دلالة القرآن الكريم على نبوته


إن أعظم دلائل النبوة القرآنُ الكريم، كتاب الله الذي أعجز الأولين والآخرين.
يقول رسول الله r : ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
قال ابن حجر في معنى قوله: ((إنما كان الذي أوتيتُ وحياً )): أي أن معجزتي التي تَحدّيتُ بها، الوحيُ الذي أُنزِل عليّ، وهو القرآن ".
ثم لفت رحمه الله النظر إلى أنه ليس المراد من الحديث حصرَ معجزاته r في معجزة القرآن الكريم فقال: "بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختصّ بها دون غيره r".
وقال ابن كثير في معنى الحديث: " معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله".
وقال ابن القيم في سياق حديثه عن معجزات الأنبياء: "وأعظمها معجزة كتابٌ باقٍ غضٌ طريّ لم يتغيّر, ولم يتبدّل منه شيء، بل كأنه منزّل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كل وقتٍ على الوجه الذي أخبر به".
هذه المعجزة العظيمة تحدى الله بها الأولين والآخرين، ودعاهم للإتيان بمثله حين زعموا أن القرآن من كلامه r، فقال تعالى: ]أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ _ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِينَ[ )الطور: 33-34).
فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثله، تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندِهم، قال تعالى: ]أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ[ (هود: 13).
قال ابن كثير رحمه الله: "بيّن تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور من مثلِه، ولا بسورة من مثله؛ لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاتِه لا تشبه صفاتِ المحدَثات، وذاتَه لا يشبهها شيء ".
فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة، قال تعالى: ]وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ[ (البقرة: 23).
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " ومن حجةِ محمدٍ r على صدقه، وبرهانِه على حقيقةِ نبوته، وأن ما جاء به من عندي (أي من عند الله) ـ عجزُ جميعِكم وجميعِ من تستعينون به من أعوانِكم وأنصاركم، عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجَزتم عن ذلك ـ وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة ـ فقد علمتم أن غيرَكم عما عجَزتم عنه من ذلك أعجَز".
ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: ]فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ[ (البقرة:24).
قال القرطبي : " قوله : ] ولن تفعلوا [ إثارةٌ لهِمَمِهم، وتحريكٌ لنفوسهم؛ ليكونَ عجزُهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآنُ قبل وقوعها".
وحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلاً لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: "يا ضِفدع، نُقي كما تنُقين ، لا الماء تدركين ، ولا الشراب تمنعين".
وقال أيضاً معارضاً القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى ، من بين شراشيف وحشى ".
وأما النضر بن الحارث فصحيحُ قريش وبليغُها، فأتى بالمضحك من القول حين قال: "والزارعات زرعاً. والحاصدات حصداً. والطاحنات طحناً. والعاجنات عجناً. والخابِزات خبزاً….".
وعندما أراد الأديب ابن المقفع معارضة القرآن كلّ وعجِز، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارَض، وما هو من كلام البشر.
ومثله صنع يحيى الغزال بليغُ الأندلس وفصيحُها.
وصدق الله العظيم: ]قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[ (الإسراء: 88).
قال ابن سعدي: "وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامُه ككلامِ رب الأرباب؟ .. هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوقٍ ومعرفةٍ بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآنَ العظيمَ بغيره من كلام البُلغاء، ظهر له الفرقُ العظيم".
لقد اعترف أعداء القرآن بعظمة القرآن، وذلّتْ رقابهم لِما سمعوه من محكم آياته، فها هو الوليدُ بنُ المغيرةِ سيدُ قريش، يسمع النبي r وهو يقرأ قوله تعالى: ]إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ (النحل:90).
فيقول قولته المشهورة: "والله إنَّ لقولِه الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلا، وإنه ليَحطِم ما تحته".
ولما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي r قرأ عليه النبي r أوائل سورة فصلت، فرجع إلى قريش قائلاً: إني - واللهِ - قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ".
وفي الحديث أيضاً شهد المنصفون من المستشرقين بعظمة القرآن، وسجلت كلماتُهم بحقه المزيدَ من الإعجاب والدَهش، ومنه قول المستشرق (فون هامر) في مقدَمة ترجمته للقرآن، فقد قال: "القرآن ليس دستورَ الإسلام فحسب ، وإنما هو ذِروة البيانِ العربي، وأسلوبُ القرآن المدهش يشهد على أن القرآنَ هو وحيٌ من الله، وأن محمداً قد نشر سلطانَه بإعجاز الخطاب، فالكلمةُ (أي القرآنُ) لم يكن من الممكن أن تكونَ ثمرةَ قريحةٍ بشرية".