دلالة أخلاقه وأحواله


وإن من دلائل نبوته e كرمَ أخلاقه وجميلَ صفاته، فمثل هذه الكمالات إنما هي بعض منحة الله إليه، وهي دليل يرضاه العقلاء على نبوته e، فما كان لهذه الأخلاق أن تكون لدعي يفتري على الله الكذب.
قال ابن تيمية: "ودلائل صدق النبي الصادق وكذب المتنبي الكذاب كثيرة جداً، فإن من ادعى النبوة وكان صادقاً؛ فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين، فإنه لا أحد أفضل من رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه ..
وإن كان المدعي للنبوة كاذباً فهو من أكفر خلق الله وشرهم .. ولما كان هذا من أعلى الدرجات وهذا من أسفل الدركات؛ كان بينهما من الفروق والدلائل والبراهين التي تدل على صدق أحدها وكذب الآخر ما يظهر لكل من عرف حالهما، ولهذا كانت دلائل الأنبياء وأعلامهم الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة، كما أن دلائل كذب المتنبئين كثيرة متنوعة".
وبهذا النوع من الدلائل آمن الرهط الأول من المسلمين بالنبي e قبل أن تظهر على يديه معجزاته الباهرة، فأول أهل الأرض إيماناً به خديجة رضي الله عنها، استدلت لنبوة زوجها بما عرفته من كمال أخلاقه، وعظيمِ خلاله، فقالت له وقد جاءها خائفاً من غار حراء : (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). فجعلت رضي الله عنها من كريم خِلاله دليلاً على صدقه ونبوته.
فمن دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ما حباه الله تعالى من كريم الخلال وصفات الجمال، يكفيه في ذلك وصفُ ربهِ له ]وإنك لعلى خلق عظيم[ (القلم: 5).
وكثير من العقلاء رأوا في أخلاقه e دليلاً كافياً على نبوته ، من هؤلاء هرقل ملك الروم الذي بلغه أمرُ النبي، فسأل أبا سفيان – وهو يومئذ على الكفر- عن صفاته وأخلاقه.
فلما استبانت له نبوته قال: "فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج (مبعوث)، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه".
كرم النبي e
ومن جميل صفاته e كرمُه الفياض، وجُوده السيّال، كرمُه كرمُ رجل عافت نفسه الدنيا، حتى ما عاد يفرح بإقبالها، ولا يغتم ولا يهتم بإدبارها، إنه أكرمُ الناس وأجودُهم، وصفه ابنُ عمهِ ابنُ عباس فقال: (كان رسول الله e أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسُه القرآن، فلرسولُ الله e أجودُ بالخير من الريح المرسلة).
وعاشره أنس بن مالك عشرَ سنين، ثم وصفه فقال: (كان النبي e أحسنَ الناس وأشجعَ الناس وأجودَ الناس).
ودعونا نتأملُ بعض قصص كرمه e ، فمن ذلك ما رواه البخاري من حديث جبير بن مطعم، أنه بينما هو يسير مع رسول الله e وهو مقفل من حنين فعلِقه الناس يسألونه، حتى اضطروه إلى سمُرة (شجرة طلح) ، فخطِفَتْ رداءَه، فوقف النبي e فقال: ((أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العِضاهِ نَعَماً لقسمتُه بينَكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً)).
وذات يوم جاء إليه e رجل فسأله أن يعطيه، فقال النبي e : ((ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءني شيء قضيتُه)). فقال عمر: يا رسول الله، ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي e قول عمر.
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً. فتبسم رسول الله e ، وعُرف البِشر في وجهه بقول الأنصاري ثم قال e: ((بهذا أمرت)). إنه عطاء مع العوز وقلة ذات اليد، لقد طلب e من الرجل أن يستدين ، وهو يقضي الدين متى قدر عليه، وهذا غاية الجود.
وجاءه e نفرٌ من الأنصار فسألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفِد ما عنده، ثم قال: ((ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعففْ يعِفُّهُ الله، ومن يستغن يغنِه الله، ومن يتصبر يصبرْه الله، وما أعطي أحد عطاء هو خيرٌ وأوسعُ من الصبر)).
وجاءته امرأة ببردة فقالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكَها، فأخذها رسول الله e محتاجاً إليها، فخرج إلينا، وإنها لإزاره، فجسَّها رجل من القوم فقال: يا رسول الله اُكسُنيها. قال: ((نعم)).
فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع، فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتَها إياه، وقد عَرفتَ أنه لا يرد سائلاً! فقال الرجل: والله ما سألتُها إلا لتكون كفني يوم أموت.
نعم، إنه e لا يرد سائلاً، ويجود حتى بما هو أحوج الناس إليه.
هو البحر من أيِ النواحي أتيتَه فلُجتُه المعروف والبحرُ ساحله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
‏ولو لم يكن في كفه غيرُ روحه ‏ ‏لجاد بها فليتق الله سائلُه
هذا بعض خلقه e ، يقول عنه جابر t : ما سئل النبي e عن شيء قط؟ فقال: لا.
ومن كرمه وجوده e أنه في يوم حنين جاءه رجلٌ فسأله غنماً بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه، فقال: أي قومِ أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر! فقال أنس: إن كان الرجل ليُسلِم، ما يريدُ إلا الدنيا، فما يسلمْ حتى يكونَ الإسلام أحبَ إليه من الدنيا وما عليها.
ويذكر ابن عساكر أن صفوان بن أمية سار يوم حنين بين الغنائم ، فجعل ينظر إلى شِعب ملاء نِعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه، ورسول الله e يرمُقه فقال النبي: ((أبا وهب، يعجبُك هذا الشِعب؟)) قال: نعم. فقال e: ((هو لك وما فيه)). فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفسُ نبي، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
لقد أسلم صفوان لما رآه من جود النبي e، فرأى في كرم كفه وفيضِ عطائه وطيبةِ نفسه بهذا العطاء؛ ما يدل على نبوته ورسالته e.
وعطاؤه e ليس مرتبطاً بمصلحة شخصية، ولا يطرد بزيادة العلاقة مع المُعطى أو نقصاِنها، يقول عليه الصلاة والسلام: (( إني لأعطي الرجل، وغيرُه أحبُ إلي منه، خشيةَ أن يكبه الله في النار)).
ومن صور كرمه e ما رواه جابر بن عبد الله، قال: كنت مع النبيe في غزوة فقال لي: ((أتبيع ناضِحك (جملك) هذا بدينار، واللهُ يغفرُ لك؟)) قلت: يا رسول الله هو ناضِحكم، إذا أتيتُ المدينة (أي أنه يعطيه للرسول e بلا مقابل إذا وصلوا المدينة).
فقال e: ((فتبيعه بدينارين، واللهُ يغفر لك)) قال: فما زال يزيدني ديناراً ديناراً، ويقول مكان كل دينار: ((والله يغفر لك)) حتى بلغ عشرين ديناراً.
فلما أتيت المدينة أخذتُ برأس الناضح، فأتيت به النبي e، فقال: ((يا بلال، أعطه من الغنيمة عشرين ديناراً)) وقال: ((انطلق بناضحك، فاذهب به إلى أهلك)).
وفي رواية في مسند أحمد قال جابر: (فمررت برجل من اليهود، فأخبرته: قال: فجعل يعجب ، ويقول: اشترى منك البعير، ودفع إليك الثمن، ووهبه لك؟ فقلت: نعم).
وحُق له أن يعجب، رجل يشتري جملاً من آخر ، ويزيده في السعر، ثُم يعطيه ثمن البعير والبعير، فما هذا بمعهود بين الناس لا مألوف، إنه جود نبي أدبه ربه فأحسن تأديبه.
حلم النبي e
ومن عظيم أخلاقه وجمل خلاله e عفوه عمن ظلمه، وحِلمه على من جهل عليه، وذلك أن لاحظ لنفسه في نفسه. ((وما انتقم رسول الله e لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لم يكن النبي e سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً. كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ((ما له ترب جبينه)).
سئلت أمُ المؤمنين عائشةُ عن خلق رسول اللهe فقالت: ((لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئةَ، ولكن يعفو ويصفح).
وهذه الصفة من صفاته e مذكورة في الكتب قبل الإسلام، ففي البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن .. ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله. ويفتح بها أعيُناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقُلوباً غُلفاً).
وقد صدق t ، ففي السفر المنسوب إلى إشعيا: " هوذا عبدي الذي أَعضُده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعتُ روحي عليه، فيخرج الحق للأمم، لا يصيح، ولا يَرفع ولا يُسمع في الشارع صوتُه، قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السموات " (إشعيا 42/1-4)
ومن عفوه e وحِلمه أنه في يوم حنين أجزل العطاء لضعاف الإيمان يتألف قلوبهم للإسلام، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! يتهم رسول الله بالظلم والحيف.
يقول ابن مسعود: فأتيتُ النبي e فأخبرتُه، فغضب حتى رأيتُ الغضب في وجهه، ثم قال: ((يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
إنه يمتثل أمر ربه وهو يقول له: } فاصفح الصفح الجميل {(الحجر: 85).
جاء في السنن من حديث أبي هريرة أنه قال: كنا نقعد مع رسول الله e في المسجد حتى لما بلغ وسط المسجد أدركه رجل، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه e خشناً، فحمّر رقَبتَه، فقال: يا محمد، احمل لي على بعيريَّ هذين، فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك.
فقال رسول الله : ((لا، وأستغفر الله، لا أحملُ لك حتى تُقِيدني مما جبذتَ برقبتي)) فقال الأعرابي: لا والله لا أُقيدُك .
يقول أبو هريرة: فلما سمعنا قولَ الأعرابي أقبلنا إليه سراعاً، فالتفت إلينا رسول الله e فقال: ((عزمتُ على من سمع كلامي أن لا يبرح مقامَه حتى آذن له)).
ثم قال رسول الله e لرجل من القوم: ((يا فلان احمل له على بعير شعيراً، وعلى بعير تمراً)). ثم قال رسول الله لأصحابه: ((انصرفوا)).
قال السندي : "أراد أنه لكمال كرمه يعفو البتة، وفي أمثال هذه الأحاديث دليل على أنه لولا (أي: لو لم يؤت) المعجزات إلا هذا الخُلُق لكفى شاهداً على النبوة". } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{ (آل عمران:159).
ومن حلمه e أن أعرابياً جهل، فقام يبول في طرف المسجد، فقام إليه الصحابة ينتهرونه، فقال رسول الله e : ((لا تزرموه، دعوه)) فتركوه حتى بال.
ثم إن رسول الله e دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن))، ثم أمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه (فصبه) عليه.
قال النووي: "وفيه الرفق بالجاهل وتعليمُه ما يلزمُه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً".
ومن حلمه e أنه استدان من أحدهم ، فجاء الرجل إلى النبي e، فأغلظ له، فهمَّ به أصحاب النبي e. فقال عليه الصلاة والسلام معتذراً لسوء مقال الرجل وغلظته: ((إن لصاحب الحق مقالاً)) ثم قال لأصحابه: ((اشتروا له سناً))، فأعطوه إياه. فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنَّاً هو خيرٌ من سِنِّه. قال: ((فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أحسنَكم قضاءً)).
فلم يقابل رسول الله إساءة الرجل بمثلها، بل عفا عنه وصفح، ثم أحسن إليه، فرد خيراً مما أخذ، وهو في كل ذلك يمتثل أمر ربه ومولاه } وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { ( آل عمران: 134).
زهد النبي e
وهكذا فإن هذا الصفح وذلكم الحلم، إنما هما بعض أخلاق النبوة التي كساها الله نبيه وحبيبه e لتكون شاهداً آخر على نبوته ورسالته.
وإن من دلائل نبوته e زهادته في الدنيا وإعراضه عنها ترقباً لجزاء الله في الآخرة، ولو كان دعياً يفتري الكذب لما فرط في دنيا يفتري ابتغاء الكسب فيها، فإعراضُه e عن الدنيا وزهدُه في متاعها دليل نبوته ورسالته.
وأول ما نلحظه أنه e ما كان يطلب أجراً على نبوته من أحد، بل كان يقول بمثل ما قال إخوانه الأنبياء من قبل : } قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين { (ص: 86).
واستغناء الأنبياء عن أجر الناس وجزائهم دليل على نبوتهم، وأنهم يرقبون الأجر من الله، ولذا لما دعا مؤمن آل ياسين قومه للإيمان بأنبياء الله قال لهم: } قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ % اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ { (يـس: 20-21).
ودعونا نتأمل بعض صنيعه e وبعضَ ما أنزل الله إليه ، ثم ننظر هل هذا صنيعُ دعي كذاب، أم هو أدبُ النبوة وعبق الرسالة؟
لقد كان النبي e يؤثِر حياة الزهد، ويدعو الله أن يجعله من أهلها، فعن أنسِ بنِ مالك أن رسول الله e قال: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)).
وقد خيره ربه بين المُلكِ في الأرض وبين حياة الشظف والقِلة، فاختار شظف العيش زهادة منه في الدنيا وترفعاً على متاعها، ففي الترمذي من حديث أبي هريرة t أن ملَكاً نزل من السماء، فقال: يا محمد أرسلني إليك ربك. قال: أفملِكاً نبياً يجعلُك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال e: ((بل عبداً رسولاً)).
ودعونا نتأمل حياة النبي e وكيف كان يعيش في بيته e، فلكم بقي عليه الصلاة والسلام طاوياً على الجوع ، لا يجد ما يأكله، وهو رسولُ الله وصفوتُه من خلقه، روى البخاري من حديث أبي هريرة قال: (ما شبع آل محمد e من طعام ثلاثة أيام حتى قبض).
ورآه عمر t يتلوى من الجوع، فما يجد رديء التمر يسد فيه جوعته ، ثم رأى t ما أصاب الناس من الدنيا فقال: (لقد رأيتُ رسول الله e يظل اليوم يلْتَوي، ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه). والدقل هو التمر الرديء.
وحين يجد النبي e طعاماً فإنما يجد خبز الشعير فحسب، ففي السنن عن ابن عباس قال: (كان رسول الله e يبيت الليالي المتتابعةَ طاوياً، وأهلُه لا يجدون عشاء، وكان أكثرُ خبزِهم خبز الشعير). ومع ذلك فما كان يجد ما يشبعه منه.
وهذا الشعير الذي لم يشبع منه e كان من رديء الشعير لا من جيده، فقد كان غير منخول، سئل سهل بن سعد: هل أكل رسول الله e النقي (أي من الشعير)؟ فقال سهل: ما رأى رسول الله e النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله.
فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه (بللناه بالماء) فأكلناه.
ورضي الله عن أم المؤمنين عائشة، إذ تقول لابن أختها عروة : (ابنَ أختي، إنْ كنا لننظرُ إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثةَ أهلَّةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله e نار). فسألها عروة: يا خالةُ، ما كان يُعيشُكم؟ قالت: (الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله e جيران من الأنصار كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله e من ألبانهم، فيسقينا).
ويُدعى أبو هريرة t إلى شاة مصلية (مشوية)، فيأبى أن يأكل، ويقول: خرج رسول الله e من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.
يروي الشيخان في صحيحيهما أن امرأة وابنتاها دخلوا على أم المؤمنين عائشة يشكون الجوع، فماذا وجدوا في بيت النبي e؟ تجيبنا أم المؤمنين عائشة، فتقول: فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتُها إياها، فقسمَتَها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي e علينا، فأخبرته فقال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار)).
وفي مرة أخرى يأتي ضيف، فيطرق باب النبي e فلا يجد عليه الصلاة والسلام ما يضيفه، فيرسل إلى بيوته يسأل نساءه ، فلا يجد عندهن شيئاً سوى الماء، فما يجد رسول الله من سبيل إلى ضيافته إلا أن يطلب من أصحابه أن يضيِّفوه.
ومع ذلك كله فقد كان لسانه e لا يفتَر أن يطلب دوام حال الكفاف والزهادة ، فيقول داعياً ربه: ((اللهم ارزق آل محمد قوتاً)).
قال القرطبي : "معنى الحديث أنه طلب الكفاف , فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة , وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغِنى والفقر جميعاً".
وإذا تساءلنا عن أثاث بيت النبي e ، فإنه e ما كان يعيش إلا كسائر لأصحابه، أما وساده e فتصفه أم المؤمنين عائشة وتقول: (كان وسادة رسول الله e التي يتكئ عليها من أدم (جلد مدبوغ)، حشوها ليف).
وأما فراشه فحصير يترك أثراً في جنبيه، يقول ابن مسعود: نام رسول الله e على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاء (فراشاً) فقال: ((ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)).
ودخل عليه عمر t، فرآه مضطجعاً على حصير قد أثر في جنبه، ونظر ببصره في خزانة رسول الله e، فإذا فيها قبضةٌ من شعير نحو الصاع ، وقبضة أخرى من ورق الشجر في ناحية الغرفة.
قال عمر: فابتدرتْ عيناي (أي بالبكاء) فقال e: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟)) قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنتَ رسولُ الله وصفوتُه، وهذه خزانتك! فقال: ((يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟)) قلت: بلى.
ودخلت امرأة من الأنصار بيته e ، فرأت فراشه مثنية، فانطلقت، فبعثت بفراش فيه صوف إلى بيت النبي e، فلما رآه e قال: ((رديه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله عليّ جبال الذهب والفضة)) قالت عائشة: فرددته.
لقد كان e أزهد الناس في الدنيا، ممتثلاً أمرَ ربه الذي أمره أن يعيش عيشة الكفاف والزهد، وأمره أن يخير نساءه بين حياة الزهد معه وبين تسريحهن إلى بيوت أهلهن ، فاخترن جميعاً رضي الله عنهن البقاء معه على هذه الحال.
تقول عائشة : لما أمر رسول الله e بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: ((إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك))... ثم قال: إن الله عز وجل قال: } يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً % وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً { (الأحزاب: 28-29).
قالت: فقلت في أي هذا أستأمرُ أبوي؟ فإني أريد اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة.
قالت: ثم فعل أزواجُ رسول الله e مثلَ ما فعلتُ.
وتشكو إليه ابنته فاطمة رضي الله عنها ما تلقى في يدها من الرحى، وترجو أن يعطيها خادماً يخفف عنها ما هي فيه، فلا يجد الأب الحاني من نصيحة لابنته وزوجها أفضلَ من قوله: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشِكما أو أخذتما مضاجِعكما، فكبرا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم)).
وأدركت فاطمة معدِن أبيها ونوعه بين الرجال، وعرفت إيثاره الآخرة على الدنيا، فأتته ذات يوم بكِسْرةِ خبزِ شعير، فأكلها النبي e وقال: ((هذا أول طعام أكله أبوكِ منذ ثلاث)).
وصدق عمرو بن العاص حين خطب الناس بمصر فقال: (ما أبعد هديَكم من هدي نبيكم e ، أما هو فكان أزهدَ الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغبُ الناس فيها).
لقد كان عليه الصلاة والسلام أزهدَ الناس في الدنيا وزخارِفها ونعيمِها، ومِصداقُ ذلك فيما يرويه الشيخان من حديث أبي ذر، وفيه أن النبي e أبصر جبل أُحدٍ فقال: ((ما أحب أنه تَحوَّل لي ذهباً، يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاث، إلا ديناراً أرصدُه لدَين)) ثم قال: ((إن الأكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم)) وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله، أي يفرقه.
وراودته الجبال الشمّ من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم
وتروي لنا عائشة من خبرهe عجباً، فتذكر أنه كان في بيتها بعضُ قطعٍ من ذهب، فقال رسول الله e: ((ما فعلتْ الذهبُ)) فقالت عائشة : هي عندي، فقال: ((ائتيني بها)).
تقول عائشة: فجئت بها، فوضعها في يده ثم قال بها (رماها) ، وقال: ((ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده، أنفقيها)).
وكيف لا يكون هذا حاله، وهو الذي أوصى أصحابه بالاقتصاد من الدنيا، فكان أسبقهم إلى ذلك يقول سلمان: (إن رسول الله e عهد إلينا عهداً أن يكون بُلغَةُ أحدنا من الدنيا كزاد الراكب).
وكان يقول: ((ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)).
فماذا ترك من الدنيا e حين غادرها؟ يقول عمرو بن الحارث أخو أمِ المؤمنين جويرية قال: (ما ترك رسول الله e عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة).
ويروي الإمام أحمد في مسنده أن النبي e مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير.
وكما زهد النبي e عن الدنيا زمن حياته، فإنه لم يبتغ جر نفع من منافعها إلى أهله وذويه بعد موته ، فإنه e لا يبتغي أن يجر لأهله شيئاً من زخارفها، لذا قال e : ((لا نورّث، ما تركناه صدقة)).
وهكذا فإنه يحق لنا أن نتساءل عن الكسب الذي جناه النبي e من نبوته، فإنه عاش عيشة المساكين التي تمناها ودعا الله بها، فكان طعامُه خشنُ الشعير، ورديءُ التمر، إذا ما تيسر له ذلك، وأما وساده وفراشه e فهما دليلٌ آخرُ على استعلاء النبي e على الدنيا التي هجرها e بإرادته، كيف لا وهو e ينصح لأمته، فيقول: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
تواضع النبي e
وإن من دلائل نبوته e ما اتصف به e من التواضع في الدنيا على جلالة قدره عند الله ورفعة مكانته عند مولاه.
وشواهد ذلك كثيرة، منها ما يرويه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي رفاعة أنه دخل المسجد والنبي e يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب، جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه. قال: فأقبل علي رسول الله e، وترك خطبته، حتى انتهى إلي، فأُتي بكرسي حسِبتُ قوائمَه حديداً قال: فقعد عليه رسول الله e، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها.
قال النووي: " وفيه تواضع النبي e ورفقه بالمسلمين, وشفقتُه عليهم, وخَفْضُ جناحِه لهم".
ومن صور تواضعه e نهيُه أصحابَه عن إطرائه والمبالغة في مدحه، ففي صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب أن النبي e قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم ، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه)).
ودخل عليه رجل فقال: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسول الله e: ((يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )).
وحين شرع الصحابة في حفر الخندق لم يترفع النبي e عن العمل معهم في الحفرِ ونقلِ التراب، يقول البراء بن مالك: كان النبي e ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، ولقد رأيته وارى الترابُ بياضَ بطنه يقول:
لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزِلَنْ سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
وحين انطلق الصحابة إلى غزوة بدر، كانوا يتعاقبون، كلُّ ثلاثةِ نفرٍ على بعير، وكان صاحبا النبي e في الركوب عليٌّ وأبو لبابة قال ابن مسعود: وكان إذا كانت عُقْبَة النبي e (أي إذا انتهت نوبة النبي في الركوب) قالا له: اركب حتى نمشي عنك. فيقول لهما e: ((ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكُما)).
ومن تواضعه e كراهيتُه لكل مظاهر الكِبْر والتميز عن الناس، ومنه كراهيته أن يقوم له أصحابُه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره ذلك ويمنعهم منه، يقول أنس: (ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله e ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلموا من كراهيته لذلك).
وأيضاً ما كان e يحب أن يقف أحد فوق رأسه كما يُفعل للملوك ، فقد روى مسلم من حديث جابرٍ أن رسول الله e صلى في مرض وفاته قاعداً، وصلينا وراءه .. فالتفت إلينا، فرآنا قياماً ، فأشار إلينا، فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً ، فلما سلم قال: ((إن كدتم آنفاً لتفعلون فِعل فارسَ والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا؛ ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً)).
ومن صور تواضعه e وهو أعظم خلق الله قاطبة؛ أنه كان إذا استقبله الرجل فصافحه، لا ينزِع يده من يده حتى يكون الرجل ينزِع، ولا يصرف وجهَه عن وجهِه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفُه، ولم يُرَ مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له).
وكان e يجيب دعوة الداعي، كائناً ما كان طعامُه، يقول e : (لو دعيت إلى كُراع لأجبتُ، ولو أهدي إليّ كُراعٌ لقبِلت). والكُراع ما دون كعب الدابة.
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على حُسنِ خلُقِه e ، وتواضُعِه وجبرِه للقلوب".
ورغم زحمة وقته وشرف منزلته؛ فإنه e ما كان يأنف من كثير مما يأنف منه الناس، فلا يجد حرجاً أن يمشي في حاجة الضعفاء ويسعى في قضاء أمورهم ، ففي سنن النسائي من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله eيكثِر الذكر ويُقِل اللغو ويطيل الصلاة ويقصِّر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضيَ له الحاجة).
وعن أنسِ بن مالكٍ أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة فقال: ((يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضيَ لك حاجتَكِ)). قال أنس: فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها.
لكن تواضعه e ما كان ليمنع هيبته في صدور الناس وهم يقفون بين يديه e، يروي ابن ماجه عن أبي مسعودٍ t أن رجلاً أتى النبي e، فكلمه، فجعل ترْعَد فرائصُه، فقال له e: ((هون عليك، فإني لست بملكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ تأكل القديد (اللحم)).
وتواضعه e ليس خلقاً يتزين به أمام الناس، بل هو خُلَّة شريفة لم تفارقه حتى وهو في بيته وبين أهله، فقد سُئلت عائشة: ما كان e يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله تعني: خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية لأحمد: (كان بشراً من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويخدِمُ نفسَه).
ولقد خيره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملِكاً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً ، فعن أبي هريرة t أن النبي e حكى عن ملك نزل إليه، فقال: يا محمد، أرسلني إليك ربُك قال: أفملِكاً نبياً يجعلُك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل عبداً رسولاً)).
تعبده لربه وخوفه منه
وإن من دلائل نبوته وأمارات صدقه e ما رأينا من تعبده لله تعالى وخشيته منه، ولو كان دعياً لما تعبد لله، ولما أتعب نفسه، ولا ألزمها ضروب العبادة التي قرحت رجليه، بل لكان صنع ما يصنعه سائر الأدعياء من مقارفة الشهوات واستحلال المحرمات ، فكل ما اشتهى الدعي أمراً صيره ديناً وشرعة، ومن ذلك ما فعله مسيلمة الكذاب، فقد أحل لأتباعه الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة ، فتكاليف الشريعة لا يطيقها الأدعياء، لذا سرعان ما يتخلصون منها.
أما النبي e فكان أعبدَ الناس لله وأخوفَهم منه بما عرف من عظمته وقوته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما اتقى)).
وشواهد خوف النبي e من الله وتعبده لله كثيرة، منها ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شِبت؟ فقال e : ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)) .
قال الطيبي: "وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمَثُلات النوازل بالأمم الماضية أخذ مني مأخذه، حتى شبتُ قبل أوانه". فالذي شيب رسول الله ما قرأه في هذه السور من الأهوال التي يرهبها الأتقياء العارفون بربهم، الذين قدروه حق قدره.
وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وجَلَه e من ربه، فتقول: ما رأيت رسول الله e مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواتِه، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه. فقلت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عُرف في وجهك الكراهية! فقال e: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: } هذا عارض ممطرنا { (الأحقاف: 24) )).
وذات ليلة يرى النبي e في منامه أخبار الفتن وهو في بيت أم سلمة ، فيأمر بأن تستيقظ نساؤه، وأن يقمن لقيام الليل فزعاً وتعوذاً مما يأتي من الفتن ، تقول أم سلمة: فاستيقظ رسول الله e فزِعاً، يقول: ((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات، يا رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة)).
وفي مرة أخرى جلس النبي e يتلوى في آخر الليل، لا يجد الكرى إلى عينيه سبيلاً، فما الذي أرقه e؟
يجيبنا عبد الله بن عمرو، فيقول: كان رسول الله e نائماً، فوجد تمرة تحت جنبه، فأخذها فأكلها، ثم جعل يتضور من آخر الليل، وفزع لذلك بعض أزواجه فقال: ((إني وجدت تمرة تحت جنبي، فأكلتها، فخشيت أن تكون من تمر الصدقة)). إن الذي أرق النبي e خوفَه أن تكون التمرة التي أكلها من تمر الصدقة.
ودعونا نتأمل بعضاً من عبادة النبي e لربه، لنرى إن كان مثلُ هذا يصدر عن دعي يكذب على الله ويضل الناس باسمه، وحاشاه e أن يكون دعياً، فما من دعي يكذب على ربه يجهد نفسه بالعبادة له.
تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي e في ليله، فتقول: كان النبي e يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال e: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
وتصف عائشة رضي الله عنها صفة صلاته e، فتقول: (كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، يسجد السجدة من ذلك قدرَ ما يقرأ أحدُكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة).
ويصف علي t حاله eفي يوم بدر حين تعب الصحابة وأسلموا أعينهم للنوم، فيقول: (ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله e تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح).
وتكرر بكاؤه e وهو يتضرع بين يدي ربه عارفاً قدرَه وراجياً فضله، يقول عبد الله بن الشِّخِّير t قال: (أتيت رسول الله e وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجَل [أي القِدر] من البكاء).
لقد كان eكما وصفه ربه } إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه { (المزمل:20)، فهل سمعت الدنيا عن مدع للنبوة يقوم نصف ليله يتضرع لربه ويبكي بين يديه.
وأما صومه e ، فكان يداوم على صيام يومي الإثنين والخميس تقرباً إلى ربه وابتغاء رضاه، فعن أبي هريرة t أن رسول الله e قال: ((تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) .
ولم يكن صيامه هذا فحسب ، لا بل كان e يصوم الأيام المتتابعة ، يقول أنس t: (كان رسول الله  e يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئاً، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تَشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته).
وما كان e يفوِّتُ على نفسه الصوم في أيام الصيف الهواجر، يبتغي في ذلك الأجر من ربه، يقول أبو الدرداء t : (كنا مع رسول الله e في سفر، وإن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما منا صائم إلا رسولُ الله e وعبدُ الله بنُ رواحة).
وهكذا فإن النبي e لم يتوانى عن عبادة ربه، بل امتثل أمر ربه ومولاه: } واعبد ربك حتى يأتيك اليقين { (الحجر: 99)، ولو كان دعياً لأراح نفسه وأحبابه من جهد القيام في الليل وتفطُرِ الأقدام، ومن الصيام في الهواجر، لكن هيهات، كيف يريح نفسه وربه يأمره } فإذا فرغت فانصب % وإلى ربك فارغب { (الشرح: 7-8).