حماية الله لنبيه
وإن من دلائل النبوة حمايةُ الله لأنبيائه إنجاؤه لبعضهم من أيدي أعدائهم، رغم ما
يتربص لهم سفهاءُ قومهم من السوء
ولقد قال نوح عليه السلام متحدياً كفارَ قومه: } يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي
وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمرُكم عليكم
غُمةً ثم اقضوا إليّ ولا تنظِرون { (يونس:71)، فلم يصلوا إليه بسوء لحماية الله له.
ومثله قول أخيه هود e: }قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون % من دونه
فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون % إني توكلت على الله ربي وربكم { (هود: 54-56).
وكذا كان الحال مع نبينا e ، فقد أنجاه الله من المؤامرات التي واجهتْه من لدن
بعثتِه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبره الله وأنبأه بسلامتِه من كيدهم وعدوانهم ،
فقال له: } يـٰأيها ٱلرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67).
قال ابن كثير: "أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك
ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك".
ويروي الإمام الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي e يُحرس حتى
نزلت هذه الآية: }وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67)، فأخرج رسول الله e رأسَه من
القبة، فقال لهم: ((يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله)).
وفي الآية دليلان من دلائل النبوة، أولهما: إخبار الله له بحفظه e، وقد كان.
قال الماوردي: "فمن معجزاتِه عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير،
وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ
ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذُعراً، وقد هاجر عنه أصحابه
حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ
ولا جسد ، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه اللهُ تعالى بها فحققها، حيث يقول :
}والله يعصمك من الناس{ فعَصَمَه منهم".
وثمةَ دليلٌ آخرُ من دلائل النبوة في الآية ، فالنبي e كان مقصوداً بالقتل من
أعدائه، لذلك كان يحرُسُه الصحابة خوفاً عليه، فلما نزلت الآية صرفهم عن حراسته،
ليقينه بما أنزل الله إليه، ولو كان دعياً لما غرر بنفسه، ولما عرَّض نفسَه للسوء.
قال ابن تيمية مستدلاً لنبوة النبي r بتأييد الله لنبيه وحفظه له ونصره لدينه: "وقد
أيده تأييداً لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به، كما
أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع وجعله سيد ولد آدم r ، فلا يعرف
قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب؛ إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقاً، كما أيد نوحاً وإبراهيم
وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيباً وهوداً وصالحاً، فإن سنة الله أن ينصر
رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا
يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة، فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان
يعلم ذلك بمقتضى حكمته؛ فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه".
ومن صور حماية الله لنبيه وحبيبه e ما رواه الإمام أبو داود من حديث جابر بن عبد
الله، وفيه: أن يهوديةً من أهل خيبر سمَّت شاةً مصليةً (مشوية)، ثم أهدتها لرسول
الله e ، فأخذ رسول الله e الذراعَ، فأكل منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، ثم قال
لهم رسول الله e : (( ارفعوا أيديِكم )) ، وفي رواية : ((ارفعوا أيديكم، فإنها
أخبرتني أنها مسمومة)).
وأرسل رسول الله e إلى اليهودية فدعاها ،فقال لها : ((أسمَمْت هذه الشاة؟)) قالت
اليهودية: من أخبرك؟ قال : ((أخبرتني هذه في يدي)). للذراع ، قالت: نعم .
قال : ((ما أردت إلى ذلك؟)) قالت: قلتُ : إن كان نبياً فلن يضرَه ، وإن لم يكن
نبياً استرحنا منه . فعفا عنها رسول الله e ولم يعاقبها.
وفي رواية للخبر في الصحيحين أن رسول الله e سألها عن ذلك ،فقالت : أردت لأقتلكَ.
فقال e : (( ما كان الله ليسلطَكِ علي )).
قال النووي: " قوله e ((ما كان الله ليسلطك علي)) فيه بيانُ عصمتِه e من الناس
كلِّهم، كما قال الله: }وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة:67)، وهي معجزة لرسول الله
e في سلامته من السُّمِّ المهلِك لغيرِه، وفيه إعلامُ الله تعالى له بأنها مسمومةُ،
وكلامُ عضوٍ منه له فقد جاء في غير مسلم ((إن الذراع تخبرني أنها مسمومة)).
وكما أرادت اليهودية قتله، فإن أبا جهل فرعون َ هذه الأمة قد رام ذلك أيضاً، ففي
صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمدٌ وجهَه بين
أظهرِكم (يعني بالسجود والصلاة)؟ فقيل: نعم، فقال: واللاتِ والعزى، لئن رأيتُه
يفعلُ ذلك لأطأنَّ على رقَبَتِه، أو لأعفِّرنَّ وجهَه في التراب، قال: فأتى رسولَ
الله e وهو يصلي، زعمَ ليطأَ على رقَبَتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكُص على
عقبيه، ويتقي (ويحتمي) بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من
نارٍ وهوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله e : ((لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عُضواً
عضواً)).
وهذه معجزة عظيمة رآها عدو الإسلام أبو جهل، فقد رأى أجنحة ملائكة الله وهي تحمي
النبي e، وأيقن بأن الله حماه بجنده وعونه، لكن منعه الكِبْرُ وحبُ الزعامة والحرصُ
عليها من الإذعان للحق والانقياد له، فحاله وحال غيرِه من المشركين كما قال الله: }
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { (الأنعام: 33).
قال النووي: "ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته e من أبي جهل وغيرِه , ممّن أراد
به ضرراً, قال اللّه تعالى : } واللّه يعصمك من النّاس{".
وكما حمت الملائكة النبي e من أبي جهل ، فقد تنزلت لحمايته يوم أُحد، حين أطبق عليه
المشركون، وتفرق عنه أصحابه منهزمين، ففي الصحيحين يقول سعدُ بن أبي وقاص رضي الله
عنه: (رأيت عن يمين رسول الله e وعن شماله يوم أُحدٍ رجُلَين، عليهما ثيابٌ يَيَاض،
ما رأيتهما قبلُ ولا بعد. يعني جبريلَ وميكائيلَ عليهما السلام).
قال النووي: "فيه بيان كرامةِ النبي e على الله تعالى، وإكرامِه إياه بإنزال
الملائكة تقاتل معه، وبيانُ أن الملائكة تقاتِل، وأن قتالَهم لم يَختصَّ بيوم بدر".
ومن هذه الدلائلِ تأييدُ الله لنبيه وحمايتُه له من محاولات أعدائه المتكررة التي
أرادت قتله والنيل منه، ولكن هيهات أن يدركوا بُغيَتهم، وقد أخبره ربه بسلامته من
كيدهم وعُدوانهم، فقال: } يـا أيها ٱلرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67).
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه غزا مع رسول
الله e قِبَل نجد، فلما قَفَل (رجع) رسول الله e (قفل معه)، فأدركتهم القائِلَة
(أي: نومة القيلولة) في وادٍ كثير العِضاه (الشجر)، فنزل رسول الله e وتفرق الناس ،
يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله e تحت سمُرَةٍ، فعلق بها سيفه.
قال جابر: فنِمنا نومةً، ثم إذا رسول الله e يدعونا فجئناه، فإذا أعرابيٌ جالس،
فقال رسول الله e: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظتُ وهو في يده صَلتاً،
فقال لي: من يمنعُك مني؟ قلت: اللهُ، فها هو ذا جالس)) ثم لم يعاقبْه رسولُ الله e.
وفي رواية لأحمد أنه قام على رأس رسول الله e بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال e:
اللهُ عز وجل. فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله e فقال: من يمنعك مني؟ فقال
الأعرابي: كن كخير آخذ. فقال e: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: لا، ولكني
أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه،
فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس.
وفي هذا الحديث – إخوتي المستمعينَ – دلائلُ مختلفة على نبوة النبي e ، منها: ثبات
النبي e بتأييد الله له، ثم حمايةُ الله له من القتل، وتأييدُه له بالملائكة، فقد
وقع في رواية لابن إسحاق أن جبريل دفع بصدر المشرك فسقط سيفه، وأخيراً: عفوُ النبي
e عن الرجل مع رفضه للإسلام، وذلك خلق من أخلاق النبوة، وإلا فمن يصنع ذلك مع غريمه
وعدوه الذي كاد أن يقتله؟ إنه كما قال الأعرابي: جئتُكم من عندِ خير الناس، e.
ولما رجع مشركو مكة من بدر - بقوة الله - مدحورين، أقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى
صفوان بن أمية في الحِجِر ، فقال صفوان : قبح الله العيش بعد قتلى بدر. قال: أجل
والله ما في العيش خيرٌ بعدَهم ، ولولا دينٌ علي لا أجد له قضاء ، وعيالٌ لا أدع
لهم شيئاً ، لرحلت إلى محمد فقتلتُه إن ملأتُ عينيّ منه ، فإن لي عنده عِلّة أعتل
بها عليه ، أقول: قدِمت من أجل ابني هذا الأسير. قال: ففرح صفوان، وقال له: علي
دينُك، وعيالُك أُسوةُ عيالي في النفقة ، لا يسعني شيء فأعجزُ عنهم. فاتفقا، وحمله
صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقل وسُمَّ ، وقال عمير لصفوان: اكتم خبري أياماً.
وقدم عمير المدينة، فنزل بباب المسجد، وعَقَل راحلته ، وأخذ السيف، وعمَد إلى رسول
الله e، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله e ، فقال :
يا رسول الله لا تأمنه على شيء . فقال e: ((أدخله علي)).
فخرج عمر، فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله e ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر
وعمير حتى دخلا على رسول الله e، ومع عمير سيفُه ، فقال رسول الله e لعمر : ((تأخر
عنه)).
فلما دنا عمير قال له: ((ما أقدمك يا عمير ؟)) قال :قدِمت على أسيري عندكم ،
تفادونا في أسرانا ، فإنكم العشيرة والأهل. فقال e : (( ما بال السيف في عنقِك؟)).
فقال عمير: قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً ، إنما نسيته في عنقي حين
نزلت.
فقال رسول الله e : ((اصدقني، ما أقدمك يا عمير؟)). قال : ما قدمت إلا في طلب
أسيري.
قال : (( فماذا شرطتَ لصفوان في الحجر؟))، ففزع عمير وقال: ماذا شرطتُ له؟ قال:
((تحمّلت له بقتلي على أن يعول أولادَك ، ويقضيَ دينَك ، واللهُ حائلٌ بينك وبين
ذلك)).
فقال عمير : أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله ،كنا يا رسول الله
نكذبُك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديثَ كان بيني وبين صفوان في
الحِجِر لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به ، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق.
ففرح به المسلمون، وقال له رسول الله e : ((اجلِس يا عمير نواسِك)). وقال لأصحابه :
((علموا أخاكم القرآن))، وأطلق له أسيره ، فقال عمير: ائذن لي يا رسولَ الله ،
فألحق بقريش ، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، لعل الله أن يهديَهم .. ثم قدم عمير
فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجُهده ، فأسلم بسببه بشر كثير).
وهكذا نجى الله نبيه وحبيبه من كيد عميرٍ وصفوان ، فلم يجدْ عميرٌ أمام هذه المعجزة
الباهرة والآية القاهرة إلا أن يشهد للنبي e بالنبوة، وللرب الذي حماه بالوحدانية.
ولم تتوقف المؤامرات على النبي e، حتى من أقربائه وأعمامه، ومن ذلك أن أبا لهب خرج
يوماً وقد اجتمعت قريش، فقالوا له : يا أبا عُتبة ، إنك سيدنا، وأنت أولى بمحمد
منا، وإن أبا طالب هو الحائلُ بيننا وبينه ، ولو قتلتَه لم ينكِر أبو طالب ولا
حمزةُ منك شيئاً، وأنت بريء من دمه ، فنؤدي نحن الدية ، وتسودُ قومَك، فقال: فإني
أكفيكم ففرحوا بذلك، ومدحَتْه خطباؤهم.
فلما كان في تلك الليلة، نزل أبو لهب، والنبي e يصلي، وتسلقت زوجه أم جميل الحائط
حتى وقفت على رسول الله e وهو ساجد، فصاح أبو لهب، فلم يلتفت إليه، فجمدت أقدامهما،
وبقيا لا يقدران على شيء حتى تفجر الصُبح، فقال أبو لهب: يا محمد أطلق عنا، فقال:
ما كنت لأطلق عنكما، أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني. قالا : قد فعلنا. فدعا ربه
فرجعا.
ولما نزل قوله تعالى: }تبت يدا أبى لهبٍ وتب{ (المسد: 1)، جاءت أم جميلٍ ، امرأةُ
عمه أبي لهب إلى النبي e ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها
امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيَك، فلو قُمت، قال: ((إنها لن تراني)) فجاءت أم جميل،
فقالت لأبي بكر: إن صاحبك هجاني؟! قال: لا، وما يقول الشعر، قالت: أنت عندي مصدق،
وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لم ترَك؟! قال: ((لا، لم يزل ملك يسترني عنها
بجناحه)).
وهكذا فقد حماه الله كما حمى من قبل أخيه هود الذي تحدى قومه أن ينالوه بأذى وشر،
فقال: }قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم
لا تنظرون % إني توكلت على الله ربي وربكم { (هود: 54-56)، لقد نجى الله عبدَه
المتوكلَ عليه، فكان عجزُهم عنه برهانَ نبوته ودليلَ صدقه، وكذلك أنجى نبيه حبيبه
محمداً e ، فكانت نجاتُه دليلاً على صدقه ، وبرهاناً ساطعاً على نبوته.
فإنه لو كان يتقول على الله الكذب لما حماه ولا رعاه، بل لسلط عليه أعداءه يفتكون
به، ويفعلون به الأفاعيل } ولو تقول علينا بعض الأقاويل % لأخذنا منه باليمين % ثم
لقطعنا منه الوتين % فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين { (الحاقة: 44-47)، لكنه رسول
الله وخاتم النبيين e.
لقد وعد الله نبيه بحمايته من كيد أعدائه، وما زال من قبلُ ومن بعدُ يحميه من
مؤامراتهم، ويحفظه من كيدهم، وفي ذلك شواهد كثيرة متعددة، منها ما رواه الإمام أحمد
والحاكم بإسناد صحيح ، حين اجتمعت قريشٌ في الحِجر، فتعاقدوا باللاتِ والعزى ومناةَ
الثالثةِ الأخرى ، لو قد رأينا محمداً ، قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقْه حتى
نقتلَه.
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله e فقالت:
هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم
رجل إلا قد عَرف نصيبه من دمك.
فقال: ((يا بنية، أريني وَضوءاً)) فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها
هو ذا. وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا
إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل.
فأقبل رسول الله e حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: ((شاهت الوجوه))
ثم حصَبهم بها، يقول ابن عباس: فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةً إلا قُتل
يوم بدر كافراً.
الله أكبر، قريشٌ بخُيلائها وكِبْرِها تتعاهد على قتل رجل أعزل، وتقسم على ذلك
بآلهتها، ثم لا يقوم منهم واحد لتنفيذ عزمتهم، بل قام e على رؤوسهم يحصِبُهم بالحصى
متحدياً عجزهم، مبيناً سِفالَ أمرهم وهوانَه، كيف لا والله العظيم يؤيده ويقويه،
فيقول: } والله يعصمك من الناس { (المائدة: 67).
لقد أرادت قريش أن تقتل النبي e مراراً قبل هجرته ، ورصدوا له يوم الهجرة على باب
بيته، فخرج عليه الصلاة والسلام من بينهم، وقد أعمى الله أبصارهم عنه، فلم يروه حال
خروجه ، وفي هذا يقول سبحانه : } وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ { (الأنفال:30)، لقد رد الله مكرهم في نحورهم ،
ونجى نبيه عليه الصلاة والسلام.
وما زالت قريش تحاول قتل النبي e والله ينجيه، حتى أذن الله له بالهجرة، فخرج من
مكة مستخفياً تحوطه عناية الله، حتى وصل e وصاحبُه إلى غار ثور، واختبآ فيه عن أعين
المشركين الذين جدّوا بالبحث عنه حتى وصلوا إلى الغار، ووقفوا ببابه، وظن أبو بكر t
الهلكة، فقال للنبي e: ((لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فأجابه النبي e
بلسان الواثقِ من ربه، المتوكل عليه، العالمِِِِ بأنه لا يسْلمه إلا مرام أعدائه:
((ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثُهما؟)).
نعم فالله معه ينصره ويحميه ، }إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ (التوبة:40).
وهكذا نجّى النبي e من بين أيديهم ، واتجه صوب المدينة المنورة من جديد، تحوطُه
رعاية الله ، وتكلأه عنايته.
أما قريش فلم تستسلم، ولم تفتر عزيمتُها في محاولة قتلِ النبي e والنيلِ منه،
فأرسلوا إلى قبائل العرب يضعون لهم الجوائز إن همُ قتلوا النبيَ e وصاحبَه، وهما
يسيران في حفظ الله ورعايته.
وجاز النبي قَديداً، فأدركه سراقة بن مالك، يقول الصديق t: وتبِعنا سراقة بن مالك،
ونحن في جَلَدٍ من الأرض (أي في أرض يابسة)، فقلت: أُتينا يا رسول الله, فقال: ((لا
تحزن, إن الله معنا)) فدعا عليه رسول الله e ، فارتطمت فرسه إلى بطنها.
وفي رواية للبخاري يقول سراقة: (حتى إذا سمعت قراءة رسول الله e - وهو لا يلتفت،
وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخَرَرت
عنها، ثم زجرتُها فنهضتْ، فلم تكَد تُخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثَرِ يديها
عُثانٌ (غبار) ساطع في السماء مثل الدخان...).
فقال سراقة: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوَا لي، فـ (أحلف بـ)الله لكما
أن أرُدّ عنكما الطلب، فدعا e اللهَ فنجا، فرجع لا يلقى أحداً (من الطَلَب) إلا
قال: قد كُفيتكم ما ها هنا، فلا يلقى أحداً إلا ردّه).
قَالَ أنس: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ e ، وَكَانَ
آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ.
فكان إنجاء الله نبيه من بين يدي سراقة سبباً في إسلامه وذوده عن النبي e، فقال t
وهو يخاطب أبا جهل:
أبا حكمٍ والله لو كنتَ شاهداً لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائمه
علمتَ ولم تَشْكُك بأن محمداً رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومه
وروى البيهقي عن شيبة بن عثمان دليلاً آخر من دلائل نبوته وأعلام رسالته e، وذلك أن
شيبة رأى رسولَ الله e يوم حنين وقد انفضّ عنه أصحابُه، فذكر أباه وعمه وقد قتلهما
علي وحمزة رضي الله عنهما، فقال: اليوم أدرك ثأري منه، قال شيبة:.. فجئته من خلفه ،
فلم يبق إلا أن أسورَه سَورة بالسيف .. إذ رفع لي شُواظ من نارٍ بيني وبينه كأنه
برق، فخِفت أن تمحشني، فوضعت يدي على بصري، ومشيت القهقرى ..
فالتفتَ رسول الله e وقال : ((يا شيب، يا شيب، ادنُ مني ، اللهم أذهب عنه الشيطان))
، قال : فرفعت إليه بصري، ولهو أحب إلي من سمعي وبصري ، فقال: ((يا شيب قاتل
الكفار)).
وفي رواية: فلما انقضى القتال دخلت عليه فقال لي : الذي أراد الله بك خيرٌ مما
أردته لنفسك. وحدثني بجميع ما زوّرتُه في نفسي. فقلت: ما اطلع على هذا أحد إلا الله
فأسلمت.
وفي هذا الخبر دلائل عدة تدل على نبوة نبينا e ، منها: حماية الله لنبيه e من كيد
شيبة بن عثمان رغم تمكنه منه ، والثاني: إطلاع الله نبيه e على ما يدور في خلجات
شيبة من المكر والسوء، والثالث: استجابة الله دعاء نبيه e، حين دعا لشيبة، فأذهب
عنه وخز الشيطان، وهداه للإسلام، وحبب إلى قلبه نبيه عليه الصلاة والسلام.
} أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد {
(الزمر: 36).