إخباره بالغيوب المستقبلة التي تحققت بعد وفاته
ولقد أخبر النبي e عن زهاء ألف أمر غيبي، بعضها في القرآن، وبعضها في السنة، وكل
منها دليل على نبوته ورسالته.
يروي الشيخان من حديث حذيفة t أن النبي r "خطب خطبة، ما ترك فيها شيئاً إلى قيام
الساعة إلا ذكره، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله"، يقول حذيفة: (إنْ كنت لأرى
الشيء قد نسيتُ، فأعرِف ما يعرِف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرَفه).
قال ابن حجر: "دل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ
ابتُدئت إلى أن تفنى، إلى أن تُبعث , فشمل ذلك الإخبارَ عن المبدأ والمعاش والمعاد
, في تيسير إيراد ذلك كلِّه في مجلس واحد من خوارق العادة أمرٌ عظيم , ويقْرَب ذلك
- مع كون معجزاته لا مرية في كثرتها - أنه e أعطي جوامع الكلم".
وهذا الذي رواه حذيفة مجملاً فصّله عمرو بن أخطب الأنصاري t، فقال: (صلى بنا رسول
الله e الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا
حتى حضرت العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو
كائن إلى يوم القيامة، فأعلمُنا أحفظُنا).
قال القاضي عياض: " من ذلك ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون، والأحاديث في هذا
الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزَف غمْرُه، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة
على القطع، الواصلِ إلينا خبرها على التواتر، لكثرة رواتها واتفاق معانيها على
الاطلاع على الغيب".
ومن الغيوب الباهرة التي كشفت لنبينا r خبر أم حرام بنت ملحان ، فقد سمعت النبي e
يقول: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا)) قالت أم حرام: قلتُ: يا رسول الله
أنا فيهم؟ قال: ((أنتِ فيهم)) ثم قال النبي e: ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر
مغفور لهم)) فقلتُ: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: ((لا)).
قال ابن حجر: " وفيه ضروب من إخبار النبي r بما سيقع، فوقع كما قال , وذلك معدود من
علامات نبوته: منها إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحابُ قوةٍ وشوكة ونِكاية في
العدو, وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحر , وأن أمَّ حرام تعيش إلى ذلك
الزمان , وأنها تكون مع من يغزو البحر , وأنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية ".
ويروي الشيخان أنه r نام يوماً في بيتها، ثم استيقظ وهو يضحك، فسألَتْه: ما يضحكك
يا رسولَ الله؟ قال: ((ناس من أمتي عُرضوا عليّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثبج
(ظهر) هذا البحر، ملوكاً على الأسِرّة، أو مثل الملوك على الأسرّة)).
قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها.
ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فسألته أم حرام: ما يضحكُك يا رسول
الله؟ قال: ((ناس من أمتي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله )) فقالت: يا رسول الله،
ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت من الأولين)).
فركبت أمُّ حرامٍ بنتِ مِلحانٍ البحرَ في زمن معاوية t، فصُرعت عن دابتها حين خرجت
من البحر، فهلكت.
وقد نقل الطبراني وغيره أن قبرها معروف في جزيرة قبرص.
وبينما النبي r في تبوك أخبر رواه عوف بن مالك بوقوع ستة أحداث يرتب وقوعها النبي r
فيقول: ((اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتحُ بيت المقدس، ثم مُوتانٌ يأخذُ
فيكم كقُعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم
فتنةٌ لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر،
فيغدِرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غايةٍ اثنا عشر ألفاً)).
وفي هذا الحديث يذكر النبي e أحداثاً ستة يرتبها، أولها: موتُه e، ثم فتحُ بيت
المقدس، وقد كان ذلك في العام الخامس عشرَ من الهجرة، ثم موت عظيم يصيب الصحابة،
وتحقق في طاعون عِمواس في السنة الثامنةِ عشرة للهجرة، ثم استفاضةُ المال حين كثرت
الأموال زمن الفتوح في عهد عثمان، ثم الفتنةُ التي تصيب العرب، وقد وقعت زمن فتنة
قتل عثمان t التي كانت بوابة للفتن التي ما تركت بيتاً إلا ودخلته.
وأما العلامة الأخيرة، وهي الهدنة ثم الحرب مع بني الأصفر، وهم الروم فقد اتفق
العلماء على أنها لم تقع، وأن ذلك يكون في فتن وملاحم آخر الزمان.
قال ابن حجر: " وفيه أشياء من علامات النبوة قد ظهر أكثرُها".
ويروي الشيخان من حديث أبي هريرة t أن النبي e قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم
المال فيفيض، حتى يُهِمَّ ربَ المال من يقبلُ صدقَتَه، وحتى يعرِضَه فيقولَ الذي
يَعرِضُه عليه: لا أَرَب لي)).
قال ابن حجر: "في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال:
الأولى: إلى كثرة المال فقط، وقد كان ذلك في زمن الصحابة، ومن ثَم قيل فيه: ((يكثر
فيكم))...
الحالة الثانية: الإشارة إلى فيضه من الكثرة، بحيث أن يحصل استغناء كلُّ أحدٍ عن
أخذ مالِ غيرِه, وكان ذلك في آخر عصر الصحابة وأولِ عصر من بعدَهم، ومن ثَم قيل:
((يُهِمَّ ربَ المال))، وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمرِ بنِ عبد العزيز.
الحالة الثالثة: فيه الإشارة إلى فيضه وحصول الاستغناء لكل أحد، حتى يهتم صاحب
المال بكونه لا يجد من يَقبل صدقته، ويزداد (أي الهمُّ) بأنه يعرضه على غيره؛ ولو
كان ممن لا يستحق الصدقة، فيأبى أخذَه، فيقول: لا حاجة لي فيه، وهذا في زمن عيسى
عليه السلام".
ومما أخبر به r قدومُ أويس القَرَني من اليمن وقد ذكر e لأصحابه بعضَ صفته وأحواله
لأصحابه، فقال: ((إن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقال له: أُويس، لا يدع باليمن غيرَ
أمٍ له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه؛ إلا موضعَ الدينار أو الدرهم، فمن
لقيه منكم فليستغفر لكم)).
وقد كان كما أخبر e، فقد روى أحمد في مسنده من حديث أُسير بن جابر أنه لما أقبل أهل
اليمن زمن عمر؛ جعل يستقري الرفاق، فيقول: هل فيكم أحد من قَرَن؟ حتى أتى على قرن،
فقال: من أنتم؟ قالوا: قَرَن.
قال: فوقع زِمامُ عمر t أو زِمام أويس، فناوله أحدهما الآخر، فعرفه، فقال عمر: ما
اسمك؟ قال: أنا أويس. فقال: هل لك والدة؟ قال: نعم. قال: فهل كان بك من البياض شيء؟
قال: نعم فدعوتُ اللهَ عز وجل فأذهبَه عني إلا موضعَ الدِرهم من سُرَّتي لأذكر به
ربي. فقال له عمر t: استغفر لي. قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله e.
فقال عمر t: إني سمعت رسول الله e يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له أويس، ولهُ
والدة، وكان به بياض فدعا الله عز وجل فأذهبَه عنه إلا موضعَ الدِرهم في سُرَّتِه))
فاستغفَر له أويس ثم دخل في غمار الناس فلم يُدر أين وقع (ذهب).
قال النووي: "وفي قصة أويس هذه معجزات ظاهرة لرسول الله e".
وإن منها إخباره e عن ظهور الدجالين الذين يدعون النبوة، وقد حذر منهم النبي e
فقال: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه
رسول الله)). وفي رواية لأحمد: ((في أمتي كذابون ودجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع
نسوة، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي)).
قال ابن حجر: "وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً؛ فإنهم لا يُحصَون كثرة،
لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون .. وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة
".
وأول النسوة الأربع اللاتي يتنبئن بالكذب سجاحُ التميمية التي ادعت النبوة، قال ابن
حجر: "وقد ظهر مصداق ذلك في آخر زمن النبي e، فخرج مسيلمة باليمامة, والأسود العنسي
باليمن, ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحةُ بن خويلد في بني أسد بن خزيمة, وسجاح
التميمية في بني تميم.. ".
وقد نصّ النبي r وأنبأ عن دجالَيْن يظهر أمرهما بعده، وقد ادعيا النبوة في آخر
حياته e، وهما مسيلمةُ الكذاب في اليمامة، والأسودُ العنسي في اليمن.
فقد رأى النبي e في رؤياه أن في يديه سِوارين من ذهب، يقول e: ((فأهمني شأنُهما،
فأوحي إلي في المنام أن انفُخْهما، فنفختهما، فطارا، فأولتُهما كذابَيْن يخرجان
بعدي)).
وقد تحققت رؤياه فكان مسيلمة أول الكذابَين، فقد قدم المدينة على عهد رسول الله e،
فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعتُه، فأقبل إليه رسول الله e وفي يده
قطعة جريد فقال: ((لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتُكَها، ولن تعدوَ أمر الله فيك،
ولئن أدبرت ليعقِرَنك الله، وإني لأراك الذي أُريتُ فيك ما رأيت)).
قال أبو هريرة: (فكان أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة).
قال النووي: " قوله: (( ولئن أدبرت ليعقرِنك الله )) أي إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنك
الله .. وقتله الله تعالى يوم اليمامة، وهذا من معجزات النبوة ".
فقد خرج الصحابة لقتاله، وقتله الله بأيديهم، فأطفأ كيده، وأطاش سهمه.
ومثله رد الله كيد الأسودِ العنسي ثانيَ الكذابيْن ، وذلك لما ادعى النبوة قبيل
وفاة النبي e, وتابعه قوم من أعراب اليمن, فقوي واشتد بهم ساعِدُه, فقتله الله على
يد فيروزٍ الديلمي وبعضِ المسلمين من أهل اليمن، بمساعدة زوجة الدعي الكذاب، فتحقق
فيه ما رآه النبي e في رؤياه، فصارت ضلالته هباء تذروه الرياح } فأما الزبد فيذهب
جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال { (الرعد: 17).
ومن هؤلاء الكذابين الذين يدعون النبوة؛ كذابٌ أنبأ النبي r أنه يخرج في ثقيف، ففي
صحيح مسلم أن أسماء بنت الصديق دخلت على الحجاج الثقفي بعد مقتل ابنها عبد الله بنِ
الزبير فقالت: (إن رسول الله e حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومُبيراً، فأما الكذاب
فرأيناه، وأما المبير فلا إخالُكَ إلا إياه).
قال النووي: " المبير المهلك، وقولها في الكذاب (فرأيناه) تعني به المختارَ بنَ أبي
عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه [أنه] ادعى أن جبريل r يأتيه، واتفق
العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختارُ بنُ أبي عبيد، وبالمبير الحجاجُ بنُ
يوسف".
يقول التابعي رِفاعة بنُ شداد: دخلت على المختار الثقفي ذات يوم، فقال : جئتني
والله، ولقد قام جبريل عن هذا الكرسي.
يقول رِفاعة: فأهويت إلى قائم سيفي (أي لأقتله) فذكرت حديثاً حدثناه عمرو بن
الحَمِقِ t قال : سمعت رسول الله r يقول : ((إذا اطمأن الرجل إلى الرجل، ثم قتله
بعدما اطمأن إليه؛ نُصب له يوم القيامة لواءُ غدر)) ، قال رِفاعة: فكففتُ عنه.
وهكذا كان تنبؤ المختارِ الثقفيِ مُصدقاً لخبر تنبأه النبي r عن الكاذب الذي يخرج
في ثقيف، كما كان الحجاج هو الظالم الذي يكون من ثقيف، وهذا خبر وحي أخبره به ربه
علام الغيوب.
ولن ينقطع هؤلاء الكذابون في التاريخ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يكون في آخر
الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم
وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).
ومن هؤلاء الدجالين الذين جاؤوا بالمنكر من القول المتنبئ الكذاب ميرزا غلام أحمد
القادياني الذي ظهر قبل قرن من الزمان في الهند، ورد أحاديث النبي r ، ثم ادعى
النبوة.
وقد أخبر النبي r عن ضلالة هذا الدعي فيما رواه عنه المقدام بنُ معدي كرب حيث قال
r: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم
بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)).
قال المباركفوري: "وهذا الحديث دليلٌ من دلائل النبوة وعلامةٌ من علاماتها، فقد وقع
ما أخبر به، فإن رجلاً قد خرج في البنجاب من إقليم الهند، وسمى نفسه بأهل القرآن،
وشتان بينه وبين أهل القرآن، بل هو من أهل الإلحاد .. فأطال لسانه في رد الأحاديث
النبوية بأسرها, وقال: هذه كلها مكذوبةٌ ومفترياتٌ على الله تعالى، وإنما يجب العمل
على القرآن العظيم فقط، دون أحاديث النبي e, وإن كانت صحيحةً متواترةً".
وهكذا ، فإن إخبار النبي r بخبر هؤلاء الكذابين إنما هو إخبار ببعض غيب الله الذي
أطلع الله عليه نبيه r ، ليكون تحققه دليلاً على صدق النبي r وبرهاناً على نبوته
ورسالته.
فهذه التنبوءات تحققت بعد وفاته r، وهي براهين ساطعة على نبوته r