على قرينة وحدة أفعال الله، لإبطال صلب المسيح والحكم بنجاته، فقد نجى الله ابني دانيال، وإبراهيم، والفتية الثلاثة الذين ألقوا في النار.

أما نجاة إبراهيم، فقد ذكرت في قوله تعالى : [  قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ] (الأنبياء: 68 - 70).

وأما دانيال، فقد ألقاه الملك في جُبَّ مع الأُسود، وختم الجب بخاتمه، ثم لما فتحه ناداه " يا دانيال عبد الله الحي. هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود ؟ فتكلم دانيال مع الملك: يا أيها الملك، عش إلى الأبد، إلهي أرسل ملاكه، وسد أفواه الأسود، فلم تضرني، لأني وجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضاً.. فأمر الملك، فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال، وطرحوهم في جب الأسود هم وأولادهم، ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأُسود، وسحقت كل عظامهم " ( دانيال 6/15 - 24 ).

وأما الفتية الثلاثة فقد أُلقوا في النار، ولكن " لم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم " ( دانيال 3/27 ).

والعجب لإصرار النصارى على تكذيب المسيح وقد أخبر بنجاته، وقد أمكن الله له سبل النجاة المتنوعة، كما يسرها لكثيرين دونه في الفضل، منهم بطرس الذي دخل ملاك الرب إلى سجنه، وحطم سلاسله وهو نائم، وأمره بالخروج ( أعمال 12/7 ).

وكذلك نجا بولس - في زعمهم - فقد تزلزلت الأرض، وتصدع السجن، وتحطمت القيود. وانفتحت الأبواب، فهرب وصاحبه سِيلا من سجنهما ( انظر أعمال 16/26 ).

فِلمَ أمكن هذا لبطرس وبولس، ولم يمكن للمسيح وهو أولى منهما برعاية الله وحفظه ؟!

وهكذا ومن خلال هذه الأمثلة، نرى أن رعاية الله قد أحاطت بالمسيح، وأنجته من يدي أعدائه، فتحقق ما كان قد تنبأ به بقوله: " والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/9 ).


تنبوءات الأناجيل المرفوضة عند الكنيسة بنجاة المسيح :

ومما يؤكد ما ذهب إليه علماؤنا من نجاة المسيح وصلب غيره: ما جاء في إنجيل برنابا، وما وجد في مخطوطات نجع حمادي في مصر؛ حيث كشف بعد الحرب العالمية الثانية عن ثلاثة وخمسين نصاً، تقع في ألف ومائة وثلاثة وخمسين صفحة، ومن هذه النصوص ما تحدث عن نجاة المسيح، وأنه لم يصلب.

ولم يرد في هذه المخطوطات أيُّ ذِكْرٍ لمحاكمة المسيح وصلبه، بل جاء في إنجيل بطرس على لسان بطرس: " رأيته يبدو كأنهم يمسكون به، وقلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقاً من يأخذون ؟.. أم أنهم يدقون قدميّ ويديّ شخص آخر ؟.. قال لي المخلص.. من يُدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل، فهم يضعون الذي بقي في شبهة في العار ! انظر إليه، وانظر إليه ".

وفي مخطوطة أخرى من هذه المخطوطات وهي كتاب " سيت الأكبر " جاء على لسان المسيح "كان شخص آخر، هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا... كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه. وكنت أنا مبتهجاً في العُلا.. أضحك لجهلهم ".

وفي مخطوطة " مقالة القيامة ": ما يدل على أن المسيح مات موتاً طبيعياً، وأن روحه المقدسة لا يمكن أن تموت.

أما إنجيل برنابا، فيذكر قصة مقاربة لتلك القصة الموجودة في الأناجيل، ومن التشابه فيها: أن المسيح دعا وتضرع في البستان، وكان معه تلاميذه الأحد عشر، وأن يهوذا جاء مع الجند ليدلهم على مكان المسيح، مقابل ثلاثين من الفضة، وأن التلاميذ كانوا نياماً، وأنهم هربوا لما استيقظوا ورأوا الجند.

وكذا يذكر برنابا أن المأخوذ ( يهوذا ) قد أخذ إلى رئيس الكهنة الذي سأله إن كان هو المسيح، وعرضه على الوالي الذي كان يريد إطلاق سراحه، لقناعته ببراءة المقبوض عليه.

لكن الجموع رفضت ذلك. وقد ذكر برنابا أيضاً تحويل بيلاطس - المقبوض عليه - إلى هيردوس، وسخرية هيردوس منه بعد أن كان يتمنى لقياه، وأنه ألبسه إكليلاً من الشوك، وثوباً من الأرجوان، ثم أخرج فصلب.

وثمة نقاط صغيرة كثيرة تتشابه فيها رواية برنابا والروايات الإنجيلية، لكن رواية برنابا تفترق في نقاط. أهمها:

- أن المقبوض عليه هو يهوذا، الذي ألقي عليه شبه المسيح.

- ويذكر أن المسيح أخرجته الملائكة سالماً، وصعدت به إلى السماء، وأنه عاد بعد ذلك واجتمع بتلاميذه، وأخبرهم بحقيقة ما حصل، وبأنه نجا، وأن الذي دفنوه وصلبوه وسرقوه هو يهوذا الإسخريوطي.

- كما يذكر برنابا أن الجسد المصلوب قد سرقه بعض التلاميذ من القبر، وأشاعوا قيامة المسيح من القبر، ثم يختم بذكر صعوده إلى السماء، بعد وداعه لتلاميذه ولأمه.

ومما ذكره برنابا في قصته: " فاعلم يا برنابا أنه لأجل هذا يجب عليّ التحفظ، وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة نقود، وعليه فأنا على يقين من أن من يبيعني يقتل باسمي، لأن الله يصعدني في الأرض، وسيغير منظر الخائن، حتى يظنه كل أحد إياي، ومع ذلك لما يموت شر ميتة؛ أمكث في ذلك العار زمناً طويلاً في العالم، ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس، تزال عني هذه الوصمة، وسيفعل الله هذا لأني اعترفت بحقيقة مسيّا، الذي سيعطيني هذا الجزاء، أي أن أعرف أني حي، وأني بريء من وصمة تلك الميتة.

فأجاب من يكتب: يا معلم. قل لي من هو ذلك التعيس؟ لأني وددت لو أُميته خنقاً. أجابه يسوع: صه، فإن الله هكذا يريد، فهو لا يقدر أن يفعل غير ذلك، ولكني متى حلت هذه النازلة بأمي، فقل لها الحق، لكي تتعزى...

وخرج يسوع من البيت، ومال إلى البستان ليصلي، فجثا على ركبتيه مائة مرة معفراً وجهه كعادته في الصلاة … ولما دنت الجنود مع يهوذا في المحل الذي كان فيه يسوع سُمع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياماً، فلما رأى الله الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد"

"ودخل يهوذا إلى الغرفة. دخل يهوذا مندفعاً أمام جميع من كانوا معه إلى الحجرة التي كان فيها عيسى، ثم رفع منها إلى السماء بينما كان التلاميذ نياماً على أن الله العظيم القادر على كل شيء، تصرف تصرفاً عجيباً، فحول يهوذا إلى صورة عيسى وهيئته وصوته وأسلوب حديثه تماماً حتى اعتقدنا أنه عيسى، ولما استيقظنا من النوم كان يدور ليعرف مكان المعلم، أما نحن فعجبنا للأمر، فقلنا له: إنك أنت معلمنا ومولانا، هل نسيتنا ؟

فضحك يهوذا، وقال: إنكم لحمقىْ ألا تعرفونني؟ أنا يهوذا الأسخريوطي، وفي هذه اللحظة دخل الجنود، ووضعوا أيديهم على يهوذا فقد كان صورة طبق الأصل لعيسى.

ولما سمعنا نحن قول يهوذا ورأينا كتائب الجنود هربنا واختفينا، كان يوحنا يلتف بقماش من التيل، فاستيقظ وهرب، ولما أمسك أحد الجنود بقطعة القماش، تركها له، وفر هارباً عاري الجسد، إذ كان الله قد سمع دعوة عيسى، وبالفعل نجا التلاميذ الأحد عشر من كل شر". ( برنابا 214/1 - 216/13 )

ثم لما رجع يسوع من السماء لوداع أمه " وبخ كثيرين من الذين اعتقدوا أنه مات، وقام قائلاً: أتحسبونني أنا والله كاذبين، لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم: إني لم أمت، بل يهوذا الخائن. احذروا، لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم... وبعد أن انطلق يسوع تفرق التلاميذ في أنحاء إسرائيل والعالم المختلفة.

أما الحق المكروه في الشيطان فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائماً فإن فريقاً من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشّروا بأن يسوع مات ولن يقوم، وآخرون بشروا بأنه مات بالحقيقة ثم قام، وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله، وقد خدع في عدادهم بولس.

أما نحن فإنما نبشر - بما كتبت - الذين يخافون الله، ليخلصوا في اليوم الأخير لدينوية الله" ( برنابا 221/15 - 222/6 )

وهكذا نجد الأدلة الإنجيلية تتوالى، وهي تصرح بوضوح تام بنجاة المسيح من كيد أعدائه، فما على النصارى إلا الإذعان لهذه النصوص والقول بنجاة المسيح من الصلب.

وهكذا نرى الحقيقة بادية وضوح الشمس في رابعة النهار، نطقت بها النبوات نبياً بعد نبي في جلاء ووضوح عجيب.

ويتساءل المرء: لِمَ لَمْ يتوصل النصارى إلى هذه الحقيقة الجلية ؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال يرى منصور حسين أن الطريقة الخاطئة والمغلوطة التي يفكر بها النصارى، هي التي حجبت شمس الحقيقة عنهم.

وكمثال لطريقتهم في التفكير، ينقل عن الدكتور ر.أ. ترى في كتابه " كيف تدرس الكتاب المقدس ".

فقد وضع الدكتور النصراني شروطاً ينبغي أن يتحلى بها قارئ الكتاب المقدس، ليحصل على أكبر قدر من الفائدة فمن هذه الشروط: أن يكون القارئ مولوداً ولادة ثانية ( مسيحياً )، وأن يكون محباً للكتاب المقدس، وعنده استعداد للكد والجد في دراسته....

ويتوقف منصور حسين مع شرطين مهمين:

أولهما: أن يكون عند الدارس " إرادة مسلَّمة تسليماً كاملاً.... "

وثانيهما: " أن ندرسه باعتباره كلمة الله "

فيرى الأستاذ منصور حسين أن هذين الشرطين يفرضان على قارئ الكتاب المقدس التسليم والإيمان بأن ما يقرأه هو وحي الله، الذي لاشك فيه ولا لبس، مهما ظهر فيه من التناقض، والخطأ، والتعارض مع المعتقدات النصرانية.

فمثلاً: عندما يقرأ النصراني في المزمور قوله " أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر " (المزمور 22/6) يجد أنه من غير المنطقي أن يكون هذا عن المسيح، لكنه يسلم لمشيئة مؤلفي العهد الجديد، فيقول بأنه نبوءة عن المسيح رغم استحالتها بحقه.

ويفعل الشيء نفسه، وهو يقرأ " الرب مخلص مسيحه " ( المزمور 20/6 ) وهكذا فهم يضعون النتائج أولاً، ثم يقرؤون الكتاب المقدس.

وهكذا، فإن المتأمل لهذين الشرطين " ليكاد يقطع بأن واضعهما يعرف بيقين أن لو أطلقت للباحث حرية البحث عن الحقيقة وحدها، فإنه سينتهي من العهد القديم إلى ما يخالف ما جاء به العهد الجديد ( من حديث عن صلب المسيح ) فيصل إلى أن الله مخلص مسيحه، ورافعه إليه، وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب هو يهوذا ".


الشك في شخص المصلوب :

ذكرنا أن القرآن الكريم لم يكذب حصول حادثة الصلب، والذي ذكره القرآن يفهم منه حصول حادثة الصلب، لكن لغير المسيح عليه السلام، ولم يحدد القرآن شخص المصلوب، لكنه أفاد بوقوع شبه المسيح عليه، فصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام.

وقد أخبر القرآن الكريم أن الذين يدعون صلب المسيح ليس لهم به علم يقيني، بل هم يشكون في شخص المصلوب على رغم شبهه بالمسيح، لكنه يقيناً ليس بالمسيح عليه السلام. قال الله تعالى: [ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً ] (النساء: 157).

وهذا الذي ذكره القرآن تصدقه النصوص الإنجيلية التي ذكرت شك الجنود واليهود في شخص المصلوب، وقد وقعت يومذاك عدة صور للشك:

أولها: أن من جاءوا للقبض عليه أنكروا وجهه وصوته، ولم يعرفوه حيث خرج إليهم وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري، فأخبرهم بأنه هو، بيد أنهم لم يسارعوا للقبض عليه فأعاد عليهم السؤال، فأعادوا الجواب ( انظر يوحنا 18/3 - 8 )

فهذا يدل على شكهم في شخصه، والسؤال المثير للاستغراب: كيف وقعوا بهذا الشك والمسيح قد عاش بين أظهرهم وهو أشهر من علم ؟

ثانيها: شك رئيس الكهنة في شخصية المأخوذ، وهو أمر جِد مستغرب، إذ المسيح كان يجلس في الهيكل، ويتحدث مع الكهنة ورؤسائهم، ورأوه وهو يقلب موائد الصيارفة في الهيكل ( انظر متى 21/12 - 15، 23 - 46 ).

وقد قال لهم حين جاءوا لأخذه: " كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصيٍ لتأخذوني، كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل، ولم تمسكوني " ( متى 26/55 ).

ويظهر الشك جلياً في قول رئيس الكهنة له أثناء المحاكمة: " أستحلفك بالله الحي، أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله ؟ " ( متى 26/62 – 64 ).

 ويجلي لوقا ذلك فيقول " ولما كان النهار، اجتمعت مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت المسيح فقل لنا فقال لهم: إن قلت لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله، فقال الجميع: أفأنت ابن الله ؟فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو " ( لوقا 22/66 - 70 ).

فنلاحظ أن الجميع كان منشغلاً بتحقيق شخص المأخوذ، حتى في محاكمته.

ونلحظ أيضاً أن إجابة المأخوذ كانت:" أنت قلت " وقال لبيلاطس: " أنت تقول "، بمعنى أنه لم يصدق كلامهم ولم يكذبه، لكنه قال لهم: هذا ما تقولونه أنتم.

ثم ما هي الإجابة التي لن يصدقها رؤساء الكهنة ؟ ولو صدقوها لأطلقوه ؟ هي بلا شك: أنه ليس المسيح، بل يهوذا، وأما عيسى فقد أخبرهم يهوذا عن مكانه " جالساً عن يمين قوة الله " أو كما قال متى: " جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ).

وقد يسأل سائل: كيف عرف يهوذا مكان المسيح ؟ والجواب بسيط، لقد رأى يهوذا المسيح وهو ينجو ويصعد به إلى السماء، يوم أن اُلقي القبض عليه، بعد وقوع الجند.

وهنا قد يتساءل البعض لماذا شك الجند ورئيس الكهنة والكهنة في شخصية المأخوذ ؟

وفي الإجابة نقول: لقد كانوا يعهدون في المسيح معالم معنوية، في كلامه، وذكائه وشجاعته، وعلمه، بل وصوته، وهم اليوم لا يرون شيئاً من ذلك، وهو ما حصل مع هيردوس: " وأما هيردوس فلما رأي يسوع فرح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير، فلم يجبه بشيء … فاحتقره هيرودس مع عسكره، واستهزأ به " ( لوقا 23/8 - 11 )، لقد رآه دون الرجل العظيم الذي كان يسمع عنه، بل لم يجد لديه أياً من معالم العظمة التي كان يسمع عنها.

وهذا الشك في المصلوب، هو ما تؤكده وثيقة إبراء اليهود من دم المسيح والصادرة عن الفاتيكان 1965 م فقد جاء فيها إن صحت النسبة إليها: " اليهود لم يصلبوا السيد المسيح إطلاقاً، وإنما صلبوا شخصاً لم يعرفوه، ولو عرفوا أنه المسيح: لم يفعلوا ذلك... أقرب الناس إلى المسيح لم يعرفه، فكيف يعرفه اليهود؟ ".

و في ذلك كله تصديق لما أخبر عنه القرآن الكريم، قبل قرون طويلة من الشك في شخصية المصلوب.

فقد قال الله تعالى موضحاً حالهم مع المصلوب وحيرتهم في شخصه: [ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً ] (النساء: 157).


إمكانية نجاة المسيح :

كما تتحدث النصوص الإنجيلية عن بعض ما أوتيه المسيح عليه السلام من تأييد الله له، وهذه الأعاجيب التي أوتيها تجعل نجاته - في تلك الليلة في بستان جثماني - ممكنة، وذلك لما منحه الله من قدرات مكنته مراراً من الإفلات من كيد اليهود، وهي ما تجعل نجاته يوم جاءوا للقبض عليه أمراً متوقعاً غير مستنكر ولا مستغرب، بل الزعم بتمكن اليهود وجند الرومان منه يثير سؤالاً كبيراً: أين اختفت هذه القدرات وهذه المعونة الإلهية له؟ هل أسلمه الله بعد طول حمايته وتأييده له، فتخلى عنه في أصعب الأيام وأضيقها.

فالمسيح - حسب ما ذكرت الأناجيل - قد أعطاه الله عز وجل قدرة على النجاة، والهروب من بين يدي أعدائه، فقد اختفى منهم أكثر من مرة لماّ أرادوا به شراً، فمن الطبيعي والمنطقي أن يهرب منهم يوم جاءوا للقبض عليه، وأمثلة هذه القدرة الباهرة كثيرة منها: قول لوقا: " فامتلأ غضباً جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كان مدينتهم مبنية عليه، حتى يطرحوه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم، وانحدر إلى كفر ناحوم" ( لوقا 4/28 - 31 ).

ولما كان في الهيكل، وكثر الجدال بينه وبين اليهود، هموا بقتله " فرفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى، وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى " ( يوحنا 8/59 ).

وفي مرة أخرى جادلهم " فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحدٌ يداً عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد، فآمن به كثيرون في الجمع، وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل أكثر من هذه التي عملها هذا " ( يوحنا 7/30 - 31 ) وقولُ إنجيل يوحنا:" لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " قولٌ لا يلزمنا فإنه يؤمن بصلب المسيح، ويحاول أن يبرر اختفاء هذه الخاصية عند القبض على المسيح.

وفي يوم العيد حصل مثله " فحدث انشقاق في الجمع لسببه، وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه، ولكن لم يُلق أحد عليه الأيادي " ( يوحنا 7/43 - 44 ).

ولما تمشّى في رواق سليمان، وأسمعهم دعوته " فطلبوا أن يمسكوه فخرج من أيديهم، ومضى أيضاً إلى عبر الأردن " ( يوحنا 10/39 - 40 ).

ولما كان في الخزانة في الهيكل، حاولوا إمساكه " ولم يمسكه أحد، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " ( يوحنا 8/20 ).

ويبقى السؤال أين اختفت هذه الخاصية للمسيح يوم المؤامرة العظمى؟ فلئن استعملها في الهرب من عامة اليهود، فاستعمالها في الهرب من الجند أَوُلَى.

في هذه النصوص تصديق لما أخبر الله عز وجل عنه في شأن المسيح، حيث قال وهو يعدد نعمه على المسيح: [ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ] (المائدة: 110) لقد رأوا ساحراً يسبب ما أمده الله من المعجزات الباهرة التي أعيتهم.

ومما تذكره الأناجيل من قدرات المسيح التي أمده الله بها قدرته على اختراق الحجب، يقول يوحنا: " ولما كان عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع، ووقف في الوسط، وقال لهم: سلام لكم " ( يوحنا 20/19 )، وفي لوقا لم يذكر إغلاق الأبواب، وإن ذكر ما يشعر بوجود أعجوبة " وفيما هم يتكلمون بهذا، وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً " ( لوقا 24/36 - 37 ).

كما ثمة أعجوبة أخرى، تجعل نجاة المسيح وخلاصه من أيدي كائديه ممكناً، ألا وهي ما تذكره الأناجيل من قدرة المسيح على تغيير هيئته وشكله، حتى يعجز المقربون منه عن معرفته، وقد صنع ذلك مراراً.

فقد خفي بعد القيامة على تلاميذه مرات عديدة، فخفي على مريم المجدلية التي هي من أقرب الناس إليه، وظنته البستاني، ولم تعرفه إلا بعد برهة ( انظر يوحنا 20/14 - 15 ).

وكذلك خفي على التلميذين المنطلقين لعمواس، ولم يعرفاه إلا بعد أن بارك لهما طعامهما (انظر لوقا 24/13 - 19 ).

وخفي أيضاً على التلاميذ مجتمعين، وهم يصيدون في بحيرة طبريا، وكان أول من عرفه بعد وقت طويل يوحنا ( انظر يوحنا 21/1 - 7 ).

كما تقرر الأناجيل تغير شكله في أحداث قبل الصلب، ومن ذلك: ما ذكره لوقا " وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضاً لامعاً، وإذا رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيلياء " ( لوقا 9/29 ).

ويذكر متى أنه أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا " وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين، وتغيرت هيئته قدامهم " ( متى 17/1 - 2 ).

فلئن صح أن المسيح يقدر على تغيير شكله حتى يخفى أمره على الخلص من تلاميذه، فهو دليل على قدرته على الخلاص والنجاة من أيدي أعدائه، وهذا لا ريب يلجأ إليه في الشدائد، والمؤامرة الأخيرة عليه من أشدها.

وقد رأينا مما سبق اتفاق القرآن مع النصوص التوراتية والإنجيلية، التي تقول وتتنبأ بنجاة المسيح، ورفعة إلى السماء، ورأينا كيف أن هذا الأمر ممكن، وليس غريباً على قدرة الله العظيم.

كما أن توراة القوم وإنجيلهم، يتحدث عن معونة الله لعدد من القديسين رفعوا إلى السماء، منهم: أخنوخ " وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه " ( التكوين 5/24 ) ومثله إيليا " وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار، وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا من العاصفة إلى السماء " ( ملوك (2) 2/11 ).


بولس واختلاق قصة صلب المسيح :

ويبقى السؤال موجهاً للمسلمين المنكرين لصلب المسيح من أين وردت على النصارى مقالة صلب المسيح؛ وهل خفي عليهم حقيقة المصلوب؟ أم خفي عليهم وقت الصلب، ثم كُشف لهم بعد ذلك لكنهم استمرؤوا الباطل ؟

وفي الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الأناجيل الأربعة مخطوطات قديمة، كتبها أشخاص في أوقات مختلفة، حسب ما تناهى إلى مسامعهم من الروايات الشفهية المتناقلة، وهم لم يَّدعوا لها الإلهام ولا القدسية، فكتب كلُُّ حسب ما سمع، مناقضاً الآخرين، أو موافقاً لهم.

ونجاة المسيح ورفعه أمر خفِي على الكثيرين من معاصري المسيح، فظنوا أن المصلوب هو المسيح، إذ لم يشاهد معجزة رفع المسيح إلا يهوذا الخائن، عندما أخذوه في لحظة التسليم، وقد شبه عليهم وهم في شك منه كما تبين لنا قبلُ.

ويرى المحققون أن فكرة صلب المسيح هي بعض مبتدعات بولس، الذي وجد في قصة الصلب القلب النابض للمسيحية الجديدة التي أنشأها، والتي يؤكد عليها بولس في رسائله ومنها قوله: " لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً " ( كورنثوس (1) 2/2 ).

وقد امتلأت رسائله بالتأكيد على صلب المسيح، مما حدا بأرنست دي بوش الألماني للقول في كتابه: " الإسلام: أي المسيحية الحقة ": " إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومَن شابهه، من الذين لم يروا المسيح، وليست من أصول النصرانية الحقة".

وقد استغل بولس الاضطراب الذي حصل في حقيقة ما جرى للمسيح، بين قائل بأنه صلب، أو أن المصلوب غيره، أو سوى ذلك مما أشيع في تلك الأيام.. ووظفه، وجعله قاعدة لضلالته المسماة "الفداء".

ونعود لبولس لنتساءل عن موقف النصارى الأوائل من دعواه صلب المسيح، التي كتبها الإنجيليون بعد وفاته.

وبالتأمل في رسائل بولس التي أكدت صلب المسيح وأهمية هذا الحدث كمعتقد، نجد في طياتها موقف الحواريين والأتباع الأوائل الرافض لبدع بولس ومن ضمنها ولا ريب عقيدة الصلب.

فيرى أحمد عبد الوهاب هذا الموقف في قول بولس وشكواه في رسالته لتيموثاوس " أنت تعلم هذا، أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني " ( تيموثاوس (2) 1/15 ).

وفي رسالته لأهل غلاطية يشكو من أولئك الذين كذبوه " إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح، إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم، ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، ولكن إنْ بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما " ( غلاطية 1/6 - 8).

ويقول بولس: " ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات فكيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات ؟ فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل كرازتنا، وباطل أيضاً إيمانكم " ( كورنثوس (1) 15/13 )، فالنص يتحدث عن إنكار بعض التلاميذ لصلب المسيح أو على الأقل لقيامته من الأموات.

ويرى المحققون أن الحواريين ما كانوا يعرفون شيئاً عن صلب المسيح، بدليل خلو رسائلهم الموجودة في العهد الجديد من الحديث عن المسيح المصلوب.

يقول المؤرخ فوتيوس: إنه قرأ كتاباً يسمى "رحلة الرسل" في أخبار بطرس ويوحنا واندراوس وتوما وبولس، ومما قرأ فيه " إن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره، وقد ضحك بذلك من صالبيه".

وتظهر المعارضة الصريحة لدعوى بولس صلب المسيح من الحواري "برنابا" في إنجيله الذي تتنكر له الكنيسة، وقد ذكر في مقدمته سبب تأليفه لهذا الإنجيل فيقول: " الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق، الذي رأيتهُ وسمعتهُ أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه، فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه، لتخلُصوا خلاصاً أبدياً " ( مقدمة برنابا  /7 - 9 ).

وكانت الفرق المسيحية المنكرة للصلب صدى لإنكار الحواريين على بولس كما قد سبق تفصيله.

كما تكشف لنا الكشوف الأثرية عن إنجيل اكتُشف حديثاً في نجع حمادي منسوباً للحواري المقرب بطرس، ينكر فيه صلب المسيح، ويقول برفعه قبل إجراء الصلب.

ويعترف النصارى من مفسري الأناجيل بحدة الخلاف لبولس وتلاميذه، في مسألة صلب المسيح، وأن هذا الخلاف دعا الإنجيليين إلى التأكيد على أن المسيح قد صلب كما قال بولس الذي سبقت رسائله الأناجيل الأربعة في تاريخ كتابته.

فنقل أصحاب الأناجيل فيما بين سطور الأناجيل الإنكار على بولس وتكذيب صلب المسيح، يقول مرقس: " ثم خرجوا به ليصلبوه، فسخروا رجلاً مجتازاً كان آتياً من الحقل، هو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه " ( مرقس 15/20 - 23 ).

يقول المفسر نينهام في تفسيره لمرقس: " يبدو أن الغرض من هذه الفقرة هو ضمان صحة القصة؛ التي تقول بأن سمعان قد حمل الصليب، وما من شك في أن أحد الأسباب في الحفاظ على هذه التفاصيل الشخصية في الإنجيل؛ كان الغرض منه تذكير القراء بأن لديهم مصدراً للمعلومات عن الصلب، جديرًا بالثقة.. ولعل السبب في حذف هذه الرواية والخاصة بحمل سمعان القيرواني للصليب - من إنجيل يوحنا، هو الادعاء: بأن سمعان قد حل محل يسوع، وصُلب بدلاً منه، ولا يزال سارياً في الدوائر الغنوسطية، التي كانت لها الشهرة فيما بعد ".

وهكذا نفهم سبب مخالفة يوحنا للأناجيل الثلاثة في مسألة " من حمل الصليب " فيقرر أنه المسيح، حمل صليبه بنفسه فيقول: " فأخذوا يسوع، ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة.. حيث صلبوه " ( يوحنا 19/16 - 18 ).

وينبه فنتون شارح إنجيل متى إلى مثل هذا الفعل من متى، عندما عدَّل ألفاظ مرقس وهو ينقل عنه في أحداث اللحظة التي بعد اقتسام الثياب والاقتراع عليها، حيث يقول مرقس: " وكانت الساعة الثالثة فصلبوه " ( مرقس 15/25 ) لكن متى يغير، فيقول بعدها: " ثم جلسوا يحرسونه هناك " ( متى 27/36 )، فتكلم متى عن حراسة يسوع أثناء الصلب وبعده. ويرى فنتون أن ذلك " إنما يرجع إلى وجود أناس قالوا بأن يسوع قد أنزل من على الصليب، قبل أن يموت. كذلك فإن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صُلب بدلاً من يسوع. فلعل متّى كان يرد على هذه الأقوال ".


قصة الصلب عند الأمم الوثنية :

وبولس عندما ادعى صلب المسيح فداء للخطيئة لم يكن يتحدث من تأليفه وإبداعه، فإنه إنما يكرر عقيدة قديمة، تناقلتها الوثنيات قبل المسيح بزمن طويل، وقد نسج الإنجيليون أحداث صلب المسيح، على نحو ما قرره بولس، وعلى صورة ما ورد عن الأمم الوثنية القديمة، حتى أضحت قصة الصلب في الأناجيل قصة منحولة من عقائد الأمم الوثنية، ولعل أوضحها شبهاً بقصة المسيح أسطورة إله بابل " بعل " فقد كشفت لوحتان أثريتان تعودان للقرن التاسع قبل الميلاد عن قصة تشابه تماماً ما قاله النصارى في صلب المسيح ومحاكمته، ونقل "فندلاي" وغيرِه المقارنة بين ما قيل عن بعل قبل المسيحية وما قيل عن المسيح في المسيحية.ويوضح ذلك الجدول التالي :

محاكمة بعل محاكمة عيسى عليه السلام
1 – أخذ بعل أسيراً 1 - أخذ عيسى أسيراً
2 – حوكم بعل علناً 2 - وكذلك حوكم عيسى
3 – جرح بعل بعد المحاكمة 3 - اعتُدي على عيسى بعد المحاكمة
4 – اقتيد بعل لتنفيذ الحكم على الجبل 4 - اقتيد عيسى لصلبه على الجبل
5 – كان مع بعل مذنب حكم عليه بالإعدام وجرت العادة أن يعفى كل عام عن شخص حكم عليه بالموت . وقد طلب الشعب إعدام بعل ، والعفو عن المذنب الآخر 5 - وكان مع عيسى قاتل اسمه : "باراباس" محكوم عليه بالإعدام، ورَشح بيلاطس عيسى ليعفو عنه كالعادة كل عام . ولكن اليهود طلبوا العفو عن "باراباس" وإعدام عيسى
6 – بعد تنفيذ الحكم على بعل عم الظلام وانطلق الرعد ، واضطرب الناس 6 - عقب تنفيذ الحكم على عيسى زلزلت الأرض وغامت السماء
7 – حُرس بعل في قبره حتى لا يسرق أتباعه جثمانه 7 - وحرس الجنود مقبرة عيسى حتى لا يسرق حواريوه جثمانه
8 – الأمهات جلست حول مقبرة بعل يبكينه 8 - مريم المجدلية ، ومريم أخرى جلستا عند مقبرة عيسى تنتحبان عليه
9 – قام بعل من الموت وعاد للحياة مع مطلع الربيع وصعد إلى السماء 9 - قام عيسى من مقبرته في يوم أحد ، وفي مطلع الربيع أيضاً، وصعد إلى السماء

ووقد انتقلت هذه الأسطورة البابلية، عن طريق الأسرى اليهود الذين عادوا من بابل.

وتتشابه كثير من تفاصيل قصة الصلب مع تفاصيل واردة في قصص وثينة مشابهة. فقد ذكر متى أحداثاً غريبة عدة، صاحبت موت المسيح حيث يقول: " وفي الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض، إلى الساعة التاسعة... وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت... " ( متى 27/45 - 53 ).

وهذا نقله النصارى من الوثنيات القديمة، فقد نقل العلامة التنير عن عدد من المؤرخين إجماعهم على انتشار هذه الغرائب حال موت المخلصين لهذه الأمم. من ذلك: أن الهنود يقولون: " لما مات "كرشنا" مخلصهم على الصليب، حدثت في الكون مصائب جمة، وعلامات متنوعة، وأحاطت بالقمر دائرة سوداء، وأظلمت الشمس عند منتصف النهار، وأمطرت السماء ناراً ورماداً..... "

ويقول عباد بروسيوس " إنه لما صلب على جبل قوقاس، اهتزت الكائنات، وزلزلت الأرض ".

" والاعتقاد بحدوث أحداث سماوية عظيمة عند موت أحد العظماء أو ولادته، معروف عند الرومان واليونان.

كما ينقل المؤرخ " كنون فرار" في كتابه "حياة المسيح" وينقل جيبون في تاريخه أن عدداً من الشعراء والمؤرخين الوثنيين كان يقول :" لما قتل المخلص اسكولا بيوس، أظلمت الشمس، واختبأت الطيور في أوكارها... لأن شافي أمراضهم وأوجاعهم فارق هذه الدنيا ".

والقول بظلمة الشمس عند موت أحد المخلصين قيل عند مقتل هيركلوس وبيوس وكوتز لكوتل وكيبير ينوس إله الرومان، وعليه، فهو أسطورة قديمة تداولتها الأمم، ونقلها أصحاب الأناجيل من تلك الوثنيات.

وقد كان عباد الشمس يقدمون الضحايا لها، خاصة عند حلول الكسوف، فإذا زال الكسوف اعتقدوا أنه بسبب فداء أحد زعمائهم، حيث خلصهم وحمل عنهم العذاب، ومنه أخذ متى قوله: " ومن الساعة السادسة، كانت ظلمة على الأرض إلى الساعة التاسعة " ( متى 27/45 ).

ومن أوجه الشبه بين الوثنيات القديمة والنصرانية القول بقيامة الآلهة من الأموات، فقد أجمعت الأناجيل على قيامة عيسى من الموت، ولكن هذا قد سبقهم إليه الهنود، حيث قالوا في كرشنا: "هوذا كرشنا صاعد إلى وطنه في السماوات".

وكذا يقول عُبّاد بوذا بأنه حزن عليه بعد موته أهل السماوات والأرض "حتى إن مهاويو (الإله العظيم ) حزن ونادى: قم أيها المحب المقدس، فقام كام ( أي بوذا ) حياً، وبُدلت الأحزان والأتراح بالأفراح، وهاجت السماء، ونادت فرِحة: عاد الإله الذي ظُن أنه مات وفُقد... "، ومثله يعتقده الصينيون في إلههم (لأوكيون)، والمجوس في (زورستر).

ويقول عابدو (سكولا بيوس) في القصيدة التي حكت عن حياته: " أيها الطفل القادر على شفاء الأمم في السنين القادمة حينما يهب مَن في القبور.... وأنت من المسكن المظلم ستقوم ظافراً وتصير إلهاً ".

وعن تموز يقول البابليون: " ثقوا أيها القديسون برجوع إلهكم، واتكلوا على ربكم الذي قام من الأموات ".

ومثل هذا الاعتقاد، سرى في كثير من الوثنيات قبل المسيحية فقد قيل بقيام أوزوريس، وحورس، "ومتراس" وباخوس، وهرقل، وكوتز لكوتل، ويلدور، وغيرهم، فكل هؤلاء قال عُبّادهم بقيامتهم من الموت.

ولعل أهم هؤلاء أوزوريس معبود المصريين القريب من مهد المسيحية، وقد انتشرت أسطورته في القرن الثالث قبل الميلاد. ويقول المؤرخ مهامي: " إن محور التعليم الديني عند الوثنيين في مصر في القرون الخالية هو الإيمان بقيام الإله ".

صدق فيهم قول الله عز وجل : [ ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ] (التوبة: 30).


كيفية نجاة المسيح من المؤامرة :

وإذا كانت الأدلة قد شهدت للمسيح بالنجاة، وأن مؤامرة الأشرار لن تلحق به الأذى، فنجا المسيح من الموت على الصليب الذي أراده له أعداؤه.

فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: كيف نجا المسيح ؟

وكما أسلفنا فإن القرآن والسنة لا يذكران كيفية نجاة المسيح، وكل ما ذكره القرآن أن الله شبه عليهم غير المسيح، فأخذوه وهم ليس لهم به علم يقيني.

لذا نعود إلى قصة الأناجيل وهي تتحدث عن الصلب المزعوم، لنرى كيف نجا المسيح ؛ ولابد لنا هنا من قراءة ما بين السطور الإنجيلية، لتلمس الحقيقة التي يصرح الإنجيليون بخلافها.

وبداية نذكر أنه لا يرى المسلمون أي ضير في القول بالكثير من التفصيلات التي أوردتها الأناجيل، وإن كنا نشك في حصول بعضها، لكن نقبلها تنزلاً مع محاورينا من النصارى، ومنها:

1) أن المسيح خرج إلى البستان برفقة تلاميذه، وأنه أخبرهم بأنه سيتعرض لمؤامرة من أحد التلاميذ مع اليهود الذين يريدون صلبه.

2) أن المسيح دعا في تلك الليلة طويلاً، وبإلحاح كبير طالباً من الله أن يصرف عنه كأس الموت.

3) أن المسيح استسلم لقضاء الله وقدره، فقال: " ليس كما أريد أنه بل كما تريد أنت " (متى 26/39 ) وقال: " فلتكن مشيئتك ( متى 26/41 ).

4) المسيح يصلي، والتلاميذ نيام، ويحاول إيقاظهم مرة بعد مرة.

5) وصل يهوذا الأسخريوطي الخائن، ومعه الجند، يحملون مشاعل وسيوفاً وعصياً، للقبض على المسيح، وقد جعل يهوذا علامة للجند أن يقبل المسيح.

6) وصلت الجموع؛ فخرج إليهم المسيح، وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري. فقال المسيح " أنا هو " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6 ).

7) حاول بطرس الدفاع، لكنه كان أعجز من ذلك، فهرب وجميع التلاميذ.

8) اقتيد المأخوذ ( وهو غير المسيح) للمحاكمة عند رئيس الكهنة، ثم بيلاطس، وبطرس يتابعه في بعض ذلك، وقد أنكره تلك الليلة ثلاث مرات.

9) في المحاكمة سأل رئيس الكهنة، واستحلف المأخوذ إن كان هو المسيح، فأجابه: " أنت قلت، وأيضاً أقول لكم: من الآن، تبصرون ابن الإنسان جالساً يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ).

10) حكمت المحكمة على المأخوذ بالقتل، واقتيد إلى بلاط بيلاطس الذي سأله: إن كان هو ملك اليهود، فأجابه: " أنت تقول " ثم لم يجبه بكلمة واحدة، حتى تعجب بيلاطس منه.

11) لم يجد الوالي للمأخوذ علة يستحق عليها القتل، فأراد أن يطلقه، لكن الجموع أصرت على صلبه، وإطلاق باراباس، فأعلن براءته من دم هذا البار، وأسلمه لهم.

12) اقتيد المأخوذ إلى موضع الصلب، وصلب بجوار لصين.

13) صرخ على الصليب، فسقوه خلاً، ثم أسلم الروح.

ويفترق المسلمون عن الأناجيل في مسألة مهمة، وهي من هو المأخوذ من ساحة القبض على المسيح ؟ فيراه المسلمون يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الخائن، ويلزمنا إقامة الدليل على ذلك، إذ هي موضع النزاع، وقد كنا قد أقمنا الأدلة على ذلك من سفر المزامير.

ولتصور القول بأن يهوذا هو المأخوذ، وأنه حصل التباس عند آخذيه، فإنا نتصور الجموع الكثيرة والتي تقارب الألف وهي تسير، تحمل المشاعل والسيوف والعصي، وتتكون من جنود وغوغاء يتقدمهم يهوذا.

ولما وصل الجمع إلى المسيح كان التلاميذ نياماً، وقد حاول المسيح إيقاظهم مراراً فلم يستطع، برغم أن الموقف كان صعباً، فقد كانت عيونهم ثقيلة، واقتربت الجموع من المسيح يتقدمهم يهوذا، والتلاميذ نيام " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6).

وهنا نتوقف ملياً، لنقرأ ما غفلت عن ذكره السطور.

فما فائدة سقوطهم على الأرض ؟ وما الذي أسقطهم ؟ وماذا أفاد المسيحَ سقوطهم، إذا كانوا سيقبضون عليه بعدها ؛ وَلم لَمْ يتكرر السقوط عندما أرادوا أخذه بعدها ؟

ولنحاول أكثر أن نتصور ما حدث في تلك اللحظة، فقد اقترب يهوذا لتقبيل المسيح كعلامة للجند على أنه المطلوب، وفي تلك اللحظة اقترب الجند. حملة المشاعل والسيوف. للقبض على المسيح، فتدخلت قدرة الله العظيم - كما ذكر يوحنا - ، فسقطوا على الأرض، بعد أن رجعوا للوراء. ولك أن تتخيل ما حصل، من هرج، وتدافع، من جراء سقوط مقدمة هذه الجموع التي تحمل المشاعل، والتي هي فقط تنير لها ظلمة الليل البهيم.

بعد ذلك الاضطراب والفوضى قام الساقطون من الأرض وأفاقوا من ذهولهم لما حصل لهم، ورأوا يهوذا وحده مبهوتاً أصابه الذهول، وقد رأى المسيح يرفع للسماء، وقد ألقى الله عليه الكثير من شبه المسيح، ولكن من سيتوقع أن هذا المذهول هو يهوذا، ومن الذي يعرفه وقتذاك ؟

فكانت لحظةُ وقوع الجند: لحظة الخلاص كما وصفتها المزامير " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه …. هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا " ( مزمور 20/8 ).

وفي مزمور آخر: " أما أنت فتبارك، قاموا وخزوا ( مزمور 109/28 ).

وفي مزمور آخر تسجل تلك اللحظة الخالدة: " حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء " ( مزمور 56/9 ) و " ليرتد إلى خلف، ويخجل المشتهون لي شراً " ( مزمور 70/2 ) " عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي، ومضايقي وأعدائي عثروا وسقطواً" ( مزمور 27/2 ) وغيرها.

بعدها حُمل يهوذا إلى المحاكمة وإلى ديوان بيلاطس، والشك في حقيقة شخصه يلاحقه في كل هذه الخطوات، فقد شك فيه رئيس الكهنة، وكانت إجاباته لبيلاطس وهيرودس تنبئ عن الذهول الذي أصابه، وعن عجزه عن بيان الحقيقة، التي لن يقنع أحداً إن ذكرها، فكان يجيبهم: " أنت تقول" ( متى 27/11 ).

ولما اجتمع في النهار مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة، " وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله ؟ فقال لهم: أنتم تقولون: إني أنا هو ". ( يوحنا 22/66 - 70 ).

ولا يفسر هذه الإجابات الغريبة، بل وتلك الأسئلة الغريبة من أناس كانوا يرون المسيح في كل يوم، لا يفسره إلا أن نقول بأن المأخوذ هو غير المسيح، وإن أشبهه، وهذا الشبه حير رؤساء الكهنة في حقيقة المأخوذ فحاولوا استجلاء الحقيقة بسؤال المأخوذ، فلم ينكر ولم يثبت.

وأما يهوذا فقد عرف أن لا فائدة من إنكاره، إذ لن يصدقه أحد، ولربما ولفرط ندمه قد استسلم لرداه، ورضي بعقوبة الله له، أن يصلب عن المسيح، لعله بذلك أن يفديه، لذلك تكرر سكوته.

وهذا الموقف ليس بعيداً عمن ذكرت الأناجيل أنه لفرط ندمه خنق نفسه، وانتحر.

لقد تحققت فيه نبوءات المزامير " وإذا حوكم فليخرج مذنباً... ووظيفته ليأخذها آخر " (المزمور 109/6 - 8 )، لقد أتى ليخطف المسيح، فلم يستطع.. "حينئذ رددت الذي لم أخطفه " ( المزمور 69/4 ).

وقد يشكل هنا أن متى ذكر أن يهوذا مات مخنوقاً ( انظر متى 27/2 - 5 )، ويكفي في دفعه أن نتذكر ما ذكره سفر أعمال الرسل عن موته حين سقوطه وخروج أحشائه (انظر أعمال 1/16 - 20 )، وسبب وقوع الإنجيليين في هذا التناقض اختفاء يهوذا، فاخترع كل من متى ولوقا نهاية ليهوذا تليق بجريمته، فهذا التناقض بين الروايتين الإنجيليتين، مشعر بوجود نهاية حقيقية، خفيت على الكاتبين ودفعتهما لاختلاق روايتيهما.

والقول بصلب يهوذا بدلاً عن المسيح قول قديم: فكما ذكره برنابا في إنجيله، ذكرته فرق مسيحية قديمة قبل الإسلام، منها: السيرنثيون والكربوكرانيون.

وقد يعترض معترض بذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد وقوع الجموع، فقد ذكر الإنجيليون أن بطرس حمل السيف، وضرب أذن العبد فأمره المسيح برد السيف، لأن من ضرب بالسيف يؤخذ به، فهرب بطرس والتلاميذ (انظر يوحنا 18/10 - 19 ) وهذه القصة يجعلها يوحنا بعد حادثة تراجع الجند، ووقوعهم على الأرض.

ومثله ذكر يوحنا أيضاً بعد سقطتهم، أن المسيح سألهم: " من تريدون ؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو … ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه " ( يوحنا 18/7 - 12 ).

كما قد يعترض معترض بذكر ما انفرد به يوحنا، وهو حضور أم المسيح إلى ساحة الصلب، فيقول: لا يصح أن يخفى عليها حقيقة المصلوب، وأن ليس ابنها.

لكن أمثال هذه النصوص التي لن يستطيع أحد أن يثبت عصمتها لتناقضها الذي بيناه، ولا تنهض في الرد على نبوءات المزامير والأناجيل، وإلحاقها بتناقضات الأناجيل وأخطائها أَوْلَى.

ولعلنا نتذكر أن القبض على يهوذا كان ليلاً، فيكتنفه ما يكتنف الظلام من ستر، وخفاؤه فيما بعد ذلك، بسبب ظروف محاكمته وصلبه، وقد رأينا منهم شكاً في شخصية المأخوذ، فدل ذلك كله على أن في شخصية المأخوذ ما أشكل عليهم، وهو ولا ريب يشكل على من رآه مصلوباً عرياناً. ثم يراه قد ألبس في محاكمة بيلاطس وهيرودس ملابس غريبة فتغير شكله، ثم لما صلب كان عرياناً، وصلب في بستان معزول، ولم يمكث على الصليب فترة طويلة....
يقول برنابا، وقد كشف له المسيح عن الحقيقة بعد هلاك يهوذا:
" يا معلم: إذا كان الله رحيماً، فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً؟  ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت.. أجاب يسوع: … فلمّا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب، لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله " ( برنابا 220/ 14-20 ).

وقد كان، فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بالحقيقة التي غابت عن النصارى طويلاً، وصدق الله وهو يقول: [ وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين إختلفوا فيه لفي شكّ مّنه ما لهم به من علمٍ إلاّ إتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً *  بل رّفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً حكيماً ] (النساء: 157-158).
 

وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح :

في مؤتمر الفاتيكان الثاني المنعقد عام 1963م: انعقد المجمع لبحث موضوعات عديدة، تدور حول تقوية الوحدة المسيحية.

وفي الدورة الثانية منه: قدّم الألماني (الكاردينال بيا) وثيقة تعتبر الصورة التمهيدية للوثيقة التي صدرت فيما بعد، وتبرئ اليهود من دم المسيح.

وتنادي الوثيقة التمهيدية: باعتبار الشعب اليهودي جزءًا من الأمل المسيحي، وأنه لا يجوز أن ننسب إلى يهودِ عصرِنا ما ارتُكب من أعمال أيام المسيح، واحتج الكاردينال لكلامه بأن كثيرين من الشعب لم يكونوا يعرفون شيئاً عما حدث، ولم يوافق بعض قادة الشعب على فعل سائر الكهنة.

وقد عورضت الوثيقة داخل المجمع، لما فيها من اعتبارات سياسية، وطلب المطران الهندي (كوتنهو) حذفَها، وإضافة فصول عن الديانة الهندية والإسلامية، وكذلك عارض الوثيقةَ بعضُ كرادلة الشرق، كما عارضها الشبابُ الكاثوليك بالقدس، وأوضحوا أن ذلك ليس حقاً للمجمع ولاغيره، وطالبوا بتطبيق ما جاء في سِفر الخروج: " أنا الرب إلهك، إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء " ( الخروج 20/15 ).

واستشهد القس إبراهيم سعيد - رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين - بنصوص الإنجيل، التي تقرر أن اليهود طلبوا صلبه، ورفضوا إطلاق المسيح، وطلبوا إطلاق باراباس، وتولى رئيس الكهنة ( قيافا ) بعض الوِزر في ذلك. ثم إنهم قالوا: " دمه علينا وعلى أولادنا " ( متى 27/25 ).

وقد قال بطرس لثلاثة آلاف من اليهود: " يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم " (أعمال 2/36).

وتم تشكيل لجنة لتعديل الوثيقة، وعّدلت، وصدرت في أكتوبر 1965م وثيقة تبرئة اليهود. ومما تضمنته هذه الوثيقة " فإن ما ارتكب أثناء آلامه: لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا عائشين إذ ذاك، ولا إلى يهود أيامنا ".

ويقول الكاردينال " بيا " عن هذه الوثيقة: " ليست هذه الوثيقة ثمرة يوم أو ليلة، إنها خلاصة دراسة "، وقد وقع البابا يوحنا الثالث والعشرون عليها قبل وفاته بخمسة أشهر، لتصبح وثيقة دينية معتبرة، ومعتمدة من أهم المراجع النصرانية.

وقد أراد " بيا " من وثيقته التمهيدية تبرئة العنصر اليهودي من صلب المسيح.

ولكن الوثيقة النهائية الرسمية أقرت بدور اليهود وبراءة الرومان وبرأت الأجيال اليهودية اللاحقة من تولي وزر هذه الجريمة، كما أنها حاولت حصر الجريمة في أقل عدد ممكن من الكهنة ورؤساء الشعب اليهودي، " فإن ما ارتكب أثناء آلامه، لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا عائشين إذ ذاك، ولا إلى يهود أيامنا ".

وتعود الوثيقة للحديث عن آلام المسيح المصلوب، فتقول: "ما حصل للمسيح من عذابه لا يمكن أن يعزى لجميع الشعب اليهودي.. فإن الكنيسة كانت ولا تزال تعتقد بأن المسيح قد مر بعذابه وقتله بحربة بسبب ذنوب جميع البشر، ونتيجة حُبٍ لا حدَّ له ".

ونلحظ في هذه الوثيقة تعارضاً صريحاً مع النصوص الإنجيلية، المصرحة بدور اليهود بقتل المسيح على الصليب، ومنها قول بولس: " اليهود الذين قتلوا الرب يسوع، وأنبياءهم، واضطهدونا نحن" ( تسالونيكي (1) 2/15 ).

وقد ذكرت الأناجيل دورهم، فهم الذين تآمر رؤساء كهنتهم، وهم الذين قدموا الرشوة ليهوذا، وأصروا وأصرت الجموع على صلب المسيح رغم براءته التي ظهرت لبيلاطس ؛ الذي قبل نصيحة زوجته، فتبرأ من دم هذا البار.

كيف يبرأ اليهود من دمه؛ ويوحنا يقول على لسان قيافا رئيس الكهنة: " أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تنكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها.. فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه " ( يوحنا 11/47 - 53 ).

واليهود هم الذين أتوا بشهود الزور. ولما وجد بيلاطس أن لا جرم عليه، قال: " إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم " فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا " ( متى 27/24 - 25 ).

ثم كيف للكنيسة أن تبرئ اليهود وذراريهم من دم المسيح، وهم قد قالوا لبيلاطس: " دمه علينا وعلى أولادنا ؟" ( متى 27/25 ) والمفروض أن النصارى يؤمنون بوراثة الذنب الذي أعلن أصحابه مسئوليتهم وأبناءهم عنه، ومن الممكن تصور وراثة ذنب اليهود دون ذنب آدم، أما العكس فلا، وألف لا.

ونتساءل عما يغسل خطيئة اليهود وقد صلبوا الرب - كما زعموا - ، إذا علمنا أن خطيئة آدم لم يغسلها إلا دم المسيح ؟

وعندما نسجل هذا الاعتراض على النصرانية، فإنا نعلم براءة اليهود من دم المسيح، فقد أنجاه الله منهم، ولكن ذلك لا يبرئهم من الجريمة، ألا وهي سعيهم لقتل المسيح، فقد خططوا لصلبه، وتآمروا عليه، ومضوا في التنفيذ، فأخذوا مَن ظنوه المسيح، وصلبوه، وقتلوه، وهي في كل القوانين جريمة، والخطأ في شخص المجني عليه لا يغير من بشاعة جريمتهم كثيراً، من حيث نيتهم وما أرادوا فعله.
 

عودة