محمد رسول الله

سيرة سيد الخلق

صلى الله عليه وسلم

 

إهداء الكتاب

 

 

- بكل خضوع وخشوع أقدم كتابي هذا إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى من أنزل عليه الفرقان . ونشر لواء الإسلام . وعلم الخلق كيف يعملون لدنياهم الفانية وآخرتهم الباقية

إلى نور الهدى الذي بلغ من حسن الخلق ورجحان العقل وثبات العقيدة غاية ليس وراءها مطلع لناظر ولا نهاية لمستزيد ولا فوقها مرتقى لهمة . من أثنى عليه رب العالمين فقال : { وإنك لعلى خلق عظيم }

هذه يا رسول الله سيرتك الطاهرة العاطرة أرجو أن تنال عطفك وتحظى برضاك . فإني لم أرد غير وجه الله الكريم والتبرك برسوله الأمين . وخدمة المسلمين أجمعين

 

 

المقدمة

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي العربي الأمي الأمين الذي سطعت أنواره من مكة المكرمة فأضاءت الأنام وبددت جحافل الظلام ومحت الوثنية ومحقت الأصنام وثبتت بفضل جهوده دعائم الوحدانية وأسس الإيمان وانتشرت الفضائل بالاقتداء بسيرته والاهتداء بتعاليمه

وبعد فهذه قطرة من بحر السيرة النبوية عنيت بتأليفها وتنسيقها لتكون درسا ومرجعا لطلاب التاريخ الإسلامي . وقد بذلت المجهود في البحث والتنقيب والاطلاع على ما ألف في هذا الموضوع المترامي الأطراف الذي قضى العلماء فيه أعمارهم من قديم الزمان إلى الآن واستعنت بأوثق المصادر وحققت ما وجدت من خلاف وجمعت شمل ما تشتت في بطون الأسفار فلم أقتصر على كتب السير وهي تفوق حد الكثرة بل اعتمدت أيضا على تفاسير القرآن الشريف وكتب الحديث الموثوق بها وتراجم الصحابة رضوان الله عليهم ومعاجم اللغة وساقني البحث إلى مطالعة كتب المستشرقين في السيرة النبوية للوقوف على طرائق بحثهم وسردهم الحوادث ومواطن شبههم واعتراضاتهم فمنهم المنصفون وهم الأقلون وقد استشهدت بآرائهم في الدفاع عن صاحب الشريعة ومنهم المعتدلون لكن لا تخلو تعليقاتهم من اعتراضات ومغامز خفية وشبهات لا يستطيع ردها إلى الصواب من الوجهة التاريخية إلا من درسها ودرس معها التاريخ الإسلامي بتوسع من مصادره الأصلية وينابيعه الصافية ومنهم من لا هم له إلا الطعن بدافع التعصب والحقد كزمرة المبشرين الذين لا يبغون غير إفساد العقائد وهؤلاء لا يمكن أن نسميهم علماء محققين بل هم في الواقع تجار مضللون فقد ينسب الواحد منهم إلى الإسلام ورسوله الكريم من الخرافات والمفتريات ما لا أصل له إلا في مخيلته ومخيلة كل متعنت نغرض ولذا اضطررت بعد أن وقفت على حقائق التاريخ الإسلامي أن أترجم إلى قراء العربية بعض هذه الشبهات والاعتراضات ورددت عليها من المصادر الصحيحة ردودا يضمحل أمامها كل شبهة ويزول كل شك حتى تتطهر النفوس من أدران الشبهات وتعود إلى الهدى وتسلك المحجة الواضحة ولا يخفى أن ترك هؤلاء المتعصبين الحانقين على الإسلام أو المتجرين باسم الذين يلقون بذور الفساد وينشرون المفتريات والاعتراضات من غير أن ينهض من يذود عن الحقائق بسلاح العلم الصحيح وإقامة الحجج الناصعة والبراهين القاطعة تهاون وتقصير يجب أن ينزه عنهما كل من آتاه الله عقلا راجحا

إن الينابيع التي تسقى منها السيرة النبوية واقية لكنها مع ذلك مشتتة في بطون كتب التواريخ العامة والأدب واللغة والطب والفلك فقد تعثر فيها على بحوث قيمة قد لا توجد في كتب السير فلقطف هذه الثمار لا بد من البحث والاطلاع بصبر وتأن وهذا يحتاج إلى جهد شاق ووقت طويل

أما كتب السير نفسها فهي على ما يعلم كل باحث ومحقق غير مرتبة ترتيبا يسهل على الطالب العثور على بغيته من ضبط تواريخ الوقائع والحوادث وتسلسلها ومعرفة مواقع البلدان والأماكن والوقوف على سير الرجال بصورة واضحة جلية وهي إما مطولة تطويلا مملا أو مختصرة اختصارا مخلا

تلك الكتب تنقصها الفهارس الوافية التي لا يخلو منها كتاب حديث فهارس بأسماء الرجال والقبائل والنساء والأماكن . هذا غير الفهرس العام بالموضوعات وقد قمت بتحريره وترتيب هذه الفهارس بأنواعها لسهولة البحث والمراجعة إذ قد لا يتسع وقت الباحث في موضوع خاص لتلاوة الكتاب من أوله إلى آخره

أضف إلى ذلك ما في السير من الحشو والخروج عن الموضوع والتضارب والاختلافات التي لا يخلو منها كتاب والتي لا يكاد يستخلص القارئ منها واقعة صحيحة أو رأيا قاطعا يرتاح إليه

هذه حالة المؤلفات العربية التي بين أيدينا . وقد تعرض بعض المصنفين في العصر الحاضر إلى تحليل شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تحليلا نفسيا باعتبار أنه شخص عادي إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الشطط وطمس الحقائق التاريخية وتشويهها لأن سيرة رسول الله ليست كسيرة أي فرد من الأفراد أو عظيم من العظماء ممن يطبق على حياتهم وسلوكهم أصول علم النفس ويحكم عليهم بمجرد الرأي والملاحظة . نعم إنه عليه الصلاة والسلام إنسان لكنه إنسان ممتاز بلغت عظمته الكمال البشري فلا يمكن مقارنته بغيره من عظماء القادة والزعماء . إنسان اختاره الله سبحانه وتعالى واصطفاه لتبليغ رسالته للناس كافة وأنزل عليه الوحي وأتى بمعجزات خارقة للطبيعة يقف أمامها العقل البشري حائرا لا يفقه لها تعليلا . ولا يزال العقل عاجزا عن إدراك كنهها وكيفية وقوعها بالرغم من تقدم العلوم والاكتشافات الحديثة

ولا يفوتني أن أذكر أن التاريخ لا يعتبر الآن كما كان في سالف الأزمان قصصا تكتب وتتلى بل أصبح علما يدرس كما تدرس العلوم المؤسسة على البحث والتحقيق

إن للعلماء السابقين مزيد الفضل فقد حرصوا على تدوين الأحاديث النبوية وتحروا صحتها وألفوا السير فاغترفنا من مناهلهم العذبة وقطفنا من ثمار مجهوداتهم الصادقة

وها أنا ذا أتقدم بهذا الكتاب إلى العالم الإسلامي راجيا المولى جل شأنه أن أكون بعملي هذا قد أديت بعض الواجب علي نحو سيدي وحبيبي رسول الله ونحو الدين الحنيف دين الطهر والتوحيد والأخلاق الفاضلة

ثم أتقدم بالشكر الخالص للفاضلين عبد العزيز أفندي الحلبي ومحمد أفندي الحلبي لعنايتهما بطبع الكتاب طبعا متقنا وتولى نشره في العالم الإسلامي . جزاهما الله خير الجزاء وأشكر جميع أصدقائي الذين أبدوا غيرتهم واهتمامهم لإظهار الكتاب حبا منهم في العلو وخدامه

محمد رضا

 

 

[ متن الكتاب ]

 

 

نسبه صلى الله عليه وسلم

 

 

- هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ( 1 ) بن قصي ( 2 ) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ( 3 ) بن غالب بن فهر ( 4 ) بن مالك بن النضر ( 5 ) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس ( 6 ) بن مضر ( 7 ) بن نزار ( 8 ) بن سعد ( 9 ) بن عدنان ( 10 )

إن نسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان كما هو مذكور ههنا . إنما اختلف النسابون من عدنان إلى إسماعيل لكنهم أجمعوا على أنه ينتهي إلى إسماعيل . وكره الإمام مالك رفع النسب إلى آدم وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال " ههنا كذب النسابون "

ومضر وربيعة هم صريح ولد إسماعيل باتفاق جميع أهل النسب

_________

( 1 ) مناف اسم صنم أضيف " عبد " إليه كما يقولون عبد يغوث وعبد العزى وعبد اللات

( 2 ) قصي يقال اسمه زيد ويقال اسمه مجمع

( 3 ) لؤي تصغير لأي وهو الثور الوحشي وقد يكون تصغير لأي وهو البطء . والمشهور فيه الهمز

( 4 ) فهر : الحجر على مقدار ملء الكف يذكر ويؤنث

( 5 ) النضر الذهب الأحمر

( 6 ) إلياس مختلف فيه فمنهم من يقول اليأس موافق للذي هو خلاف الرجا وهو مصدر يئس وبعضهم يقول فيه إلياس بكسر الهمزة

( 7 ) مضر : الأبيض مشتق من اللبن الماضر وهو الحامض

( 8 ) نزار من النزارة وهي القلة

( 9 ) معد من تمعد إذا أشتد

( 10 ) عدنان مأخوذ من عدن في المكان إذا أقام فيه ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود

 

 

مناقب أجداده صلى الله عليه وسلم

 

 

- النبي صلى الله عليه وسلم من سلالة آباء كرام وكلهم سادة وقادة ولهم مكان مكين ومقام بين العز عظيم وقد اشتهروا بالحكمة والشجاعة والإقدام والكرم كما يتبين ذلك من ن ؟ ؟ ذكره بالاختصار من مناقبهم وأخبارهم

فقد كان ( معد ) صاحب حروب وغارات على بني إسماعيل ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر

وكان ( نزار ) أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا

وكان ( مضر ) جميلا كذلك ولم يره أحد إلا أحبه ومن حكمه المأثورة : " خير الخير أعجله فاحملوا أنفسكم على مكروهها واصرفوها عن هواها فيما أفسدها فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق " والفواق ما بين الحلبتين . ومضر أول من حدا للإبل وكان من أحسن الناس صوتا

وكان ( إلياس ) في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه ومن حكمه : " من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة "

وأما ( فهر ) فإليه جماع قريش وما كان فوق فهر فلا يقال له قرشي بل يقال له كناني واسمه قريش وكان فهر كريما يفتش على حاجة المحتاج فيسدها بماله وهو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح

( كعب ) وهو الجد الثامن لعمر بن الخطاب . كان يجمع قومه يوم العروبة أي يوم الرحمة وهو يوم الجمعة فيعظهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وينبئهم بأنه من ولده ويأمرهم باتباعه

( مرة ) وهو الجد السادس لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجد السادس أيضا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي مرة أيضا يجتمع نسب الإمام مالك بنسب الرسول صلى الله عليه وسلم

و ( كلاب ) اسمه حكيم وقيل عروة . ولقب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب وهو الجد الثالث للآمنة أمه صلى الله عليه وسلم فهو ملتقى نسب أبيه بنسب أمه . وقيل أنه أول من سمى الأشهر العربية المستعملة إلى الآن

و ( قصي ) اسمه زيد ويقال له مجمع وبه جمع الله القبائل من قريش في مكة بعد تفرقها فأنزلهم أبطح مكة وكان بعضهم في الشعاب ورءوس الجبال بمكة فقسم منازلهم فسمى مجمعا وهذا عمل جليل وفضل عظيم لا يتم إلا على يد ذوي النفوس الأبية والهمم العالية . وقصي أول من أوقد نار المزدلفة وكانت توقد حتى يراها من دفع من عرفة

وله يقول مطرود وقيل إن قائله حذافة بن غانم

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر

وكان إلى قصي في الجاهلية حجابة البيت وسقاية الحاج وإطعامه المسمى بإرفادة والندوة وهي الشورى لا يتم أمر إلا في بيته ولا يعقد عقد نكاح إلا في داره ولا يعقد لواء حرب إلا فيها فكان بيته عبارة عن برلمان للعرب بل هو ملجأهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أو شخصية

ولما حضرته الوفاة نهى بنيه عن الخمر ولا بد أنه أدرك مضرتها فنهى أحب الناس إليه عن احتسائها

ومن كلامه الدال على تجاربه ورجاحة عقله :

من أكرم لئيما شاركه في لؤمه . ومن استحسن قبيحا ترك إلى قبحه . ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان . ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان . والحسود هو العدو الخفي

وإذا كنا نحكم على الإنسان بكلامه فهذا يدل على أن قصيا كان يبغض اللؤم والقبح بغضا شديدا وكان شجاعا كارها للغرور والحسد

و ( عبد مناف ) اسمه المغيرة وكان يقال له " قمر البطحاء " لحسنه وجماله وكانت قريش تسميه الفياض لكرمه وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع للإمام الشافعي

( هاشم ) واسمه عمرو بن عبد مناف ويقال له عمرو العلا لعلو رتبته وقد ساد قومه بعد أبيه عبد مناف وقد وقعت مجاعة شديدة في قريش بسبب جدب شديد حصل لهم فخرج هاشم إلى الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر جزرا ( 1 ) وجعل ذلك ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمى بذلك " هاشما " وكان يقال له " أبو البطحاء " و " سيد البطحاء " - والبطحاء مسيل الوادي - ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء وكان موسرا يؤدي الحق ويؤمن الخائف . وهو أول من سن الرحلتين لقريش : رحلة الشتاء ورحلة الصيف فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة وفي الصيف إلى الشام

( عبد المطلب ) وأمه سلمى بنت زيد النجارية . واسم عبد المطلب شيبة الحمد لأنه ولد وله شيبة مع رجاء حمد الناس له . وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال وهذا إحساس لطيف ورفيق بالحيوان الأعجم ولذا كان يقال له " مطعم الطير " ويقال له " الفياض " . وكان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور وشريفهم وسيدهم كمالا وفعالا . عاش مئة وعشرين سنة أو أكثر وقد انتهت إليه الرياسة بعد عمه المطلب . وكان يأمر أولاده يترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور . ورفض عبد المطلب في نهاية عمره عبادة الأصنام ووحده لله . وقال دغفل النسابة أن عبد المطلب كان أبيض . مديد القامة . حسن الوجه . في جبينه نور النبوة وعز الملك . يطيف به عشرة من بنيه كأنهم غاب

وهو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل وأقام سياتها [ سياقتها ؟ ؟ ] للحجاج فكانت له فخرا وعزا على قريش وعلى سائر العرب

وكان يكرم النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه وهو صغير ويقول " أن لابني هذا لشأنا عظيما " وذلك مما كان يسمعه من الكهان والرهبان قبل مولده وبعده . وكانت كنية عبد المطلب " أبا الحارث " كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور اسمه الحارث

_________

( 1 ) جزر جمع الجزور من الإبل يقع على الذكر والأنثى

 

 

أولاد عبد المطلب : أعمام رسول الله وعماته

 

 

- أولاد عبد المطلب عشرة ذكور : عبد الله . أبو طالب " واسمه عبد مناف " الزبير ( أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية ) . العباس . ضرار ( أمهما نتيلة العمرية ) حمزة . المقوم ( أمهما هالة بنت وهب ) أبو لهب وهو عبد العزى ( أمه لبنى الخزاعية ) الحارث ( أمه صفية من بني عامر بن صعصعة ) الغيداق ( أمه ممنعة ) واسمه حجل

وست نسوة هن : صفية وأم حكيم البيضا وعاتكة وأميمة وأروى وبرة ( 1 ) أما ( عبد الله ) فهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكنى أبا قثم وقيل أبا محمد وقيل أبا أحمد

وقيل أن عبد المطلب أول من خضب بالوسمة أي السواد لأن الشيب أسرع إليه وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر وكان صعوده للتخلي عن الناس يتفكر في جلال الله وعظمته

ويؤثر عن عبد المطلب سنن جاء القرآن وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والحد عليه وأن لا يطوف بالبيت عريان وتعظيم الأشهر الحرم

وكان نديمه في الجاهلية حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي . ثم نادم عبد الله بن جدعان التيمي

_________

( 1 ) لم يسلم من أعمام رسول الله إلا حمزة والعباس وسلمت عمته صفية إجماعا وعي أم الزبير بن العوام وعاشت كثيرا وتوفيت سنة عشرين في خلافة عمر بن الخطاب ولها ثلاث وسبعون سنة

 

 

نذر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

- كان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت ( 1 ) في حفر بئر زمزم لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعونه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى . وقد ارتاب بعضهم في حكاية هذا النذر لكنا لا نرى مندوحة من ذكرها لأنها وردت في أمهات كتب التاريخ التي استقينا منها فقد رواها ابن إسحاق ونقلها الطبري وابن الأثير وطبقات ابن سعد

لما بلغ أولاد عبد المطلب عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا كيف نصنع ؟ قال يأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه . ففعلوا وأتوه بالأقداح فدخلوا على هبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة فقال عبد المطلب لصاحب القداح اظرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم أليه فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى ثم طرب صاحب القداح فخرج قدح عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى ( أساف ونائلة ) وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما . فقامت قريش من أنديتها فقالوا ماذا تريد أن تصنع ؟ قال أذبحه . فقالت قريش وبنوه والله لا ندعك تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه . فقال له المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن المخزوم : والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه . وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته وأن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته . فانطلقوا حتى أتوها بخيبر فقص عليها عبد المطلب خبره فقالت لهم ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت نعم قد جاءني الخبر فكم دية الرجل عندكم ؟ قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك . قالت ارجعوا إلى بلادكم فزيدوا في الإبل عشرا ثم اضربوا أيضا حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم

فخرجوا حتى أتوا مكة ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله فما برحوا يزيدوا عشرا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل . فقال من حضر قد رضي ربك يا عبد المطلب . فقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب ثلاث مرات فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع

إن خروج القداح على عبد الله في كل مرة حتى بلغت الإبل مئة من غرائب الصدف ولولا معارضة قرش وبنيه ومشورة الكاهنة لذهب عبد الله فربانا لنذر عبد المطلب ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ أبا محمد حتى يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد التجأ عبد المطلب إلى هذا النذر لما عارضه عدي بن نوفل بن عبد مناف في حفر زمزم وأذاه وقال له : " ا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك ؟ " فقال " أبا لقلة تعيرني فو الله لئن أتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة " وقيل سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما فاشتد بذلك بلواه وكان معه ولده الحارث ولم يكن له سواه فنذر ذلك النذر الذي ذكرناه

انصرف عبد المطلب بعد أن نحر الإبل آخذا بيد ابنه عبد المطلب فمر به على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله ؟ قال مع أبي قالت له مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن . فأبى وقال إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه وكان عبد الله أحسن رجل رؤى في قريش وكان ذا عفة وسماحة . وكانت ولادة عبد الله نحو سنة 545 م

_________

( 1 ) العنت : الوقوع في أمر شاق

 

 

زواج عبد الله

 

 

- خرج عبد المطلب بعبد الله يريد تزويجه حتى أتى بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب ( 1 ) وهو يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه نفسها فقال لها " مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ " فقالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة . وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر واتبع الكتب أنه كائن لهذه الأمة نبي . وكان تزويج عبد الله من آمنة بعد حفر زمزم بعشر سنين وكان اسم عبد الله عبد الدار فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب " هذا عبد الله " فسماه يومئذ كذلك

وبعد زواج عبد الله بقليل خرج من مكة قاصدا الشام في تجارة ثم لما أقبل من الشام نزل بالمدينة وهو مريض وبها أخواله من بني النجار فأقام بها حتى توفي لشهرين من الحمل بابنه محمد صلى الله عليه وسلم ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة وهذا هو المشهور . وقيل ثمان وعشرون سنة . وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية وخمسة جمال وقطعة من غنم . وقد رثته آمنة بهذه الأبيات :

عفا جانب البطاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم

دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم

عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم

فإن تك غالته المنون وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم

_________

( 1 ) تجتمع آمنة هي وعبد الله في كلاب

 

 

قصة الفيل

 

 

- من الحوادث المهمة التي وقعت عام مولده صلى الله عليه وسلم حوالي سنة 570 م قدوم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة لهدم الكعبة وهذه خلاصتها :

إن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار الملك إلى أبرهة بن الصياح الأشرم بنى كنيسة عظيمة بصنعاء يقال لها القليس ( 1 ) لم ير مثلها في زمنها بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النساءة من بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن ملك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر

النساءة الذين كانوا ينسؤون المشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهير من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } قال ابن هشام ليواطئوا ليوافقوا . . وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد الله بن فقيم . . . وأول الأشهر الحرم " محرم " . . فخرج الكناني حتى أتى القليس " الكنيسة " وتقوط فيها ليلا ثم خرج فلحق بأرضه فلما أخبر بذلك أبرهة غضب وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ( وسمى هذا العام بعام الفيل ) فلما وصل إلى الطائف بعد أن هزم من تعرض له من العرب بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وأحضرها إلى أبرهة وأرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثم قال له إن الملم يقول أني آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه ولا لنا بذلك منه طاقة . هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمته وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . ثم أنطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة هذا سيد قريض فأذن له . فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال له . حاجتك ؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتك أتكلمني عن مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل فأنصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش ( 2 ) وقد كانوا أكثر من قريش عددا . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه . فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

لا هم أن العبد يمنع رحله ... فامنع حلالك ( 3 )

لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... غدوا محلك ( 4 )

إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك

فما تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيه " محمودا " وهو مجمع لهدم البيت فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول . ويقال كان عدد الفيلة في هذه الموقعة ثلاثة عشر فيلا . وبينما هم كذلك أرسل الله طيرا أبابيل ( 5 ) أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمس والعدس ولا تصيب أحدا منهم إلا هلك . وليس كلهم أصابت . ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم منهم ولى هاربا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه وخرجوا به معهم تتساقط أعضاؤه حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقيل أو ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام . ولما مات أبرهة ملك مكانه يكسوم

ونظرا لأهمية هذا الحديث صار العرب يؤرخون به إذ لو تغلب أبرهة على قريش وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة وأرغم العرب على اعتناقها لأن اليمن كانت تابعة لأمراء الحبشة المسيحين وأرغم كثير من أهلها سواء من عباد الأصنام أو اليهود على اعتناق المسيحية . وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصى بن كلاب لجلالة قصى . فلما كان عام الفيل أرخت به

_________

( 1 ) القليس مشتق من قلس الشيء إذا ارتفع

( 2 ) معرة الجيش شدته

( 3 ) لا هم أصله " اللهم " فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما يبقى . والحلال بكسر الحاء جمع حله وهي جماعة البيت . والحلال بفتح الحاء خلاف الحرام

( 4 ) المحال اتقوه والشدة . والغدو أصله الغد

( 5 ) الأبابيل الجماعات ولم يتكلم لها العرب بواحد قال بعضهم واحده آبيل وآبول

 

 

مولده صلى الله عليه وسلم

 

 

- ولد النبي صلى الله عليه وسلم في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ( وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت ) في عام الفيل ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قياذ بن فيروز 20 أغسطس سنة ( 570 ) بمكة ( 1 ) في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج . وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ونزل على يد الشفا أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته رافعا بصره إلى السماء واضعا يده بالأرض وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب فذعر عبد المطلب وقال أليس بشرا سويا ؟ فقالت نعم ولكن سقط ساجدا ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها . وهو الذي سماه محمدا . . فقيل كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك فقال أني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم . وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق في تلك السنة . . . ومن عجيب ولادته ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة [ من ؟ ؟ ] شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستنين بالملك إلا أربعة عشر ملكا فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضي الله عنه . وغيض بحيرة طبرية وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر . ومن ذلك أيضا ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع . ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال :

ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف في الإشراق والطفل

وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل

ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل

خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجن بالشهب

وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم . قال اليعقوبي في تاريخه : " وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا الخ " . ويروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي يا أمير المؤمنين لا تهدم بناء هو آية الإسلام . وقال البوصيري في الهمزية :

وتدعى إيوان كسرى ولولا ... آية منك ما تداعى البناء

وغدا كل بيت نار وفيه ... كربة من خمودها وبلاء

وعيون للفرس غارت فهل كا ... ن ( كان ) لنيرانهم بها إطفاء

_________

( 1 ) كان علماء الجغرافيا من الإغريق يطلقون على اسم مكة ما كورابا Makoraba

 

 

الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم

 

 

- قال الإمام أبو شامة شيخ النووي : ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور . فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما من به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين

قال السخاوي : إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم

وقال ابن الجوزي : من خواصه إنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام

وأول من أحدثه من الملوك الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل وألف له الحافظ بن دحية تأليفا أسماه " التنوير في مولد البشير النذير " فأجازه الملك المظفر بألف دينار

وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا وقيل أنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار

وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد الله التنسي ثم التلمساني في كتابه راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه أنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابى مبثوثة وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبرا مذابا ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنة فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بامداح المصطفى عليه الصلاة والسلام ومكفرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح رفعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتصقها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة . هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حي على الفلاح . انتهى

وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده صلى الله عليه وسلم في جميع الأمم الإسلامية . وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين . وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر من ميدان باب الخلق أمام المحافظة ويسير قاصدا ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازا شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الأشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسميا في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يعرض الحامية المصرية على أثر وصوله ثم ينتقل إلى السرادق الملكي ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع تلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة وفي الصباح تعطل الحكومة وزارتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر

 

 

مرضعاته صلى الله عليه وسلم

 

 

- أول من أرضعه صلى الله عليه وسلم من النساء أمه آمنة ثم ثويبة الأسلمية جارية أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياما قبل قدوم حليمة وخولة بنت الأزور وأم أيمن وامرأة سعدية غير حليمة وثلاث نسوة من العواتك

وأكثرهن إرضاعا له حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود يلتمسون له مرضعة من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له فجاءت نسوة من بني سعد إلى مكة يلتمسن الرضعى ومعهن حليمة السعدية في سنة شديدة القحط فكل امرأة أخذت رضيعا الا حليمة وقد كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس الرضعاء . قالت وهي سنة شهباء ( 1 ) لم تبق لنا شيئا فخرجت على أتان لي قمراء ( 2 ) معنا مشارف ( 3 ) لنا والله ما تبض ( 4 ) بقطرة وما ننام ليلنا من صبينا ( 5 ) الذي معناه من بكائه من الجوع . ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج . فخرجت على أتان تلك فلقد أدمت ( 6 ) بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا ( 7 ) حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نتركه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا فقلت والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه . فقال لا بأس عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بكرة فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره فما أخذته رجعت به إلى رحلي فما وضعته في حجري أقبل على ثديي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا فإذا إنها لحافل ( 8 ) فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا فبتنا بخير ليلة وقال صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة فقلت والله أني لأرجو ذلك ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب ويحك أربعي علينا ( 9 ) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله إنها لهي فيقلن والله إن لها شأنا ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا ( 10 ) فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فلم نزل بها حتى ردته معنا

_________

( 1 ) سنة شهباء يعني الجدب والقحط لأن الأرض تكون في بيضاء

( 2 ) على أتان لي قمراء الأتان الأنثى من الحمير والقمراء التي في لونها بياض

( 3 ) المشارف - بضم الميم - : الناقة المسنة

( 4 ) ما نبض معناه لا ترشح

( 5 ) اسم هذا الصبي عبد الله بن الحارث وهو أخو رسول الله من الرضاعة وأخوته غيره أنيسة بنت الحارث وجذامة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على أسمها فلا تعرف في قومها إلا به وهم لحليمة

( 6 ) أدمت بالركب أي أطلت عليهم المسافة لتمهلهم عليها مأخوذ من الشيء الدائم

( 7 ) العجف بفتح العين والجيم الهزال

( 8 ) الحافل الممتلئة الضرع من اللبن

( 9 ) أربعي علينا أي أعطفي علينا بالرفع وعدم الشدة في السير

( 10 ) حتى كان غلاما جفرا . أي غليظا شديدا

 

 

شق الصدر

 

 

- قالت حليمة فرجعنا فوالله أنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا ( 1 ) خلف بيوتنا إذا أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه ( 2 ) قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منقعا وجهه ( 3 ) فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني ؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو ؟ قالت فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به ما ظئر ( 4 ) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين . قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها . قالت أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قلت نعم . قالت كلا : والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره ؟ قلت بلى . قالت رأيت حين حمله به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بصرى ( 5 ) من أرض الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وأنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء . دعيه عنك وانطلقي راشدة

كان أو ما شق صدره عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من عمره وقيل في الرابعة وذلك لتطهيره وإخراج حظ الشيطان منه ويقول مؤرخو الأفرنج ( 6 ) ومنهم الأستاذ نيكلوسن في كتابه أدب العرب صفحة ( 147 - 148 ) طبعة 1908 وكذا الأستاذ موير في كتابه حياة محمد : إن هذه نوبة صرعية وهذا مردود لأنه لم تشاهد فيه علامات الصرع طول عمره

وإلى قصة إرضاعه صلى الله عليه وسلم يشير الهمزية حيث يقول :

وبدت في رضاعه معجزات ... ليس فيها عن العيون خفاء

إذ أبته ليتمه مرضعات ... قلن ما في اليتيم عنا غناء

فأتته من آل سعد فتاة ... قد أبتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها ... وبنيها ألبانهن الشاء

أصبحت شولا عجافا وأمست ... ما بها شائل ولا عجفاء

أخصب العيش عندها بعد محل ... إذ غدا للنبي منها غذاء

يا لها منة لقد ضوعف الأج ... ر ( الأجر ) عليها من جنسها والجزاء

وإذا سخر الإله أناسا ... لسعيد فإنهم سعداء

_________

( 1 ) البهم بفتح الباء الصغار من الغنم واحدتها بهمة

( 2 ) فهما يسوطانه . يقال سطت اللبن والدم وغيرهما أسوطه إذا ضربت بعضه ببعض وحركته . واسم العود الذي يضرب به المسوط

( 3 ) منتقعا وجهه . أي متغيرا

( 4 ) يا ظئر . أصل الظئر الناقة التي تعطف على ولد غيرها فتدر عليه فسميت المرأة التي ترضع ولد غيرها ظئرا بذلك

( 5 ) بصرى بضم الباء مدينة من أرض الشام

( 6 ) [ يقول ذلك " بعض " مؤرخي الإفرنج من المعاندين . دار الحديث ]

 

 

الحض على قتله صغيرا

 

 

- وكانت حليمة كلما مر بها جماعة من اليهود وحدثتهم بشأنه صلى الله عليه وسلم حضوا على قتله ولكما عرضته على العرافيى [ العرافين ؟ ؟ ] في الأسواق صاحوا بقتله وكانوا يقولون اقتلوا هذا الصبي فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم . وعن حليمة رضي الله عنها أنه مر بها جماعة من اليهود فقالت ألا تحدثوني عن ابني هذا ؟ حملته أمه كذا ووضعته كذا ورأت عند ولادته كذا وذكرت لهم كل ما سمعته من أمه وكل ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلى نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته . فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض اقتلوه . فقالوا أو يتيم هو ؟ فقالت لا . هذا أبوه وأنا أمه . فقالوا لو كان يتيما قتلناه لأن ذلك عندهم من علامات نبوته . وعن حليمة أيضا رضي الله عنها أنها نزلت به صلى الله عليه وسلم بسوق عكاظ وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون . فلما وصلت حليمة به سوق عكاظ رآه كاهن من الكهان فقال يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا . فمالت به وحادت عنه الطريق فأنجاه الله . وقد رأت حليمة السعدية من النبي صلى الله عليه وسلم الخير والبركة وأسعدها الله بالإسلام هي وزوجها وبنيها

 

 

وفاة آمنة

 

 

- بعد أن ردت حليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه مرة إلى المدينة سنة 575 - 576 لزيارة أخواله من بني النجار أي أخوال جده عبد المطلب فمرضت وهي راجعة به وماتت ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة وعمره ست سنوات وكان عمر آمنة حين وفاتها ثلاثين سنة

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء في إلف مقنع فبكى وأبكى

فحضته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثنها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب بن هاشم الذي كان يحبه ويكرمه فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إلا لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه . فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم : " دعوا ابني فوالله إن له لشأنا "

ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع

وبوفاة أمه صار يتيما وقد أشير إلى يتمه في القرآن قال تعالى { ألم يجدك يتيما فآوى } وفي السنة التي استقل جده صلى الله عليه وسلم فيها بكفالته رمد رمدا شديدا

 

 

عبد المطلب يهنئ سيف بن ذي يزن

 

 

- لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غمدان بضم الغين فطلبوا الأذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئا ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافى وقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الإنصراف . ثم انتبه إليهم انتباهه فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه قوال : ( 1 ) " يا عبد المطلب أني مفوض إليك من علمي أمرا لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيت معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصونا حتى يأذن الله بالغ أمره . أني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي أرخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة "

قال عبد المطلب : " مثلك يا أيها الملك بر وسر وبشر ما هو ؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر "

قال ابن ذي يزن : " إذا ولد مولود بتهامة . بين كتفيه شامة . كانت له الإمامة . إلى يوم القيامة " . قال عبد المطلب : " أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا اجلال الملك لسألته عما ساره إلى ما أزداد به سرورا "

قال ابن ذي يزن : " هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد . يموت أبوه وأمه . ويكفله جده وعمه وقد وجناه مرارا . والله باعثه جهارا . وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه . ويذل به أعداءه . ويفتتح كرائم الأرض . ويضرب بهم الناس عن عرض . يخمد الأديان . وكسر الأوثان ويعبد الرحمن . قوله حكم وفصل . وأمره خزم وعدل . يأمر بالمعروف ويفعله . وينهي عن المنكر ويبطله "

فقال عبد المطلب : " طال عمرك . ودام ملكك . وعلا جدك . وعز فخرك . فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح ؟ "

فقال ابن ذي يزن :

والبيت ذي الطنب . والعلامات والنصب . إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب

فخر عبد المطلب ساجدا . قال ابن ذي يزن :

ارفع رأسك . ثلج صدرك . وعلا أمرك . فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟

فقال عبد المطلب :

أيها الملك . كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا . فزوجته كريمة من كرائم قومه . يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه

قال ابن ذي يزن :

أن الذي قلت لك كما قلت . فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فانهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا . أطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة . فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره فإني أجد في الكتاب الناطق العلم السابق أن يثرب دار هجرته وبيت نصرته ولولا أني أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حدائه ستة وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك

ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال :

إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره

فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن . فكان عبد المطلب بن هاشم يقول " يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إن نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقى . " فإذا قالوا له وما ذاك قال سيظهر بعد حين اه

وفي أسد الغابة أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره جده عبد المطلب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته

كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل وإليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575 م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فليس هناك اعترض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية . أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا

وقد اعترض الأستاذ " فيل " Weil على صحة القصة المتقدمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ " برسيفال " M . رحمه الله . de Perceval رد على إعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575 م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597 م . أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب ( الذي كان وقتئذ حاكم مكة ) تكذيبا باتا قال أن قصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالأخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها . على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الأخبار برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ما أخبره به سيف لعبد المطلب قاله بحيرا لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعني بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن لعبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لأولاده إذا نحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجلسه لصغره ( دعوا ابني فو الله إن له لشأنا )

_________

( 1 ) راجع الجزء الأول من العقد الفريد لابن عبد ربه والجزء الأول من تاريخ ابن عساكر

 

 

وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب

 

 

- لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات توفى جده عبد المطلب في مكة سنة 578 م بعد عام الفيل بثماني سنين وله عشر ومائة سنة وقيل أكثر من ذلك ودفن بالحجون جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه " أبي طالب " واسمه عبد مناف وعبد الكعبة وكان كريما لكنه كان فقيرا كثير الأولاد . وكان يرى منه صلى الله عليه وسلم الخير والبركة ويحبه حبا شديدا ولذا لا ينام إلا جنبه ويخرج به متى خرج وأوصى عبد المطلب إلى أبي طالب أيضا بسقاية زمزم وإلي ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وكان رسول الله يبكي خلف سرير جده

وفي هذه السنة مات حاتم الطائي وكسرى أنوشروان

وقد أخرج ابن عساكر عن جهلمة بن عرفطة قال :

قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب . فهلم فاستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة ( جمع غلام ) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بإصبعه ( اشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجئ ) وما في السماء قزعة ( قطعة من سحاب ) فأقبل السحاب من هنا وهنا وأغدق وأغدودق ( كثر مطره ) وانفجر الوادي وأخصب النادي . وفي ذلك يقول أبو طالب مادحا النبي صلى الله عليه وسلم :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

( الثمال ) بكسر المثلثة الملجأ والغياث وقيل المطعم في الشدة . ( عصمة للأرامل ) أي يمنعهم من الضياع والحاجة . هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب ( 1 ) . وقد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة وقد شاهده مرة أخرى قبل هذه فروى الخطابي حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس ( بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة ) . فقام عبد المطلب واعتضده صلى الله عليه وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله : " وأبيض يستسقي الغمام بوجهه " وكان الاستسقاء في الجاهلية الأولى بخاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واشتد الجدب واحتاجوا إلى الأمطار يجمعون لها بقرا معلقة في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر ( 2 ) ويصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون النار ويضجون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث

_________

( 1 ) ذكر القصيدة ابن اسحق وهي أكثر من ثمانين بيتا . ( 2 ) السلع والعشر نوعان من الشجر

 

 

السفر إلى الشام

 

 

- لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582 م فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان ببصرى راهب يقال له بحيرا في صومعة له . وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهبا إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته . فصنع لهم طعاما كثيرا وذلك عن شيء رآه من صومعته

فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصانها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها

فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش . فإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم . وعبدكم وحركم

قال له رجل منهم والله يا بحيرا إن لك شأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم ضعاما فتأكلون منه كلكم . فاجتمعوا وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة . فلما نظر بحيرا في القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي . قالوا يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك وهو أحدث القوم سنا في رحالهم . فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ثم قام إليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم . فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام بحيرا فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزي إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فأبى رسول الله أن يستحلفه بهما فقال له بحيرا ألا أخبرتني عما أسألك عنه ؟ فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة ( يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا ) فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك ؟ قال ابني . قال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ؟ فقال إنه ابن أخي . قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به . قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدامه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ( 1 )

إن بحيرا لما عرف رسول الله تخوف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعا والمحافظة عليه وقد روت حليمة أن اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حض بعضهم بعضا على قتله حتى أنها كانت تضطر إلى الإختفاء به والإبتعاد عنهم وعلى كل حال كانوا ينتظرون في ذلك الوقت ظهور نبي وكان بعض المتعمقين في الدين يعرفون علامات ذلك النبي وسنذكر فيما بعد أوصافه صلى الله عليه وسلم المذكورة في التوراة ولا شك أن عالما مثل بحيرا كان يعرفها

قال مستر وليام موير في كتابه ( حياة محمد ) بشأن رحلته صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام : " أن جميع الذين دنوا سيرة الرسول قد ذكروا تفاصيل مضحكة عن هذه الرحلة تدل على عظمة نبوته المنتظرة "

ثم أورد قصة سفره كما ذكرت في هذا الكتاب وكما ذكرها المؤرخون . وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير ؟ إنه يعترف بأن جميع المؤرخين رووا هذه التفاصيل ولا شك أنه يستسقي منهم سيرة الرسول . ومن بينهم من يعتمد عليه ويحتج بكلامه ويرفض ما يريد رفضه إذ لم تكن الحادثة أو الرواية واردة في كتبهم أو إذا طرأ تحريف في نص كلامهم فهو يعول مثلا على ابن اسحاق وعلى الطبري والواقدي وغيرهم . فكان الواجب عليه باعتبار كونه مؤرخا أن يقر هذه التفاصيل التي ذكرها جميع المؤرخين بلا استثناء . هذا وليس لديه رواية أثبت من روايتهم تعارض أو تنفي ما ذكروه . أما كون هذه التفاصيل مضحكة فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته . وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي . فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده صلى الله عليه وسلم وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث أثناء سفره إلى الشام تسمى أرهاصات والتي تقع بعد النبوة تسمى معجزات . وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء غير أنهم لم يدعوا النبوة . ولا شك أن محمدا صلى الله عليه وسلم وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها ولا سبيل إلى إنكار مجموع ارهاصاته ومعجزاته ( أولا ) من الوجهة التاريخية لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين ولو أبطلنا مشاهداتهم ورواياتهم لم يبق للتاريخ قيمة ( ثانيا ) من الوجهة الدينية لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء . فمن ذلك معجزات عيسى عليه السلام فإنه تكلم في المهد صبيا وأبرأ الأعمى والأبرص وأحيا الميت . ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين أن هذه أمور مضحكة

وفي العالم أناس ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها ولقد شاهدنا في مصر فتى أميا من أبناء أحد المزارعين ذاع صيته ونشرت الجرائد صورته . هذا الطفل يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم وقد رأيته شخصيا أكثر من مرة وحار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة . فهذا إنسان عادي له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة . فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حيا بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل ؟

فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون لم يغير ذلك شيئا من الحقيقة

_________

( 1 ) راجع قصة بحيرا في سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد ولا صحة لما زعمه الدكتور اشنرنجر من أن أبا طالب رد محمدا مع بحيرا إلى مكة " Life

P . 79 " عز وجلr . Sprenger

 

 

من هو بحيرا ؟

 

 

- لا ريب أن بحيرا الذي مر ذكره كان راهبا مسيحيا في الشام في ذلك الوقت وقد ذكر في الآداب البيزنطية أنه راهب نسطوري على مذهب أريوس ونسطور وكان ينكر لاهوت المسيح ويقول أن تسميته بآله غير جائزة بل يجب أن يدعى كلمة وأن تدعى والدته مريم والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي لا والدة الله وكان بحيرا قسا عالما فلكيا منجما وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل فكان ينذرهم بعبادة الله الواحد وينهاهم عن عبادة الأصنام وله تلميذ اسمه مذهب وكان من جملة المتتلمذين له سلمان الفارسي النصراني وسلامه قصة غريبة ستذكر في موضعها

قال مذهب : إن بحيرا توفي قتيلا بدسيسة بعض يهود أشرار . ومعنى بحيرا في السريانية عالم متبحر ( 1 )

_________

( 1 ) راجع بحيرا في دائرة المعارف العربية للبستاني

 

 

رعية رسول الله الغنم بمكة ( 1 )

 

 

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من نبي إلا قد رعى الغنم " قالوا وأنت يا رسول الله ؟ قال " وأنا " . وقال " ما بعث الله نبيا إلا راعي الغنم " قال له أصحابه وأنت يا رسول الله ؟ قال " وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط ( 2 ) " وعن جابر بن عبد الله قال . كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نجني الكباث ( 3 ) فقال عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذا كنت راعي الغنم قلنا وكنت ترعى الغنم يا رسول الله ؟ قال نعم وما من نبي إلا قد رعاها

_________

( 1 ) راجع طبقات ابن سعد الجزء الأول

( 2 ) القراريط هي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة . وقيل أن القراريط موضع

( 3 ) قال ابن سيدة الكثبان بالفتح نضيج ثمر الأراك

 

 

حرب الفجار ( 1 ) ( 580 - 590 م )

 

 

- أيام الفجار عدة . فالفجار الأول كان بين كنانة وهواز . والثاني بين قريش وهوازن والثالث بين كنانة وهوازن والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها وهوازن . وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة . وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم الفجار الأخير وهو ابن خمس عشرة سنة وكان سببها النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة ( واللطيمة الإبل تحمل التجارة كالطيب والبز وأشباههما ) وأجارها له عروة الرجال من بني هوازن فنزلوا على ماء يقال له أوارة فوثب البراض خلي من بني كنانة على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ولقي بشر بن أبي خازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر وأمره أن يعلم ذلك عبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية ونوفل بن معاوية الدبلي وبلعاء بن قيس فوافى عكاظا فأخبرهم فخرجوا موائلين منكشفين إلى الحرم وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم فقال أبو براء رئيس هوازن ما كنا من قريش إلا في خدعة فخرجوا في آثارهم فأدركواهم وقد دخلوا الحرم فناداهم رجل من بني عامر يقال له الأدرم بن شعيب بأعلى صوته : أن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وإنا لا نأتي في جمع

ولم تقم في تلك السنة سوق عكاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس بن عيلان ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش : عبد الله بن جدعان بن المغيرة وحرب بن أمية وأبو أحيحة سعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ومعمر بن حبيب الجمحي وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وخرجوا متساندين ( أي ليس لهم أمير واحد يجمعهم ) ويقال بل أمرهم إلى عبد الله بن جدعان وكان في قيس أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر وسبيع بن ربيعة بن معاوية النضري ودريد بن الصمة ومسعود بن معتب وأبو عروة بن مسعود وعوف بن أبي حارثة المرى وعباس بن رعل السلى . وهؤلاء الرؤساء والقادة . ويقال بل كان أمرهم جميعا إلى براء وكانت الراية بيده وهو سوي صفوفهم فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس وكنانة على هوازن ومن ضوى إليهم . ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعا حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ - وإنه لشاب ما كملت له ثلاثون سنة - إلى الصلح فاصطلحوا على أن عدوا القتلى ووردت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الفجار فقال " قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وماأحب أني لم أكن فعلت " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت أنبل على أعمامي " يعني أناولهم النبل

_________

( 1 ) الفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن كان قتالا في الشهر الحرام ففجروا فيه

 

 

حلف الفضول

 

 

- كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وكان أشرف حلف . وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فأجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما فتعاقدوا وتعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التآسى في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضور . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ماأحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم وأني أعذر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفة ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول "

 

 

هل سافر النبي إلى اليمن ؟

 

 

- قال الأستاذ فيل الألماني Weil إن رسول الله سافر في السادسة من عمره إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة تجارية . ورد عليه الدكتور اشبرنجر عز وجلr . Sprenger أن هذا الخبر ليس له أساس صحيح وأنه لم يجده في الكتب الموثوق بها . والحقيقة كما قال الدكتور اشبرنجر . نعم قد ذكر الطبري رواية جاء فيها أن خديجة إنما كاننت استأجرت رسول الله ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة الخ غير أنه جاء في الطبري بعد ذلك أن الواقدي قال " فكل هذا خطأ والمشهور رواية ابن اسحاق وهي رحلته إلى الشام "

 

 

الرحلة الثانية إلى الشام 595 م

 

 

- لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة قال له أبو طالب أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وهذه عير قومك وقد حضر خروجها إلى الشام وخدسجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فلو جئتها فعرضت عليها نفسك لأسرعت إليك . وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك وقالت له أنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك . فخرج مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم بصرى من الشام وهي مدينة على دمشق فنزلا في ظل شجرة فقال نسطور الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي . ثم قال : لميسره أفي عينيه حمرة ؟ قال : نعم لا تفارقه . قال : هو نبي وهو آخر الأنبياء . وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحريرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس فوعى ذلك كله ميسرة وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون . فلما رجعوا أخبرها بما قال الراهب نسطور فلما رأت خديجة الربح الكثير أضعفت له ضعف ماسمت به

قال مستر موير عند ذكر هذه الرحلة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن في وقت من الأوقات طعاما في الغنى إنما كان سعيه لغيره ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعا بحالته ولما فكر في رحلة كهذه . ولكن لما عرض عليه عمه السفر شعرت نفسه الكريمة بضرورة تفريج كربة عمه فأجاب طلبه مسرورا

 

 

تزويج رسول الله خديجة رضي الله عنها

 

 

- كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة حازمة جلدة شريفة غنية من أواسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا . وقد عرض كثيرون عليها الزواج فلم تقبل فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه من يرغبه في الزواج وقيل أنها أرسلت أختها فقال ما بيدي ما أتزوج به فقالت فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟ قال فمن هي ؟ قالت له خديجة قال فأنا أفعل . فذهبت فأخبرت خديجة فأرسلت إله أن ائت لساعة كذا وكذا وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها خديجة فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوجه أحدهم فقال عمرو بن أسد " هذا البضع لا يفرع أنفه " وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة وقد حضر رؤساء مضر وحضر أبو بكر رضي الله عنه ذلك العقد فقال أبو طالب : " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد ( معدنه ) وعنصر مضر ( أصله ) وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا حرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم أن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل الا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل . ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله كذا ( 1 ) وهو والله بعد هذا له بنأ عظيم وخطر جليل جسيم " . فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل فقال : " الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقاتدتها وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم وقد رغبنا في الأتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا علي معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على كذا " . ثم سكت فقال أبو طالب " قد أجبت أن يشركك عمها . فقال عمها :

اشهدوا علي يا معشر قريش بأني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد

فقبل النبي صلى الله عليه وسلم النكاح وشهد على ذلك صناديد قريش

قال الواقدي : ويقولون أيضا أن خديجة أسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى نفسها تعني التزويج وكانت امرأة ذات شرف وكان كل قريش حريصا على نكاحها قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل ونحرت بقرة وخلقته بخلوق وألبسته حلة حبرة ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فدخلوا عليه فزوجه . فلما صحا قال : ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا أكابر قريش فلم أفعل . قال الواقدي وهذا غلط والثبت عندنا المحفوظ من حديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ومن حديث ابن أبي حبيبة عن داود عن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس " أن عمها بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أباها ( خويلد بن أسد ) مات قبل الفجار ( 2 )

تزوج خديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بكر عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثم هلك عنها وتزوجها وبعده أبو هالة النباش بن زرارة

وولد خديجة لعتيق هند بنت عتيق وولدت لأبي هالة هند بنت أبي هالة وهالة بن أبي هالة فهند بنت عتيق وهند وهالة ابنا أبي هالة كلهم أخوة أولاد رسول الله من خديجة

_________

( 1 ) أصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة وقيل أثنتي عشر أوقية

( 2 ) راجع أيضا طبقات ابن سعد الجزء الأول طبع ليدن ص 85 وقال الحلبي في سيرته " وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر لأن المحفوظ عن أهل العلم أنه خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار "

 

 

تجديد بناء الكعبة سنة 605 م

 

 

- الكعبة هي بيت الله الحرام وهو بناء مربع الشكل في وسط المسجد بابه مرتفع على الأرض نحو قامة . وقد بنى الكعبة إبراهيم عليه السلام وهو رسول من أولي العزم أرسله الله إلى الكلدانيين في جنوب بابل وكانوا يعبدون النجوم والأثان ثم ترك إبراهيم قومه حين عصوه وهاجر إلى مدين وهناك أمره الله تعالى بالهجرة بولده إسماعيل ( 1 ) وأمه هاجر إلى بلاد العرب فقصدوا مكة ثم أمره الله ببناء الكعبة . قال السيد الإمام التقي الفاسي : بناء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة . ورورى الأزرقي في تارخه عن ابن اسحاق أن الخليل عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت جعل طوله في السماء تسعة أذرع وجعل طوله في الأرض من قبل وجه البيت الشريف من الحجر الأسود إلى الركن الشامي أثنين وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي أثنين وعشرين ذراعا وجعله طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن الغربي المذكور إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعاوجعل الباب لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولا مبوب حتى جعل لها تبع الحميري بابا وغلقا بعد ذلك ومقام إبراهيم عليه السلام بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب . قال ياقوت في معجم البلدان : إن خصائص الكعبة كثيرة وفضائلها لا تحصى ولا يسع كتابنا إحصاء الفضائل وليست أمة في الأرض إلا وهم يعظمون ذلك البيت ويعترفون بقدمه وفضله وأنه بناء إبراهيم حتى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وقد بقيت الكعبة على هيئتها من عمارة إبراهيم عليه السلام إلى أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة من عمره فخافت قريش أن تهدم لتصدع جدرانها بسيل دخلها بعد حريق اصابها وكانت رضما فوق القامة ( الرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعضمن غير ملاط ) وكان البحر رمى بسفينة إلى جدة ( 2 ) فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيفها وكان بمكة نجار يدعى باقوم مولى سعيد بن العاصي وصانع المنبر الشريف فأمروهأن يلي بناء الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة معهم فلما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضع الحجر موضعه وأرادت كل قبيلة رفعه وتواعدوا للقتال ثم تشاوروا وجعلوا بينهم أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينهم فكان أول من دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا به وأخبروه الخبر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وبسطه على الأرض ثم أخذ الحجر فوضعه فيهثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه ففعلوا فلما بلغوا موضعه وضعه هو بيده الشريفة فرضوا وانتتهوا عن الشرور

وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي الأمين وفي كتاب تهذيب الأسماء أن أول امرأة عربية كست الكعبة الحرير نتيلة أم العباس وسببه أن العباس ضاع وهو صغير فنذرت أن وجدته أن تكسوها فوجدته ففعلت

_________

( 1 ) إسماعيل أكبر ولد إبراهيم كان اسمه اشمويل فأعرب وأمه هاجر من القبط من قرية أمام القومي قريب من فسطاط مصر وهاجر إبراهيم إلى مكة ومعه إسماعيل وهو ابن سنتين وأمه هاجر ثم انصرف إبراهيم إلى الشام وإسماعيل أول من تكلم بالعربية وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان كلام الناس قبل ذلك العبرانية ولما بلغ إسماعيل عشرين سنة توفيت أمه هاجر وهي ابنة تسعين سنة فدفنها إسماعيل في الحجر وأوحى الله إلى إبراهيم أن يبني البيت فبناه معه وتوفي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحج مما يلي الكعبة مع أمه هاجر

( 2 ) في حديث بناء الكعبة عن وهب بن منبه - أن سفينة حجتها الريح إلى الشعيبة وهو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة . ومعنى حجتها الريح دفعتهاز

 

 

تسميته بالأمين صلى الله عليه وسلم

- جاء في دائرة المعارف البريطانية في ترجمة حياته صلى الله عليه وسلم أن تسميته بالأمين مأخوذة من اسم أمه ( آمنة ) زإن كان العرب لا يجعلون علاقة بينهما في هذه التسمية . هذا ما زعمه كاتب الترجمة في دائرة المعارف البريطانية فهو يريد أن يقول أن العرب لم يسموه أمينا لأمانته بل لأن اسم والدته آمنة فلا فخر ولا فضل . والحقيقة التاريخية أنه صلى الله عليه وسلم سمي أمينا لأمانته ولذا استخدمته خديجة في تجارتها فربحت ربحا طائلا ثم تزوجته لثقتها به . وقد جعله قومه حكما بينهم في بناء الكعبة عن طيب نفس . قال المسيو سيدللو Sedillot في كتابه تاريخ العرب ( 1 ) " ولما بلغ محمد من العمر خمسا وعشرين سنة استحق بحسن سيرته واستقامة سلوكه مع الناس أن يلقب ( بالأمين ) وقال موير Muir ( 2 ) أنه لقب بالأمين بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه . وكتب لفظة أمين بالأنجيليزية هكذا Faithful

_________

( 1 ) الطبعة الثانية سنة 1877 الجزء الأول صفحة 58

( 2 ) كتاب تاريخ حياة محمد صفحة 20 طبعة سنة 1912

 

 

رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

 

 

إثباتها من التوراة والإنجيل

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ناسخا بشريعته الشرائع الماضية قال تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سورة سبأ

وقال { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } سورة الفرقان

وقد وردت البشارة فيه في التوراة والإنجيل والزبور

فجاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح عليه السلام ( ص 14 ف 15 ) ما يأتي : ( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليطا آخر ليمكث معكم إلى الأبد . روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه . ولا يعرفه . وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم وفيكم )

وفي ص 16 ف 5 : ( وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي لكن لأتي قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط لكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئته وعلى بر [ ؟ ؟ ] وعلى ديبوبة . أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني ايضا وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين . إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى ذاك روح الحق يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية . ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم )

إن هذه الترجمة رديئة فالأسلوب ضعيف والألفاظ مكررة تكرارا لا مسوغ له والجمل مفككة خالية من الروح ولذا لا يتأثر منها القارئ وترجمة الفارقليط أو البارقليط بالعربية ( أحمد ) كما قال تعالى في كتابه العزيز { ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد } ( 1 ) وقد تصرف المترجمون في هذه اللفظة فكانوا تارة ينقلونها عن اللغات الثلاث الأصلية وهي العبرانية والكلدانية واليونانية بالمعزى وأخرى بالمخلص أو يكتبونها البارقليط كما هي

ومن يقرأ هذه النصوص وينعم النظر في معناها ومرماها يجد أن عيسى عيله السلام بشر برسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام فسماه فارقليطا آخر يعنى رسولا غيره تبقى شريعته إلى قيام الساعة ولا يأتى بعده نبي ولا رسول وقال أنه إن لم ينطلق لا يأتي الفارقليط وقد بكت النبي صلى الله عليه وسلم النصارى واليهود الذين أنكروا نبوة المسيح وأساءوا إليه وحرفوا دينه وقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام الناس كافة إلى الحق وكان لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع بتكلم به أي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى وثبت أنه أخبر بأمور آتية وقد وقع ما أخبر به ومجد عيسى عليه السلام وتدل آيات القرآن الكريم على ما ورد في الأنجيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( الفارقليط الذي أتى به عيسى عليه السلام ) لا يتكلم من نفسه به كل ما يسمع يتكلم به وأنه يرشد إلى الحق . قال تعالى { قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى وما أنا إلا نذير مبيي } { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم } { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيآتهم وأصلح بالهم } { تلك آيات نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون }

وإذا كان الفارقليط لا يشير إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإلى من يشير إذن ؟ وأين الذي جاء بعد عيسى عليه السلام ؟ ومن هو الذي بكت العالم على خطيئته . ومن هو روح الحق الذي لا يتكلم من نفسه الخ أليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

وجاء في وصية موسى الكليم عليه السلام كما في ص 33 ف 2 : من التثنية ولفظه :

( قال جاء الرب من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار . أحب الشعوب جميع الأطهار بيده والذين يقتربون من رجليه يقبلون من تعليمه )

هذه الوصية هي آخر وصايا موسى عليه السلام . وقد أخبر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ووضح لهم أن الله جاء من سيناء ( يريد بمجيئه ظهور دينه وتوحيده بما أوحى إلى موسى بسيناء ) وأوصاكم بواسطتي باتباع التوارة ويستشرق عليكم بواسطة عيسى من ساعير وهي جبال فلسطين فلم يبق إلا أن يستعلن من جبال فاران ( والمراد بها مكة وهي البلدة التي سكنها إسماعيل ) وألوف الأطهار هم الصحابة رضوان الله عليهم . في يمينه سنة من نار وهي الشريعة الإسلامية لأنها أحرقت المشركين ولما كان من المهم أن نعرف مكان فاران التي وردت في وصية موسى بحثت عنها في أشهر المراجع الموثوق بها فجاء في معجم ياقوت جزء 6 صحيفة 323 طبع مصر سنة 1324 ( فاران هي من أسماء مكة ورد ذكرها في التوراة . قيل هو اسم لجبال مكة ) وجاء في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني طبع ليدن 1883 صفحة 170 : وأما معدن فران فإنه نسب إلى فران بن بلى بن عمرو كما قيل في جبال الحرم جبال فاران وذكرت بذلك في التوراة وإنما نسبت إلى فاران بن عميلق . وجاء في كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام تأليف قطب الدين النهروالي المكي طبع ليبسيك سنة 1857 ص 18 عند ذكر أسماء مكة ما يأتي :

( ومن أسمائها كوثى لأن كوثى اسم لمحل من قعيقعان وفاران والمقدسة وقرية النمل لكثرة نملها والحاطمة لحطمها للجبابرة والوادي والحرم الخ ) فلم يبق شك أن فاران جبال بمكة أو هي مكة نفسها سميت باسم تلك الجبال

جاء في سفر أشعيا الأصحاح الحادي والأربعون ( أنصتي إلى أيتها الجزائر ولتجدد القبائل قوة ليقتربوا ثم يتكلموا . لنتقدم معا إلى المحاكمة من أنهض من الشرق الذي يلاقيه النصر عند رجليه . دفع أمامه أمما وعلى ملوك سلطة . جعلهم كالتراب بسيفه وكالقش المنذري بقوسه . طردهم . مر سالما في طريق لم يسلكه برجليه من فعل وصنع داعيا الأجيال من البدء أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو )

والمراد بالقبائل قبائل العرب وصاحب السيف والقوس هو محمد صلى الله عليه وسلم فإن عيسى لم يحارب أصلا

وجاء في الفصل 18 من الكتاب الخامس من سفر التثنية أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام ( قل لبني اسرائيل أني أقيم لهم آخر الزمان نبيا مثلك من بني أخوتهم ) وكل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل وأخرهم عيسى عليه السلام فلم يبق أن يكون من بني أخوتهم إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من ولد إسماعيل وإسماعيل أخو اسحاق واسحاق جد بني اسرائيل فهذه هي الأخوة التي ذكرت في التوراة ولو كانت هذه البشارة بنبي من أنبياء بني اسرائيل لم يكن لذكر اخواتهم معنى وجاء في كتاب الرؤيا المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي في ص 19 ف 11 ما نصه : ( ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه أمينا صادقا وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو ) وهنا قال أنه يحارب ولا شك أنه محمد صلى الله عليه وسلم . وقد كان يدعى قل الرسالة بالأمين الصادق كما أسلفنا

وجاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي ص 19 ف 15 ( ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء ) والمراد من قوله يخرج من فمه سيف ماض الخ هو القرآن الكريم . وقد داس النبي صلى الله عليه وسلم معصرة خمر أعني أنه حرم الخمر تحريما قطعيا . أما عيسى فقد روى عنه المسيحيون أنه قلب الماء خمرا في عرس قانا وروى عنه أنه قال عن الخمرة أنها دمه

هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام لهذا لما كان بحيرا الراهب متبحرا في علم النصرانية فقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر برسالته مما اطلع عليه في الكتب المقدسة ففيها أوصافه عليه الصلاة والسلام وشيء من أرهاصاته ومعجزاته وكانت حليمة السعدية تعرض النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود والكهان وتحدثهم بشأنه فيعرفونه من أوصافه وأحواله وقد أخبر برسالته عليه الصلاة والسلام ورقة بن نوفل ابن عم خديجة وكان شيخا نصرانيا عند ما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى من الوحي إذ قال له " هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى " إلى آخر ما قال مما سيأتي ذكره في موضعه . هذا وقد أنذر اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وإليك ما جاء في سيرة ابن هشام

_________

( 1 ) سورة الصف

 

 

انذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- قال ابن اسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا ما كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا أنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة { ولما جاءهثم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } قال ابن هشام يستفتحون يستنصرون : ويستفتحون أيضا يتحاكمون . وفي كتاب الله تعالى { ربنا أفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }

قال ابن اسحق وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان سلمة من أصحاب بدر . قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل . قال فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا على بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت فقالوا له ويحك يا فلان أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ويجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به . ولو دان له بحظه من تلك النار غدا . فقالوا له ويحك يا فلان فما آية ذلك قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد واشار بيده إلى مكة واليمن . قالوا ومتى تراه ؟ قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا . فقال إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا . قال فقلنا له ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال بلى ولكن ليس به . قال ابن اسحق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل خوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام قال قلت لا والله . فقال إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له كم ؟ فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير . قال فنخرجها ثم يخرج بنا ظارهر حرثنا فيستسقي الله لنا فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى . قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث . قال ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمر إلى أرض البؤس والجوع ؟ قال قلنا أنت أعلم . قال فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجوا أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه . - وكانوا شبابا أحداثا - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم . قال ابن اسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود

 

 

سلمان الفارسي وقصة إسلامه

 

 

- سلمان الفارسي أبو عبد الله ويعرف بسلمان الخير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله من جي وهي مدينة أصفهان وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن بوذخشان ابن مورسلان بن بهبوزان بن فيروز بن سهرك من ولد آب الملك وكان ببلاد فارس مجوسيا سادن النار ( 1 ) . وكان أبوه مجوسيا فاتفق أنه هرب منه يوما ولحق بالرهبان وصحبهم واحدا بعد واحد ثم قدم الحجاز عند ظهور النبي مع العرب فباعوه إلى يهودي من قريظة فأتى به المدينة فلما دخلها النبي أسلم وشهد معه أكثر المشاهد وأول مشاهده وقعة الخندق وكان من فضلاء الصحابة وزادهم وعلمائهم وذوي القربى من الرسول وهو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق حين جاءت الأحزاب وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت " وكان يعمل الخوص بيده ويأكل من ثمنه وآخى الرسول بينه وبين أبي الدرداء وروى عنه جماعة من العلماء . توفي سنة 35 للهجرة وقيل 34 ودفن في المدائن شرقي بغداد وله مقام إزاء ايوان كسرى يزار حتى الآن ويعرف بمقام سلمان باك وهي لفظة فارسية معناها الطاهر وقيل عاش 150 سنة وقيل أكثر من ذلك وهو من معمري العرب

وهذه قصة إسلامه عن ابن عباس رضي الله عنه :

عن ابن عباس رضي الله عنه قال حدثني سلمان الفارسي وأنا اسمع من فيه قال كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان من جى ابن رجل من دهاقينها ( 2 ) وكنت أحب خلق الله إليه فأجلسني في البيت كالجواري فاجتهدت في الفارسية ( 3 ) وكان أبي صاحب ضيعة وكان له بناء يعالجه فقال لي يوا يا بني قد شغلني ما ترى فانطلق إلى الضيعة ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمي بك . فخرجت لذلك فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون فملت غليهم وأعجبني أمرهم وقلت هذا والله خير من ديننا فأقمت عندهم حتى غابت الشمس لا أنا أتيت الضيعة ولا رجعت إليه فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي . وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم اين أصل هذا الدين ؟ قالوا بالشام . فرجعت إلى والدي . فقال يا بني قد بعثت إليك رسلا فقلت مررت بقوم يصلون بكنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم وعلمت أن دينهم خير من ديننا . فقال يا بني دينك ودين آبائك خير من دينهم . فقلت كلا والله . فخافني وقيدني فبعثت إلى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم وسألتهم إعلامي من يريد الشام ففعلوا فألقيت الحديد من رجلي وخرجت معهم حتى أتيت الشام فسألتهم عن عالمهم فقالوا الأسقف فأتيته فأخبرته وقلت أكون معك أخدمك وأصلي معك . قال أقم . فمكثت مع رجل سوء في دينه كان يأمرهم بالصدقة فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فتوفى فأخبرتهم بخبره فزجروني فدللتهم على ماله فصلبوه ولم ولم يغيبوه ورجموه وأجلسوا مكانه رجلا فاضلا في دينه زاهدا ورغبة في الآخرة وصلاحا فألقى الله حبه في قلبي حتى حضرته الوفاة فقلت أوصني فذكر رجلا بالموصل وكنا على أمر واحد حتى هلك فأتيت الموصل فلقيت الرجل فأخبرته بخبري وأن فلانا أمرني بإتيانك فقال . أقم . فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة . فقلت له أوصني فقال . ماأعرف أحدا على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية فأتيته بعمورية ( 4 ) فأخبرته بخبري فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا واتخذت غنيمة وبقرات فحضرته الوفاة فقلت إلى من توصي بي ؟ فقال لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه ولكن قد أظلك نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية مهاجره بأرض ذات نخل وبه آيات وعلامات لا تخفى بين منكبيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت فتخلص إليه . فتوفي . فمر بي ركب من العرب من بني كلاب فقلت أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم فحملوني إلى وادي القرى فباعوني من رجل من اليهود . فرأيت النخل فعلمت أنه البلد الذي وصف لي فأقمت عند الذي اسشتراني وقدم عليه رجل من بني قريظة فاشتراني منه وقدم بي المدينة فعرفتها بصفتها فأقمت معه أعمل في نخله وبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وغفلت عن ذلك حتى قدم المدينة فنزل في بني عمرو بن عوف . فأني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لصاحبي ( 5 ) فقال أي فلان قاتل الله بني قيلة ( 6 ) مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي . فو الله ما هو إن سمعتها فأخذني القر ورجفت بي النخلة حتى كدت أسقط ونزلت سريعا فأقبلت على عملي حتى أمسيت فجمعت شيئا فأتيته به وهو بقباء عند أصحابه فقلت اجتمع عندي . أردت أن أتصدق به فبلغني أنك رجل صالح ومعك رجال من أصحابك ذوو حاجة فرأيتهم أحق به فوضعته بين يديه فكف يده وقال لأصحابه كلوا فأكلوا . فقلت هذه واحدة ورجعت وتحول إلى المدينة فجمعت شيئا فأتيته به فقلت أحببت كرامتك فأهديت لك هدية وليست بصدقة فمد يده فأكل وأكل أصحابه فقلت هاتان اثنتان ورجعت فأتيته وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد ( 7 ) وحوله أصحابه . فسلمت وتحولت أنظر إلى الخاتم في ظهره فعلم ما أردت فألقى رداءه فرأيت الخاتم فقبلته وبكيت فأجلسني بين يديهفحدثته بشأني كله كما حدثتك يا ابن عباس فأعجبه ذلك وأحب أن يسمعه أصحابه ففاتني معه بدر وأحد بالرق فقال لي كاتب يا سليمان عن نفسك فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلثمائة ودية ( 8 ) وعلى أربعين أوقية من ذهب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم بالنخل فأعانوني بالخمس والعشر حتى اجتمع لي فقال لي نقر لها ولا تضع منها شيئا حتى أضعه بيدي ففعلت فأعانني أصحابي حتى فرغت فأتيته فكنت آتيه بالنخلة فيضعها ويسوي عليها ترابا فانصرف والذي بعثه بالحق فما ماتت منها واحدة وبقي الذهب فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن . فقال ادع سلمان المسكين الفارسي الكاتب . فقال أد هذه . فقلت يا رسول الله وأين تقع هذه مما على ( 9 )

هذه قصة سلمان الفارسي وهي كما يتضح للقارئ المنصف معقولة وليس فيها شيء من المبالغة ويلاحظ أن سلمان كان من صغره ميالا إلى التدين والتقشف فصاحب كبارا أهل الدين وتعلم منهم وهذه القصة تدل على صدق رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سلمان ما عرف النبي إلا بالعلامات التي أخبره بها صاحبه بعمورية ولم يسلم إلا بعد ان تحقق صحة هذه العلامات فيه صلى الله عليه وسلم . ومن المحقق من ترجمة حياة سلمان أن أباه كان مجوسيا من بلاد الفرس وأنه هرب منه ولحق بالرهبان وصاحبهم واحدا بعد واحد إلى أن لقي النبي صلى الله عليه وسلم

ونلاحظ أن سلمان لم يذكر أسماء الرهبان أو الأساقفة الذين كان يلازمهم وإن كان قد ذكر بلادهم

وشهد رسول الله لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ الألهي والعصمة حيث قال " سلمان منا أهل اليت " وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان الأيمان بالثريا لناله رجال من فارس " واشار إلى سلمان الفارسي

_________

( 1 ) راجع سيرة ابن هشام وأسد الغابة لابن الأثير

( 2 ) دهاقين جمع دهقان وهو شيخ القرية

( 3 ) وفي حديث علي بن جابر " في المجوسية "

( 4 ) عمورية بفتح أوله وتشديد ثانيه . بلد في بلاد الروم فتحها المعتصم سنة 223

( 5 ) كان ذلك في يوم الجمعة 16 ربيع الأول بعد وصول رسول الله إلى المدينة باربعةأيام ( 2 يولية سنة 622 م )

( 6 ) بني قيلة : يريد عرب المدينة

( 7 ) بقيع الغرقد والغرقد كبار العوسج وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة وهي داخل المدينة

( 8 ) الودية واحدة الوادي صغار الفسيل

( 9 ) راجع الجزء الثاني من أسد الغابة لابن الأثير

 

 

من تسمى في الجاهلية بمحمد

 

 

- كانت العرب تسمع من أهل الكتا ومن الكهان ان نبيا يبعث من العرب اسمه محمد فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة . سمي محمد بن خزاعي حزابة من بني ذكوان من بني سليم طمعا في النبوة فأتى أبرهة باليمن فكان معه على دينه حتى مات فلما وجه قال أخوه قيس بن خزاعى

فذلكم ذو التاج منا محمد وروايته في حومة الوغى تخفق

وكان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع وكان أسقفا قيل لأبيه أنه يكون للعرب نبي اسمه محمد فسماه محمدا . ومحمد الجشعي في بني سواءة ومحمد الأسدي ومحمد الفقيمي سموهم طمعا في النبوة

هذا ما وجدته في طبقات ابن سعد فليرجع إليه من شاء ومن هذا كله يتضح أنهم كانوا ينتظرون ظهور نبي في ذلك الزمان

 

 

كنية النبي وأسماؤه

 

 

- كنية النبي المشهورة " أبو القاسم " وكناه جبريل صلى الله عليه وسلم " أبا إبراهيم " ولرسول الله أسماء كثيرة أفرد فيها الإمام الحافظ أبو القاسم على بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي الدمشقي المعروف بابن عساكر بابا في تاريخ دمشق ذكر فيها أسماء كثيرة جاء بعضها في الصحيحين وباقيها في غيرهما . منها محمد وأحمد والحاشر والعاقب والمقفى والماحي وخاتم الأنبياء ونبي الرحمة ونبي الملحمة وفي رواية نبي الملاحم ونبي التوبة والفاتح وطه ويس وعبد الله . قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي زاد عض العلماء . فقال : سماه الله عز وجل في القرآن رسولا نبيا شاهدا مبشرا نذيرا داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ورءوفا رحيما ومذكرا وجعله رحمة ونعمة وهاديا صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنهماقال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمي في القرآن محمد وفي الأنجيل أحمد وفي التوراة أحيد وإنما سميت أحيد لأني أحيد أمتي عن نار جهنم "

 

 

عبادة الأصنام والأوثان

 

 

- قال ابن سيدة : الصنم ينحت من خشب ويصاغ من فضة ونحاس . والجمع أصنام وقيل هو ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن . قال ابن الأثير : الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ماله جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد والصنم الصورة بلا جثة . ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين قال وقد يطلق الوثن على غير الصورة ( 1 ) الوثنية ببلاد العرب ترجع إلى عهد بيعد جدا . قيل إن إسماعيل بن إبراهيم لما يكن مكة وولد له بها أولاد كثيرة حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش ( 2 )

وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن الا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم وصبابة بالحرم وحبا له . وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل

ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم وانتجثوا ( 3 ) ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة مع ادخالهم فيه ما ليس منه

فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيب السائبة ووصل الوصيلة وبحر البحيرة وحمى الحامية عمرو بن ربيعة ويه لحى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة

وكانت أم عمرو بن لحى فهيرة بنت عمرو بن الحارث

وكان الحارث هو الذي يلى أمر الكعبة فلما بلغ عمرو بن لحى نازعه في الولاية وقاتل جرهما ببني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت بعدهم

ثم أنه مرض مرضا شديدا فقيل له : إن بالبلقاء من الشام حمة ان أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ . ووجد أهلها يعبدون الأصنام . فقال : ما هذه ؟ فقالوا نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو . فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة ( 4 ) وقيل أنهم أعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة فكان أول صنم وضع بمكة

قال هشام : فحدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : رفعت لى النار فرأيت عمرا ( أي عمرو بن لحى ) رجلا قصيرا أحمر أزرق يجر قصبه في النار . قلت : من هذا ؟ قيل هذا عمرو بن لحى أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيب السائبة وحمى الحامي وغير دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأوثان

وقد جاء في القرآن ذكر الأصنام الخمسة التي كان يعبدها قوم نوح . قال تعالى : { قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا ولاسواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كييرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } . ويقال إن هذه الأصنام وجدها عمرو بن لحى في ساحل جدة وفرقها فانحتها العرب آلهة

ومن الأصنام المشهورة القديمة أساف ونائلة عبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب

ومناة كان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه وتذبح حوله ولم يكن أحد أشد اعظاما له من الأوس والخزرج . وقد ورد ذكر مناة في القرآن قال تعالى { ومناة الثالثة الأخرى } وكانت لهذيل وخزاعة . وقد هدمها علي رضي الله عنه عند فتح مكة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

والفلس وهو صنم طيئ هدمه علي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واللات وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة وكانت قريش كلها تعظمها وهي بالطائف . ذكرها الله في القرآن فقال { أفرأيتم اللاات والعزى } ولم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار . والطاغية هي اللات كانوا يقولون لها الربة . وجاء في القاموس الاسلام ( 5 ) " إن هير ودوت لم يشر إلى الكعبة لكنه ذكر اللات وقال إنها من أعظم آلهة العرب وهذا دليل قوي على وجود الصنم المسمى باللات وقد كان من معبودات ذلك الزمن "

ومن أصنامهم العزى ويقال إنها أحدث من اللات ومناة . كانت بواد من نخلة الشآمية وكانت أعظم الأصنام عند قريش وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبح

قال ابن حبيب : العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان . وفي التنزيل { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }

ولم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فأشتد ذلك على قريش ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه فدخل عليه أبو لهب فوجده يبكي فقال له ما يبكيك يا أبا أحيحة ؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه ؟ فقال : لا . ولكني أخاف ألا تعبد ( العزى ) بعدي . فقال له أبو لهب : ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك . فقال أبو أحيحة : الآن علمت أن لي خليفة شدة نصبه في عبادتها ( 6 ) . وتدل القصة على شدة التمسك بعبادة الأصنام

فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فهدمها وكانت لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها وكان أعظمها عندهم هبل . قيل أنه كان من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسورة اليد اليمنى . أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول نصبه خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر وكان يقال له هبل خزيمة . وعنده ضرب عبد المطلب على ابنه عبد الله بالقداح . ومن الأصنام التي كانت عند الكعبة أساف ونائلة فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أخرجت من المسجد وحرقت وكان يبلغ عددها 360 صنما ومن أصنامهم مناف

وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع الرجل إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا وكانوا يسمون الحجارة التي ينصبونها حول الحرم " الأنصاب " ومن أصنامهم : دو الخلصة وسعد وذو الكفين وذو الشرى والأقيصر وسعير وعميانس

_________

( 1 ) راجع لسان العرب

( 2 ) كتاب الأصنام لأبي المنذر هشام

( 3 ) استخرجوا

( 4 ) كتاب الأصنام

( 5 ) عز وجلictionary of Islam by Hughes P . 192

 

 

2 - d edition

( 6 ) راجع معجم البلدان ( عزى ) وكتاب الأصنام لابن الكلبي ص 23

 

 

الأربعة الباحثون عن دين إبراهيم

 

 

- قد استنكر بعضهم عبادة الأصنام وأدرك أنها لا تنفع ولا تضر وذلك في الجاهلية قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد حدث أنه بينما كانت قريش مجتمعة يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم يعتكفون عنده ويدورون به وكان ذلك عبدا لهم كل سنة إذ خلص منهم أربعة وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن العزى . وعبيد الله بن جحش بن رئاب وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى فقال بعضهم لبعض تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم . ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع . يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا فإنكم والله ما أنتم على شيء . فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم

 

 

1 - فأما ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب في أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب

 

 

2 - وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة ثم تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيا . وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة

 

 

3 - وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده

 

 

4 - وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان

قال المستر كانون سل في كتابه " حياة محمد ( 1 ) " ( قال زيد وأصحابه أنهم رغبوا في اتباع دين إبراهيم . ويظن أن محمدا أخذ منهم هذه الفكرة ) ثم قال ( بقي زيد حنيفا وعاب على أهل مكة عبادة الأصنام فأثار ذلك غضبهم إلى ترك مكة والإقامة في جبل حراء وبعد أن مضى هنالك زمنا يفكر توفى ودفن بأسفل الجبل وقد كان له تأثير عظيم في محمد الذي كان يجل شأنه ويقدره قدره . ولا ريب أن هؤلاء الرجال وأمثالهم من ذوي العقول الراجحة كانوا كثيرا ما يتشاورون ويتحادثون فيما وصلت إليه حالة العرب الأجتماعية من الإنحطاط ويأسفون لانتشار الوثنية وضعف مركزهم السياسي . ولم ينجح عثمان بن الحويرث في تأسيس سلطة مركزية لاعتماده إلى دولة أجنبية الأمبراطورية الرومانية ومع ذلك كانت الحاجة تدعو إلى وجود سلطة مركزية والأعتراف بالكعبة وجعلها قوة دينية للعرب جميعا فكيف الوصول إلى ذلك وكيف يمكن إبطال عبادة الأصنام إلى أن قال وهنا سنحت الفرصة لظهور نبي وقد كان الأستعداد لظهوره قريبا وما لبث أن ظهر نبي قوي الشخصية ذو فطنة سياسية فائقة برسالة محدودة للأمة العربية ) اه

نعم أن هؤلاء تحادثوا في أمر انتشار عبادة الأصنام وأخذوا يبحثون عن الدين الصحيح لكن محادثاتهم كانت قليلة . ليس لها شأن ولن يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتمع بهم ويحادثهم في شؤون العرب الدينية أو السياسية وقد كان زيد بن عمرو مضطهدا ولجأ إلى حراء لكن لم تكن له اجتماعات برسول الله حتى يقال أنه تذاكر معه مسائل الدين وترك في نفسه أثرا عميقا أو أنه أخذ منه الفكرة لأن المسألة ليست مسألة اقتباس فكرة . فالقرآن وما حواه من فصاحة وبلاغة خارقة وحكم بالغة وأمثال محكمة وذكر أحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره والتشريع مصدره اجتماع زيد بن عمرو برسول الله مصادفة في حراء أو في الطريق . ثم أننا فوق ذلك لا نعلم من تاريخ رسول الله أنه كان يتذاكر مع رجال أو كانوا يعلمونه من صغره إلى أن صار نبيا بل الثابت أنه كان أميا لا يدري ما الكتابة والقراءة ولا الدين وأصوله حتى أوحى إليه

وهذه ترجمة حياة زيد بن عمرو تماما للبحث

_________

( 1 ) The life Muhammad by The Rev . رحمه اللهanon Sell

 

 

زيد بن عمرو ( 1 )

 

 

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي والد سعيد بن زيد أحد العشرة وابن عم عمر بن الخطاب يجتمع هو وعمر في نفيل سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يبعث أمة وحده يوم القيامة " وكان يتعبد في الجاهلية ويطلب دين إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ويوحد الله تعالى ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول ( الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى ) انكارا لذلك واعظاما له وكان لا يأكل مما ذبح على النصب واجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح ( 2 ) قبل أن يوحى إليه وكان يحيى الموءودة . وعن زيد بن حارثة قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حارا من أيام مكة وهو مردفي فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل فحيا كل واحد منا صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا زيد مالي أرى قومك قد شنفوا لك ( 3 ) قال والله يا محمد إن ذلك لغير نائلة تره لي فيهم ولكن خرجت أبتغي هذا الدين جتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ماهذا الدين الذي أبتغى فخرجت فقال لي شيخ منهم إنك لتسأل عن دين مانعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالحيرة . قال فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال ممن أنت ؟ قلت أنا من أهل بيت الله من أهل الشوك والقرظ قال إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي قد طلع نجمه وجميع من رأيتهم في ضلال . قال فلم أحس بشيء

قال زيد ومات زيد بن عمرو وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي لزيد " انه يبعث يوم القيامة أمة وحده "

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت لقد رأيت زيد بن عمرو نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري . وكان يقول اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته . وقال ابن اسحاق بعض آل زيد كان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا . عذت بما عاذ به إبراهيم . ويقول وهو قائم . أنفى لك عان راغم . مهما تجشمني فأني جاشم . البر أبغى لا المال وهل مهجر كمن قال . وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيد بن عمرو بن نفيل حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل حراء مقابل مكة ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم فلا يتركونه يدخل الكعبة وكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم . وتوفى زيد قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ( 4 ) فرثاه ورقة بن نوفل

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد يدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض ستين واديا

وكان يقول يا معشر قريش أياكم والرياء فإنه يورث الفقر

هذه ترجمة زيد بن عمرو وهو مع اعتناقه دين إبراهيم هربا من الوثنية لم يكن يعلم أحب الوجوه إلى الله تعالى ليعبده به

_________

( 1 ) راجع أسد الغابة

( 2 ) بلدح واد قبل مكة من جهة الغرب

( 3 ) أي أبغضوك

( 4 ) وفي تاريخ القرون الوسطى لجامعة كامبردج أن زيدا مات في صبا النبي ( صلى الله عليه وسلم )

 

 

بدء الوحي

 

 

- لما قربت أيام الوحي حبب إليه الخوة فكان يختلي في غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها وكانت عبادته على دين إبراهيم عليه السلام وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكانت تلك الرؤيا الصادقة مقدمات الوحي . قيل مدتها ستة أشهر

فلما تم له أربعون سنة جاء جبريل بالنبوة وذلك في يوم الأثنين لسبع عشرة خلت من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده فيكون عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر وثمانية أيام وذلك يوافق 6 أغسطس سنة 610 م وهو بغار حراء

جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :

أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ( 1 ) فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ( 2 ) ثم حبب إليه الخلاء ( 3 ) وكان يخلو بغار حراء ( 4 ) فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ( 5 ) ويتزود لذلك ( 6 ) ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق ( 7 ) وهو بغار حراء فجاءه الملك ( 8 ) فقال له أقرأ فقال له ما أنا بقارئ ( 9 ) قال فأخذني فغطني ( 10 ) حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال أقرأ . فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال أقرأ فقلت ما أنا بقارئ فغطني ثالثة ثم أرسلني فقال أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق أقرأ وربك الأكرم فرجع بها ( 11 ) رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني ( 12 ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي ( 13 ) . فقالت خديجة : كلا والله ما يحزنك الله أبدا ( 14 ) إنك لتصل الرحم ( 15 ) وتحمل الكل ( 16 ) وتكسب المعدوم ( 17 ) وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني . فيكتب من الأنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمى . فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ( 18 ) فقال لي ورقة يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقاله له ورقة هذا الناموس ( 19 ) الذي نزل على موسى يا ليتني فيها ( 20 ) جذعا ( 21 ) ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ( 22 ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم ؟ قال نعم . لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به الا عودى وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ( 23 ) ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي ( 24 )

أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن

اقرأ " كما صح ذلك عن عائشة وورى ذلك عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير . قال النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف

_________

( 1 ) إن عائشة لم تدرك هذه القصة لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه صلى الله عليه وسلم لقولها قال فأخذني فغطني . وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر وحينئذ يكون ابتداء النبوة بالرؤيا حصل في شهر ربيع وهو شهر مولده

( 2 ) كضياء الصبح

( 3 ) بمعنى الخلوة أي الأختلاء

( 4 ) حراء جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار ثقب فيه

( 5 ) يحن ويشتاق ويرجع

( 6 ) يتخذ الزاد للخلوة أو التعبد

( 7 ) هو الوحي

( 8 ) جاءه الوحي يوم الأثنين لسبع عشرة خلت من رمضان

( 9 ) ما نافية وفي رواية كيف أقرأ أو ماذا أقرأ فتكون ما استفهامية

( 10 ) ضمني وعصرني

( 11 ) أي بالآيات

( 12 ) أي لفقوني لشدة ما لحقه من هول الأمر . والعادة جارية بكون الرعدة بالتلفف

( 13 ) الموت أو المرض لشدة الرعب

( 14 ) أي ما يفضحك الله

( 15 ) القرابة

( 16 ) وهو الذي لا يستقل بأمره

( 17 ) أي تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك

( 18 ) تعني النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أو قالته على سبيل الأحترام

( 19 ) صاحب السر الوحي والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام . وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر

( 20 ) أي في مدة النبوة

( 21 ) أي يا ليتني سابا عند ظهور نبوتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك . والجذع هو الصغير من البهائم واستعير للإنسان

( 22 ) من مكة

( 23 ) وهذا ظاهره أنه أقر بنبوته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام فيكون مثل بحيرا ودفن بمكة

( 24 ) أي احتبس ثلاث سنين

 

 

النبي المنتظر

 

 

- اتفق مؤرخو العرب وأصحاب السير أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون ظهور نبي في ذلك الزمان وكانوا يعلمون أوصافه وأحواله . من ذلك أنهم كانوا :

 

 

1 - قصة حليمة السعدية وأنها كانت تعرض رسول الله على اليهود كلما مر بها جماعة منهم وتحدثهم بشانه فكانوا يحضون على قتله فتهرب منهم

 

 

2 - أنهم اتفقوا على أن بحيرا الراهب عرف الرسول بعلامات فيه وقال لأبي طالب " ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغيه شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده "

 

 

3 - في سيرة ابن هشام فصل عن انذار يهود برسول الله نقلا عن رواية ابن اسحاق فليرجع في موضعه وقد أوردته في هذا الكتاب

 

 

4 - قصة سلمان الفارسي الذي أسلم بعد أن استدل على رسول الله بعلامات كان يعرفها من الراهب الذي صحبح أخيرا . وقصة اسلام سلمان مشهورة ومذكورة في المصادر المعتبرة التي يعول عليها المؤرخون ولا يمكن أن تكون مختلفة فقد رواها ابن عباس عن لسان سلمان الفارسي نفسه . والقصة مذكورة في هذا الكتاب أيضا لأهميتها

 

 

5 - اسلام عبد الله بن سلام بن الحارث فإنه كان حبرا عالما . قال سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم . عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخر ما قال مما هو مذكور في هذا الكتاب نقلا عن سيرة ابن هشام

 

 

6 - كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث في العرب اسمه محمد فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة . وقد ذكرت في كتابي هذا أسماء بعضهم نقلا عن طبقات ابن سعد كاتب الواقدي

 

 

7 - ما جاء في صحيح البخاري في باب بدء الوحي من أن ورقة بن نوفل ( ذلك الشيخ العالم بالنصرانية والذي كان يكتب الأنجيل بالعبرانية ) قال لرسول الله حين عرضته عليه خديجة : " هذا الناموس الذي نزل على موسى " الخ

 

 

8 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع بني قينقاع - وهم طائفة من اليهود - قال لهم : " يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم "

كل هذا وغيره يؤيد أنهم كانوا ينتظرون نبيا يظهر في ذلك الزمان . وليس ذلك بمستغرب فإن البشارة به صلى الله عليه وسلم قد وردت في التوراة والإنجيل وقد اثبتنا ذلك في فصل سابق من هذا الكتاب مستشهدين بآيات من الكتاب المقدس المطبوع باللغة العربية . فلا بد أن أهل الكتاب في ذلك الزمان كانت لديهم كتب أخرى ألفها علماؤهم شرحا للكتاب المقدس فاستقوا منها تلك المعلومات والعلامات التي عرفوا بها صفة رسول الله وموطنه وزمنه واضطهاد قومه له وهجرته . إننا نرجح ذلك بل نؤكده لأننا إذا كنا قد استخرجنا من الكتاب المقدس المطبوع في أيامنا آيات تبشر برسالته صلى الله عليه وسلم وتصفه وتصف شريعته وموطنه وأصحابه فلا بد أن يكون أهل الكتاب قديما - ولا سيما العلماء منهم - قد اطلعوا في النسخ العبرية القديمة التي كانت لديهم ولم نتوصل إليها على معلومات أو في خاصة بالرسول تعد غريبة بالنسبة لنا

هذا ما يستنتجه المؤرخ المنصف بل هذا ما يتبادر إلى ذهن من تتبع سيرة الرسول أما مستر موير فإنه انبرى في الجزئ الثاني من كتابه يكذب جميع المصادر التاريخية ويرفض ما جاء فيها من أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون نبيا يبعث زاعما أن هذه الروايات لا اساس لها من الصحة وأنها من مخترعات المؤرخين لأنه لو اعترف بصحتها أو بصحة بعضها لوجب عليه أن يعترف برسالة النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه حاول في جميع ما كتبه واستنبطه اثبات أنه لم يكن نبيا بل كان رجلا يدعي النبوة لبسط نفوذه

 

 

النبي الأمي

 

 

- أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن " اقرأ " كما صح ذلك عن عائشة وروى ذلك عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير . قال النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف . وقوله " ما أنا بقارئ " أي أني أمي فلا أقرأ الكتب . قال الزجاج : الأمي الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته . وفي التنزيل العزيز { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني }

قال أبو اسحاق : معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه أي لا يكتب وهو في أنه لا يكتب أمى لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه . أي على ما ولدته أمه عليه . وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار . وفي الحديث " أنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب " أراد على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى . وفي الحديث " بعثت إلى أمة أمية " قيل للعرب الأميين لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة . هذا معنى كلمة " أمى " في اللغة العربية وهكذا كان يفهمها العرب . قال تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الانجيل } وقال تعالى { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك } الآية . قال الفخر الرازي في تفسيره " فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤن والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه يكونه أميا . قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته . ويبانه من وجوه :

( الأول ) أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته . والخطيب من العرب إذا أرتجل خطبة ثم أعادها فإنه لابد أن يزيد فيها بالقليل والكثير . ثم أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ماكان كتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى }

( الثاني ) أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون }

( الثالث ) أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى . فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم . ثم أنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعلهه بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات " اه

وقد طالعت ما كتبه الذين تعرضوا لهذا البحث من الإفرنج الذين ترجموا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت تخبطا مدهشا فقد بحث الأستاذ نولدكه الألماني في كتابه " تاريخ القرآن " ( 1 ) هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة بل تفيد أن لا يعرف الأسفار القديمة

والثابت من التاريخ والقرآن والحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف القراءة والكتابة بالرغم من أن بعض المستشرقين يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك من غير برهان . إنما هم يستنتجون بعقولهم . ليتعجبوا ما شاءوا من أميته ولكن يجب عليهم أن يتعرفوا بأنه ما كان يعلم القراءة والكتابة . وجاء في قاموس الإسلام ( 2 ) " ومع ذلك فمن المحقق أنه ( النبي صلى الله عليه وسلم ) كان يتظاهر بإنه يجهل القراءة والكتابة كي يجعل انشاء القرآن معجزا "

فهل بعد ذلك تعسف لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ أو يكتب لتحدث بذلك أصحابه أو أعداؤه ولما أمكن أن يكون أمرا مكتوما طول حيانه خصوصا أن جميع صفات النبي وأعماله قد روتها الصحابة بالتفصيل حتى خصوصياته في منزله مع نسائه . على أن المنصفين من مؤررخي الإفرنج وفلاسفتهم قد اعترفوا بأميته . فمن ذلك ما كتبه المسيو سيدليو في كتابه " تاريخ العرب " الجزء الأول ص 59 من الطبعة الثانية :

ولما كان ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة

وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتاب الأبطال الذي عني بترجمته الأستاذ محمد السباعي رحمه الله :

ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أسناذ أبدا وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب . ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هي عيشة الصحراء وأحوالها

وجاء في كتاب الإسلام تأليف الكونت هنري دي كاسترى ترجمة المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا :

أن محمدا ما كان يقرأ ولا يكتب بل كان - كما وصف نفسه مرارا - نبيا أميا وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه . ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار الخ

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا احتاج إلى كتاب يكتبون له وقد ذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق أنهم ثلاثة وعشرون وروى ذلك كله بأسانيده وهم :

أبو بكر الصديق . عمر ابن الخطاب . وعثمان وعلي والزبير وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان ومحمد بن سلمة والأرقم بن أبي الأرقم وابان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد بن سعيد وثابت بن قيس وحنظلة بن الربيع وخالد بن الوليد وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن زيد بن عبد ربه والعلاء بن عتبة والمغيرة بن شعبة والسجل وزاد غيره شرحبيل بن حسنة قالوا وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم

وسيأتي في غزوة أحد أن العباس كان بمكة وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يخبره بجمع قريش وخروجهم . فلما جاء كتاب العباس وكان أرسله مع رجل من بني غفار فك رسول الله ختمه ودفعه لأبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم أبيا ( 3 ) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القراءة لما دفع كتابا يحوي أخبارا سرية إلى أحد لقراءته

وذكر ابن مأكولا أن تميم بن جراشة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتابا فيه شروط فقال اكتبوا ما بدا لكم ثم ايتوني به فسألناه في كتابنا أن يحل لنا الربا والزنا فأبى على أن يكتب لنا فسألنا خالد بن سعيد بن العاص فقال له علي : تدري ماتكتب ؟ قال أكتب ما قالوا و رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال للقارئ اقرأ . فلما انتهى إلى الربا قال ضع يدي عليها فوضع يده فقال { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا } الآية . ثم محاها وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ " الزنا " وضع يده وقال : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } الآية . ثم محاها وأكر بكتابنا أن ينسخ لنا ( 4 )

وقد تصور بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوا الكتب الدينية القديمة ومنها استقى معلوماته وهذا لا أساس له إذ لم يكن في جزيرة العرب كتب دينية باللغة العربية في ذلك الوقت . ومن المؤكد أنه كما كان يعرف أي لغة من اللغات الأجنبية

وقد قيل أيضا أنه صلى الله عليه وسلم اقتبس بعض تعاليم المسيحية أثناء سفره إلى الشام عندما كان يتاجر وبديهي أن التاجر العربي الذي لا يعرف اللغة الآرمية واليونانية كان يتعذر عليه الحصول على معلومات دينية من مسيحي الشام . أما الذين كانوا يتكلمون العربية من هؤلاء المسيحيين فقد كانوا جهالا أميين

وأما ما قيل من أن ورقة بن نوفل ترجم جزءا من الكتب المسيحية إلى العربية فغير محتمل بالمرة ( 5 ) ومع ذلك يزعم در منجم في كتابه " حياة محمد " أن ورقة ترجم الأناجيل إلى العربية

_________

( 1 ) Geschte des Qorans P . 7 Sqq

( 2 ) عز وجلictionary of Isiam by Thomas Patrick Hughes . 2 nd . edition

P . 392

( 3 ) راجع السيرة النبوية لدحلان . الجزء الأول ص 258 طبعة المطبعة الوهبية سنة 1285 ه

( 4 ) راجع أسد الغابة . الجزء الأول " تميم بن جراشة "

( 5 ) راجع الجزء الثاني من كتاب تاريخ القرون الوسطى لجامعه كامبردج ص ( 305 - 306 )

The رحمه اللهambridge Medeval History Vol . 11 ( 1931 ) pp . ( 305 - 306 )

 

 

فترة الوحي ( 1 )

 

 

- جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما ( 2 ) وهو يحدث عن فترة الوحي فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك ( 3 ) الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فربت منه فرجعت ( 4 ) فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى { يأيها المدثر ( 5 ) قم فأنذر ( 6 ) وربكض فكبر وثيابك فطهر والرجز ( 7 ) فاهجر } فحمى الوحي ( 8 ) وتتابع

قال اين اسحق ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان يقول الله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } وقال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ... ليلة القدر خير من ألف شهر ... تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر } وقال الله تعالى { حم والكتاب المبين ... إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم ... أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } وقال تعالى { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان

ولما فتر الوحي حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا غدا منه مرارا كي يتردى من روءس الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه . وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما جزم به ابن اسحاق ثم نزل عليه جبريل بسورة الضحى يقسم له ربه وهو الذي أكرمه بما أكرمه به وما ودعه وما قلاه فقال تعالى { والضحى والليل إذا سجى ... ما ودعك ربك وما قلى ... وللآخرة خير لك من الأولى ... ولسوف يعطك ربك فترضى ... ألم يجدك يتما فآوى ... ووجدك ضالا فهدى ... ووجدك عائلا فأغنى } يعرفه الله أنه ما قطعه قطع المودع وما أبغضه

روى أن الوحي لما تأخر عنه قال المشركون أن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم . { وللآخرة خير لك من الأولى } فإنها باقية خالصة من الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار

أول من آمن به

أول من آمن به من الرجال الأحرار أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالى زيد بن حارثة ومن العبيد بلال

_________

( 1 ) فترة الوحي . احتباس الوحي عن النزول

( 2 ) توفي جابر بعد أن عمي سنة أربع وسبعين وهو آخر الصحابة موتا بالمدينة وله في البخاري تسعون حديثا

( 3 ) جبريل

( 4 ) إلى أهلي بسبب الرعب

( 5 ) التدثير والتزميل بمعنى واحد

( 6 ) اقتصر على الإنذار لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الاسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه

( 7 ) الأوثان

( 8 ) كثر نزول الوحي بعد هذه الآية

 

 

أبو بكر الصديق واسلامه

 

 

- هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي القرشي التيمي

ولد أبو بكر سنة 573 م وهو أول الخلفاء . وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهي ابنة عم أبي قحافة . وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي الهجرة والخليفة بعده . روى عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم . وقد اختلف في اسمه فقيل كان عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله . وقيل أن أهله سموه عبد الله ولا يبعد ذلك لأن التسمية بعبد الله كانت موجودة قبل الإسلام ويقال له عتيق أيضا واختلفوا في السبب الذي سمي لأجله " عتيق " فقال بعضهم قيل له عتيق لحسن وجهه وجماله . قال الليث بن سعد وجماعة معه . وقال الزبير بن بكار وجماعة معه إنما قيل له عتيق لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به . وقيل إنما سمي عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنت عتيق الله من النار " . وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " أنت عتيق من النار " فيومئذ سمى عتيقا . وقيل له " الصديق " أيضا . قالت عائشة رضي الله عنها لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فأرتد ناس ممن كان قد آمن وصدق وفتنوا به فقال أبو بكر أني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة . فلذلك سمى أبو بكر الصديق وقال أبو محجن الثقفي :

وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الاسلام والله شاهد ... وكنت جليسا في العريش المشهر

وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وقيل كنى بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة فلما أسلم آزر النبي صلى الله عليه وسلم في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة . قال تعالى { وسيجنبها الأتقى الذى يوتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى } وقد أجمع المفسرون على أن المراد منه أبو بكر . قال الفخر الرازي ردا على من قال إنها نزلت في حق علي رضي الله عنه :

لما ذكر بعضم في محضرى قلت أقيم الأدلة العقلية على أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر . وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إلى أن قال لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو على ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر . إنما قلنا لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى

وما لأحد عنده من نعمة تجزى " وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها . أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه السلام عليه نعمة دنيوية بل كان أبو بكر ينفق على الرسول عليه السلام . بلى كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والأرشاد إلى الدين الا أن هذا لا يجزي لقوله تعالى { ما أسئلكم عليه من أجر } والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزي فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي رضي الله عنه "

كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم وكان إليه الأشناق في الجاهلية ( 1 ) كان إذا حمل شيئا صدقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه حتى أنه أسلم على يده خمسة من العشرة وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم . قال الشعبي سألت ابن عباس من أول من أسلم ؟ قال أبو بكر . أما سمعت قول حسان :

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا

وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر وكان تاجرا ذا ثروة طائلة وكريما حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤيا ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام . قال ابن اسحاق بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلاما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما علم عنه حين ذكرته له أي أنه بادر به . ونزل فيه وفى عمر " وشاورهم في الأمر " فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله فكان يشاوره في أموره كلها . ولما أشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معه إلى المدينة تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام . قال الله تعالى { ثانى أثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }

لما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لي في الخروج . قالت عائشة فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام . قال تعالى : { إلا تنصره فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى أثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا } سورة التوبة

وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته واستخلصه لنفسه وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وأنه تعالى سماه ثاني اثنين . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويجله ويعرف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا " ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا وقال : " يا قولم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة وكان أبو بكر إذا مدح قال " اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون وأغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون " وهذا من تواضعه رضي الله عنه ومما يدل على قوة أرادة أبي بكر ما قاله أبو السفر وهو : دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك . قال قد نظر إلى قالوا ما قال ؟ قال " أني فعال لما أريد "

قال عمر رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت ايوم أسبق أبا بكر أن سبقته فجئت بنصف مالي . فقال : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت مثله وجاء أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك . قال أبقيت لهم الله ورسوله . قلت لا أسبقه إلى شيء أبدا

ومن أخبار تواضعه رضي الله عنه أنه كان يحب للحى أغنامهم فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحى الآن لا يجلب لنا منائحنا فسمعها أبو بكر فقال : بلى لعمري لأحلبنها لكم وأني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه فكان يحلب لهم فربما قال للجارية أتحبين أن أرغى لك أو أن أصرح فأي ذلك قالت فعل

والآن يقولون أننا في عصر المدينة والحرية والديموقراطية ومع هذا تجد الموظف الصغير يأنف أن يكلم الناس أو يقضي حوائجهم

وعن سالم بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشتد مرضه أغمى عليه فلما أفاق قال مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس قال ثم أغمى عليه فقالت عائشة إن أبي رجل أسيف فلو أمرت غيره . فقال أقيمت الصلاة . فقالت عائشة يا رسول الله إن أبي رجل أسيف فلو أمرت غيره . قال أنكن صواحبات يوسف مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس . ثم أفاق فقال أقيمت الصلاة قالوا نعم . قال ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تخطان في الأرض . قال فأجلسوه إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس فلما توفي قال وكانوا قوما أميين لمي كن فيهم نبي قبله . قال عمر لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا . قال فقالوا له أذهب إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدعه يعني أبا بكر قال فذهبت فوجدته في المسجد قال فأجهشت أبكي . قال لعل نبي الله توفى . قلت إن عمر قال لا يتكلم أحد بموته الا ضربته بسيفي هذا . قال فأخذ بساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل فأوسعوا له فأكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر نفسه حتى استبان انه توفى . فقال أنك ميت وأنهم ميتون . قالوا ياصاحي رسول الله توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم . فعلموا أنه كما قال

قال ابن اسحاق توفى أبو بكر رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر ( 23 أغسطس سنة 634 ) وصلى عليه عمر بن الخطاب

توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وأشهر بالمدينة وهو ابن ثلاث وستين سنة

وكان أبو بكر رجلا أبيض نحيفا خفيف العارضين أحنى معروق الوجه . غائر العينين . ناتئ الجبهة . عارف الأشاجع . يخضب بالحناء والكتم وكان أوب من أسلم من الرجال وأسلم أبواه له ولوالديه ولوده وولد صحبة رضي الله عنهم . واختلف في سبب موته . فقيل أنه مات مسموما . وقيل أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما ثم مات بعدها وقيل أنه مات كمدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذه ترجمة حياة أبي بكر اثبتناها هنا بمناسب اسلامه وما كان له من الشأن العظيم والقدر الرفيع ولأنه قد بذل المجهود في نصرة الرسول فدل بذلك على غاية الوفاء ومنتهى الاخلاص . ولم يكن رضي الله عنه رجلا ضعيفا كما ظن بعض المستشرقين بل كان شجاعا وكان مع شجاعته مخلصا لا يبالي بالأهوال ويحتمل المشقات كما يستفاد من سيرته فبقي مع الرسول ولم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين عند اشتداد أذى الكفار على المسلمين ولما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة معه بكى من فرط السرور . واشترك معه في غزواته وهو ممن ثبت مع رسول الله في غزوة أحد . ولما توفى النبي فقد الناس صوابهم وقال عمر : من قال إن محمدا مات ضربته بسيفي هذا . أما أبو بكر فملك شعوره ولم يفقده وقع المصاب الجلل صوابه فقال : إنك ميت وأنهم ميتون وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا كانت هذه مواقف ضعف وخلال ووهن فأين مواطن القوة ؟ ولم نذكر هنا أعماله الجليلة في خلافته ( 2 )

يقول هؤلاء المستشرقون إنه كان يصدق الرسول تصديقا أعمى وأنه كان كالنساء سريع البكاء وهو قول عجيب فكيف لا يصدق الرسول وهو يعلم أنه صادق لا يكب بل هو أعلم خلق الله بصدقه عليه الصلاة والسلام لصحبته له تلك الصحبة الطويلة

أن تصديقه لرسول الله في كل ما قاله نتيجة الثقة به ولأجل هذه الثقة المتينة كان لا يتردد في التصديق به ولأجلها تحمل معه الشدائد والإضطهادات ولأجلها أنفق أمواله كلها وهذا شأن العاقل الذي إذا ثبت يقينه على أساس قوي لم يبال بما يصادفه من عقبات في سبيل نصرة الحق . أما بكاؤه عند سماع القرآن فهذا أظهر دليل على أخلاصه وتوقد ذكائه وهو فهمه لكلام الله عز وجل إذ بقدر الفهم يكون التأثر . وقد أجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وذهده وتواضعه

_________

( 1 ) الاشناق : الديات

( 2 ) كانت مدة خلافة أبي بكر سنتين قضى فيها على المرتدين قضاء مبرما وأخضع بني غسان وبني تغلب وهزم الفرس ودخلت جيوشه عاصمتهم وتغلب على العراق وجهز جيشا يبلغ عدده ثلاثين ألفا لمحاربة الروم في الشام كل ذلك في سنتين

_________

كلماته المآثورة

كان رضي الله عنه يقول :

أكيس الكيس التقوى وأحمق الحمق الفجور وأصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة . إن العبد إذا داخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة . ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل . وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد

 

 

علي بن أبي طالب وإسلامه

 

 

- علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد سنة 600 - 601 بعد الميلاد . وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم وكنيته أبو الحسن وصهر رسول الله على ابنته فاطمة وأبو السبطين . وهو أول هاشمي ولد بين هاشميين . والخليفة الرابع وأول خليفة من بني هاشم وكان حين أسلم لم يبلغ الحلم . وقال ابن اسحاق أنه كان يومئذ ابن عشر سنين وكان في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه لأن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال قليل المال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وضمه إليه وأخذ العباس جعفرا وضمه إليه تخفيفا عن أبي طالب ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه

وسبب إسلامه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة رضي الله عنها وهما يصليان سواء . فقال ما هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته والكفر باللاة والعزى . فقال علي رضي الله عنه : هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره . فقال له يا علي إذا لم تسلم فأكتم هذا فمكث على ليلته ثم أن الله تعالى هداه إلى الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يديه ( 1 ) . وكان علي رضي الله عنه يخفي إسلامه خوفا من أبيه إلى أن أطلع عليه وأمره بالثبات عليه فأظهره حينئذ . أما أبو طالب فلم يرض أن يفارق دين أبائه وعن أنس بن مالك قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء . وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه ليلة خرج مهاجرا وقال : إن قريشا لم يفقدوني ما رأوك فاضطجع على فراشه وسيأتي ذكر ذلك عند الكلام على الهجرة ثم لحق برسول الله بالمدينة بعد قضاء ديون رسول الله ورد الودائع التي كانت عنده فلما وصل إليها كانت قدماه قد ورمتا من المشي وكانتا تقطران دما فأعتنقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى رحمة لما أصاب قدميه وتفل في يديه ومسح بهما رجليه ودعى له بالعافية فلم يشتكهما حتى أستشهد رضي الله عنه . وشهد بدرا وغيرها من المشاهد ولم يشهد غزوة تبوك لا غير لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على أهله . وأصابته يوم أحد ست عشرة ضربة . وكان علي رضي الله عنه مع شجاعته الفائقة عالما . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وعن ابن عباس أنه قال : إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره

واستخلف علي رضي الله عنه وبويع له بالمدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل عثمان وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ( 24 يونية 656 )

_________

( 1 ) لم يكن علي رضي الله عنه حين أسلم يبلغ الحلم وكان يومئذ ابن عشر سنين وعلى ذلك لم يعبد الأصنام وقيل كان عمره ثمان سنين

 

 

قتله رضي الله عنه

 

 

- انتدب ثلاثة نفر من الخوارج : عبد الرحمن بن ملجم المرادي وهو من حمير وعدادة في بني مراد وهو حليف بني جبلة من كندة والبرك بن عبد الله التميمي وعمر بن بكير التميمي وعمر بن العاص ويريح العباد منه . فقال ابن ملجم أنا لكم بعلي وقال البرك أنا لكم بمعاوية وقال عمر بن بكير أنا أكفيكم عمر بن العاص فتعهدوا على ذلك وتعاقدوا عليه وتواثقوا أن لا ينقص منهم رجل عن صاحبه الذي سمى له ويتوجه له حتى يقتله أو يموت دونه . فحددوا ليلة سبع عشرة من رمضان ثم توجه كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه . فقد عبد الرحمن بن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريد وكان يزورهم ويزورونه فزار يوما نفرا من بني تيم الرباب فرأى امرأة منهم يقال لها فطام بنت سنحبه بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تيم الرباب وكان عليا قتل أباها وأخاها بالنهروان فأعجبته فخطبها . فقالت لا أتزوجك حتى تسنى لي فقال لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك فقالت ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب . فقال والله ما جاء بي إلى هذا المصر إلى قتل علي وقد أعطيتك ما سألت . ولقي ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي فأعلمه ما يريد ودعاه أن يكون معه فأجابه إلى ذلك وظل ابن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل عليا في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده حتى يطلع الفجر فقال له الأشعث فضحك الصبح فقام ابن ملجم الكندي وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا في مقابل السدة التي يخرج منها علي . فلما خرج أعترضه الرجلان فضرب الأثنان سيفهما فأما سيف ابن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه وكان قد سن سيفه شهرا . وأما سيف شبيب فوقع في الطاق فسمع علي يقول لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليهما من كل جانب فأما شبيب فأفلت وأخذ ابن ملجم فأدخل على علي فقال " أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فأن أعش فأنا ولي دمي عفو أو قصاص وإن مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين " . ضرب علي رضي الله عنه في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين ( 24 يناير سنة 661 ) واستشهد بعد ذلك بثلاثة أيام ودفن في الكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من رمضان وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر . وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الأصح وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر

قال علي الباقر : كان علي آدم اللوم مقبل العينين عظيمهما ذا بطن . أصلع . ربعة لا يخضب . وقال أبو اسحق السبيعي رأيته أبيض الرأس واللحية وكان ربما خضب لحتيه . وقال أبو رجاء العطاردي رأيت عليا ربعة . ضخم البطن . كبير اللحية . قد ملأت صدره . أصلع . شديد الصلع

هذا وقد أقتصرت في تاريخ حياة علي رضي الله عنه على هذا القدر الضروري لأن المقام لا يسع أكثر من ذلك والله أرجو أن يوفقني في المستقبل إلى البحث بالتفصيل عن سير هؤلاء الأبطال ومناقبهم

 

 

زيد بن حارثة واسلامه

 

 

- زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى . ويقع في نسبه خلاف وتغيير وزيادة وهو أشهر موالي رسول الله . ويقال له حب رسول الله وهبته خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وهو ابن ثمان سنين وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه وذلك أن أباه قد وجد لفقده وجدا شديدا وكان قد أخذ في السبى . فلما علم أبوه أنه بمكة قدمها ليفديه فدخل حارثة وأخوه كعب على النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا ابن عم عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيد قومه جئناك في ابننا عندك فأمنن علينا وأحسن إلينا في فدائه . فقال من هو ؟ قالا : زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا غير ذلك ؟ قال ماهو . قال : ادعوه وخيروه فإن أختاركم فهو لكم وإن أختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من أختارني أحدا قالا قد زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : هل تعرف هؤلاء ؟ قالت : نعم . هذا أبي وهذا عمي قال : فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك فأخترني أو اخترهما . قال : ما أريدهما وما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم . فقالا : ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك ؟ قال نعم : ورأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه . فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما وانصرفا ( 1 )

وهاجر زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر . وكان هو البشير إلى المدينة بنصر المؤمنين يوم بدر وكان من الرماة المذكورين وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن فولدت له اسامة وتزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين ( 2 ) ثم طلقها ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } إلى قوله تعالى { وكان أمر الله مفعولا } فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها يعني زينب قالوا أنه تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } وكان زيد يقال له زيد بن محمد فأنزل الله تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } الآية

قال العلماء ولم يذكر الله عز وجل في القرآن باسمه العلم من أصحاب نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم الا زيدا في قوله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها }

وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة . وأرسله رسول الله أخيرا أميرا على الجيش في غزوة مؤتة فقاتل فيها حتى وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة . وكان زيد أبيض أحمر وكان ابنه اسامة آدم شديد الأدمة

_________

( 1 ) زيد بن حارثة من أبوين مسيحيين لكنه لم يكن يعلم شيئا عن المسيحية لأنه سبى صغيرا ووهبته خديجة للنبي قبل النبوة وهوابن ثمان سنين

( 2 ) وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

الدعوة إلى الاسلام خفية

 

 

- بعد أن نزلت سورة " يا أيها المدثر " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله تعالى وتتابع الوحي . ونزول هذه السورة ابتداء رسالته صلى الله عليه وسلم فهي متأخرة عن نبوته . وصار عليه الصلاة والسلام يدعوالناس إلى الإسلام خفية ثلاث سنين إلى أن أمر باظهار الدعوة . وكان من أسلم إذا أراد الصلاة ذهب إلى بعض الشعاب ليستخفي بصلاته من المشركين حتى أطلع نفر من المشركين على سعد بن أبي وقاص وهو في نفر من المسلمين يصلون في بعض الشعاب فناكروهم وعابوا عليهم ما يضنعون وقاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم فشجه وهو أول دم أهريق في الاسلام . فعند ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه دار الأرقم مستخفين بصلاتهم وعبادتهم إلى أن أمره الله تعالى باظهار الدين . ودار الأرقم هي دار للأرقم بن أبي الأرقم من السابقين في الإسلام وهي في أصل الصفا

وقد أسلم من الصحابة بدعاو أبي بكر عثمان بن عفان . والزبير بن العوام . وعبد الرحمن بن عوف . وسعد بن أبي وقاص . وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ( 1 ) وهنا يجب أن نذكر شيئا عنهم :

 

 

1 - فعثمان بن عفان هوالخليفة الثالث . هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ويقال له ذو النوريين لأنه تزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ثم أم كلثوم بعد وفاة رقية . ولد في السنة السادسة بعد الفيل وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن 90 سنة وكانت خلافته ثنتي عشرة سنة

وفي زمنه كانت عزوة الاسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرس واصطخر الآخرة وفارس الأولى ثم خوز وفارس الآخرة ثم طبرستان ودار بجرد وكرمان وسجستان ثم الأساورة في البحر وغيرهن ثم مرو

وكان رضي الله عنه حسن الوجه رقيق البشرة كث اللحية أسمر كثير الشعر بين الطويل والقصير وكان محببا من قريش

 

 

2 - الزبير بن العوام كان عمره حين أسلم ثمان سنين وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة في أحدهم : عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف . هاجر الزبير إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهو أول من سل سيفا في سبيل الله شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وحصار الطائف والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد اليرموك وفتح مصر . وكان أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية . وكان الزبير يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف فلحقه جماعة من الغواة فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة وقره هناك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وكان عمره حينئذ سبعا وستين وقيل ستا وثلاثين سنة

 

 

3 - عبد الرحمن بن عوف ولد بعد الفيل بعشر سنين قبل دخول رسول الله دار الأرقم . أحد العشرة المشهور لهم بالجنة وأحد الستة الذين هم أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالخلافة . وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد مع رسول الله بردا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد . وجرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه . وكان كثير الإنفاق في سبيل الله . أعتق في يوم أحدا وثلاثين عبدا . وكان كثير المال محظوظا في التجارة . وكان أبيض مشربا بحمرة حسن الوجه رقيق البشرة أعين أهدب الأشفار أقنى له جمة . ضخم الكفين غليظ الأصابع لا تغير بشعره . توفي سنة ثنتين وثلاثين وهو ابن ثنتين ودفن بالبقيع

 

 

4 - سعد بن أبي وقاص وكان عمره حين أسلم تسع عشرة سنة وهو أحد العشرة وأحد الستة أصحاب الشورى وهو أول من رمى بسهمه في سبيل الله وأول من أراق دما في سبيل الله . هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها . شهد مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد . وكان يقال له فارس الإسلام . وأبلى يوم أحد بلاء شديدا وكان مجاب الدعوة . واستعمله عمر بن الخطاب على الجيوش التي بعثها إلى بلاد الفرس وهو كان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية وبجلولاء وغنمتهم وفتح مدائن كسرى وبني الكوفة وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق . ورمى سعد يوم أحد ألف سهم . ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن فلم يقاتل في شيء من تلك الحروب . توفي سنة خمس وخمسين بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ودفن بالبقيع وكان آدم طوالا ذا هامة

 

 

5 - طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الخير وطلحة الجود وهو من المهاجرين الأولين . لم يشهد بدرا وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد . قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وكان عمره أربعا وستين سنة وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرك به

هذا الجزء يسير من تراجم الخمسة الذين أسلموا بدعاء أبي بكر وهم من الرجال الذي ذاع صيتهم في الإسلام لما قاموا به من جلائل الأعمال وقد أسلم بعد هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون وعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة وخباب بن الأرت حيف بني زهرة وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ومسعود بن القاري وهو مسعود بن ربيعة وسليط بن عمرو وأخوه حاطب بن عمرو وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة وامرأته أسماء بنت سلامة وخنيس بن حذافة بن قيس وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان وحاطب بن الحارث . وغيرهم إلى آخر من ذكرهم ابن هشام في سيرته فليراجعهم من شاء

قدمنا أن عثمان بن عفان قد أسلم أجابة لدعوة أبي بكر لكن الأستاذ مرجوليث في كتابه محمد ( 2 ) يزعم أن سبب اسلامه أنه كان يحب رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد أن يتزوجها . فلما بلغه أنها خطبت لغيره حزن وأخبر أبا بكر بما بلغه وصادف مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسر أبو بكر كلمات في أذن رسول الله وبذلك انتهى الأمر وأسلم عثمان وتزوج رقية ولم يذكر لنا مستر مرجوليث المصدر الذي استقى منه هذا الخبر بخلاف عادته في تأليفه والراجح أنه من ظنونه وأوهامه التي يدسها للطعن على الإسلام والمسلمين ثم تعرض بعد ذلك إلى خالد بن سعيد وسبب اسلامه . ذلك أن خالدا كان من السابقين إلى الإسلام فكان ثالثا أو رابعا وقيل كان خامسا في الإسلام وسبب اسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به وكأن أباه يدفعه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه لا يقع فيها ففزع وقال : أحلف أنها لرؤيا حق ولقى أبو بكر رضي الله عنه فذكر ذلك له . فقال له أبو بكر أريد بك خير . هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع في النار وأبوك واقع فيها فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد . فقال : يا محمد إلى من تدعو ؟ قال : أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبد . قال خالد فأنى أشهد أنلا إله إلا الله واشهد أنك رسول الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه . وبعد أن ذكر الأستاذ مرجوليث رؤيا خالد باختصار وتعبير أبي بكر لها وأن هذه الرؤيا كانت سبب اسلام خالد بن سعيد تساءل هل الناس حقيقة يحلمون هكذا ؟ لكنه قال " إن فلاماريون وميرز ( Flammarion and Myers ) يجيبان نعم أنهم يرون مثل ذلك " وهما من العلماء المشهورين . المدهش أن الأستاذ مرجوليث لا يعلم أن الناس يرون أحلاما هكذا مع اقرار علماء النفس في أوربا وأمريكا بذلك والأحلام على العموم شائعة بين الناس . وليست رؤيا خالد من الأحلام المستغربة حتى يشك فيها مثل مرجوليث . أما إذا كان الشك لغرض فهذا أمر آخر

_________

( 1 ) كان كل من أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بزابزا وكان الزبير جزارا وسعد بن أبي وقاس يصنع النبل

( 2 ) Mohammed by عز وجل . S Margliouth

 

 

3 - d . edition

Page 97

 

 

ايذاء المشركين لأبي بكر الصديق

 

 

- عبادة الأصنام مع أنها واضحةالبطلان إلا أن العرب كانوا متمسكين بها تمسكا شديدا لرسوخها في نفوسهم منذ زمن طويل فلا يطيقون سماع من يعيبها أو يطعن فيها بل لا يقبلون ارشاد ناصح يخاطبهم بالحسنى ويناقشهم بالعقل والبرهان . فإذا قيل لهم كيف تعبدون الحجارة التي لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع ولا تعلم من يعبدها ومن لا يعبدها ثارت ثائرتهم . وقالوا : هذا ما وجدنا عليه آباءنا واعتدوا على أعز الناس لديهم واشرفهم وأعقلهم واسهلهم أخلاقا . فلم يكن من الحكمة وأصالة الرأي أن يجهر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القليلون بالاسلام ويؤدوا شعائرهم الدينية أمام أمة بأسرها متعصبة لدينها الثني تعصبا أعمى

وقد أدرك بعض أفراد الثاقب أن قومهم في خطأ مبين فمنهم من مات وهو منكر لعبادة الأصنام قبل الاسلام . ومنهم من آمن برسول الله عندما بلغه رسالته كسلمان الفارسي أو عندما دعاه رسول الله إلى اتباع الدين القويم كأبي بكر ومن أسلم بدعائه وغيرهم ولم يبالوا بما يصيبهم من سخط قومهم وايذائهم مع ما يعلمونه من قلة عدد المؤمنين في بادئ الأمر

فمما وقع لأبي بكر رضي الله عنه من الأذية ما ذكره بعضهم كما في السيرة الحلبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبد الله هو ومن معه من أصحابه سرا ألح أبو بكر رضي الله عنه في الظهور ( 1 ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر أنا قليل . فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى رسول الله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا . وصار عتبة بن ربيعة ( 2 ) يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه صار لا يعرف أنفه من وجهه . فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزلة ولا يشكون في موته ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة . ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار . ثم تكلم وقال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك . فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك . فقال : اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه فخرجت إليها وقالت لها أن تسأل عن محمد بن عبد الله . فقالت لا أعرف محمدا ولا أبا بكر . ثم قالت تريدين أن أخرج معك ؟ قالت نعم . فخرجت معها إلى أن جاءت أبو بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت : إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق . وأني لأرجو أن ينتقم الله منهم . فقال لها أبو بكر رضي الله عنه . ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت له هذه أمك تسمع . قال فلا عين عليك منها أي أنها لا تفشي سرك . قالت سالم هو في دار الأرقم . فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك . فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس الا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الاسلام فأسلمت . لا شك أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في خطر شديد . فقد كان لا يهدأ للمشركين بال الا إذا أساءوا إليهم ولذلك كان الأستخفاء في غاية الحكمة وبقي المسلمون مستخفين في دار الأرقم حتى كملوا أربعين رجلا وكان آخرهم اسلاما عمر بن الخطاب . فلما كملوا به أربعين خرجوا وأظهروا اسلامهم

_________

( 1 ) هذا دليل على أن أبا بكر لم يكن ضعيفا لأنه لو كان كذلك لما ألح في الظهور وهو يعلم عداء قريش للمسلمين ودليل على قوة ايمانه بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

( 2 ) عتبة بن ربيعة قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر كافرا

 

 

اظهار الاسلام

 

 

- أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إليه . وكان بين اخفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتاره به وبين أمر الله تعالى اياه باظهار دينه ثلاث سنين من بعثه ثم قال الله تعالى له { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 1 ) } أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم اياك على اظهار الدعوة . وقال تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( 2 ) } . فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ( 3 ) . فقال : يا معشر قريش . فقالت قريش محمد على الصفا يهتف . فأقبلوا واجتمعوا . فقالوا مالك يا محمد ؟ قال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني ؟ قالوا نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط . قال فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . يا بني عبد المطلب . يا بني عبد مناف . يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا الا أن تقولوا لا إله إلا الله . فقال أبو لهب " تبا لك " سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله تبارك تعالى { تبت يدا أبي لهب } السورة كلها . فلما سمع أبو لهب قوله { تبت يدا أبي لهب وتب } قال إن كان ما يقول محمد حقاص افتديت منه بمالي وولدي فنزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } وكان أبو لهب إذا سأله وفد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه ساحر ومجنون لينصرفوا عنه قبل لقائه . وقد أغضبت هذه السورة أبا لهب فأظهر شدة العداوة وصار متهما فلم يقبل قوله في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه . وروى عن طارق المحاربي أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول أيها الناس : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه . وقال لا تطيعوه فإنه كذاب . فقلت من هذا ؟ قال محمد وعمه أبو لهب . أما امرأته فهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية فكانت أيضا في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترمى الشوك في طريقه

وعن الزهري أنه قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول . فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنه غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وعادوه

وعن ابن عتبة أنه قال . لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام ومن معه وفشا أمره بمكة ودعا بعضهم بعضا فكان أبو بكر يدعو ناحية سرا وكان سعيد بن زيد مثل ذلك وكان عثمان مثل ذلك وكان عمر يدعو علانية وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح فغضبت قريش من ذلك وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغي وأشخص به منهم رجال فبادوه وتستر آخرون وهم على ذلك الرأي إلا أنهم ينزهون أنفسهم عن القيام والأشخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أهل العداوة والمباداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل بن هشام وأبو لهب بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغيلطة والوليد بن المغيرة وأبي بن خلف وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والعاص بن وائل والنضر بن الحارث ومنبه بن الحجاج وزهير بن أبي أمية والسائب بن صيفي بن عابد والأسود بن عبد الأسد والعاص بن سعيد بن العاص والعاص بن هاشم وعقبة بن أبي معيط وأبو الأصديى الهذلى والحكم بن أبي العاص وعدي بن الحمراء وذلك أنهم كانوا جيرانه والذين كانت تنتهي عداوة رسول الله إليهم أبا جهل وأبا لهب وعقبة بن أبي معيط . وكان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة ولكنهم لم يشخصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا كنحو قريش ولم يسلم منهم أحد إلا أبو سفيان ( 4 )

أول من جهر بالقرآن

كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود . اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط . فمن رجل يسمعهم فقال عبد الله بن مسعود ( 5 ) : أنا . فقالوا انا نخشاهم عليه إنما نريد رجلا هل عشيرة تمنعه من القوم ان أرادوه . فقال دعوني : فإن الله سيمنعني . فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام . فقال رافعا صوته : { بسم الله الرحمن الرحيم ... الرحمن علم القرآن } . فاستقبلها فقرأبها فتأملوا . فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد ؟ ثم قالوا أنه ليتلو بعض ما جاء به محمد . فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه . فقالوا : هذا الذي خشينا عليك . فقال : ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا . قالوا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون

_________

( 1 ) سورة الحجر

( 2 ) سورة الشعراء

( 3 ) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة

( 4 ) راجع طبقات ابن سعد

( 5 ) كان عبد الله بن مسعود قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم دقيق الرجلين . يقال أن عبد الله سادس من أسلم . وقد هاجر الهجرتين وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله وهو الذي أجهز على أبي جهل

 

 

القرآن يحير ألباب العرب

 

 

- تحيرت ألباب العرب في القرآن الذي نزل بلغتهم وهم أهل فصاحة وبلاغة . وخشيت قريش أن ينتشر الاسلام وينتصر النبي صلى الله عليه وسلم بدينه على الأصنام . فاتفقوا على اطلاق اسم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفر القبائل منه ويشوه سمعته ويكون عقبة في سبيل نشر دعوته . ذلك أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم . وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش أنه قد حضر هذا الموسم . وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه . وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا . فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال بل أنتم قولوا اسمع . قالوا نقول كاهنا قال والله ما هو بكاهن : لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ( 1 ) . قالوا فنقول مجنون . قالوا ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ( 2 ) . قالوا فنقول شاعر . قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ( 3 ) فما هو بالشعر . قالوا فنقول ساحر . قال ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده ( 4 ) . قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ والله إن لقوله لحلاوة وان أصله لعذق ( 5 ) وإن فرعه لجناة ( 6 ) وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر أحد الا حذروه اياه . لكن النتيجة جاءت عكس ذلك فقد انتشر ذكره صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب

وقد كان ضماد بن ثعلبة الأزدي صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية . وكان رجلا يتطبب ويرقى ويطلب العلم . فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون . فجاءه وقال أني راق فهل بك من شيء فأرقيك ؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله " الحمد لله نحمده ونستعينه . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله أما بعد " فقال له ضماد أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا . فقال والله لقد سمعت قول الكهنة وسمعت قول السحرة وسمعت قول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات . لقد بلغت ياعوس البحر فمد يدك أبايعك على الاسلام فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه وأسلم ( 7 )

_________

( 1 ) الزمزمة كلام خفي لا يفهم . السجع أن يكون الكلام المنثور له نهايات كنهايات الشعر

( 2 ) بخنقه . يريد الأختناق الذي يصيب المجنون . والتخالج اختلاج الأعضاء وتحركها عن غير ارادة والوسوسة ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان

( 3 ) هذه كلها أنواع من الشعر

( 4 ) اشارة إلى ما كان يفعل الساحر من أن يعقد خيطا ثم ينفث عليه . ومنه قوله تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " يعين الساحرات

( 5 ) العذق الكثير الشعب والأطراف في الأرض

( 6 ) أي فيه ثمر يجنى

( 7 ) راجع أسد الغابة

 

 

قريش تفاوض أبا طالب في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

المفاوضة الأولى

لما رأت قريش أن أبا طالب قد قام دون النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب : عتبة وشبيبة انا ربيعة . وأبو البختري بن هشام . والأسود بن المطلب . والوليد بن المغيرة . وأبو جهل بن هشام . والعاص بن وائل . ونبيه ومنبه ابنا الحجاج . ومن مشى منهم . فقالوا يا أبا طالب : إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فأما أن تكفه عنا وأما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه . فقال لهم أبو طالب قولا جميلا وردهم ردا رقيقا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هو عليه . هذه هي المفاوضة الأولى لكنها لم تثمر شيئا إذ ظل الرسول يدعو إلى عبادة الله كما كان

المفاوضة الثانية

ثم لما تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريس ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكروا في مفاوضة أبي طالب مرة أخرى . فمشوا إليه وقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا وانا قد اشتهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل . وأنا واللذه لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه . ومعنى ذلك أنهم هددوا أبا طالب في هذه المرة وأظهروا له العداوة فعظم عليه فراق قومه وعداوتهم ولم تطب نفسه باسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ما قالت قريش وقال له : أبق على نفسك وعلى ولا تحملني من الأمر مالا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه قد خذله وضعف عن نصرته . فقال له " يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته " ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام . فلما ولى ناداه أبو طالب فأقبل عليه وقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا

المفاوضة الثالثة

أصر أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه قياما بالواجب عليه نحو من تربى في كفالته ونشأ في بيته وعملا بالمروءة . ولكنه مع ذلك بقى على دينه ولم يعنتق الإسلام . لذلك صارت مهمته شاقة ومركزه حرجاظص فأمامه قريش متعصبة لدينها وقد أغضبها قيام محمد صلى الله عليه وسلم بنشر الإسلام ومحاربة الأصنام . وصاحب الدعوة لا يثنيه عن القيام بما أمر به سخرية ساخر أو اضطهاد مضطهد فلو أن أبا طالب أسلم لكان دفاعه أعظم وحجته أبلغ أمام العرب وأحكم

وفي هذه المرة مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد . فقالوا يا أبا طالب : هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصرته فأتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك نقتله فإنما رجل برجل . فقال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني أبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله لا يكون أبدا . فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم . فقال والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك . وكل عاقل يرى أن ما عرضته قريش على أبي طالب في غاية السخف لكنهم كانوا يتلمسون الحيل للخلاص من صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بأي حال فلما يئسوا من اجابة طلبهم اشتدت قريش على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم . وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوا إلى ذلك واجتمعوا إليه

 

 

تعذيب المسلمين

 

 

- أخذت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذي من آمن به حتى عذبوا جماعة من المستضعفين عذابا شديدا يدل على مقدار تعصبهم وقسوتهم

فمن الذين عذبوا لأجل اسلامهم بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر . وكان أبوه من سبى الحبشة وأمه حمامة سبية أيضا وهو من مولدى الشراة وكنيته أبو عبد الله فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ( 1 ) ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى وهو يقول " أحد . أحد " . فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي ألا تتقي الله في هذا المسكين . فقال أنت أفسدته فأبعدته . فقال عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به . قال قبلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه . وقيل اشتراه أبو بكر بخمس أواق . أما أمية بن خلف فقتله بلال واشترك مع معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف . قال ابن اسحق : أما ابنه علي فقتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف وذلك في موقعة بدر

ومنهم عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي وهو بطن من مراد . وعنس هذا أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا . أسلم هو وصهيب في يوم واحد . وكان ياسر حليفا لبني مخزوم فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم . فقال " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها في قلبها بحربة في يده فماتت وهي أول شهيد في الإسلام وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى وبالتفريق أخرى فقالوا لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا . ففعل وتركوه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقال ما وراءك ؟ قال شر يا رسول الله . كان الأمر كذا وكذا فقال فكيف تجد قلبك . قال أجده مطمئنا بالإيمان . فقال يا عمر إن عادوا فعد . فأنزل الله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ومنهم خباب بن الأرت وكان إسلامه قديما قيل سادس ستة قبل دخول رسول الله دار الأرقم فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار ولووا رأسه فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الكوفة ومات سنة ست وثلاثين

ومنهم صهيب بن سنان الرومي كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا يحيى قبل أن يولد له . وكان ممن يعذب في الله فعذب عذابا شديدا فلما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله أجمع عمر بن الخطاب عند موته يصلى بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى

ومنهم عامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان أسلم قديما قبل دخول رسول الله دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه واشتراه أبو بكر وأعتقه

ولما خرج رسول الله وأبو بكر إلى الغار مهاجرين أمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة أن يروح بغنم أبي بكر عليهما وكان يرعاها وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما . وشهد عامر بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة

ومنهم لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ويقول إني لم أدعك إلا سآمة فتقول كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم فأشتراها أبو بكر فأعتقها

هذه أمثلة ذكرتها ليتضح للقارئ اشتداد العذاب على هؤلاء المساكين رجالا ونساء

ومما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الإيذاء ما قاله ابن عمر وكما في البخاري : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله

وفي رواية البخاري كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم ألا تنظرون إلى هذا المرائي ؟ أيكم يقول إلى جزوز آل فلان فيعمل إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه . فأنبعث أشقاهم فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك فأنطلق منطلق إلى فاطمة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عليهم تسبهم . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى فقال اللهم عليك بعمر بن هاشم وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد . وقد سقط جميعهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى قليب بدر . أما عقبة بن أبي معيط فكان من أسرى بدر وأمر رسول الله بقتله

_________

( 1 ) ويكفي ذلك تعذيبا لشدة حر مكة في فصل الصيف

 

 

ما عرضته قريش على رسول الله

 

 

- قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون . فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال يا أبن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة ( 1 ) والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامه وعبت به آلهتم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع . قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا في أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه حتى إذا فرغ عتبة و رسول الله يستمع منه . قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم . قال فاسمع مني . قال افعل . قال :

{ بسم الله الرحمن الرحيم . حم تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة منه انصت لها وألقى يديه خلف ظهره متعمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال . قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي . خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وأن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم ( 2 )

لقد ظن أبو الوليد في بادئ الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ما يعرضه عليه من مال وجاه وملك فأظهر له استعداد قريش لمنحه كل ما يبغي على أن لا يتعرص لدينهم ولا يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام . ظن ذلك لأن الإنسان ولا سيما الفقير المحتاج يطمع في المال وتغره أبهة الملك فيتشبث بهما ويسعى إليهما ما وجد للسعي سبيلا ولو كان أبو الوليد عرض ذلك كله أبو بعضه على غير النبي صلى الله عليه وسلم لاغتبط به واتفق مع قريش في الحالوأراح نفسه وأصحابه من العناء والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل في كل وقت . لكن النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام لم يكن طامحا إلى شيء من ذلك أصلا ولم يكن في وسعه أن يتنحى عن الدعوة إلى الإسلام مهما حاولت قريش صرفه عنها . ألا ترى أنه قال لعمه أبي طالب " والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " وما ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أمره بنشر الدعوة حيث قال { يأيها المدثر قم فأنذر } وقال عز شأنه { ولربك فاصبر } أي اصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين . فكيف بعد هذا الأمر الإلهي تخور عزيمته وتفتر قوته ولا يصبر على كل ما من الإيذاء ؟ بل كيف يغتر بحطام الدنيا ويندع لما تعرضه عليه قريش من ملك وجاه ومال ؟

ولما رأت قريش أن رسول الله قد رفض ما عرضوه عليه قالوا له يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أ ه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ( وهو من أجداد رسول الله ) فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق أم هو باطل ؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول فقال لهم ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . قالوا فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم . فقال لهم رسول الله ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا . وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . قالوا فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل . فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل . قالوا يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به أنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا نقبل منك ما جئتنا به أنه قد اعتذرنا إليك يا محمد وأنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا . وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله . وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا . فلما قالوا ذلك لرسول الله قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته لعاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سالوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل قال له فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ الساء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول . وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف رسول الله إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه ( 3 )

إن هذه المطالب التي طلبتها قريش من النبي صلى الله عليه وسلم مطالب مدهشة تدل على شدة تعنتهم وعنادهم وعلى أنهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا إذا شاهدوا المستحيلات ورأوا خوارق العادات ولذلك سألوا رسول الله أشياء عجيبة لا تخطر على البال بقصد تعجيزه والتشهير به فسالوه أن يغير الطبيعة فيسير الجبال ويفجر الأنهار ويحيي الموتى وأن يجعل الله له الجنان والقصور ويعطيه الكنوز . فهذه مطالب عباد المادة عباد الأصنام . ثم ما أسخف ما سأله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي طلب أن يتخذ النبي عليه الصلاة والسلام سلما إلى السماء ويأتي بصك وأربعة ملائكة يشهدون معه على صحة ما يقول . ولماذا كل هذا ؟ ليؤمن عبد الله بن أبي أمية هذا وقد قاسى الأنبياء صلوات الله عليهم الصعاب في سبيل هداية الكفار الذين كانوا يرمونهم بالضلال والسفاهة والجنون والسحر . قال تعالى : { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم مبين } فبماذا أجابوه على ذلك { قال الملأ من إنا لنضراك في ضلال مبين }

ولما دعا هود عليه السلام قومه إلى عبادة الله رموه بالسفاهة والكذب . قال تعالى : { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقن . قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين }

ولما أظهر موسى عليه السلام المعجزة فألقى العصا فانقلبت ثعبانا ادعوا أنه ساحر . قال تعالى { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . ونزع يده فلإذا هي بيضاء للناظرين . قال الملأ من قوم قرعون إن هذا لساحر عليم } فالمتعنتون لا يؤمنون مهما رأوا من الآيات وخوارق العادات { وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } فهل بعد ذلك مكابرة واصرار على الكفر ؟

_________

( 1 ) من السطة مثل العدة والعظة من الوعد والوعظ والوسط بمعنى الخيار ؟ قال تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا }

( 2 ) راجع سيرة ابن هشام

( 3 ) راجع سيرة ابن هشام . وسيأتي ذكر اسلام عبد الله بن أبي أمية عند فتح مكة

 

 

حماقة أبي جهل

 

 

- لما عاد رسول الله آسفا من عناد قومه وتشبثهم بالكفر قال أبو جهل : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ومن هذا تظهر شدة عداوة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه العداوة أخرجته عن حد العقل فأخذ يسلك سلوك الجهال ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذ النبي من شره ونجا من غدره

كان أبو جهل فرعون هذه الأمة اسمه عمرو بن هشام . قتل يوم بدر كافراص وكانت بدر في السنة الثانية من الهجرة . قتله عمرو بن الجموح وابن عفراء الأنصاريان وكانا حدثين وحديثهما في الصحيح مشهور . وفي كتاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقتولا قال ( قتل فرعون هذه الأمة ) وقد كان سيء الخلق فظا غليظ القلب فمن ذلك انه ظلم تاجرا قدم من زبيد بثلاثة أجمال حسان فسامها منه أبو جهل بثلث أثمانها ثم لم يسمها لأجله سائم فأكسد عليه سلعته ولم ينصفه غير رسول الله لأنه ساومه حتى ألحقه برضاه وأحذها رسول الله فباع جملين بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه . وكان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستعان اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم فمشى معه ورد إليه ماله

وابتاع النبي من شخص يقال له الأراشي أجمالا بأثمانها فلما استعان الرجل برسول الله وذكر له أنه غريب وابن سبيل وأن أبا جهل غلبه على حقه قام معه إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا ؟ قال محمد فخرج إليه وقد امتقع لونه . فقال أعط هذا الرجل حقه فامتلأ رعبا وأعطى الرجل حقه . هذا هو أبو جهل وهذا شيء من غلظته وجوره وهضمه للحقوق

وفي كتاب قاموس الإسلام الطبعة الثانية سنة 1896 ص 8 " أ أبا جهل كان فخورا فاجرا "

عز وجلictionary of Islam . 2 nd . edition . ( 1896 ) page 8

 

 

قريش تمتحن رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- لم تكف قريش بهذا كله بل أرادوا إحراجه عليه الصلاة والسلام بالأسئلة فبعثوا النضر بن الحارث ( 1 ) وعقبة بن أبي معيط غلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبرهم بقوله فأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالوا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالت لهم أحبار يهود سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فان أخبركم بهن فهو نبي مرسل . وان لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فانه قد كان لهم حديث عجب . وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه . وسلوه عن الروح وما هي . فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول . فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقلا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم

فجاءوا رسول الله فقالوا يا محمد اخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب . وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها . وأخبرنا عن الروح ماهي

فقال لهم رسول الله أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن . فأنصرفوا عنه فمكن رسول الله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه لا يحدث إليه وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه فشق على رسول الله تأخير الوحي وما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته اياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه . قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاثة قال عليه السلام أجيبكم عنها غدا ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى { ولاتقولن لشيء إن فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول إن شاء الله هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضا لو بقي حيا أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد والكذب منفر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام

جاء جبريل من الله عز وجل بخبر ما سألوه عنه فقال تعالى في شأن الفتية { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } وقال فيما سألوه من أمر الرجل الطواف { ويسألنك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم سببا } إلى آخر القصة

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح { ويسألنك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }

وقد أيد هذه الرواية الدكتور ولفنسون الأسرائيلي مدس اللغات السامية بالجامعة المصرية ودار العلوم فقال في رسالته ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) صفحة 98 ما يأتي : " وينبغي بعض المستشرفين صحة هذة القصة الخطيرة دون أن يأتوا بدليل نطمئن اليه . والحق أن من العسر أنكار رواية تاريخية كانت سببا في نزول سورة الكهف والأيات الخاصة بالروح وذي القرنين . وعندنا دليل يحملنا على الاعتقاد بأن هذة الرواية من المحتمل أن تكون واقعية ( 2 ) وهي أن في التلمود قصة مشهورة تشبه قصة أهل الكهف أخذ أحبار اليهود الأسئلة التى وجهوها للرسول بواسطة وفد بني قريش . ويؤيد هذة القصة ما ذهبنا اليه من أنه لم يكون بمكة أحد من اليهود إذ لو وجد منهم في مكة ما أوفد قريش وفدهم إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود عن شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجد منهم أحد فلا بد أن يكون غير عالم " وأنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم من تيسير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى { ولو أن قر سيرت به الجبال أ قطعت به الموتى بل لله الأمرجميعا } أي لا أصنع من ذلك لا ما شئت . وأنزل عليه في قوله خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ويبعث ملكا يصدقه بما يقول ويرد عنه { وقالوا ما لهذا الر سول يأ كل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكذون له جنة يأكل منها و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا . تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك } أى تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش { جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أمية { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } . وأنزل عليه في قولهم انا قد بلغنا إنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هوربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما هم به { أرأيت الذي ينهي عبدا إذا صلى . أرأيت إن الله يرى كلا أو أمر بالتقوى . أرأيت إن كذب وتولى . ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية . كلا لا تطعهوأسجد وأقترب }

وأنزل الله عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم . { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شئ شهيد }

_________

( 1 ) صحة نسبة النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بخلاف ما رواه ابن إسحاق ثم ابن منده وأبو نعيم عن ابن إسحاق من أنه كلده بن علقمة وأجمع أهل السير على أنه قتل يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب

( 2 ) قوله من المحتمل أن تكون واقعية - تعبير ضعيف لأنه يرد على المستشرقين الذين أنكروا هذه الرواية بلا بينة ويثبتها بأن لها شبها في التلمود فكان الأجدر به أن يقول : " إنها واقعية " ولا بد أن نذكر أن الأستاذ مرجوليث أنكر صدور هذه الأسئلة من اليهود وعدا ذلك فقد أخطأ وقال " الاسكندر الأكبر " بدلا من ذي القرنين وفرق بين الاثنين فالأول رومي والثاني يمني كما أثبت ذلك المقريزي وغيره . واسم ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد

 

 

اسلام جابر بن عبد الله

 

 

- بحث الأستاذ مرجوليث وأجهد نفسه في البحث على ما يظهر في كتابه ( محمد ) صفحة 106 عن الأساتذة الذين كانوا يعلمون رسول الله الكتب المقدسة فقال ما ترجمته : " كان جابر بن عبد الله مولى بني عبد الدار يهوديا صائغا في مكة يجلس هو وياسر يهودي آخر يقرآن الكتاب المقدس أثناء اشتغالهما بالتجارة وكان النبي يمر عليهما ويستمع منهما " ومعنى ذلك حسب رأيه أنه كون أفكاره الخاصة بالتوراة من سماع جابر بن عبد الله وهو يتلو عليه لكنه قال بعدئذ " إن جابرا اعتنق الإسلام عند سماعه النبي يقرأ سورة يوسف " فإذا كان جابر اليهودي قد أسلم عند سماعه قصة يوسف وهي في التوراة التي كان يتلوها على النبي كما ادعى فلا بد أسلم عند سماعه قصة يوسف وهي في التوراة التي كان يتلوها على النبي كما ادعى فلا بد أن القصة مذكورة في القرآن بغاية الدقة والإحكام والتفصيل المدهش حتى أنها حيرت لب جابر الذي ذكره مرجوليث كمعلم لرسول الله على أن الأستاذ مرجوليث اعترف باسلام جابر لأنه مذكور في كتب السير وأنا نعد اسلامه دليلا على اعجاز القرآن الكريم وعلى أنه منزل على رسول الله . أما ياسر فقد أسلم أيضا وعذب لاسلامه عذابا شديدا حتى مات . وقال الأستاذ مرجوليث " ويظن أن الجزء الخاص بالمسيحية في القرآن قد تعلمه النبي من صهيب الذي أسلم قديما وقد كان روميا من الموصل " وأنا نقول أن اسلام هؤلاء دليل على رسالة رسول الله وقد أسلم صهيب ورسول الله في دار الأرقم وكان المستضعفين بمكة المعذبين في الله عز وجل وهاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها مع رسول الله . هذا وقد ذكرنا أن الأستاذ نولدكه اعترف بأن رسول الله ما كان يعرف الأسفار القديمة

وما قاله مرجوليث قاله كفار قريش . قال تعالى { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر ابن الحارث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه قوم آخرون

 

 

الهجرة الأولى إلى الحبشة

 

 

- لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب وما هو فيه من العافية بمكانه من الله عز وجل ودفاع أبي طالب عنه وأنه لا يقدر أن يمنعهم قال : " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه "

وكان اسم النجاشي وقتئذ أصحمة بن أبجر . والنجاشي اسم لكل ملك يلي الحبشة فخرجوا متسللين سرا وذلك في شهر رجب سنة خمس من بعد النبوة ( سنة 615 م ) وكانوا أثني عشر رجلا وأربع نسوة حتى انتهوا إلى الشعيبة ( 1 ) فمنهم الراكب والماشي وأوقف الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى أرض الحبشة وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوال فلم يدركوا منهم أحدا . قالوا قدمنا أرض الحبشة فجاورنا خير جار أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه

كان عدد المهاجرين قليلا ولكن كان لهجرتهم هذه شأن عظيم في تاريخ الإسلام فأنها كانت برهانا ساطعا لأهل مكة على مبلغ اخلاص المسلمين وتفانيهم في احتمال ما يصيبهم من المشقات والخسائر في سبيل تمسكهم بعقيدتهم . وكانت هذه الهجرة مقدمة للهجرة الثانية إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة

وهذه أسماء المهاجرين والمهاجرات :

عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله . أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة . مصعب بن عمير . الزبير بن العوام . عبد الرحمن بن عوف . أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه امرأته أم سلمة . عثمان بن مظعون . عبد الله بن مسعود . عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى . أبو سبرة . حاطب بن عمرو . سهيل بن بيضاء

_________

( 1 ) مرفأ بمكة قبل جدة

 

 

شفاعة الغرانيق ( 1 ) افتراء الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- روى بعض المؤرخين ونقل عنهم المفسرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من قومه كفا عنه جلس خاليا وتمنى فقال ليته لا ينزل على شيء ينفرهم عني ورقاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } حتى بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان كلمتين على لسانه " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي " فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود ويقال أن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابا فسجد عليه رفعه إلى جبهته وكان شيخا كبيرا . فبعض الناس يقول إنما الذي رفع التراب الوليد وبعضهم يقول أبو أحيحة وبعضهم يقول كلاهما جيمعا فعل ذلك فرضوا بما تكلم به رسول الله وقالوا قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق . ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده . وأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك . فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى جلس في البيت فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة فقال جبريل جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك لتفترى علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا } إلى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا }

نقل هذه الرواية ابن سعد في طبقاته عن عبد الله بن حنطب . وقد قال الترمذي أن عبد الله بن خنطب لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الثلاثة ( 2 ) أما الآية التي قيل أنها نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال على الله مالم يقل بذكره شفاعة الغرانيق وهي { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } الأية لفم ينزل بهذه المناسبة . فقد قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فكرروا ذلك الألتماس وقالوا إنا نحب أن نعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت مانقول وخشيب أن تقول العرب اعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية ( 3 )

وروى صاحب الكشاف أنهم جاءوا بكاتبهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون ولا يجبون فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب أكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه وقال أسعر تم قلب نبينا يا معشر قريش أسعر الله قلوبكم نارا . فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا . فنزلت هذه الآية . وهذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قولوا إن هذه الآية مدنية

وذكر الطبري مسألة شفاعة الغرانيق فقال : حدثني محمد بن اسحاق عن يزيد بن زياد المدني عن محمد بن كعب القرظى . ثم سرد رواية محمد بن كعب القرظى بما يقارب رواية عبد الله بن حنطب التي نقلناها عن طبقات ابن سعد الا أنه قال فأنزل الله عم وجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن وآمنه من الذي كان يخاف ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم وأنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضى بقول لاله عز وجل حين ذكرت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ( 4 ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إلى قوله { لمن يشاء ويرضي } أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده الخ

أما محمد بن كعب القرظى منسوب إلى بني قريظة الطائفة المعروفة من اليهود فهو تابعي توفى سنة ثمان ومائة . جاء في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ما يأتي : " وما تقدم نقله عن قتيبة من أنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا حقيقة له وإنما الذي ولد في عهده أبوه فقد ذكروا أنه من سبى قريظة ممن لم يحتلم ولم ينبت فخلوا سبيله . حكى ذلك البخاري في ترجمة محمد . قال الفخر الرازي في تفسيره الآية المتقدمة بعد أن ذكر قصة شفاعة الغرانيق : هذه رواية عامة المفسرين الظاهريين . أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :

أحدها - قوله تعالى { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين }

وثانيها - قوله { قل ما تكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي انء أتبع إلا ما يوحى إلي }

وثالثها - قوله { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال

ورابعها - قوله تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره لاتخذوك خليلا } وكلمة كاد عنه بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل

وخامسها - قوله { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تر كن إليهمء شيئا قليلا } وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل

وسادسها - قوله { كذلك لنثبت به فؤادك }

وسابعها - قوله { سنقرئك فلا تنسى }

أما السنة فهي ما روى عن محمد بن اسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنا دقة وصنف فيه كتابا

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والأنس والجن وليس فيها حديث الغرانيق

وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها - أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان

وثانيها - أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم

وثالثها - أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خرو سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم

رابعها - قوله { فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته } وذلك لأن إحكام الآيات بازالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله إحكام لئلا يلتبس ما ليس بقرآن بالقرآن فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى

وخامسها - وهو أقوى الوجوه أنا لو رجوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحى وبين الزيادة فيه . فهذه الوجوه عرفنا على سبيل الأجمال أن هذه القصة موضوعة وكل ما في الباب إن جمعا من المفسرين ذكروها هنا لكنهم ما بلغوا حد التواتر وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة

ثم شرع الفخر الرازي في التفصيل فليرجع . وأنا نعتقد إن هذة القصة باطلة ومدسوسة ومن وضع الزناقة الذين يريدون بالإسلام سوءا ومع هذا فليس من المعقول أن يعترف النبي صلى الله عليه وسلم بشفاعة الغرانيق وهو يدعو إلى عبادة الله تعالى ويحارب الأصنام ولو كان الشيطان له سلطان عليه صلى الله عليه وسلم بدرجة أنه يملي عليه ويحرك لسانه بالكفر لكان ألعوبة له ليس في هذة القصة فقط بل في غيرها أيضا والنبي المعصوم من الشياطين . قال البيضاوي في تفسيره بعد ذكر قصة الغرانيق : ( ثم نبهه جبرائيل فاغتم به فغراه الله بهذه الآية وهو مرود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ) قال أسماعيل القنوي في حاشيته : وهو مرود عند المحققين بل يجب أن يكون مردودا عند جميع المسلمين لما عرفته من أمارات الكذب . قوله وأن صح الخ إشارة إلى منع صحته رواية لما قال القاضي عياض في الشفا أنه لم يوجد في شئ من الكتب المعتمدة بسند صحيح وقال إنه من وضع الزنادقة . وقال القاضي عياض إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل . فأمثال هذة القصص المدسوسة المكذوبة على رسول الله هي التي جعلت للطاعنين في الإسلام مجالا للنقد وتشويه الحقائق وتقبيح المحاسن

وهاك دليلا آخر على كذب هذه القصة من الوجهة التاريخية وهو :

أن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في رجب سنة خمس للنبوة وكانت السجدة في رمضان من السنة نفسها ( 5 ) أي قبل غسلام حمزة وعمر لأنهما أسلما في السنة السادسة ( 6 )

وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين قبل إسلام عمر كانوا يستخفون في دار الأرقم ويؤدون شعائرهم الدينية في منازلهم وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدرون أن يصلوا عند الكعبة حتى أسلم عمر . فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلوا معه واتفقوا على تسميته الفاروق فإذا كان المسلمون قبل إسلام عمر ما كانوا يستطيعون الصلاة عند الكعبة فكيف مع هذا يقال أن رسول الله سجد عند الكعبة وسجد معه القوم جميعا ؟ ؟ الحقيقة أن الرواية كذب واختلاق محض

قال موير في الجزء الثاني من حياة محمد : أن حمزة وعمر أسلما في السنة السادسة من النبوة وقال أن المسلمين لم يعودوا يخفون صلاتهم في منازلهم بل كانوا بعدئذ يجتمعون حول الكعبة ويصلون وهم آمنون مطمئنون

إن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة عادوا إلى مكة بسبب ما بلغهم من تحسن الأحوال أو أنهم سمعوا إشاعة كاذبة تطمئنهم فقدموا في شوال سنة خمس إلا أنه لم يدخل أحد منهم إلا بجوار إلا عثمان بن مظعون فإنه دخل بلا جوار ومكث قليلا ثم اسرع الرجوع إلى الحبشة لأن المسلمين كانوا لا يزالون مضطهدون وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعيب الأصنام

فكل هذه البراهين تؤيد أن قصة شفاعة الغرانيق أو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهة قريش بالخير افتراء واختلاق ولا يمكن أن يصدق هذه القة أحد من المؤرخين المحققين وقد ذكرت في كتاب تاريخ القرون الوسطى لجامعة كامبردج الجزء الثاني ص ( 210 - 311 ) ( 7 ) باعتبار أنها صحيحة . وأنه صلى الله عليه وسلم ندم على ما قال ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه واستنتج الكاتب أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يعتقد أنه إنما يتبع أمرا الهيا سواء عند تلفظه بهذه الكلمات أو عند عدوله عنها . لكنه علق في الهامش بما يأتي :

إن كثيرا من المحققين المسلمين يعتبرون هذه القصة خرافية وهذا ما كان ينتظر منهم . لكن من المدهش أن مؤرخا غير متحيز مثل ( كايتاني ) ينكرها أيضا

وأنا أقول لا وجه للدهشة لأن المؤرخ الذي يقدر موقفه ولا يتحيز لأحد يعترف بالحقيقة بغض الطرف عن أي اعتبار فإذا الأستاذ ( كايتاني ) وهو ذلك المؤرخ الإيطالي الكبير الذي يصدر المؤلفات الضخمة عن تاريخ الإسلام ينكر هذه القصة فما ذلك إلا أنه لم يرد أن يثبت إلا ما وصل إليه تحقيقه في هذه المسألة بدون تحيز

_________

( 1 ) الغرانيق في الأصل الذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه وقيل هو الكركي . والغرنوق أيضا الشاب الأبيض الناعم وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع

( 2 ) راجع الجزء الثالث من كتاب أسد الغابة

( 3 ) تفسير الفخر الرازي

( 4 ) أي عوجاء

( 5 ) راجع الجزء الأول من طبقات ابن سعد طبع ليدن سنة 1917 ص 138

( 6 ) راجع تهذيب الأسماء للنووي طبع جوتنجن ص 449 وراجع ابن اسحاق وكتاب موير الجزء الثاني وراجع قاموس الاسلام عز وجلictionary of Islam P . 650

( 7 ) ( 1913 ) PP . ( 310 - 311 ) . رحمه اللهambridge Medieval History

 

 

اسلام حمزة

 

 

- حمزة بن عبد المطلب . وأمه هالة بنت وهب . وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعه أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب . وكان رضي الله عنه أسن من رسول الله بسنتين وهو سيد الشهداء وأخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة . أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة

وكان سبب أسلامه أن أبا جهل أعترض فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك . ثم أنصرف عنه فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معه ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز قريش وأشدها شكيمة وكان يومئذ مشركا على دين قومه فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى بيته فقالت له يا أبا عمارة ولو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفا قبيل وجده ههنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد . فأحتمل حمزة الغضب فخرج سريعا لا يقف على أحد كما كان يضع يريد الطواف بالبيت معدا لأبي جهل أن يقع به . فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة وقام رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت ( 1 )

فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك . أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الذي يقول الحق فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين . قال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وثبت حمزة على اسلامه

فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولونه به ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء عظيما مشهورا وقاتل يوم بدر بسيفين وشهد أحدا فقتل بها يوم السبت النصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة بعد أن قتل أحد وثلاثين ودفن عند أحد في موضعه وكان عمره تسع وخمسين سنة

_________

( 1 ) كان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد صبأ عنه أنه خرج من دين إلى دين كما تصبأ النجوم أي تخرج من مطالعها . وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام

 

 

عمر بن الخطاب وسبب اسلامه

 

 

- عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى وأمه حنتمة بنت هاشم . ولد بعد الفيلا بثلاثة عشرة سنة . وروي عن عمر أنه قال ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين ويوافق مولده سنة 581 م . وكان مديد القامة تاجرا مشهورا من اشراف قريش . وكانت إليه السفارة في الجاهلية وذلك أن قريشا إذا وقع بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديدا عليه وعلى المسلمين . وقد ذكرنا أنه كان يعذب جارية بني مؤمل لاسلامها فاشتراها أبو بكر وأعتقها

اسلامه رضي الله عنه

عن ابن عباس أنه قال : " أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلا وامرأة ثم أن عمر أسلم فصاروا أربعين " وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام " يعني أبا جهل

وحكى عمر عن سبب اسلامه فقال "

كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا يوما في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من قريش فقال أين تذهب با ابن الخطاب أنت تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك . قال قلت وما ذاك ؟ قال أختك قد صبأت ( 1 ) . قال فرجعت مغضبا . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه ويد كان ضم إلى زوج أختي رجلين فجئت حتى قرعت الباب . فقيل من هذا ؟ قلت ابن الخطاب . وكان القوم جلوسا يقرءون في صحيفة معهم . فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا وتركوا أو نسوا الصحيفة من أيديهم . فقامت امرأة ففتحت لي . فقلت : يا عدوة نفسها قد بلغني أنك صبأت . قال فأرفع شيئا في يدي فأضربها به فسال الدم فلما رأت المرأة الدم بكت ثم قالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت . فدخلت وأنا مغضب فجلست على السرير فنظرت فإذا بكتا في ناحية البيت . فقلت ماهذا الكتاب ؟ أعظينيه . فقالت لا أعطيك . لست من أهله . أنت لا تغتسل من الجنابة ولاتطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون . قال لن أزل بها حتى أعطيتني فإذا فيه { بسم الله الحمن الرحيم } . فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي ثم رجعت إلى نفسي فإذا فيها { سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } قال فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت ثم ترجع إلي نفسي حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } حتى بلغت إلى قوله { إن كنتم مؤمنين } قال فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله . فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني وحمدوا الله عز وجل . ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الأثنين فقال : اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين إما عمرو بن هشام وأما عمر بن الخطاب . وإنا نرجوا أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فأبشر . قال فلما عرفوا منى الصدق في قلت لهم أخبروني بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا : هو في بيت في أسفل الصفا وصفوه . فخرجت حتى قرعت الباب . قيل من هذا ؟ قلت ابن الخطاب قال وقد عرفوا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا باسلامي . فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتحوا له فإنه ان يرد الله به خيرا يهده . ففتحوا لي وأخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من النبي صلى الله عليه وسلم . فقال أرسلوه . فأرسلني . فجلست بين يديه . فأخذ بمجمع قميصي فجبذني إليه . ثم قال اسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده قال قلت أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله . فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة

وكان اسلام عمر في السنة السادسة من النبوة وكان في السادسة والعشرين من عمره . وسماه رسول الله الفاروق لأنه لما أسلم قال لرسول الله ألسنا على الحق ان متنا أو حيينا ؟ قال بلى والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متم وإن حييتم . قال فقلت ففيم الأختفاء والذي بعثك بالحق لتخرجن فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر حتى دخلنا المسجد فنظرت إلى قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق وفرق بينالحق والباطل . قال عمر رضي الله عنه : لما أسلمت تلك اليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت . قال قلت أبو جهل فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي أبو جهل . فقال مرحبا ما جاء بك ؟ قلت جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به . فضرب الباب في وجهي وقال قبحك الله وقبح ما جئت به ( 2 )

لا شك أن عمر رضي الله عنه قد أسلم لسماعه آي الذكر الحكيم مع أنه كان قبل اسلامه يعذب جارية بنى مؤمل لاسلامها أشد العذاب بلا رحمة ولا شفقة ولا يتركها إلا إذا مل وكل وهذا يدل على أنه كان شديد البغض للاسلام شديد التعصب لدينه وقد تعدى على أخته وشجها ولم يكن أحد يتصور أن صاحب هذا الخلق الشديد الحانق على الإسلام والمسلمين والمعتدى على الرجال والنساء بالتعذيب والضرب يسلم بمجرد سماع آي القرآن . نعم لم يكن أحد يتصور ذلك لكن لما كان القرآن ليس كلام البشر بل كلام الله سبحانه وتعالى كان له تأثير عجيب في النفوس ولا بد أن سامعه يرق قلبه مهما كان قاسيا . لذلك لم يسع عمر بن الخطاب ذلك العربي الصميم الا الأعتراف بأن ما سمعه هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس في استطاعة البشر الأتيان بمثله فصدق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب . وعمر رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين وقد ضرب المثل الأعلى بعدله وزهده

قال علي رضي الله عنه ما علمت أحدا هاجر الا مختفيا إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتتكب قوسه وانتضى في يده أسهما وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام ثم أتى حلقهم واحدة واحدة وقال شاهدت الوجوه من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمل زوجته فليلحقني وراء هذا الوادي فما تبعه منهم أحد

ومن مناقب عمر بن الخطاب العظيمة رضي الله عنه أن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها ( 1 ) - آية أخذ الفداء عن أساري بدر ( 2 ) - آية تحريم الخمر ( 3 ) - آية تحويل القبلة ( 4 ) - آية أمر النساء بالحجاب ( 5 ) - النهي عن القيام على قبر من مات من المنافقين

وطعن عمر رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ودقن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين ( يوافق سنة 644 م ) وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور

والذي طعن عمر : العلج أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة وهو قائم من الصلاة الصبح حين أحرم بالصلاة طعنه بسكين مسمومة ذات طرفين فضربه في كتفه وخاصرته وقيل ضربه ضربات فقال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعى الإسلام . والظاهر أن العلج هذا كان مجنونا لأنه طعن مع عمر ثلاثة عشر رجلا توفى منهم سبعة وعاش الباقون ولما أحس أنه مقتول قتل نفسه

وكانت خلافته رض الله عنه عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما وثبت في صحيح البخاري وغيره أنه أو ل من جمع الناس لصلاة التراويح فجمعهم على بى بن كعب رضي الله عنه وأجمع المسامون في زمنه وبعده على استحبابها . وروى عن علي رضي الله عنه أنه مرعلى المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا

_________

( 1 ) أخت عمر فاطمة بنت الخطاب أسلمت قبله هي وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقد تقدم الكلام على زيد وهو أحد الأربعة الباحثين عن دين إبراهيم قبل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلا غرابة إذا بادر سعيد إلى اعتناق الإسلام فإن أباه كان في الجاهلية رفض عبادة الأصنام وبحث عن

خير الأديان

( 2 ) أبو جهل عم عمر

 

 

الهجرة الثانية إلى الحبشة

 

 

- لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرو الأولى ( بسبب إسلام عمر وإظهار الإسلام ) اشتد عليهم قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية فكانت خرجتهم الآخرى أعظمها مشقة ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشى من حسن جواره لهم وتخوفوا من حماية دولة أجنبية قوية للمسلمين المهاجرين . فقال عثمان يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذة الأخرى إلى النجاشى ولست معنا . فال رسول الله أنتم مهاجرون إلى الله إلى لكم هاتان الهجرتان جميعا قال عثمان فحسبنا يا رسول الله . وكان عدة من خرج في هذة الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين ومن النساء إحدى عشرة إمرأة قرشية وسبعا غرائب فأقام المهاجرين بأرض الحبشة عند النجاشى في أحسن جوارفلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثماني نسوة فمات منهم رجلان بمكة وحبس بمكة سبعة نفر

حصار الشعب وخبر الصحيفة

لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الإسلام ينتشر في القبائل اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب عل أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل أعنى أنهم اتفقوا وتعهدوا على مقاطعتهم مقاطعة تامة انتقاما منهم لإسلامهم ودفاعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة توكيدا لأنفسهم وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة ( 617 م ) . وكانت الصحيفة مكتوبة بخط منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم في شعبه مع بني هاشم وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب وقطعوا عنهم الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون الامن موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب . فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقال انظروا ما أصاب منصور بن عكرمة فأقاموا في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة مالها وصاروا إلى حد الضر والفاقة . ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأن الأرضة قد أكلت ماكان فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب فذكر أبو طالب لأخوته وخرجوا إلى المسجد . فقال أبو طالب لكفار قريش إن أخي قد أخبرني ولم يكن يكذبني قط أن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي فيها كل ما ذكر الله فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبا دفعته اليكم فقتلتموه أو استحييتموه . قالوا قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط في أيديهم ونكسوا على رءوسهم . فقال أبو طالب علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل فيهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام وزهير بن أبي أمية ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا . فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة

وفي سيرة ابن هشام أنهم أقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل اليهم شيء الا سرا مسخفيا به من أراد صلتهم قريش وقد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله ومعه في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم واللذه لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري وقال : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل . فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه . فأخذ له أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم ورسول الله على ذلك يدعوا قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس . هذا ومن المدهش أن مرجوليث يقول أن أبا جهل كان مشهورا بالعقل والذكاء ( 1 ) وهي تدري لماذا أيها القارئ ؟ لأنه كان معاديا لرسول الله لأن أعماله وصفاته التي ذكرناها لا تدل على أنه كان عاقلا ذكيا . إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو العرب إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم . كان يدعو إلى عبادة الله الواحد وإلى نبذ عبادة الحجارة ومعنى ذلك . أنه كان يعمل على انتشالهم من الإنحطاط الديني الذي كانوا غارقين فيه ورفعهم إلى أعلى المراتب وأسمى العقائد . وعدا ذلك فقد كان عليه السلام يهذبهم ويعلمهم مكارم الأخلاق ويبث في نفوسهم الآداب الإجتماعية العالية فهل يقال عن رجل أتصف بشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عاقل ؟ ثم أن مرجوليث يظهر حمقه على من أسلموا ولاسيما إذا كانوا من الأبطال الأشداء فيرميهم بأوصاف ذميمة منفردة

_________

( 1 ) راجع كتاب محمد ص 153

 

 

الطفيل بن عمرو الدوسي شاعر يحكم عقله ويسلم

 

 

- كانت قريش إذا سمعت بقدوم أحد من العرب يقابلونه ويحذرونه من رسول الله ويصفونه بكل نقيصة خشية أن يسلم ويعود إلى بلاده ويدعوهم إلى الإسلام . لكن الطفيل بن عمرو الدوسي لم يعبأ بتحذيرهم بل حكم عقله وتقابل مع رسول الله وسمع منه القرآن ففكر فيه وتذوقه لأنه شاعر فأسلم وهذه قصته :

هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن نصر بن الأزد الدوسي . يلقب ذا النون

كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل شريفا شاعرا لبيبا . فقالوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا ( 1 ) وفرق جماعتنا وإنم قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبينه وبين زوجه وإنما نخشى عليك وعلى قومك فلا تكلمه ولا تسمع منه . قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت أذني كرسفا ( 2 ) فرقا أن يبلغني من قوله وأنا أريد أن لا أسمعه . قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة . قال فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني قوله . فسمعت كلاما حسنا . فقلت في نفسي وأثكل أمي والله اني لرجل شاعر لبيب ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ؟ إن كان الذي يأتي حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته . فمكثت حتى أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فأتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا ثم إن الله أبى إلا أن أسمع قولك فسمعت قولا حسنا فأعرض علي أمرك . فعرض علي الإسلام وتلى علي القرآن فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وقلت يا رسول الله إني أمرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فأدعو الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه . فقال اللهم اجعل له آية . قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر ( 3 ) وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوها مثلة لفراق دينهم فتحولت في رأس سوطي فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية فلما أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت إليك با أبت فلست منك ولست مني . قال ولما أي بني ؟ قلت إني أسلمت . قال أي بني فديني دينك . فأسلم . ثم أتتني صاحبتي فقلت لها مثل ذلك فأسلمت وقالت أيخاف علي من ذي الشرى صمم لهم فقلت لا . أنا ضامن لذلك . ثم دعوت دوسا فأبطأوا عن الإسلام . فرجعت إلى رسول الله بمكة فقلت يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الربا فادعوا الله عليهم . فقال اللهم اهدي دوسا إلي . أرجع قومك فادعهم وارفق بهم . قال فرجعت فلم أزل بأرض قومي دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقضى بدرا وأحدا والخندق . ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو بثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين ثم لم أزل مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل عليه مكة فقلت يا رسول الله أبعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه . فخرج إليه فجعل طفيل يقول وهو يحرقه وكان من خشب :

يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

ثم رجع طفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ( 4 )

_________

( 1 ) قد أعضل بنا أي أشتد أمره

( 2 ) الكرسف القطن

( 3 ) الثنية الفرجة بين الجلبين . والحاضر القوم النازلون على الماء

( 4 ) راجع أسد الغابة والسيرة النبوية لابن هشام

 

 

وفاة أبي طالب سنة 620 م

 

 

- كان أبو طالب بن عبد المطلب من أشد الناس دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن نفسه لم تطاوعه على أعتناق الإسلام وفراق دين آبائه . روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما زالت قريش كاعة عني ( 1 ) حتى مات عمي " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسلم عمه لأنه هو الذي كفله وذاد عنه إلى أخر لحظة من حياته

ولما أشتد مرضه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عم قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ( يعني قل الشهادة ) فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة المسبة وأن تظن قريش إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها . على أن الذي منعه من الإسلام هو خوف الملام والشتم وأنه فارق دين آبائه واتبع دين ابن أخيه وقد رباه صغيرا فالمشهور أنه مات كافر وكان له من الولد جعفر وعلي وعقيل وطالب وأم هانئ وأسمها فاختة وجمانة وكلهم أعقب إلا طالبا وكان أبو طالب أعرج وتوفي بعد النبوة بعشر السنين وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة

وفي أسد الغابة لما أشتد بأبي طالب مرضه دعا بني عبد المطلب فقال إنكم لن تزالوا بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره فأتبعوه وصدقوه ترشدوا

ولما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله . فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }

_________

( 1 ) الكاعة جمع كائع وهو الجبان . أراد أنهم كانوا يجبنون عن أذى النبي في حياته

 

 

وفاة خديجة سنة 620 م

 

 

- توفيت خديحة زوجة رسول الله بعد أبي طالب بثلاثة أيام وقيل بأكثر من ذلك . قبل الهجرة بثلاث سنين ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما تزوجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون ولم تكن الصلاة على الجنائز يومئذ . وحزن عليها النبي ونزل في حفرتها وتتابعت على رسول الله بموت أبي طالب وخديجة المصائب لأنهما كانا من أشد المعضدين له المدافعين عنه . فأشتد أذى قريش عليه حتى نثر بعضهم التراب على رأسه وطرح بعضهم عليه سلى الشاة وهو يصلي . سمي العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة " عام الحزن "

سفره إلى الطائف

الطائف بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلا جنوبا شرقيا من مكة وهي مشهورة بجودة مناخها وخصب أرضها وفواكهها ولا سيما العنب والبرقوق والرمان والخوخ وهي مصيف أغنياء مكة ( 1 ) وقد سافر إليها النبي صلى الله عليه وسلم لثلاث بقين من شوال سنة عشر من المبعث ( يناير - فبراير 620 م ) ومعه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف النصرة فعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف ودعاهم إلى الله فقال واحد منهم . أما وجد الله أحدا يرسله غيرك . وقال الآخر والله لا أكلمك أبدا لأنكم إن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . وأغروا سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط فلما اطمأن ورجع عنه السفهاء قال عليه الصلاة والسلام " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس . الله يا أرحم الراحمين أن رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أوالى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع أني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة الا بك " فلما رأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة مالقى رسول الله تحركت له رحمهما فدعوا له غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له يأكل منه ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله فما وضع رسول الله يده قال بسم الله فنظر عداس إلى وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام يا يقوله أهل هذه البلدة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك . قال أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى . قال له وما يدريك ما يونس بن متى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه . فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاءهما عداس قالا له ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه . قال يا سيدي مافي الأرض خير من هذا الرجل . لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي . فقالا ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه . ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف فلما قدمها وجد قومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه الا قليلا مستضعفين ممن آمن به . وفي الطبري أن بعضهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف مريدا مكة مر به بعض أهل مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها . قال نعم . قال أئت الأخنس بن شريق فقل له يقول لك محمد هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي . قال فأتاه له ذلك فقال الأخنس أن الحليف لا يجيز على الصريح . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره . قال تعود . قال نعم . قال أئت سهيل بن عمرو فقل له أن محمدا يقول هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي . فأتاه فقال له ذلك . فقال إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب . فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره . قال تعود . قال نعم . قال أئت المطعم بن عدي فقل له إن محمداص يقول لك هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي . قال نعم فليدخل . فرجع إليه الرجل فأخبره وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد فما رآه أبو جهل قال أمجير أم متابع ؟ قال بل مجير . فقال قد أجرنا من أجرت . فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأقام بها فدخل يوما المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة فلما رآه أبو جهل قال هذا نبيكم يا بني عبد مناف . قال عتبة بن ربيعة وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعه فأتاهم فقال . أما أنت ياعتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله ولكن حميت لأنفك . وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا . وأما أنتم يا معشر الملأ من قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون

ويقال أن رسول الله أقام بالطائف عشرة أيام وظاهر أن الذي دعاه إلى السفر هو التماس النصرة ولكنهم خذلوه وما التمس النصرة من ثقيف الا بعد أن توفي أبو طالب وخديجة . أضف إلى ذلك أن فريقا من المسلمين هاجروا إلى الحبشة ولما عادوا من الطائف لم يستطع دخول مكة الا بجوار رجل كالمطعم بن عدي

_________

( 1 ) وقد يطلق اسم الطائف على ما اكتنفها من البلاد واسمها القديم وج ثم سميت بالطائف بحائطها المطيف بها وموقعها ببطن من جبل غزوان وهو أبرد مكان في الحجاز لأن الثلج يقع أحيانا على ذروة الجبل فوق البلدة

 

 

الإسراء والمعراج سنة 621 م

 

 

- كان الإسراء قبل الهجرة بسنة في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وهو المشهور عليه عمل الناس وكان ليلة الأثنين

كان الأسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى السموات وفرضت عليه في تلك الليلة الصلوات الخمس

وقد ذكر الإسراء في القرآن قال تعالى :

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }

واختلف في كيفية الأسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 1 ) والأقلون قالوا أنه ما أسرى إلا بروحه . حكى عن محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أسرى بروجه حكى هذا القول أيضا عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه وحديث عائشةليس بالثابت لأنها لم تكن حينئذ زودجته . قال النسفى وكان الأسراء في اليقظة وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه . وعن معاوية مثله وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم

ومما قاله الفخر الرازي في تفسيره : قال أهل التحقيق إن الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر . أما القرآن فهذه الآية وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الأسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح الخ . وأما الخبر فهو الحديث المروى في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات اه

والمعراج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات ليطلع على عجائب الملكوت كما قال تعالى : { لنريه من آياتنا } والا فالله تعالى لا يحويه زمان ولامكان ورأى ربه تلك الليلة وأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه خمس صلوات وجمع له الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصلى بهم في بيت المقدس ثم استقبلوه في السموات ورجع صلى الله عليه وسلم من ليلته إلى مكة

_________

( 1 ) وفي الشفا للقاضي عياض : ذهب معظتم السلف والمسلمين إلى أنه اسراء بالجسد وفي اليقظة وهذا هو الحق وهذا قول ابنعباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج

 

 

تأثير خبر الإسراء في قريش

 

 

- لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بما رآه فصدقه الصديق وكل من آمن به ايمانا قويا وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس فوصفه لهم وسألوه عن أشياء في المسجد فمثل بين يديه فجعل ينظر إليه ويصفه ويعد أبوابه لهم بابا بابا فيطابق ما عندهم . وسألوه عن عير لهم فأخبرهم بها وبوقت قدومها فكان كما أخبر

ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى مكة من ليلته فأخبر بمسراه أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه وأنه يريد أن يخرج إلى قومه ويخبرهم بذلك لأنه ماأحب أن يكتم قدرة الله وما هو دليل على مقامه صلى الله عليه وسلم فتعلقت برادئه أم هانئ وقالت أنشدك الله يا ابن عم أن لا تحدث بها قريشا فيكذبك من صدقك فضرب بيده على ردائه فانتزعه منها . قالت وسطع نور عند فؤاده كاد يخطف بصري فخررت ساجدة فلما رفعت رأسي فإذا هو قد خرج . قالت فقلت لجاريتي نبعة وكانت حبشية اتبعيه وانظري ماذا يقول فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم وفيهم مطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام فأخبرهم بمسراه

لما قص رسول الله خبر الأسراء على جمع من قريش أعظموا ذلك الأسراء وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا ( فلو كان الأسراء رؤيا منامية لما كانت مستغربة وما أحدثت تلك الضجة وكذبه المسلمون اللهم الا من كان منهم قوي العقيدة ثابت الإيمان ) . . . قال المطعم بن عدي إن أمرك قبل اليوم كان أمرا يسيرا غير قولك اليوم هو يشهد أنك كاذب . نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا . أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط . فقال أبو بكر رضي الله عنه يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته . أنا أشهد أنه صادق . وفي رواية فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه . فقال هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى بنه الليلة إلى بيت المقدس . قال وقد قال ذلك : قالوا نعم . قال لئن قال ذلك لقد صدق . قالوا أتصدقه أنه ذهب إلى بين المقدس وجائ قبل أن يصبح ؟ قال نعم أني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك . أصدقه في خبر السمء في غدوة وروحة . فقال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس . فقال أبو بكر رضي الله عنه صف لي يا رسول الله فأني قد جئته . فجاءه جبريل بصورته ومثاله فجعل يقول باب منه في موضع كذا وباب منه في موضع كذا وأبو بكر رضي الله عنه يقول أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه

وهذه هي الأحاديث الواردة في صحيح البخاري الخاصة بالأسراء والمعراج مشروحة في الهامش موجزا نقلا عن القسطلاني :

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس ( 1 ) فطفقت أخبرهم عن آياته ( 2 ) وأنا أنظر إليه "

_________

( 1 ) بان أزال الحجاب بيني وبينه

( 2 ) علاماته

 

 

المعراج ( 1 )

 

 

- عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال " بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعا إذ أتاني آت ( 2 ) فقد قال وسمعته يقول فشق ما بين هذه إلى هذه . قال الراوي من ثغرة نحره ( 3 ) إلى شعرته فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب ( 4 ) مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ( 5 ) ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أيبض . قال الراوي وهوالبراق يضع خطوه عند أقصى طرفه ( 6 ) فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل ومن معك ؟ قال محمد . قيل وقد أرسل إليه قال نعم . قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح ( 7 ) فما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك آدم فسلم عليه ( 8 ) فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالأبن الصالح ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل ومن معك ؟ قال محمد . قيل وقد أرسل إليه ؟ قال نعم : قيل مرحبا فنعم المجيء جاء . ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى ( 9 ) وهما ابنا الخالة' قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح . قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل ومن معك ؟ قال محمد . قيل وقد أرسل إليه قال نعم . قيل مرحبا فنعم المجيء جاء . ففتح فلما خلصت إذا يوسف . قال هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد صم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بن حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح . قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل ومن معك ؟ قال محمد . قيل وقد أرسل إليه . قال نعم . قيل مرحبا فنعم المجيء جاء . ففتح فلما خلصت إذا أدريس قال هذا أدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد . قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح . قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل ومن معك ؟ قال محمد ( 10 ) قيل وقد أرسل إليه . قال نعم . قال مرحبا به فنعم المجئ جاء . فلما خلصت فإذا هرون . قال هذا هرون فسلم عليه . فسلمت عليه فرد . ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح . قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل من معك ؟ قال محمد . قيل وقد أرسل إليه . قال نعم . قال مرحبا . فنعم المجئ جاء . فلما خلصت فإذا موسى . قال هذا موسى فسلم عليه . فسلمت عليه فرد ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . فلما تجاوزت بكى قيل له ما يبكيك ؟ ( 11 ) قال أبكي لأنه يعمل بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ( 12 ) ثم صعد بي إلى السماء السابعة فأستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل . قيل ومن معك . قال محمد . قيل وقد بعث إليه . قال نعم . قال مرحبا فنعم المجئ جاء . فلما خلصت فإذا إبراهيم . قال هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه . فسلمت عليه فرد السلام . فقال مرحبا بالأبن الصالح والنبي الصالح ( 13 ) . ثم رفعت لي سدرة المنتهى ( 14 ) فإذا نبقها ( 15 ) مثل قلال هجر ( 16 ) وإذا ورقها مثل أذان الفيلة . قال هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا ياجبريل ؟ قال أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم أتيت بأناء من الخمر وإناء من اللبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال بما أمرت قلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم . قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله خبرت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا فأمرت بعشر صلوات كل يوم فرجعت فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال بما أمرت قلت بخمس كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وأني جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قلت وسألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم . قال فلما جاوزت نادني مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ( 17 )

عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسرى به إلى بيت المقدس ( 18 ) قال والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم

_________

( 1 ) المعراج بكسر الميم من العروج وهو الصعود

( 2 ) هو جبريل عليه السلام

( 3 ) من ثغرة نحره : الموضع المنخفض بين الترقوتين

( 4 ) قبل تحريم استعماله

( 5 ) ثم أعيد في موضعه من الصدر المقدس

( 6 ) عند أقصى طرفه . أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره وهو يدل على أنه كان يمشي على وجه الأرض . وسمي البراق لشدة بريقه

( 7 ) ففتح خازنها الباب

( 8 ) فسلم عليه لأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد

( 9 ) يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم وهما ابنا الخالة لأن أم يحيى ايشاع بنت فاقوذ أخت حنة بنت فاقوذ أم مريم وذلك أن عمران بن ماتان تزوج حنة وزكريا تزوج ايشاع فولدت ايشاع يحيى وولدت حنة مريم فتكون ايشاع خالة مريم وحنة خالة يحيى فهما ابنا خالة بهذا الأعتبار وليس عمران هذا أبا موسى . ولأبي ذر ابنا خالة

( 10 ) سقطت التصلية لأبي ذر

( 11 ) خطاب لموسى

( 12 ) ليس بكاؤه حسدا لله بل أسفا على مافاته من الأجر المترتب على رفع درجته بسبب ما حصل من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم ذلك لنقص أجره لأن لكل نبي مثل أجر جميع من أتبعه وقوله غلام مراده به أنه صغير السن بالنسبة إليه وقد أنعم الله عليه بما لم ينعم به عليه مع طول عمره

( 13 ) قد استشكل رؤية الأنبياء في السموات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما

( 14 ) سدرة المنتهى التي ينتهي إليها ما يعرج من الأرض فيقبض منها

( 15 ) النيق : ثمرة السدرة

( 16 ) هجر أسم بلد ومراده أن ثمرها في الكبر كالجرار التي تصنع بها وكانت معروفة عن المخاطبين

( 17 ) هذا من أقوى ما يستدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كلمه ربه ليلة الإسراء بغير واسطة

( 18 ) وبذلك تمسك من قال كان الإسراء في المنام . ومن قال كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية من قوله أريها ليلة أسرى به . والأسراء إنما كان في اليقظة لأنه لو كان مناما ما كذبته قريش فيه وإذا كان ذلك في اليقظة وكان المعراج في تلك الليلة لزم أن يكون في اليقظة أيضا إذ لم يقل أحد أنه نام لما وصل بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم وإنما كان في اليقظة فاضافة الرؤيا إلى العين احتراز عن رؤيا القلب

 

 

فريضة الصلاة

 

 

- فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء ولا خلاف في ذلك . والصلاة هي فريضة قائمة وشريعة ثابتة عرفت فريضتها بالكتاب وهو قوله تعالى { وأقيموا الصلاة } وقوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فإنه يدل على قريضتها وعلى كونها خمسا لأنه أمر بحفظ جميع الصلوات وعطف عليها الصلاة الوسطى وأقل جمع يتصور معه وسطى هوالأربع . وبالنسبة قوله عليه الصلاة والسلام " أن الله فرض على كل مسلم ومسلمة في كل يوم وليلة خمس صلوات "

جاء في رسالة الصلاة لابن سينا إن الصلاة تشبه النفس الأنساني الناطق بالأجرام الفلكية والتعبد الدائم للحق طلبا للثواب السرمدي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الصلاة عماد الدين ) والدين هو تصفية النفس الأنساني عن الكدورات الشيطانية والهواجس البشرية والأعراض عن الأغراض الدنيوية الدنية . والصلاة هي التعبد للعلة الأولى والمعبود الأعظم الأعلى فعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل قوله تعالى { وما خلقتث الجن والإنس إلا ليعبدون } بيعرفون لأن العبادة هي المعرفة أي عرفان وامجب الوجود وعلمه بالسر الصافي والقلب النقي والنفس الفارغة . فإذا حقيقة الصلاة علم الله سبحانه وتعالى بوحدانيته ووجوب وجوده وتنزيه ذاته وتقديشس صفاته في سوانح الأخلاص في صلاته وأعني بالإخلاص أن تعلم صفات الله بوجه لا يبقى للكثرة فيه مشرع ولا للإضافة فيه منزع . فمن فعل هذا فقد أخلص وصلى وما ضل وما غوى ومن لم يفعل فقد افترى وكذب وعصى . والله أجل وأعلى وأعز من ذلك وأقوى اه

قال صلى الله عليه وسلم ( لاإيمان لمن لا صلاة له ولا إيمان لمن لا أمانة له ) وقال ( صلوا كما رأيتموني أصلي )

وقال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون }

 

 

عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب

 

 

- أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته بادئ الأمر ثم أعلنها في السنة الرابعة من النبوة ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق الموسم وهي عكاظ ومجمة وذو المجاز وكانت العرب إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تجئ إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما ثم تجئ إلى سوق ذي المجاز فتقيم به أيام الحج وكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه وكان يطوف على الناس في منازلهم ويقول : " ياأيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا " وكان أبو لهب يمشي وراءه ويقول : إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم . وروى ابن اسحاق انه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب وعلى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء . فقال له أنقاتل العرب دونك فإذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك أبوا عليه فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن لا يقدر أن يوافي معهم الموسم فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم فقالوا : جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال ؟ يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ أي هل لهذه القصة من تدارك والذي نفس فلان بيده ما يقولها كاذبا من بني إسماعيل قط وأنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم

وروى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عبس وبني سليم وبني محارب وفزارة ومرة وبني النضر وعذرة والحضارمة فردوا عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد وقالوا أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ولم يكن أحد من العرب أقبح عليه من بني حنيفة وهم أهل اليمامة قوم مسليمة الكذاب ومن ثم جاء في الحديث " شر قبائل العرب بنو حنيفة " ومن أقبح القبائل في الرد عليه صلى الله عليه وسلم ثقيف ومن ثم جاء " شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف " ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في كل موسم يقول لا أكره أحدا على شئ . من رضى الذي أدعو إليه فذاك ومن كره لم أكرهه وإنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي فلم يقبله صلى الله عليه وسلم احد من تلك القبائل ويقولون : قوم الرجل أعلم به أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ؟

 

 

بدء اسلام الأنصار بيعة العقبة الأولى - اسلام سعد بن معاذ

 

 

- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب وحجاجهم كما كانت عادته في كل موسم فبينما هو عند العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة وهي على يسار القاعد منى من مكة إذ لقى رهطا من الأوس والخزرج كانوا يحجون فيمن يحج من العرب وهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب وقد لقبهم رسول الله بالأنصار لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه وكان الذين لقبهم صلى الله عليه وسلم من الخزرج هم أبو أمامة أسعد بن زراره وعوف ابن الحارث ويعرف بابن عفراء وهما من بني النجار . ورافع بن مالك بن العجلان وعامر بن عبد حارثة وهما بني زريق . وقطبة بن عامر بن حديدة من بني سلمة وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم وجابر بن عبد الله بن رباب من بني عبيدة فعرض النبي عليهم الإسلام وتلى عليهم القرآن فقبلوا ذلك منه وأثر في قلوبهم وكان اليهود مع الأوس والخزرج بالمدينة وكانوا أهل كتاب والأوس والخزرج أهل شرك وأوثان . وكانوا إذا كانوا بينهم شيء تقول اليهود أن نبيا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وأرم وكانوا يصفونه لهم بصفاته . فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام فأسلم كثيرون منهم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار أثنا عشر رجلا وذلك سنة أثنتي عشرة من النبوة ( 621 م ) فلقوه بالعقبة فبايعوه بيعة النساء وسميت بذلك لأنها كانت على الأمور التي ورد ذكرها في سورة الممتحنة خاصة ببعة النساء وهي هذو الآية :

{ يأيها النبي إذا جاءك المؤمناتث يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم }

وبعد أن تمت هذه البيعة بعث صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام وكان يسمى مصعب بالميدنة المقرئ فأسلم على يده سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وكان سعد من أجل رؤسائهم ثم فشا فيهم الإسلام ولم تبق دار من دور الأنصار وإلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ماكان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت ( وهو صيفي ) وكان شاعرا لهم وقائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام ولم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

بيعة العقبة الثانية

 

 

- اتفق جماعة من الأنصار للقاء النبي صلى الله عليه وسلم مستخفين لا يشعر بهم أحد فوافوا مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق ( 1 ) فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه يتسللون حتى أجتمعوا بالعقبة وحضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ( 2 ) وأسلم تلك الليلة وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وكان لا يزال على دين قومه وأحب أن يتوثق لابن أخيه وكان اول من بايع تلك الليلة وهو أول من تكلم . فقال يا معشر خزرج ( وكانت العرب تسمي الخزرج والأوس به ) إن محمدا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة وأنه قد أبى إلا الإنقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم تفون له بما دعوتموه إليه وما نعوه فأنتم وذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الأن فدعوه فإنه عز ومنعة

فقال الأنصار قد سمعنا ما قلتم فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال : تمنعونني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخذ بيده وقال : والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه ذرارينا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وأنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت أن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بل الدم الدم الهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم وكانت عدة الذين بايعوا في تلك سبعين رجلا وامرأتين نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء بنت عمرو بن عدي من نبي سلمة ( 3 ) واختار منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وقال لهم أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي . والنقباء هم :

 

 

1 - سعد بن عبادة . 2 - أسعد بن زرارة . 3 - سعد بن الربيع . 4 - سعد بن خيثمة . 5 - المنذر بن عمرو . 6 - عبد الله بن رواحة . 7 - البراء بن معرور . 8 - أبو الهيثم بن التيهان . 9 - أسيد بن حضير . 10 - عبد الله بن عمرو بن حرام . 11 - عبادة بن الصامت . 12 - رافع بن مالك

فلما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا إلى المدينة فكان قدومهم في ذي الحجة فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بقير ذي الحجة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول وقدمها لأثني عشرة ليلة خلت منه وقد كانت قريش لما بلغهما الإسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين فأصابهم جهد شديد . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة فخرجوا ارسالا حتى لم يبق أحد من المسلمين بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعلي بن أبي طالب فإنهما أقاما بأمره وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة

واسلام الأنصار له شأن كبير في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الدنيا

_________

( 1 ) وهي ثلاثة أيام بعد النحر لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس أي يشرر وقال ابن الأعرابي سميت بذلك لأن الهدي والضحايا لاتنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع

( 2 ) قتل عبد الله بن عمرو يوم أحد وقد مثل به

( 3 ) بايعه المرأتان من غير مصافحة

 

 

مؤامرة قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- لقد بلغ اضطهاد قريش للمسلمين أنهم اضطروهم إلى الهجرة ففريق هاجر إلى الحبشة ثم هاجر من بقي مع رسول الله إلى المدينة . ولما علمت قريش تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة أخيرا إلى المدينة وقد صار له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه أجمع على اللحاق بهم تشاوروا فيما يصنعون من أمره فاجتمعوا في " دار الندوة " وهي دار قصي بن كلاب ( 1 ) وتشاوروا في حبسه أو اخراجه عنهم ثم انفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا ويقال إن هذا كان رأي أبي جهل . وهكذا نجد دائما اسم أبي جهل وأبي لهب في كل مؤامرة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وكل ايذاء اضطهاد كأن لا عمل لما غير ذلك

استعدوا لقتله عليه الصلاة والسلام من ليلتهم فلما كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر عليا أن ينام فراشه ويتشح ببرده الأخضر وأن يتخلف عنه لؤدى ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع إلى أربابها فامتثل أمره فكان أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ووقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم

هنا نقول أن الأستاذ مرجوليث اعتاد أن يصف اعداء رسول الله برجاحة العقل والنبل ولا يعدم أن يجد كتابا يذكره كمصدر له من غير تحقيق فقد قال عن أبي جهل في كتابه ( محمد ) أنه حاز شهرة عظيمة في العقل حتى أنه دخل دار الندوة في سن الثلاثين في حين أنه كان لا يسمح لأحد من أهل مكة بدخولها الا إذا بلغ الأربعين والحقيقة أنهم كانوا لا يدخلون فيها غير قرشي الا أن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي تمييزاص وبما أن أبا جهل قرشي فكان يسوغ له دخول دار الندوة قبل الأربعين وليس ذلك لأنه كان شديد الذكاء راجح العقل

_________

( 1 ) دار الندوة بمكة أحدثها قصي بن كلاب لما تملك مكة . كانوا يجتمعون بها للمشاورة وصارت بعد ولده لمعاوية بن أبي سفيان وقيل هي أول دار بنتها قريش بمكة . قال الحلبي دار الندوة من جهة الحجر عند مقام الحنفي الآن وكان لها باب إلى المسجد أعدت للاجتماع للمشورة وكانت قريش لا تقضي أمرا الا فيها وكانوا لا يدخلون فيها غير قرشي الا أن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي

 

 

ما نزل من القرآن بمكة

 

 

- نزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة . وكان أول ما نزل على رسول الله { إقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم نون والقلم وما يسطرون . ثم والضحى . ثم يا أيها المزمل . ثم يا أيها المدثر . ثم فاتحة الكتاب . ثم تبت . ثم إذا الشمس كورت . ثم سبح اسم ربك الأعلى . ثم ووالليل إذا يغشى . ثم والفجر . ثم ألم نشرح لك صدرك . ثم الرحمن . ثم والعصر . صم أنا أعطيناك الكوثر . ثم ألهاكم التكاثر . ثم أرأيت الذي يكذب بالدين . ثم ألم تركيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ثم والنجم إذا هوى . صم عبس وتولى . ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر . ثم والشمس وضحاها . ثم والسماء ذات البروج . ثم والتين والزيتون . ثم لإيلاف قريش . ثم القارعة . ثم لا أقسم بيوم القيامة . ثم ويل لكل همزة . ثم والمرسلات عرفا . ثم ق والقرآن المجيد . ثم لا أقسم بهذا البلد . ثم والسماء والطارق . ثم اقتربت الساعة . ثم ص والقرآن ذي الذكر . ثم الأعراف . ثم سورة الجن . ثم سورة يس ثم تبارك الذي نزل الفرقان . ثم حمد الملائكة . ثم سورة مريم . ثم سورة طه . ثم طسم . الشعراء . ثم طس النمل . ثم طسم القصص . ثم سورة بني اسرائيل . ثم سورة يونس . ثم سورة هود . ثم سورة يوسف . ثم الحجر . ثم الأنعام . ثم الصافات ثم لقمان . ثم حم المؤمن . ثم حم السجدة . ثم حم عسق . ثم الزخرف . ثم سبأ . ثم تنزيل الزمر . ثم حم الدخان . ثم حم الشريعة . ثم الأحقاف . ثم والذاريات . ثم هل أتاك حديث الغاشية . ثم سورة الكهف . ثم سورة النحل . ثم إنا أرسلنا نوحا . ثم سورة إبراهيم . ثم اقترب للناس حسابهم . ثم قد أفلح المؤمنون . ثم الرعد . ثم والطور . ثم تبارك الذي بيده الملك . ثم الحاقة . ثم سأل سائل . ثم عم يتساءلون . ثم والنازعات غرقا . ثم إذا السماء انفطرت . ثم سورة الروم . ثم العنكبوت

وعن ابن عباس أنه قال : كان القرآن ينزل مفرقا لا ينزل سورة سورة فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة وإن كان تمامها بالمدينة وكذلك ما نزل بالمدينة وأنه كان يعرف فصل مابين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدئ بسورة أخرى

 

 

الهجرة إلى المدينة

 

 

- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرصدونه فأخذ حفنة تراب وجعل ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو قوله تعالى يس إلى قوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } ثم انصرف فلم يروه . فلما أفاقوا من غشيتهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما وعليه برد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون إن محمدا لنائم . فأقاموا بالباب يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقوم في الصباح . فلما أصبحوا قام على عن الفراش فقالوا له أين صاحبك ؟ قال لاأدري فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نجا . فأما علي فأقام بمكة حتى يؤدى ودائع النبي صلى الله عليه وسلم وقصد النبي صلى الله عليه وسلم دار أبي بكررضي الله عنه وأعلمه بأن الله قد أذن له بالهجرة فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله . قال الصحبة فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحا واستأجر عبد الله بن أريقط وكان مشركا ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى . ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لأثنتي عشرة خلت من ربيع الأول وذلك يوم الأثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه ( 622 م ) وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خروجه من مكة إلى المدينة " اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد اليك " رواه الحاكم في المستدرك . وكان مدة مقامه بمكة بعد البعثة ثلاث عشر سنة . ثم أتيا الغار الذي بجبل ثور على ثلاثة أميال من جنوب غربي مكة وأمره أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة ثم يأتيهما ليلا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا ليأخذا حاجتهما من لبنها وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما . فأقاما في الغار ثلاثا . ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر ( 1 ) وإذا بنسيج العنكبوت على فم الغار وقد عششت على بابه حمامتان . فقالت قريش ما وراء هذا شيء . وجعلوا مائة ناقة لمن يرده عليهم . فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيرين فأخذ أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه الصلاة والسلام في استكمال فضل الهجرة إلى الله تعالى . ثم ركبا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق وأتتهما أسماء بسفرة لها وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت ذات النطاقين وحمل أبو بكر جميع ماله وكان نحو ستة آلاف درهم وبينما هما في الطريق مجردين منكل سلاح بصر بهما سراقة بن مالك بن جعشم فاتبعهما ليردها فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في أرض صلبة . فقال أدعي لي يا محمدليخلصني الله أن أراد عنك الطلب فدعا له فخلص . فدعا عليه ثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى . فقال يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب . فدعا له فخلص وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال . فرجع سراقة ورد كل من لقيه بأن يقول ما ها هنا

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت :

فبينما نحن يوما جلوسا في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة ( 2 ) قال قائل ( 3 ) لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا ( 4 ) في ساهة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ماجاء في هذة الساعة الأمر . قالت عائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك ( 5 ) بأبى أنت يا رسول الله . قال فأني قد أذن لي في الخروج ( 6 ) . فقال أبو بكر الصحبة بابي أنت يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم . قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحتي هاتين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن ( 7 ) قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز ( 8 ) وصنعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قكعة من نطاقها ( 9 ) فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين وأسماء بنت أبي بكر الصديق كانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأو بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف ( 10 ) لقن ( 11 ) فيدلج ( 12 ) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ( 13 ) فلا يسمع أمرا يكتادان به ( 14 ) إلا وعاه ( 15 ) حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحه ( 16 ) من غنم ( 17 ) فيريحا عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما ( 18 ) حتى ينعق بها ( 19 ) عامر بن فهيرة يغلس ( 20 ) . يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبة بكر رجلا من بني الديل ( 21 ) وهومن بني عبد إبن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا فيآل العاص بن وائل السهمي ( 22 ) وهوعلى دين كفار قريش فأمناه فدعا إليه راحتهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحليتهما صبح ثلاث ليال وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل ( 23 ) قال سراقة بن جعشم جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره . فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهمحتى قام علينا ونحن جلوس فقاليا سراقة إني آنفا أسودة ( 24 ) بالساحل أراها ( 25 ) محمدا وأصحابه . قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له أنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت فيةالمجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة ( 26 ) فتحسبها على وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه ( 27 ) الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي ( 28 ) فأستخرجت منها الازلام ( 29 ) فاستقسمت بها أضرهم أن لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي تقرب بي وعصيت الازلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت ( 30 ) يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما أستوت قائمة إذ لأثر يديها عثان ( 31 ) ساطع في السماء مثل الدخان . فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآنى ( 32 ) ولم يسألانها إلا أن قالا أخف عنا فسألته إن يكتب لي الكتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ( 33 ) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ومما وقع لهما في الطريق أنهما لقيا طلحة في الطريق وكان راجعا من تجارة فحياهما وكساهما ثيابا بيضا وقيل لقيهما الزبير كذلك

_________

( 1 ) ولا يخفى أن للعرب شهرة في أقتفاء الأثر

( 2 ) أول الزوال عند شدة الحر

( 3 ) في الطبراني أن قائل ذلك أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها

( 4 ) مغطيا رأسه

( 5 ) يريد عائشة وأمها

( 6 ) الخروج إلى المدينة

( 7 ) أي لا أخذ إلا بالثمن

( 8 ) أحث الجهاز أسرعه والجهاز ما يحتاج إليه في السفر وغيره

( 9 ) النطاق ما يشد به الوسط

( 10 ) حاذق

( 11 ) لقن سريع الفهم

( 12 ) يدلج يخرج

( 13 ) كبائت بها لشدة رجوعه بالغلس

( 14 ) أي يطلب لهما ما فيه المكروه

( 15 ) وعاه : حفظه

( 16 ) منحة : شاة تحلب آناء بالغداة وآناء بالعشي

( 17 ) من غنم كانت لأبي بكر رضي الله عنه

( 18 ) هو اللبن الموضوع فيه الحجارة المحماة لتذهب وخامته وثقله . ( 19 ) ينعق بها يزجرها

( 20 ) الغلس ظلام أخر الليل

( 21 ) هو عبد الله بن أريقط مصغر

( 22 ) يعني أنه حديث لهم وأخذ بنصيب من عقدهم وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيديهم في دم أو خلوق أو شيء يكون فيه تلوين فيكون ذلك تأكيدا للحلف

( 23 ) أسفل من عسفان

( 24 ) أشخاصا

( 25 ) أظنها

( 26 ) أكمة : رابية مرتفعة

( 27 ) الزج الحديد الذي في أسفل الرمح

( 28 ) الكنانة كيس السهام

( 29 ) الأزلام جمع زلم أقلام كانوا يكتبون على بعضها نعم وعلى بعضها لا وكانوا إذا أرادوا أمر أستقصموا بها فإذا خرج السهم الذي عليه نعم خرجوا وإذا خرج السهم الآخر لم يخرجوا ومعنى الأستقصام معرفة قسم الخير والشر

( 30 ) ساخت : غاصت

( 31 ) عثان : دخان من غير نار

( 32 ) فلم يرزآني : لم ينقصاني

( 33 ) أديم : جلد مدبوغ

 

 

وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

 

 

- نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء على كلثوم بن هرم ( 1 ) شيخ بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس . وقباء قرية على ميلين من جنوب المدينة وهي خصبة بها حدائق من أعناب ونخيل وتين ورمان وأقام بها رسول الله يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وهو الذي أسس على التقوى من أول يوم ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن أساف بالسنح ( 2 ) ثم قدم علي رضي الله عنه ومعه الفواطم وأم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين ولما وصل نزل على كلثوم بن الهرم اقتداء النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي رضي الله عنه في طريقه يسير الليل ويكمن النهار ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يريد المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي بمن معه من المسلمين وكانوا مائة وهي أول جمعة صلاها بالمدينة وأول خطبة خطبها في الإسلام ثم ركب راحلته يريد المدينة وأرخى زمامها فاكان لا يمر بدار من دور الأنصار الا قالوا هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة ويعترضون ناقته فيقول خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى بركت عند موضع مسجده اليوم وكان يربدا للتمر ( 3 ) لغلامين يتيمين وهما سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت فيه ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل أبو أيوب الأنصاري ( 4 ) رحل ناقته إلى بيته ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهما هبة حتى أتباعه منهما ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن ( الطوب النئ ) في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن

هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ( 5 )

ويقول :

إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره

ثم وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة وسنأتي على نص الكتاب فيما بعد

وقبل أن يتم رسول الله بناء مسجده مات سعد بن زرارة بالذبحة والشهقة وكان نقيبا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه فقال أنا نقيبكم ولم يخص منهم أحدا دون آخر فكانت من مناقبهم

فرح أهل المدينة بقدم النبي صلى الله عليه وسلم فرحا شديدا وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة . وعن عائشة رضي الله عنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جلس النساء والصبيان والولائد يقلن جهرا :

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع

قال ابن عباس إبن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين واستنبئ يوم الأثنين ورفع الحجر الأسود يوم الأثنين وقبض يوم الأثنين وإبتدأ التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وأول من أرخ بالهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشر من الهجرة إلا أن التاريخ الهجري يبدأ قبل الهجرة بشهرين وذلك أنهم جعلوا مبدأ التاريخ المحرم من تلك السنة والنبي صلى الله عليه وسلم بعد بمكة ثم كانت الهجرة بعد ذلك في ربيع الأول

_________

( 1 ) كلثوم بن الهرم بن أمرئ القيس ويعرف بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شيخا كبيرا أسلم قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام عنده أربعة أيام وتوفى كلثوم قبل بدر بيسير ولم يدرك شيئا من مشاهده

( 2 ) السنح - أحدى محال المدينة

( 3 ) المربد موضع يخفف فيه التمر

( 4 ) إسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد وكان مع بن أبي طالب رضي الله عنه ومن خاصته وغزا أيام معاوية أرض الروم مع يزيد بن معاوية سنة إحدى وخمسين فتوفى عند مدينة القسطنطينية فدفن هناك

( 5 ) الحمال بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مخففة ولابي ذر الحمال بفتح الحاء المهملة أي هذا المحمول من اللبن أبر عند الله وأطه من محمول ( خيبر ) الذي يحمل منها التمر والزبيب ونحوهما الذي يغتبط به حاملوه . تمثل بشعر رجل من المسلمين هو عبد الله بن رواحة قال ابن شهاب الزهري ولم يبلغا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل يبيت شعر تام غير هذاالبيت والممتنع على المصطفى إنشاء الشعر لا إنشاده . أما البيت الثاني فليس موزونا

 

 

خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة

 

 

- هذا نص الخطبة التي خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف :

الحمد لله أحمد وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفره . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدي والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل . من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا . وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم ثم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله . فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا . وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة . ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك الأوجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد . والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول عز وجل

ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد " فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله . في السر والعلانية فإنه من يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا . ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما . وأن تقوى الله يوقى مقته ويوقى سخطه وأن تقوى الله يبيض الوجوه ويرضى الرب ويرفع الدرجة . خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله . قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين . فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ويملك من الناس ملا يملكون منه الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم ( 1 ) "

هذه هي أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في أول جمعة ونلاحظ أن رسول الله لم يذكر فيها أهل مكة ولا ما كان من عنادهم وإصرارهم على الكفر وإيذائهم للمسلمين وتآمرهم على قتله بل قصر خطبته على حض المسلمين على التقوى وتذكيرهم بالله تعالى وهذا في الحق غاية الأدب ومنتهى ما يصل إليه حلم الحليم ولو كان غير رسول الله لا يستفزه الغضب وعدد مثالبهم لأنهم هم الذين خذلوه واضطهدوه وأخرجوه من أحب البلاد إليه وكانوا عقبة في سبيل تبليغ رسالة ربه وقد صدق الله تعالى حيث قال فيه { وإنك لعلي خلق عظم }

_________

( 1 ) راجع تاريخ الطبري

 

 

معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود

 

 

- قال ابن اسحاق وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط عليهم وأشترط لهم :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس . المهاجرون من قريش على ربعتهم ( 1 ) يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم ( 2 ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو الحرث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون الأولى وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمروف والقسط بين المؤمنين . وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمروف والقسط بين المؤمنين . وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وإن المؤمنين لا يتركون مفرجا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ( 3 ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وان أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله الا على سواء وعدل بينهم وإن كل غازية غزت معنا تعقب بعضها بعض وإن المؤمنين ببئ ( 4 ) بعضهم على بعض بما نال دماءهم فيسبيل الله وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن وأنه من اغتبط ( 5 ) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولى المقتول وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصفيحة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأ ه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل وأ كم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وغلى محمد صلى الله عليه وسلم . وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يونغ ( 6 ) إلا نفسه وأهل بيته وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يونغ إلا نفسه وأهل بيته وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم وأن لبني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف وأ البر دون الإثم وأن موالي ثعلبة كأنفسهم وأن بطانة ( 7 ) يهود كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينحجز على ثار جرح وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا ظلم وأن الله على أبر هذا وأن علي اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وأنه لم يأثم امرؤ بحليفة وأن النصر للمظلوم وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصفيحة وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وانه لاتجار حرمة إلا بأذن أهلها وأنه ماكان بين أهل هذه الصفيحة من حدث أو اشتجار ( 8 ) يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصفيحة وأبره وأنه لاتجار قريش ولا من تضرها وإن بينهم النصر على من دهم ( 9 ) يثرب وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وأنهم دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين الا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم وإن ليهود الاوس مواليهم وأنفسهم مثل مالا هل هذه الصفيحة مع البر الحسن من أهل هذه الصفيحة وإن البر دون الأثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

_________

( 1 ) الربعة والرباعة الحال التي جاء الإسلام وهم عليها . ويقال فلان يقوم برباعة أهله إذا كان يقوم بأمرهم وشأنهم

( 2 ) العاني الأسير والمخذول الذي تركه قومه ولم يواسوه

( 3 ) الدسيعة هي ما يخرج من حلق البعير إذا رغا فأستعاره هنا للعطية وأراد به هنا ماينال منهم من ظلم

( 4 ) بيء منع ويكف

( 5 ) اغتبطه إذا قتله عن غير شيء يوجب قتله

( 6 ) لا يونع لا يهلك

( 7 ) بطانة الرجل خاصته وأهل سره

( 8 ) الأشتجار الأختلاف يقال اشتجر القوم إذا اختلفوا

( 9 ) من دهم . يريد من فاجأهم . يقال دهمتهم الخيل دهمهم

 

 

الخزرج والأوس وما كان بينهما وبين اليهود

 

 

- الخزرج والأوس هما قبيلتان مشهورتان من العرب في يثرب وقد لقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار لما هاجر إليهم لأنهم هم الذين نصروه ومنعوه وقد مر ذكرهم في بيعة العقبة الأولى والثانية ولا شك أن الباحث يشتاق إلى الوقوف على تاريخ هاتين القبيلتين وما كان بينهما وبين اليهود من علاقات وحروب لأن ذلك يساعده على فهم تاريخ سكان المدينة وعلى موقف الأنصار واليهود إزاء الاسلام والمسلمين وليكون على بينة من أمرهم عند ذكرهم في الحوادث التي وقعت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من أمرهم عند ذكرهم في الحوادث التي وقعت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

خزرج وأوس أخوان أبوهما حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وأم أوس وخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد من قضاعة ولذلك يقال لهما ابنا قيلة . وكان منهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب تذكران غالبا معا فيقال الأوس والخزرج . لكن غلب اسم الخزرج وسموا أيضا الأنصار لأنهم أول من قام بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وساعده في حروبه وآووه إلى أرضهم . أما أصلهم فقد جاء في كتب السير أنه لما خرج مزيقياء من اليمن بعد تفرق أهل سبأ بسيل العرم ( 1 ) ملك غسان بالشام ثم هلك وملك ابنه ثعلبة العنقاء . ولما هلك ملك بعده عمرو ابن أخيه جفنة فسخط مكانه ابنه حارثة وأجمع الرحالة إلى يثرب نزل على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من ذلك ما سأل . وقيل لما سار ثعلة بن عمرو بن عامر في من معه اجتازوا يثرب فتخلف بها أوس وخزرج ابنا حارثة في من معهما فنزل بعضهم بضرار وبعضهم بالقرى مع زرع الا الأعذاق اليسيرة فكانوا يحيون الأرض الموات ويزرعونها والأموال لليهود فلبثوا حينا من الدهر على ذلك وهم في ضيق مال وسوء حال . ثم قدم منهم مالك بن عجلان على أبي جبيلة الغساني فسأله عن حالهم فأخبره بضيق معاشهم . فقال : ما بالكم لاتغلبونهم كما غلبنا أهل بلدنا ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم فرجع مالك وأخبر قومه بوعد أبي جبيلة فاستعدوا له وقدم عليهم وخشى أن يتحصن منه اليهود فاتخذ حائرا ( 2 ) وبعث إليهم فمال خواصهم وحشمهم وأذن لهم في دخول الحائر ثم أمر جنوده فقتلوهم عن آخرهم . وقال للأوس والخزرج : إذا لم تتغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم ورجع إلى الشام . فأقاموا في عداوة مع اليهود ثم أجمع مالك ابن عجلان وصنع لهم طعاما ودعاهم فامتنعوا خوفا من الغدر فاعتذر إليهم مالك عن فعل أبي جبيلة ووعدهم أنه لا يقصد مثل ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل 87 من رؤسائهم وفر الباقون وصورت اليهود مالكا في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا

وذكر ابن الأثير رواية أخرى وهي أن اليهود كان لهم ملك اسمه الفيطون وكان ظالما فاسقا . وقد سن سنة أن كل امرأة تتزوج يدخل عليها قبل زوجها فاتفق يوما زفاف أخت مالك هذا فأتت مجلسا فيه أخوها وكشفت عن ساقها . فقال لها أخوها : قد أتيت بسوء . فقالت : الذي يراد بي الليلة أشد من هذا فثارت النخوة في رأسه واحتال على الدخول معها عند الملك في زي امرأة فلما خلا المكان قتله ( 3 ) وفر إلى جبيلة ولم يكن هذا ملكا لغسان بل معظما عند ملوك غسان وقد ذلوا بعد هذه الفعلة وخافوا ولجأ كل قوم منهم إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا وعظم شأم ملك وسوده الحيان . ولم يمض زمان طويل حتى أثرى الأوس والخزرج وامتنع جانبهم وقد تناسلوا تكاثروا وتشعبوا عدة بطون فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس فمنهم خطة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك . ومن بني عوف حنش ومالك وكلة . ومن مالك معاوية وزيد . ومن زيد عبيد وضبيعة وأمية . ومن كلفة حججبا . ومن مالك بن الأوس الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو بن مالك . فمن كعب بنو ظفر . ومن الحارث ابن الخزرج حارثة وجشم . ومن جشم بنو عبد الأشهل . ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرة بن مالك . فبنو سعد الجعارة . ومن بني عامر عطية وأمية ووائل بنو زيد بن قيس بن عامر . ومن مالك بن الأوس ايضا أسلم وواقف ابنا امرئ القيس بن مالك فهذه بطون الأوس كما ذكرها ابن خلدون

وأما الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث

- 1 - فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب

- 2 - ومن عمرو بن الخزرج بنو النجار وهم : تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة بنو مالك وبنو عدي وبنو مازن وبنو دينار كلهم بنو النجار . ومن مالك بن النجار مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو . ومن عمرو عدي ومعاوية

- 3 - ومن عوف بن الخزرج بنو سام والقوافل وهما : عوف بن عمرو بن عوف والقواقل ثعلبة ومرضخة بنو قوقل بن عوف . ومن سالم بن عوف بنو العجلان بن زيدبن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف

- 4 - ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم وزيد بن جشم . فمن غضب بنو بياضة وبنو زريق وبنو عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب . ومن يزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن يزيد

- 5 - ومن الحارث بن الخزرج بنو خدرة وبنو حرام ابني عوف بن الحارث ابن الخزرج

فلما فعلوا ما فعلوا باليهود واعتزوا وكثروا تفرقوا في عالية يثرب وسافلتها وملكوا أمرها ودخل في حلقهم من جاورهم من قبائل مضر ثم قامت الفتن بين الحيين وكل منهم يستنصر بمن حلفه من مضر واليهود ورجل عمروبن الأطنابة من الخزرج بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة واتصلت الرياسة في الخزرج بينهم وبين الأوس

_________

( 1 ) أثبتت بحوث الأستاذ جليزر Glaser في سنة 1896 أن السيل قد حدث وتكرر حدوثه وقد أهمل السد فنشأ عن ذلك تصدع جوانبه ويرى الأستاذ ولفنسون أن سيل العرم ليس هو السبب الوحيد في هجرة جميع البطون الأزدية إلى شمال الجزيرة بل لابد أن تكون هناك أسباب أخرى

( 2 ) الحائر هو المكان المطمئن الوسط المرتفع الجوانب

( 3 ) نقل الأستاذ ولفنسون في كتابه تاريخ اليهود في بلاد العرب هذه القصة عن خلاصة الوفا وقال إنها خرافية لأنه ليس من المعقول أن ملكا يهوديا يرتكب جريمة منكرة كهذه تناقض روح التوراة وتخالف الإيمان باله موسى دون أن يجد مقاومة عنيفة وانكارا شديدا من شعبه وأبناء جلدته وقال من الغريب أن قصة كهذه تماما قصها الطبري عن طسم وجديس وأنكر الأستاذ ولفنسون أيضا القصة الأولى الخاصة بملك بن العجلان بعد أن نقلها عن الأغاني . وعلى كل حال لم يكن اليهود والخزرج على وفاق بل كانوا في شقاق في هذه المدة بسبب أن اليهود كانوا أصحاب الأموال والخزرج والأوس لبثوا حينا من الدهر وهم في عسر

 

 

العداوة بين الأوس والخزرج

 

 

- كانت أول فتنة وقعت بين الأوس والخزرج حرب سمير وذلك أن رجلا حليفا يقال له كعب فاخرالأوس بشيء فغضب منهم رجل له سمير وشتمه ثم رصده حتى خلا به فقتله فغضب مالك بن عجلان وطلب الرجل عشيرته فأنكروا معرفته وعرضوا عليه الدية فقبلها فأرسلوا إليه نصف دية لأن الرجل حليف لا نسيب فأبى الا الدية كاملة فامتنعوا ولج الأمر حتى أفضى إلى المحاربة فاقتتلوا مرتين كانت النصرة في الثانية منهما للأوس فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك أن حكم بيننا المنذر بن حرام التجاري الخزرجي وهو جد حسان بن ثابت فأجابهم إلى ذلك فحكم أن يؤدى الأوس إلى مالك دية الصريح ثن يعودون إلى سنتهم القديمة فرضوا بذلك وافترقوا وقد شبت البغضاء في قلوبهم وتمكنت العداوة بين القبيلتين

ثم ان كعب بن عمرو المازني الخزرجي تزوج امرأة من بني سالم فأمر أحيحة بن جلاح رئيس بني حججبا من الأوس جماعة أن يرصدوه ويقتلوه ففعلوا فدعا أخوه عاصم قبيلته للنصرة فاستعدوا والتقوا هم والأوس واقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو حججبا وانهزم أحيحة فركض وراءه عاصم فأدركه وقد دخل باب الحصن وأغلقه فرماه بسهم فلم يصبه فقتل أخا له فعزم أحيحة أن يكبس بني النجار وكان متزوجا بأمرأة منهم فلم يرضها ذلك وخافت على قومها فسارت إليهم ليلا وقد نام أحيحة بعد سهر طويل وأنذرتهم . فلما أتاهم أحيحة إذا هم على سلاحهم فلم يقدر عليهم فضرب إمرأته حتى كسر يدها لما بلغه ما فعلت وطلقها

ثم كانت حرب بني وائل بن زيد من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وذلك أن الحصين بن الأسلت الأوسي نازع رجلا من بني مازن وقتله فتبعه قوم من بني مازن فقتلوه فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وانضمت الأوس والخزرج كلها فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الأوس

ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبني مالك بن النجار من الخزرج وذلك أن رجلا من ظفر كان يمر إلى أرضه في أرض رجل من بني النجار فمنعه فلم يمتنع فنازعه فقتله الظفري فاجتمع قومها واقتتلا فانهزم بنو مالك بن النجار

ثم أن رجلا من بني النجار أصاب غلاما من قضاعة وقتله وكان عم الغلام جارا لمعاذ بن النعمان الأوسي فطلب معاذ ديته منبني النجار فامتنعوا فلقيهم بقومه عند فارع أطم حسان بن ثابت ولم يزل القتال بينهم حتى حمل الدية إليه عامر بن الأطناب فاصطلحوا حالا

ثم كانت الموقعة المعروفة بحاطب وهو حاطب بن قيس من بني أمية بن زيد بن مالك ابن عوف الأوسي وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة وكان سبب هذه الحروب أن حاطبا كان رجلا شريفا سيدا فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه ثم أنه غدا يوما إلى سوق قينقاع فرآه يزيد بن الحرث المعروف بابن فسحم وهي أمه وهو من بني الحرث بن الخزرج فقال يزيد لرجل يهودي لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي فأخذ رداءه وكسعه ( 1 ) كسعة سمعها من بالسوق فنادى الثعلبي يالحاظب كسع ضيفك وفضح . وأخبر حاطب بذلك فجاء إليه فسأله من كسعه فأشار إلى اليهودي فضربه حاطب بالسيف ففلق هامته فأخبر ابن فسحم الخبر وقيل له قتل اليهودي قتله حاطب فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله فلقى رجلا من بني معاوية فقتله ( ولا ندري السبب الذي دعا ابن فسحم أن يحرض ذلك اليهودي على ضرب الثعلبي في دبره ) فثارت الحرب بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيها للخزرج وهذا اليوم من أشهد أيامهم وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب فمنها يوم الربيع ويوم البقيع والفجار الأول والثاني ويوم بعاث هو آخر الأيام بينهم

وفي يوم الفجار الثاني حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني وسبب حرب يوم بعاث هو أن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وأرسلت حلفاءها من أشجع وجهينة وأرسلت الأوس حلفاءها من مزينة ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا ( بيعاث ) وهي من أعمال قريظة . وعلى الأوس حضير الكتائب والد أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وتخلف عبد الله بن أبي ابن سلول فيمن تبعه عن الخزرج . وتخلف بنو حارثة بن الحرث عن الأوس فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا وصبروا جميعا . ثم أن الأوس وجدت من السلاح فولوا منهزمين نحو العريض فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح واعقراه كعقر الجمل والله لا أعود حتى أقتل فان شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا وأقبل سهم لا يدري من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكبا قريبا من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان قتيلا في عباءة يحمله أربعة رجال كما كان قال له . فلما رآه قال ذق وبال البغى وانهزمت الخزرج ووضعت فيهم الأوس السلاح فصاح صائح يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهللوا أخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم وإنما سلبهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا مجروجا فمات وأحرقت الاوس دور الخزرج ونخيلهم فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزار بما فعلوا له في الرعل ونجى يومئذ الزبير بن اياس بن باطا ثابت ابن قيس بن شماس الخزرجي أخذه فجز ناصيته وأطلقه وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الاسلام يوم بني قريظة

_________

( 1 ) كسعه ضرب دبره بيده

 

 

الخلاصة

 

 

- تبين ينا من تاريخ الخزرج والأوس أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء الذي خرج من اليمن بعد تفرق أهل سبأ بسيل العرم وأن هذا السيل ليس خرافة بل حدث مرارا وخرب السد فغرت البلاد

وقد لبث الخزرج والأوس حينا من الدهر مع اليهود يحيون الأرض الموات ويزرعونها وهم في عسر شديد . وكان اليهود هم أرباب الأموال فحدث نزاع وشجار بينهم وبين اليهود وهو أشبه بالثورات التي حدثت بين المزارعين أو العمال المتمولين في القرون الأخيرة

ثم نشبت حروب بن الأوس والخزرج فتارة كان النصر فيها للخزرج وأخرى للأوس وكان الظفر في أكثرها للخزرج . وأخيرا حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وأنضم بنو قينقاع إلى الخزرج على أن تلك الحروب الطاحنة بين القبيلتين الأختين كان سببها بناء على ما وصل إليه من تاريخها حزازات شخصية كان في الإمكان ملافاتها . لكن العداء أشتدد بينهما لما في طبيعة العرب من التمسك بالأخذ بالثار . وقد بلغت العداوة بين الخزرج والأوس مبلغا عظيما قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وآخر الحروب بينهم يوم بعاث الذي هزم فيه الخزرج وكان حوالي سنة 616 م فلما سئموا القتال أجمعوا على تتويج عبد الله بن أبي ابن ( 1 ) سلول ملكا عليهم وابن سلول هذا هو اللقب برأس المنافقين . وقد حسد النبي لأن الإسلام منع تتويجه وأخذته العزة فأضمر الشر وهو الذي قال في غزوة المصطلق " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فقال ابنه عبد الله للنبي وهو الله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله إن أنت أذنت لي في قتله قتلته فواللذه لو علمت الخزرج ما كان بها أحد أبر بوالده منى . ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حيا حتىأقتله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا ولا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته

ولما أنعم الله على الخزرج والأوس بنعمة الإسلام اتفقت الكلمة واجتمع الشمل وتآخى الفريقان فوحد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمهما ولقبهما بالأنصار لأنهم نصروه . وتوحيد الاسمين تحت راية الإسلام كان له أعظم أثر في النفوس إذ بذلك امتنع الشقاق وتصافت النفوس وساروا جميعا نحو غرض واحد ومبدأ واحد

جاء في دائرة المعارف الإسلامية في مادة أنصار ( صلى الله عليه وسلمnsar ) : " لكأن محمدا أراد أن يشابه بين كلمة الأنصار المطلقة على المسيحيين " وهذا خطأ واضح لأن كلمة أنصار جمع نصير أما نصارى فنسبة إلى قرية بالشام تسمى ناصرة أو نصران وفوق ذلك فإن سبب تسمية الخزرج والأوس بالأنصار معروف وهو لأنهم نصروه صلى الله عليه وسلم وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبه والتقليد

_________

( 1 ) يقال عبد الله بن أبي ابن سلول بتنوين أبي وكتابة ابن سلول بالألف ويعرب إعراب عبد الله لأنه صفة له لا لأبي

 

 

مدينة يثرب

 

 

- سميت يثرب بعد الإسلام بالمدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عبارة عن جملة قرى تقع في سهل خصب وبينها وبين مكة 200 ميل وهي في شمالها . جاء في معجم البلدان لياقوت " إن لهذه المدينة تسعة وعشرين اسما " ثم سردها وكذا أحصى المجد الشيرازي اللغوي نحو ثلاثين اسما وذكر السمهودي في كتاب وفاء الوفا أربعة وتسعين اسما وقال إن كثرة الأسماء تدل على شرف مسمى ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما

فمن اسمائها أثرب كمسجد ويثرب : قال تعالى { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرث لا مقام لكم فارجعوا } والبلد . قال تعالى { لا أقسم بهذا البلد } ودار الهجرة والسنة وطيبة وطابة وقرية الأنصار ومدينة الرسول ومضجع الرسول وأكالة البلدان والمباركة والمسكينة والعذراء الخ

أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة وهي في حرة سبخة ولها نخيل كثيرة ومياه ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها وقبر النبي صلى الله عليه وسلم في شرق المسجد وهو بيت مرتفع وليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود

لا باب له وفيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غشى بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر ومصلاه صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب

و ( بقيع الغرقد ) خارج المدينة من شرقيها و ( قباء ) خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة وهي شبيهة بالقرية و ( أحد ) جبل في شمالي المدينة وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين وبقربها مزارع ونخيل وضياع لأهل المدينة و ( وادي العقيق ) فيما بينها وبين الفرع و ( الفرع ) من المدينة على أربعة أيام في جنوبيها وبها مسجد جامع غير أن أكثر هذه الضياع خراب وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب . وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق

وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخص في الهش وفي متاع الناضح ونهى عن الخبط وأن يعضد ويهصر

ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها وتمرا الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله حب اللبان ومنها يحمل إلى سائر البلدان وجبلها أحد قد فضله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أحد جبل يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة " وحجارة أحد من الجرانيت

المسافات : من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل ( 1 ) ومن الكفوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثمان عشرة مرحلة ويلتقى مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة . ومن البحرين إلى المدينة نحو خمسة عشر مرحلة . ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ومثله من فلسطين إلى المدينة عن طريق الساحل

_________

( 1 ) تبلغ المرحلة عشرين ميلا

 

 

مرض المهاجرين بحمى المدينة

 

 

- حاول رؤساء قريش منع المسلمين من الهجرة إلى المدينة لكنهم استطاعوا الهجرة بعد بضعة اسابيع وقد اعتاد المهاجرون جو مكة الجاف فلما قدموا المدينة أصيب أكثرهم بالحمى لأن صيفها رطب وشتاءها قارس . قالت عائشة " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أول أرض أصاب أصحابه منها بلاء وسقم . وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصابت الحمى أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب من شدة الحمى فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد فوجدتهم يهذون من شدة الحمى فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت فنظر إلى السماء وقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد . اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة " فاستجاب الله له فطيب هواءها وترابها وسكنها والعيش بها . وحمى المدينة كانت الملاريا لما كان يحيط بها من البرك والآبار حتى أن الجمال كانت تمرض من الشرب منها وكانت قريش تعيب على أهل يثرب ما يعتريهم من الحمى وتسلط اليهود عليهم وتسمى الحمى ( أم ملدم ) قال رسول الله لزيد الخيل وكان قد أتى مع وطئ وأسلم يا زيد تقتلك أم ملدم يعني الحمى فأصيب بها أثناء الطريق عند عودته ومات بها

 

 

مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- قال ابن عمر كان بناء المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر ويناه على ما كان من بنائه ثم غيره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه

وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار ( 1 ) لبنتين لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول " ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وقال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن

وروى البيهقي في الدلائل عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرا ثم قال ثم قال ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى حجر عمر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخلفاء من بعدي

وعن مكحول قال لما كثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا اجعل لنا مسجدا فقال خشبات وثمامات عريش كعريش أخي موسى . صلوات الله عليه . الأمر أعجل من ذلك ورواه رزين وزاد فيه فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الخ

وكان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب باب في مؤخره وهو في جهة القبلة اليوم وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة . والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باب ىل عثمان اليوم وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة ولما صرفت القبلة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب ومحاذيه هذا الباب الذي سد

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع يتكئ عليه فقالت امرأة من الأنصار أو رجل يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا ؟ قال إن شئتم فجعلوا له منبرا ولما فارق رسول الله الجذع وصعد المنبر حن الجذع وسمع له صوت كصوت العشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة ؟ فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه فسكن

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر . قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه

ولا شك أن حنين الجذع من معجزاته صلى الله عليه وسلم وحديث الجذع مشهور رواه من الصحابة بضعة عشر . وكان المنبر من خشب الأثل ومن درجتين وله مجلس

وذكر ابن بطوطة في رحلته الجذع فقال :

دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا باب السلام مسلمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة

وقال عند ذكر القبر الكريم :

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كان يخطب إلى الجذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحول إليه حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما نزل إليه فألتزمه فسكن وقال لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة . واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم فروى أن تيميا الدارى رضي الله نه هو الذي صنعه . وقيل أن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه . وقيل غلام لامرأة من الأنصار وورد ذلك في الحديث الصحيح وصنع من طرفاء الغابة وقيل من الاثل وكان له ثلاث درجات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد على علياهن ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن فلما ولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن ووضع رجليه على أولاهن . فلما ولى عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن ووضع رجليه على الأرض . وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضج المسلمون فلما رأى ذلك معاوية تركه وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تسع درجات

_________

( 1 ) هو عمار بن ياسر وقد قتل يوم صفين

 

 

تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها

 

 

- عائشة رضي الله عنها هي بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر . ولدت في السنة الثامنة أو التاسعة قبل الهجرة ( 613 - 614 م ) تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في شهر شوال قبل الهجرة وكان صداقها أربعمائة درهم وكانت أحب نسائه إليه وكنيتها أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء وهي أم عبد الله بن الزبير وكان يدعوها أما لأنه تربى في حجرها وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف حديث وكانت من أكبر النساء عقلا . فصيحة الكلام صحيحة المنطق تحفظ كثيرا من القصائد كريمة لا تدخر شيئا . أحفظ أهل زمانها للحديث وقد روت عنها الرواة من الرجال والنساء

وأثبت بعض المؤرخين أن عائشة كان لديها نسخة من القرآن ( 1 ) وقبض رسول الله وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول الله ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وتوفيت سنة سبع وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان ( 13 يولية سنة 678 م ) وقد قاربت سبعا وستين سنة وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع ودفنت ليلا وذلك زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية وكان مروان استخلف أبا هريرة لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة . روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنا قالتك فضلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعضر خصال : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا دون غيري . وأبواي مهاجران . وجاء جبريل عليه السلام في حريرة . وأمره أن يتزوج بي . وكنت أغتسل معه في أناء واحد . وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد . وتزوجني في شوال وبنى في ذلك الشهر . وقبض بين سحري ونحري وأنزل الله تعالى عذرى من السماء ودفن في بيتي وكل ذلك لم يساوني غيري فيه ( 2 )

_________

( 1 ) راجع دائرة المعارف الاسلامية تحت اسم عائشة ( صلى الله عليه وسلمisha )

 

( 2 ) راجع تفسير الفخر الرازي الجزء الرابع صفحة 656

 

 

صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة

 

 

- لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة فقال يا جبريل وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود . فقال جبريل : إنما أنا عبد فادع ربك وسله وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء فنزلت عليه " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب . ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون . ويقال بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باصحابه ركعتين ثم أمر أن يتوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب فسمى المسجد مسجد القبلتين وذلك يوم الأثنين . للنصف من رجب على رأس ثمانية عشر شهرا ( 1 )

_________

( 1 ) راجع طبقات ابن سعد

 

 

ذكر الأذان

 

 

- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله وذكر الناقوس وأهله فكره حتى أرى رجل من الأنصار يقال له ( عبد الله بن زيد ) الأذان وأريه عمر بن الخطاب تلك الليلة فأما عمر فقال إذا أصبحت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما الأنصارى فطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة فأخبره وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلال " فأذن بالصلاة وذكر أذان الناس اليوم . قال فزاد بلال في الصبح " الصلاة خير من النوم " فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما رأى الأنصارى وله صلى الله عليه وسلم من المؤذنين بلال وابن أم مكتوم بالمدينة

 

 

فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر

 

 

- نزل فرض صيام شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } الآية وقال عز وجل { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وركن الصيام الإمساك عن المفطرات وأمر في هذه السنة بزكاة الفطر وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال وكان يخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفطر بيومين فيأمر بإخراجها قبل ان يعدو إلى المصلى وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحى في كل عام . وكان يضحى بكبشين سمينين أقرنين أملحين أحدهما عن أمته والآخر عن نفسه وآله يأكل هو وأهله منهما ويطعم المساكين

الزكاة

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمس وقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة قال تعالى { وآتوا الزكاة } وقال جل شأنه { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وأقام الصلاة . وإيتاء الزكاة . وصوم رمضان . وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " ويجب على الوالي إخراج الزكاة

 

 

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

 

 

- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه قبل هجرته إلى المدينة فخرجوا إرسالا فكان أولهم قدوما إليها أبو سلمة بن عبد الأسد وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وبعد قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بخمسة أشهر آخى بين المهاجرين والأنصار لتذهب عنهم وحشة الغربة وليؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض . وقد آخى بينهم على الحق والمؤاساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام وكانوا تسعين رجلا خمسة وأربعون من المهاجرين وخمسة وأربعون من الأنصار ويقال كانوا مائة خمسون من المهاجرين وخمسون من الأنصار وكان ذلك قبل بدر فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم } فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطعت المؤاخاة في الميراث ورجع كل إنسان إلى نسبة وورثه ذوو رحمة وأنا نذكر هنا

أبو بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري . عمر بن الخطاب وعثمان بن مالك الأنصاري . جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل الأنصاري . حمزة ابن عبد المطلب وزيد بن حارثة الأنصاري

أبو عبيدة الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري . عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري . الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة الأنصاري . طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري . عثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري . سعيد بن زيد وأبي بن كعب الأنصاري مصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري . أبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر الأنصاري عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسي الأنصاري . حاطب بن أبي بلتعة وعوين بن ساعدة الأنصاري . سلمان الفارسي وأبو الدرداء الأنصاري . أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو الأنصاري . أبو سبرة بن أبي رهم وسلامة بن وقش الأنصاري . خباب بن الأرد وتميم مولى خراش بن الصمة . صفوان بن وهب ورابع بن العجلان . صهيب بن سنان والحارث بن الصمة . عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن ورقة . مسعود بن ربيعة وعبيد بن التيهان . معمر بن الحارث بن معمر ومعاذ بن عفراء . واقد بن عبد الله بن عبد مناف وبشر بن البراء . زيد بن الخطاب ومعن بن عدي . الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن زيد

 

 

إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث

 

 

- كان عبد الله بن سلام كما قال بعض أهله عنه حبرا عالما . قال سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما نزل بقباء في بين عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأسي نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري خيبك الله والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت . قال قلت لها أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به . فقالت أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قلت لها نعم . قالت فذاك إذا . قال ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت اسلامي من يهود . ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بأسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم : أي رجل الحصين بن سلام فيكم ؟ قالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا . قال فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه . قالوا كذبت ثم وقعوا بي فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أخبرك يا نبي الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب قال فأظهرت اسلامي واسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة ابنة الحارث فحسن اسلامها ( 1 )

وذكرت دائرة المعارف الإسلامية أنه كان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله لما اسلم وأنه توفي 43 ه ( 663 - 664 م )

وقد كان عبد الله بن سلام حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف كنى بابنه وهو من بني قينقاع وكان اسمه في الجاهلية حصينا ونزل في فضله قوله تعالى { وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } وقول الله تعالى { قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } ( 2 )

وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه . قال بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه . فقال : اني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي قال ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرني بهن آنفا جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ( 3 ) . وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة فسبقه ماؤه كان الشبه لهم وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها . قال أشهد أنك رسول الله : الحديث

_________

( 1 ) راجع الجزء الثاني من السيرة النبوية لابن هشام

( 2 ) راجع كتاب تهذيب الأسماء ص 347 348 طبع أوربا

( 3 ) هي قطعة متعلقة بالكبد وهي أطيبه قيل هي أهنأ طعام وأمرؤه

 

 

عداء اليهود ومناقشاتهم

 

 

عرف بعض اليهود بالمدينة بشدة عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن علماءهم كانوا يعرفون أنه سيبعث نبي وكانوا يعرفون صفاته من التوراة فمن أعدائه الذين انتصبوا لعداوته حيى وأبو ياسر وجدى بنو أحطب . وسلام بن مشكم . وكنانة بن الربيع وكعب بن الأشرف . وعبد الله بن صوريا وابن صلويا . ومخريق الذي أسلم بعد . ولبيد بن الأعصم الذي حرضه اليهود وسحر النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء جبريل وأخبره بذلك السحر وبمكانه وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا ( يعني بقتله )

ومنهم مالك بن الصلت . وقد كان من أحبار اليهود ورئيسا فإنه قال ما أنزل الله على بشر من شيء . فانظر كيف أدى به عداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفر بنبينا وبموسى عليهما السلام وبما أنزل عليهما . فقالت اليهود له ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فقال أنه أغضبني فقلت ذلك فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف

وممن كان من أحبار اليهود حريصا على رد الناس عن الإسلام شاس بن قيس اليهودي كان شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم . مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدثون فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة . فقال : قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار . فأمر فتى شابا من اليهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث : أي الحرب الذي كان بينهم وما كان فيه وانشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل فتكلم القوم عند ذلك وذكر كل أقوال شاعرهم وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة فنادى هؤلاء يا آل الأوس ونادى يا آل الخزرج ثم خرجوا للحرب وقد أخذوا السلاح واصطفوا للقتال

فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم فيمن كان معه من المهاجرين . فقال يا معشر المسلمين الله الله ؟ اتقوا الله . أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم . فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنزل الله في شاس بن قيس { يأهل الكتاب لم تصدن عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا } وأنزل الله في الأنصار { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمامكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم . يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } سورة آل عمران

وقد كان اليهود يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء تعنتا وحسدا وبغيا ليلبسوا الحق بالباطل . فجاء مرة يهوديان إلى رسول الله فسألاه عن قوله تعالى { ولقد آتينا موسى تسع آيات } . فقال لهما لا تشركوا بالله شيئا . ولا تزنوا . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ولا تسرقوا . ولا تسحروا . ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان . ولا تأكلوا الربا . ولا تقذفوا المحصنة وعليكم يا يهود خاصة لا تعتدوا يوم السبت . فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد أنك نبي . قال ما يمنعكما أن تسلما . فقالا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود

وسألوه صلى الله عليه وسلم مرة . فقالوا : أخبرنا عن علامة النبي . فقال : " تنام عيناه ولا ينام قلبه "

وسألوه أي طعام حرمه اسرائيل لعلى نفسه قبل أن تنزل التوراة : قال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن اسرائل وهو يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه . فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها . قالوا اللهم نعم

وقالوا مرة إغاظة له صلى الله عليه وسلم ما يرى الرجل همة إلا في النساء والنكاح فلو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء . فأنزل الله تعالى { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } فقد جاء أن سليمان عليه السلام كان له مائة امرأة وتسعمائة سرية

وقد انضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج منافقون على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث الا أنهم دخلوا في دين الإسلام خشية القتل لما قهرهم الاسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه فكان هواهم مع اليهود في السر وفي الظاهر مع المسلمين وهؤلاء المنافقون . وقد ذكر بعضهم إن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة . منهم عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين ولاشتهاره بالنفاق لم يعد في الصحابة . وكان من أعظم اشراف أهل المدينة وكانوا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه . وكان عبد الله بن أبي . جميل الصورة ممتلئ الجسم فصيح اللسان وهو المعنى بقوله تعالى { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم }

مثال من نفاق ابن أبي

 

 

- من نفاقه ما أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما . قال نزلت ( وإذا لقوا الذين آمنوا } الأية في عبد الله بن أبي وأصحابه وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة . فقال ابن أبي انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه . فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه وقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوى في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال : مرحبا بابن عمر رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له علي رضي الله عنه : اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة الله . فقال له عبد الله مهلا يا أبا الحسن أتقول لي هذا والله إن ايماننا كايمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا . فقال لأصحابه كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيرا فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت الآية { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } إلى آخر الآيات التي في المنافقين كلها فيه وفي أصحابه

وبالجملة قد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الأذى من المنافقين واليهود بالمدينة شيئا كثيرا ولكنه بالنسبة لأذى أهل مكة كالعدم فإنه كان بالمدينة في غاية العزة والمنعة والقوة من أول يوم وأذى اليهود غايته المجادلة والتعنت في السؤال . ولما قويت شوكة الاسلام واشتد الجناح أذن له صلى الله عليه وسلم بالقتال

أهل الصفة

 

 

- أهل الصفة هم فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنون ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة . وكان رسول الله يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه وتتعشى طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء الله بالغنى وكان أبو هريرة من أهل الصفة

عن أبي هريرة قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال : ادع لي أصحاب يعني أهل الصفة فجعلت أتبعهم رجلا رجلا فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأذنا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده . وقال : خذوا باسم الله فأكلنا ما شئنا . قال يم رفعنا أيدينا . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت الصفحة والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه . فقلنا لأبي هريرة قدركم هي حين فرغتم ؟ قال : مثلها حين وضعت الا أن فيها أثر الأصابع . وكان رسول الله يؤثر علي نفسه وأولاده فيعطي ما بيده للمحتاجين ( ومنهم أهل الصفة ) حتى ان ابنته فاطمة رضي الله عنها جاءته تشكو ما تلقى من الرحى وخدمة البيت وكانت سمعت بسبى جاءه فطلبت منه خادما . فقال : لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد . قال الله تعالى يذكر أهل الصفة : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }

عن ابن عباس وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم فطيب قلوبهم . فقال : أبشروا ياأصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنهم فاقي

وقد ترك أغلب المهاجرين أملاكهم وأموالهم بمكة عدا عثمان فإنه تمكن من أخذ جميع أمواله معه . وقد كان غنيا واشتغل المهاجرون بالزراعة أعطاهم أهل المدينة أرضا يستثمرونها

موضع الجنائز

 

 

- عن أبي سعيد الخدري . قال : كنا مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إذا حضر منا الميت أتيناه فخبرناه فحضره واستغفر له حتى إذا قبض انصرف ومن معه وربما قعد حتى يدفن وربما طال ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حبسه . فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض والله لو كنا لا نؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشغلة عليه ولا حبس قال ففعلنا ذلك . قال فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيصلي عليه ويستغفر له فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت فكنا على ذلك أيضا حينا ثم قالوا والله لو أنا لم نشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيصلي عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه قال ففعلنا ذلك . قال محمد بن عمر : فمن هناك سمى ذلك الموضع موضع الجنائز حملت إليه ثم جرى ذلك من فعل الناس من حمل جنائزهم والصلاة عليها في ذلك الموضع إلى اليوم

الأذن بالقتال

 

 

- أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر صفر في السنة الثانية من الهجرة وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كفار قريش ثلاث عشرة سنة إلى نبذ الأصنام وعبادة الله الواحد بغير قتال صابرا على شدة أذى العرب فهم لم يزدادوا الا تعنتا وتعسفا واضطهدوا النبي وأصحابه اضطهادا شديدا وألجأوهم إلى هجر بلادهم وترك أموالهم وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إليه ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم اصبروا فاني لم أومر بقتالهم . وقال جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون ( وهو أخو عثمان بن مظعون ) وسعد بن أبي وقاص يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فائذن لنا في قتال هؤلاء . فقال كفوا أيديكم عنهم فاني لم أومر بقتالهم

لم يبق بعد ذلك غير استعمال السلاح للدفاع عن كيانهم والتغلب على عبدة الأصنام فالمسألة صارت مسألة حياة أو موت فاما انتصار يحقق نشر الدين أو انكسار لا تقوم للمسلمين بعده قائمة ولو تمكنت قريش من مهاجمة المدينة والأنتصار على المسلمين لكان في ذلك القضاء على الاسلام وكان المسيحيون في الأمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت يقاتلون الفرس وينتصرون عليهم

لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكثر أتباعه وقام الأنصار بنصره صلى الله عليه وسلم وأصر المشركون على الكفر والتكذيب أذن لهم بالقتال فبعث عليه السلام البعوث وغزا بنفسه

وأول ما أنزل في أمر القتال قوله تعالى في سورة الحج :

{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبه الأمور }

هذا أول ما أنزل في الأذن بالقتال بعد مانهى عنه في نيف وسبعين آية

 

 

بعث حمزة

 

 

- كان أول بعوثه صلى الله عليه وسلم أن بعث عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة ( 623 م ) في ثلاثين راكبا من المهاجرين . قال بعضهم كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار والمجمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين . ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دتارعم . خرج حمزة ومن معه يعترضون عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة وكان فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب ولما بلغوا ساحل البحر من ناحية العيص من بلاد جهينة التقوا وتصافوا للقتال ثم حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان مصالحا للفريقين فانصرف القوم بغير قتال ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم معهم وكان يحمل اللواء أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي وهو أول لواء عقده رسول الله وكان لواء أبيض

 

 

سرية عبيدة بن الحارث

 

 

- وفي شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة ( 623 م ) بعث عبيدة بن الحارث ابن المطلب بن مناف إلى بطن رابغ وعقد له لواء أبيض وكان الذي حمله مسكح ابن اثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف وكانوا ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري فلقى أبو سفيان بن حرب ( 1 ) وهو في مائتين من أصحابه وهو على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ على عشرة أميال من الجفة وأنت تريد قديدا عن يسار الطريق وإنما نكبوا عن الطريق ليرعوا ركابهم فكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال وإنما كانت بينهم المناوشة إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في الأسلام ثم انصرف الفريقان على حاميتهم

_________

( 1 ) أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف القرشي الأموي والد معاوية ولد قبل الفيل بعشر سنين وكان من أشراف قريش وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم وكان يخرج أحيانا بنفسه وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى العقاب وهو الذي قاد قريشا كلها يوم أحد . أسلم ليلة الفتح

 

 

سرية سعد بن أبي وقاص

 

 

- ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار وهو واد في الحجاز يصب في الجفة وذلك في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة عقد له لواء أبيض حمله المقداد عمرو البهرواني وبعثه في عشرين رجلا من المهاجرين يعترض لعير قريش تمربه وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار . قال سعد فخرجناعلى أقدامنا فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحناها صبح خمس فنجد العير قد مرت بالأمس فانصرفنا إلى المدينة

 

 

غزوة ودان أو غزوة الأبواء

 

 

- أول مغازيه التي خرج فيها بنفسه صلى الله عليه وسلم غزوة ودان . قال زين العابدين ين الحسين بن علي رضي الله عنهم " كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن . وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول : يا بني أنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها

فأول غزوة خرج فيها صلى الله عليه وسلم ( ودان ) وهي قرية جامعة من أعمال الفرع . وبعضهم يسميها غزوة الأبواء فمنهم من أضافها إلى ودان ومنهم من أضافها إلى الأبواء لأنهم متقاربان في وادي الفرع بينهما ستة أميال . خرج رسول الله إليها في صفر على رأس اثني عشر شهرا من الهجرة ( يونيه سنة 623 م ) يريد عيرا لقريش وبني ضمرة وقيل لم يكن صلى الله عليه وسلم مريدا لهم بل مريدا للعير التي لقريش فلما لقى بني ضمرة عقد بينه وبينهم صلحا وكان خروجه في ستين راكبا ليس فيهم أنصاري فلم يدرك العير التي أراد . واكنت المصالحة بينه وبين ضمرة على أنهم لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا ولا يعينون عليه عدوا وأن لهم النصر على من رامهم بسوء وأنه إذا دعاهم لنصر أجابوه وعقد ذلك معهم سيدهم فخشى بن عمرو الضمري وكتب بينهم كتاب فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنى ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وان لهم النصر على من رامهم بسوء بشرط أن لا يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصر أجابوه . عليهم بذلك ذمة الله ورسوله

وكان لواؤه أبيض وكان مع عمه حمزة رضي الله عنه واستخلف على المدينة سعد ابن عبادة . وكانت غيبته خمس عشرة ليلة

 

 

غزوة بواط

 

 

- ثم غزوة بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة ( يوليه سنة 623 م ) وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص واستخلف على المدينة سعد بن معاذ . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه حتى بلغ بواط ( جبل لجهينة من ناحية رضوى ) يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش ففاتته العير ورجع ولم يلق حربا

 

 

غزوة بدر الأولى

 

 

- وفي شهر ربيع الأول أيضا غزا رسول الله لطلب كرز بن جابر الفهري وكان لواؤه أبيض وكانبيد على بن أبي طالب واستخلف على المدينة مولاه زيد بن حارثة . وكان كرز بن جابر قد أغار على سرح المدينة فاستاقه وكان يرعى بالجماء ( 1 ) فطلبه رسول الله حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يلحقه فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . وهذه الغزوة هي غزوة در الأولى

أما كرز فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وولاه رسول الله الجيش الذين بعثهم في أثر العرينيين الذين قتلوا راعيه وقتل كرز يوم الفتح وذلك سنة ثمان من الهجرة

وقد ذكر ابن اسحاق هذه الغزوة بعد العشيرة قال ابن حزم بعشرة أيام

_________

( 1 ) السرح ما رعوا من نعمهم . والجماء جبل ناحية العقيق إلى الجرف بينه وبينه ثلاثة أميال

 

 

غزوة العشيرة

 

 

- كانت غزوة العشيرة في جمادة الأولى وقيل الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة ( اكتوبر سنة 623 م ) وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان لواء أبيض واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين ممن انتدب ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا . خرج يعترض لعير قريش حين أبدأت إلى الشام وكان قد جاءه الخبر بقفولها من مكة فيها أموال قريش فبلغ العشيرة وهي لبنى مدلج بناحية ينبع وبين ينبع والمدينة تسعة برد فوجد العير التي خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت على البحر وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل وبالعشيرة كنى رسول الله علي بن أبي طالب أبا تراب وذلك أنه رآه نائما متمرغا في البوغاء ( 1 ) فقال أجلس أبا تراب فجلس وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا

كانت قريش قد جمعت أموالها في تلك العير ويقال إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير وكان قائد تلك العير أبا سفيان بن حرب ومعه سبعة وعشرون وقيل تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص

_________

( 1 ) البوغاء ماثار من الغبار ودقاق التراب

 

 

سرية عبد الله بن حجش الأسدي

 

 

- أمر رسول الله أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو فتهجز فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله فبعث مكانه عبد الله بن حجش الأسدي في أثني عشر رجلا من المهاجرين كل أثنين يعتقبان بعيرا إلى نخلة وهو بستان بن عامر الذي قرب مكة وذلك في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة ( نوفمبر سنة 623 م ) وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فمضى لما أمره به ولا يكره أحدا من أصحابه ففعل ذلك ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشا ويعلم أخبارهم . فأعلم أصحابه فساروا معه حتى إذا كان بمعدن فوق الفع أضل بعيرا وكان زميله عتبة بن غزوان فأقاما عليه يومين يبغيانه ومضى عبد الله وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل خمرا وأدما وزبيبا جاءوا من الطائف فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم وأشرف لهم عكاشة بن محصن الأسدي وقد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا عمار لا بأس عليكم وذلك آخر يوم من رجب ثم انهم تشاوروا فأجمعوا على القتال فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وشد المسلمون عليهم فاستأسر عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل وغنم المسلمون ما معهم . ويقال أن عبد الله بن جحش لما رجع من نخلة خمس ما غنم وقسم بين أصحابه سائر الغنم فكان أول خمس خمس في الإسلام وذلك قبل أن يفرض وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون . وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون . وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون وكان الذي أسر الحكم المقداد بن عمرو فدعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم وقتل ببئر معونة شهيدا

أما سعد بن أبي وقاص وزميله عتبة بن غزوان فلم يشهدوا هذه الغزوة وقدما المدينة بعد عودة السرية بأيام

أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة فلما قدموا قال لهم رسول الله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقف العير ولاأسيرين فسقط في أيديهم وعنفهم المسلمون وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله }

فلما نزل القرآن وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله العير وفدى الأسيرين وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش " أمير المؤمنين "

 

 

غزوة بدر الثانية أو غزوة بدر الكبرى

 

 

- بدر بلدة بالحجاز إلى الجنوب الشرقي من الجار وهو ساحل البحر بينما نحو مرحلة ويسمونها بدر حنين وهي في سهل يليه في الشمال إلى الشرق جبال وعرة ومن الجنوب آكام صخرية ومن الغرب كثبان رملية

كانت غزوة بدر الكبرى يوم الجمعة في شهر رمضان في السابع عشرة على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة ( يناير سنة 624 م ) وكان سببها قتل عمرو الحضرمي واقبال أبي سفيان بن حرب من الشام في عير لقريش عظيمة وفيها أموال كثيرة ومعها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمرو بن العاص

فلما سمع بهم رسول الله ندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموال فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم لأنهم ظنوا أن الرسول لا يلقى حربا

وكان أبو سفيان قد سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده فحذر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا وبعثه إلى مكة يستنفر قريشا ويخبرهم الخبر فسار وألقى فيهم النفير فخرجوا مسرعين ومن تخلف أرسل مكانه آخر ولم يتخلف أحد من أشراف مكة إلا أبو لهب وبعث مكانه العاص بن هشام نظير أجر قدره 40 . 000 درهم وكان السبب في خروجهم حماية العير وانقاذها

 

 

قوة قريش

 

 

- كان الذين خرجوا من قريش نحو 1000 منهم 600 دارع ومعهم 100 فرس عليها 100 درع سوى دروع المشاة

وكان حامل لوائهم السائب بن يزيد ثم أسلم رضي الله عنه وهو الأب الخامس للامام الشافعي رضي الله عنه

وكان معهم أيضا 700 بعير . وخرجوا ومعهم القيان ومعهم القيان وهن الأماء المغنيات يضربن بالدفوف يغنين بهجاء المسلمين وهم في غاية البطر والخيلاء حين خروجهم اعتمادا على كثرة عددهم وعددهم قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط }

وكان المطعون لهذا الجيش اثني عشر رجلا . وكان كل واحد منهم ينحر كل يوم عشرة جزر وهؤلاء الأثنا عشر هم : أبو جهل . وعتبة وشيبة ابنا ربيعة . وحكيم بن حزام . والعباس بن عبد المطلب . وأبو البختري . وزمعة بن الأسود . وأبي بن خلف . وأمية بن خلف . والنضر بن الحارث . ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وفيهم أنزل الله تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونه ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }

 

 

قوة المسلمين

 

 

- كان عدة الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 313 . وقيل لما عد صلى الله عليه وسلم أصحابه فوجدهم ثلاثمائة وثلاثة عشر فرح . وقال : عدة أصحاب طالوت الذي جازوا معه النهر . وخرجت معه الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه . ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج لبس درعه ذات الفضول وتقلد سيفه العضب

وتخلف ثمانية من أصحابه صلى الله عليه وسلم بسهامهم وأجورهم : ثلاثة من المهاجرين : عثمان بن عفان خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مرضة فأقام عليها حتى ماتت . وطلحة بن عبيد الله . وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان خبر العير وخرجا في طريق الشام

وخمسة من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي خلفه على المدينة . وعاصم بن عدي العجلاني خلفه على أهل العالية . والحارث بن حاطب العمري رده من الروحاء إلى بني عوف لشيء بلغه عنهم . والحارث بن الصمة كسر بالروحاء . خوات بن جبير كسر أيضا . وهؤلاء ثمانية لا اختلاف فيهم . وكانت الإبل سبعين يتعاقب النفر البعير . وكانت الخيل فرسين فرس للمقداد بن عمرو . وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوى . وكان اللواء مع مصعب بن عمير . وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان احداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها العقاب والأخرى مع بعض الأنصار وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة الأنصاري فكانت قوة المسلمين قليلة بالنسبة لقوة عدوهم

 

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه

 

 

- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلين يتجسسان أخبار عير أبي سفيان وهما بسبس بن عمير وعدي بن أبي الزغباء فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخدا يستقيان من الماء فسمعا جارتين تقول احداهما لصاحبتها ان أتاني العير غدا أو بعد غد أعمل لهم أي أخدمهم ثم أقضيك الذي لك . فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما سمعا

فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وفي حرب النفير يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم خير أصحابه بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النفير وأخبرهم بمسير قريش . وقال لهم : إن الله وعدكم احدى الطائفتين : أما العير وأما قريش . وكان العير أحب إليهم ليستعينوا بما فيها من الأموال على شراء الخيل والسلاح . وقال بعضهم هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير . وفي رواية يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتكلم المهاجرون فأحسسوا ثم استشارهم فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن

وكان صلى الله عليه وسلم يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها الا ممن دهمه فجأة من العدو بالمدينة فقط وان ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو . فلما قال لهم أشيروا علي . قال : له سعد بن معاذ رضي الله عنه وهوسيد الأوس بل هو سيد الأنصار . وكان فيهم كالصديق رضي الله عنه في المهاجرين . قال والله لكأنك تريدنا يا رسول الله . قال : أجلز قال قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ماجئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك الحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا . انا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء . لعل الله يريط فينا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله ونشطه ذلك للقاء الكفار . ثم قال رسول الله سيرواعلى بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين أما العير وإما النفير

 

 

الخلاف بين أبي سفيان وأبو جهل

 

 

- كان أبو سفيان قد ساحل وترك بدرا ثم أسرع فنجا فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش بالجحفة أن الله قد نجى عيركم وأموالكم فاجعوا

فقال أبو جهل والله لانرجع حتى ترد بدرا ( وكانت بدر موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام ) فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسق الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا . ويقال كان أبو جهل وقتئذ يبلغ من العمر سبعين سنة

فلما بلغ أبا سفيان كلام أبي جهل قال : هذا بغى والبغي منقصة وشؤم لأن القوم انما خرجوا لنجاة أموالهم وقد نجاها الله . ولما قال أبو جهل ما قال رجع من قريش بنو زهرة وكانوا نحو المائة وقيل ثلاثمائة فلذا قيل لم يقتل أحد منهم بدر . وكان قائد بني زهرة الأخنس بن شريق الثقفي وكان حليفا لهم . فقال لهم : يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل فإنه كان في العير وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة دعوا ما يقول هذا يعني أبا جهل وكذلك لم يخرج من قريش بنو عدي بن كعب فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد . لكن هذا الخلاف لم يمنع نشوب الحرب

 

 

مسير الجيشين ونزول المطر

 

 

- مضت قريش حتى نزلت بالعدوة ( 1 ) القصوى من الوادي

ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب . وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه وحفروا القلب لأنفسهم ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منا يسقوا دوابهم

وأدرك المسلمين النعاس وأصبحوا لا يصلون إلى الماء للشرب والغسل والوضوء . فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون واتخذوا الحياض على عدوة الوادي واغتسلوا وتوضأوا وسقوا الركاب وملأوا الاسقية وأطفأت المطر الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام والحوافر وضر ذلك بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم مالا يقدرون معه على الأرتحال وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم و يثبت الأقدام }

وباب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه . ويصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده " يا حي يا قيوم " يكرر ذلك حتى أصبح

قال علي رضي الله عنه فلماأن طلع الفجر نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطب وحض على القتال

_________

( 1 ) العدوة جانب الوادي والقصوى البعدى

 

 

بناء حوض على القليب

 

 

- قال ابن اسحق خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به فقال الحباب بن المنذر بن الجموح رضي الله عنه يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله تعالى لا تتقدمه ولا تتأخره عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فإني اعرف غزارة مائه فننزل به ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون . فقال صلى الله عليه وسلم اشرت بالرأي . فنهض صلى الله عليه وسلم ومعه من الناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية وقد كان الخباب خبيرا بالآبار في تلك الجهة وقد قبل رسول الله مشورته وهي فكرة سديدة لها أهمية حربية فإن الجيش يكون على إتصال دائم بالماء الذي لا غنى عنه

 

 

بناء العريش

 

 

- وبعد ذلك قال سعد بن معاذ رضي الله عنه يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه وندع عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك نلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعكم الله بهم يناصحوك ويجاهدون معك . فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير وقال يقضى الله خيرا من ذلك يا سعد . ثم بنى له ذلك العريش فوق تل مشرف على المعركة فدخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقام سعد بن معاذ متوشحا بالسيف

وعن علي رضي الله عنه انه قال اخبروني من أشجع الناس . قالوا أنت . قال اشجع الناس أبو بكر رضي الله عنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوى إليه أحد من المشركين فكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما دنا منه أحد إلا وأبو بكر رضي الله عنه شاهر بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي أحد إليه إلا هوى إليه أبو بكر رضي الله عنه . وجاء أن لما التحم القتال وقف أيضا على باب العريش سعد بن معاذ رضي الله عنه وجماعة من الأنصار . والعريش شيء يشبه الخيمة يستظل به وكان من جريد . قال السيد السمهودي ومكانه ( العريش ) عند مسجد بدر وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه

 

 

عتبة بن ربيعة ينصح قريشا بالرجوع

 

 

- تقدم قبل ذلك أن أبا سفيان كان من رأيه الرجوع لنجاة عير قريش وأموالها وأن أبا جهل كان مصمما على الحرب . فلما اطمأنت قريش بالجهة التي نزلوا فيها ارسلوا عمير بن وهب الجمحي يستطلع فجال بفرسه حول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أنهم يبلغون ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون وقال لهم لقد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا . رجال يثرب تحمل الموت الناقع ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي لا يريدون أن يقبلوا إلى أهليهم زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف . قول ليس لهم منعة إلا سيوفهم . والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم . فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة . فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش والمطاع فيها هل لك أن تذكر بخير إلى آخر الدهر ؟ فقال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس . فقام عتبة خطيبا . فقال : يا معشر قريش والله ما تصنعون شيئا أن تلقوا محمدا وأصحابه لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قد قتل ابن عمي أو ابن خالي أو رجلا من عشيرتي . فارجعوا وخلوا محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك إذا أردتم وإن كان غير ذلك ولم تعدموا منه ما تريدون . يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتهم أني لست بأجبنكم

فلما بلغ أبا جهل هذا الكلام عن عتبة رماه بالجبن . وقال : ( والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ) فأفسد أبو جهل على الناس رأي عتبة

تعديل صفوف المسلمين ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما أصبح المسلمون عدل النبي صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها صلى الله عليه وسلم فقال :

اللهم هذه قريش اقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك . اللهم فنصرك الذي وعدتني

 

 

اقتحام الحوض

 

 

- خرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيء الخلق . فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه . فلما أقبل قصده حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما ثم اقتحم الحوض زاعما أن تبر يمينه فقتله حمزة في الحوض . والأسود هذا هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي أخو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه زوج أم سلمة رضي الله عنها . وهو أول قتيل قتل يوم بدر من المشركين وهو أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة . وأما أخوه عبد الله بن عبد الأسد فهو أول من يأخذ كتابه بيمينه كما جاء ذلك في أحاديث متعددة

 

 

المبارزة

 

 

- التمس عيبة بن ربيعة بيضة أي خوذة يدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسع راسه لعظمها فتعمم ببردة له ( 1 ) خرج عتبة بعد أن تعمم بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى انفصل من الصف ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار وهما عوف ومعاذ ابنا الحارث الأنصاريان وعبد الله بن رواحة الأنصاري . فقالوا لهم من أنتم ؟ قالوا رهط من الأنصار . قالوا : ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا ونادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فناداهم أن أرجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم . ثم قال صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث . قم يا حمزة . قم يا علي فبارز عبيدة وكان أسن المسلمين عتبة وكان أسن الثلاثة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد بن عتبة فقتل حمزة شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة فحاذياه إلى أصحابه . وكانت الضربة التي أصابت عبيدة في ركبته فمات منها لما رجعوا بالصفراء

_________

( 1 ) قد كان المشركون مجهزين بأسلحة تفوق أسلحة المسلمين فدروع المسلمين كانت قليلة والظاهر أنه لم تكن لديهم خوذ في حين أن المشركين كانوا يضعون خوذا على رؤوسهم تقيهم النبال والسيوف

 

 

تعديل صفوف المسلمين والحث على الجهاد

 

 

- قال ابن اسحاق لما قتل المبارزون خرج صلى الله عليه وسلم من العريش لتعديل الصفوف فعدلهم بقدح في يده ( 1 ) فمر صلى الله عليه وسلم بسواد بن غزية حليف النجار وهو خارج من الصف فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال : " استو يا سواد " فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني من نفسك ( 2 ) فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال : استقد فاعتنق سواد النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه . فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ( 3 ) ثم لما عدل الصفوف قال لهم : " إن دنا القوم منكم فانصحوهم واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم " وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد والمصابرة ثم عاد إلى العريش

_________

( 1 ) سهم لا نصل فيه ولا ريش

( 2 ) أي مكني من القود أي القصاص

( 3 ) قال صاحب أسد الغابة : " رويت هذه القصة لسواد بن عمرو لا لسواد بن غزية "

 

 

ألوية المسلمين والمشركين

 

 

- كان لواء رسول الله الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين " يا بني عبد الرحمن " وشعار الأنصار " يا بني عبد الله " وشعار الأوس " يا بني عبيد الله " . ويقال بل كان شعار المسلمين جميعا يومئذ " يا منصور أمت "

وكان مع المشركين ثلاثة ألوية . لواء مع ابي عزيز بن عمير ولواء مع النضر بن الحارث . ولواء مع طلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الله

 

 

تزاحف الناس والتحام القتال

 

 

- بعد أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وأقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه صلى الله عليه وسلم فقال دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا حكيم بن حزام فإنه أسلم . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وكان صلى الله عليه وسلم قد أخذته سنة من النوم فاستيقظ وقد اراه إياهم من منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين وأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريش وقال شاهدت الوجوه ونفخهم بها ثم أمر أصحابه فقال شدوا فكانت الهزيمة

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في العريش يوم بدر اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم أن تعلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد وفي رواية أن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض

وروى النسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قاتلت يوم بدر شيئا من قتال ثم جئت لاستكشاف حال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده " يا حي يا قيوم " لا يزيد على ذلك فرجعت فقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك فعل ذلك أربع مرات وقال في الرابعة ففتح عليه

لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر . وقال والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن " بخ . بخ . ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء . ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل . ورمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل . ثم رمي حارثة بن سراقة الأنصاري فقتل . وقاتل عوف بن العفراء حتى قتل . واقتتل الناس اقتتالا شديدا فانهزم المشركون فقتل من قتل منهم وأسر من أسر . كان بدء القتال في الصباح وكانت الهزيمة في الظهر . وقتل عمرو بن الحمام فكان أول قتيل من الأنصار

وفي يوم بدر دعا أبو بكر الصديق ابنه عبد الرحمن إلى المبارزة وكان أسن أولاده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " متعنا بنفسك أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري " ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية

وقتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا

وقتل بلال أمية بن خلف الجمحي صديق عبد الرحمن بن عوف في الجاهلية لأنه كان يعذبه بمكة على أن يترك الإسلام ( 1 ) . وكان ابن عفراء ضرب أبا جهل حتى أثبته وقطع ابن الجموح رجله . فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ا لناس بأن يلتمسوا أبا جهل في القتلى خرج معهم عبد الله بن مسعود فوجده وهو بآخر رمق فوضع رجله على عنقه وحز رأسه وحمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد القاء الرأس بين يديه خرج يمشي مع ابن مسعود حتى أوقفه على أبي جهل . فقال : الحمد لله الذي أخزاك يا عدو رسول الله . هذا كان فرعون هذه الأمة ورأس قاعدة الكفر قال ابن مسعود ونفلني سيفه وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة

_________

( 1 ) راجع تعذيب المسلمين في هذا الكتاب

 

 

امداد المسلمين بالملائكة يوم بدر

 

 

- وردت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر فقاتلوا معهم . فلما انقضى أمر بدر أنزل الله عز وجل فيه من القرآن سورة الأنفال فمما أنزل خاصا بالملائكة قوله تعالى { إذ تستغثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفس من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى وضلتطمئن به قلبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم }

وقوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }

وقال تعالى في سورة آل عمران : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرن . إذء تقل للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف منض الملائكة منزلين . بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتكثم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم }

وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال . قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب

 

 

سيما الملائكة يوم بدر

 

 

- كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد ارسلوها خلف ظهورهم إلا جبريل عليه السلام فإنه كان عليه عمامة صفراء . وقيل حمراء . وقيل بعض الملائكة كانوا بعمائم صفر . وبعضهم بعمائم بيض . وبعضهم بعمائم سود . وبعضهم بعمائم حمر

وعن ابن مسعود رضي الله عنه كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر

وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه يوم بدر متعمما بعمامة صفراء وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة ( 1 )

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الغمام ظلل بني اسرائيل في التية هو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر

_________

( 1 ) مزينة

 

 

القاء القتلى في القليب

 

 

- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم وأن يطرحوا في القليب فطرحوا في القليب إلا ما كان أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتقطعت أوصاله فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة . والسبب في القاء قتلى المشركين في القليب كثرة حيفهم . فكان جرهم في القليب أيسر من دفنهم

ولما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم أمنتكم فكذبتموني وصدقني الناس . ثم قال : يا عتبة يا شيبة يا أمية بن خلف يا أبا جهل بن هشام ( وعدد من كان في القليب ) هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا . فقال له أصحابه أتكلم قوما موتى ؟ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني

 

 

الأسرى وفداؤهم

 

 

- كان فداء الأسرى أربعة آلاف إلى ما دون ذلك . فكان يفادي بهم على قدر أموالهم . وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه . فكان زيد بن ثابت ممن علم ( 1 )

وكان من بين الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه ويكنى أبا الفضل بابنه الفضل . وكان أسن من رسول الله بسنتين . وقيل بثلاث سنين . وكان في الجاهلية رئيسا في قريش وغليه عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية . خرج مع المشركين يوم بدر فأسر وشد وثاقه فسهر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ولم ينم . فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا نبي الله ؟ فقال أسهر لأنين العباس فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي لا أسمع أنين العباس . فقال الرجل أنا أرخيت من وثاقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فافعل ذلك بالأسرى كلهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية . فقال للنبي صلى الله عليه وسلم تركتني فقير قريش ما بقيت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين المال الذي دفعته لأم الفضل ( 2 ) وقلت لها إن أصبت فهذا لبني : الفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال والله إني أشهد أنك رسول الله إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل . أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله

وفي رواية قال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد تركتني فقيرا ما بقيت . فقال له كيف تكون فقير قريش وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل وقلت لها إن قتلت فقد تركته غنية ما بقيت . فقال أشهد أن الذي تقوله قد كان وما اطلع عليه إلا الله . ونطق بالشهادة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقد قيل أن العباس كان قد أسلم . وكان يكتم اسلامه . فقد جاء في بعض الروايات أن العباس رضي الله عنه قال علام يؤخذ منا الفداء وكنا مسلمين ؟ وفي رواية وكنت مسلما ولكن القوم استكرهوني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم اعلم بما تقول فإن يك حقا فإن الله يجزيك . ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا . وقد أنزل الله في العباس رضي الله عنه : { يايها النبي قل لمن في أيديكثم من الأسرى إن يعلم الله في قلبكم خيراص يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 3 ) } وعند نزول هذه الآية قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم ورددت أنك كنت أخذت مني أضعاف ما أخذت . وقد صدق الله وعده له فأعطاه الله مالا عظيما حتى كان عنده مائة عبد في يد كل عبد مال يتاجر فيه . وبلغ ما دفعته قريش فداء للأسرى أكثر من ( 20 . 000 ) درهم

وكان الأسرى : النضير بن الحارث العبدري وكان أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم . وكان يقول في القرآن أنه أساطير الأولين . ويقول لو شئنا لقلنا مثل هذا وغير ذلك من الأقاويل . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضرب عنقه . فلما بلغ الخبر أخته قتيلة وقيل أنما هي بنته ورثته بأبيات ثم أسلمت . وفي أسد الغابة أن قتيلة بنت النضر . قال الواقدي هي التي قالت الأبيات التالية في رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل أباها النضر بن الحارث يوم بدر وهي :

يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق

قسرا يقاد إلى المنية معتبا ... رسف المقيد وهو عان موثق

أمحمد أولست صفو نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان العتق يعتق

وحين سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه ( 4 )

وكان من الأسرى أيضا عتبة بن أبي معيط بن ذكوان المكنى بأبي عمرو بن أمية بن عبد شمس . وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن المستهزئين به . جاء عن ابن عباس أن عقبة لما قدم للقتل نادى يا معشر قريش ما لي أقتل بينكم صبرا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بكفرك واجترائك على الله ورسوله . وعقبة هذا هو الذي وضع سلال الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد

فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط هما الأسيران اللذان أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهما أما سائر الأسرى فقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم أبا بكر وعمر وعليا رضي الله عنهم فيما هو الأصح من الأمرين القتل أو أخذ الفداء

_________

( 1 ) راجع طبقات ابن سعد

( 2 ) يعوني زوجته

( 3 ) سورة الأنفال

( 4 ) أي لقبل شفاعتها عنده فلا ينافي أن ما فعله حق

 

 

رأي أبي بكر رضي الله عنه في الأسرى

 

 

- قال أبو بكر يا رسول الله . أهلك وقومك وفي رواية هؤلاء بنو العم والعشيرة والأخوان قد أعطاك الله الظفر بهم ونصرك عليهم أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون من عضدا

 

 

رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه

 

 

- قال يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ما أرى م رأى أبو بكر . ولكني أرى أن تمكنني من ( فلان ) قريب لعمر فاضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل أخيه فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم أنه ليس في قلوبنا رحمة على المشركين هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم . وعلى كل حال كان رأي عمر ضرب أعناق الأسرى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

أما علي رضي الله عنه فلم يذكر عنه جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين . قال العلامة الزرقاني لأنه لما رأى تغير المصطفى صلى الله عليه وسلم حين اختلف الشيخان لم يجب أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها

وكان رأي عبد الله بن رواحة احراقهم في واد كثير الحطب

لكن رسول الله أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه . وقال لا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق . وأنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخشن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب . ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار باضرام النار وليس بشرع

وهذه الآية لرأي عمر رضي الله عنه . وهذا من المواضع التي جاء القرآن فيها موافقا لقول عمر رضي الله عنه وهي كثيرة نحو بضع وثلاثين أفردت بالتأليف

ولما استقر الأمر على الفداء فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى في أصحابه . وكان أول أسير فدى أبو وداعة الحارث . فداه ابنه المطلب ( وكان كيسا تاجرا ) بأربعة آلاف درهم ثم أسلم وقد عده بعضهم من الصحابة . وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى . وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم وكان من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة إلى ألفين إلى ألف

وكان من الأسرى أبو العاص بن الربيع فإنه أسلم بعد ذلك وهو زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها . وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد رضي الله عنها أخت خديجة أم المؤمنين . ولم يكن في ذلك الوقت تزوج الكافر بالمسلمة محرما وإنما حرم ذلك بعد لأن الأحكام إنما شرعت بالتدريج

وقدمت زينب المدينة بعد شهر من بدر . وقد جاء بها زيد بن حارثة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلم زوجها وهاجر وردها إليه صلى الله عليه وسلم بغير عقد بل بالنكاح الأول . وقيل عقد عليها قعد آخر وولدت له ( أمامة ) التي كان يحملها صلى الله عليه وسلم على ظهره وهو يصلي . ثم لما كبرت تزوجها علي رضي الله عنه بعد خالتها فاطمة رضي الله عنها بوصية من فاطمة لعلي بذلك

ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسرى بغير فداء منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر . وقد كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره . فقال : يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فأمنن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقه وأخذ عليه عهدا أن لا يظاهر عليه أحدا . ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا ورجع لما كان عليه من الإيذاء بشعره ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره فأسر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه . فقال : اعتقني وأطلقني فإني تائب . فقال صلى الله عليه وسلم " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " فضربت عنقه وحمل رأس إلى المدينة وأنزل الله فيه { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم }

 

 

تأثير الإنتصار في المدينة

 

 

- كان لنبأ الإنتصار تأثير عظيم في النفوس فخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عدو بالمدينة وحولها وأسلم كثير من اليهود منهم عبد الله بن أبي لكنه لم يكن مخلصا في إسلامه بل ظل منافقا . ومع إنتصار المسلمين في بدر لم تنقطع معارضة اليهود ودسائسهم فكان لا بد من القضاء عليهم واستئصال شأفتهم . وقد كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء سبعين وكانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم إذا غاب ويتملقون له إذا حضر

ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد بن رواحة بشيرا لأهل العالية ( 1 ) وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين

_________

( 1 ) هو موضع قريب من المدينة

 

 

رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

 

 

- لما قارب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة خرج المسلمون للقائه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة يلقن :

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

 

 

وقع خبر الإنتصار على قريش

 

 

- سمعت قريش خبر انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن رجع منهم من ساحة القتال ( 1 ) وقص أبو سفيان ما رأي علي أبي لهب ففقد رشده وضرب أبا رافع ضربا مبرحا ولم يعش بعدها أبو لهب إلا سبع ليال ومات مصابا بالجدري وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا يقرب أحد منه خوفا من العدوى . ولما تحققت قريش خبر الهزيمة وما أصابهم من قتل وأسر ناحت على قتلاها شهرا وجز النساء شعورهن . ثم اتفقوا على عدم الاسترسال في الجزع لئلا يشمت بهم المسلمون وتواصوا على الأخذ بالثار

_________

( 1 ) قال الكلبي أن الحيسمان بن اياس هو الذي جاء بقتل أهل بدر إلى مكة وكان شهد بدرا مع المشركين ثم اسلم

 

 

أسباب انتصار المسلمين في موقعة بدر

 

 

- ليست موقعة بدر من الوقائع الكبيرة من حيث عدد جيوش المتحاربين واستعدادهم الحربي فإن عدد المسلمين كان نحو 300 يقابلهم نحو ألف من أهل مكة ولكنها موقعة مهمة لأنها كانت بمثابة الحجر الأساسي في إنتصار الرسول في الوقائع المقبلة . في هذه الموقعة انهزم أهل مكة وظهر ضعفهم في القتال على كثرة عددهم وفرسانهم وقد أبدى بعض المؤرخين استغرابه لما أصاب أعداء المسلمين من الفشل مع أنهم كانوا أكثر منهم عددا وكان معهم مائة فرس وسبعمائة بعير ومع ذلك لم يكتسحوهم أمامهم بفرسانهم وركبانهم بل ولوا هاربين والظاهر أن المسلمين كانوا أحسن نظاما فقد عدل صفوفهم النبي صلى الله عليه وسلم وخطب فيهم مستنهضا هممهم وكان يشرف على الموقعة مع ذلك العريش العالي ويصدر الأوامر فكان قائدا اما ولم يصدر من أصحابه أية مخالفة لأوامره أما أبو سفيان فلم يكن قائدا ماهرا وقد ساعد بناء الحوض وتوفر الماه على النصر . والقرآن الكريم والأحاديث النبوية تنص صراحة على أن الله سبحانه وتعالى أمد نبيه بمدد باطني فحاربت الملائكة مع المسلمين ونصروهم على أعدائهم وقد رآهم بعض الصحابة وبعض أهل مكة في ميدان القتال وذكروهم بسيماهم فقيل كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر وكان الزبير بن العوام متعمما بعمامة صفراء فقال صلى الله عليه وسلم نزلت الملائكة - أي بعضهم - بسيما أبي عبد الله يعني الزبير . وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة - مزينة - . وعن علي كرم الله وجهه قال هبت ريح شديدة يوم بدر ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك ثم جاءت أخرى كذلك فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة أمام النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الثالثة اسرافيل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا وقد جيء بالعباس يوم بدر أسره أبو اليسر وكان مجموعا وكان العباس جسيما فقيل لأبي اليسر كيف أسرته ؟ قال أعانني عليه رجل ما رايته من قبل ذلك بهيئته كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم ( 1 )

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قد رأيت جبريل وعلى ثناياه النقع . فقال رجل من بني غفار أقبلت أنا وابن عمر لي فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب فدنت منا سحابة فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم . قال فأما ابن عمي فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت . وقال أبو داود المازني إني لاتبع رجلا من المشركين لاضربه إذ وقع راسه قبل أن يصل سيفي إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف ( 2 ) فكيف بعد هذا كله نكذب امداد الله رسوله بالملائكة في موقعة بدر . إن الله قد اختص نبيه بمعجزات وهذه احداها ولا سبيل لانكارها وان أنكارها المستشرقون الذين كتبوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة

وروى الصحابة رضي الله عنهم الذين شهدوا بدرا أنهم رأوا الملائكة بسيماهم وهم يحاربون . قال حويطب بن عبد العزى شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عبرا رأيت الملائكة تقتل وتأسر بين السماء والأرض ولم أذكر ذلك لأحد ( 3 )

ومن أسباب انتصار المسلمين قوة العقيدة فإن لها تأثيرا عظيما في الحروب فشتان بين من يحارب بعقيدة راسخة لينصر الله ورسوله فإن قتل فاز بنعمة الشهادة وتنعم في دار الخلد وبين من يحارب وهولا يشعر بقوة العقيدة التي تدفع خصمه إلى القتال من غير مبالاة فالمسلمون كانوا يتوقون إلى الموت في سبيل الله فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر وهو يقول { سيهزم الجمع ويولون البر } وحرض المسلمين وقال " والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا أدخله الله الجنة " فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل ( 4 )

ويؤكد سير ويليام موير Sir William Muir أن الخوف الذي كان مستوليا على أهل مكة من أراقة دماء أقاربهم مع ما يقابل ذلك من رغبة المسلمين في القتال كان هو العامل المهم في انتصار المسلمين في موقعة بدر

_________

( 1 ) راجع تاريخ ابن الأثير

( 2 ) راجع تاريخ ابن الأثير

( 3 ) راجع تاريخ ابن الأثير

( 4 ) راجع اسد الغابة الجزء الثاني تحت اسم حويطب بن عبد العزى

 

 

زواج فاطمة

 

 

- كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلة نحيفة تبلغ العشرين من عمرها فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب بعد موقعة بدر بعد وقاة رقية وزواج أم كلثوم بعثمان بن عفان

 

 

غزوة بني سليم

 

 

- لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من بدل لم يقم إلا سبع ليالي حتى غزا بنفسه يريد بني سليم واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وهو من مشاهير الصحابة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ( 1 ) . وكان لواؤه أبيض حمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء من مياههم يقال له ( الكدر ( 2 ) ) فأقام صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا وارتفع القوم وهربوا وبقيت نعمهم فظفر بها صلى الله عليه وسلم وانحدر بها إلى المدينة وقسمها بصرار على ثلاثة أميال من المدينة وكانت خمسمائة بعير . وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة

_________

( 1 ) ابن أم مكتوم هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم . مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أمه أم مكتوم اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم وهو ابن خال خديجة بنت خويلد فإن أم خديجة رضي الله عنها فاطمة بنت زائدة بن الأصم . هاجر إلى المدينة واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته على الصلاة فقط لأنه كان أعمى وقضاء الاعمى غير صحيح . وشهد ابن أم مكتوم فتح القادسية ومعه اللواء . قيل أنه قتل بالقادسية شهيدا وقيل أنه رجع إلى المدينة فمات بها

وهو الأعمى الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه في قوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } وأجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم . أتى رسول الله ابن أم مكتوم وعنده صنادين قريش يدعوهم إلى الأسلام رجاء ان يسلم باسلامهم غيرهم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم اقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك فكره رسول الله قطعه لكلامه وأعرض عنه فنزلت هذه الآية . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة ولا شك أن في استخلافه للمدينة اكراما له

( 2 ) الكدر جمع أكدر قرقرة القدر . قال الواقدي . بناحية المعدن قريبة من الأرحضية بينها وبين المدينة ثمانية برد . وقال غيره ماء لبنى سليم

 

 

غزوة بني قينقاع

 

 

- قينقاع اسم لشعب من اليهود الذين كانوا بالمدينة أضيف إليهم سوق كان بها ويقال له بني قينقاع . وهم من موالي الخزرج وحلفاء عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وكان عددهم قليلا وصناعتهم الصياغة وكانت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة عداوة قديمة في الجاهلية سببها اشتراكهم مع الخزرج في يوم بعاث

كانت غزوة بني قينقاع في شوال من السنة الثانية من الهجرة ( فبراير سنة 624 م ) وقال ابن اسحاق . كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : " يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل مانزل بقريش من النقمة واسلموا فإنكم قد عرفتم أنى نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله اليكم "

قالوا يامحمد انك ترى انا كقومك لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة انا واللذه لئن حاربتنا لتعلمن انا نحن الناس

دعا رسول الله بني قينقاع إلى الإسلام وإلى الأعتراف بنبوته لأنهم يجدون ذلك في كتابهم لكنهم مع ذلك وعلى قلة عددهم واقامتهم مع المسلمين في المدينة نفسها اغلطوا له في الجواب ولم يقفوا عند حدود الأدب وادعوا الشجاعة

قال الدكتور ولفنسون في كتابه تاريخ اليهود في صدد ما ردوا به على رسول الله " أنهم أجابوه بكل جرأة وتبحج ص 129 " وقال " يظهر من هذا الرد أن بني قينقاع كانوا يعتمدون على معاضدة حلفائهم من الخزرج في نزاعهم مع الرسول قبل كل شيء اذ لا يتصور أن بطنا صغيرا كبطن بني قينقاع يجرؤ على اعلان الحرب ضد أغلب بطون يثرب ولكن بني الخزرج خذلوهم ولم يتحركوا لنجدتهم زغم أنهم من مواليهم ص 129 - 130 "

وقد كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد

قال ابن هشام : وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشف سوءتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله . وكان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع

ولم يرو هذه الحادثة ابن اسحاق وكذا لم يذكرها الطبري في تاريخه ولا ابن سعد في طبقاته . وليس في هذه القصة ذكر لأسم المرأة ولا اسم الصائغ الذي قتل ولا اسم المسلم القاتل له ولذلك نشك في هذه القصة لا لأن ابن اسحاق لم يروها بل لأن روايتها بهذه الصفة تحملنا على الشك إذ ليس فيها ما يساعدنا على البحث والتحقيق

وقد حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد حتى نزلوا على حكمه فكتفوا وهو يريد قتلهم فقام إليه عبد الله ابن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم ( وكانوا حلفاءه وحلفاء عبادة بن الصامت ) . فقال يامحمد أحسن في موالي فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم . فقال يا محمد أحسن في موالي . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني وغضب صلى الله عليه وسلم حتى رأوا في وجهه ظلالا ( 1 ) ثم قال ويحك أرسلني . قال لا والله لا أرسلك حتى تحس إلى موالي أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع منعوني من الأسود والأحمر تحصدهم في غداة واحدة واني واللذه لا آمن وأخشى الدوائر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم لك . وعن عمر بن قتادة أنه قال خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم فأسلوهم ثم أمر باجلائهم وغنم الله عز وجل رسوله والمسلمين ماكان لهم من مال ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سلاحا كثيرا وآلة صياغتهم وكان الذي ولى اخراجهم من المدينة بذارريهم عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ ذباب ( 2 ) وهو يقول الشرف الابعد الأقصى فالأقصى . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر

وقد استغرق خروجهم ثلاثة أيام وذهبوا إلى أذرعات ( 3 ) وكان عددهم 400 حاسرو 300 دارع فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم وأن يجلوا من المدينة وأن لهم النساء والذرية ويجعلوا بقية الأموال للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها الحلقة لتي هي السلاح ولم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع فصالحهم على ذلك فنزلوا فخمست أموالهم . جعل منها أربعة أخماس للمؤمنين المجاهدين وخمسا له صلى الله عليه وسلم . وقد وجد في منازلهم سلاح كثير فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسى قوسا تدعى ( الكتوم ) لا يسمع لها صوت إذا رمى بها كسرت بأحد وقوسا تدعى ( الروحاء ) وقوسا تدعى ( البيضاء ) وأخذ درعين درعا يقال لها ( الصغدية ) يقال أنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت والأخرى يقال لها ( فضة ) وثلاثة أرماح وثلاثة أسياف . ووهب صلى الله عليه وسلم درعا لمحمد بن مسلمة ودرعا لسعد بن معاذ . وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قينقاع لواء أبيض مع حمزة بن عبد المطلب

_________

( 1 ) يعني تلونا

( 2 ) جبل بالمدينة

( 3 ) بلدة بالشام

 

 

غزوة السويق

 

 

- غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة ( ابريل سنة 624 م ) وولى تلك الحجة المشركون من تلك السنة . وكان أبو سفيان حين رجع إلى مكة نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه ( 1 ) فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه . ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير ليلا فأتى حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه فأنصرفه عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه وصاحب كنزهم فأستذن عليه فأذن له فقراه وسقاه خمرا وبطن له من خبر الناس . ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوى ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل بها ووجدوا بها معبد بن عمرو الأنصاري وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين ونذر بهم الناس

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم في 200 من المهاجرين والأنصار واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر ( وهو أبو لبابة ) حتى بلغ قرقرة الكدر . ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها النجاة . فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أتطمع لنا أن تكون غزوة ؟ قال نعم

وإنما سميت " غزوة السويق " لأن ما أكثر ما طرح القوم من أزوادهم " السويق " فرجع المسلمون بسويق كثير فسميت ( غزوة السويق )

والظاهر أن أبا سفيان أراد بهذه الغزوة أن يبر يمينه فقط لأنه لا يتصور أنه كان يريد بهذه القوة الصغيرة ( 200 راكب ) الإنتصار على المسلمين في هذه الغزوة بعد أن شاهد قوتهم في غزوة بدر

لذلك كانت هذه مناوشة لا قيمة لها

_________

( 1 ) الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما بقي فيهم الحج والنكاح

 

 

غزوة ذي امر وهي غزوة غطفان

 

 

- لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها ثم غزا نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي امر لأن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة جمعهم دعثور بن الحارث المحاربي . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في 450 رجلا واستعمل على المدين عثمان بن عفان فلما سمعوا بمجئه هربوا في رؤوس الجبال فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا وأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك . وأصاب المسلمون رجلا منهم يقال له حبار فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم وضمه إلى بلال ليعلمه الشريعة الإسلامية كما هو دأبه من العناية بتعليم المسلمين . وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بمعجزة من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه هو الذي جمع قومه لمحاربته صلى الله عليه وسلم وكان سيدا شجاعا وبعد أن أسلم ذهب إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فأهتدى به خلق كثير

 

 

زواج أم كلثوم

 

 

- في هذه السنة " الثالثة " عقد لعثمان رضي الله عنه على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أختها رقية

 

 

زواج حفصة

 

 

- في شعبان من هذه السنة تزوج رسول الله بحفصة بنت عمر رضي الله عنهما بعد أن انقضت عدتها من زوجها خنيس بن حذافة

 

 

سرية زيد بن حارثة

 

 

- سرية زيد بن حارثة إلى القرد ماء من مياه نجد وسببها أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكونها إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى وكلهم أسلموا عام الفتح ومعهم فضة كثيرة فبعث رسول الله زيد بن حارثة رضي الله عنه في 100 راكب فلقيهم على ذلك الماء فأصاب العير وما فيها وهرب الرجال فقدم بالعير على رسول الله فخمسها فبلغت قيمة الخمس عشرين ألف درهم . وكانت هذه السرية في جمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة ( سبتمبر سنة 624 م )

 

 

قتل كعب بن الأشرف

 

 

- كعب بن الأشرف اليهودي كان أبوه عربيا من بني نبهان . أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا . وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة شاعرا مجيدا ساد يهود الحجاز بكثرة ماله فكان أحبار يهود ويصلهم . وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره ويحرض كفار قريش على قتاله . وكان من عداوته أنه لما أصيب أصحاب بدر قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل وأسر من أسر من المشركين كبر عليه ذلك وقال : أحق هذا ؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان ( البشيران ) وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها . فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرض بأشعاره على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينتقل من قوم إلى قوم وأخباره تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيذكره لحسان فيهجوه ثم رجع إلى المدينة فتغزل في نساء المسلمين وذكرهن بسوء وأبى أن ينزع عن أذاه وكان يرمي إلى احداث ثورة في المدينة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من لي باب الأشرف ؟ فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله . قال فافعل إن قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له : لم تركت الطعام والشراب ؟ فقال : يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري أأفين لك به أم لا ؟ قال إنما عليك الجهد

ثم أتى أبا نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر وأخبرهم بما وعد به رسول الله من قتل ابن الأشرف فأجابوه وقالوا كنا نقتله ثم أتوا رسول الله وقالوا يا رسول الله لا بد لنا أن نقول . قال قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك . ومعنى ذلك أنهم استأذنوه أن يقولوا قولا غير مطابق للواقع يسر كعبا ليتوصلوا به إلى قتله وكان لا بد لهم من التماس الحيلة لأنه كان يقيم في حصن منيع خارج المدينة فأباح لهم الكذب لأنه من خدع الحرب فجاء محمد بن مسلمة كعب بن الاشرف فقال إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد سألنا صدقة ونحن ما نجد ما نأكله وأنه قد عنانا وأني قد أتيتك استسلفك . قال كعب وأيضا والله لتملنه . قال إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين . قال ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل ؟ ثم أجابهم بأنه يسلفهم وقال ارهنوني قال أي شيء تريد . قال أرهنوني نساءكم . قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟ قال فارهنوني ابناءكم قالوا وكيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن وسق أو وسقين ؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك اللامة يعني السلاح مع علمك بحاجتنا إليه قال نعم وإنما قالوا ذلك لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسالح فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له ويحك يا ابن الأشرف أني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فأكتم عني . فقال أفعل . قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء . عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد علينا . فقال كعب انا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأم سيصير إلى ما أقول . فقال أني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء . فقال إن في الحلقة لوفاء وكان أبو نائلة أخا لكعب من الرضاعة ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاعى فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباد بن بشر والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وكلهم من الأوس ولما فارقوا النبي صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله أعنهم ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته وكان ذلك بالليل وكانت الليلة مقمرة . فاقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه وكان حديث عهد بعرس فناداه أبو نائلة ثم بقية أصحابه فعرفهم ووثب في ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة قال لها إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني فقالت والله أني لأعرف في صوته الشر فقال لها كعب لو يدعي الفتى لطعنة لأجاب فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا له هل لك با ابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز ( 1 ) تنحدث به بقية ليلتنا فقال إن شئتم . فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة ثم أن أبا نائلة أدخل يده في بطنه ثم شم يده وقال ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعى ثم عاد لمثلها وأمسكه من شعره وقال اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فوقع على الأرض فجزوا رأسه فحملوه في مخلاة كانت معهم إلى رسول الله وكان ذلك في السنة الثالثة من الهجرة شهر ربيع الأول ( يولية سنة 624 م )

هذه الحادثة قد أوقعت الرعب في نفوس اليهود جميعا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فلم يخرج من عظمائهم أحد من شدة خوفهم

_________

( 1 ) اسم موضع كان قريبا منهم

 

 

قتل ابن سنينة

 

 

- ولما سمع محيصة بن مسعود ذلك من رسول الله وثب على ابن سنينة اليهودي وهو من تجار يهود فقتله فقال له أخوه حويصة وهو مشرك يا عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله وضربه . فقال محيصة لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك قال فوالله لئن كان لأول اسلام حويصة فقال إن دينا قد بلغ بك ما أرى لعجب . ثم أسلم

هذ قصة مقتل كعب بن الأشرف ذكرنا ملخصها من أوثق المصادر التاريخية وقد استنكر بعض الأفرنج الذين كتبوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم اغتيال كعب بأمر رسول الله . لكن كعبا هو الذي أساء إلى نفسه إذ قد ساقه الغرور إلى ارتكاب متن الشطط بعداء النبي معتمدا على ثروته وجاهه وشعره فإنه بعد أن عاهد النبي مع من عاهده من اليهود نقض العهد ونشط يهجو رسول الله والمسلمين بأشعاره ورحل إلى مكة يبث الدعوة للقتال فإذا ما عاد إلى المدينة تغزل بنساء المسلمين . ولا ريب أن ذلك كله يوغر الصدور والعرب لا يغفرون لمن يرمي نساءهم بسوء . ومن هذا نرى أنه كان عرضة للقتل بيد كل من يغار على حريمه ودينه من المسلمين

ذكرنا مقتل كعب بن الأشرف قبل موقعة أحد لأن سرية محمد بن مسلمة كانت في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة وغزوة أحد في شوال من هذا السنة . ذلك أن كعبا لما جاء البشيران اللذان أرسلهما رسول الله ليزفا إلى المسلمين خبر انتصارهم في بدر وقتل من قتل وأسر من أسر من أشراف قريش لم يصدقهما فلما سأل الناس وتثبت من صح الخبر رحل إلى مكة وأخذ يحرض قريشا على قتال المسلمين بأشعاره طارقا أبوابهم ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين فأمر رسول الله بقتله فقتل وقد حدث ذلك بعد موقعة بدر وقبل أحد اذ الذي دفعه إلى الرحيل إلى مكة واظهار عدائه شدة تغيظه من انهزام المشركين وانتصار المسلمين ذلك الأنتصار المبين . وقد ذكر ابن هشام وابن الأثير وابن سعد في طبقاته وفي كتاب السير للأمام أبي العباس مقتل كعب قبل أحد وكذلك أورده الطبري قبل أحد مع حوادث السنة الثالثة للهجرة وقد نقل عن الواقدي أن النبي وجه إليه ( أي كعب ) في شهر ربيع الأول من هذه السنة ( الثالثة ) وارخ مستر موير هذه الحادثة يولية سنة 624 ( السنة الثالثة من الهجرة )

ومن الغريب أن الأستاذ ولفنسون يغمض عينيه عن هذه المراجع المهمة ( في رسالتته تاريخ اليهود ) وبتشبث برأى اليعقوبي ويعتبره صحيحا لأن اليعقوبي يقول إن النبي أمر بقتل كعب بن الأشرف بعد يوم أحد أي في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة . لكن ما الذي الجأ الأستاذ إلى ذلك ؟ إن الذي ألجأه إلى ذلك نفي التهمة عن كعب بن الأشرف وهي تحريضه قريشا على قتال المسلمين وتشبيبه بنسائه فاضطر إلى تكذيب رواية ابن هشام وغيره من كبار المؤرخين

فلما قتل كعب اذن ؟

قال الأستاذ أنه قتل في السنة الرابعة قبيل محاصرة النبي لبني النضير وكان قتله بمثابة اعلان حرب عليهم فإنه كان زعيما من زعمائهم

وبذلك نفى الأستاذ ولفنسون التهمة عن كعب وجوز على النبي قتل زعيم من زعماء بني النضير لا لشيء غير اعلان الحرب عليهم

 

 

غزوة أحد

 

 

- أحد جبل مشهور بالمدينة في شمالها بينه وبين المدينة ثلاثة أميال . كانت الغزوة في شوال سنة ثلاث من الهجرة ( يناير 625 م ) وسببها أن قريشا لما أصبابهم يوم بدر ما أصابهم مشى عبد الله بن ابي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ومشى معهم رجال آخرون من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وأخوانهم فكلموا أبا سفيان وكل من كان له تجارة في تلك العير التي كانت سبب وقعة بدر وسألوهم أن يعينوهم على حرب رسول الله ليدركوا ثأرهم منهم ففعلوا وتجهزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشى بن حرب وكان حبشيا يقذف بالحربة قلما تخطئ فقال له أخرج مع الناس فإن قتلت عم محمد ( حمزة ) بعمى طعيمة بن عدى فأنت حر لأن حمزة هو القاتل لطعيمة بن عدي يوم بدر وكان أبو سفيان بن حرب قائدهم وكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس وكان جملة النساء 17 امرأة معهن الدفوف يبكين على قتلى بدر ( إذ البكاء دأب النساء ) يحرضن بذلك المشركين وممن خرج من النساء هند بنت عتبة بن أبي ربيعة . وكتب العباس للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بجمهم وخروجهم

وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال ومن هذا نستدل على أن التجنيد والتبرعات المالية للحرب لم تكن إجبارية

جاء كتاب العباس للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بقباء على بعد ساعة من المدينة وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك . فلما جاء الكتاب فك ختمه ورفعه لأبي بن كعب فقرأه عليه وهذا مما يؤيد أن النبي كان أميا بمعنى أنه لا يعرف القراءة والكتابة والا لكان قرأ الكتاب بنفسه وكتم سره بدلا من أن يطلب من أبي بن كعب تلاوته ثم يستكتمه

سارت قريش ومعهم الأحابيش ( 1 ) الذي حالفوهم وخرج معهم أبو عامر الراهب في 70 فارسا . وسماه رسول الله الفاسق بدلا عن الراهب وابنه حنظلة من فضلاء الصحابة وهو من المستشهدين بأحد

وصلت قريش ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة . وتشاور المسلمون في الخروج من المدينة . وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول رأى النبي فإنه كان يرى عدم الخروج منها . لكن ألح عليه صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة فخرج . ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود مع عبد الله بن أبي يريدون الخروج . فقال وقد اسلموا ؟ قالوا لا يا رسول الله . قال مروهم فليرجعوا فإنا لانستعين بالمشركين على المشركين والنتيجة ان انقسم أصحاب رسول الله فريقين . فكان مجموع الذين خرجوا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 700 منهم 100 دارع ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين وذلك بعد أن انخذل عنه عبد الله بن أبي ثلث الناس ( فالتجنيد لذلك لم يكن اجباريا )

وكانت فكرة عدم الخروج من المدينة لمقاتلة قريش هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " امكثوا بالمدينة فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت وفي رواية فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حين نزلوا فإن أقاموا بشر مقام . وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها "

أما الذين رأوا الخروج فهم رجال من المسلمين لم يحضروا بدرا وأسفوا على ما فاتهم من مشهدها فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتمنى هذا اليوم اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون انا جبنا عنهم فلما سمع ابن أبي هذا الرأي قال يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط الا أصاب منا ولا دخلها عليها الا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا ومن الذي رأوا الخروج حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار أما النبي وإن كان رأى عدم الخروج الا أنه كان مترددا ولم يكن قد أوحى إليه لكنه مال أخيرا إلى موافقة من رأى الخروج من أصحابه فصلى بالناس الجمعة ثم وعظهم وحثهم على القتال والصبر وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى بالناس العصر ودخل بيته ومعه صاحباه فعمماه والبساه وتقلد السيف وخرج وقد لبس لأمته ( 2 )

اصطف الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم . فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه . وكان سعد بن معاذ سيد الأوس وهو في الأنصار كالصديق في المهاجرين

خرج رسول الله بعد أن لبس لأمته فندم الطالبون لخروجه على ما صنعوا وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت . فقال ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وعقد لواء للأوس وجعله بيد أسيد بن حضير ولواء للخزرج وجعله بيد الحباب بن المنذر ولواء للمهاجرين وجعله بيد علي بن أبي طالب . وخرج امام رسول الله السعدان يعدوان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة

اصطف المسلمون بأصل أحد والجبل وراء ظهورهم واصطف المشركون بالسنجة وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية واستقبل الزبير بن العوام خالد بن الوليد وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي البدري المستشهد يوم أحد . وكان الرماة خمسين رجلا فأقامهم النبي صلى الله عليه وسلم على جبل وقال لهم احموا ظهورنا حتى لا يأتونا من خلفنا وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة الأنصاري سيفا يحارب به ففلق بالسيف هام المشركين وكان إذا كل شحذه بالحجارة . وقتل علي رضي الله عنه صاحب لواء المشركين وهو طلحة بن أبي طلحة ثم حمل اللواء بعده أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة رضي الله عنه فقطع يديه وكتفه فأخذه أبو سعيد ابن أبي طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص رميا فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح ثم حمله أخو مسافع وهو الحارث بن طلحة فرماه عاصم أيضا فقتله فحمل اللواء كلاب بن طلحة فقتله الزبير رضي الله عنه فحمله جلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطاة بن شرحبيل فقتله علي رضي الله عنه ثم حمل أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف قزمان ولد لشرحبيل فقتله قزمان أيضا ثم حمله صواب غلامهم وكان عبدا حبشيا فقتله علي رضي الله عنه ثم لم يزل اللواء طريحا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فاستداروا حوله وقد كان علم المشركين شؤما عليهم فكلما حمله أحد قتل وهكذا إلى أن قتل عشر رجلا حملوا هذا العلم بالتوالي وقد كان اهتمام المسلمين موجها إلى حامل العلم بنوع خاص بأنه كبش الكتيبة ونكب بحمل العلم كل من مسافع والحارث وكلاب وجلاس الأربع أولاد طلحة بن أبي طلحة فكلهم قتلوا كأبيهم وعميهم عثمان وأبي سعيد . ثم جاش المسلمون فيهم ضربا حتى اجهضوهم وأزالوهم أمكنتهم ثم أنزل الله نصره على المسلمين فصاروا يقتلون الكفار قتلا فانهزموا وولوا هاربين وتبعهم المسلمون ووقعوا ينتهبون المعسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم واشتغلوا عن الحرب

_________

( 1 ) سموا أحابيش باسم جبل بأسفل مكة يقال له حبيش

( 2 ) هي بالهمز وعدمه : الدرع وقيل السلاح

 

 

الكرة على المسلمين

 

 

- انهزم المشركون فطمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمر النبي بالبقاء فيه مع أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم " انا لاننزال غالبين ما ثبتم مكانكم " " اللهم أني أشهدك عليهم " وفي رواية قال لهم " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم وهم قتلى فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " وليس بعد هذا تنبيه ولا تشديد من القائد العام وقد حذرهم أميرهم عبد الله بن جبير وقال لهم أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأبوا أن يطيعوه وقالوا والله لتأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا هنا ؟

ولما رأى خالد بن الوليد خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله أتى من خلف المسلمين وكر عليهم بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فوقع الاختلاط فيهم فضعفت عزائمهم مما زاد ارتباكهم أن رجلا اسمه قميئة الليثي قتل مصعب بن عمير وأذاع أنه قتل محمدا فانكشف المسلمون وقتل الذين ثبتوا في مكانهم من الرماة وهم دون العشرة وقتل أميرهم عبد الله بن جبير وكان عدة الشهداء من المسلمين 70 رجلا وعدة القتلى من المشركين 23 رجلا وكان بين القتلى حنظلة بن أبي سفيان ووصل العدو إلى رسول الله وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكان الذي أصاب رسول الله عتبة بن أبي وقاص والدم يسيل على وجهه وهو يقول :

كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم

فنزل في ذلك قوله تعالى { يس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }

ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجه رسول الله فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين . ولما كسرت رباعيته وشج وجهه شق ذلك على أصحابه وقالوا لودعوت عليهم فقال إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون

وثبت النبي وقت رجوع المسلمين ولم ينصرف عن موضعه وصار يرمي بالنبل ومعه أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين ( 1 ) وسبعة من الأنصار ( 2 ) وأقبل أبي بن خلف يريد قتله عليه السلام فتناول النبي حربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فاحتقن الدم وكان ذلك سبب موته وهو عائد إلى مكة وهو الرجل الوحيد الذي قتل بيده عليه الصلاة والسلام

ثم التمس رسول الله عمه حمزة فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه ثم أتى بالقتلى وأمر بدفنهم واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال " ادفنوهم حيث صرعوا

وقد قاتل حمزة في ذلك اليوم قتالا شديدا وكان يقاتل بسيفين وآخر قتيل قتله رضي الله عنه سباع بن عبد العزى الخزاعي فلما أكب عليه ليأخذ درعه قتله وحشي غلام جبير بن مطعم ثم أسلم بعد ذلك

 

 

المثلة بحمزة

 

 

- قال ابن اسحاق : ووقعت هند بنت عتبة كما حدثني صالح بن كيسان والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد عن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلايد وأعطت خدمها وقلايدها وقرطتها وحشيا غلام جبير بن مطعم وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها . وهند هذه هي زوج أبي سفيان وأم ابنه معاوية وقد أسلمت في فتح مكة بعد زوجها كما سيأتي

لقد ساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه من التمثيل بحمزة فقال : لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم . ولما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا والله لئن أظفرنا الله بهم يوما في الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب . فالمثلة كانت تقترفها العرب في الجاهلية انتقاما من أعدائهم إذا بلغ منهم الغيظ مبلغه لكن الإسلام حرمها لشناعتها فعن ابن عباس إن الله عز وجل أنزل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه { وإن عاقبتم فعاقبوا بمل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا ولاتحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون } فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن المثلة . وقال أصبر وأحتسب . هذا نهى عنه الدين الإسلامي الحنيف لكنا نرى بعض جيوش الدول المتمدنة تقترف المثلة بأعدائها وهم يزعمون أن الدين الإسلامي دين همجية ووحشية . وقد مثل يوم أحد بعبد الله بن جحش وكان الذي قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي . وكان عمره حين قتل نيفا وأربعين سنة ودفن هو وخاله حمزة في قبر واحد

_________

( 1 ) وهم أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد وطلحة والزبير وأبو عبيدة

( 2 ) وهم أبو دجانة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير

 

 

إحدى معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة ومن هذه المعجزات المعجزة الآتية :

أصيبت عين قتادة بن النعمان من بني ظفر وهي على وجنته فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحت وكانت أحسن عينيه ( 1 ) . وقال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمر ابن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى سيتها فأخذها قتادة بن النعمان . فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته

قال ابن اسحاق فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما

_________

( 1 ) راجع الطبري

 

 

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

 

 

- سعد بن أبي وقاص هو أبو اسحاق بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري المكي المدني الصحابي أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة وهو قديم الإسلام . أسلم وعمره 17 سنة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الجهاد وكان من المهاجرين الأولين وشهد مع النبي بدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد وكان يقال له فارس الإسلام وأبلى في يوم أحد بلاء شديدا . قيل رمى فيه بألف سهم

جاء صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رايتهما قبل ولا بعد "

وعنه رضي الله عنه قال : نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد فقال " ارم فداك أبي وأمي " وعن علي رضي الله عنه قال ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فداك أبي وأمي إلا لسعد رضي الله عنه " يعني يوم أحد . فلا ينافي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للزبير يوم الخندق وكان صلى الله عليه وسلم يفتخر بعد ويقول هذا سعدا رضي الله عنه كان من بني زهرة وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم وكان رضي الله عنه إذا غاب يقول النبي صلى الله عليه وسلم ما لي لا أرى الصبيح المليح الفصيح

 

 

المنهزمون من المسلمين

 

 

- رجع المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون بسبب ما وقع بينهم من الإختلاط واستمروا إلى قرب المدينة وتفرق سائرهم

قال الحافظ بن حجر أنهم صاروا ثلاث فرق :

- 1 - فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة فما رجعوا حتى انفض القتال وهم قليل وهم الذين نزل فيهم { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم }

- 2 - وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل فصارت غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل وهم أكثر الصحابة

- 3 - وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم حي

 

 

شجاعة امرأة وثباتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

 

- لما انكشف المسلمون وأختلط أمرهم ثبتت أم عمارة مع رسول الله وأصحابه الشجعان الذين ثبت الله أقدامهم وهذه مفخرة خالدة . قال ابن هشام وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعبا لمازنية يوم أحد فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد ينت سعد بن الربيع كانت تقول دخلت على أم عمارة فقلت لها يا خالة أخبريني خبرك فقالت خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا قالت ابن قميئة أقمأه لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات ولكنن عدو الله كانت عليه درعان

وفي أسد الغابة أن أم عمارة شهدت بيعة العقبة وشهدت أحدا مع زوجها زيد ابن عاصم ومع أبنيها حبيب وعبد الله في قول ابن اسحاق وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة فقاتلت حتى أصيبت يدها وجرحت يومئذ اثنتي عشرة جراحة . روى عنها عكرمة مولى ابن عباس أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى كل شيء إلا للرجال ما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات }

 

 

أسباب انهزام المسلمين في موقعة أحد

 

 

- كان أبو سفيان بن حرب هو الذي قاد قريشا كلها يوم أحد ولم يكن بأعلم من رسول الله بقادة الجيش وتنظيمه . لكن أبا سفيان استطاع أن سجند عددا كبيرا من قريش فكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس . أما مجموع الذين خرجوا للقتال مع رسول الله 700 منهم 100 دارع ولم يكن فيهم سوى فرسين لأن عبد الله بن أبي انخذل عن رسول الله بثلث الناس وعاد بهم إلى المدينة

ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صف المسلمين بأصل أحد وجعل الرماة على جبل صغير وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم قائلا لهم " احموا ظهورنا حتى لا يأتونا من خلفنا " طمعوا في الغنيمة وهبطوا تاركين مركزعم . وبذلك تمكن خالد بن الوليد من الكر على المسلمين بالخيل من الخلف فانكشفوا ووقع الإختلاط بينهم وذاع في الجيش أن محمدا قتل فازداد ارتباك المسلمين وفروا منهزمين وفر بعضهم إلى المدينة

نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزحزح عن مركزه وشاهد بعض الصحابة فالتفوا حوله وثبتوا معه وقاتلوا قتالا شديدا حتى أن سعد بن أبي وقاص وحده رمى يومئذ بألف سهم ورمى رسول الله عن قوسه حتى اندقت سيتها واستطاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يهبط الطائفة التي علت الجبل من قريش لكن هذا كله كان بعد أن وقعت الهزيمة بالمسلمين

 

 

نداء أبي سفيان

 

 

- أشرف أبو سفيان على القوم بعد الموقعة فقال أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتجيبوه مرتين ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه ثم قال أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه . ثم الفتف إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا لو كانوا في الأحياء لأجابوا فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال كذبت يا عدو الله فقد أبقى الله لك ما يخزيك . فقال اعل هبل . اعل هبل . وقيل أنه صرخ بأعلى صوته وقال أنعمت فعال الحرب سجال يوم أحد بيوم بدر اعل هبل . وسبب ذلك أنه حين أراد الخروج كتب على سهم " نعم " وعلى الآخر " لا " وأجالهما عند هبل فخرج بهم " نعم " فتوجه إلى أحد فقال اعل هبل أي زذ علوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبوه فقالوا ما تقول ؟ قال قولوا : الله أعلى وأجل . قال أبو سفيان : إلا لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله أجيبوه . قالوا ما نقول ؟ قال قولوا : " الله مولانا ولا مولى لكم "

ولما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان . هلم يا عمر فقال رسول الله ائته فانظر ما شأنه فجاءه فقال له أبو سفيان أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا فقال عمر " اللهم لا وأنه ليسمع كلامك الآن " فقال أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر لقول ابن قميئة له أني قتلت محمدا

ثم نادى أبو سفيان أنه قد كان في قتلاكم مثل والله ما رضيت ولا سخطت وما نهيت وما أمرت

وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش قد مر بأبي سفيان بن حرب وهو يضرب بشدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول ذق عقق . فقال الحليس يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما . فقال ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى أن موعدكم بدر للعام القابل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه . قل نعم هو بيننا وبينك موعد . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب . فقال : اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون وما يريدون . فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة . وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة . والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم . قال علي فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة . من هذا يتضح أن أبا سفيان قد خشي عاقبة ما فعله من ضرب شدق حمزة . فقال للحليس اكتمها عنهي فإنها زلة وبرأ نفسه في ندائه قائلا والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت . أما نداؤه " إن موعدكم بدر للعام القابل " فخطأ منه لأن هذا الإنذار يعطي للمسلمين مهلة للاستعداد لمحاربته والتغلب عليه ومع أن جيش مكة تغلبوا على المسلمين في هذه الموقعة فإنهم اكتفوا بذلك ولم يجنوا ثمار انتصارهم فلم يحاولوا الهجوم على المدينة بل قفلوا راجعين إلى مكة . والظاهرأن أبا سفيان تخوف اقتفاء أثر المسلمين إلى المدينة إذ قد تصلهم نجدة منها

 

 

استشهاد سعد بن الربيع الأنصاري

 

 

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع . أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأسنة قد أشرعت إليه

فقال رجل من الأنصار هو أبي بن كعب رضي الله عنه . أنا أنظر إليك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبع رمق وقد طعن اثنتي عشرة طعنة فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات . قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللع عنا خير ما جزى نبيا عن أمته . وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم أن سعد بن الربيع يقول لكم أنه لا عذر لكم عند اله أن يخلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم ( 1 ) وفيكم عين تطرف . قال ثم لم أبرح أن مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه الله نصح لله والرسول حيا وميتا

كان سعد بن الربيع كاتبا في الجاهلية ومن النقباء يوم العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أحد

إن سؤال رسول الله عن سعد بن الربيع في مثل هذا المأزق الحرج هو من شدة عطفه ومحبته لأصحابه وهذا خلق عظيم فقد كان يسأل عنهم في الحرب وفي السلم ويهتم بشؤونهم وكانوا يحبونه حبا شديدا يفوق كل حب ويدافعون عنه إلى آخر رمق من حياتهم ويخشون أن يصل إليه أي أذى وأن نصيحة سعد بن الربيع لقومه بالمحافظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ النفس الأخير من أبلغ الأدلة على فرط محبة أصحابه صلى الله عليه وسلم له ولسمو مكانته في نفوسهم وقد كان قتادة بن النعمان يتقي السهام بوجهه دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقته فأخذها بيده وسعى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها صلى الله عليه وسلم وكانت أحسن عينيه فانظر كيف بلغت محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

_________

( 1 ) أي يصل إليه شيء من الأذى

 

 

قتل مخيريق

 

 

- قال بن اسحاق وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق وكان أحد بني ثعلبة بن الفيطون . قال لما كان يوم أحد قال يا معشر يهود والله بقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق . قالوا إن اليوم يوم السبت . قال لا سبت لكم فأخذ سيفه وعدته وقال إن أصبت فما لي لمحمد يصنع فيه ما شاء ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " مخيرق خير يهود "

وكان مخيريق حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في علمه . وخالف قومه اليهود واشترك في موقعة أحد التي لم يشترك فيها أحد من اليهود غيره . فلما قتل قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله وتصدق بها

 

 

انتحار قزمان

 

 

- قال ابن اسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : قال كان فينا رجل أتي لا يدرى من أين هو يقال له قزمان

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له أنه لمن أهل النار . فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا باس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر . فجعل رجال من المسلمين يقولون له والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر . قال بماذا أبشر فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت . فلما اشتدت عليه جراحه أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فماتفأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أشهد أي رسول الله حقا "

 

 

دفن قتلى أحد

 

 

- كثرت القتلى في يوم أحد فكان الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنون في القبر الواحد . أمر النبي صلى الله عليه وسلم بد

بدفن شهداء أحد لم يصل على أحد منهم ولم يغسسلهم وحمل أناس موتاهم ليدفنوهم بالمدينة فجاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ردوا القتلى إلى مضاجعهم فأدرك المنادي واحدا وهو شماس بن عثمان المخزومي فإنه قتل وحمل إلى المدينة وبه رمق فقال رسول الله احملوه إلى أم سلمة فحمل إليها فمات عندها فأمر رسول الله أن يرد إلى أ د فيدفن هناك ولم يكن قد دفن بالمدينة أما من دفن فأبقوه

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام فإنهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد

 

 

رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

 

 

- لما أراد رسول الله الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وخرج والمسلمون حوله وعامهم جرحى ومعه أربع عشر امرأة كن بأصل أحد وقال اصطفوا حتى اثني على ربي عز وجل ( فكان عليه الصلاة والسلام يحب النظام ) فاصطف الرجال خلفه صفوفا وخلفهم النساء فقال :

اللهم لك الحمد كله لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولاهادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولامانع لما أعطيت ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت

الحديث ثم عاد إلى المدينة يهدئ روع نساء القتلى ويدعو لهن وقد نهاهن عن اللطم وحلق الرؤوس وتخميش الوجوه وشق الجيوب

 

 

ذكر عزوة أحد في القرآن

 

 

- أنزل الله تعالى من القرآن في غزوة أحد ستين آية في سورة آل عمران

قال تعالى :

{ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فلتتوكل المؤمنون }

زعم اكثر العلماء بالمغازي أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد . وقد كان المسلمون يومئذ كثيرين فلما انشقوا وخالفوا أمر الرسول انهزموا

{ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } : أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر لأن المسلمين كانوا في غاية الضعف والكفار في غاية القوة . ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا خصومهم . ثم قال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } إن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين . وقد قالوا إن الملائكة حاربوا يوم بدر ويم يقاتلو في سائر الأيام وهذا المدد من المعجزات { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ألاف من الملائكة مسومين }

فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطا بثلاثة أمور : الصبر والتقوى ومجئ الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما الصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أويكبتهم فينقلبوا خائبن } والمراد بالكبت الأخزاء والأهلاك والهزيمة والغيظ والاذلال . فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت

{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } نزلت هذه الآية في قصة أحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شجه عتبة بن أبي وقاص وكسر رباعيته جعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم " فنزلت هذه الآية . وقيل أنه لعن أقواما فنزلت هذه الآية

إلى أن قال تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلتء من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين }

لما وقع الصراخ بأن محمدا قتل كما تقدم ذكره في غزوة أحد . قال بعضهم لو كان نبيا لما قتل . ارجعوا إلى أخوانكم وإلى دينكم . فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك " ياقوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت . وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه . ثم قال : " اللهم أني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء " ثم سل سيفه فقاتل حتى قتلز ولما شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم . ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينادي ويقول " إلي عباد الله " حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم . فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين

وقد ذكر الله تعالى الحكمة في ما أصاب المؤمنين بمخالفتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وعرفهم سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب المخالفة بما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا عنه بقوله تعالى :

{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتمء وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون . منكم من يريد الدنيا . ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }

 

 

غزوة حمراء الأسد

 

 

- حمراء الأسد موضع على ثماينة أميال من المدينة . وكانت الغزوة صبيحة أحد . إذ وقعة أحد يوم السبت والغزوة المذكورة يوم الأحد لست عشرة مضت من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة . وكانت لطلب العدو الذي كانوا بالأمس

قال الواقدي باتت وجوه الأنصار على بابه صلى الله عليه وسلم فلما طلع الفجر وأذن بلال بالصلاة جاء عبد الله بن عمرو المزني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقبل من عند أهله بملل اسم موضع قرب المدينة إذا قريش قد نزلوا فسمعهم يقولون ما صنعتم شيئا . أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم . قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول لا تفعلوا فإن القوم قد غضبوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج . فارجعوا والدولة لكم فأني لا آمن ان رجعتم أن تكون الدولة عليكم . فقال صلى الله عليه وسلم وأرشدهم صفوان وما كان برشيد . والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كالأمس الذاهب

ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ندب الناس وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج أي أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا من خرج معنا أمس يعني من شهد أحدا وأراد بذلك اظهار الشدة بالعدو والزيادة في تعظيم من شهد أحدا ومنع بذلك اختلاط المنافقين . لم يشه هذه الغزوة الا من شهد أحدا عدا جابر بن عبد الله فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي خلفني يوم أحد على أخوات لي سبع فلم أشهد الحرب فأذن لي أن أسير معك فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد فبصروا بالرجلين فقتلوهما . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج حتى عسكر بحمراء الأسد فوجد الرجلين فدفنهما . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجروحا وفي وجهه أثر الحلقتين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلحة : يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله علينا مكة . وقال لعمر بن لخطاب رضي الله عنه : يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد الأثنين والثلاثاء والأربعاء . وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله بذلك عدوهم

وكان اللواء بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أم مكتوم

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله قذف في قبل أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أحد فرجع إلى مكة

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ووصلوا المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمساص وظفر صلى الله عليه وسلم عند رجوعه إلى المدينة بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهو جد عبد الملك بن مروان فأمر بقتله

قال الطبري : " وفيها أي في السنة الثالثة من الهجرة علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما . وقيل لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين الا خمسون ليلة ( وفيها ) حملت فيما قيل جميلة بنت عبد الله بن أبي بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال "

 

 

بعث الرجيع

 

 

- الرجيع ماء لهذيل . وقال ابن اسحاق والواقدي . الرجيع ماء لهذيل قرب الهدأة بين مكة والطائف

وإنما أضيف البعث إلى اسم ذلك الماء لأن الوقعة كانت بالقرب منه وبعث الرجيع هي سرية عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه . وكان بعثه في صفر من السنة الرابعة ( مايو سنة 625 م )

وسبب هذا أن بني لحيان من هذيل مشوا إلى عضل والقارة وهما قبيلتان من بني الهون بن خزيمة بن مدركة فجعلوا لهم ابلا على أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليهم نفرا من أصحابه فقدم سبعة نفر مظهرين فقالوا يا رسول الله إن فينا اسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام . وقيل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش . فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يقفههم بعث معهم ستة من أصحابه للامرين جميعا . وهذه البعثة مؤلفة من : عاصم بن ثابت . ومرثد بن ابي مرثد الغنوى . وخبيب بن عدي الأوسي البدري . وزيد بن الدثنة . وعبد الله بن طارق . وخالد بن البكير

خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا ليعينوهم على قتلهم فلم يرع القوم وهم في رحالهم الا الرجال بأيديهم السيوف فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم . فقالوا انا والله لا نريد قتلكم ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم . وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش ويأخذوا في مقابلتهم مالا لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يمثلون به ويقتلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر وأحد فأبوا أن يقبلوا منهم . فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا واللذه لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا

وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران . وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر ابن نوفل وكان حجير أخى الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه . وأما زيد ابن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف وكان شراؤهما في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم فقتلوا زيدا وأما خبيب فكذلك مكث أسيرا حتى خرجت الأشهر الحرم ثم أجمعوا على قتله تكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه فقال لهم ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة حجير وقد قالت ماوية كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه . فقلت له هل لك من حاجة قال لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعمني ما ذبح على النصب وتجيريني إذا أرادوا قتلي . فلما أرادوا ذلك أخبرته فوالله ما أكترث بذلك ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال ذروني أصل ركعتين فتركوه فصلى سجدتين فجرت سنة لمن قتل صبرا أن يصلي ركعتين ثم قال خبيب لولا أن يقولوا جزع لزدت وما أبالي على أن شقي كان لله مصرعي ثم قال

وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع

اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب وهو مصلوب نادوه وناشدوه أتحب أن محمدا مكانك ؟ قال لا والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه . وقيل أن زيد بن الدثنة قالوا له أيضا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك فقال أبو سفيان رضي الله عنه : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا وقد قتل زيدا نسطاس

وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر فمنعته الذبر ( الزنانير ) فلما حالت بينهم وبينه قالوا دعوة حتى بمسى فتذهب عنه فتأخذه فبعث الله سيلا فاحتمل عاصم وكان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه كشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه

فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته " عجبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته ما امتنع منه في حياته "

ولما قتل من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عضل والقارة من أهل الرجيع وبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري عالما بمكة جريئاز فلما وصلا مكة طافا بالبيت أسبوعا فعرف عمرا رجل منهم فصاح بأعلى صوته هذا عمرو بن أمية ففر هو وصاحبه إلى المدينة ناجيين

 

 

سرية بئر معونة ( 1 )

 

 

- وتسمى هذه السرية سرية المنذر بن عمرو الخزرجي وتسمى أيضا بسرية القراء كانت هذه السرية في شهر صفر في السنة الرابعة من الهجرة ( مايو سنة 625 م ) على رأس أربعة اشهر من أحد . وكان من أمرها كما قاله ابن اسحاق عن شيوخه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري ويعرف بملاعب الأسنة فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال له : يا محمد إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا وقومي خلفي فلو أنك بعثت معي نفرا من أصحابك لرجوت أن يتبعوا أمرك فإنهم إن اتبعوك فما أعز أمرك فقال إني أخشى أهل نجد عليهم فقال أنا لهم جار فبعث صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو ومعه القراء وهم سبعون . فلما وصلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم خال أنس بن مالك رضي الله عنه بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي العامري وهو ابن أخي أبي براء فلم ينظر في الكتاب بل وثب على حرام فقتله واستصرخ بني عامر قومه فأبوا وقالوا لا يخفر جوار أبي براء ( 2 ) فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلا فأحاطوا بهم فكاثروهم فتقاتلوا فقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر اهل بئر معونة فقال هذا سببه عمل أبي براء حيث أخذهم في جواره . قد كنت لهذا كارها متخوفا . فبلغ ذلك أبا البراء فمات عقب ذلك أسفا على ما صنع ابن أخيه عامر بن الطفيل ومات عامر بن الطفيل

قال حسان بن ثابت يرثي قتلى معونة :

على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحا غير نزر

على خيل الرسول غداة لاقوا ... ولاقتهم مناياهم بقدر

ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة لكونه لم يرسلهم لقتال إنما هم مبلغون رسالته وقد جرت عادة العرب قديما بأن الرسل لا تقتل

قال العلامة الزرقاني . وإنما لم يخبره سبحانه وتعالى بما ترتيب على ذهاب القراء وأهل الرجيع قبل خروجعم كما أخبره بنظير ذلك من الأشياء لأنه سبق في علمه تعالى اكرامهم بالشهادة وأراد حصول ذلك بمجيء أبي براء ومن طلب أصحاب الرجيع

وكان مع هذه السرية عمرو بن أمية الضمري وقد قتلوا جميعا غيره وقد كان أسيرا في أيديهم فقال لع عامر بن الطفيل قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها وجز ناصيته ( 3 ) فأعتقه عن رقية زعم أنها كانت على أمه . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبي من بينهم وكان عمرو لما خرج إلى المدينة صادف بمحل يسمى القرقرة رجلين من بني عامر ثم من بني كلاب فنزلا معه في ظل كان هو فيه وكان معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو فقال لهما عمرو ومن أنتما فذكرا له أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما وظن أنه ظفر بثناء بعض أصحابه الذين قتلوا ببئر معونة وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال بئس ما صنعت قد كان لهما مني أمان وجوار لأدينهما فبعث بديتهما إلى قومهما

ومن جملة القراء الذين قتلوا ببئر معونة عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه وهو الذي عذب في الله فاشتراه أبو بكر فاعتقه واستشهد في هذه الموقعة وهو ابن أربعين سنة

_________

( 1 ) بئر معونة اسم لموضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان وفي معجم البلدان أنها بين أرض عامر وحرة بني سليم

( 2 ) أي لن ننقض عهده

( 3 ) أي الشعر المجاور لها

 

 

غزوة بني النضير

 

 

- النضير اسم قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريضة نازلين بظاهر المدينة في حدائق وآطام لهم ( 1 )

قال غير واحد من أهل السير لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير بطحان ونزل بنو قريظة مهزورا وهما واديان يهبطان من حرة هناك تنصب منها مياه عذبة فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام وأقاموا بها ( 2 ) وكان بينهم وبين المدينة نحو ميلين أو ثلاثة وكانوا يمتلكون نخيلا بجوار المدينة

كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة ( يونية سنة 625 م )

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار . ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دية الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري . فقالوا نفعل يا أبا القاسم ما أحببت . وخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر به . وقال عمر بن جحاش بن كعب بن بسيل النضرى أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة . فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به وأنه لقض للعهد الذي بيننا وبينه وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما هموا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه

ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحمد بن مسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه . فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهر لهم بذي الجدر وتكاروا من ناس من أشجع ابلا فأرسل إليهم ابن أبي لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصنكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون عن آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيى فيما قال ابن أبي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لانخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك . فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمون لتكبيره . وقال حاربت يهود . فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعلي رضي الله عنه يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أبي مكتوم . فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا على حصونهم ومعهم النبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم يعنهم وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فأيسوا من نصرهم . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم . فقالوا نخرج عن بلادك فقال لا أقبله اليوم . ثم قال لهم اخرجوا منها ولكم دماؤكم وماحملت الإبل الا الحلقة ( 3 ) فرضوا بذلك نزلوا عليه . وكان حصارهم خمسة عشر يوما

احتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرحل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام . فكان من سار من أشرافهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيى بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها

لما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل

لكن الدكتور اسرائيل ولفنسون يقول في رسالته : ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) " إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب بل أن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة ويه أن كل يهودي يعلق على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني اسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان باله واحد ولا يبدلوه ولو عذبوا وقتلوا فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا . قال ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضعون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفا من اتلاف الهواء أو مس الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها "

وانا نسلم إن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى أخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال وعبارة ابن اسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه ويضعه على ظهر بعيره فينطلق . والنجاف الذي يقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسكفة . وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العمد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا

قال ابن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم وأن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه

وكانت إحدى نساء بني غفار بزهاء وفخر ما رؤى مثله من حي من الناس في زمانهم

وقد حملوا أمتعتهم على ستمائة بعير وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا لكونهم أخزانهم وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح . ووجد خمسين درعا وخمسين بيضة وهي الخوذة وثلاثمائة وأربعين سيفا . فكان أموال بن النضير مختارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان ينفق منها على أهله ويدخر قوت سنة من الشعير والتمر لأزواحه وبني عبد المطلب وما فضل جعله في السلاح والكراع ( 4 ) هذا ما ذهب إليه الامام أبو حنيفة رضي الله عنه

وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين فيرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار وهذا يتفق مع ما رواه ابن اسحاق فإن قال : وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولم يسلم من بني النضير إلى رجلان : يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها

وقتل في هذه الغزوة عزوك . وكان شجاعا راميا من بني النضير قتله علي رضي الله عنه . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة ليدركوا الذين فروا من علي رضي الله عنه فقتلوهم وطرحوا رءوسهم في بعض الآبار

قال ابن اسحاق ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم . وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال قلت لأبن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر قل سورة النضير

( ملحوظة ) لم أعثر في المراجع التي اطلعت عليها على عدد بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة

_________

( 1 ) آطام : حصون مفردها أطم

( 2 ) راجع معجم البلدان

( 3 ) وهي الدروع والسلاح

( 4 ) الخيل

 

 

تحرم الخمر . ( الاصلاح الأجتماعي العظيم )

 

 

- قال جماعة من الصحابة يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قول تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ { قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزل { يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من شربها . ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص . فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل { يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } : فقال عمر انتهينا يا رب

والحكمة في تحريم الخمر تدريجيا على هذا الترتيب أن القوم كانوا ألفوا شربها وكان أنتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم . روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما . قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة . قال الخطابي وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمس ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلى من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان . روى أبو داود عن جابر ابن عبد الله . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقال عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " . ونهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر والمفتر كل شراب يورث الفتور والتحذير في الأعضاء

وقد حرمت الخمر في السنة الرابعة من الهجرة أثناء غزوة بني النضير

 

 

غزوة ذات الرقاع

 

 

- اختلف في سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع . قيل هي اسم شجرة في موقع الغزوة سميت بها . وقيل لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفوا عليها الخرق . وقيل بل سميت برقاع كانت في ألويتهم . وقيل ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة فكأنها رقاع في الجبل فسميت الغزوة بذلك الجبل والأصح أنه موضع لقول دعثور

حتى إذا كنا بذات الرقاع

وتسمى هذه الغزوة غزوة محارب وغزوة بني ثعلبة وغزوة بني أنمار وغزوة صلاة الخوف لوقوعها فيها

قال ابن اسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهيري ربيع وبعض شهر جمادى ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان نخل وهي ذات الرقاع فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ثم انصرف المسلمون

صلاة الخوف جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين

وسبب خروجه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة أنه بلغه أنهم جمعوا جموعا لمحاربته صلى الله عليه وسلم فأخبر أصحابه وأمرهم بالتجهز ثم خرج في أربعمائة من أصحابه وقيل أكثر من ذلك واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وقيل عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار إلى أن وصل إلى موضع يسمى وادي الشقرة وبث السرايا فرجعوا إليه من الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحدا فسار حتى نزل نخلا وهو موضع من نجد من أراضي غطفان فلم يجد في مجالسهم إلا نسوة فأخذهن فبلغ الخبر القوم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاءوا لمحاربة جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخاف

[ نقص ؟ ؟ ]

الناس بعضهم بعضا ولم يكن بينه وبين القوم حرب

وفي هذه الغزوة وقعت قصة الرجل الذي اخترط سيفه صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة واسم الرجل دعثور وقد جاء في صحيح البخاري عن جابر عن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ( 1 ) فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة ( شجرة طلح ) فعلق بها سيفه قال جابر فنمنا نومة ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا مجردا فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت الله . فهاهو ذا جالس . ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

_________

( 1 ) الواحدة عضاهة . هو كل شجر ذي شوك أو ما عظم منه

 

 

غزوة بدر الأخيرة

 

 

- تسمى غزوة بدر الصغرى وبدر الموعد للمواعدة عليها مع أبي سفيان يوم أحد وتسمى بدر الثالثة . وتسمى أيضا غزوة السويق

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس وذلك في شهر شعبان لميعاد أبي سفيان . واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة الخزرجي رضي الله عنه . وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وخرج أبو سفيان في قريش وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل موضعا قريبا من مر الظهران ثم بدا له الرجوع فقال يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا فرجع ورجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق . يقولون إنما خرجتم تشربون السويق . هذه حيلة دبرها أبو سفيان لأنه لم يكن يريد حربا بل خرج لئلا يقال أخلف وعده ولم يخرج على أنه لم يعارضه أحد من قريش في الرجوع فكان الجيش كذلك لا يريد الحرب وكان أبو سفيان قد بعث إلى المدينة شخصا اسمه نعيم ليرجف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة العدو ليحملهم على عدم الخروج وذلك ليكون له في عذر في الرجوع إلى مكة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبال بما سمع من كثرة عدد الجيش وتثبيط همة الناس فقال والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي

وأقام صلى الله عليه وسلم ببدر ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وفي هذه المدة باع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا كثيرا

وفي سنة أربع هذه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أمية . وفيها أمر رسول الله زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود . وفي جمادى الأولى من هذه السنة توفى عبد الله بن عثمان بن عفان وكان عمره ست سنين وهو ابن بنت رسول الله رقية وفيها ولد الحسين رضي الله عنهما

 

 

غزوة دومة الجندل وهي أول غزوات الشام

 

 

- دومة الجندل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك

وكانت هذه الغزوة في ريع الأول سنة خمس ( يولية سنة 626 م ) واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري . وسببها أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم وأنهم يريدون الدنو من المدينة فخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ومعه دليل له من بني عذرة يقال له مذكور فاصابهم الرعب وتفرقوا ثم عاد إلى المدينة . قال ابن الأثير وغنم المسلمون إبلا وجدت لهم وقال ابن اسحاق ثم رجع رسول الله قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا فأقام بالمدينة بقية سنته

 

 

تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش

 

 

- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في شهر صفر من السنة الخامسة ( يونيه سنة 626 م ) وهي أخت عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قديمة في الإسلام . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة

كان زيد بن حارثة مولى خديجة وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهو ابن ثماني سنوات فأعتقه وتبناه . وكانوا يدعونه زيد ابن محمد . وقد زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمته " زينب بنت جحش " إلا أنه كان يشكوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تؤذيه وتتكبر عليه بسبب النسب وعدم الكفاءة فكان يقول له " أمسك عليك زوجك " : أي لا تطلقها . لكنه لم يطق معاشرتها وطلقها . وهذا طبيعي لأن الإنسان لا يستطيع معاشرة زوجة تتكبر عليه وترى نفسها ارقى منه . وبعد أن انقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبطال عادة التبني بفعله فإن الشرع يستفاد من فعله كما يستفاد من قوله . وذلك أن الله أراد نسخ تحريم زوجة المتبني . قال تعالى { ما كان محمد أبضا أحد من رجالكم } وقال { ادعوهثم لآبائهم هو أقسط عند الله } فكان يدعى بعد ذلك زيد بن حارثة . وقال تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا }

وقد كان الله أوحى إلى رسوله أن زيدا سيطلق زوجته ويتزوجها بعده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الكتمان وقال لزيد " أمسك عليك زوجك " فعاتبه الله على ذلك حيث قال { وإذ تقول للذى أنعضم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } وهو عتاب على ترك الأولى وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يوفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله عنه . ولم يبادر النبي صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من تطليق زيد لزينب مخافة طعن الأعداء والمنافقين فعوتب عليه . وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول ويجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله

وكانت زينب بنت جحش تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول زوجني الله من السماء . وأولم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبز ولحم . وكانت امرأة صالحة صوامة قوامة كثيرة الخير تعمل بيدها وتتصدق به . وكان اسمها برة فسماها رسول الله زينب وهي وقتئذ بنت خمس وثلاثين سنة . وبسبب زينب نزل الحجاب

توفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين سنة وهي أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا بعده . أرسل إليها عمر بن الخطاب أثني عشر درهم كما فرض لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتها وفرقتها في ذوي قرابتها وأيتامها ثم قالت : " اللهم لا يدركني عطاء لعمر بن الخطاب بعد هذا " فماتت وصلى عليها عمر بن الخطاب ودخل قبرها أسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش . وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش . قيل هي أول امرأة صنع لها النعش ودفنت بالبقيع فيما بين دار عقيل ودار ابن الحنفية

 

 

غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق

 

 

- المريسيع ماء لبني خزاعة وتسمى هذه الغزوة غزوة بني المصطلق وهم بطن من خزاعة وكانت في شعبان سنة خمس من الهجرة ( ديسمبر سنة 626 م ) وسببها أن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي كان قد جمع الجموع لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه كثير من المنافقين وكان معه ثلاثون من الخيل عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار واستعمل على المدينة زيد بن حارثة مولاه وقيل أبا ذر الغفاري . وخرجت معه عائشة وأم سلمة رضي اللع عنهما وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاسوسا للمشركين وبلغ عليه السلام المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل وصف أصحابه للقتال ودفع راية المهاجرين لأبي بكر رضي الله عنه والأنصار لسعد بن عبادة وحمل المسلمون على المشركين فقتلوا عشرة وأسروا باقيهم وكانوا أكثر من سبعمائة وسبوا الرجال والنساء والذرية وساقوا النعم والشاء ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو هشام بن صبابة وقد قتل خطأ أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو

وكانت من جملة السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق . وعن عائشة قالت لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها . قالت عائشة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وقلت يرى منها ما قد رايت فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك وقد كاتبت على نفسي فأعني على متابتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك فقالت نعم . ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق بها مائة من أهل بيت المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها . ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبها وقسم لها . وكانت حين تزوجها رسول الله بنت عشرين سنة وتوفيت سنة خمسين وهي بنت خمس وستين سنة وبسبب زواجها هدى الله أكثر بني المصطلق إلى الإسلام ثم أسلم الحارث ومن هنا تظهر حكمة رسول الله في زواجها

 

 

قتل هشام بن صبابة

 

 

- قلنا إن هشام بن صبابة قتل خطأ أصابه رجل من الأنصار فبينا الناس على ذلك الماء ( المريسيع ) وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقاله جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن فقال " أقد فعلوها قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ماعدونا وجلابيب قريش ما قال قائل . سمن كلبك يأكلك . أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل " ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا مافعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب . فقال يا رسول الله مر به عباد بن بشر وقش فليقتله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فكيف يا عمر إذا تحدث الناس إن محمدا يقتل أصحابه ؟ لا ولكن أذن بالرحيل ) وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به وكان عبد الله بن أبي في قومه شريفا عظيما فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه من الأنصار يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على عبد الله بن أبي ودفعا عنه فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه تحية النبوة وسلم عليه . ثم قال يا رسول الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال عبد الله بن أبي . قال وما قال ؟ قال زعم ؟ أنه ان رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل . قال أسيد فأنت والله يا رسول الله تخرجه ان شئت هو والله الذليل وأنت العزيز . ثم قال يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وان قومه لينظمون له الحرز ليتوجوه فإنه ليرى انك قد استلبته ملكا

ثم متن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن الا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما . وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي . ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له نقعاء فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن ثابت بن التابوت أحد بنى قينقاع وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين قد مات في ذلك اليوم ونزلت السورة التي ذكر الله فيه المنافقين في عبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان على مثل أمره فقال { إذا جاءك المنافقون }

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه ماكان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ماكان بها رجل أبر بوالده منى وأني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا

وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما فيما يظهر فقال يا رسول الله جئتك مسلما وجئت أطلب دية أخى قتل خطأ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة

 

 

آية التيمم

 

 

- نزلت آية التيمم في هذه الغزوة وذلك بسبب أن عائشة رضي الله عنها انقطع عقدها فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام الناس معه على التماسه حتى ابتعدوا عن الماء ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فكان ضياع العقد سببا في نزول هذه الآية . وقال أبو بكر لابنته بعد أن كان يعاتبها " والله يا بنتي إنك كما علمت مباركة " وآية التيمم مذكورة في سورة النساء والمائدة

 

 

عائشة وحديث الأفك

 

 

- كان حديث الأفك في غزوة بني المصطلق ولا خلاف في ذلك ولكن علماء السير اختلفوا هل قصة آية التيمم أسبق أو قصة الأفكز وخلاصة حديث الأفك ان عائشة رضي الله عنها بعد غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين آذنوا بالرحيل ابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها وبينما هي مقبلة إلى رحلها وجدت أن عقدها قد انقطع فعادت بتحث عنه فوجدته . لكنها لما رجعت وجدت أن الجيش قد رجل فجلست وغلبها النوم فنامت فرآها صفوان بن المعطل السلمي وكان وراء الجيش فاستيقظت باسترجاعه فأناخ راحلته وأركبها وانطلق حتى أتى الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول فأشاع عبد الله بن أبي في العسكر حديث الأفك وانتشر بعد دخولهم المدينة لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضت عائشة رضي الله عنها شهرا واستاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استياء شديدا ثم ذهبت عائشة إلى بيت أبيها . وقد علمت بحديث الناس . وقالت لأمها ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر أثر الا أكثرن عليها . فبكت بكاء شديدا مما يتحدث الناس . وكانت لا تنام الليل من شدة الحزن والبكاء

قلق رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد قلقه واستبطأ الحي فلم ير غير استشارة أصحابه فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله . فأما اسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله . وأما علي رضي الله عنه فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير . وسل الجارية التي كانت تخدم عائشة تصدقت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وسألها فأقسمت أنها لم تر عليها شيئا . وكانت عائشة رضي الله عنها ترجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئها الله بها . وما كانت تظن ان الله تعالى منزلة في شأنها وحيا . وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حيرة إذ نزل الوحي عليه ببراءة عائشة رضي الله عنها . قال تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } ( 1 )

وعصبة الافك حسان بن ثابت رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش . وعبد الله بن أبي المنافق . لما نزلت براءة عائشة جلدهم رسول الله ثمانين جلدة الا عبد الله فإنه لم يجلد . وفي ذلك قول عبد الله بن رواحة :

لقد ذاق حسان الذي هو أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطه ذي العرش الكريم فأبرحوا

قال السهيلي إن من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الزنا كان كافرا لأن ذلك تكذيب للنصوص القرآنية ومكذبها كافر

وقال عروة ما رأيت أحدا أعلم بفقة ولا بطب ولا بشعر من عائشة ولو لم يكن لعائشة من الفضائل الا قصة الأفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة

جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة فآذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ( 2 ) ظفار ( 3 ) قد انقطع فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يرحلون لي ( 4 ) فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهم اللحم ( 5 ) وإنما يأكلن العلقة من الطعام ( 6 ) فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت الموضع الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي . فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطئ يدها . فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد اللهبن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم كيف تيكم لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع ( 7 ) متبررنا ( 8 ) لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن تنخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشى فعثرت في مرطها ( 9 ) فقالت تعس مسطح فقلت لها بئسما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا . فقالت ياهنتاه ( 10 ) ألم تسمعي ما قالوا فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم . فقال كيف تيكم . فقلت ائذن لي إلى أبوي . قالت وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي . فقلت لأمي ما يتحدث الناس به ؟ فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ألا أكثرن عليها . فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب . وأسامة بن زيد حين اسبلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . أما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة أهلك يا رسول الله ولا نعلم الاخيرا . وأما علي فقال يا رسول الله لي يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة . فقال يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك ؟ فقالت بريرة لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منا أمرا أغمصه ( 11 ) عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على العجين فتأتي الداجن فتأكله . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي الاخيرا . وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الاخيرا . وما كان يدخل على أهلي الا معي . فقام سعيد بن معاذ فقال يا رسول الله انا والله أعذرك منه ان كان من الأوس ضربنا عنقة . وإن كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحائن ولكن احتملته الحمية فقال كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله على المنبر فخفضهم حتى سكتوا وسكت وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولاأكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي . وقد بكين ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . قالت فبينما هما جالسان وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها . وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء . قالت فتشهد ثم قال : يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال . قالت والله ما أدري ماأقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وأنا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيرا من القرآن . فقلت : والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني لبريئة لتصدقني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله . ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحي . فأخذه ماكان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان ( 12 ) من العرق في يوم شات فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة أحمدي الله فقد برأك فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد الا الله فأنزل الله عز وجل { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } الآيات . فلما أنزل الله عز وجل هذا في برائتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه والله لاأنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى } إلى قوله { والله غفور رحيم } فقال أبو بكر . بلى والله اني لا أحب أن يغفر الله لي . فرجع إلى مسطح الذي كان يجرى عليه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال يا زينب ما علمت ما رأيت ؟ فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري . والله ما علمت عليها إلا خيرا . قالت وهي التي كانت تساميني فعصمها اله بالورع اه

_________

( 1 ) سورة النور

( 2 ) هو خرز معروف في سواده بياض

( 3 ) مدينة باليمن

( 4 ) أي يضعون الرحل على بعيري

( 5 ) وفي رواية : والنساء يومئذ لم يهبلهن اللحم وهلبه اللحم تهبيلا إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا . يقال رجل مهبل

( 6 ) القليل من الطعام

( 7 ) موضع خارج المدينة

( 8 ) موضع قضاء حاجتنا

( 9 ) كسائها

( 10 ) أي يا هذه

( 11 ) أي أعيبه

( 12 ) اللؤلؤ

 

 

غزوة الخندق وهي الأحزاب

 

 

- كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة ( فبراير سنة 627 م ) باتفاق المؤرخين لكن ابن خلدون يقول في تاريخه ( والصحيح أنها في الرابعة ويقويه ابن عمر يقول ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فليس الاسنة واحدة وهو الصحيح فهي قبل دومة الجندل بلا شك ) ( 1 )

_________

( 1 ) راجع سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري والواقدي وطبقات ابن سعد وحياة محمد لمستر موير

 

 

تحزب الأحزاب

 

 

- حزب نفر من اليهود الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري وهوذة بن قيس الوائلي

قال الأستاذ ولفنسون : لما أنزل أشراف بني النضير في خيبر أخذوا يفكرون في الثأر من الأنصار وجعلوا يفكرون في الوسائل التي توصلهم إلى آطامهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب فعزم نفر من اليهود فيهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع أن يحزبوا الأحزاب على المسلمين

أي الدينين خير ؟

لما دعت اليهود قريشا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم سنكون معكم حتى نيتأصله ارتابوا في أمرهم لأن دين اليهود قريب في جوهره من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام . ولذلك قالوا لهم

يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد . أفديننا خير أم دينه ؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه . فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب . ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان ودعوهم إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لهم استعداد قريش فأجابوهم

أن اليهود أجابوا قريشا بأن دين قريش ( الوثني ) خير من دين محمد مخالفين بذلك دينهم الداعي إلى عبادة الله الواحد توصلا إلى غرضهم وهو محاربة المسلمين وطردهم من المدينة وإعادة اخوانهم إلى ديارهم وكان خيرا لهم أن يعيشوا مع المسلمين في وفاق ويكفوا عن الدسائس والفتن والإنضمام إلى الأعداء

وقد أدرك الأستاذ ولفنسون أنهم أخطأوا في تفضيلهم دين قريش على الأسلام فقال في كتابه تاريخ اليهود صفحة 142 مانصه :

والذي يؤلم كل مؤمن باله واحد من اليهود والمسلمين على السواء إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين بني قريش الوثنيين حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية

ولا يخفى أن الذين أدلوا بهذا الحديث ليسوا من عامة اليهود حتى يقال أنهم لا يعلمون ما يقولون وأنهم لا يمثلون اليهود بل هم من رؤسائهم وأصحاب النفوذ فيهم . فهل هؤلاء لا يستحقون التأديب ؟

 

 

خروج الأحزاب وقوادهم

 

 

- خرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب . وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المرى في بنى مرة ومسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع

 

 

حفر الخندق

 

 

- فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحزبهم وخروجهم لمحاربته أمر بحفر الخندق حول المدينة . والذي أشار عليه صلى الله عليه وسلم بحفر سلمان الفارسي رضي الله عنه وقد كان الفرس يحفرون الخنادق للدفاع في الحرب . قال سلمان يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا وعلى كل حال فإن كلمة خندق فارسية الأصل

اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق بنفسه واشتغل المسلمون معه . أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون بدون إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم

 

 

سلمان منا أهل البيت

 

 

- خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم قطعه أربعين ذراعا بين كل عشرة فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا . فقالت الأنصار سلمان منا . وقالت المهاجرون سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت "

 

 

اعتراض صخرة بيضاء ومعجزة الرسول

 

 

بينما جماعة من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي إذا ظهرت ضخرة بيضاء مروة فكسرت حديد معا ولهم وشقت عليهم . فقالوا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة فأما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ( 1 ) فرقي سليمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا . خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى مانحيك فيها قليلا ولا كثيرا . فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك . فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الختندق وأخذ المعول من سلمان رضي الله عنه فقال باسم الله ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين لا بتيها يعني لابتي المدينة . فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني . ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتيها . فقال الله أمبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لابصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر فسر المسلمون . ثم ضرب الثالثة وقال باسم الله فقطع بقية الحجر وخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم . فقال الله أكبر اعطيت مفاتيح اليمن والله اني لا بصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة

وجاء في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه قال :

إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة ( 2 ) فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ( 3 ) ولبثنا ثلاثة أيام نذوق ذواقا ( 4 ) فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب في الكدية فعادت كثيبا أهيل

_________

( 1 ) أي الخط الذي رسمه لهم

( 2 ) أي قطعة من الأرض لا تعمل فيها المعاول

( 3 ) أي من ألم الجوع أو خشية انحناء صلبه

( 4 ) أي من جنس ما يطعم أو يشرب

 

 

عدد الجيشين

 

 

- كان أهل الخندق ثلاثة آلاف . ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى بجانب أحد

 

 

نقض العهد

 

 

- كان كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة قد وادع النبي صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك فذهب إليه حيى بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب . فلما سمع كعب حيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فألح عليه ابن أخطب ففتح له وما زال يستمليه ويغريه حتى نقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار هو وقومه بنو قريظة مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف

 

 

اشتداد الحصار

 

 

- اشتد الخوف من تحزب الأحزاب ولا سيما بعد أن نقض بنو قريظة العهد وانضموا إلى الأعداء وظن المؤمنون كل الظن وانتهز المنافقون هذه الفرصة لتثبيط العزائم وهم بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبتهم الله ودام الحصار على المسلمين قريبا من شهر ولم يكن بينهم غير الرمى بالنبال

 

 

اقتحام الخندق

 

 

- خرجت فوارس من قريش على خيلهم بعد أن تهيأوا للقتال حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها . ثم يمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم السنجة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموها وخرج عمرو بن ود بن عبد ود وطلب المبارزة وكان عمره تسعين سنة فبارزه علي بن أبي طالب فتله وذكر بن اسحاق إن المشركين بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف فقال رسول الله هو لكم ولانأكل ثمن الموتى وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه فمات منه بمكة . ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله . ومن الذين كانوا يناوشون المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص

ورمى سعد بن معاذ يومئذ بسهم رماه رجل يقال له ابن العرقة العامري ( 1 ) فقال خذها وانا بن العرقة . فقال سعد عرق الله وجهك في النار فأصاب الأكحل منه فقطعه . فقال سعد اللهم لا تمتنى حتى تقرعيني في ( بني قريظة ) وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية . ونقل سعد وهو مجروج إلى خيمة رفيدة وقد كانت امرأة تداوي الجرحى في المسجد

_________

( 1 ) العرقة بفتح العين وكسر الراء وهي أمه واسمها قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم وتكنى أم فاطمة سميت العرقة لطيب ريحها وهي جدة خديجة رضي الله عنها أم أبيها وابن العرقة هذا اسمه حيان بن عبد مناف

 

 

حسان بن ثابت يخشى القتال

 

 

- كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان قالت صفية فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطعون أن ينصرفوا الينا عنهم أن أتانا آت . قالت فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وأني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا . قالت فلما قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته . فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه الا أنه رجل . قال مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب ( 1 )

_________

( 1 ) راجع تاريخ الطبري غزوة الخندق

 

 

استمرار القتال وفوات الصلاة

 

 

- استمرت المقاتلة في يوم من أيام الخندق من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصل صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصار المسلمون يقولون ماصلينا فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنا فلما انكشف القتال وجاء صلى الله عليه وسلم إلى قبته أمر بلالا فأذن وأقام للظهر فصلى صم أقام لكل صلى وصلى هو وأصحابه

وجاء في رواية جابر رضي الله عنه أنه أذن وأقام لكل صلاة وجمع النووي بانهما قضيتان جرتا في أيام الخندق فإنها كانت خمسة عشر يوما . وفي رواية أن التي فاتت صلاة العصر ويحمل ذلك على أنه وقع في بعض تلك الأيام وجاء في بعض الروايات شغلونا عن الصلاة الوسطى . صلاة العصر حتى غابت الشمس ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا

 

 

إن الحرب خدعة

 

 

- جاء نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا باسلامي فمرني بما شئت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ان استطعت فإن الحرب خدعة . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال لهم يا بني قريظة قد عرفتم ودي اياكم وخاصة ما بيني وبينكم . قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ضاهرتموهم عليه وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم . البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره فليسوا كهيئتكم إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم . فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه فقالوا لقد أشرت برأي ونصح . ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يامعشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا وقد بلغني أمر رأيت حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم فأكتموا علي . قالوا نفعل ذلك . قال فأعلموا إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينكم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجال من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على ما بقي منهم ؟ فأرسل إليهم أن نعم : فإن بعث إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا . ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني . قالوا صدقت . قال فاكتموا علي . قالوا نفعل ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم

فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس وكان مما صنع الله عز وجل لرسوله أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم إن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه مالا يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد . فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة . قالت قريش وغطفان . تعلمون والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق . فأرسلوا إلى بني قريظة انا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا . فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وان كانوا غير ذلك تشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم . فأرسلوا إلى قريش وغطفان انا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا . فأبوا عليهم وخذل الله بينهم وبذلك نجحت الخدعة

وفي طبقات ابن سعد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعالج غطفان على أن يعطيهم ثلث الثمر ويخذلوا بين الناس وينصرفوا عنه فأبت ذلك الأنصار فترك ما كان أراد من ذلك وقد تبين لنا أن نعيم بن مسعود قد قام بذلك خير قيام

 

 

حرب الطبيعة

 

 

- نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش . ثم جاءتهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا . وكان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين لم يعلمهم أحد إلا حذيفة أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال حذيفة فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء

 

 

خطبة أبي سفيان

 

 

- قام أبو سفيان بن حرب . فقال " ما معشر قريش لنظر امرؤ جليسه " قال حذيفة فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي . فقلت من أنت ؟ فقال أنا فلان بن فلان . ثم قال أبو سفيان : " يامعشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام . لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم

هذه خطبة أبي سفيان في الجيش . وكان قائدهم ولا بقاء للجند بعد رجوع القائد ونصيحته لهم بالعودة ولاشك أنهم سئموا الإقامة ولم يروا فائدة من الإنتظار أكثر مما انتظروا وقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البر وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال . وقد كانوا يؤملون دخول المدينة . فكان الخندق عقبة في سبيلهم بالرغم من كثرة عددهم . ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش تشمروا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون . وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوما . وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة

قال صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا . وقد كان كما أخبر صلى الله عليه وسلم . وكانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام

 

 

خسائر المسلمين

 

 

- ذكر ابن اسحاق أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير : ثلاثة من الأوس وهم سعد بن معاذ وأنس بن أوس وعبد الله بن سهيل وثلاثة من الخزرج وهم : الطفيل بن النعمان وثعلبة بن غنمة وكعب ابن زيد

 

 

خسائر المشركين

 

 

- أما عدد قتلى المشركين فثلاثة : منبه بن عبد العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة ونوفل بن عبد الله المخزومي وعمرو بن عبد ود

 

 

غزوة بني قريظة

 

 

- بنو قريظة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس . وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ

ذكرنا أن بني قريظة نقضوا العهد وحاربوا رسول الله مع الأحزاب واشتد البلاء على المسلمين ثم كفوا عن القتال لما أوقعه نعيم من الفشل بينهم وبين قريش فكان تأديبهم أمرا لامناص عنه لأن وجودهم بالمدينة فتنة تهدد المسلمين ولأنهم هم الذين حزبوا الأحزاب وانضموا إلى الأعداء في غزوة الخندق

لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق لسبع بقين من ذي القعدة سنة خمس هو أصحابه ووضعوا السلاح وكان قد صلى الصبح ودخل بيت عائشة رضي الله عنها . قال ابن اسحاق فلما كانت الظهر أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني الزهري معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج فقال أو قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال نعم . فقال جبريل فما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم . إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فأني عامد إليهم فمزلزل بهم

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر ألا في بني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال بن هشام

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا

فلما دنا علي كرم الله وجهه من الحصن ( 1 ) ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم ( 2 ) فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث . قال لم ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى . قال نعم يا رسول الله . قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال يا اخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ قالوا يا أبا القاسم ماكنت جهولا

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال هل مر بكم أحد ؟ قالوا يا رسول الله قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة . عليها قطيفة ديباج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ( 3 )

وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة كما قال ابن اسحاق وقال الواقدي احدى وعشرين ليلة . حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب

وقد كان حيى بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه . فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم :

يامعشر اليهود انه قد نزل بكم من الأمر ما ترون واني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم : قالوا وماهن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبي مرسل وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم . قالوا لا نفارق حكم التوارة أبدا ولانستبدل به غيره . قال فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولم تترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ولم تترك وراءنا شيئا نخشى عليه وان نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء . قالوا نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم ؟

قال فإذا أبيتم هذه على فان الليلة ليلة السبت وأنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة

قالوا نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا الا من قد علمت فأصابه من المسخ مالم يخف عليك

قال ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما

ثم أنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث الينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكان حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا . فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم . وقالوا له : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال نعم . وأشار بيده إلى حلقه " أنه الذبح " قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله

ثم أنطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ( 4 ) وقال لاأبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا . وقال لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له . فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه

ثم أن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فبشرت أبا لبابة بذلك ثم أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن اسحاق فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتواثبت الأوس فقالوا يا رسول الله انهم موالينا دون الخزرج . وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع . وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه . فسأله اياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له . فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قولوا : بلى . قال فذاك إلى سعد بن معاذ وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه حين أصابه السهم بالخندق : اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ( 5 )

_________

( 1 ) حصن بن قريظة يبعد عن المدينة بنحو ميلين أو ثلاثة إلى الجنوب الشرقي

( 2 ) سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق

( 3 ) سيرة بن هشام عن ابن اسحاق وكذا في تارخ الطبري عن ابن اسحاق

( 4 ) وتعرف بأسطوانة أبي لبابة واسطوانة التوبة

( 5 ) راجع غزوة الخندق في هذا الكتاب

 

 

حكم سعد بن معاذ

 

 

- كان أبو لبابة بن عبد المنذر قد عرف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة لأنه لما ذهب إليهم أشار بيده إلى حلقه " أنه الذبح " ثم ندم على هذه الاشارة واعتبرها خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان ما كان منه . أما سعد بن معاذ فقد كان حكمه في بني قريظة معروفا أيضا لأنه لما أصيب في غزوة الخندق قال : " اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة " وقد بقي مجروجا إلى أن استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة

فأتاه قومه فاحتملوه على حمار وأقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لا ولاك ذلك لتحسن فيهم . فلما أكثروا عليه . قال : لقد آن لسعد أن لاتأخذه في الله لومة لائم . فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه

فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم فانزلوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احكم فيهم . قال : فاني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم وأن تقسم أموالهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تكون النساء والذرية في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليها ارسالا وفيهم عدو الله حيى بن أخطب . وكعب بن أسد رأس القوم وهم 600 أو 700 وقيل أنهم كانوا من 800 إلى 900

وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارسالا : يا كعب ماترى ما يصنع بنا ؟ فقال كعب : في كل موطن لا تعقلون . ألا ترون الداعي لا ينزع وانه من ذهب به منكم لا يرجع . هو والله القتل

فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بحيى بن أخطب وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة لئلا يسلبها . مجموعة يداه إلى عنقه بحبل . فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أما والله مالمت نفسي في عداوتك . ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس . فقال : أيها الناس لا بأس بأمر الله . كتاب الله وقدره وملحمة قد كتبت على بني اسرائيل . ثم جلس فضربت عنقه

عن عائشة رضي الله عنها قالت :

لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة . قالت والله انها لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا و رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها . أين فلانة ؟ قالت وأنا والله . قلت ويلك مالك ؟ قالت : أقتل . قلت ولم ؟ قالت حدث أحدثته . قالت فانطلق بها فضربت عنقها . فكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت انها تقتل

وكانت تدعى هذه المرأة بنانه امرأة الحكم القرظي كانت طرحت رحى علي خلاد بن سويد فقتلته بارشاد زوجها لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوجها غيره ولم يقتل أحد من المسلمين في هذه الغزوة غير خلاد

 

 

غنائم المسلمين

 

 

- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع فوجد فيها 1500 سيف و 300 درع و 2000 رمح و 500 ترس وحجفة ووجد أثاث كثير وآنية كثيرة وجمال نواضح أي يسقى عليها الماء وماشية وشياه كثيرة . وخمس ذلك مع النخل والسبى ثم قسم الباقي على الغانمين وكانت أسهم القسمة 3072 سهما لأن المسلمين 3000 والخيل 36 وللفرس سهمان ولصاحبه سهم . ثم بعث رسول الله سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم منه خيلا وسلاحا واصطفى لنفسه من نسائهم ( ريحانة ) بنت عمرو بن جنافة فكانت عند رسول الله حتى توفى عنها وهي في ملكه وعرض عليها الزواج فأبت وكانت حين سباها قد تعاصت بالاسلام وأبت الا اليهودية ثم أسلمت

 

 

دفن القتلى

 

 

- ثم رد عليهم التراب في تلك الخنادق وعند قتلهم صاحت نساؤهم وشققن جيوبهن ونشرن شعورهن وضربن خدودهن وملئت المدينة بالنوح والعويل وكان المتولى لقتلهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام . وقيل إن بعضا منهم تولى قتله الأوس وما عدا ذلك تعاطى قتله على والزبير

 

 

وفاة سعد ؟

 

 

- لما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات منه شهيدا . قال ابن اسحاق حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال من شئت من رجال قومي ان جبريل عليه السلام اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا البيت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ؟ قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات . وعن الحسن البصري قال : كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال المسلمين والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن له حملة غيركم والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرض . وعن جابر بن عبد الله قال لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه . فقالوا يا رسول الله مم سبحت . قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه . وقد دفن سعد ببقيع الغرقد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل نائحة تكذب الانائحة سعد بن معاذ " وأم سعد كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد ابن الأبجر . وهي أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار

 

 

خسائر المسلمين في غزوة بني قريظة

 

 

- خلاد بن سويد طرحت عليه رحى . أما أبو سنان بن محصن فمات ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة فدفن في مقبرة بني قريظة التي يدفنون فيها اليوم وإليه دفنوا أمواتهم في الإسلام

 

 

ما نزل من القرآن في أمر الخندق وبني قريظة

 

 

- قال ابن اسحاق وأنزل الله تعالى في أمر الخندق وأمر بني قريظة من القرآن القصة في سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل من البلاء ونعمته عليهم وكفايته اياهم حين فرج الله ذلك عنهم بعد مقالة من قال من أهل النفاق { يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهمء ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تمملون بصيرا } والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة . يقول الله تعالى { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا } فالذين جاءوهم من قومهم بنو قريظة والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان يقول الله تعالى { هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا ورسوله إلا غرورا } لقول معتب بن قشير إذ يقول ما قال { وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لامقام لكم فاجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } لقول أوس بن قيظي ومن كالن على مثل رأيه من قومه { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقذ كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } فهم بنو حارثة وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد من نبي سلمة حين همتا بالفشل إلى قوله تعالى { وأنزل الذين ظاهر من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديرا } ظاهروهم أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة من صياصيهم من الحصون والآطام التي كانوا فيها

 

 

يهود المدينة وما آل إليه أمرهم

 

 

- كان بن الأوس والخزرج حروب قديمة . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقبهم بالأنصار لأنهم هم الذين نصروه فتآخى الفريقان وانمحى ماكان بينهما من العداوة وصاروا بنعمة الإسلام اخوانا وآخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار . أما يهود المدينة فقد كانت بنو قريظة والنضير حلفاء الأوس وبنو قينقاع حلفاء الخزرج وقد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم على دينهم وأموالهم . لكنهم ثاروا ونقضوا عهده وتعنتوا في مناقشة وحسدوه على انتصاراته وكادوا له وعادوا ينكرون عليه نبوته . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الغدر وشدة العناد ودس الدسائس أراد التخلص منهم متحينا الفرص فدعا بني قينقاع إلى الإسلام بعد غزوة بدر . وكانوا يسكنون بالمدينة . فلما أبوا وأجابوه بكل جرأة غزاهم وأجلاهم إلى أذرعات بالشام في السنة الثانية من الهجرة وأرسل من قتل كعب بن الأشرف الشاعر الذي كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشعاره ويحض كفار قريش على قتاله وذلك في السنة الثالثة من الهجرة . وغزا في السنة الرابعة بني النضير . وقد تقدم سبب هذه الغزوة وأجلاهم عن المدينة فمنهم من سار إلى الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر . ثم غزا بني قريظة في السنة الخامسة لأنهم هم الذين حزبوا الأحزاب عليه في غزوة الخندق وانضموا إلى الأعداء في أحرج المواقف . بعد غزوة بني قريظة لم تقم لليهود قائمة بالمدينة وخضع المنافقون كل الخضوع وقد كانوا فئة قليلة . أما المدينة فلم تعد ملجأ للمضطهدين بل صارت مركزا لسلطة دينية عظيمة واستطاعت اخضاع جزيرة العرب بعد سنين قليلة

 

 

سرية القرطا ( 1 ) واسلام ثمامة بن أثال الحنفي

 

 

- كانت هذه السرية لعشر خلون من المحرم سنة ست من الهجرة

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري في ثلاثين راكبا إبلا وخيلا . وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار وأن يشن الغارة عليهم ففعل ما أمر به فلما أغار عليهم هرب باقيهم بعد من قتل وكان القتل منهم عشر وقيل نحو العشرين واستاق 150 بعيرا و 3000 شاة فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم

وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم وغاب تسع عشرة ليلة وأسر ثمامة بن أثال . روى ابن اسحاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت رجلا ولا تشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله . فقال أتدرون من أخذتم ؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي فربطوه بسارية من سواري المسجد بأمره صلى الله عليه وسلم لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها فيرق قلبه . فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال عندي خير يا محمد ان تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه حتى كان الغد ثم قال له ما عندك يا ثمامة ؟ قال ما قلت لك : أن تنعم تنعم على شاكر . فتركه حتى كان بعد الغد : فقال ما عندك يا ثمامة ؟ قال عندي ما قلت لك فقال : اطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) ثم قال والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض ألي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي . والله ماكان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الذين كله إلي . والله ماكان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي . وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة وأمره أن يعتمر . فلما قدم مكة يلبي وينفي الشريك عن الله قال له قائل صبوت ؟ قال لا . ولكن أسلمت لله رب العالمين مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل أنه منع عن مكة الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز ( 2 )

ثم صار ثمامة رضي الله عنه من فضلاء الصحابة وهدى الله به خلقا كثيرا من قومه ولم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة ولا خرج عن الطجاعة قط وقام مقاما حميدا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حين ارتدت اليمامة مع مسليمة فقال : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديدش العقاب } ثم قال : فأين هذا من هذيان مسيلمة ؟ فأطاعه ثلاثة آلاف وانحازوا إلى المسلمين

_________

( 1 ) القرطا بطن من بني بكر وكانوا ينزلون بناحية ضرية وهي قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة وهي إلى مكة أقرب . وبها جبل يسمى البكرات وبين ضرية والمدينة سبع ليال

( 2 ) الوبر والدم

 

 

غزوة بني لحيان

 

 

- كانت في أول شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة ( يونية يولية سنة 627 م ) وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن على عاصم بن ثابت وأصحابه القراء الذين قتلوا ببئر معونة في شهر صفر من السنة الرابعة . فأظهر صلى الله عليه وسلم أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة فخرج من المدينة فسلك على غراب ( 1 ) على طريقه إلى الشام على مخيض ثم على البتراء ثم صفق ذات اليسار ثم على بين ثم على صخيرات اليمام ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة ثم أسرع السير حتى نزل على غران وهي منازل بني لحيان ( 2 ) إلى بلد يقال لها ساية . وكان معه 200 رجل ومعهم 20 فرسا واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم

وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان القوم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال . فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا من كل ناحية من نواحيهم . ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر رضي الله عنه في عشرة فوارس لتسمع بهم قريش فيذعرهم . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا . وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم عن المدينة أربع عشرة ليلة

_________

( 1 ) جبل بناحية المدينة

( 2 ) غران واد بين أمج وعسفان

 

 

اغارة عيينة بن حصن

 

 

- ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يقم الا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل لغطفان ( 1 ) على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة وكانت عشرين لقحة وفيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح

الرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر رضي الله عنه واسمه ذر وكان يرعى الإبل وامرأته التي أسروها اسمها ليلى وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانطلقت وركبت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلا على حين غفلتهم . ويقال ان الناقة اسمها العضباء . فنطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها . فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك . وقالت : يا رسول الله اني نذرت لله تعالى أن أنحرها إن نجاني الله عليها . فقال : بئسما جزيتها ان حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها . أنه لانذر لأحد في معصية ولا لأحد فيما لا يملك . إنما هي ناقة من ابلي . ارجعي إلى أهلك على بركة الله

_________

( 1 ) 40 فارسا

 

 

غزوة ذي قرد وهي غزوة الغابة

 

 

- ذو قرد على نحو بريد من المدينة مما يلي بلاد غطفان . وكانت في ربيع الأول سنة ست ( يوليه سنة 627 م ) وفي البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام وبعد الحديبية بعشرين يوما

وسببها اغارة عيينة بن حصن الفزاري على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم

لما أغاروا على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى الفزع الفزع ونودي يا خيل اركبي . وأول من نذر بهم سلمة بن عمرو الأكوع الأسلمي

ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته . وخلف سعد بن عبادة رضي الله عنه في 300 يحرسون المدينة . وعقد لواء للمقداد رضي الله عنه في رمحه . وقال امض حتى تلحقك الخيول وأنا على أثرك

وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا وؤساءه واستنقذوا اللقاح . وقيل بعضها ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو محرز بن نضلة . وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان . وقد أبلى في هذه الغزوة سلمة بن الأكوع بلاء حسنا وكان راميا

قتل أبو قتادة مسعدة بن حكمة الفزاري فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه ولقى عكاشة بن محصن رضي الله عنه في طريقه أبان بن عمرو وابنه عمرا على بعير فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا

وكانت مدة غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بذي قرد صلاة الخوف

 

 

سرية الغمر أو سرية عكاشة بن محصن الأسدي

 

 

- الغمر ماء لبني أسد على ليلتين من فيد قلعة بطريق مكة وكانت في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة

خرج عكاشة رضي الله عنه في أربعين رجلا فنذر به القوم فهربوا فنزلوا بلادهم فوجدوا ديارهم خالية لهربهم . فبعث المسلمون طليعة فرأوا أثر النعم قريبا فقصدها فأصابوا رجلا منهم فأمنوه فدلهم على نعم لبنى عم لهم فأغاروا عليها فاستاقوا 200 بعير وأطلقوا الرجل وقدموا بالإبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقوا حربا

 

 

سرية محمد بن مسلمة الأنصاري إلى ذي القصة ( 1 )

 

 

- كانت في شهر ربيع الثاني ( الموافق شهر أغسطس سنة 627 م )

خرج محمد بن مسلمة ومعه عشرة إلى بني ثعلبة فورد عليهم ليلا بمن معه . وقد كمن لهم المشركون لشعورهم وبمجيئهم إليهم . فتركوا محمد بن مسلمة حتى نام هو وأصحابه ثم أحدثوا بهم فما شعر المسلمون الا بالنبل قد خالطهم . فوثب محمد بن مسلمة ومعه قوس فصاح في أصحابه . السلاح فوثبوا فتراموا بالنبل ساعة من الليل ثم انحاز أصحاب محمد إليه وقد قتلوا من القوم رجلا . ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم الامحمد بن مسلمة فوقع جريحا فحمله رجل من المسلمين حتى ورد به المدينة جريحا

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ربيع الآخر في أربعين رجلا إلى مصارعهم فأغار عليم فلم يجد أحدا ووجد نعما وشاء فساقه وأصاب رجلا واحدا فأسلم فتركه وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه وشيئا من متاعهم وقدم به المدينة وظاهر من ارسال محمد بن مسلمة في عشر رجال أن السبب هو ما بلغهم من أن بني ثعلبة وإنما جمعوا على أن يغيروا على سرح المدينة وهي ترعى بهيفاء ( 2 ) وكانت الماشية قد ازدادت بسبب ما غنمه المسلمون . فلما قتل محمد بن مسلمة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أباعبيدة طلبا لثأر المقتولين

_________

( 1 ) موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا من طريق الربذة ( الواقدي )

( 2 ) موضع على سبعة أميال من المدينة

 

 

سرية زيد بن حارثة

 

 

- وفي شهر ربيع الآخر أيضا كانت سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم ( 1 ) فأصابوا نعما وشاء ووجدوا جماعة منهم فأسروهم

ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى العيص وكانت في جمادى الأولى سنة ست ( سبتمبر سنة 627 م )

وسببها أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن عيرا قد أقبلت من الشام فبعث زيد بن حارثة ومعه راكبا ليتعرض لها فأدركها وأخذها وما فيها وأخذ يؤمئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية بن خلف وأسر منهم ناسا : منهم أبو العاص بن الربيع . وأم هالة بنت خويلد أخت خديجة . وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين تجارة ومالا وأمانة . وهو زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخلت زينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يرد عليه ما أخذ منه فقبل . وقال لها اكرمي مثواه ولا يخلص أليك فإنك لا تحلين له . ثم ذهب أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله ثم أسلم وخرج فقدم المدينة

وكانت زينب هاجرت قبله إلى المدينة وتركته على شركة ثم بعد أن أسلم وهاجر ردها صلى الله عليه وسلم إليه وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب من أبي العاص

_________

( 1 ) ناحية ببطن نخل . على أربعة أميال من المدينة

 

 

سرية أخرى لزيد بن حارثة

 

 

- هذه السرية إلى حسمى . أرض ينزلها حذام وراء وادي القرى وذلك من جهة الشام وكانت في جمادى الآخرة سنة ست ( اكتوبر سنة 627 م )

وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أوفد دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام فأعطاه جائزة وكساه . فلقيه الهنيد بن عارض في الطريق وهو عائد فقطعوا عليه الطريق وأصابوا كل شيء معه عند حسمى فسمع بذلك نفر من الضبيب رهط رفاعة بن زيد الجذامى ممن كان أسلم واستنفذوا ما كان في أيديهم وردوه على دحية

قدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة في 500 رجل فكان زيد يسير الليل ويكمن بالنهار ومعه دليل من بني عذرة فأقبل بهم حتى هجموا على القوم فأغاروا عليهم وأكثروا فيهم القتل وقتلوا الهنيد وابنه وأخذوا ماشيتهم ونساءهم . فأخذوا من الإبل 1000 بعير ومن الشاة 5000 ومن السبى مائة من النساء والصبيان . ولا شك أن هذا الاحصاء تقريبي كما يستدل عليه من الأرقام

ثم رحل رفاعة بن زيد الجذامي في نفر من قومه فدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتبه له ولقومه حين قدم عليه فأسلم . فلما قرئ الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كيف أصنع بالقتلى ؟ فقال رفاعة أنت أعلم يا رسول الله لانحرم عليك حلالا ولا نحل لك حراما فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى زيد فرد عليهم كل ما أخذ منهم

 

 

سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دممة الجندل

 

 

إسلام الأصبغ بن عمرو الكلبي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا دومة الجندل في ربيع الأول سنة خمس ( يولية سنة 626 م ) وقد تقدم ذكرها

أما هذه السرية فكانت في شعبان سنة ست ( نوفمبر سنة 626 م ) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لهذه السرية وقد أصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأقعده بين يديه وعممه بيده . ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء ثم حمد الله وصلى على نفسه صلى الله عليه وسلم ثم قال " خذه يا ابن عوف اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم " فأخذ عبد الرحمن اللواء . وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كلب بدومة الجندل وقال إن استجابوا لك فأسلموا فتزوج ابنة ملكهم . فسار عبد الرحمن بجيشه وكانوا 700 رجل حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وقد كانوا أبوا أول ما قدم عليهم أن يعطوا الا السيف . ثم أسلم في اليوم الثالث ( الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا ) وكان ملكهم ورئيسهم وأسلم معه ناس كثير من قومه وأقام عبد الرحمن بقيتهم بالجزية وتزوج تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة وفازت بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم أبنه أبي سلمة

 

 

سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر

 

 

- خرج علي رضي الله عنه ومعه ( 100 ) رجل إلى بني سعد بن بكر في شعبان سنة ست . وكان قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ساعون في جمع الناس لامداد يهود خيبر فأغازوا على نعم وشاء كثيرة وهرب الرعاء وساقوا النعم والشاء معهم وكانت 500 بعير و 200 شاة وقدم علي رضي الله عنه ومن معه المدينة

 

 

سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة

 

 

- كانت هذه السرية في رمضان سنة ست من الهجرة وسببها أن زيد بن حارثة رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( وهذه أول مرة نسمع فيها خروج أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجارة إلى الشام )

فلما كان بوادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم . وقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فبعثه إليهم في جيش فأحاطوا بمن وجدوه من بني فزارة فقتلوهم وأخذوا ( أم قرفة ) ويه بنت ربيعة بن بدر الفزاري . وكانت ملكة رئيسة وذات شرف في قومها وكانت عجوزا كبيرة فأسرها قيس بن المحسر وقيل ابن سحل فقتلها قتلا عنيفا ربط رجليها بحبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقها . وإنما قتلها كذلك لسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لأنها حجزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها . وقالت لهم اغزوا المدينة واقتلوا محمدا . وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وهو يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما ظفر به . ذكر هذه الغزوة الواقدي وذكرها السيد دحلان في الجزء الثاني من كتاب السيرة النبوية وأني أشك في تفاصيل القصة بهذه الصفة . أشك في اسم قيس هذا الذي أسر أم قرفة فقد قيل أنه ابن المحسر وقيل ابن سحل وقيل ابن المحسن ( 1 ) وأشك في أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل بامرأة ويقتلها هذا القتل الشنيع مع العلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وأوصى عبد الرحمن بن عوف حين أرسله إلى دومة الجندل فقال : { اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولاتغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا عهد الله وسيرة نبيه فيكم } وليس بين سرية عبد الرحمن بن عوف وسرية زيد بن حارثة إلى أم قوفة غير شهر واحد

وسيأتي في سرية عبد الله بن عتيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة

وعلى كل حال لا يمكن أن يبلغ النبي قتل أم قرفة على هذه الصورة الشنعاء من غير أن يبدى استياءه . لذلك كان ما روى من التمثيل بأم قرفة مردودا

_________

( 1 ) جاء في أسد الغابة " قيس بن المحسر الكناني الشاعر " واختلف في اسمه فقيل أيضا قيس بن مسحل وسماه ابن اسحاق مسحرا وقد أخرج أبو عمر قيس بن المحسر وذكر فيه أنه غزا مع زيد بن حارثة أم قرفة وقتلها ولم يذكر أنه مثل بها

 

 

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق

 

 

- كانت هذه السرية لقتل أبي رافع عبد الله أو سلام بن أبي الحقيق اليهودي وهو من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حزبوا الأحزاب يوم الخندق وأعان المشركين بالمال الكثير

وقد اختلف المؤرخون في تاريخ هذه الغزوة فقد قيل أنها كانت في ذي الحجة سنة خمس بعد الخندق . وفي البخاري قال الزهري بعد قتل كعب بن الأشرف الواقع سنة ثلاث وذكرها أو جعفر محمد بن جرير الطبري في السنة الثالثة في النصف من جمادة الآخرة . أما الواقدي فإنه زعم أنه هذه السرية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع أو سلام بن أبي الحقيق إنما وجهها إليه في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة . والثابت أن سلام بن أبي الحقيق كان من الذين حزبوا الأحزاب في غزوة الخندق وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة وكان سلام هذا ممن ذهب إلى خيبر بعد اجلاء بني النضير ثم أنه بعد الخندق أخذ يحرض بني فزارة والقبائل الأخرى ولذلك نرجح أن هذه السرية كانت في السنة السادسة كما ذكرها السيد دحلان فقد قال " إنها كانت في رمضان سنة ست " ( الموافق شهر ديسمبر سنة 627 م )

خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الخزرج وهم :

- 1 - عبد الله بن عتيك . - 2 - عبد الله بن أنس . - 3 - أبو قتادة . - 4 - الأسود بن خزاعي . - 5 - مسعود بن سنان الأسلمي . واستأذنوه في قتل سلام بن أي الحقيق وهو بخيبر لأن الأوس كانوا قد أصابوا كعب بن الأشرف فأراد كعب بن الأشرف فأراد الخزرج أني لا يكون للأوس فضل عليهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأمرهم صلى الله عليه وسلم بقتله ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة ( 1 ) وأمر عليهم عبد الله بن عتيك . فذهبوا إلى خيبر فكنوا فلما هدأت الرجل والحركة جاءوا إلى منزله وكان في حصن مرتفع فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله بن عتيك اجلسوا مكانكم فانى منطلق ومتلطف للبواب لعلى أدخل الحصن فأقبل حتى دنا من البواب ثم تقنع بثوبه شخصه كأنه يقضي حاجته مخافة أن يعرف فدخل واختبأ عند باب الحصن ثم صعد إليه وكان عبد الله بن عتيك يتكلم اليهودية فقدمه أصحابه ليتكلم بكلام أبي رافع فاستفتح باب غرفته فرأته امرأته . فقالت : من أنت ؟ قال : جئت أبا رافع بهدية . ففتحت له وقالت ذاك صاحبك . فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشار إليها بالسيف فسكتت . قال فقلت أبا رافع . لاعرف موضعه . فقال من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة وأنا دهش فما أغنت شيئا ولم أقتله وصاح أبو رافع . فخرجت من البيت وكمنت غير بعيد فقالت امرأته يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك . قال ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك ؟ قال ثم دخلت عليه كأني أغيثه وغيرت صوتي . فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع . قال لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف . فضربته ضربة أثخنته ولم أقتله فصاح وقام أهله وصاحت امرأته ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى دخل في ظهره وسمعت صوت العظم فعرفت أني قتلته

وفي الطبري " ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها بالسيف ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يده "

قال ابن عتيك فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر ولما علم ابن عتيك أنه قتل أبا رافع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ووقع في بعض الروايات أن الذي قتل أبا رافع عبد الله بن أنيس والصواب ما في صحيح البخاري أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك وفي أسد الغابة " الذي ولى قتل أبى رافع بن أبي الحقيق بيده وكان في بصره ضعف الخ "

_________

( 1 ) راجع الطبري

 

 

سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام

 

 

- كانت سرية عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي إلى أسير بن رزام ( 1 ) اليهودي بخيبر في شوال سنة ست من الهجرة ( يناير سنة 628 م ) وسببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن الحقيق أمرت يهود عليها أسيرا فاقترح عليهم طريقة للانتقام من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقروه عليها وحاصلها أن يذهب إلى غطفان ويجمعهم ويسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقر داره . فسار إلى غطفان فلما بلغه صلى الله عليه وسلم وجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان سرا ليستكشف له الخبر فذهب إلى ناحية خيبر ثم عاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمع ورأى وقدم عليه أيضا خارجة بن حسيل وقال له تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب يهود . فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس له فانتدب له ( 30 ) رجلا فبعث عليه عبد الله بن رواحة فقدموا عليه فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه يستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك فشاور يهود فخالفوه في الخروج وقالوا ماكان محمد يستعمل رجلا من بني اسرائيل . قال بلى قد مللنا الحرب . خرج أسير وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين . فلما كانوا بقرقرة ندم أسير على مسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد الفتك بعبد الله بن رواحة ففطن له وهو يريد السيف فاقتحم به عبد الله ثم ضربه بالسيف فقطع رجله فضربه أسير بمخرش في يده من شوحط فأمه وفي رواية عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأهوى أسير بيده إلى سيفي ففطنت له ( يتضح من ذلك أن أسيرا كان أعزل ) فدفعت بعيري وقلت غدرا أي عدو الله مرتينز فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير فضربته بالسيف فاندرت عامة فخذه وساقه فسقط عن بعيره ومال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقتلوهم ولم يفلت منهم غير رجل واحد ولم يصب من المسلمين أحد ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث فقال " حقا قد نجاكم الله من القوم الظالمين "

_________

( 1 ) اسير بن رزام بهذا الضبط لكن مستر موير يقول أنه ابن زرام ويكتبه هكذا ( Osier ibn Zarim )

 

 

سرية كرزبن جابر الفهري

 

 

- كان كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه أحد رؤساء قريش أسلم بعد الهجرة واستشهد عام الفتح وهو الذي خرج رسول الله لطلبه في غزوة بدر الأولى وقد مر ذكرها

كانت هذه السرية في جمادة الأولى سنة ست وسببها أن أناسا من عكل وعرنة ( 1 ) يبلغ عددهم نحو ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام وتلفظوا بكلمة التوحيد وكانوا حين قدموا المدينة سقاما مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم ( قال مستر موير أنهم كانوا مصابين بداء الطحال )

فقالوا يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع ( أي ماشية وابل ) ولم نكن أهل ريف وكرهنا الأقامة بالمدينة فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فأمر لهم بذود من الإبل ( 2 ) ومعها راع وأمرهم باللحوق بها لشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى اذا كانوا ناحية الحرة وصحت أجسامهم باتباعهم اشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بعد اسلامهم وقتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبدا له اسمه يسار . وحين قتلوه مثلوا به فقطعوا يده ورجله وجعلوا الشوك في عينيه واستاقوا الذود وحمل يسار ميتا إلى قباء فدفن هناك . فهؤلاء أعراب قساة غلاظ القلوب يقابلون الاحسان بالإساءة يكرمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهب له الماشية ويرسل معهم الراعي رأفة بهم ويصف لهم الدواء الشافي لدائهم فيأخذون الإبل ويشربون ألبانها وتصح أجسامهم ثم يجحدون النعمة

ويكفرون بعد اسلامهم ويقتلون ذلك الراعي الأمين المسكين ويمثلون به أشنع تمثيل ويسيرقون الإبل . جرائم متعددة يقترفونها . فهل هؤلاء يستحقون العفو والاحسان والمعاملة الحسنة ؟ كلا بل الحكمة تقضي بقطع دابرهم واستئصال شأفتهم ليكونوا عبرة من اعتبر ولئلا يجرأ بعد ذلك أحد من أمثال هؤلاء اللصوص القتلة الخائنين أن يعبث بالاسلام والمسلمين . وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الصريخ بما وقع جابر الفهري رضي الله عنه فلحقهم فجاء بهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ولم يفلت منهم أحد وتركوا في ناحية الحرة في الشمس حتى ماتوا

وأنزل الله في هؤلاء { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية وهؤلاء كفروا وقتلوا ومثلوا وقطعوا الطريق وسرقوا

_________

( 1 ) عكل حي من قضاعة وعرينة حتى من بجيلة

( 2 ) هي من الثلاثة إلى العشرة

 

 

أمر الحديبية

 

 

- الحديبية هي بئر سمي المكان باسمها وقيل قرية أكثرها في الحرم على تسعة أميال من مكة

وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة ( فبراير سنة 628 م ) معتمرا " زائر البيت " لا يريد حربا بعد أن مضى عليه صلى الله عليه وسلم ست سنوات بعد الهجرة في المدينة لم يزر فيها مكة ولم يعتمر ولم يحج . فخرج في هذه السنة معتمرا واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب . فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب وساق معه الهدى ( ما يهدي إلى الحرم من النعم ) وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له وأخرج معه زوجته أم سلمة رضي الله عنها واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه وجملة أصحابه الذين خرجوا معه 1400 إلى 1600

أما ما رواه ابن اسحاق من أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه الهدي 70 بدنة ( 1 ) وكان الناس 700 رجل فكانت كل بدنة من عشرة نفر فلا بد أن يكون هذا العدد في بدء خروجهم قبل أن ينضم إليه صلى الله عليه وسلم من دعاهم من الاعراب ولم يخرج صلى الله عليه وسلم معه بسلاح الا سلاح المسافر السيوف في القرب . فلما كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال له " يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل ( 2 ) قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا . وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ( 3 ) قد قدموها إلى كراع الغميم ( 4 ) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله أو ينفرد هذه السالفة . ثم قال من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ فقال رجل من أسلم أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقا وعرا ( واسم هذا الرجل حمزة بن عمرو الأسلمي ) فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهلة عند منقطع الوادي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قولوا نستغفر الله ونتوب إليه . فقالوا ذلك . فقال والله إنها للحطة التي عرضت على بني اسرائيل فلم يقولوها

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المراة مهبط الحديبية من أسف مكة . فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش فترة الجيش قد خالفوا رجعوا راكضين إلى قريش ( ذكر أن فرسان قريش كانوا 200 منهم عكرمة بن أبي جهل وكان قائدهم خالد بن الوليد )

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته القصواء فقال الناس خلأت فقال " ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لاتدعوني قريش اليوم إلى خطة وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني صلة الرحم الا أعطيتهم اياها "

ثم قال للناس انزلوا . قيل يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن ( 5 ) واختلف فيمن نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل هو سائق بدنة ناجية بن جندب وقيل أنه البراء بن عازب وقيل عبادة بن خالد وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا باناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها . ثم قال دعوها ساعة فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا . وفي حديث جابر عند البخاري ومسلم قال عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال ما بالكم ؟ قالوا يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا وجمع ابن حيان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين . وكانت قصة الركوة قبل قصة البئر

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته . ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان . فرجعوا إلى قريش . فقالوا يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد أن محمدا لم يأت لقتال . إنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم وقالوا وإن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها عليها عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال هذا رجل غادر فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذا من قوم يتألهو فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعظاما لما رأى . فقال لهم ذلك . فقالوا له اجلس فإنما أنت اعرابي لا علم لك . فغضب الحليس عند ذلك وقال : يا معشر قريش والله ماعلى هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم . أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لا نفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . فقالوا له : كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به

ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال يامعشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم إنكم والد واني ولد وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفس . قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال :

يا محمد أجمعت أوشاب الناس ( 6 ) ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لاتدخلها عليهم عنوة أبدا ( تكرر هذا الكلام فقد قاله " بشربن سفيان " ) وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ( 7 )

وكان أبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا فقال ( امصص بظر اللات ( 8 ) أنحن ننكشف عنه ؟ )

فقول أبي بكر ( امصص بظر اللات ) مبالغة منه في سب عروة فإنه أقام معبود عروة وهو صنمه مقام امرأة تحقيرا لمعبوده وعادة العرب الشتم بذلك . وقد ساء أبا بكر قول عروة ان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينكشفون عنه غدا أي يفرون فقال له ما قال وأجابه بما فيه تحقير له ولمعبوده

فقال عروة بعد أن سمع هذه الأهانة : من هذا يامحمد ؟ قال هذا ابن أبي قحافة . فقال أما والله لولا يد كانت لك عندي لكأفأتك بها ولكن هذه بها

قال الزهري إن اليد المذكورة هي أن عروة كان تحمل دية فأعانه فيها أبو بكر رضي الله عنه بعون حسن

ثم رجع عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك فيقول عروة ويحك ما أفظك وأغلظك . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له عروة من هذا يا محمد . قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة . قال أي غدر قال أي غدر وهل غسلت سوأتك الا بالأمس

ولشرح هذا الموقف نقول . المغيرة بن شعبة هو ابن أخي عروة . وقد كان أثناء حديث عروة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف بقصد الحراسة وعليه المغفر ( 9 ) فكان المغيرة كلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ( 10 ) . وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة يريدون بذلك التحية والتواصل وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير فربما رأى عروة لمكانته ورفعته في قومه إنه نظير للنبي صلى الله عليه وسلم وما علم حينئذ أنه لا نظير له فاللائق منعه

قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا ( أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ) إن المغيرة بن شعبة قبل اسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشر دية وأصلح الأمر

وبعد أن قال عروة ما قال كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا

فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أصحابه وقد بهره ما رأى من احترام أصحابه صلى الله عليه وسلم له فقال :

أي قوم . فوالله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي . والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا . والله ما يتنخم نخامة الا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده اجلالا وتوقيرا وما يمددن النظر إليه تعظيما له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ولقد رأيت قوما لا يسملونه لشيء أبدا فروا رأيكم

فلم يسمع القوم ما قاله عروة بن مسعود وما رغبهم فيه من الصلح فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف

قال ابن اسحاق وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبعثت قريش أربعين أو خمسين رجلا منهم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : " يا رسول الله أني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني . وقد عرفت قريش عدواني إياها وغلظتي عليها . ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته

فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحلمه بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 11 ) . فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به . فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم . إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : ماكنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبسته قريش عندها

فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل ( 12 )

وقيل أن عثمان بن عفان دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسماءهم . وقيل أن قريشا احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام وأشاع الناس أنهم قتلوه هو والعشرة الذين معه . وعلى كل حال أبطأ عثمان رضي الله عنه عن الرجوع فقلق عليه المسلمون فلما بلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نبرح حتى نناجز القوم أي نقاتلهم

والظاهر أن أبا سفيان لم يكن بمكة وقتئذ لأننا لم نسمع له رأيا ونرجد أنه كان غائبا في تجارة

_________

( 1 ) البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة . سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها والجمع بدن

( 2 ) العوذ جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن . والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها والمراد أنهم خرجوا بما ذكر لارادة طول المقام وعدم الفرار

( 3 ) لم يكن خالد بن الوليد قد أسلم خلافا لما زعمه بعض المؤرخين من أنه كان مع المسلمين

( 4 ) موضع قريب من مكة

( 5 ) سيرة ابن هشام

( 6 ) بمعنى اخلاط الناس

( 7 ) يريد أن أصحاب صلى الله عليه وسلم يفرون عنه غدا

( 8 ) البظر في قول أبي بكر رضي الله عنه هو الفرج واللات اسم صنم كانت تعبده ثقيف لأن عروة كان بالطائف فاللات كان معبوده

( 9 ) زرد ينسج على قدر الرأس

( 10 ) وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها

( 11 ) ابان بن سعيد بن العاس هو ابن عم عثمان أسلم بعد ذلك

( 12 ) ابن اسحاق

 

 

بيعة الرضوان

 

 

- دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ( 1 ) وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينادي الناس إلى البيعة

قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار وأنه إما الفتح وإما الشهادة وفي رواية بايعناه على الموت . ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها الا الجد بن قيس أخو بني سلمية فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بابط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس وكان أول من بايعه صلى الله عليه وسلم أبو سنان الأسدي

ولما لم يكن قتل عثمان رضي الله عنه محققا بل كان بالإشاعة بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير حياته وفي ذلك إشارة منه إلى أن عثمان لم يقتل وإنما بايع القوم أخذا بثأر عثمان جريا على ظاهر الأشاعة تثبيتا وتقوية لأولئك القوم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال : اللهم هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك وماذاك الا لأنه على عدم صحة القول بقتله وكان عدد اللذين بايعوه ( 1400 )

قال تعالى يذكر هذه البيعة { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } وبعد أن جاء عثمان رضي الله عنه بايع بنفسه

تأثير البيعة في قريش

لما علمت قريش بهذه البيعة خافوا وأشار أهل الرأي فيهم بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس

_________

( 1 ) شجرة هناك من أشجار السمر . وقد بلغ عمر رضي الله عنه في خلافته إن ناسا يصلون عند الشجرة التي كانت البيعة عندها ويطوفون بها فخاف رضي الله عنه من اتساع الأمر وظهور البدعة وأن تعبد كالأصنام فأمر بها فقطعت

 

 

الصلح

 

 

- بعثت قريش سهيل بن عمرو ( 1 ) أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له أئت محمدا فصالحة ولا يكن في صلحه الا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا فلما أقبل سهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل وطالت المراجعة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم . فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر أليس برسول الله ؟ قال بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال بلى . قال ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ( 2 ) . قال أبو بكر : الزم غرزه ( 3 ) فأني أشهد أنه رسول الله . قال عمر وأنا أشهد أنه رسول الله ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال يا رسول الله : ألست برسول الله ؟ قال بلى . قال أولسنا بالمسلمين ؟ قال بلى . قال أوليسوا بالمشركين ؟ قال بلى . قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولو يضيعني . فكان عمر يقول : مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم . فكتبها ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول لم أقاتلك . ولكن أكتب اسمك واسم أبيك . فقال رسول الله اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو . اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس فكيف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير أذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وان بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا سلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ( وكان علي رضي الله عنه وبعض الحاضرين من المسلمين منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة يعارضون في محو كلمة رسول الله ) وتواثبت خزاعة وقالوا نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها لأصحابك فأقمت بها ثلاث معك سلاح الراكب : السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها . وكتبت نسخة أخرى من هذا العقد لتبقى عند المسلمين لأن سهيلا قال يكون هذا الكتاب معي وقيل أن الذي كتب النسخة الأخرى محمد بن مسلمة ولم يكن أحد في القوم راضيا بجميع ما رضى بن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر

وقد جاء في كتاب الصلح " وإن بيننا عيبة مكفوفة " أي أمورا مطوية في صدور سليمة اشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينم من أسباب الحرب وغيرها وأنه " لا اسلال ولا أغلال " أي لا سرقة ولا خيانة

_________

( 1 ) كان سهيل سياسيا قادرا وخطيبا مصقعا

( 2 ) أي الخصلة المذمومة

( 3 ) أي ركابه

 

 

مزايا هذا الصلح

 

 

- نقل النووي عن العلماء " أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرت التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم وخفيت عليهم فحمله ذلك على موافقتهم وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تظهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يجتمعون بمن يعلمهم بها مفصلة . فلما حصل الصلح اختلطوا وجاءوا إلى المدينة وجاء المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت أنفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما وازداد الذين لم يسلموا ميلا إلى الإسلام . فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما قد تم لهم من الميل "

وأنا نضيف إلى ذلك ان مزايا هذا الصلح التي غابت عن أصحابه صلى الله عليه وسلم ولم تخف عنه عظيمة جدا فقد اعترف له صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة بأنه قوة مستقلة نظير قريس وإن الهدنة توجد للمسلمين فرصة لنشر دينهم في جزيرة العرب بلا معارضة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقا من جهة أخرى من اخلاص أصحابه وحبهم له وشدة تمسكم بالعقيدة الاسلامية فلا ينضمون إلى قريش بينما كان يتوقع اسلام بعض القبائل وفوق ذلك فقد سمح له زيارة مكة لتأدية الفريضة الدينية مع المسلمين في العام القابل والأقامة بها مدة ثلاثة أيام من غير أن يتعرضوا لهم بسوء وبسبب ماجاء في هذه المعاهدة من المزايا ازداد عدد المسلمين زيادة عظيمة فبعد أن كان عدد جيش الحديبية ( 1400 ) بلغ عددهم عند فتح مكة بعد عامين ( 10 . 000 ) وفي رائرة المعارف الاسلامية " إن محمدا صلى الله عليه وسلم فاز في صلح الحديبية على قريش فوزا سياسيا باهرا ( 1 ) "

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وقيل أن الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي . فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله المحلقين . قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال يرحم الله المحلقين . قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال يرحم الله المحلقين . قالوا يرحم الله المحلقين . قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال والمقصرين فقالوا ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال لم يشكوا

واهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هديه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين وكانت بدنة صلى الله عليه وسلم التي نحرها بالحديبية 70 وكانت اقامته صلى الله عليه وسلم بالحديبية نحو عشرين يوما