مختصر ابن كثير  
   سورة الانشقاق   
   ( 148 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة الانشقاق

 مقدمة

روى البخاري، عن أبي رافع قال‏:‏ ‏(‏صلَّيتُ مع أبي هريرة العتمة فقرأ‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ فسجد، فقلت له، فقال‏:‏ سجدت خلف أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم والنسائي‏"‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 15‏)‏

{‏ إذا السماء انشقت ‏.‏ وأذنت لربها وحقت ‏.‏ وإذا الأرض مدت ‏.‏ وألقت ما فيها وتخلت ‏.‏ وأذنت لربها وحقت ‏.‏ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ‏.‏ فأما من أوتي كتابه بيمينه ‏.‏ فسوف يحاسب حسابا يسيرا ‏.‏ وينقلب إلى أهله مسرورا ‏.‏ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ‏.‏ فسوف يدعو ثبورا ‏.‏ ويصلى سعيرا ‏.‏ إنه كان في أهله مسرورا ‏.‏ إنه ظن أن لن يحور ‏.‏ بلى إن ربه كان به بصيرا ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ وذلك يوم القيامة، ‏{‏وأذنت لربها‏}‏ أي استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، وذلك يوم القيامة ‏{‏وحُقَّتْ‏}‏ أي وحق لها أن تطيع أمره، لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإذا الأرض مدَّت‏}‏ أي بسطت وفرشت ووسعت، وفي الحديث ‏(‏إذا كان يوم القيامة مد اللّه الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن علي بن الحسين مرفوعاً‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقت ما فيها وتخلت‏}‏ أي ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت عنهم، ‏{‏وأذنت لربها وحقت‏}‏ كما تقدم، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً‏}‏ أي إنك ساع إلى ربك سعياً وعامل عملاً ‏{‏فملاقيه‏}‏ ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، عن جابر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال جبريل‏:‏ يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود الطيالسي‏"‏، ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ‏{‏ربك‏}‏ أي فملاق ربك ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك، قال ابن عباس‏:‏ تعمل عملاً تلقى اللّه به خيراً كان أو شراً، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً‏}‏ إن كدحك يا ابن آدم لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة اللّه فليفعل ولا قوة إلا باللّه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً‏}‏ أي سهلاً بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله، فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة، روى الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب عذب‏)‏، قالت، فقلت‏:‏ أفليس قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يحاسب حساباً يسيراً‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي‏"‏‏.‏ وروى ابن جرير، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذباً‏)‏، فقلت‏:‏ أليس اللّه يقول ‏{‏فسوف يحاسب حساباً يسيراً‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ذاك العرض، إنه من نوقش الحساب عذب‏)‏، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت ‏"‏أخرجه الشيخان وابن جرير‏"‏‏.‏ وفي رواية عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب - أو من حوسب - عذب، ثم قالت‏:‏ إنما الحساب اليسير عرض على اللّه تعالى وهو يراهم‏)‏ ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينقلب إلى أهله مسروراً‏}‏ أي ويرجع إلى أهله في الجنة ‏{‏مسروراً‏}‏ أي فرحاً مغتبطاً بما أعطاه اللّه عزَّ وجلَّ، وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ إنكم تعملون أعمالاً لا تعرف، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم ‏"‏أخرجه الطبراني‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه وراء ظهره‏"‏أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه، ويعطى كتابه بها كذلك ‏{‏فسوف يدعو ثبوراً‏}‏ أي خساراً وهلاكاً ‏{‏ويصلى سعيراً * إنه كان في أهله مسروراً‏}‏ أي فرحاً لا يفكر بالعواقب، ولا يخاف مما أمامه فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل، ‏{‏إنه ظنّ أن لن يحور‏}‏ أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى اللّه، ولا يعيده بعد موته، قال ابن عباس وقتادة وغيرهما، والحَوْر هو الرجوع، قال اللّه‏:‏ ‏{‏بلى إن ربه كان به بصيراً‏}‏ يعني بلى سيعيده اللّه كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه ‏{‏كان به بصيراً‏}‏ أي عليماً خبيراً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 25‏)‏

{‏ فلا أقسم بالشفق ‏.‏ والليل وما وسق ‏.‏ والقمر إذا اتسق ‏.‏ لتركبن طبقا عن طبق ‏.‏ فما لهم لا يؤمنون ‏.‏ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ‏.‏ بل الذين كفروا يكذبون ‏.‏ والله أعلم بما يوعون ‏.‏ فبشرهم بعذاب أليم ‏.‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ‏}

قال علي وابن عباس‏:‏ ‏{‏الشفق‏}‏ الحمرة، وقال عبد الرزاق، عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏الشفق‏}‏ البياض، فالشفق هو حمرة الأُفق، إما قبل طلوع الشمس، كما قاله مجاهد، وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة، قال الخليل‏:‏ الشفق‏:‏ الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل‏:‏ غاب الشفق، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏وقت المغرب ما لم يغب الشفق‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو‏"‏، ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بالشفق‏}‏ هو النهار كله، وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل وما وسق‏}‏ أي جمع، كأنه أقسم بالضياء والظلام، قال ابن جرير‏:‏ أقسم اللّه بالنهار مدبراً وبالليل مقبلاً، وقال آخرون‏:‏ الشفق اسم للحمرة والبياض، وهو من الأضداد‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏وما وسق‏}‏ وما جمع، قال قتادة‏:‏ وما جمع من نجم ودابة، وقال عكرمة‏:‏ ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقمر إذا اتسق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا اجتمع واستوى، وقال الحسن‏:‏ إذا اجتمع وامتلأ، وقال قتادة‏:‏ إذا استدار، ومعنى كلامهم إنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً لليل وما وسق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ قال البخاري، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ حالاً بعد حال، قال‏:‏ هذا نبيكم صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏، وقال الشعبي ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ قال‏:‏ لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء، يعني ليلة الإسراء، وقيل‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ منزلاً على منزل، ويقال‏:‏ أمراً بعد أمر، وحالاً بعد حال ‏"‏هي رواية العوفي عن ابن عباس‏"‏، وقال السدي‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ أعمال من قبلكم منزلاً بعد منزل، وكأنه أراد معنى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ السماء مرة كالدهان، ومرة تنشق، وقال سعيد بن جبير ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ قال‏:‏ قوم كانوا في الدنيا خسيسٌ أمرهم فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافاً في الدنيا فاتضعوا في الآخرة، وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ حالاً بعد حال فطيماً بعد ما كان رضيعاً، وشيخاً بعد ما كان شاباً، وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ يقول‏:‏ حالاً بعد حال، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقراً بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقماً بعد صحة‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ والصواب من التأويل قول من قال‏:‏ لتركبن أنت يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك - وإن كان الخطاب موجهاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - جميع الناس، وأنهم يلقون من الشدائد يوم القيامة وأحواله أهوالاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون‏}‏ أي فماذا يمنعهم من الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر، وما لهم إذا قرئت عليهم آيات اللّه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الذين كفرا يكذبون‏}‏ أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق، ‏{‏واللّه أعلم بما يوعون‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ يكتمون في صدورهم، ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ أي فأخبرهم يا محمد بأن اللّه عزَّ وجلَّ قد أعد لهم عذاباً أليماً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين أمنوا أي بقلوبهم ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ أي بجوارحهم ‏{‏لهم أجر‏}‏ أي في الدار الآخرة ‏{‏غير ممنون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ غير منقوص، وقال مجاهد‏:‏ غير محسوب، وحاصل قولهما‏:‏ أنه غير مقطوع، كما قال تعالى‏:‏ {‏عطاء غير مجذوذ‏}‏، وقال السدي‏:‏ قال بعضهم‏:‏ غير ممنون‏:‏ غير منقوص، وقال بعضهم‏:‏ غير ممنون عليهم، وهذا القول قد أنكره غير واحد، فإن اللّه عزَّ وجلَّ له المنة على أهل الجنة، في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائماً سرمداً، والحمد لله وحده أبداً‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي