إخباره  بأخبار الفتن


وإن مما أخبر عنه e ؛ أخبار الفتن التي وقعت بين أصحابه بعد وفاته e، فكان إخباره بذلك دليل نبوته ورسالته.
وقد أشرفَ النبي e يوماً على أُطم من آطام المدينة فقال لأصحابه: ((هل ترون ما أرى؟)) قالوا: لا، قال: ((فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر)).
قال النووي:."والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي: إنها كثيرة، وتعُمُّ الناس، لا تختص بها طائفة، وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم، كوقعة الجمل وصفين والحرة، ومقتلِ عثمان، ومقتلِ الحسين رضي الله عنهما وغيرِ ذلك، وفيه معجزة ظاهرة له e".
ويبين ابن حجر معنى اختصاص المدينة بالفتن، فيقول: "وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان t كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه ".
وكما أنبأ النبي بوقوع فتنة قتل عثمان في المدينة المنورة، فإنه أشار إلى ما سيقع من الفتن في العراق أو بسبب أهلها ، فقال e وهو يشير إلى المشرق: ((الفتنة من ها هنا)).
قال ابن حجر في شرحه: "وأول الفتن كان منبعها من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة".
وإن أول الفتن التي ابتلي بها الصحابة رضي الله عنهم خروج المنافقين على عثمان بن عفان t وطلب نزعه من الخلافة ثم قتله t، وقد أخبر النبي عثمان ببعض معالم هذه الفتنة فقال له: ((يا عثمانُ، إنه لعل الله يقمّصُك قميصاً، فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم )).، لقد أنبأه رسول الله r أن شهادتَه بلاءٌ يصيبه ، وها هو ينبئه عن خلافته، وأن ثمةَ من يريد خلعَه من هذه الخلافة، فطلب منه النبي r عدم موافقتهم عليه، وكل ذلك من اخبار الغيب الصادقة الدالة على نبوته r.
قال المباركفوري: "يعني إن قصدوا عزلك عن الخلافة، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحقّ، وكونهم على الباطل , فلهذا الحديث كان عُثمانُ t ما عزل نفسهُ حين حاصرُوهُ يوم الدّار ".
ووصف النبي e بدقة معالم هذه الفتن التي تتابعت بعد مقتله، وكأنه e يراها ، وفي مقدمتها الفتنة الكبرى التي اقتتل فيها الصحابة في معركتي الجمل وصفين، وذلك بعد وفاته بثلاثين سنة، فيقول: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان، دعواهما واحدة)).
قال ابن كثير: " وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وأصحاب صفين، فإنهما جميعاً يدعون إلى الإسلام، وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرعايا، وكان ترك القتال أولى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصحابة".
قال ابن حجر: " قوله: ((دعواهما واحدة )) أي دينهما واحد، لأن كلا منهما كان يتسمى بالإسلام , أو المراد أن كلا منهما كان يدعي أنه المحق ".
وكون دعوى الطائفتين واحدة لا يمنع أن الحق مع إحداهما دون الأخرى ، وقد أوضحه r فشهد بأنه مع الطائفة التي تقاتل فرقة مارقة تخرج بين المسلمين يومئذ، قال رسول الله e : ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق)). فكان ذلك شهادة بالغة بأن الحق مع علي وأصحابه، لقتالهم لمارقي الخوارج في وقعة النهروان.
قَالَ القرطبي: "وفي هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع".
وكان e قد تنبأ بظهور الخوارج، وحدد صفاتهم وسماتهم، لما جاءه أولُهم ذو الخويصرة متهماً النبي e بالظلم في قسمة الغنائم قال: ((إن له أصحاباً، يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... آيتهم رجلٌ أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثلُ البضعة تدردر، ويخرجون على خير فرقةٍ من الناس)).
قال أبو سعيد الخدري: (أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله e, وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتُمِس، فأتي به حين نظرت إليه على نعت النبي e الذي نعته).
قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزات ظاهرة لرسول الله e، فإنه أخبر بهذا، وجرى كله كفلق الصبح، ويتضمن بقاء الأمة بعده e، وأن لهم شوكة وقوة، خلاف ما كان المبطلون يشيعونه، وإنهم يفترقون فرقتين، وأنه يخرج عليه طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد, ويبالغون في الصلاة والقراءة, ولا يقيمون بحقوق الإسلام، بل يمرقون منه, وأنهم يقاتلون أهل الحق, وأن أهل الحق يقتلونهم، وأن فيهم رجلاً صفة يده كذا وكذا، فهذه أنواع من المعجزات جرت كلها، ولله الحمد".
وثمة ميزان آخر للفتنة، إنه عمار بن ياسر ، رآه النبي e عند بناء مسجده r يحمل لبِنَتين لبنتين فيما كان الصحابة يحملون لبِنة لبِنة، فجعل e ينفض التراب عنه، ويقول: ((ويح عمار، تقتلُه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار))، قال أبو سعيد: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
قال النووي في شرحه للحديث : " وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله r من أوجه : منها أن عمارًا يموت قتيلًا , وأنه يقتله مسلمون , وأنهم بغاةٌ , وأن الصحابة يقاتِلون , وأنهم يكونون فِرقتين : باغية , وغيرها, وكل هذا قد وقع مثل فلق الصبح , صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى , إن هو إلا وحي يوحى".
وقال ابن عبد البر : "وتواترت الآثار عن النبي r أنه قال: ((تقتل عمارَ الفئةُ الباغية))، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته r ، وهو من أصح الأحاديث".
وقد قتِل عمارُ في جيش علي سنة سبع وثلاثين للهجرة النبوية، فكان دليلاً آخر على صحة موقف علي t، وهو أيضاً دليل على صحة نبوة نبينا e، وإلا فمن ذا الذي أخبر النبي r بما يقع بعد وفاته من تمايز المسلمين إلى فئتين ، وأن الباغية منهما تقتل عماراً؟ لا ريب أنه وحي الله الذي يعلم السر وأخفى.
ومما أخبر به النبي e من أخبار الفتن إخباره عن خروج إحدى أزواجه على جمل، وأنه يقتل حولها كثير من المسلمين، وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله e: ((أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت)).
وقد تحققت نبوءته r حين سارت عائشة رضي الله عنها جهة البصرة قبيل وقعة الجمل، فلما بلغت مياه بني عامر نبحت الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال لها الزبير: بل تقدمين، فيراك المسلمون، فيصلح الله عز وجل بينهم، قالت: إن رسول الله e قال لي ذات يوم: ((كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب)). فتحقق ما أخبرها به النبي e بعد وفاته بخمس وعشرين سنة ليكون إنباؤه دليل صدقه وبرهان نبوته.
وكما أخبر e عن الفتن فإنه أنبأ عن التئام شمل المسلمين على يد الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين ، يقول أبو بكرة t: بينا النبي e يخطب؛ جاء الحسن، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ابني هذا سيد, ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)).
وقد كان كما أخبر e ، فقد تنازل الحسن لمعاوية عن الملك عام أربعينَ من الهجرة، فسمي عامَ الجماعة لاجتماع المسلمين فيه على خليفة واحد بعد طول فرقة واختلاف.
قال ابن حجر: "وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي؛ فإنه ترك الملك، لا لقلة ، ولا لذلة، ولا لعلة, بل لرغبته فيما عند الله ، لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة ".
وفي ذلك كله شهادات تترى على نبوة النبي r الذي خصه الله بهذه الأخبار من غيبه، فتحققت، لأنه r
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا بـه موقـنات أن ما قـال واقـع