الفصل السابع
ملكوت الله يكمل اليهودية


ليس لأحد أن يذهب إلى أننا غمطنا شيئاً من حق سيدنا عيسى عليه السلام أو لم نقدره حق قدره بقولنا انه لم يؤسس ديناً وملكوتاً ، فانه ليس من حدنا أن نحدد سمو درجات أنبياء الله أو نفرق بين رتبهم ، بل نؤمن أن كلا منهم رسول الله وحبيبه ، وعليه فأننا نحبهم ونعظمهم ونحترمهم جمعياً ، إلا أنه نظراً إلى أهمية الرسالة التي بلغوها والخدمة التي أدوها ، قد عرف بعضهم اكثر من بعض ، مثال ذلك أن النبي حبقوق الذي ليس له غير كتاب واحد هو عبارة عن باب واحد(*) بالطبع لم يكن معروفاً ولم يكتب شهرة بقدر النبي داود صاحب الزبور ، ولهذا لم يبق اليوم اثر في التاريخ لألوف الأنبياء ، ومع ذلك إذا تأملنا جيداً رأينا أن روح الله لم تكن وظيفته قليلة في خصوص ملكوت الله ، فان مئات الألوف من الناس آمنوا بملكوت الله وكلامه الذي بشر به ، وارتحلوا إلى دار البقاء مؤمنين موحدين منتظرين للملكوت مخلصين له وعند ظهور الملكوت وتأسيسه وإعلانه دخل في حظيرته مئات الألوف من الموحدين المسيحيين ، وكان بين المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين ما يعد بالملايين من الموحدين الذين اسلموا لبشارة المسيح عليه السلام ، على أن كل العيسويين الموحدين الذين كانوا في قارتي آسيا وأفريقيا قد اعتنقوا الإسلامية ، ولكن الأقلية منهم أصحاب التثليث لم يؤمنوا بالدين إلى يومنا هذا .

ولذلك لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن عيسى ومحمد عليهما السلام أسسا الإسلام متحدين ولكن هيهات لنا أن نتمكن من تفهيم ذلك للنصارى وإقناعهم بهذه الحقيقة .


- 25 -
ملكوت الله ليس اليهودية

(يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض تكوين 18:22)
أخبر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأن سيتبارك بنسله كل أمم الدنيا (نسل بصيغة المفرد) وذلك قبل موسى والتوراة بأربعة أو خمسة عصور ، نسل إبراهيم حسب اللغة العائدة له كما في العربية بمعنى (الزرع) و (البذر) وبولص الرسول يبحث عن وعد الله هذا قائلاً : (لا يقول انسال) أي بصيغة الجمع ولكنه يقول (نسل) مفرد ، وذلك هو المسيح
(الى الغلاطيين 18:3)(*)

لقد عهد الله إلى إبراهيم بصورة ميثاق أن النسل (الزرع) النازل من صلبه يكون (رحمة للعالمين) ولست باحثاً هنا عن (هذا النسل) الذي هو رحمة للعالمين) ولكن لا شبهة في انه سيتيسر لجميع أمم الأرض التبرك بدخول ملكوت الله والاهتداء وإدارة الأمور بكتاب ملكوت الله ، وعلى كل حال فان الله قد وعد بأن يرسل من سلالة إبراهيم الطاهرة ذاتا قدسية يكون رحمة وبركة لكل الأمم التي على وجه الأرض .

ان نبوة إبراهيم عليه السلام انتقلت إلى إسماعيل وإسحاق عليهما السلام ، فكانت من إسماعيل العرب ، ومن إسحاق بمناسبة أن لولده يعقوب أثنى عشر ولداً - أسباط إسرائيل ، فكتب العهد القديم أي كتب بني إسرائيل المقدسة ليست بذات علاقة بوضعية أمم العرب الدينية الذين ظهروا من إسماعيل عليه السلام ، فالتوراة والزبور وسائر كتب الأنبياء كلها نزلت إلى بني إسرائيل .

ان من الحقائق المعترف بها في تاريخ الأديان أن اليهودية دين وبهذا الاعتبار تكون التوراة كتبا الله . وكلاهما متفردان وعديمي المثيل ، فليس من ملة نالت انعم الله كالملة اليهودية باعتبارها منفردة ، كما أنه لم يثبت في الأدوار القديمة كهذا الدين المقدس ، ولا كتاب يحتوي على حقائق إلهية كالتوراة ، والصينيون واليونانيون كان لهم كتب في الحكمة والأخلاق وكان لهم حكماء ومرشدون ملهمون ، ولكن كل ذلك كان دقيقاً ومحكوماً عليه بالاضمحلال ، سقراط وأفلاطون(1) واريسطوطاليس وبقية حكماء اليونان الملهمين لم يوفقوا إلى تأسيس دين ، فاليونان انقادوا إلى آلهة الأساطير ، والصينيون أيضا كان لهم المرشدون الدينيون (فوهي) و (لاعوتس) و (كونفوشيوس) و (الكتب الست) المسماة (كينغ Kings) ولكنهم لا يساوون اليهودية وأنبياءها ، اليهودية حائزة على صفة الدين ، والأنبياء كانوا يبلغون ما يأمر به الله بصورة الوحي والإلهام ، والحال أن كتب الملل الأخرى ومرشديهم بقيت عبارة عن الحكميات والحكماء ليس غير(*) .

اليهودية دين مليء خاص ، وكل الأنبياء (فيها) أرسلوا إلى هذا الشعب نفسه وعملوا على تأييد ذلك الدين ، نحن مضطرون إلى احترام شعب أحبه الله وأنعم عليه بهذا القدر ، وعلى تعظيم شريعة موسى التي أنتجت وأنجبت هذا المقدار من الأنبياء الصالحين .

كل أنبياء بني إسرائيل كانوا قد أخبروا بان سيظهر (ملكوت الله) و (الدين العام) ومهما كانوا يدعون ، طول مدة بقاء شريعة موسى ، أن (يهوه : الله) اله إسرائيل فحسب ، فانهم كانوا يشعرون بأنه سيأتي يوم فيه يتعرف الله إلى جميع الأمم ، وانه سيجمعهم ويجعلهم ملة واحدة .

وها هم أولاء لا يزالون ينتظرون أن يأتي شخص من نسل إبراهيم ليشكل ذلك الملكوت واليهود لما لم يجدوا الصفات التي ينتظرونها في المسيح عليه السلام ، لم يقتنعوا بأنه هو المسيح الحقيقي المبشر به ولذلك رفضوه ، لاعتقادهم أن شريعته التي ستكون ملكوت الله هي شريعة موسى مع قليل من التحوير ، وأن مركزه أورشليم (القدس) وأن يومه المقدس يوم السبت ، ولعدم وجود إحدى صفات ملكوت الله وخصائصه التي مر ذكرها في الفقرة (26) على ما ذكره وعدده المسيح عليه السلام وصل دين موسى إلى الانقلاب الثالث ونسخ في جملته وهيئته العامة ، فعيسى بن مريم عليهما السلام آخر أنبياء اليهود لم يقبلوه والنبي يوحنا المعمدان(1) المبعوث في ذلك الوقت قتلوه من قبل أن يقبلوه ، وفي تلك الحال كانت اليهودية في انتظار المسيح الذي سيأتي ، منذ خمسة إعصار قبل الميلاد ، وليس من مقتضى تاريخ الدين المذكور ، أن يكون الانتظار لمدة طويلة بهذا المقدار ، لأننا نعلم من أسفار التوراة انه كان في كل عصر مئات من الأنبياء ، وعلى الأخص في زمن الياس واليشع ، ولما لم تتمكن اليهودية من أداء فرائضها الدينية أضاعت دينها باعتباره ديناً ، ولم يكن الهيكل(2) الذي هو فرض للعبادة موجوداً، وكانت سلالة هارون الكهنوتية قد فقدت ، وكانت السكينة(3) أوريم توميم(4) وألواح الوصايا العشرة وغيرها كلها قد رفعت من الوسط وزالت ،وأي دين زال تنفيذ أحكامه وفرائضه بأجمعها ، فان ذلك يعد نسخاً وإلغاء له .


- 26 -
السلام عليكم يا أخواني اليهود

انتم يا شعب الله المحترم بما أنكم أولاد إبراهيم عليه السلام وبانتساب ذلك النبي العلي الشان إلى أمة الكلدان(1) تكونون إخواني ، ولكني أود أن أخاطبكم بعنوان إخواني المعنويين انتم من القديم موحدون قد اعترفتم وأقررتم بوحدانية الله ولم تزالوا قائمين بها وثابتين عليها وقد مضى عليكم خمسة آلاف سنة . النور والنجاة إنما وهبا للدنيا من نسل جدكم الأعظم حضرة إبراهيم عليه السلام ذلك النسل النجيب لصالح وارث النبوة ، وسواء أكان النسل من صلب إسحاق أم من صلب إسماعيل ، حسبكم فخراً أن تكونوا من نسل إبراهيم ، ان أجدادكم خالفوا الحق بعدم إيمانهم لعيسى عليه السلام . ولكن لا شبهة في أنه لم يكن آخر نبي عام ولا آخر مسيح ، على أن كل أنبيائكم وملوككم ورؤساء كهنتكم كانوا مسحاه ، لأنهم كانوا يمسحون جمعياً بالزيت ، ولكن النبي العام لم يمسح بالزيت على مراسم الكهنوت بل تعين وتقوى بقدرة الله وبروحه ، أنا افهم أن عيونكم باقية دائماً في أورشليم ، ولكن ما العمل وقد خرب معبدكم بإذن الله وخربت بلدتكم المقدسة مراراً وصارت قاعاً صفصفاً ؟ ولكن بيتكم المقدس باق يعبد الله فيه الموحدون ويسجدون فيه للوحدة الإلهية ، ويذكرون اسم الله وأسماء الأنبياء الذين تعرفونهم ، فهذا البيت هو الآن مفتوح لكم وهو لم يزل بيتكم.
لا أرى بينكم وبين المسلمين فرقاً أساسياً ، كلكم تؤمنون باله إبراهيم . كل أنبيائكم وكتبكم مصدقة ومقبولة لدى المسلمين ، ولا أظن أنكم تصرون على الخلاف في مادة أو مادتين .

ان كان المسيحيون لا ينفكون يقدســون (قربان القديــس) ايوخاريســـطيا( ) فانتم أيضاً لا تنفكون تقدسون يوم السبت ، والحال أن قربان القديس في نظركم ليس له أصل ولا فائدة وانه من وضع الرهبانية ، وكذلك لا أساس ليوم سبتكم لأنكم صرتم ملة ذات تجارب وتربية دينية منذ خمسة آلاف سنة ، ويجب أن تعلموا أن الله منزه عن الجسم والزمان والمكان وانه تعالى لا ينفعل ولا يعرض له عكس العمل ، ولا توجد قوة ولا عمل يجعله تعالى متأثراً أو منفعلاً ، وعلى ذلك لا يعقل ولا يصدق العقول بان الله قدس يوم السبت لأنه عمل ستة أيام واستراح في اليوم السابع(*) ؟ لله أن يقدس أو يخصص أي يوم شاء لأجل الاستراحة العامة لا راحة عباده(**) ولكن السبب الذي به ذلك تعللون لا يمكن أن يكون صحيحاً ، فان الله لا يمسه تعب ولا لغوب كما انه لا تأخذه سنة ولا نوم ، فهو إذاً لا يحتاج إلى الاستراحة ، لأنه لا يكابد العمل بكفيه ، أو يحمل على كتفيه ، (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) وتعلمون أن الأنبياء من قبل موسى كإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا على خبر من قداسة يوم السبت .

البابليون قبلكم كانوا يلتزمون يوم السبت في الشهر مرتين ، ومن المحتمل أن أجدادكم اقتبسوا يوم الأسبوع هذا منهم في زمن سبي البابليين لهم ، ولنفرض أن الله خصص اليوم المذكور للعبادة والراحة لكم كل أسبوع فما هي أهميته ؟ سواء كانت الاستراحة يوم الجمعة أو يوم السبت فكلاهما سيان ، وكما أن مليونا من القسيسين ولو اتحدوا لا يقدرون على تحويل درهم واحد من الماء إلى دم ، فكذلك الشمس أيضاً لا تعطي كرة الأرض ضياءها وحرارتها في أربع وعشرين ساعة قدسية ولا روحانية ليوم من الأيام .

أذكر أن عمر الخيام في المشهور يقول في إحدى رباعياته : الجمعة والسبت كلاهما واحد ويجب أن يكون الإنسان عابد الحقيقة لا عابد الأيام .
وانه عند افتتاح ملكوت الله أي إعلان الرسالة المحمدية كان بنوا إسرائيل قد منحوا بعض الامتيازات كالقبلة والصوم والسبت ، أي أنها كانت ستجري على ما في اليهودية . ولكنها نسخت لفرط ما أعطيت من الماهية الروحانية ، بمعنى أن ملكوت الله لا يعير أهمية لمثل هذه الظواهر بقدر ما للأمور الحقيقية الوطنية ، الصوم فرض وسواء أكان ثلاثة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً كما عند اليهود أو كان في رمضان يكفي أن لا يكون أبناء الملكوت محرومين من بركة الصيام ، كذلك يجب تخصيص يوم للعبادة والراحة ، وأي يوم كان فليكن من غير إجبار ، والحكمة في أن المسيحية حولت يوم السبت إلى يوم الأحد على زعمهم حياة المسيح وقيامه من القبر يوم الأحد، والإسلامية ألغت كلا اليومين لان السبب الذي علل به في الملتين كان باطلاً وفاسداً ، وبذلك عملت ما هو المعقول وطبق المصلحة .

ثم أن هناك مسائل أخرى وهي الذبائح والكهنوت التي يحبها اليهود حبهم إنسان عينهم ، ولكن مع انه يستحيل أحياء مثل هذه الأمور من جديد ، فمن البديهي أيضاً أن لا حاجة إليها في الدين العام حتى أن البحث عنها عبث .

والذي أراه حسب فكري العاجز ، أنه إن كانت أمة تعيسة الحظ على وجه الأرض اليوم فهي أمتكم يا أحفاد إسرائيل ، أما تدرون أن أسوا أفراد الناس حظاً في الدنيا هم الأيتام والأرامل.

آه يا ليتني كنت اقدر على الدخول إلى قلوب هؤلاء لا شاهد ما فيها من اليأس والآلام ! ما اعمق حزن ذلك اليتيم الباكي لإدراكه انه فقد أباه فقداً أبدياً ، وتلك الأرملة البائسة التي تحولت حلاوة فمها علقماً بفقدها زوجها الذي تحبه اكثر من نفسها ، وتنظر بعينها اللتين تفيضان من الدمع إلى أطفالها مفكرة في أمرهم ، أولئك الأطفال الذين يأتوا فقراء ما لهم من ولي ولا ظهير .

فاليهود اليوم هم في مثل هذه الحالة ، لا يملكون وطناً ولا ولياً ، اليهود غرباء وممقوتون في كل مكان ، وقد أصيبوا بمظالم قلت أو كثرت ، لا يجدون أمة يستندون إليها ولا وطناً يدركون السعادة فيه ، فهم مشردون في أربعة أقطار الأرض ، هلكى كالماشية السائمة أشتاتاً أشتاتاً ، ان فيكم أيها القوم كثيراً من الرجال الأغنياء والعلماء المفكرين فليتوسلوا بما أوتوا من العلم والثروة لمعالجة حالتكم هذه ، انتم لا تكونون مسيحيين ، ولكم الحق في ذلك لأنكم ستبقون دائماً موحدين .

عدوكم المبين وخصكم اللدود ليس الإسلامية بل النصرانية ، ويمكنكم الاتحاد مع الإسلامية على أهون الشروط وأسهلها فهي تمد لكم يد الود والاتحاد من غير مساس بسبتكم ولا يضومكم ، حتى أنها توافق على تشكيل حكومة محلية ملية لكم ، وها هي ذي الحكمة الشريعة لعمر الخيام :
(در مذهب ما شنبه وادينه بكى أست جبار برست باش نه روز يرست)

وعربها النجفي نظماً فقال :

السبت والجمعة عندي استويا لا تعبــد الأيـــام واعبـد ربــها
تفكروا جيداً وأمعنوا النظر في تفحص المسئلة عريضاً وعميقاً انتم والمسلمون كلاكما تعبدون إلهاً واحداً وهو الله الحق ، فأنتما في هذا الباب وهو الباب الأساسي متحدون تماماً سوى مسألة واحدة وتلك أيضاً تبقى بينكما تتمكنون من الفصل فيها .

انتم تقرون بان حبقوق وحزاقيل من أولاد إبراهيم ، فلماذا لا تقبلون خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وهو أيضاً مثلهما من أولاد إبراهيم ؟ تالله لا أرى لكم عذراً في هذا ، بل ولا مانعاً مبرراً يخل بحقيقة ديانتكم ، كلا أني لا أرى لكم علاجاً للحياة ، ولا تدبيراً ناجحاً للبقاء إلا الالتجاء إلى الإسلامية ، وبعد أن تقبلوا الإسلام تكون فلسطين ملككم ، وهناك العرب يحتضنونكم ، وهم أولاد إبراهيم إخوانكم في الجنس والنسب ، هاأنا ذا أخاطبكم قائلاً : السلام عليكم ، فإذا انتم أجبتم تحيتي بقولكم وعليكم السلام ، فالمسئلة تنتهي.


- 27 -
هل أتى زمن دخول اليهود (ملكوت الله)

لا أفكر في إحداث مسئلة سياسية في هذا الخصوص لأنه لا فرق بين الطرائق والوسائط التي تتخذها السياسة وبين طرق الحيل والخداع التي يسلكها المقامرون .

ما أدهش هذه المدينة الحاضرة ! والعجب العجاب أن الكنائس تبجل هؤلاء السياسيين المقمرين الكذابين الغاضبين وتناولهم (قربان القديس) !
إني عالم بشدة عداوة الكنيسة للإسلام ، ترى كل ما يفعل بالمسلمين جائزاً ولائقاً . لماذا؟ لكي ينتصر الصليب ويهلك الهلال ويمحى ، وهنالك تنشرح صدرو كل المعتمدين بماء المعمودية بضحك وسرور . ولكن ليت شعري ألا يفكرون في أن الهلال ليس بعدو للصليب ولا رقيبه ؟ ليس للهلال من قدسية أو معنوية في الإسلام ، وإنما هو محض علامة للأثوريين أو الكلدانيين أو أي قوم آخرين لا ادري أيهم ، الهلال لم يصلب عليه جني ولا ابن إبليس وإنما الهلال قمر الله الذي جعله يستفيد منه كل سكان الأرض والنباتات على سواء .

لكن لما صار الهلال في إعلام العثمانيين صار يعتبر كأنه عدو لصليب يسوع كلا وحاشا وبينما كان المأمول من وعاظ وبسقبوسي الإنجليز والاميركان أن ينهوا عن مثل هذه العداوة التي لا صحة لها ولا أساس دينياً ويعلنوا هذه الغلط بصوت رفيع ، نراهم يسكتون عليه ويقرونه لأنهم ...!

إن منشأ النزاع بين الإنجيل والقرآن هو التوراة ، فللموسوية حق أو مجال للكلام في هذا الباب .

إذن فلتصدع الموسوية بقولها من غير ما خشية ولا جبن بحيث يقول الصديق والعدو أحسنت أحسنت أحسنت ! وأما إذا هي أظهرت العداوة الديينة للملتين المسيحية والإسلام كليتهما معاً - كما في السابق - فبالطبع لا يكون الخاسر غيرها .

قلت اني لا أفكر في إحداث مسئلة سياسية لأنه إذا ظهر تشبث جدي بإيجاد اتحاد ديني بين اليهود والمسلمين فلا شك ولا شبهة في أن ديبلومات أوروبا ومجالس وزاراتها تقيم القيامة في الحال ولهذا سنواظب على مطالعتنا في المسئلة المذكورة من غير إعطائها مسحة الساسة .

أريد ان أسأل هذا السؤال من الموسويين : ألا يوجد من أساس أو سبيل إلى الائتلاف أو الاتفاق بين اليهودية والإسلامية ؟ ألقي هذا السؤال وأكرره ليكون لإعطاء الجواب بتأن وإمعان النظر فرصة واسعة ، ليجب متفكروا اليهود على سؤالي هذا ، لكن بعد أن يراجعوا وجدانهم ويستحضروا صفاء قلوبهم .

لو كان عيسى بن مريم قد جاء بقدرة محمد عليهما السلام ، وبقوته التنفيذية المعلومة ، وطرد الرومانيين ووسع الفتوحات الإسرائيلية في القارات الثلاث من كرة الأرض كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأضاف القرآن المجيد في آخر أسفار التوراة ، فهل كانوا يصرون على رفضه ؟ لا أظن ذلك . كذلك لو كان محمد من سلالة داود عليهما السلام لم يكن من شبهة في أن اليهود كان يقدسون حضرة فخر الكائنات ويسمونه سلطان الأنبياء ، ولجعلوا القرآن تاج راس التوراة ، لا اقدر أن أتصور أن اليهود يتمكنون من أن يجدوا عيباً حقيقياً في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فرضنا انهم ذكروا ما يزعمون انه قصور كبير وتمكنوا في هذا اليوم من إسناده إلى حضرة نبي آخر الزمان ، فحينئذ أدعوهم إلى التدقيق في ترجمة الأنبياء المبعوثين من أمتهم على حسب ما هو مكتوب في كتب العهد القديم لديهم ، أي إني أقول ان ليس لديهم من تاريخهم ما يبرر لهم الاعتراض على محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا قايسنا حياة الأنبياء المرسلين إليهم وسيرتهم بحياة محمد صلوات الله عليهم وسيرته فلابد أن يذعن اليهود ويسلموا من نتيجة هذه المقايسة بان الحق لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وإلا فأنكم سوف تضطروني إلى كتابة كتاب آخر باسم (التوراة والسبت) بعد أن كتبت كتابي هذا الذي سميته (الإنجيل والصليب) .

والخلاصة لو كان محمد صلى الله عليه وسلم منسوباً إلى سلالة داود أو هارون ولم يكن من صلب إسماعيل لجعلتموه قرة لا عينكم على كل حال ، نعم لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يهودياً إسرائيلياً ، هكذا أراد الله ، ولكنه هو الزرع ( ) النسل المقدس الموعود به في الميثاق إلى إبراهيم ، ولا يمكنكم أن تقولوا شيئاً بحق على شخص النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تعاليمه أو على قرآنه لان كل ما تقولونه في هذا الباب سأقول لكم تجاهه:
(أنت أيضاً هكذا) بموجب القانون المنطقي .

وأرجو من فضلكم الأذن لي بان أذكركم بأنكم ما نسيتم ولن تنسوا أبداً في تاريخكم الملي والديني كم من مرة مالت أمتكم إلى عبادة الأصنام والتماثيل الباطلة بالرغم من كثرة كتبكم السماوية والأنبياء حتى ارتبطت بشريعة الله بعد سبي بابل ولكن بعد ماذا ؟ بعد أن محي الكثير من مقدساتكم الدينية . على أنكم اليوم أيضاً في حالة هي ادهي وأمر من تلك الحالة السالفة .

فلو فرضنا ان شريعة موسى مع هيكل سليمان (للعبد ، المسجد الأقصى) وغيرهما أعيدت لكم ، فمن الذي يتعهد بأنكم لا تصدون بوجوهكم ، وترجمون كالسابق غير راضين بها؟ أقول ما مضى مضى والماضي لا يعاد ، ولكن الواجب عليكم الآن الرجوع إلى طاعة الله .

وهناك سياسة يهودية وجمعية دينية باسم (الصيهونيين) ولا يتصور موسوي هو خارج عن هذه الجمعية .

(صهيون ) هي كعبة اليهود وبمثابة (لغة اليونانيين) .

انتم ستسمعون وتجتهدون لتشكيل حكومة صغيرة في فلسطين في القدس الشريف تسهيلاً لمجيء ( ) مسيح .

والدولة العثمانية بالطبع لا تساعد على ذلك ، أما إن كنتم تنتظرون انقراضها للحصول على هذه البغية فذلك شيء معناه محوكم في ذلك الوقت لو تتفكرون(*) .

الآن بعض أوروبا القديم من كاثوليك و أرثوذكس باق كما كان إلى درجة كنسكم من على وجه الأرض لأنكم أنتم ، أنتم الذين تمهدون السبيل لمجيء مسيح عوضاً عن مسيحهم ! يحتمل أنكم تفكرون بان الله يبيدهم في آن واحد ، وان (مشيّح) سيثبت كرسي داود في القدس وعليه يحكم ! ويفتح الفتوحات ، أنا لا أستطيع أن أتعرض لفكرتكم هذه لأني لا أريد الاعتداء على عقيدتكم ، فهاأنتم أولاء تنتظرون في تلك الحال معجزات كبيرة ، وخوارق فوق العادة ! فانتم وشانكم ! ولكن قدروا وفكروا بان (العصا قد زالت وانه عند زوال العصا يأتي (شيلوح ) .

لا أفكر في المباحثة مع الموسويين في هذا الباب ، لان الزمان والصدد لا يتفقان وموضوعنا ، ولكن خلاصة ما أريد أن أقول هو :

ربما كان من الممكن تصور موضوع للاتفاق والائتلاف بين اليهود والمسلمين وعلى تقدير ذلك أسارع لعرض بيانات العاجز الآتية ، بسائق حب الخير لا غير ، ومن اللازم الضروري حسب فكري تأسيس هيئة مؤلفة من علماء المسلمين واليهود ، لتتذكر تلك الهيئة المختلطة هذه المواد ,,

( أ - ان يتذكروا ويتداولوا البحث عن المساعدات المذهبية التي يمكن إعطاؤها لليهود ) :

أولاً - عن كيفية إبقاء كتب التوراة عيناً ، ويقتضي إبقاء القسم الأعظم من هذه الكتب ، لأنها تاريخ الملة اليهودية وأدبهم وأمثال ذلك من آثارهم الخاصة ، وأما الأقسام الأخرى من الكتب المذكورة ، فلو أمعن النظر فيها بحسن النية لا يتصور ان تكون مخلة بنقطة من أصول الإسلامية ، ولكن كما يقتضي إعطاء الغذاء والتربية للأولاد لإيصالهم من الطفولة إلى سن البلوغ فكذلك إذا أمعن النظر في حياة بني إسرائيل الدينية في ظرف ثلاثة الآف سنة فستكتسب كتب التوراة براءة في كثير من جهاتها المستوجبة للاعتراض ، وها هي النصرانية لم تمس كتب العهد القديم حتى أنها تقرأها اليوم في الكنائس .

ثانياً - ربما يريد اليهود التزام يوم السبت ، فلا بأس بالاذن والسماح لهم بذلك لأنه لا فرق بينه وبين نوروز العجم الملتزم إلى هذا اليوم .

ثالثاً - أن تترك لهم الأماكن المقدسة بالعبرانية كالقدس وحبرون .

( ب - ما تتعهد اليهود ) :

1- إلحاق القرآن الكريم بكتب العهد القديم بصفته كلام ملكوت الله المتمم والمكمل للتوراة .
2- إلقاء الأذان المحمدي في الأوقات الخمس .
3- الارتباط القطعي بخليفة المسلمين .

وعلى مثل هذه الأسس أظن ان الجمع بين الدينين ليس خارجاً عن الإمكان ، وإلا فيما ان اليهودية لا تملك صفة تمثل الملل الأخرى ولا هي تتمثل فيها ، فمن المشكوك فيه جداً ان تحافظ على كيانها وسط هذا التيار المدهش في التنازع بين الإسلامية والمسيحية ، أن آفة اليهودية هو انفرادها ، وان الشقاق العظيم الكائن بين العيسويين جعل الموسويين يأخذون لهم نفساً وخلصهم مما كانوا فيه من الاضطهاد بصورة مؤقتة ، ولكن أليس لأخذ هذا النفس من نهاية ؟ إلا انه لابد له من نهاية .

فهذا العالم المسيحي المتلاطم الأمواج لابد أن يحالوا إغراق قارب الموسوية الصغير ، إن ملل الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت ودولهم تستنكف بدرجة ما من إيذاء اليهود وإيصال الجور إليهم لخوف بعضها من بعض لوجود الرقابة التي فيما بينهم أو لأسباب أخرى ، ولكن هل من شبهة في أن كل واحدة من هذه الدول عندما تطمئن وتعتمد على قوتها ستقضي في أول فرصة وتختم على أنفاس اليهود ؟ إن كلاً من هؤلاء الدول لا يتأخر ولا يتوقف يوماً من الجري على خطة إبادة بعضهم لبعض على حين انهم أبناء دين واحد ، فماذا يكون حال اليهود إذا ما ظهرت مثلاً حكومة روسية ذات قوة لا يبقى معها خوف ولا مبالاة من الرأي العام لأوروبا وأمريكا ؟ ان مجلس مذهب الكاثوليك ذاك الشهير باسم مجلس التدقيقات(1) هو اليوم أيضاً ، موجود ، وإذا تقوى البابا مرة ثانية ، فإلي أي (سلانيك) لمسلمي العثمانيين يذهب اليهود ؟ من يضمن لنا ان دعاة مذهب البروتستان الذين يزعجون راحة الموسويين ليلاً ونهاراً كلما تقووا أن لا ينفذ صبرهم فيتوسلوا التدابير الزجرية القاسية إلى إبادة اليهود ؟ ألا إن هذا هو مستقبل اليتيم الضعيف المنزوي المنفرد ، والملة التي لا وطن لها ولا نصير ، وبناء على ذلك ليتفكر الصهيونيون(2) في مستقبل أمتهم وسلامتها ، آخذين مطالعاتي المعروضة أعلاه نصب أعينهم ودقة أنظارهم ، ولاشك ان أخذهم موقعاً ممتازاً في الإسلام أولى وارجح ألف ضعف من اضمحلالهم في النصرانية(*) .

 

عودة