مختصر ابن كثير  
   سورة التغابن   
   ( 128 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة التغابن

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ‏.‏ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ‏.‏ خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ‏.‏ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ‏}‏

هذه السورة هي آخر المسبحات، وقد تقدّم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها، ولهذا قال تعالى ‏{‏له الملك وله الحمد‏}‏ أي هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ أي مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏، أي هو الخالق لكم على هذه الصفة، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه بما تعملون بصير‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض بالحق‏}‏ أي بالعدل والحكمة، ‏{‏وصوّركم فأحسن صوركم‏}‏ أي أحسن أشكالكم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإليه المصير‏}‏ أي المرجع والمآل‏.‏ ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون واللّه عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ‏.‏ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن الأمم الماضيين، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل‏}‏ أي أخبرهم وما كان من أمرهم ‏{‏فذاقوا وبال أمرهم‏}‏ أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي، ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ أي في الدار الآخرة، ثم علل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلائل والبراهين، ‏{‏فقالوا أبشر يهدوننا‏}‏ أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، ‏{‏فكفروا وتولوا‏}‏ أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل، ‏{‏واستغنى‏}‏ أي عنهم، ‏{‏واللّه غني حميد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ‏.‏ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ‏.‏ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنمهم لا يبعثون ‏{‏قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم‏}‏ هذه هي الآية الثالثة التي أُمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقسم بربه على وقوع المعاد، فالأولى في يونس‏:‏ ‏{‏قل إي وربي إنه لحق‏}‏ والثانية في سبأ‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم‏}‏، والثالثة هي هذه‏:‏ ‏{‏زعم الذين كفروا‏}‏ الآية‏"‏أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها ‏{‏وذلك على اللّه يسير‏}‏ أي بعثكم ومجازاتكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلنا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏واللّه بما تعملون خبير‏}‏ أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ وهو يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون، في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوم التغابن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو اسم من أسماء يوم القيامة، وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويذهب بأولئك إلى النار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 13‏)‏

‏{‏ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ‏.‏ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ‏.‏ الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة إلا بإذن اللّه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بأمر اللّه يعني عن قدره ومشيئته، ‏{‏ومن يؤمن باللّه يهدِ قلبه واللّه بكل شيء عليم‏}‏ أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء اللّه وقدره، فصبر واحتسب عوّضه عما فاته من الدنيا، هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، قال ابن عباس‏:‏ يعني يهدِ قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال الأعمش عن علقمة‏:‏ ‏{‏ومن يؤمن باللّه يهد قلبه‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلّم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ يعني يسترجع يقول‏:‏ ‏{‏إنا للّه وإنا إليه راجعون‏}‏، وفي الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏عجباً للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول‏}‏ أمر بطاعة اللّه ورسوله فيما شرع، وفعل ما به أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏ أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمّل من البلاغ، وعليكم ما حملّتم من السمع والطاعة، قال الزهري‏:‏ من اللّه الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، ثم قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي وحدوا الإلهية له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 18‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ‏.‏ إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ‏.‏ فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏.‏ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ‏.‏ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد، أن منهم من هو عدّو الزوج والولد، بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون‏}‏، ولهذا قال تعالى ههنا ‏{‏فاحذروهم‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ يعني على دينكم، وقال مجاهد ‏{‏إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم‏}‏ قال‏:‏ يحمل الرجل على قطيعة الرحم، أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه، وقال ابن أبي حاتم‏:‏ عن ابن عباس، وسأله رجل عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم‏}‏ قال‏:‏ فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن اللّه غفور رحيم‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي، وقال‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة واللّه عنده أجر عظيم‏}‏‏.‏ يقول تعالى‏:‏ إنما الأموال والأولاد ‏{‏فتنة‏}‏ أي اختبار وابتلاء من اللّه تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه عنده‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏أجر عظيم‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا واللّه عنده حسن المآب‏}‏‏.‏ روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي اللّه عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه، ثم قال‏:‏ ‏(‏صدق اللّه ورسوله ‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأهل السنن عن أبي بريدة‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الولد ثمرة القلوب، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللّه ما استطعتم‏}‏ أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه‏)‏، وهذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته‏}‏، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏، قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تخفيفاً على المسلمين ‏{‏فاتقوا اللّه ما استطعتم‏}‏ فنسخت الآية الأولى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسمعوا وأطيعوا‏}‏ أي كونوا منقادين لما يأمركم اللّه به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفقوا خيراً لأنفسكم‏}‏ أي وابذلوا مما رزقكم اللّه على الأقارب والفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق اللّه كما أحسن اللّه إليكم، يكن خيراً لكم في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ تقدم تفسيره في سورة الحشر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم‏}‏ أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونزّل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصحيحين أن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏(‏من يقرض غير مظلوم ولا عديم‏)‏ ‏"‏أخرجه في الصحيحين‏"‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعفه لكم‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيضاعفه له أضعافاً كثيرة‏}‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏، أي ويكفر عنكم السيئات، ‏{‏واللّه شكور‏}‏ أي يجزي على القليل بالكثير، ‏{‏حليم‏}‏ أي يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات، ‏{‏عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم‏}‏ في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم‏}‏ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه حتى يرق ويقيم‏"‏تقدم تفسيره غير مرة‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي