تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : الملل والنحل
المؤلف : الشهرستاني
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

القسم الأول
أرباب الديانات والملل من المسلمين وأهل الكتاب
وممن له شبهة كتاب
نتكلم ههنا في معنى الدين والملة والشرعية والمنهاج والإسلام والحنيفية والسنة والجماعة؛ فإنها عبارات وردت في التنزيل، ولكل واحدة منها معنى يخصها، وحقيقة توافقها لغة واصطلاحا، وقد بينا معنى الدين: أنه الطاعة والانقياد؛ وقد قال الله تعالى: " إن الدين عند الله الإسلام " وقد يرد بمعنى الجزاء؛ يقال: كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، وقد يرد بمعنى الحساب يوم المعاد والتناد قال تعالى: " ذلك الدين القيم " ؛ فالمتدين: هو المسلم المطيع المقر بالجزاء والحساب يوم التناد والمعاد؛ قال الله تعالى: " ورضيت لكم الإسلام ديناً " ولما كان نوع الإنسان محتاجاً إلى اجتماع مع آخر من بني جنسه، في إقامة معاشه، الاستعداد لمعاده؛ وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون، حتى يحفظ بالتمانع ما هو له، ويحصل بالتعاون ما ليس له؛ فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي: الملة. والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج الشرعة والسنة. والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة؛ قال الله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ولن يتصور وضع الملة ، وشرع الشرعة إلا بواضع شارع، يكون مخصوصاً من عند الله بآيات تدل على صدقه؛ وربما تكون الآية مضمنة في نفس الدعوى، وقد تكون ملازمة، وربما تكون متأخرة . ثم اعلم: إن الملة الكبرى هي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وهي الحنيفية التي تقابل الصبوة تقابل التضاد. وسنذكر كيفية ذلك إن شاء الله تعالى؛ قال الله تعالى: " ملة أبيكم إبراهيم " .
الشريعة ابتدأت من نوح عليه السلام؛ قال الله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " . والحدود والأحكام ابتدأت من آدم وشيث وإدريس عليهم السلام وختمت الشرائع والملل، والناهج والسنن بأكملها وأتمها حسناً وجمالاً: بمحمد عليه السلام؛ قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " .
وقد قيل: خص آدم بالأسماء؛ وخص نوح بمعاني تلك الأسماء؛ وخص إبراهيم بالجمع بينهما. ثم خص موسى بالتنزيل؛ وخص عيسى بالتأويل؛ وخص المصطفى - صلوات الله عليهم أجمعين - بالجمع بينهما: على ملة أبيكم إبراهيم.
ثم كيفية التقرير الأول، والتكميل بالتقرير الثاني؛ بحيث يكون مصدقاً كل واحد ما بين يديه من الشرائع الماضية، والسنن السالفة، تقديراً للأمر على الخلق وتوفيقا ًللدين على الفطرة - فمن خاصية النبوة: لا يشاركهم فيها غيرهم. وقد قيل: إن الله عز وجل أسس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه، وبدينه على خلقه.
الجزء الأول
المسلمون
قد ذكرنا معنى الإسلام. ونفرق ها هنا بينه وبين الإيمان، والإحسان، ونبين: ما المبدأ، وما الوسط، وما الكمال - بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليه السلام؛ حيث جاء على صورة أعرابي، وجلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا رسول الله! ما الإسلام " ؟ فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، ويحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا " قال: " صدقت " ثم قال: " ما الإيمان " ؟ قال عليه السلام: " أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فهو يراك " قال: " صدقت " . ثم قال: " متى الساعة " ؟ قال عليه السلام: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . ثم قام وخرج؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم " . ففرق في التفريق بين الإسلام والإيمان. والإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا؛ ويشترك فيه المؤمن والمنافق. قال الله تعالى: " قالت الأعراب آمنا: قل: لم تؤمنوا؛ ولكن قولوا أسلمنا " ؛ ففرق التنزيل بينهما.

فإذا كان الإسلام بمعنى التسليم والانقياد ظاهراً، موضع الاشتراك؛ فهو المبدأ. ثم إذا كان الإخلاص معه؛ بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقر عقداً بأن القدر خيره وشره من الله تعالى؛ بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ كان مؤمناً حقاً. ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق، وقرن المجاهدة بالمشاهدة، وصار غيبه شهادة؛ فهو الكمال. فكان الإسلام: مبدأ، والإيمان: وسطاً، والإحسان: كمالاً. وعلى هذا شمل لفظ المسلمين: الناجي، والهالك.
وقد يرد الإسلام وقرينه الإحسان؛ قال الله تعالى: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن " ؛ يحمل قوله تعالى: " ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، وقوله: " إن الدين عند الله الإسلام " ، وقوله: " إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين " ، وقوله: " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ؛ وعلى هذا خص الإسلام بالفرقة الناجية. والله أعلم.
أهل الأصول المختلفون في: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والسمع والعقل.
نتكلم ها هنا في معنى الأصول: معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم. وبالجملة: كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول. ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسماً إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل والطاعة فرع؛ فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصولياً، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً. فالأصول: هو موضوع علم الكلام، والفروع: هو موضوع علم الفقه. وقال بعض العقلاء: كل ما هو معقول، ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال؛ فهو من الأصول. وكل ما هو مظنون، ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد؛ فهو من الفروع.
وأما التوحيد؛ فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن الله تعالى واحد في ذاته: لا قسيم لهن وواحد في صفاته الأزلية: لا نظير له، وواحد في أفعاله: لا شريك له، وقال أهل العدل: إن الله تعالى واحد في ذاته: لا قسمة ولا صفة له، وواحد في أفعاله: لا شريك له، فلا قديم غير ذاته: ولا قسيم له في أفعاله؛ ومحال وجود قديمين، ومقدور بين قادرين؛ وذلك هو التوحيد.
وأما العدل؛ فعلى مذهب أهل السنة أن الله تعالى عدل في أفعاله بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ فالعدل: وضع الشيء موضعه؛ وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، والظلم بضده؛ فلا يتصور منه جور الحكم، وظلم في التصرف. وعلى مذهب أهل الاعتزال: العدل: ما يقتضيه العقل من الحكمة؛ وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة.
وأما الوعد والوعيد؛ فقد قال أهل السنة : الوعد والوعيد كلامه الأزلي؛ وعد على ما أمر، وأوعد ما نهى؛ فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده، وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده؛ فلا يجب عليه شيء من قضية العقل. وقال أهل العدل: لا كلام في الأزل؛ وإنما أمر ونهى ووعد وأوعد بكلام محدث؛ فمن نجا فبفعله استحق الثواب، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب؛ والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك.
وأما السمع والعقل فقد قال أهل السنة: الواجبات كلها بالسمع، والمعارف كلها بالعقل. فالعقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يقتضى ولا يوجب؛ والسمع لا يعرف ؛ أي لا يوجد المعرفة؛ بل يوجب. وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح: صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح.
فهذه القواعد هي المسائل التي تكلم فيها أهل الأصول. وسنذكر مذهب كل طائفة مفصلاً، إن شاء الله تعالى. ولكل علم موضوع ومسائل نذكرهما بأقصى الإمكان، إن شاء الله تعالى.
المعتزلة، وغيرهم: من الجبرية والصفاتية والمختلطة منهم. الفريقان من : المعتزلة والصفاتية: متقابلا نتقابل التضاد، وكذلك: القدرية والجبرية؛ والمرجئة والوعيدية؛ والشيعة والخوارج. وهذا التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلاً في كل زمان؛ ولكل فرقة: مقالة على حيالها. وكتب صنفوها، ودولة عاونتهم، وصولة طاوعتهم.
الباب الأول
المعتزلة

ويسمون: أصحاب العدل والتوحيد، ويلقبون بالقدرية والعدلية . وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً، وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ إحترازاً من وصمة اللقب؛ إذ كان من الذم به متفقاً عليه؛ لقول النبي عليه السلام: " القدرية مجوس هذه الأمة " . وكانت الصفاتية تعارضهم: بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد؛ فكيف يطلق لفظ الضد على الضد؟ وقد قال النبي عليه السلام: " القدرية : خصماء الله في القدر " ، والخصومة في القدر، وانقسام الخير والشر على ما فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل، وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم، والحكم المحكوم. والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته ونفا الصفات القديمة أصلاً؛ فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة : هي صفات قديمة، ومعان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف؛ لشاركته في الإلهية. واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه؛ فإن ما وجد في لمحل عرض قد فنى في الحال. واتفقوا على أن الإرادة ، والسمع والبصر: ليست معاني قائمة بذاته؛ لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها؛ كما سيأتي. واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفى التشبيه عنه من كل وجه: ومكانا، وصورة، وجسماً، وتحيزاً، وانتقالاً، وزوالاً، وتغيراً، وتأثراً؛ وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيه..
وسموا هذا النمط: توحيداً.
واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم، وفعل هو كفر ومعصية؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً. واتفقوا على أنه الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم ..
وسموا هذا النمط: عدلاً.
واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة: استحق الثواب والعوض؛ والتفضل معنى آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها: استحق الخلود في النار؛ لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار.. وسموا هذا النمط: وعدا ووعيداً.
واتفقوا على أن أصول المعرفة، وشكر النعمة: واجبة قبل ورود السمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعلى، أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام: امتحاناً، واختباراً؛ " ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة " . واختلفوا في الإمامة، والقول فيها: نصاً، واختباراً؛ كما سيأتي عند كل طائفة.
والآن نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التي تميزت بها عن أصحابها.
الواصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال الألثغ، كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم الأخبار، وكانا في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك. وبالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور. ويقال لهم: الواصلية. واعتزالهم يدور على أربعة قواعد: القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الباري تعالى؛ من العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة، وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين قال: " ومن أثبت معنى وصفة قديمة، فقد أثبت إلهين " . وإنما شرعت أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة، وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه: عالماً، قادراً؛ ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما : اعتباران للذات القديمة؛ كما قال الجبائي، أو حالان؛ كما قال أبو هاشم. وميل أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة؛ وهي العالمية، وذلك عين مذهب الفلاسفة؛ وسنذكر تفصيل ذلك. وكان السلف يخالفهم في ذلك؛ إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة.

القاعدة الثانية: القول بالقدر: وغنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي. وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات؛ فقال إن الباري تعالى حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرن ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه؛ فالعبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله؛ والرب تعالى أقدره على ذلك كله. وأفعال العباد محصورة في: الحركات، والسكنات، والاعتمادات، والنظر، والعلم؛ قال: ويستحيل أن يخاطب العبد بالفعل وهو لا يمكنه أن يفعل، ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل؛ ومن أنكره فقد أنكر الضرورة، واستدل بآيات على هذه الكلمات. ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر، فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية؛ واستدل فيها بآيات من الكتاب، ودلائل من العقل؛ ولعلها لواصل ابن عطاء؛ فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى؛ فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب! أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على : البلاء والعافية، والشدة والرخاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة.. إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى؛ دون: الخير والشر والحسن والقبيح، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالة عن أصحابهم.
القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين؛ والسبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة؛ وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: ، صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن، ولا كافر؛ ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن؛ فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه: معتزلة. ووجه تقريره انه قال : إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمى المرء مؤمناً؛ وهو اسم مدح، والاسم لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح؛ فلا يسمى مؤمناً، وليس هو بكافر مطلقا أيضاً؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة؛ فهو من أهل النار خالداً فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير لكنه يخفف عنه العذاب، وتكون دركته فوق دركة الكفار. وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقاً له في القدر وإنكار الصفات.
القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وأ صحاب صفين: إن أحدهما مخطئ بعينه، وكذلك قوله في عثمان، وقاتليه، وخاذليه. قال: إن أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة، لكن لا بعينه، وقد عرفت قوله في الفاسق، وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما، كما لا تقبل شهادة المتلاعنين؛ فلم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل، وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ. هذا قولهَ! وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة، وأئمة العترة. ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه، وزاد عليه في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه، بأن قال: لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل علي ورجل من عسكره، أو طلحة والزبير: لم تقبل شهادتهما؛ وفيه تفسيق الفريقين، وكونهما من أهل النار. وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث، معروفاً بالزهد. وواصل مشهوراً بالفضل والأدب عندهم.
الهذيلية

أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف: شيخ المعتزلة، ومقدم الطائفة، ومقرر الطريقة، والمناظر عليها؛ أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء. ويقال : أخذ واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبد الله بن محمد الحنفية، ويقال: أخذه عن الحسن بن أبي الحسن البصري. وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد: الأولى: أن الباري تعالى عالم بعلمه؛ وعلمه بذاته، قادر بقدرة؛ وقدرته ذاته، حي بحياة؛ وحياته ذاته. وإما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا: أن ذاته واحدة لا ثرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته؛ بل هي ذاته، وترجع إلى أسلوب أو اللوازم كما سيأتي. والفرق بين قول القائل: عالم بذاته لا بعلم، وبين قول القائل: عالم بعلم هو ذاته؛ أن الأول نفى الصفة، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذ أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى، أو أحوال أبي هاشم.
الثانية: أنه أثبت إرادات لا محل لها؛ يكون الباري تعالى مريداً بها. وهو أول من أحدث هذه المقالة، وتابعه عليها المتأخرون.
الثالثة: قال في كلام الباري تعالى: إن بعضه لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر، والنهي، والخبر، والإستخبار. وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف.
الرابعة: قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه؛ إلا أنه قد ري الأولى جبري الآخرة؛ فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين في الآخرة: أنها كلها ضرورية، لا قدرة للعباد عليها، وكلها مخلوقة للباري تعالى؛ إذ كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها.
الخامسة: قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع، وإنهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً، وتجتمع للذات قي ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. وهذا قريب من مذهب جهم: إذ حكم بفناء الجنة والنار. وإنما التزم أبو الهديل هذا المذهب؛ لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم: أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها؛ إذ كل واحدة لا تتناهى؛ قال: إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخراً؛ كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولاً؛ بل يصيرون إلى سكون دائم، وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون.
السادسة: قوله في الاستطاعة: إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة، وفرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح؛ فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة، فالاستطاعة معها في حال الفعل. وجوز ذلك في أفعال الجوارح، وقال بتقدمها؛ فيفعل بها في الحال الأولى، وإن لم يوجد الفعل إلا في الحالة الثانية؛ قال: فحال يفعل غير حال فعل. ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله، غير اللون والطعم والرائحة ما لا يعرف كيفيته. وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه: إن الله تعالى يبدعهما فيه، وليسا من أفعال العباد.
السابعة: قوله في المكلف قبل ورود السمع: إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح؛ فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور. وقال أيضاً بطاعات لا يراد بها الله تعالى ولا يقصد بها التقرب إليه؛ كالقصد إلى النظر الأول، والنظر الأول ؛ فإنه لم يعرف الله بعد، والفعل عبادة وقال في المكره: إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعاً عنه. الثامنة: قوله في الآجال والأرزاق: إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت، ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص. والأرزاق على وجهين: أحدهما: ما خلق الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال خلقها رزقاً للعباد، فعلى هذا من قال: إن أحداً أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقاً فقد أخطأ لما فيه: أن في الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى. والثاني: ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد فما أحل منها فهو رزقه، وما حرم فليس رزقاً، أي ليس مأموراً بتناوله.

التاسعة : حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة الله غير المراد؛ فإرادته لما خلق: هي خلقه له، وخلقه للشيء عنده غير الشيء؛ بل الخلق عنده قول لا في محل . وقال إنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بمعنى سيسمع وسيبصر، وكذلك لم يزل: غفوراً، رحيماً، محسناً خالقاً، رازقاً، معاقباً، موالياً، معادياً، آمراً، ناهياً، بمعنى أن ذلك سيكون منه.
العاشرة: حكى الكعبي عنه أنه قال : الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، ولا تخلو الأرض عن جماعة هم فيها أولياء الله: معصومون، لا يكذبون، ولا يرتكبون الكبائر؛ فهم الحجة لا التواتر؛ إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً، إذا لم يكونوا أولياء الله ، ول يكن فيهم واحد معصوم.
وصحب أبا الهذيل أبو يعقوب الشحام والآدمي؛ وهما على مقالته. وكان سنه مائة سنه، توفي في أول خلافة المتوكل، سنة خمس وثلاثين ومائتين.
النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل: الأولى مها: أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري تعالى، خلافاً لأصحابه؛ فإنهم قضوا بأنه غير قادر عليها، لكنه لا يفعلها؛ لأنها قبيحة. ومذهب النظام: أن القبح إذا كان صفة للقبيح، وهو المانع من الإضافة إليه فعلاً؛ ففي تجويزك وقوع القبيح منه قبح أيضاً، فيجب أن يكون مانعاً، ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم. وزاد أيضاً على هذا الإختباط فقال: إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده، ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم؛ هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا، وأما أمور الآخرة فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل الجنة، ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له. وقد ألزم عليه: إن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله؛ فإن القادر على الحقيقة: من يتخير بين الفعل والترك، فأجاب: إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل؛ فإن عندكم يستحيل إن يفعله وإن يفعله وإن كان مقدوراً؛ فلا فرق. وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة؛ حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله، فما أبدعه وأوجده هو المقدور، ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه: نظاماً، وترتيباً، وصلاحاً.. لفعله.
الثانية: قوله في الإرادة: إن الباري تعالى ليس موصوفاً بها على الحقيقة، فإذا وصف بها شرعاً في أفعاله؛ فالمراد بذلك: أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم، وإذا وصف بكونه مريداً لأفعال العباد؛ فالمعنى به؛ أنه آمر بها وناه عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة.
الثالثة: قوله : إن أفعال العباد كلها حركات فحسب، والسكون حركة اعتماد، والعلوم والإرادات حركات النفس؛ ز لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة، وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما، كما قالت الفلاسفة: من إثبات حركات في الكيف، والكم، والوضع، والأين، والمتى،.. إلى أخواتها.
الرابعة : وافقهم أيضاً في قولهم: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح؛ والبدن آلتها وقالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم، فمال إلى قول الطبيعيين منهم: إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقالب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والهنية في السمسم والمينة في اللبن؛ وقال: إن الروح هي التي لها : قوة ، واستطاعة، وحياة ومشيئة؛ وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل.
الخامسة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة أي إن الله تعالى طبع الحجر طبعاً، وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعاً. وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف المتكلمين والفلاسفة.

السادسة: وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ. وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال: تقطع بعضها بالمشي، وبعضها بالطفرة وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر، طوله خمسون ذراعاً، علق عليه معلاق؛ فيجر به الحبل المتوسط؛ فإن الدلو يصل إلى رأس البئر، وقد قطع مائة ذراع، بحبل طوله خمسون ذراعاً، في زمان واحد؛ وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضاً موازية لمسافة؛ فالإلزام لا يندفع عنه، وإنما الرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه.
السابعة: قال: إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت، ووافق هشام بن الحكم في قوله: أن الألوان والطعوم والروائح أجسام، فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضاً، وتارة يقضي بكون الأعراض أجساماً لا غير.
الثامنة: من مذهبه: أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن، ونباتاً، وحيواناً، وإنساناً؛ ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده؛ غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض؛ فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها، دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة. وأكثر ميله - أبداً - إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين.
التاسعة: قوله في إعجاز القرآن: إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً؛ حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله: بلاغة، وفصاحة، ونظماً.
العاشرة: قوله في الإجماع: إنه ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية، لا يجوز أن يكون حجة وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم.
الحادية عشرة: ميله إلى الرفض، ووقيعته في كبار الصحابة؛ قال: أولاً: لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً أو مكشوفاً، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه في مواضع، وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة، إلا أن عمر كتم ذلك، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة. ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: نعم قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: هذا شك وتردد في الدين، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم. وزاد في الفرية ؛ فقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها؛ وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه نصر بن لحجاج من المدينة إلى البصرة؛ وإبداعه التراويح؛ ونهيه عن متعة الحج؛ ومصادرته العمال.... كل ذلك أحداث. ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان، وذكر أحداثه: من رده الحكيم بن أمية إلى المدينة؛ وهو طريد رسول الله عليه السلام، ونفيه أبا ذر إلى الربذة؛ وهو صديق رسول الله، وتقليده الوليد بن عقبه الكوفة؛ وهو من أفسد الناس، ومعاوية الشام، وعبد الله بن عامر البصرة، وتزويجه مروان بن الحكم ابنته؛ وهم أفسدوا عليه أمره، وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف، وعلى القول الذي شاقه به... كل ذلك أحداثه. ثم زاد على خزيه ذلك؛ بأن عاب علياً وعبد الله بن مسعود لقولهما: أقول فيها برأيي، وكذب ابن مسعود في روايته: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، وفي روايته: انشقاق القمر، وفي تشبيهه الجن بالزط وقد أنكر الجن رأساً... إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في لصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.
الثانية عشرة: قوله في المفكر قبل ورود السمع: أنه إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى، بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه، في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله. وقال: لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام، والآخر بالكف ليصح الاختيار.

الثالثة عشرة: قد تكلم في مسائل العد والوعيد. وزعم أن من خان في مائة وتسعين درهماً بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك، حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة؛ وهو مائتا درهم فصاعداً، فحينئذ يفسق، وكذلك في سائر نصب الزكاة وقال في المعاد: إن الفضل على الأطفال، كالفضل على البهائم. ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه، وزاد عليه بأن قال: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله، ولا على ما أخبر أنه لا يفعله: مع أن الإنسان قادر على ذلك؛ لأن قدرة العبد صالحة للضد ين، ومن المعلوم أن أحد الضد ين واقع في المعلوم أنه سيوجد؛ دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب؛ وإن أخبر الرب تعالى بأنه: سيصلى ناراً ذات لهب. ووافقه أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة. وزاد عليه بأن قال: إن الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء؛ وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين. وكذلك الجعفران: جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وافقاه وما زادا عليه؛ إلا أن جعفر بن مبشر قال: في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ؛ إذ المعتبر في الحدود: النص والتوقيف. وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان.
وكان محمد بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران: من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين النزلتين: وقالوا: صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد: إن استحقاق العقاب، والخلود في النار بالفكر يعرف، قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون: التخليد لا يعرف إلا بالسمع. ومن أصحاب النظام: الفضل الحدثي، وأحمد بن خابط. قال الرواندي: إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين: أحدهما قديم؛ وهو الباري تعالى، والثاني محدث؛ وهو المسيح عليه السلام؛ لقوله إذ تخلق من الطين كهيئة الطير " . وكذبه لكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه.
الخابطية والحدثية الخابطية: أصحاب احمد بن خابط وكذلك الحثية؛ أصحاب الفضل الحدثي: كانا من أصحاب النظام، وطالعا كتب الفلاسفة أيضاً، وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع: البدعة الأولى: إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة النصارى على اعتقادهم: أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " . وهو الذي يأتي ظلل من الغمام، وهو المعني بقوله تعالى: " أو يأتي ربك " . وهو المراد بقول النبي عليه السلام: " إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن " . وبقوله: " يضع الجبار قدمه في النار " . وزعم أحمد بن خابط: أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة المتجسدة؛ كما قالت النصارى.

البدعة الثانية: القول بالتناسخ: زعما أن الله تعالى أبدع خلقه: أصحاء، سالمين، عقلاء، بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم، وخلق فيهم معرفته والعلم به، وأسبغ عليهم نعمته، ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا: عاقلاً؛ ناظراً؛ معتبراً، وابتدأ هو بتكليف شكره؛ فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل، أقره في دار النعيم التي أبدأهم فيها، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا؛ فألبسه هذه الأجسام الكثيفة؛ وابتلاه: بالبأساء، والضراء، والشدة، والرخاء، والآلام، واللذات... على صور مختلفة، من صمر الناس وسائر الحيوانات، على قدر ذنوبهم؛ فمن كانت معصيته أقل، وطاعته أكثر، كانت صورته أحسن، وآلامه أقل؛ ومن كانت ذنوبه أكثر، كانت صورته أقبح، وآلامه أكثر. ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا: كرة بعد كرة، وصورة بعد أخرى مادامت في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس، وهو أيضاً من تلامذة النظام، وقال أيضاً مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ وخلق البرية دفعة واحدة؛ إلا أنه قال: متى صارت النوبة إلى البهيمية؛ ارتفعت التكاليف، ومتى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك؛ ارتفعت التكاليف أيضاً، وصارت النوبتان عالم الجزاء. ومن مذهبهما أن الديار خمس؛ داران للثواب إحداهما: فيها أكل، وشرب، وبعال، وجنات، وأنهار. والثانية: دار فوق هذه الدار ؛ ليس فيها أكل، ولا شرب، ولا بعال؛ بل ملاذ روحانية، وروح، وريحان؛ غير جسمانية. والثالثة: دار العقاب المحض؛ وهي نار جهنم، ليس فيها ترتيب، بل هي على نمط التساوي. والرابعة دار الابتداء، التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا؛ وهي الجنة الأولى. والخامسة: دار الابتلاء؛ وهي التي كلف الخلق فيها، بعد أن اجترحوا في الأولى. وهذا التكوير والتكرير لا يزال في الدنيا، حتى يمتلئ المكيالان: مكيال الخير، ومكيال الشر؛ فإذا امتلأ مكيال لخير، صار العمل كله طاعة، والمطيع خيرا خالصاً؛ فينقل إلى الجنة، ولم يلبث طرفة عين؛ فإن مطل الغنى ظلم؛ وفي الحديث: " أعطوا الأجير أجره قبل إن يجف عرقه " . وإذا امتلأ مكيال الشر، صار العمل كله معصية والعاصي شريراً محضاً؛ فينقل إلى النار، ولم يلبث طرفة عين؛ وذلك قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة، ولا يستفيدون. البدعة الثالثة: حملهما كل ما ورد في الخبر: من رؤية الباري تعالى؛ مثل قوله عليه السلام: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته " على رؤية العقل الأول، الذي هو أول مبدع؛ وهو العقل الفعال، الذي منه تفيض الصور على الموجودات، وإياه على النبي عليه السلام بقوله: " أول ما خلق الله تعالى العقل؛ فقال له: أقبل، فأقبل؛ ثم قال له، أدبر، فأدبر؛ فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أحسن منك! بك أعز، وبك أذل، وبك أعطي، وبك أمنع؛ فهو الذي يظهر يوم القيامة، وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه؛ فيرونه كمثل القمر ليلة البدر؛ فأما واهب العقل فلا يرى البتة. ولا يشبه إلا مبدع بمبدع. وقال ابن خابط إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها؛ لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم؛ وفي كل أمة رسول من نوعه؛ لقوله تعالى: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. ولهما طريقة أخرى في التناسخ؛ وكأنهما مزجا كلام التناسخية، والفلاسفة، والمعتزلة ببعضها البعض.
البشرية أصحاب بشر بن المعتمر، كان من أفضل علماء المعتزلة. وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه. وانفرد عن أصحابه بمسائل ست: الأولى منها: أنه زعم أن اللون، والطعم، والرائحة، ز الإدراكات كلها: من السمع، والرؤية... يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد، إذا كانت أسبابها من فعله، وإنما أخذ هذا من الطبيعيين؛ إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة، وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين. وقوة الفعل، وقوة الانفعال: غير القدرة التي يثبتها المتكلم.

الثانية: قوله: إن الاستطاعة: هي سلامة البنية، وصحة الجوارح، وتخليتها من الآفات؛ وقال: لا أقول يفعل بها في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية، لكني أقول: الإنسان يفعل، والفعل لا يكون إلا في الثانية.
الثالثة: قوله: إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل، ولو فعل ذلك كان ظالما إياه؛ إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه؛ بل يقال: لو فعل ذلك كان الطفل: بالغاً، عاقلاً، عاصياً بمعصية ارتكبها، مستحقاً للعقاب؛ وهذا كلام متناقض.
الرابعة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة الله تعالى: فعل من أفعاله، وهي على وجهين: صفة ذات وصفة فعل: فأما صفة الذات؛ فهي: أن الله تعالى لم يزل مريداً لجميع أفعاله، ولجميع الطاعات من عباده؛ فإنه حكيم، ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحاً وخيراً، ولا يريده. وأما صفة الفعل؛ فإن أراد بها فعل نفسه في حال إحداثه؛ فهي خلقه له، وهي قبل الخلق؛ لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه، وإن أراد بها فعل عباده؛ فهي: الأمر به.
الخامسة: قال إن عند الله تعالى لطفاً لو أتى به، لآمن جميع من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب؛ استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده، وأكثر منه؛ وليس على الله تعالى أن يفعل ذلك بعباده. ولا يجب عليه رعاية الأصلح؛ لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح؛ فما من أصلح إلا وفوقه أصلح، وإنما عليه أن يمكن العبد القدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة. والمفكر قبل ورود السمع، يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال وإذا كان مختارا ًفي فعله فيستغني عن الخاطرين؛ لأن الخاطرين لا يكونان من قبل الله تعالى؛ وإنما هما من قبل الشيطان، والمفكر الأول لم يتقدمه شيطان يخطر الشك بباله، ولو تقدم، فالكلام في الشيطان كالكلام فيه.
السادسة: قال: من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى؛ فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود.
المعمرية أصحاب معمر بن عباد السلمى، وهو من أعظم القدرية فرية: في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: أنه قال: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام؛ فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام: إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس والحرارة، والقمر التلوين؛ وإما اختياراً؛ كالحيوان يحدث الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق. ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان؛ فكيف يقول: إنها من فعل الأجسام؟ وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضاً فلم يحدث الجسم وفناءه؟ فإن الحدوث عرض؛ فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلاً. ثم ألزم: أن كلام الباري تعالى: إما عرض، أو جسم. فإن قال: هو عرض، فقد أحدثه الباري تعالى؛ فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام، أو ما يلزمه: أن لا يكون لله تعالى كلام هو عرض؛ وإن قال هو جسم؛ فقد أبطل قوله: إنه أحدثه في محل؛ فإن الجسم لا يقوم بالجسم؛ فإذا لم يقل هو بإثبات الأزلية، ولا قال بخلق الأعراض؛ فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه. وإذا لم يكن له كلام لم يكن له آمراً ناهياً، وإذا لم يكن أمر ونهي لم تكن شريعة أصلاً؛ فأدى واهبه إلى خزي عظيم.
ومنها: أنه قال: إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع. وقال كل عرض قام بمحل، فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام؛ وذلك يؤدي إلى التسلسل. وعن هذه المسألة هو وأصحابه: أصحاب المعاني. وزاد على ذلك؛ فقال: الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها؛ بل بمعنى أوجب المخالفة؛ وكذلك مغايرة: المثل، ومماثلته، وتضاد الضد الضد؛ كل ذلك عنده بمعنى.

ومنها: ما حكى الكعبي عنه: أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله، وغير خلقه للشيء، وغير: الأمر، والأخبار، والحكم؛ فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف. وقال: ليس للإنسان فعل سوى الإرادة: مباشرة كانت ، أو توليداً؛ وأفعاله التكليفية: من القيام، والقعود، والحركة، والسكون؛ في الخير والشر.. كلها مستندة إلى إرادته، لا على طريق المباشرة، ولا على طريق التوليد؛ وهذا عجب، غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان. وعنده: الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد؛ وهو: عالم، قادر، مختار، حكيم، ليس بمتحرك، ولا ساكن، ولا متكون، ولا متمكن، ولا يرى، ولا يمس، ولا يحس، ولا يجس، ولا يحل موضعاً دون موضع، ولا يحويه مكان، ولا يحصره زمان؛ لكنه مدبر للجسد، وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف. وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة؛ حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمراً ما؛ هو جوهر قائم بنفسه: لا متحيز، ولا متمكن؛ وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية، مثل العقول المفارقة. ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنساناً، وبين القالب الذي هو جسده؛ فقال: فعل النفس هو الإرادة فحسب ، النفس إنسان؛ ففعل الإنسان هو لإرادة وما سوى ذلك: من الحركات، والسكنات، والاعتمادات - فهي من فعل الجسد.
ومنها: أنه كان ينكر القول: بأن الله تعالى قديم لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم؛ وهو فعل، كقولك: أخذ منه ما قدم وما حدث. وقال أيضاً: هو يشعر بالتقادم الزماني، ووجود الباري تعالى ليس زماني. ويحكى عنه أيضاً: أنه قال: الخلق غير المخلوق، والإحداث غير المحدث. وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال: إن الله تعالى محال أن يعرف نفسه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون العالم والمعلوم واحداً، ومحال أن يعلم غيره؛ كما يقال: محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود. ولعل هذا النقل فيه خلل؛ فإن عاقلاً ما، لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير المعقول.
لعمري! لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة؛ ومن مذهبهم: أنه ليس علم الباري تعالى علماً انفعالياً، أي تابعاً للمعلوم، بل علمه علم فعلي؛ فهو من حيث هو فاعل، وعلمه هو الذي أوجب الفعل، وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة، ولا يجوز تعلقه المعدوم على استمرار عدمه وانه علم وعقل وكونه: عقلاً، وعاقلاً، ومعقولاً، شيء واحد؛ فقال ابن عباد: لا يقال: يعلم نفسه؛ لأنه يؤدي إلى تمايز بين العالم والمعلوم، ولا يعلم غيره؛ لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل. فإما لا يصح النقل، وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل. ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجهاً.
المزدارية أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بابي موسى، الملقب بالمرداد. وقد تلمذ لبشر بن المعتمر، وأخذ العلم منه، وتزهد؛ ويسمى راهب المعتزلة. وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل: الأولى منها: قوله في القدر: إن الله تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم، ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً وظالماً؛ تعالى الله عن قوله.
والثانية قوله في التولد: مثل قول أستاذه، وزاد عليه: بأن جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد.
والثالثة قوله في القرآن: إن الناس قادرون على فعل القرآن: فصاحة، ونظما؛ وبلاغة وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن، وكفر من قال بقدمه؛ بأنه قد أثبت قديمين. وكفر أيضاً من لابس السلطان؛ وزعم أنه لا يرث ولا يورث، وكفر أيضاً من قال: إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، ومن قال: إنه يرى بالأبصار، وغلا في التكفير حتى قال: هم كافرون في قولهم: لا إله إلا الله. وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً، فكفرهم؛ فأقبل عليه إبراهيم وقال: الجنة التي عرضها السموات والأرض، لا يدخلها إلا أنت، وثلاثة وافقوك؟! فخزي، ولم يحر جواباً. وقد تلمذ له أيضاً: الجعفران، وأبو زفر، ومحمد بن سويد. وصحب: أبو جعفر محمد ابن عبد الله الإسكافي وعيسى ابن الهيثم: جعفر بن حرب الأشج. وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا: إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن ينقل؛ إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة، وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ؛ وذلك فعلنا وخلقنا.
قال: وهو الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن.

وقالا في تحسين العقل وتقبيحه: إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع؛ وعليه أن يعلم أنه قصر، ولم يعرفه، ولم يشكره: عاقبه عقوبة دائمة؛ فأثبت التخليد واجباً بالعقل.
الثمامية أصحاب ثمامة بن أشرس النميري؛ كان جامعاً بين سخافة الدين، وخلاعة النفس؛ مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: قوله: إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ إذ م يمكنها إضافتها إلى فاعل أسبابها، حتى يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت؛ مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده. ولم يمكنه إضافتها إلى الله تعالى؛ لأنه يؤدي إلى فعل القبيح، وذلك محال. فتحير فيه، وقال: المتولدات أفعال لا فاعل لها.
ومنها: قوله في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية: إنهم يصيرون في القيامة تراباً؛ وكذلك قوله في البهائم والطيور، وأطفال المؤمنين.
ومنها: قوله: الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح، وتخليتها من الآفات؛ وهي قبل الفعل.
ومنها: قوله: إن المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات.
ومنها: قوله في تحسين العقل وتقبيحه وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع: مثل قول أصحابه؛ غير أنه زاد عليهم؛ فقال: من الكفار من لا يعلم خالقه، وهو معذور. وقال: إن المعارف كلها ضرورية وإن من لم يضطر إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فليس هو مأموراً بها، وإنما خلق للعبرة والسخرة؛ كسائر الحيوان.
ومنها: قوله: لا فعل للإنسان إلا الإرادة، وماعداها فهو حدث لا محدث له. وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال: العالم فعل الله تعالى بطباعه، ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة: من الإيجاب بالذات ، دون الفلاسفة من القول بقدم العالم؛ إذ الموجب لا ينفك عن الموجب. وكان ثمامة في أيام المأمون ، وكان عنده بمكان.
الهشامية أصحاب هشام بن عمرو الفوطي. ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة أصحابه. وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى، وإن ورد بها التنزيل.
منها قوله: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم؛ وقد ورد في التنزيل: " ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " .
ومنها قوله: إن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين، ولا يزينه في قلوبهم؛ وقد قال تعالى: " حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " . ومبالغته في نفي إضافات: الطبع والختم والسد، وأمثالها - أشد وأصعب؛ وقد ورد بجميعها التنزيل؛ قال الله تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " . وقال: " بل طبع الله عليهم بكفرهم " . وقال: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً " . وليت شعري! ما يعتقده الرجل؟ إنكار ألفاظ التنزيل، وكونها وحياً من الله تعالى؟ فبكون تصريحاً بالكفر! أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعال، ووجوب تأويلها؟ وذلك عين مذهب أصحابه؟ ومن بدعه في الدلالة على الباري تعالى، قوله: إن الأعراض لا تدل على كونه خالقاً، ولا تصلح الأعراض دلالات؛ بل الأجسام تدل على كونه خالقاً. وهذا أيضاً عجب.
ومن بدعه في الإمامة، قوله: إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس، وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة. وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول: الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم. وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه إذ كانت البيعة في أيام الفتنة، من غير اتفاق من جميع أصحابه؛ إذ بقى في كل طرف طائفة على خلافة.

ومن بدعه: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن؛ إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع ويتضرر بهما، وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة. وكان يقول بالموافاة، وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت. وقال: من أطاع الله جميع عمره، وقد علم الله أنه يأتي بما يحبط أعماله، ولو بكبيرة لم يكن مستحقاً للوعد؛ وكذلك على العكس. وصاحبه عباد من المعتزلة وكان يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى خلق الكافر؛ لأن الكافر: كفر، وإنسان؛ والله تعالى لا يخلق الكفر. وقال النبوة جزاء على عمل، وإنها باقية ما بقيت الدنيا. وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم: أنه لا يقال: إن الله تعالى لم يزل قائلاً، ولا غير قائل. ووافقه الإسكافي على ذلك. قالا: ولا يسمى متكلماً. وكان الفوطي يقول: إن الأشياء قبل كونها: معدومة؛ وليست أشياء، وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء. ولهذا المعنى كان يمنع القول: بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها؛ فإنها لا تسمى أشياء. قال: وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه، وأخذ أموالهم غصباً وسرقة ؛ لاعتقاده كفرهم، واستباحة دمائهم وأموالهم.
الجاحظية أصحاب عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ. كان من فضلاء المعتزلة، والمصنفين لهم؛ وقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة، وخلط وروج كثير أمن مقالاتهم بعباراته البليغة، وحسن براعته اللطيفة. وكان في أيام المعتصم والمتوكل. وانفرد عن أصحابه بمسائل: منها: قوله: إن المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعاً؛ كما قال ثمامة. ونقل عنه أيضاً: أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنساً من الأعراض؛ فقال: إذا انتهى السهو عن الفاعل، وكان عالماً بما يفعله، فهو المريد على التحقيق، وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير، فهو ميل النفس إليه. وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام، كما قال الطبيعيون من الفلاسفة، وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها. وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدل، والجواهر لا يجوز أن تفنى ومنها: قوله في أهل النار: إنهم لا يخلدون فيها عذاباً، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: البار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها. ومذهبه: مذهب الفلاسفة في نفي الصفات، وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد: مذهب المعتزلة. وحكى الكعبي عنه أنه قال: يوصف الباري تعالى بأنه مريد، بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ، ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر.
وقال: إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم، وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي؛ وهم محجوجون بمعرفتهم. ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد، وجاهل به؛ فالجاهل معذور، والعالم محجوج. ومن انتحل دين الإسلام؛ فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار، وهو عدل لا يجوز ولا يريد المعاصي، وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله؛ فهو مسلم حقاً. وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله، واعتقد أن الله تعالى ربه، وان محمداً رسول الله؛ فهو مؤمن لا لوم عليه، ولا تكليف عليه غير ذلك. وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال: إن للقرآن جسداً يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً؛ وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم: أن القرآن جسم مخلوق. وأنكر الأعراض أصلاً، وأنكر صفات الباري تعالى. ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة؛ إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم، أكثر من الإلهيين.
الخياطية والكعبية أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي، وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد، إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئاً؛ وقال: الشيء ما يعلم ويخبر عنه، والجوهر جوهر في العدم، والعرض عرض في العدم، وكذلك أطلق جميع أسماء الأجناس والأصناف، حتى قال: السواد سواد في العدم؛ فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قال أصحابه؛ وكذا القول في القدر، والسمع، والعقل. وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل:

منها: قوله: إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته، ولا هو مريد لذاته، ولا إرادته حادثة في محل أو في لا محل؛ بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه: عالم، قادر، غير مكره في فعله، ولا كاره. ثم إذا قيل: هو مريد لأفعال عباده؛ فالمراد به: أنه آمر بها، راض عنها. وقوله في كونه سميعاً بصيرا ًراجع إلى ذلك أيضاً؛ فهو سميع بمعنى أنه: عالم بالمسموعات، وبصير بمعنى انه: عالم بالمبصرات. وقوله في الرؤية، كقول أصحابه: نفياً، وإحالة؛ غير أن أصحابه قالوا: يرى الباري تعالى ذاته، ويرى المرئيات؛ وكونه مدركاً لذلك زائد على كونه عالماً. وقد أنكر الكعبي ذلك؛ قال: معنى قولنا: يرى ذاته، ويرى المرئيات: أنه عالم بها فقط.
الجبائية والبهشمية أصحاب أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة. انفردا عن أصحابهما بمسائل، وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما: فمنها: أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل؛ يكون الباري تعالى بها موصوفا مريداً، وتعظيماً لا في محل؛ إذا أراد أن يعظم ذاته، وفناء لا في محل؛ إذا أراد أن يفني العالم. وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع غليه؛ من حيث إنه تعالى أيضاً لا في محل. وإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم الأعراض لا محل لها؛ كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها، وذلك قريب من مذهب الفلاسفة؛ حيث أثبتوا عقلاً هو جوهر لا في محل ولا في مكان، وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة.
ومنها: أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل، وحقيقة الكلام عندهما: أصوات مقطعة، وحروف منظومة؛ والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام. إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصاً بقوله: يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة؛ وذلك حين ألزم: أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله، والمسموع منه ليس من كلام الله؛ فالتزم هذا المحال: من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع، وهو إثبات كلامين في محل واحد.
واتفقا على: نفي رؤية الله تعالى في بالأبصار في دار القرار، وعلى القول إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً، وإضافة الخير الشر والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً، وان الاستطاعة قبل الفل؛ وهي: قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح، وأثبتا البنية شرطاً في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة، وأثبتا شريعة عقلية؛ وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر، وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي؛ إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع. والإيمان عندهما اسم مدح؛ وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها: مؤمناً، ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقاً: لا مؤمناً ؛ ولا كافراً، وإن لم يتب ومات عليها؛ فهو مخلد في النار. واتفقا على أن الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة؛ من الصلاح والأصح واللطف؛ لأنه: قادر، عالم، جواد، حكيم: لا يضره الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد في ملكه الادخار. وليس الأصلح هو الألذ؛ بل هو: الأعود في العاقبة، والأصوب في العاجلة؛ وإن كان ذلك مؤلماً ومكروهاً؛ وذلك: كالحجامة والفصد وشرب الأدوية، ولا يقال: إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده. والتكاليف كلها ألطاف، وبعثة الأنبياء؛ وشرع الشرائع؛ وتمهيد الأحكام؛ والتنبيه على الطريق الأصوب... كلها ألطاف.

ومما تخالفا فيه: أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي: الباري تعالى عالم لذاته؛ قادر حي.. لذاته، ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالماً صفة هي: علم أو حال توجب كونه عالماً. وعند أبي هاشم: هو عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها؛ فأثبت أحوالاً هي صفات: لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة؛ أي: هي على حيا لهالا تعرف كذلك بل مع الذات. قال والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة؛ فليس منم عرف الذات عرف كونه عالماً، ولا من عرف الجوهر عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلاً للعرض. ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية وافترقتا في قضية، وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به، وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل، وهي لا ترجع إلى الذات ولا إلى أعراض وراء الذات، فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض؛ فتعين بالضرورة أنها أحوال فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتاً؛ أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات؛ وكذلك كونه: قادراً، حياً... ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال. وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك، وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس؛ وقالوا: أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً، وتفترق في خصائص؟ كذلك نقول في الصفات؛ وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال، ويفضي إلى التسلسل... بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ؛ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير؛ فإن ذلك مستحيل. أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية، هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق، وتلك الوجوه: كالنسب، والإضافات، والقرب، والبعد، وغير ذلك؛ مما لا يعد صفات بالاتفاق. وهذا هو اختيار أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري.
ورتبوا على هذه المسألة: مسألة أن المعدوم شيء، فمن يثبت كونه شيئاً، كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة، فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجوداً؛ فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثراً ما سوى الوجود. والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد، وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم، وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئاً، ولا يسميه بصفات الأجناس. وعند الجبائي: أخص وصف الباري تعالى هو القدم، والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم. وليت شعري! كيف يمكن إثباته: الاشتراك، الافتراق، والعموم والخصوص - حقيقة؛ وهو من نفاة الأحوال؟ فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد؛ غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته رجع إلى نفي الأولية؛ والنفي يستحيل أن يكون أخص وصف الباري.
واختلفا في كونه سميعاً بصيراً؛ فقال الجبائي: معنى كونه سميعاً بصيراً: أنه حي لا آفة به.

وخالفه ابنه وسائر أصحابه: أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعاً حالة وكزنه بصيراً حالة، وكونه بصيراً حالة سوى كونه عالماً؛ لاختلاف: القضيتين، والمفهومين، والمتعلقين، والأثرين. وقال غيره من أصحابه: معناه كونه مدركا للمبصرات، مدركاً للمسموعات. واختلفا أيضاً في بعض مسائل اللطف؛ فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته، ولو أمن بلا لطف لكان ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف؛ ويقول: إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسداً حاله، غير مزيح لعلته. ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة؛ قال: يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق لا وجهين؛ بلا لطف. واختلفا في فعل الألم للعوض؛ فقال الجبائي: يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض والاعتبار جميعاً. وتفصيل مذهب الجبائي في الأعواض على وجهين: أحدهما أنه يقول: يجوز التفضل بمثل الأعواض؛ غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم. والوجه الثاني: أنه إنما يحسن ذلك؛ لأن العوض مستحق، والتفضل غير مستحق. والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين: أحدهما: تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم، والثاني: قدر زائد على التفضل؛ فلم يجب إذاً إجراء العوض مجرى الثواب؛ لأنه لا يتميز عن التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة. وقال ابنه: يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلاً، والعوض منقطع غير دائم. وقال الجبائي: يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه؛ إذا لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به.
وزعم أبو هاشم: أن التفضل لا يقع به نتصاف؛ لأن التفضل ليس يجب عليه فعله. وقال الجبائي وابنه: لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلاً وشرعاً؛ فأما إذا كلفهم: فعل الواجب في عقولهم، واجتناب القبائح، وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن، وركب فيهم الأخلاق الذميمة؛ فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل، ونصب الأدلة، والقدرة والاستطاعة، وتهيئة الآلة؛ بحيث يكون مزيحاً لعللهم فيما أمرهم.
ويجب عليه أن يفعل بهم: أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به، وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل.
وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين؛ فإن مكن شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج.
والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة؛ غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء: من الصحابة، وغيرهم. ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب: كبائرها، وصغائرها، حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب؛ إلا على تأويل. والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا أدلة الشيوخ، واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال وافرد عنهم بمسائل: منها نفي الحال، ومنها نفي المعدوم شيئاً، ومنها نفي الألوان أعراضاً، ومنها قوله: كلها إلى كون الباري تعالى: عالماً، قادرا، مدركاً. وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها. والرجل فلسفي المذهب؛ إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم؛ لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب.
الباب الثاني
الجبرية
الجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى، والجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، والجبرية المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً؛ فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في لفعل، وسمى ذلك كسباً؛ فليس بجبري.
والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإبداع والإحداث استقلالاً: جبرياً، ويلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها: جبرياً؛ إذ لم يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثراً. والمصنفون في المقالات عدوا النجارية والضرارية: من الجبرية؛ وكذلك جماعة الكلابية: من الصفاتية. والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية. ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية فعددناهم من الجبرية، ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية.
الجهمية

أصحاب جهم بن صفوان، وهو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية: وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وزاد عليهم بأشياء: منها قوله: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك يقضي تشبيهاً؛ فنفى كونه: حياً، عالماً؛ وأثبت كونه: قادراً، فاعلاً، خالقاً؛ لأنه لا يوصف شيء من خلقه: بالقدرة ، والفعل، والخلق.
ومنها لإثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل؛ قال: لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه؛ لأنه لو علم ثم خلق! أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق؟ فإن بقى فهو جهل؛ فإن العلم بأن سيوجد، غير العلم بأن قد وجد، وإن لم يبق فقد تغير؛ والمتغير مخلوق ليس بقديم. ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم كما تقرر؛ قال: وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو: إما أن يحدث في ذاته تعالى؛ وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته؛ وأن يكون محلاً للحوادث، وإما أ، يحدث في محل؛ فيكون المحل موصوفا به؛ لا الباري تعالى... فتعين أنه لا محل له؛ فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة.
ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة؛ وإنما هو مجبور في أفعاله: لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً، كما تنسب إلى الجمادات؛ كما يقال: أثمرت الأشجار، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض وأنبتت... إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر؛ قال: وإذا ثبت الجبر، فالتكليف أيضاً كان جبراً. ومنها قوله: إن حركات أهل الخلدين تنقطع، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بحميمها، إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً، كما لا تتصور حركات حركات لا تتناهى أولاً؛ وحمل قوله تعالى: خالدين فيها على المبالغة والتأكيد، دون الحقيقة في التخليد؛ كما يقول: خلد الله ملك فلان، واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى: " خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " . فالآية اشتملت على شريطة واستثناء. والخلود والتأييد لا شرط فيه ولا استثناء.
ومنها قوله: من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزلان بالجحد؛ فهو مؤمن، قال: ولا يتفاضل أهله فيه؛ فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل. وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه. ونسبته إلى التعطيل المحض. وهو أيضاً موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام، وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع.
النجارية أصحاب الحسين بن محمد النجار وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه، وهم وإن اختلفوا أصنافاّ، غلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها أصولاً؛ وهم برغوثية وزعفرانية ومستدركة؛ وافقوا المعتزلة في نفي الصفات: من العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر؛ ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال.
قال النجار: الباري تعالى مريد لنفسه، كما هو عالم لنفسه؛ فألزم عموم التعلق، فالتزم؛ وقال: هو مريد الخير والشر، والنفع والضر. وقال أيضاً: معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب. وقال: هو خالق أعمال العباد: خيرها وشرها، حسنها وقبيحها؛ والعبد مكتسب لها. وأثبت تأثيراً للقدرة الحادثة، وسمى ذلك كسباً؛ على حسب ما يثبته الأشعري، ووافقه أيضاً في أن الاستطاعة مع الفعل. وأما في مسألة الرؤية؛ فأنكر رؤية الله تعالى بالأبصار، وأحالها؛ غير أنه قال: يجوز أن يحول الله تعالى القوة التي في القلب - من المعرفة - إلى العين، فيعرف الله تعالى بها؛ فيكون ذلك رؤية.
وقال بحدوث الكلام؛ لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء : منها قوله: إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض، وإذا كتب فهو جسم. ومن العجب أن الزعفرانية قالت: كلام الله عيره ، وكل ما هو غيره ح فهو مخلوق، ومع ذلك قالت: كل من قال: إن القرآن مخلوق؛ فهو كافر، ولعلهم أرادوا بذلك: الاختلاف؛ وإلا فالتناقض ظاهر. والمستدركة منهم زعموا: أن كلامه غيره وهو مخلوق؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلام الله غير مخلوق "

والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة؛ فوافقناهم، وحملنا قولهم غير مخلوق أي: على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات؛ بل هو مخلوق غير هذه الحروف بعينها؛ وهذه حكاية عنها. وحكى الكعبي عن النجار أنه قال: الباري تعالى بكل مكان ذاتاً وموجوداً لا على معنى العلم والقدرة؛ وأزمة محالات على ذلك.
وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة: أنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال.
وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك، ويجب أن يخرج من النار؛ فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود.
ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث وبشر بن غياث المريسي والحسين النجار: متقاربون في المذهب. وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريداً - لم يزل - لكل ما علم أنه سيحدث من: خير وشر، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية. وعامة المعتزلة يأبون ذلك.
الضرارية أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد واتفقا: في التعطيل، وعلى أنهما قالا: الباري تعالى قادر، على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز. وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو؛ وقالا: إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمه الله وجماعة من أصحابه، وأرادا بذلك: أنه يعلم نفسه شهادة، لا بدليل ولا خبرن ونحن نعلمه بدليل وخبر. وأثبتا حاسة سادسة للإنسان، يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة. وقالا: أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة؛ والعبد مكتسبها حقيقة، وجوزاً حصول فعل بين فاعلين.
وقالا: يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساماً، والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة؛ بنفي زمانين. وقالا: الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإجماع فقط؛ فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد؛ فغير مقبول. ويحكى عن ضرار: ،ه كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود وحرف أبي بن كعب؛ ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله.
وقال في المفكر قبل ورود السمع: إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول؛ فيأمره وينهاه، ولا يجب على لله تعالى شيء بحكم العقل. وزعم ضرار أيضاً: أن الإمامة تصلح في غير قريش حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً، وأضعف وسيلة، فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة. والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش، إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي.
الباب الثالث
الصفاتية

أعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام والجود، والإنعام، والعزة، والعظمة؛ ولا يفرقون بين صفات الذات، وصفات الفعل؛ بل يسوقون الكلام سوقا واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية؛ مثل: اليدين، والوجه؛ ولا يؤولون ذلك؛ إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها: صفات خبرية. ولم كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون؛ سمى السلف: صفاتية، والمعتزلة: معطلة؛ فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر فافترقوا فيه فرقتين؛ فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم من توقف في التأويل؛ وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك؛ إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه؛ مثل قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " ومثل قوله: " خلقت بيدي " ومثل قوله: " وجاء ربك إلى غير ذلك " ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه: لا شريك له، وليس كمثله شيء؛ وذلك قد أثبتناه يقيناً. ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف؛ فقالوا: لابد من إجرائها على ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر؛ فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما أعتقده السلف. ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود، لا في كلهم، بل في القرائين منهم؛ إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك. ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير: أما الغلو؛ فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس، وأما التقصير؛ فتشبيه الغلة بواحد من الخلق. ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير، ووقعت في الاعتزال، وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر؛ فوقعت في التشبيه.
وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل، ولا تهدفوا للتشبيه؛ فمنهم: مالك ابن أنس رضي الله عنهما؛ إذ قال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله. وسفيان الثوري، وداود بن علي الأصفهاني، ومن تابعهم.
حتى انتهى الزمان إلى: عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي؛ وهؤلاء كانوا من جملة السلف؛ إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، وصنف بعضهم ودرس بعض... حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما؛ واحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة. وانتقلت سمة الصفاتية إلى الاشعرية. ولما كانت المشبهة والكرامية: من مثبتي الصفات؛ عددناهم: فرقتين من جملة الصفاتية.
الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه. وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه: فقال عمرو: أين أجد أحداً أحاكم إليه ربي؟ فقال أبو موسى: أنا ذلك المتحاكم إليه، فقال عمرو: أو يقدر على شيئاً ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم، قال عمرو: ولم؟ قال: لا يظلمك، فسكت عمرو ولم يحر جواباً.

قال الأشعري: الإنسان إذا فكر في خلقته: من أي شيء ابتدأ، وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة، وعرف يقيناً: أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، وينقله من درجة إلى درجة، ويرقيه من نقص إلى كمال... علم بالضرورة أن له : صانعاً، قادراً، عالماً، مريداً؛ إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع؛ لظهور آثار الاختيار في الفطرة، وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة، فله صفات دلت أفعاله عليها، لا يمكن جحدها؛ وكما دلت الأفعال على كونه: عالماً، قادراً، مريداً... دلت على: العلم، والقدرة، والإرادة؛ لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهداً وغائباً، وأيضاً لا معنى للعلم حقيقة إلا أنه ذو علم، ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة، ولا للمريد ألا أنه ذو إرادة؛ فيحصل بالعلم والإحكام والإتقان ، ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث، ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت، وقدر دون قدر، وشكل دون شكل. وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حياً بحياة ، للدليل الذي ذكرناه. وألزم منكري الصفات إلزاماً لامحيص لهم عنه؛ وهو: أنكم وافقتمونا - بقيام الدليل - على كونه عالماً قادراً؛ فلا يخلو: إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحداً، أو زائداً؛ فإن كان واحداً، فيجب أن يعلم بقادريته، ويقدر بعالميته، ويكون من علم الذات مطلقاً، علم كونه عالما قادراً، وليس الأمر كذلك؛ فعلم أن الاعتبارين مختلفان؛ فلا يخلو: إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ، أو إلى الحال، أو إلى الصفة. وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد؛ فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين، ولو قدر عدم الألفاظ رأساً ما ارتاب العقل فيما تصوره. وبطل رجوعه إلى الحال؛ فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين: الوجود والعدم، والإثبات والنفي؛ وذلك محال. فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات؛ وذلك: مذهبه.
على أن القاضي أبا بكر الباقلاني، من أصحاب الأشعري، قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها، وتقرر رأيه على الإثبات، ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به؛ لا أحوالاً. وقال: الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة: خصوصاً إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات.
قال أبو الحسن: الباري تعالى: عالم بعلم قادر بقدرة، حي بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر؛ وله في البقاء اختلاف رأي.
قال: وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال: هي هو، ولا: هي غيره، ولا: لا هو، ولا: لا غيره. والدليل على أنه متكلم بكلام قديم، ومريد بإرادة قديمة: أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك، والملك من له الأمر والنهي، فهو آمر نله؛ فلا يخلو: إما أن يكون آمراً بأمر قديم، أو بأمر محدث؛ وإن كان محدثاً فلا يخلو: إما أن يحدثه في ذاته، أو في محل ، أو لا في محل. ويستحيل أن يحدثه في ذاته؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث؛ وذلك محال، ويستحيل أن يحدثه في محل، لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفاً، ويستحيل أن يحدثه لا في محل؛ لان ذلك غير معقول، فتعين أنه: قديم، قائم به، صفة له. وكذلك التقسيم في الغدارة، والسمع، والبصر. قال: وعلمه واحد؛ يتعلق بجميع المعلومات: المستحيل، والجائز، والواجب، والموجود، والمعدوم. وقدرته واحدة؛ تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات. وإرادته واحدة؛ تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص. وكلامه واحد هو: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، ووعد، ووعيد؛ وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات. والألفاظ المذلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلي. والفرق بين القراءة والمقروء، والتلاوة والمتلو: كالفرق بين الذكر والمذكور؛ فالذكر محدث، والمذكور قديم. وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية؛ إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة.

والكلام عند الأشعري: معنى قائم بالنفس سوى العبارة، والعبارة دلالة عليه من الإنسان؛ فالمتكلم عنده من قام بالكلام، وعند المعتزلة من فعل الكلام؛ غير أن العبارة تسمى كلاماً: إما بالمجاز، وإما باشتراك اللفظ. قال: وإرادته: واحدة، قديمة، أزلية، متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة، وأفعال عباده؛ من حيث إنها مخلوقة له، لا من حيث أنها مكتسبة لهم؛ فعن هذا قال: أراد الجميع خيرها، وشرها، ونفعها، وضرها؛ وكما أراد وعلم، أراد من العباد ما علم؛ وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ؛ فذلك حكمه، وقضاؤه، وقدره، الذي لا يتغير ولا يتبدل. وخلاف المعلوم: مقدور الجنس، محال الوقوع.
وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه؛ للعلة التي ذكرناها؛ ولأن الاستطاعة عنده عرض، والعرض لا يبقى زمانين: ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادراً؛ لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به. فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلاً على الفعل فمحال، إذ الإنسان يجد في نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة. والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال: المكتسب، هو المقدور بالقدرة الحاصلة، والحاصل تحت القدرة الحادثة.
ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث؛ لأن جهة الحدوث قضية واحدة، لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث، لأثرت في حدوث كل محدث؛ حتى تصلح لإحداث: الألوان، والطعوم، والروائح؛ وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام؛ فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة. غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل؛ إذا أراده العبد، وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً؛ فيكون خلقاً من الله تعالى: إتباعاً وإحداثا، وكسبا من العبد: حصولاً تحت قدرته.
والقاضي أبي بكر الباقلاني تحظى عن هذا القدر قليلاً؛ فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد؛ لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط؛ بل ههنا وجوه أخر، هن وراء الحدوث؛ من كون الجوهر: متحيزاً، قابلاً للعرض؛ ومن كون العرض، عرضاً ولوناً، وسواداً... وغير ذلك، وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال. قال: فجهة كون الفعل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة. ويسمى ذلك: كسباً؛ وذلك هو أثر القدرة الحادثة. قال: وإذا جاز على أصل المعتزلة: أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال: هو الحدوث والوجود، أو في وجه منن وجوه الفعل؛ فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال: هو صفة للحادث، أو في وجه من وجوه الفعل؛ وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة؟ وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقاً ومن العرض مطلقاً، غير المفهوم من القيام والقعود، وهما حالتان متمايزتان؛ فإن كل قيام حركة، وليس كل حركة قياماً. ومن المعلوم: أن الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا: أوجد، وبين قولنا: صلى؛ وصام، وقعد، وقام. وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد، فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى؛ فأثبت القاضي تأثيرً للقدرة الحادثة. وأثرها: هي الحالة الخاصة؛ وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل، وتلك الجهة هي المعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب؛ فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب، خصوصا على أصل المعتزلة؛ فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان مراء الوجود؛ فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح. قال: فإذا جاز لكم إثبات صفتين: هما حالتان. جاز إثبات حالة: هي متعلق القدرة الحادثة. ومن قال: هي حالة مجهولة؛ فبينا بقدر الإمكان جهتها، وعرفناها آي هي ومثلناها كيف هي.

ثم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلاً؛ قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة؛ فمما يأباه العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه؛ فهو كنفي القدرة أصلاً، وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل؛ فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم... فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث والخلق؛ فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر؛ تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر... حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب؛ فهو : الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغني عن الإطلاق؛ فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق، الذي لا حاجة له ولا فقر. وهذا الرأي إنما أخذ من الحكماء الإلهيين، وأبرزه في معرض الكلام. وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة؛ بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه. وحينئذ يلزم القول: بالطبع، وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً. وليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف ورأى المحققين من الحكماء: أن الجسم لا يؤثر فبي إيجاد الجسم؛ قالوا: الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم، ولا عن قوة ما في الجسم؛ فإن الجسم مركب من مادة وصورة، فلو أثر لأثر بجهتيه؛ أعني بمادته وصورته، والمادة لها طبيعة عدمية، فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم، والتالي محال، فالمقدم إذاً محال فنقيضه حق؛ وهو أن الجسم، وقوة ما في الجسم: لا يجوز أن يؤثر في جسم.
وتخطى من هو أشد تحققاً، وأغوص تفكيراً عن الجسم وقوة ما في الجسم إلى كل ما هو جائز بذاته؛ فقال: كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أنن يحدث شيئاً ما؛ فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز، والجواز له طبيعة عدمية، فلو خلى الجائز وذاته كان عدماً، فلو أثر الجواز بمشاركة العدم، لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود؛ وذلك محال. فإذاً لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته، وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود، لا محدثات لحقيقة الجود؛ ولهذا شرح سنذكره. ومن العجب: أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة؛ فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة؟! هذا؛ ونعود إلى كلام صاحب المقالة. قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى، لا يشاركه في الخلق غيره؛ فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع. قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله. وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني: أخص وصفه هو: كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها. وقال بعضهم: نعلم يقيناً: أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما؛ وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية، والباري تعالى موجود، فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص، ولم يرد به سمع؛ فنتوقف، ثم: هل يجوز أن يدركه العقل؟ ففيه خلاف أيضاً. وهذا قريب من مذهب ضرار؛ غير أن ضراراً أطلق لفظ الماهية عليه تعالى؛ وهو من حيث العبارة منكر. ومن مذهب الأشعري: أن كل موجود يصح أن يرى: فإن المصحح للرؤية إنما هو موجود والباري تعالى موجود؛ فيصح أن يرى، وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة؛ قال الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها... إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. قال: ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على: جهة، ومكان، وصورة، ومقابلة، واتصال شعاع، أو على سبيل انطباع؛ فإن كل ذلك مستحيل. وله قولان في ماهية الرؤية: أحدهما: أنه علم مخصوص، ويعني بالخصوص؛ أنه متعلق بالوجود دون العدم، والثاني: أنه إدراك وراء العلم؛ لا يقتضي تأثيراً في المدرك، ولا تأثراً عنه. وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان؛ هما إدراكان وراء العلم، يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية؛ فيقول: ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد.

وصاغوه إلى طريقة السلف؛ من نرك التعرض للتأويل، وله قول أيضاً في جواز التأويل. ومذهبه في الوعد والوعيد، والأسماء والأحكام، والسمع والعقل: مخالف للمعتزلة من كل وجه. قال: الإيمان هو التصديق بالجنان، وأما القول باللسان، والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدق بالقلب؛ أي: أقر بوحدانية الله تعالى، واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك. وصاحب الكبيرة: إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى: إما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " . وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته، ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار؛ لما ورد به السمع: بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. قال: ولو تاب فلا أقول: بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل؛ إذ هو الموجب، فلا يجب عليه شيء؛ بلى: ورود السمع بقبول توبة التائبين، وإجابة دعوة المضطرين. وهو المالك في خلقه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم في الجنة لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً؛ إذ الظلم هو: التصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه؛ وهو المالك المطلق، فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور. قال: والواجبات كلها سمعية، والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسينا ًو لا تقبيحاً؛ فمعرفة الله تعالى: بالعقل تحصل، وبالسمع: تجب؛ قال الله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " . وكذلك: شكر المنعم، وإثابة المطيع، وعقاب العاصي؛ يجب بالسمع دون العقل. ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل: لا الصلاح، ولا أصلح، ولا اللطف. وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة؛ فيقتضي نقيضه من وجه آخر. وأصل التكليف لم يكن واجباً على الله تعالى؛ إذ لم يرجع إليه نفع، ولا اندفع به عنه ضر. وهو قادر على مجازاة العبيد: ثواباً، وعقاباً؛ وقادر على الإفضال عليهم ابتداء: تكرماً، وتفضلاً. والثواب، والنعيم، واللطف؛ كله منه فضل، والعقاب، والعذاب،؛ كله عدل: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " . وإبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة؛ ولكن بعد الانبعاث تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات؛ إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه، ليعرف به صدق المدعي، ولا بد من إزاحة العلل؛ فلا يقع في التكليف تناقض.
والمعجزة: فعل خارق للعادة، مقترن بالتحدي، سليم عن المعارضة، يتنزل منزلة التصديق بالقول، من حيث القرينة؛ وهو منقسم إلى خرق المعتاد، وإلى إثبات غير المعتاد. والكرامات للأولياء حق؛ وهو من وجه: تصديق للأنبياء، وتأكيد للمعجزات.
والإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى، والكفر والمعصية بخذلانه؛ والتوفيق عنده: خلق القدرة على الطاعة، والخذلان عنده: خلق القدرة على المعصية. وعند بعض أصحابه: تيسير أسباب الخير هو التوفيق، وبضده الخذلان. وما ورد به السمع من الأخبار عن الأمور الغائبة؛ مثل: القلم، واللوح، والعرش، والكرسي، والجنة، والنار؛ فيجب إجراؤها على ظاهرها، والإيمان بها كما جاءت؛ إذ لا استحالة في إثباتها. وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة؛ مثل سؤال القبر، والثواب والعقاب فيه؛ ومثل: الميزان، والحساب، والصراط، وانقسام الفريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير... حتى؛ يجب الاعتراف بها، وإجراؤها على ظاهرها؛ إذ لا استحالة في وجودها.
والقرآن عنده معجز من حيث: البلاغة، والنظم، والفصاحة؛ إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة. ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن؛ من جهة صرف الدواعي، وهو المنع من المعارضة، ومن جهة الإخبار عن الغيب.

وقال: الإمامة تثبت باتفاق والاختيار، دون النص والتعيين؛ إذ لو كان ثم نص لما خفي، والدواعي تتوفر على نقله. واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه، ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه، واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي الله عنه. واتفقوا بعده على علي رضي الله عنه. وهم مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة.
وقال: لا نقول في عائشة وطلحة والزبير: إلا أنهم رجعوا عن الخطأ، والزبير من العشرة الأوائل المبشرين بالجنة. ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص: إلا أنهما بغيا على الإمام الحق؛ فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي. وأما أهل النهران فهم الشراة المارقون على الدين؛ بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد كان علي رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله؛ يدور الحق معه حيث دار.
المشبهة أعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين، ونصرهم: جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر، وجماعة من خلفاء بني العباس؛ على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن... تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات: آيات الكتاب الحكيم، وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث؛ مثل: مالك بن أنس ومقاتل إ بن سليمان، وسلكوا طريق السلامة؛ فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل؛ بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدوره. وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا: من حرك يده عند قراءة له تعالى: : " خلقت بيدي " ، أو أشار بإصبعيه عند روايته: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن... وجب قطع يده، وقلع إصبعيه. وقالوا: إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها؛ لأمرين: أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: " فأما اللذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب " ؛ فنحن نحترز عن الزيغ.
والثاني: أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز، فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ؛ بل نقول كما قال الراسخون في العلم: كل من عند ربنا: آمنا بظاهره، وصدقنا بباطنه، ووكلنا علمه إلى الله تعالى، ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك؛ إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه. واحتاط بعضهم أكثر احتياط؛ حتى لم يقرأ: اليد بالفارسية ولا الوجه، ولا الاستواء، ولا ما ورد من جنس ذلك. بل إن احتاج في ذكرها إلى عبارة عبر عنها بما ورد: لفظا بلفظ. فهذا هو طريق السلامة، وليس هو من التشبيه في شيء.
غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه؛ مثل: الهشاميين من الشيعة، ومثل: مضر، وكهمس، وجهم الهخيمي وغيرهم من الحشوية؛ قالوا: معبودهم على صورة؛ ذات أعضاء وأبعاض: إما روحانية، وأما جسمانية. ويجوز عليه : الانتقال، والنزول، والصعود، والاستقرار، والتمكن.
فأما مشبهة الشيعة؛ فستأتي مقالاتهم، في باب المغالاة.

وأما مشبهة الحشوية؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى، أنه حكى عن: مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم: الملامسة، والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ز الآخرة؛ إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض. وحكى الكعبي عن بعضهم: أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوروه، ويزورهم. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: إعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقال: إن معبوده: جسم، ولحم، ودم؛ وله جوارح، وأعضاء، من: يد، ورجل، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنين؛ ومع ذلك: جسم لا كالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء؛ وكذلك سائر الصفات وهو: لا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يشبهه شيء. وحكى عنه أنه قال: هو: أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك؛ وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط. وأما ما ورد في التنزيل من: اللإستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجيء، والإتيان، والفوقية... وغير ذلك؛ فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه السلام: " خلق آدم على صورة الرحمن " ، وقوله: " وضع يده أو كفه على كتفي " ، وقوله: " حتى وجدت برد أنامله على كتفي " ... إلى غير ذلك.. اجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام. وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود؛ فإن التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الحل الجديد، وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع. وروى المشبهة عن النبي عليه السلام أنه قال: " لقيني ربي؛ فصافحني، وكافحني، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله " . وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن: إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية؛ وقالوا: لا يعقل كلام بحروف ولا كلم، واستدلوا بأخبار؛ منها ما رووا عن النبي عليه السلام: ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون ورووا: أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل. قالوا: وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله، ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا؛ فنبصره، ونسمعه، ونقرؤه، ونكتبه. والمخالفون في ذلك: أما المعتزلة؛ فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله، وخالفونا في القدم؛ وهم محجوجون بإجماع الأمة. وأما الأشعرية؛ فوافقونا على أن القرآن قديم، وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله؛ وهم محجوجون أيضاً بإجماع الأمة: أن المشار غليه هو كلام الله. فأما إثبات كلام، هو صفة قائمة بذات الباري تعالى: لا نبصرها، ولا نكتبها، ولا نقرؤها، ولا نسمعها؛ فهو مخالفة الإجماع من كل وجه. فنحن نعتقد: أن ما بين الدفتين كلام الله، أنزله على لسان جبريل عليه السلام؛ فهو: المكتوب في المصاحف، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة؛ وذلك معنى قوله تعالى: " سلام قولاً من رب رحيم " ؛ وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام: " يا موسى إني أنا الله رب العالمين " ، ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى: " وكلم الله موسى تكليما " ، وقال: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " . وروى عن النبي علليه السلام أنه قال: " إن الله تعالى كتب التوراة بيده، وخلق جنة عدن بيده، وخلق آدم بيده " . وفي التنزيل: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء. قالوا: فنحن لا نريد من أنفسنا شيئاً، ولا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف؛ قالوا: ما بين الدفتين كلام لله، قلنا: هو كذلك؛ واستشهدوا عليه بقوله تعالى: " وإن أحداً من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ، ومن المعلوم: أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. وقال تعالى: " إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين " .
وقال: " في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة " . وقال: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " . وقال: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " ... إلى غير ذلك من الآيات.

ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية؛ وقال: يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي، وقد تمثل لمريم بشراً سوياً، وعليه حمل قول النبي عليه السلام " رأيت ربي في أحسن صورة " . وفي التوراة عن موسى عليه السلام: شافهت الله تعالى فقال لي: كذا. والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول. ثم الحلول: قد يكون بجزء، وقد يكون بكل؛ على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى.
الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، وإنما عددناه من الصفاتية؛ لأنه كان ممن يثبت الصفات، غلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه. وقد ذكرنا: كيفية خروجه، وانتسابه إلى أهل السنة؛ فيما قدمناه ذكره.
وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة: العابدية والتونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم: الهيصمية. ولكل واحدة منهم رأي؛ إلا أنه لما يصدر ذلك من علماء معتبرين بل عن سفهاء أغتام جاهلين لم نفردها مذهباً، وأوردنا مذهب صاحب المقالة، أشرنا إلى ما يتفرع منه.
نص أبو عبد الله، على أن معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً. وأطلق عليه اسم الجوهر؛ فقال في كتابه المسمى عذاب القبر: إنه إحدى الذات، إحدى الجوهر، وغناه مماس للعرش من الصفحة العليا. وجوز: وقال بعضهم: امتلأ العرش به. وصار المتأخر ون منهم: إلى أنه تعالى بجهة فوق، وأنه محاذ للعرش. ثم اختلفوا: فقالت العابدية: إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به. وقال محمد بن الهيصم: إن ابنه وبين العرش بعداً لا يتناهى، وإنه مباين للعالم بينوية أزلية. ونفى التحيز والمحاذاة، وأثبت الفوقية والمباينة. وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه.
والمقاربون منهم قالوا: نعني بكونه جسماً: أنه قائم بذاته؛ وهذا هو حد الجسم عندهم. وبنوا على هذا أن من حكم القائلين بأنفسهما: أن يكونا متجاورين أو متباينين؛ فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش وحكم بعضهم بالتباين. وربما قالوا: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر وإما أن يكون بجهة منه، والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه؛ فيجب أن يكون بجهة من العالم، ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق؛ فقلنا هو بجهة فوق الذات حتى إذا رئي رئي من تلك الجهة ثم لهم اختلافات في النهاية؛ فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات، ومنهم من أثبت النهاية له من جهة تحت، ومنهم من أنكر النهاية له فقال: هو عظيم. ولهم في معنى العظمة خلاف؛ والعرش تحته وهو فوق كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه، وقال بعضهم: معنى عظمته أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد؛ وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ؛ وهو العلي العظيم. ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى. ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته؛ فإنما يحدث بقدرته، وما يحدث مبايناً لذاته؛ فغنما يحدث بقدرته من الأقوال والإرادات؛ ويعنون بالمحدث: ما باين ذاته من الجواهر والأعراض. ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والإيجاد والموجود والموجد، وكذلك بين الإعدام والمعدوم: فالمخلوق: إنما يصير معدوماً بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة. وزعموا: أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة؛ مثل: الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، والكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام، والقصص، والوعد والوعيد والأحكام؛ ز من ذلك المسمعات والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر. والإيجاد والإعدام: هو القول بالإرادة؛ وذلك قوله: كن للشيء الذي يريد كونه. وإرادته لوجود ذلك الشيء؛ وقوله للشيء كن صورتان:

وفشر محمد بن الهيصم الإيجاد والإعدام: بالإرادة والإيثار؛ قال: وذلك مشروط بالقول شرعاً؛ إذ ورد في التنزيل: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ؛ وقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون " . وعلى قول الأكثرين منهم: الخلق عبارة عن القول والإرادة. ثم اختلفوا في التفصيل: فقال بعضهم: لكل موجود إيجاد، ولكل معدوم إعدام. وقال بعضهم: إيجاد واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد، وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد. وألزم بعضهم: لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد؛ فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة؛ فالتزم تعدد القدرة بتعدد الإيجاد. وقال بعضهم أيضاً: تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات، وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث التي تحدث في ذاته من: الكاف والنون، والإرادة والسمع والتبصر. ومنهم من أثبت لله تعالى السمع والبصر أزلاً؛ والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما. وقد أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته، وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل الحدثات.
وأجمعوا على أن الحوادث لا توجب لله تعالى وصفاً، ولا هي صفات له؛ فتحدث في ذاته هذه لحوادث من: الأقوال، والإرادات، والتسمعات، والتبصرات؛ ولا يصير بها: قائلاً، ولا مريداً، ولا سميعاً، ولا بصيراً؛ ولا يصير بخلق هذه الحوادث: محدثاً، ولا خالقاً. وإنما هو : قائل بقائليته، وخالق بخالقيته، ومريد بمريديته؛ وذلك قدرته على هذه الأشياء.
ومن أصلهم: أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها؛ إذ لو جاز عليها العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك الجوهر في هذه القضية أيضاً؛ فلو قدر عدمها فلا يخلو: إما أن يقدر عدمها بالقدرة؛ أو بإعدام يخلقه في ذاته. ولا يجوز أن يكون عدمها بالقدرة؛ لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم في ذاته وشرط الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته، ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعلومات بلا قدرة. ثم يجب طرد ذلك في الموجد؛ حتى يجوز وقوع موجد محدث في ذاته؛ وذلك محال عندهم، ولو فرض عدا معا بالإعدام لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام؛ فيتسلسل؛ فارتكبوا في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل، ولا اثر للإحداث في حال بقائه. ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى ك أمر التكوين؛ وهو فعل التكليف ونهى التكليف؛ وهي أفعال من حيث دلت على القدرة، ولا يقع تحتها مفعولات... هذا هو تفصيل مذاهبهم في محل الحوادث.
وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كل مسالة؛ حتى ردها من المحال الفاحش إلى نوع يفهم فينا بين العقلاء: مثل التجسيم؛ فإنه قال: أراد بالجسم: القائم بالذات. ومثل الفوقية؛ فإنه حملها على العون، وأثبت البينوية غير المتناهية، وذلك الخلاء الذي أثبته بعض الفلاسفة. ومثل الاستواء؛ فإنه: نفى المجاورة والمماسة، والتمكن بالذات... غير مسألة محل الحوادث؛ فإنها لم تقبل الرمة، فالتزمها كما ذكرنا، وهي من أشنع المحالات عقلاً.
وعند القوم: أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير؛ فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عوالم من الحوادث؛ وذلك محال شنيع.
ومما أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى: عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، شاء بمشيئة؛ وجميع هذه الصفات: صفات قديمة، أزلية، قائمة بذاته. وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري. وربما زادوا الوجه واليدين: صفات، قديمة، قائمة به؛ وقالوا: له يد لا كالأيدي، ووجه لا كالوجوه. وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق؛ دون سائر الجهات.

وزعم ابن الهيصم: أن الذي أطلقه المشبهة على الله عز وجل من الهيئة والصورة، والجوف، والاستدارة، والوفرة، والمصافحة، والمعانقة، ونحو ذلك... لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من : أنه خلق آدم بيده، وأنه استوى على عرشه، وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق. وذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئاً على معنى فاسد: من جارحتين وعضوين؛ تفسيراً لليدين؛ ولا مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن؛ تفسيراً للاستواء، ولا تردداً في الأماكن التي تحيط به؛ تفسيراً للمجيء، وإنما ذهبنا في ذلك على إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف وتشبيه، وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة والمجسمة.
وقال الباري تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون، وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا ينقلب علمه جهلاً، ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة، وقائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث؛ وهو الفرق بين الإحداث والمحدث، والخلق والمخلوق. وقال: نحن نثبت القدر خيره وشره من الله تعالى، وأنه: أراد الكائنات كلها خيرها وشرها؛ وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها. في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للباري تعالى؛ تلك الفائدة هي مورد التكليف والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب.
واتفقوا على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة؛ إلا أنهم لم يثبتوا رعية الصلح ة الأصلح واللطف عقلاً؛ كما قالت المعتزلة. وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط؛ دون التصديق بالقلب. ودون سائر الأعمال. وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً؛ فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء؛ فالمنافق عندهم: مؤمن في الدنيا على الحقيقة، مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة. وقالوا في الإمامة: إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين؛ كما قال أهل السنة. إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين، وغرضهم: إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من أصحابه، وإثبات أمير المؤمنين علي بالمدينة والعراقيين باتفاق جماعة من أصحابه. ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من الأحكام الشرعية: قتالاً على طلب قتله عثمان رضي الله عنه، واستقلالاً ببيت المال. ومذهبهم الأصلي اتهام علي رضي الله عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي الله عنه والسكوت عنه؛ وذلك: عرق نزع.
الباب الرابع
الخوارج
الخوارج، والمرجئة، والوعيدية: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى: خارجياً؛ سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان؛ والأئمة في كل زمان.
والمرجئة: صف آخر تكلموا في الإيمان والعمل؛ إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة.
والمعيدية: داخلة في الخوارج وهم القائلون: بتكفير صاحب الكبيرة، وتخليده في النار؛ فذكرنا مذاهبهم في أثناء مذاهب الخوارج.
اعلم أن أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين، وأشدهم خروجاً عليه ومروقاً من الدين: الأشعث ابن قيس الكندي، ومسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي؛ حين قالوا: القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف!... حتى قال: أنا أعلم بما في كتاب الله! انفروا إلى بقية الأحزاب! انفروا إلى من يقول: كذب الله ورسوله، وأنتم تقولوا: صدق الله ورسوله قالوا: لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين؛ وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان؛ فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع، وولوا مدبرين، وما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيها حشاشة قوة؛ فامتثل الأشتر أمره. وكان من أمر الحكمين: أن الخوارج حملوه على التحكيم أولاً، وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فما رضي الخوارج بذلك؛ وقالوا؛ هو منك، وحملوه على بعث أبو موسى الأشعري على أن يحكم بكتاب الله تعالى، فجرى الأمر على خلاف ما رضي به؛ فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه؛ وقالوا: لم حكمت الرجال!؟ لا حكم غلا لله. وهم المارقون الذين اجتمعوا بالنهر وان.
وكبار الفرق منهم: المحكمة والأزارقة، والنجدات، والبهسية، والعجاردة، والثعالبة، والإباضية، والصفرية؛ والباقون فروعهم.

ويجمعهم: القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما؛ ويقدمون ذلك على كل طاعة؛ ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقاً واجباً.
المحكمة الأولى هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين، واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، ورأسهم: عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسي، وعروة بن جرير، ويزيد ابن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية. وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام؛ أعني يوم النهر وان.
وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم، وصوم أحدكم في جنب صيامهم؛ ولكن لا يجاوز إيمانهم ترقيهم.
فهم: المارقة، الذين قال فيهم: سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون على الدين؛ كما يمرق السهم من الرمية.
وهم الذين أولهم: ذو الخويصرة، وآخرهم: ذو الثدية. وإنما خروجهم في الزمن الأول على أمرين: أحدهما بدعتهم في الإمامة؛ إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور: كان إماماً؛ ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غير السيرة. وجوزوا أن لا يكون في العالم إماماً أصلاً، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون: عبداً، أو حراً، أو نبطياً، أو قرشياً،.
والبدعة الثانية: أنهم قالوا: أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال، ولا حكم إلا بالله. وقد كذبوا على علي رضي الله عنه من وجهين: أحدهما في التحكيم؛ أنه حكم الرجال، وليس ذلك صدقاً؛ لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم.
والثاني: أن تحكيم الرجال جائز؛ فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة، وهم رجال؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل. وتخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير ولعنوا علياً رضي الله عنه فيما قاتل: الناكثين، والقاسطين والمارقين: فقاتل الناكثين، واغتنم أموالهم؛ وما سبى ذراريهم ونساؤهم، وقتل مقاتلة من القاسطين؛ وما اغتنم ، ولا سبى... ثم رضي بالتحكيم، وقاتل مقاتلة المارقين؛ واغتنم أموالهم، وسبى ذراريهم. وطعنوا في عثمان رضي الله عنه؛ للأحداث التي عدوها عليه. وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين...

فقاتلهم علي رضي الله عنه بالنهر وان مقاتلة شديدة، فما افلت منهم إلا أقل من عشرة، وما قتل من السلمين إلا أقل من عشرة؛ فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل مورون باليمن. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم، وبقيت إلى اليوم. أول من بويع من الخوارج بالإمامة: عبد الله بن وهب الراسي في منزل زيد بن حصين؛ بايعه: عبد الله بن الكواء، وعروة بن جرير، ويزيد ابن عاصم المحاربي، وجماعة معهم. وكان يمتنع عليهم تحرجاً، ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً؛ فلم يقنعوا فلا به، وكان يوصف برأي ونجدة؛ فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بقولهما وصوب أمرهما. وأكفروا أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وقالوا: إنه ترك حكم الله ، وحكم الرجال. وقيل: إن أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم يقال له: الحجاج بن عبيد الله يلقب بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على إليته لما سمع بذكر الحكمين وقال: أتحكم في دين الله؟ لا حكم إلا لله، فلنحكم بما حكم الله في القرآن به؛ فسمعها رجل فقال: طعن والله فأنفذ!، فسموا: المحكمة؛ بذلك. ولما سمع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه هذه الكلمة قال كلمة عدل أريد بها جور؛ إنما يقولون لا إمارة، ولابد من إمارة بر أو فاجر. ويقال: إن أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف: عروة بن أذينة؛ وذلك أنه أقبل على الأشعث ابن قيس، فقال: ما هذه الدنية يا أشعث؟ وما هذا التحكيم؟ أشرط أحدكم أوثق من شرط الله تعالى؟! ثم شهر السيف؛ والأشعث مولي، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة، فنفرت اليمانية؛ فلما رأى ذلك الأحنف: مشى هو وأصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح؛ ففعل. وعروة بن أذينة نجا بعد ذلك من حرب النهران وبقي إلى أيام معاوية، ثم أتى إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له؛ فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فقال فيهما خيراً، وسأله عن عثمان؛ فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها؛ وشهد عليه بالكفر، وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك؛ وشهد عليه بالكفر، وسأله عن معاوية؛ فسبه سباً قبيحاً، ثم سأله عن نفسه؛ فقال: أولك لريبة؛ وآخرك لدعوة؛ وأنت فيما بينهما عاص ربك، فأمر زياد بضرب عنقه. ثم دعا مولاه؛ فقال له: صف لي أمره واصدقن فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر، فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط. هذه معاملته واجتهاده، وذلك خبثه واعتقاده.
الأزارقة أصحاب أبي رشد: نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من الصرة إلى الأهواز؛ فغلبوا عليها، وعلى كورها، وما وراءها من بلدان: فارس وكرمان؛ في أيام عبد الله بن الزبير، وقتلوا عماله فيها بهذه النواحي. وكان مع نافع من أمراء الخوارج: عطية بن الأسود الحنفي، وعبد الله بن ماخون وأخواه عثمان والزبير، وعمر ابن عمير العنبري، وقطري بن الفجاءة المازني، وعبيدة بن هلال اليشكري، وأخوه محرز بن هلال، وصخر بن حبيب التيمي، وصالح بن مخراق العبدي، وعبد ربه الكبير، وعبد ربه الصغير... في زهاء ثلاثين ألف فارس؛ ممن يرى رأيهم، وينخرط في سلكهم. فأنفذ إليهم عبد الله بن الحرث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه: مسلم بن عبيس بن كريز ابن حبيب؛ فقتله الخوارج، وهزموا أصحابه. فأخرج إليهم أيضاً عثمان بن عبد الله ابن معمر التميميح فهزموه. فأخرج إليهم حارثة بن بدر العتابي في جيش كثيف؛ فهزموه، وخشي أهل البصرة على أنفسهم وبلدهم من الخوارج. فأخرج إليهم المهلب بن أبي صفرة؛ فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج ومات نافع قبل وقائع المهلب مع الأزارقة، وبايعوا بعده قطري بن الفجاءة المازنين وسموه: أمير المؤمنين.
وبدع الأزارقة ثمانية: إحداهما: أنه أكفر علياً رضي الله عنه، وقال: إن الله أنزل في شأنه: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ؛ وصوب: عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله وقال: إن الله تعالى أنزل في شأنه: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله " .

وقال عمران بن حطان وهو ك مفتي الخوارج، وزاهدها، وشاعرها الأكبر؛ في ضربة ابن ملجم لعنه الله لعلي رضي الله عنه:
يا ضربة من منيب ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أفى البرية عند الله ميزانا
وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة، وزادوا عليه تكفير: عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم؛ وسائر المسلمين معهم، وتخليدهم في النار جميعاً.
والثانية: أنه أكفر القعدة، وهو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال؛ وإن كان موافقاً له على دينه، وأكفر من لم يهاجر غليه.
والثالثة: إباحته قتل الأطفال المخالفين والنسوان منهم.
والرابعة: إسقاطه الرجم عن الزاني؛ إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاطه حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال؛ مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
والخامسة: حكمه بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم.
والسادسة: أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
والسابعة: تجويزه أن يبعث الله تعالى نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته، أو كان كافراً قبل البعثة. والكبائر والصغائر: إذا كانت بمثابة عنده؛ فهي كفر. والثامنة: اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة؛ خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار، واستدلوا بكفر إبليس؛ وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع؛ وإلا ، فهو عارف بوحدانية الله تعالى.
النجدات العذرية أصحاب نجدة بن عامر الحنفي؛ وقيل: عاصم، وكان من شأنه أنه خرج مع اليمامة مع عسكره يريد اللحوق بالأزارقة؛ فاستقبله: أبو فديك، وعطية ابن الأسود الحنفي في الطائفة الذين خالفوا نافع بن الأزرق؛ فأخبروه بما أحدثه نافع من الخلاف: بتكفير العقدة عنه، وسائر الأحداث، والبدع؛ وبايعوا نجدة، وسموه أمير المؤمنين. ثم اختلفوا على نجدة؛ فأكفره قوم منهم لأمور نقموها عليه؛ منها أنه بعث ابنه مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم وقو موها على أنفسهم وقالوا: إن صارت قيمتهن في حصصنا فذلك، وإلا رددنا الفضل؛ ونكحوهن قبل القسمة، وأكلوا من الغنيمة قبل القسمة. فلما رجعوا إلى نجدة وأخبروه بذلك قال: لم يسعمك ما فعلتم؟ قالوا: لم نعلم أن ذلك لا يسعنا؛ فعذرهم بجهالتهم. واتلف أصحابه بذلك؛ فمنهم من وافقه، وعذر بالجهالات في الحكم الاجتهادي؛ وقالوا: الدين أمران: أحدهما: معرفة الله تعالى، ومعرفة رسله عليهم السلام، وتحريم دماء المسلمين يعنون موافقيهم، والإقرار بما جاء من عند الله جملة... فهذا واجب على الجميع، والجهل به لا يعذر فيه.
والثاني: ما سوى ذلك: فالناس معذورون فيه. إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام. قالوا: ومن جوز العذاب على المجتهد المخطىء في الأحكام قبل قيام الحجة عليه؛ فهو كافر واستحل نجدة بن عامر دماء أهل العبد والذمة وأموالهم؛ في حال التقية، وحكم بالبراءة ممن حرمها. قال: وأصحاب الحدود من موافقيه لعل الله تعالى يعفو عنهم؛ ومن نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة أصر عليها؛ فهو مشرك، ومن زنى، وشرب، وسرق؛ غير مصر عليه؛ فهو غير مشرك، وغلظ على الناس في حد الخمر تغليظا شديداً.
ولما كاتب عبد الملك بن مروان وأعطاه الرضى: نقم عليه أصحابه فيه؛ فاستتابوه، فأظهر التوبة، فتركوا النقمة عليه، والتعرض له. وندمت طائفة على هذه الاستتابة؛ وقالوا: أخطأنا، وما كان لنا أن نستتيب الإمام، وما كان له أن يتوب باستتابتنا إياه: أخطأنا من ذلك وأظهروه الخطأ، وقالوا له: تب من توبتك؛ وإلا نابذناك، فتاب من توبته. وفارقه: أبو فديك، وعطية ووثب عليه أبو فديك فقتله. ثم برئ أبو فديك، وعطية من أبي فديك انفذ مروان بن عبد الملك: عمرو بن عبيد الله بن معمر من التميمي مع جيش إلى حرب أبي فديك؛ فحاربه أياماً، فقتله ولحق عطية بأرض سجستان، ويقال لأصحابه: الطوية، ومن أصحابه: عبد الكريم بن عجرد زعيم العجاردة.

وإنما قيل للنجدات: العاذرية؛ لأنهم عذروا بالجهلات في أحكام الفروع. وحكى الكعبي عن النجدات: أن التقية جائزة في القول والعمل كله؛ وإن كان في قتل النفوس. قال: وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم؛ فإن هم رأوا أن ذلك لا يتم غلا بإمام يحملهم عليه، فأقاموه جاز.
ثم افترقوا بعد نجدة إلى: عطوية؛ وفديكية، وبرئ كل واحد منهما عن صاحبه بعد قتل نجدة، وصارت الدار لأبي فديك، إلا من تولى نجدة. وأهل سجستان وخراسان وكرمان وقهستان من الخوارج على مذهب عطية.
وقيل: كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرقا عنه. واختلف نافع ونجدة: فصار نافع إلى البصرة، ونجدة إلى اليمامة. وكان سبب اختلافهما أن نافعاً قال: التقية لا تحل، والقعود عن القتال كفر؛ واحتج بقول الله تعالى: " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله " ، وبقوله تعالى: " يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " . وخالفه نجدة؛ وقال: التقية جائزة، واحتج بقول الله تعالى: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " وبقوله تعالى: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " : وقال: القعود جائز، والجهاد إذا أمكنه أفضل؛ قال الله تعالى: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " . وقال نافع: هذا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا مقهورين، وأما في غيرهم مع الإمكان فالقعود كفر؛ لقول الله تعالى: " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " .
البيهسية أصحاب: أبي بيهس الهيصم بن جابر، وهو أحد بني سعد بن ضبيعة، وقد كان الحجاج طلبه أيام الوليد، فهرب إلى المدينة، فطلبه فيها عثمان بن حيان المزني فظفر به وحبسه؛ وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله؛ ففعل به ذلك. وكفر أبو بهس: إبراهيم، وميمون؛ في اختلافهما في بيع الأمة، وكذلك كفر الواقفية. وزعم: أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله تعالى ومعرفة رسله ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والولاية لأولياء الله تعالى، والبراءة من أعداء الله. فمن جملة ما ورد به الشرع وحكم به: ما حرم الله، وجاء به الوعيد؛ فلا يسعه إلا: معرفته بعينه، وتفسيره، والاحتراز عنه. ومنه ما ينبغي أن يعرف باسمه، ولا يضره ألا يعرفه بتفسيره حتى يبتلي ؛ ويجب أن يقف عندما لا يعلم، ولا يأتي بشيء إلا بعلم. وبرئ أبو بهس عن الواقفية؛ لقولهم: إنا نقف فيمن واقف الحرام وهو لا يعلم أحلالاً واقع أم حراماً؟ قال: كان من حقه أن يعلم ذلك، والإيمان: هو أن يعلم كل حق وباطل، وإن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل. ويحكى عنه أنه قال: الإيمان: هو الإقرار، والعلم؛ وليس هو أحد الأمرين دون الآخر. وعامة البيهسية على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان؛ وذهب قوم منهم إلى أنه لا يحرم سوى ما ورد في قوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه...الآية " ؛ وما سوى ذلك، ومن البيهسية قوم يقال لهم: العونية؛ وهم فرقتان:

فرقة تقول: من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه، وفرقة تقول: بل نتولاهم؛ لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم. والفرقتان اجتمعتا على أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية: الغائب منهم، والشاهد. ومن البيهسية صنف يقال لهم: أصحاب التفسير؛ زعموا: أن من شهد من المسلمين شهادة، أخذ: بتفسيرها، وكيفيتها. وصنف يقال لهم: أصحاب السؤال: قالوا: إن الرجل يكون مسلماً: إذا شهد الشهادتين، وتبرأ، وتولى، وآمن بما جاء من عند الله جملة؛ وإن لم يعم فيسأل ما افترض الله عليه؛ ولا يضره أن لا يعلم حتى يبتلي به فيسأل، وإن واقع حراماً لم يعلم تحريمه فقد كفر، وقالوا في الأطفال بقول الثعلبية: إن أطفال المؤمنين مؤمنون، وأطفال الكافرين كافرون. ووافقوا القدرية في القدر؛ وقالوا: إن الله تعالى فوض إلى العباد؛ فليس لله في أعمال العباد مشيئة. فبرئت منهم عامة البيهسية. وقال بعض البيهسية: إن واقع الرجل حراما لم يحكم بكفره حتى يرفع أمره إلى الإمام الوالي، ويحده؛ وكل ما ليس فيه حد فهو مغفور. وقال بعضهم: إن السكر إذا كان من شراب حلال؛ فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه وفعل. وقالت العونية: السكر كفر؛ ولا يشهدون أنه كفر ما لم ينضم إليه كبيرة أخرى: من ترك الصلاة، أو قذف المحصن.
ومن الخوارج: أصحاب صالح بن مسرح، ولم يبلغنا عنه أنه أحدث قولاً تميز به عن أصحابه، فخرج على بشر بن مروان، فبعث إليه بشر: الحارث بن عميرة أو الأشعث بن عميرة الهمذاني؛ أنفذه الحجاج لقتاله، فأصابت صالحا جراحة، في قصر جلولاء. فاستخلف مكانه شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني المكنى بأبي الصحارى؛ وهو الذي غلب على الكوفة وقتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميراً، كلهم أمراء الجيوش؛ ثم انهزم إلى الأهواز وغرق في نهر الأهواز وهو يقول: ذلك تقدير العزيز العليم. وذكر اليمان: أن الشبيبية يسمون: مئجئة الخوارج؛ لما ذهبوا إليه من الوقف في أمر صالح. ويحكى عنه: أنه برئ منه وفارقه؛ ثم خرج يدعي الإمامة لنفسه. ومذهب شبيب ما ذكرناه. من مذاهب البيهسية؛ إلا أن شوكته، وقوته، ومقاماته مع المخالفين... مما لم يكن لخارج من الخوارج.
وقصته مذكورة في التواريخ.
العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد. وافق النجدات في بدعهم؛ وقيل: إنه كان من أصحاب أبي بيهس، ثم خالفه وتفرد بقوله: تجب البرءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام؛ ويجب دعاؤه إذا بلغ، وأطفال المشركين في النار مع آبائهم، ولا يرى المال فيئاً حتى يقتل صاحبه، وهم يتولون القعدة؛ إذا عرفوهم بالديانة، ويرون الهجرة فضيلة؛ لا فريضة، ويكفرون بالكبائر، ويحكى عنهم: أنهم ينكرون كون سورة يوسف من القرآن؛ ويزعمون أنها قصة من القصص؛ قالوا: ولا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن.
ثم إن العجاردة: افترقوا أصنافاً، ولكل صنف مذهب على حياله؛ إلا أنهم لما كانوا من جملة العجاردة أوردناهم على حكم التفصيل بالجدول والضلع؛ وهم: الصلتية: أصحاب عثمان بن أبي الصلت، والصلت بن أبي الصلت. تفردوا عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم توليناه، وتبرأنا من أطفاله؛ حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام. ويحكى عن جماعة منهم: أنهم قالوا: ليس لأطفال المشركين والمسلمين ولاية، ولا عداوة؛ حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام؛ فيقروا، أو ينكروا.
الميمونية: أصحاب: ميمون بن خالد. كان من جملة العجاردة؛ إلا أنه تفرد عنهم: بإثبات القدر خيره وشره من العبد. وإثبات الفعل للعبد: خلقاً، وإبداعاً. وإثبات الاستطاعة قبل الفعل. والقول بأن الله تعالى يريد الخير؛ دون الشر، وليس له مشيئة في معاصي العباد. وذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج: أن الميمونية يجيزون نكاح بنات البنات، وبنات أولاد الاخوة والأخوات؛ وقالوا: إن الله تعالى حرم نكاح البنات، وبنات الاخوة والأخوات؛ ولم يحرم نكاح بنات أولاد هؤلاء. وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن. وقالوا بوجوب قتال السلطان؛ وحده؛ ومن رضي بحكمه؛ فأما من أنكره، فلا يجوز قتاله: إلا إذا أعان عليه، أو طعن في دين الخوارج أو صار دليلاً للسلطان وأطفال المشركين عندهم في الجنة.

الحمزية: أصحاب: حمزة بن أدرك. وافقوا الميمونية في القدر وفي سائر: بدعها. إلا في أطفال مخالفيهم والمشركين، فإنهم قالوا: هؤلاء كلهم في النار.
وكان حمزة من أصحاب الحسين بن الرقاد، الذي خرج بسجستان من أهل أوق، وخالفه خلف الخارجي في القول بالقدر، واستحقاق الرئاسة؛ فبرئ كل واحد منهما عن صاحبه. وجوز حمزة إمامين، في عصر واحد؛ ما لم تجتمع الكلمة، ولم تقهر الأعداء.
الخلفية: أصحاب: خلف الخارجي؛ وهم من خوارج كرمان، ومكران. خالفوا الحمزية في القول بالقدر، وأضافوا القدر خيره وشره إلى الله تعالى، وسلكوا في ذلك مذهب أهل السنة، وقالوا: الحمزية ناقضوا؛ حيث قالوا: لو عذب الله العباد على أفعال قدرها عليهم، أو على ما لم يفعلوه كان ظالماً. وقضوا بأن أطفال المشركين في النار، ولا عمل لهم، ولا ترك. وهذا من أعجب ما يعتقد من التناقض! الأطرافية: فرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر. غلا أنهم عذروا أصحاب الأطراف، في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل. وأثبتوا واجبات عقلية؛ كما قالت القدرية. ورئيسهم: غالب بن شاذك، من سجستان. وخالفهم عبد الله السديورى وتبرأ منهم.
ومنهم: المحمدية: أصحاب محمد بن رزق. وكان من أصحاب الحسين بن الرقاد، ثم برئ منه.
الشعيبية: أصحاب: شعيب بن محمد، وكان مع ميمون من جملة العجاردة؛ غلا أنه برئ منه، حين أظهر القول بالقدر. قال شعيب: إن الله تعالى خالق أعمال العباد. والعبد: مكتسب لها: قدرة، وإرادة؛ مسئول عنها: خيراً وشراً؛ مجازى عليها: ثواباً، وعقاباً. ولا يكون شئ في الوجود إلا بمشيئة الله تعالى. وهو: على بدع الخوارج في الإمامة، والوعيد؛ وعلى بدع العجاردة في: حكم الأطفال، وحكم القعدة، ة الولي والتبري.
الحازمية: أصحاب حازم بن علي. أخذوا بقول شعيب في أن الله تعالى خالق أعمال العباد، ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء. وقالوا بالموافاة، وأن الله تعالى: إنما يتولى العباد، على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان؛ ويتبرأ منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر. وأنه سبحانه لم يزل محباً لأوليائه، مبغضاً لأعدائه.
ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي رضي الله عنه، ولا يصرحون بالبراءة عنه. ويصرحون بالبراءة في حق غيره.
الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر . كان مع عبد الكريم بن عجرد يداً واحدة، إلى أن اختلفا في أمر الأطفال؛ فقال ثعلبة: إنا على ولايتهم: صغاراً، وكباراً؛ حتى نرى منهم إنكاراً للحق، ورضاً بالجور. فتبرأت العجاردة من ثعلبة. ونقل عنه أيضاً أنه قال: ليس له حكم في حال الطفولة، من ولاية، وعداوة؛ حتى يدركوا، ويدعوا؛ فإن قبلوا فذاكن وإن أنكروا كفروا. وكان يرى: أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا وإعطاءهم منها إذا افتقروا.
الأخنسية: أصحاب: أخنس بن قيس. من جملة الثعالبة. وانفرد عنهم بأن قال: أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة؛ إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه، أو كفر فتبرأ منه. وحرموا الاغتيال والقتل، والسرقة في السر. ولا يبدأ أحد من أهل القبلة بالقتال، حتى يدعي إلى الدين؛ فإن امتنع قوتل؛ سور من عرفوه بعينه على خلاف قولهم. وقيل إنهم جوزوا: تزويج المسلمات، من مشركي قومهم: أصحاب الكبائر. وهم على أصول الخوارج في سائر المسائل.
المعبدية: أصحاب: معبد بن عبد الرحمن، كان من جملة الثعالبة. خالف الأخنس في الخطأ الذي وقع له تزويج المسلمات من مشرك. وخالف ثعلبة فيما حكم من أخذ الزكاة من عبيدهم، وقال: غني لا أبرأ منه بذلك، ولا ادع اجتهادي في خلافه. وجوزوا أن تصير سهام الصدقة سهماً واحداً، وفي حال التقية.
الرشيدية: أصحاب: رشيد الطوسي؛ ويقال لهم العشرية. وأصلهم: أن الثعالبة كانوا يوجبون فيما سقى بالأنهار والقنى نصف العشر؛ فأخبرهم زياد بن عبد الرحمن: أن فيه العشر، ولا تجوز البراءة ممن قال: فيه نصف العشر قبل هذا. فقال: رشيد إن لم تجز البرءة منهم فإنا نعمل بما عملوا؛ فافترقوا في ذلك فرقتين.

الشيبانية: أصحاب: شيبان بن سلمة. الخارج في أيام أبي مسلم، وهو المعين له ولعلي بن الكرماني على نصر بن سيار، وكان من الثعالبة؛ فلما أعانهما برئت منه الخوارج. فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته، فقالت الثعالبة: لا تصح توبته؛ لأنه قتل الموافقين لنا في المذهب، وأخذ أموالهم، ولا تقبل توبة من: قتل مسلماً وأخذ ماله؛ إلا بأن يقتص من نفسه، ويرد الأموال؛ أو يوهب له ذلك. ومن مذهب شيبان: أنه قال بالجبر؛ ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر، ونفى القدرة الحادثة. وينقل عن زياد ابن عبد الرحمن الشيباني أبي خالد: أنه قال: إن الله تعالى لم يعلم، حتى خلق لنفسه علماً؛ وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها ووجودها. ونقل عنه أنه تبرأ من شيبان، وأكفره حين نصر الرجلين. فوقعت عامة الشيبانية: بجرحان، ونسا، وأرمينية. والذي تولى شيبان، وقال بتوبته: عطية الجرجاني، وأصحابه.
المكرمية: أصحاب: مكرم بن عبد الله العجلي، كان من جملة الثعالبة، وتفرد عنهم بأن قال: تارك الصلاة: كافر؛ لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله بالله تعالى. وطرد هذا في كل كبيرة يرتكبها الإنسان، وقال غنما يكفر لجهله بالله تعالى؛ وذلك أن العرف بوحدانية الله تعالى؛ وأنه اطلع على سره وعلانيته، المجازى على طاعته ومعصيته؛ أن يتصور منه؛ الإقدام على المعصية، والاجتراء على الخالفة؛ ما لم يغفل عن هذه المعرفة، ولا يبالي بالتكليف منه؛ وعن هذا قال النبي عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " ..
الخبو. وخالفوه الثعالبة في هذا القول. وقالوا: بإيمان الموافاة، والحكم بأن الله تعالى إنما يتولى عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت، لا على أعمالهم التي هم فيها؛ فإن ذلك ليس بموثوق به إصراراً عليه؛ ما لم يصل المرء إلى آخر عمره، ونهاية أجله؛ فحينئذ إن بقى على ما يعتقده فذلك هو الإيمان؛ فنواليه، وإن لم يبق فنعاديه، وكذلك في حق الله تعالى: حكم الموالاة والمعاداة على ما علم منه حال الموافاة. وكلهم على هذا القول.
المعلومية والمجهولية: كانوا في الأصل حازمية؛ إلا أن المعلومية قالت: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به، حتى يصير عالماً بجميع ذلك؛ فيكون مؤمناً. وقالت: الاستطاعة مع الفعل، والفعل مخلوق للعبد؛ فبرئت منهم الحازمية. وأما المجهولية؛ فإنهم قالوا: من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها؛ فقد عرفه تعالى. وقالت: إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
البدعية: أصحاب: يحيى بن أصدم. أبدعوا: القول بأن نقطع على أنفسنا بأن من اعتقد اعتقادنا فهو من أهل الجنة، ولا نقول: إن شاء الله؛ فإن ذلك شك في الاعتقاد، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فهو شاك. فنحن من أهل الجنة قطعاً، من غير ذلك.
الإباضية أصحاب: عبد الله بن غباض؛ الذي خرج في أيام مروان بن محمد، فوجه إليه عبد الله بن محمد بن عطية؛ فقاتله بتبالة. وقيل إن عبد الله بن يحيى الإباضي كان رفيقاً له في جميع أحواله وأقواله. قال: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال؛ وما سواه حرام. وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة؛ إلا بعد نصب القتال، وإقامة الحجة.

وقالوا: إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار التوحيد؛ إلا معسكر السلطان؛ فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم. وقالوا في مرتكبي الكبائر: إنهم موحدون؛ لا مؤمنون. وحكى الكعبي عنهم: أن الاستطاعة عرض من الأعراض، وهي قبل الفعل؛ بها يحصل الفعل. وأفعال العباد: مخلوقة لله تعالى: إحداثاً، وإبداعاً؛ ومكتسبة للعبد: حقيقة، لا مجازاً. ولا يسمون إمامهم: أمير المؤمنين؛ ولا أنفسهم: مهاجرين. وقالوا: العالم يفنى كله إذا فني أهل التكليف. قال: واجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفركفر النعمة؛ لا كفر الملة. وتوقفوا في أطفال المشركين؛ وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام، وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضلاً. وحكى الكعبي عنهم: إنهم قالوا بطاعة لا يراد بها الله تعالى؛ كما قال أبو الهذيل. ثم اختلفوا في النفاق: أيسمى شركاً، أم لا؟ قالوا: إن المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين؛ إلا أنهم ارتكبوا الكبائر؛ فكفروا بالكبر لا بالشرك. وقالوا: كل شئ أمر الله تعالى به، فهو: عام ليس بخاص؛ وقد أمر به المؤمن والكافر، وليس في القرآن بخصوص. وقالوا: لا يخلق الله تعالى شيئا إلا دليلاً على وحدانيته، ولا بد أن يدل به واحداً. وقال قوم منهم: يجوز أن يخلق الله تعالى رسولاً بلا دليل، ويكلف العباد بما يوحي غليه إظهار المعجزة؛ ولا يجب على الله تعالى ذلك، إلى أن يخلق دليلاً، ويظهر معجزة... وهم جماعة متفرقون في مذاهبهم؛ تفرق: الثعالبة، والعجاردة: الحفصية: وهم أصحاب: حفص بن أبي المقدام. تميز عنهم بأنه قال: إن بين الشرك والإيمان خصلة واحدة، وهي معرفة الله تعالى وحده؛ فمن عرفهن ثم كفر بما سواه؛: رسول، أو كتاب، أو قيامه، أو جنة، أو نار؛ أو ارتكب الكبائر: من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر... فهو كافر؛ لكنه بريء من الشرك.
الحارثية: أصحاب: الحارث الإباضي. خالف الإباضية: في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، وفي الاستطاعة قبل الفعل، وفي إثبات طاعة لا يراد بها الله تعالى.
اليزيدية: أصحاب: يزيد بن أنيسة؛ الذي قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم، الإباضية؛ فإنه لا يتولاهم. وزعم أن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم، وينزل عليه كتاباً؛ قد كتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة؛ ويترك شريعة المصطفى محمد عليه السلام ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن؛ وليست هي الصائبة الموجودة: الكتاب بالنبوة، وإن لم يدخل في دينه. وقال: إن أصحاب الحدود: من موافقيه، وغيرهم: كفار مشركون. وكل ذنب صغير أو كبير؛ فهو شرك.
الصفرية الزيادية أصحاب: زياد بن صفر. خالفوا: الأزارقة، والنجدات، والإباضية في أمور منها: أنهم لم يكفوا القعدة عن القتال؛ إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد، ولم يسقطوا الرجم، ولم يحكموا بقتل أطفال المشركون وتكفيرهم وتخليدهم في النار. وقالوا: التقية جائزة قي القول دون العمل. وقالوا: ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمه به الحد؛ كالزنا، والسرقة، والقذف؛ فيسمى زانياً، سارقاً، قاذفاً؛ لا: كافراً مشركاً. وما كان من الكبائر مما ليس فيه حد، لعظم قدره؛ مثل: ترك الصلاة، والفرار من الزحف؛ فإنه يكفر بذلك. ونقل عن الضحاك منهم: أنه يجوز تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية، دون دار العلانية. ورأى زياد ابن الأصفر جميع الصدقات سهماً واحداً في حال التقية. ويحكى عنه أنه قال: نحن مؤمنون عند أنفسنا، ولا ندري! لعلنا خرجنا من الإيمان عند الله. وقال: الشرك شركان: شرك هو: طاعة الشيطان، وشرك هو: عبادة الأوثان. والكفر كفران: كفر بإنكار النعمة، وكفر بإنكار الربوبية. والبراءة براءتان: براءة من أهل الحدود سنة، وبراءة من أهل الجحود فريضة.
ولنختتم المذاهب بذكر تتمة رجال الخوارج: من المتقدمين: عكرمة، وأبو هارون العبدي، وأبو الشعثاء، وإسماعيل بن سميع.
ومن المتأخرين: اليمان بن رباب: ثعلبي؛ ثم: بيهسي، وعبد الله بن يزيد؛ ومحمد بن حرب، ويحيى بن كامل... إباضية.

ومن شعرائهم: عمران بن حطان، وحبيب بن مرة صاحب الضحاك بن قيس. ومنهم أيضاً: جهم بن صفوان، وأبو مروان غيلان بن مسلم، ومحمد بن عيسى: برغوث، وأبو الحسين كلثوم بن حبيب المهلبي، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن شبيب البصري، وعلي بن حرملة، وصالح قبة بن صبيح بن عمرو، ومويس بن عمران البصري، وأبو عبد الله بن مسلمة، وأبو عبد الرحمن بن مسلمة والفضل بن عيسى الرقاشي وأبو زكريا يحيى بن أصفح، وأبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الخالدي، ومحمد بن صدقة، وأبو الحسين علي بن زيد الإباضي، وأبو عبد الله محمد بن كرام، وكلثوم بن حبيب المرادي البصري.
والذين اعتزلوا إلى جانب؛ فلم يكونوا مع علي رضي الله عنه في حروبه، ولا مع خصومه؛ وقالوا: لا ندخل في غمار الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة ابن زيد حارثة الكلبي؛ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قيس بن حازم: كنت مع علي رضي الله عنه في جميع أحواله وحروبه حتى قال يوم صفين: " انفروا إلى بقية الأحزاب، انفروا إلى من يقول: كذب الله ورسوله؛ وأنتم تقولون: صدق الله ورسوله " ... فعرفت أي شيء كان يعتقد في الجماعة: فاعتزلت عنه.
الباب الخامس
المرجئة
الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى: التأخير؛ كما في قوله تعالى: " قالوا: أرجه وأخاه " ، أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة؛ فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا: من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار: فعلى هذا: المرجئة، والوعيدية؛ فرقتان متقابلتان. وقيل: الإرجاء: تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة؛ فعلى هذا: المرجئة، والشيعة؛ فرقتان متقابلتان. والمرجئة: أصناف أربعة: مرجئة الخوارج. ومرجئة القدرية. ومرجئة الجبرية. وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي؛ أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء. ونحن إنما نعد مقالات المرجئة الخالصة منهم.
اليونسية أصحاب: يونس بن عون النميري. زعم أن الإيمان هو: المعرفة بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب؛ فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان، ولا يعذب على ذلك؛ إذا كان الإيمان خالصاً، واليقين صادقاً.
وزعم أن إبليس كان عارفاً بالله وحده؛ غير انه كفر باستكباره عليه: أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال: ومن تمكن في قلبه: الخضوع لله، والمحبة له على خلوص ويقين: لم يخالفه في معصية، وغن صدرت منه معصية؛ فلا تضره بيقينه وإخلاصه. إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته؛ لا بعمله وطاعته العبيدية: أصحاب: عبيد المكتئب. حكي عنه أنه قال: مادون الشرك مغفور لا محالة، وغن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام، واجترح من السيئات. وحكى اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه: انهم قالوا: إن علم الله تعالى لم يزل شيئاً غيره وغن كلامه لم يزل شيئاً غيره؛ وكذلك دين الله لم يزل شيئا ًغيره. وزعم أن الله تعالى عن قولهم على صورة إنسان؛ وحمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن " .
الغسانية: أصحاب: غسان الكوفي. زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى، وبرسله؛ والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به لرسول... في الجملة، دون التفصيل. والإيمان: لا يزيد، ولا ينقص. وزعم أن قائلاً لو قال: أعلم أن الله تعالى قد حرم أكل الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه: هذه الشاة، أم غيرها؟ كان مؤمناً. لو قال: أعلم أن الله تعالى قد فرض الحج إلى الكعبة، غير أني لا أدري أين الكعبة؟ ولعله بالهند: كان مؤمناً... ومقصودة: أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان، لا أنه كان شاكاً في هذه الأمور؛ فإن عاقلاً لا يستجيز من عقله أن يشك في أن الكعبة: إلى أي جهة هي؟ وأن الفرق بين الخنزير والشاة ظاهر.

ومن العجيب! أن غسان كان يحكي عن حنيفة رحمه الله مثل مذهبه، ويعده من المرجئة؛ ولعله كذب كذلك عليه... لعمري! كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه: مرجئة السنة. وعده كثير من أصحاب المقالات: من جملة المرجئة؛ ولعل السبب فيه: أنه لما كان يقول: الإيمان: هو التصديق بالقلب، وهو لا يزيد، ولا ينقص: ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان. والرجل مع تخريجه في العمل كيف يفتي بترك العمل؟!. وله سبب آخر؛ والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر: مرجئاً، وكذلك الوعيدية من الخوارج؛ فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي: المعتزلة، والخوارج. والله أعلم.
الثوبانية: أصحاب: أبي ثوبان المرجئ. الذين زعموا: إن الإيمان هو: المعرفة والإقرار بالله تعالى، وبرسله عليهم السلام، وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله؛ وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان. وأخر العمل كله عن الإيمان. ومن القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا: أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي، وأبي شمر، ومويس بن عمران، والفضل الرقاشي، ومحمد بن شبيب، والعتابي، وصالح قبة. وكان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد؛ وفي الإمامة: إنه تصلح في غير قريش، وكل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها؛ وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. والعجب أن الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش؛ وبهذا دفعت الأنصار عن قولهم: منا أمير، ومنكم أمير. فقد جمع غيلان خصالاً ثلاثاً: القدر، والإرجاء، والحروج.
والجماعة التي عددناها اتفقوا على أن الله تعالى لو عفا عن عاص في القيامة: عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله؛ وإن أخرج من النار واحداً: أخرج من هو في مثل حاله. ومن العجب أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة.
ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان وأنه لا يدخل النار مؤمن. والصحيح من الثقل عنه: أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم؛ يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها؛ فيتألم بذلك على قدر معصيته، ثم يدخل الجنة؛ ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار.
ونقل عن زياد بن غياث المريسي أه قال: إذا دخل أصحاب الكبائر النار؛ فإنهم سيخرجون عنها بعد أن يعذبوا بذنوبهم، وأما التخليد فيها فمحال؛ وليس بعدل.
وقيل: إن أول من قال بالإرجاء: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وكان يكتب فيه الكتب في الأمصار. غلا أمه ما أخر العمل عن الإيمان، كما قالت المرجئة اليونسية، والعبيدية؛ لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان؛ حتى يزول الإيمان بزوالها.
التومينية: أصحاب: أبي المعاذ التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم عن الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر؛ وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر، ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان، ولا بعض إيمان. وكل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال لصاحبها: فاسق؛ ولكن يقال: فسق، وعصى. وقال: وتلك الخصال هي المعرفة، والتصديق، والمحبة، والإخلاص، والإقرار بما جاء به الرسول. قال: ومن ترك الصلاة وصيام مستحلاً كفر؛ ومن تركهما على نية القضاء لم يكفر. ومن قتل نبياً أو لطمه كفر؛ لا من أجل القتل واللطم؛ ولكن من أجل: الاستخفاف، والعداوة، والبغض. وإلى هذا المذهب ميل: ابن الرواندي، وبشر الريسي؛ قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً، والكفر هو الجحود والإنكار. والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه؛ ولكنه علامة الكفر.
الصالحية

أصحاب: صالح بن عمر الصالحي. والصالحي، ومحمد بن شبيب، وأبو شمر، وغيلان: كلهم جمعوا بين القدر، والإرجاء. ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة؛ إلا أنه بدا لنا في هؤلاء؛ لانفرادهم عن المرجئة بأشياء. فأما الصالحي؛ فقال: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق، وهو أن للعالم صانعاً فقط، والكفر هو الجهل به على الإطلاق؛ قال: وقول القائل ثالث ثلاثة ليس بكفر؛ لكنه لا يظهر غلا من كافر. وزعم: أن معرفة الله تعالى هي المحبة والخضوع له؛ ويصح ذلك مع حجة الرسول. ويصح في العقل أن يؤمن بالله، ولا يؤمن برسله؛ غير أن الرسول عليه السلام قد قال: " من لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله تعالى " . وزعم: أن الصلاة ليست بعبادة الله تعالى، وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به؛ وهو معرفته، وهو خصلة واحدة: لا يزيد، ولا ينقص، وكذلك الكفر خصلة واحدة: لا يزيد، ولا ينقص.
وأما أبو شمر المرجئ القدري؛ فإنه زعم: أن الإيمان هو المعرفة بالله عز وجل، والمحبة والخضوع له بالقلب، والإقرار به: أنه واحد ليس كمثله شيء؛ ما لم تقم عليه حجة الأنبياء عليهم السلام؛ فإذا قامت الحجة فالإقرار بهم وتصديقم من الإيمان والمعرفة، والإقرار بما جاءوا به من عند الله غير داخل في الإيمان الأصلي. وليست كل خصلة من خصال الإيمان إيماناً ولا بعض إيمان؛ فإذا اجتمعت كانت كلها إيماناً. وشرط في خصال الإيمان معرفة العدل؛ يريد به: القدر خيره وشره من العبد؛ من غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء.
وأما غيلان بن مروان من القدرية المرجئة؛ فإنه زعم أن الإيمان هو: المعرفة الثانية بالله تعالى، والمحبة والخضوع له، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء من عند الله. والمعرفة الأولى فطرية ضرورية. فالمعرفة على أصله نوعان: فطرية، وهي علمه بأن للعالم صانعاً، ولنفسه خالقاً، وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً؛ إنما الإيمان هو المعرفة الثانية المكتسبة.
تتمة رجال المرجئة كما نقل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وعمرو بم مرة، ومحارب بن زياد، ومقاتل بن سليمان، وذر، وعمرو بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وقديد بن جعفر... وهؤلاء كلهم: أئمة الحديث؛ لم يكفروا أصحاب الكبائر الكبيرة، ولم يحكموا بتخليده في النار؛ خلافاً للخوارج والقدرية.
الباب السادس
الشيعة
الشيعة هم: الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصية؛ إما جلياً وإما خفياً. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده؛ وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم؛ بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين؛ لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله.
ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري: قولاً، وفعلاً، وعقداً؛ إلا في حال التقية.
ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك. ولهم في تعدية الإمامة: كلام، وخلاف كثير؛ وعند كل تعدية، وتوقف: مقالة، ومذهب، وخبط.
وهم خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وأمامية، وغلاة وإسماعيلية.
وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه.
الكيسانية أصحاب: كيسان، مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل: تلمذ للسيد: محمد بن الحنيفة رضي الله عنه. يعتقدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته؛ من إحاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن؛ وعلم الآفاق والأنفس.
ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل؛ حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية؛ من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج...و غير ذلك... على رجال؛ فحملهم بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل، وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحمل بعضهم على القول بالتناسخ؛ والحلول؛ والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد؛ معتقد أنه: لا يموت، ولا يجوز أن يموت؛ حتى يرجع، ومن معد حقيقة الإمامة على غيره؛ ثم: متحسر عليه؛ متحير فيه، ومن مدع حكم الإمامة؛ وليس هنا الشجرة.

وكلهم حيارى متقطعون. ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له؛ فلا دين له. نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور. رب! أهدنا السبيل.
المختارية: أصحاب: المختار بن عبيد الثقفي، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار شيعياً وكيسانياً. قال بإمامة محمد بن الحنيفة بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما؛ وقيل لا؛ بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يدعو الناس إليه، وكان يظهر انه من رجاله ودعاته، ويذكر علوماً مزخرفة بترهاته ينوطها به. وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته، ويذكر علوما مزخرفة بترهات ينوطها به. ولما وقف محمد بن الحنفية على ذلك: تبرأ منه، وأظهر لأصحابه أنه غنما لمس على الخلق ذلك، ليتمشى أمره، ويجتمع الناس عليه. وإنما انتظم له ما انتظم بأمرين: أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية: علماً، ودعوة، والثاني قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما، واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين. فمن مذهب المختار: أنه يجوز البداء على الله تعالى، والبداء له معان: البداء في العلم، وهو أن يظهر له خلاف ما علم، ولا أظن عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد، والبداء في الأمر، وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك. ومن لم يجوز النسخ ظن أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة. وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء، بأنه كان يدعى علم ما يحدث من الأحوال: إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله: جعله دليلاً على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدى لربكم. وكان لا يفرق بين النسخ، والبداء، قال: إذا جاز النسخ في الأحكام: جاز البداء في الأخبار. وقد قيل: إن السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس: أنه من دعاته، ورجاله، وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار؛ من: التأويلات الفاسدة، والمخاريق المموهة. فمن مخاريقه: أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة؛ وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل؛ وكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة، وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل، وفيه السكينة، والبقية؛ والملائكة من فوقكم ينزلون مدداً لكم. وحديث الحمامات البيض: معروف. والأسجاع التي ألفها أبرد تأليف: مشهورة وإنما حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنيفة كان: كثير العلم، غزير المعرفة، وقاد الفكر، مصيب الخاطر في العواقب؛ قد أخبره أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن أحوال الملاحم، وأطلعه على مدارج المعالم؛ وقد اختار العزلة: فآثر الخمول على الشهرة. وقد قيل: إنه كان مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها، وما فارق الدنيا إلا وقد أقرها في مستقرها.
وكان السيد الحميري، وكثير عزة الشاعر: من شيعته؛ قال كثير فيه:
ألا أن الأئمة من قريش ... ولاة الحق: أربعة سواء:
علي، والثلاثة من بينه ... هم الأسباط، ليس بهم خفاء
سبط: سبط الإيمان وبر ... وسبط: غيبته كربلاء
ز سبط: لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً ... برضوى، عنده عسل وماء
وكان السيد الحميري أيضاً يعتقد فيه: أنه لم يمت، وأنه في جبل: رضوى؛ بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان؛ تجريان بماء وعسل، وأنه يعود بعد الغيبة؛ فيملأ الأرض عدلاً؛ كما ملئت جوراً. وهذا هو أول حكم بالغيبة والعودة بعد الغيبة حكم به الشيعة. وجرى ذلك في بعض الجماعة؛ حتى اعتقدوه: ديناً، وركناً من أركان التشيع.
ثم اختلف الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفيةفي سوق الإمامة؛ وصار كل اختلاف مذهباً: الهاشمية:

أتباع: أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. قالوا: بانتقال محمد ابن الحنفية إلى رحمة الله ورضوانه؛ وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم. قالوا: فإنه أفضى إليه أسرار العلوم؛ وأطلعه على: مناهج على الباطن. قالوا: إن لكل ظاهر باطناً، ولكل شخص روحاً، ولكل تنزيل تأويلاًن ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم. والمنتشر في الآفاق من الحكم والأسرار مجتمع في الشخص الإنساني؛ وهو: العلم الذي استأثر علي رضي الله عنه به ابنه: محمد بن الحنفية؛ وهو أفضى ذلك السر إلى ابنه أبي هاشم. وكل من اجتمع فيه هذا العلم؛ فهو الإمام حقاً.
واختلفت بعد أبي هاشم شيعته: خمس فرق: فرقة قالت: أم أبا هاشم مات - منصرفاً من الشام بأرض الشراة، وأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله لن عباس، وأجرت في أولاده الوصية، حتى صارت الخلافة إلى بني العباس. قالوا: ولهم في الخلافة حق؛ لاتصال النسب، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وعمه العباس أولى بالوراثة.
وفرقة قالت: إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه: الحسن بن علي ابن محمد بن الحنفية.
وفرقة قالت: لا؛ بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه: علي بن محمد، وعلي أوصى إلى أبنه: الحسن؛ فالإمامة عندهم في بني الحنفية: لا تخرج إلى غيرهم.
وفرقة قالت: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي؛ وإن الإمامة خرجت من أبي هاشم إلى عبد الله؛ وتحولت روح أبي هاشم إليه. والرجل ما كان يرجع إلى علم وديانة؛ فاطلع بعض القوم إلى خيانته، وكذبه؛ فأعرضوا عنه؛ وقالوا بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وكان من مذهب عبد الله: أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، وإن الثواب والعقاب: في هذه الأشخاص؛ إما أشخاص بني آدم، وإما أشخاص الحيوانات. قال: وروح الله تناسخت حتى وصلت إليه، وحلت فيه. وادعى الإلهية، والنبوة معاً؛ وأنه يعلم الغيب. فعبده شيعته الحمقى، وكفروا بالقيامة؛ لاعتقادهم: أن التناسخ يكون في الدنيا، والثواب والعقاب في هذه الأشخاص، وتأول قول الله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا... الآية " على أن من وصل إلى الإمام، وعرفه: ارتفع عنه الحرج في جميع ما يطعمن ووصل إلى الكمال والبلاغ.
وعنه نشأتك الحزمية، والمزدكية بالعراق. وهلك عبد الله بخرسان، وافترقت أصحابه؛ فمنهم من قال: إنه بعد حي، لم يمت؛ ويرجع.
ومنهم من قال بل مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصاري؛ وهم الحارثية: الذين يبيحون المحرمات، ويعيشون عيش من لا تكليف عليه.
وبين أصحاب عبد الله بن معاوية، وبين أصحاب محمد بن علي: خلاف شديد في الإمامة؛ فإن كل واحد منهما يدعي الوصية من أبي هاشم إليه؛ ولم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد.

البيانية: أتباع: بيان بن سمعان التميمي. قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم إليه. وهو: من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ قال: حل في علي جزء إلهي، واتحد بجسده: فنه كان يعلم الغيب؛ إذ أخبر عن آلماكم وصح الخبر، وب كان يحارب الكفار؛ وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر؛ وعن هذا قال: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولا بحركة غذائية؛ ولكن قلعته بحركة رحمانية ملكوتية، بنور ربها مضيئة. فالقوة الملكوتي في نفسه كالمصباح من المشكاة، والنور الإلهي كالنور من المصباح. قال: وربما يظهر علي في بعض الأزمان؛ وقال في تفسير قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " : أراد به علياً؛ فهو الذي يأتي في الظل، والرعد صوته، والبرق تبسمه. ثم ادعى بيان: أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي، بنوع من التناسخ؛ ولذلك استحق أن يكون إماماً:، وخليفة؛ وذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليه السلام سجود الملائكة. وزعم: أن معبوده على صورة إنسان: عضواً فعضواً، وجزءاً فجزءاً. وقال: يهلك كله إلا وجهه؛ لقوله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه " . ومع هذا الخزي الفاحش كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم، ودعاه إلى نفسه؛ وفي كتابه: أسلم تسلم، ويرتقي من سلم؛ فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة. فأمر الباقر: أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به، فأكلهن فمات في الحال. وكان اسم ذلك الرسول: عمر بن أبي عفيف. وقد اجتمعت طائفة على بيان بن سمعان؛ ودانوا به وبمذهبه؛ فقتله خالد ابن عبد الله القسري على ذلك؛ وقيل: أحرقه والكوفي المعروف بالمعروف ابن سعيد بالنار معاً.
الرزامية: أتباع: رزام بن رزم. ساقوا الإمامة: من علي، إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله ابن عباس بالوصية، ثم ساقوها إلى محمد بن علي، وأوصى محمد إلى ابنه: إبراهيم الإمام، وهو صاحب: أبي مسلم؛ الذي دعا إليه، وقال إمامته. وهؤلاء ظهروا بخرا سان في أيام أبي مسلم؛ حتى قيل: إن أبا مسلم كان على هذا المذهب؛ لأنهم ساقوا الإمامة إلى أبي مسلم: فقالوا: له حظ الإمامة، وادعوا: حلول روح الإله فيه؛ ولهذا: أيده على بني أمية؛ حتى قتلهم عن بكرة أبيهم، وأصلهم. وقالوا بتناسخ الأرواح.
والمقنع الذي ادعى الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول على هذا المذهب، وتابعه مبيضه ما وراء النهر؛ وهؤلاء: صنف من الخرمية؛ دانوا بترك الفرائض، وقالوا: الدين: معرفة الإمام فقط. ومنهم من قال: الدين أمران: معرفة الإمام، وأداء الأمانة ؛ ومن حصل له الأمران، فقد وصل إلى الكمال، وارتفع عنه التكليف. ومن هؤلاء: من ساق الغمامة إلى محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية: وصية غليه، لا من طريق آخر.
وكان أبة مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول، واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا بها، وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم؛ فكان يطلب المستقر فيه؛ فبعث إلى الصادق: جعفر بن محمد رضي الله عنهما: أني قد أظهرت الكلمة، ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فيه، فلا مزيد عليك. فكتب إليه الصادق رضي الله عنه: ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني. فحاد أبو مسلم إلى أبي العباس عبد الله ابن محمد السفاح، وقلده أمر الخلافة.
الزيدية: أتباع: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم؛ إلا أنهم جوزوا أن يكون كل: فاطمي، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون غماماً واجب الطاعة؛ سواء كان من أولاد الحسن، أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما. وعن هذا؛ جوز قوم منهم: إمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن اللذين خرجا غي أيام المنصور وقتلا على ذلك؛ وجوزوا: خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.

وزيد بن علي - لما كان مذهبه هذا المذهب أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم؛ فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم؛ مع اعتقاد واصل: أن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب؛ وأن أحد الفريقين كان على الخطأ لا بعينه. فاقتبس منه الاعتزال، وصارت أصحابه كلهم: معتزلة. وكان من مذهبه: جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل؛ فقال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها: من تسكين نائرة الفتنة، وتطيب قلوب العامة؛ فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة: كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين علىّ عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي... فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد؛ فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين ، والؤدة، والتقدم بالسن، والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا ترى انه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر بن الخطاب؛ لشدته، وصلابته، وغلظه في الدين، وفظاظته على الأعداء... حتى سكنهم أبو بكر بقوله: " لو سألني ربي لقلت: وليت عليهم خيرهم: لهم " ... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم؛ فيرجع إايه في الأحكام، ويحكم بحكمه في القضايا.
ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين: رفضوه حتى أتى قدره عليه؛ فسميت رافضة.
وجرت بينه وبين أخيه الباقر: محمد بن علي مناظرات لا من هذا الوجه؛ بل: من حيث كان يتلمذ لواصل بن عطاء، ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين؛ ومن حيث يتكلم في القدر على غير ما ذهب غليه أهل البيت؛ ومن حيث إنه كان يشترط الخروج شرطاً في كون الإمام إماماً؛ حتى قال له يوماً: على مقضى مذهبك: والدك ليس بإمام؛ فإنه لم يخرج قط، ولا تعرض للخروج.
ولما قتل زيد بن علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد، ومضى إلى خراسان، واجتمعت عليه جماعة كثيرة. وقد وصل إليه الخبر من الصادق جعفر بن محمد بأنه يقتل كما قتل أبوه، ويصلب كما صلب أبوه؛ فجرى عليه الأمر كما أخبر. وقد فوض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم الإمامين، وخرجا بالمدينة، ومضى إبراهيم إلى البصرة، واجتمع الناس عليهما، وقتلا أيضاً. وأخبرهم الصادق بجميع ما تم عليهم، وعرفهم: أن آباءه رضي الله عنهم أخبروه بذلك كله؛ وأن بني أمية يتطاولن على الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، وهم يستشعرون بغض أهل البيت. ولا يجوز أن يخرج واحد من أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم؛ وكان يشير إلى أبي العباس، وإلى أبى جعفر: ابني محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس. وقال: إنا لا نخوض في الأمر حتى يتلاعب به هذا وأولاده، وأشار إلى المنصور. فزيد بن علي قتل بكناسة الكوفة؛ قتله هشام بن عبد الملك، ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان؛ قتله أميرها، ومحمد الإمام قتل بالمدينة؛ قتله عيسى بن هامان؛ وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة... أمر بقتلهما المنصور. ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم: ناصر الأطروش، فطلب مكانه؛ ليقتل، فاختفى، واعتزل الأمر، وصار إلى بلاد اليلم والجبل ولم يتحلوا بدين الإسلام بعد؛ فدعا الناس دعوة إلى الإسلامعلى مذهب زيد بن عليح فدانوا بذلكن ونشئوا عليهن وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين. وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم. وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول، ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، وطعنت في الصحابة طعن الإمامية. وهم أصناف ثلاثة: جاروديةن وسليمانيةن وبترية. والصالحية منهم والترية: على مذهب واحد.
الجارودية: أصحاب: أبي الجارود: زياد بن أبي زيادز زعموا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بالوصف دون التسمية؛ وهو الإمام بعده. والناس قصروا؛ حيث لم يتعرفوا بذلك. وقد خالف الجارود في هذه المقالة إمامة: زيد بن علي؛ فإنه لم يعتقد هذا الإعتقاد.

واختلفت الجارودية في: التوقف، والسوق.
فساق بعضهم الإمامة من علي إلى الحسن، ثم إلى الحسين ثم إلى علي ابن الحسين: زين العابدين، ثم إلى ابنه: زيد بن علي؛ ثم منه إلى الإمام: محمد ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،و قالوا بإمامته. وكان أبو حنيفة رحمه الله على بيعته، ومن جملة شيعتح حتى رفع الأمر إلى المنصور، فحبسه حبس الأبدن حتى مات في الحبس. وقيل إنه إنما بايع محمد ابن عبد الله الإمام في أيام المنصور، ولما قتل محمد بالمدينة... فتم عليه مأتم. والذين قالوا بإمامة محمد بن عبد الله الإمام: اختلفوا: فمنهم من قال: إنه لم يقتل وهو بعد حي؛ وسيخرج فيملأ الأرض عدلاً، ومنهم من أقر بموته؛ وساق الإمامة إلى محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي ابن الحسين بن علي صاحب الطالقان، وقد أسر في أيام المعتصم وحمل إليهح فحبسه في داره حتى مات، ومنهم مكن قال بإمامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة؛ فخرج ودعا الناس، واجتمع عليه خلق كثيرن وقتل في أيام المستعين، وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر. حتى قال فيه بعض العلوية:
قتلت أعز من ركب المطايا ... و جئتك أستلينك في الكلام
و عز علي أن ألقاك إلا ... و فيما بيننا حد الحسام
وهو: يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي.
وأما أبو الجارود فكان يسمى: سرحوب؛ سماه بذاك أبو جعفر محمد بن علي الباقر. وسرجوب: شيطان أعمى يسكن البحر؛ قاله الباقر: تفسيراً.
ومن أصحاب أبي الجارود: فضيل الرسان، وأبو خالد الواسطي. وهم مختلفون في الأحكام والسير؛ فبعضهم يزعم: أن علم ولد الحسن والحسين رضي الله عنهما كعلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحصل لهم العلم قبل التعلم: فطرة، وضرورة.و بعضهم يزعم: أن العلم مشترك فيهم وفي غيرهم؛ وجائز أن يؤخذ عنهم، وعن غيرهم من العامة.
السليمانية اصحاب: سليمان بن جرير، وكان يقول: إن الإمامة شورى فيما بين الخلقن ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وإنها تصح في المفضول، مع وجود الأفضل.
وأثبت إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عتهما حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً. وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعت لهما مع وجود علي رضي الله عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق، وذلك الخطا: خطأ اجتهادي. غير أنه طعن في عثمان رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه، ثم إنه طعن في الرافضة؛ فقال: إن إئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين لشيعتهم؛ ثم لا يظهر أحد قط عليهم: إحداهما: القول بالبداء؛ فإذا أظهروا قولاً: أنه سيكون لهم قوة وشوكة وظهوراً.. ثم لا يكون الامر على ما أظهروه... قالوا: بدا الله تعالى في ذلك.
والثانية: التقية؛ فكل ما ارادوا تكلموا به؛ فإذا قيل لهم في ذلك: إنه ليس بحق؛ وظهر لهم البطلان قالوا: إنما قلناه: تقية، وفعلناه: تقية. وتابعه على القول بجواز إمامة المفضول، مع قيام الأفضل: قوم من المعتزلة؛ منهم: جعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وكثير النوى؛ وهو من أصحاب الحديث... قالوا: الإمامة من مصالح الدين: ليس يحتاج إليها لمعرفة اللع تعالى وتوحيده؛ فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنها يحتاج إليها: لإقامة الحدود، والقضاء بين المتحاكمين، وولاية اليتامى والأيامي، وحفظ البيضة، وإعلاء الكلمة، ونصب القتال مع أعداء الدين، وحتى يكون للمسلمين جماعة، ولا يكون الأمر فوضى بين العامة؛ فلا يشترط فيها أن يكون الإمام: أفضل الأمة علماً، وأقدمهم عهداً، وأسدهم رأياً وحكمة؛ إذا الحاجة تنسد بقيام المفضول، مع وجود الفاضل والأفضل. ومالت جماعة من أهل السنة إلى ذلك؛ حتى جوزوا: أن يكون الإمام غير مجتهدن ولا خبير بمواقع الإجتهاد؛ ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الإجتهاد: فيراجعه في الأحكام، ويستقي منه في الحلال والحرام؛ ويجب أن يكون في الجملة ذا راي متين، وبصر في الحوادث نافذ.
الصالحية والبترية: الصالحية:أصحاب الحسن بن صالح بن حي.
والبترية: أصحاب كثير النوى الأبتر.

وهما متفقان في المذهب. وقولهم في الإمامة كقول السليمانية؛ إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان: أهو مؤمن، أم كافر؟ قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه، وكونه من العشرة المشرين في الجنة، وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها: من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان، واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة... قلنا: يجب أن نحكم بكفره؛ فتحيرنا في أمره، وتوقفنا في حالهن ووكلناه إلى أحكم الحاكمين.
وأما علي؛ فهو أفضل الناس بعد رسول اللع صلى اللع عليه وسلم وأولاهم بالإمامة، لكنه سلم الأمر لهم راضياً، وفوض إليهم الأمر طائعاً وترك حقه راغباً. فنحن راضون بما رضى، وهم الذين جوزوا: إمامة المفضول، وتأخير الفضل والافضل؛ إذا كان الأفضل راضياً بذلك.
وقالوا: من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي اللع عنهما وكان: عالماً، زاهداً، شجاعاً؛ فهو الإمام؛ وشرط بعضهم صباحة الوجه. ولهم خبط عظيم في إمامين وجدت فيهما هذه الشرائط، وشهرا سيفهما: ينظر إلى الأفضل والأزهد، وإن تساويا: ينظر إلى الأمتن رأياً، والأحزم أمراً، وإن تساويا تقابلا؛ فينقلب الأمر عليهم كلا، ويعود الطلب جذعاً، والإمام مأموماً، والأمير مأموراً. ولو كانا في قطرين: افرد كل واحد منهم بقطره؛ ويكون واجب الطاعة في قومه. ولو أفتى أحدهما بخلاف ما يفتي الآخر كان كل واحد منهما مصيباً؛ وإن أفتى باستحلال دم الغمام الآخر.
وأكثرهم في زماننا مقلدون؛ لا يرجعون إلى رأي أو اجتهاد: أما في الأصول؛ فيرون راي المعتزلة: حذو القذة بالقذة؛ ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت. وأما في الفروع؛ فهم على مذهب أبي حنيفة، إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه الله والشيعة.
رجال الزيدية: أبو الجارود: زياد بن المنذر العبدي؛ لعنه جعفر ابن محمد الصادق رضي الله عنه، والحسن بن صالح بن حي، ومقاتل بن سليمانن والداعي ناصر الحق: الحسن بن علي بن الحسن بن زيد ابن عمر بن الحسين بن علي، والداعي الآخر صاحب طبرستان: الحسين بن زيد ابن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، ومحمد بن نصر.
الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام: نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً، من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين. قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام؛ حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة؛ فإنه إنما بعث: لرفع الخلاف، وتقرير الوفاق؛ فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً: يرى كل واحد منهم رأياً، ويسلك كل منهم طريقاً، لا يوافقه في ذلك غيره؛ بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليهن وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه. وقد عين علياً رضي الله عنه؛ في مواضع: تعريضاً؛ وفي مواضع: تصريحاً.
أما تعريضاته؛ فمثل: أن بعث أبا بكر ليقرأ سورة براءة على الناس في المشهد، وبعث بعده علياً؛ ليكون هو القارىء عليهمن والمبلغ عنه إليهم؛ وقال: نزل على جبريل عليه السلام فقال: يبلغه رجل منك؛ أو قال: من قومك؛ وهو يدل على تقديمه علياً عليه. ومثل أن كان يؤمر على أبي بكر وعمر غيرهما مكن الصحابة في البوثح وقد أمر عليهما: عمرو بن العاص في بعث، وأسامة بن زيد في بعث؛ وما أمر على علي أحداً قط.
واما تصريحاته؛ فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام؛ حين قال: من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته جماعة، ثم قال: من الذي يبايعني على روحه وهو وصي عنه يده غليه فبايعه على روحه ووفى بذلك؛ حتى كانت قريش تعير أبا طالب: أنه أمر عليك ابنك. ز مثل: ما جرى في كمال الغسلام، وانتظام الحال؛ فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس: فلما وصل إلى غدير خم أمر بالدوحات فقممن ونادوا: الصلاة جامعة. ثم قال عليه السلام، وهو على الرحال: " من كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللهم: وال من والاه وعاد من عاداه، واصر من نصرهن واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار. ألا هل بلغت: ثلاثاً " .
فا دعت الإمامية: أن هذا نص صريحز

فإنا ننظر: من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولى له؟ وبأي معنى؟ فنطرد ذلك في حق علي رضي الله عنه. وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه؛ حتى قال عمر حين استقبل علياً: طوبى لك يا علي! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قالوا:و قول النبي عليه السلام: " أقضاكم علي " نص في الإمامة؛ فإن الإمامة لا معنى لها إلا أن يكون: أقضى القضاة في كل حادثة، والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة؛ وهو معنى قول الله سبحانه وتعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ؛ قالوا فأولوا الأمر: من إليه القضاء والحكم. حتى وفي مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار؛ كان القاضي في ذلك هو: أمير المؤمنين على دون غيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له؛ فقال: أفرضكم زيد، وأقرؤكم له؛ وهو قوله: " أقضاكم على " والقضاء يستدعي كل علم، وما ليس كل علم يستدعي القضاء.
ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة: طعناً، وتكفيراً؛ وأقله: ظلماً، وعدواناً. وقد شهدت نصوص القرلان على عدالتهمن والرضا عن جملتهم؛ قال الله تعالى: " لقد رضي اللع عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة... " وكانوا إذ ذاك ألفاً وأربعمائة، وقال الله تعالى على المهاجرين والأنصارن والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وقال: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وقال تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض؛ كما استخلف الذين من قبلهم " ... وفي ذلك دليل على عظم قدرهم عند اللع تعالى، وكرامتهم ودرجتهم عند السول صلى الله عليه وسلم. فليت شعري! كيف يستجير ذو دين الطعن فيهم، ونسبة الكفر إليهم! وقد قال النبي عليه السلام: عشرة من أصحابي في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن ابي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح؛ إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كا واحد منهم على انفرادز وإن نقلت هنات من بعضهم، فليتدبر النقل؛ فإن أكاذيب الروافض كثيرة، وإحداث المحدثين كثيرة.
ثم إن الإمامية لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد: الحسن، والحسين، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم على رأي واحد؛ بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها؛ حتى قال بعضهم: إن نيفاً وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعةخاصة؛ ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة. وهم متفقون في الإمامة، وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده، وقيل: ستة: محمد، وغسحاق، وعبد الله، وموسى، وإسماعيل، وعلي. ومن ادعى منهم النص والتعيين: محمد، وبد الله، وموسى، وإسماعيل. ثم: منهم من مات؛ ولم يعقب، ومنهم من مات؛ وأعقب. ومنهم من قال بالتوقف، والإنتظار، والرجعة. ومنهم من قال بالسوق والتعدية؛ كما سيأتي ذكر اختلافاتهم، عند ذكر طائفة طائفةز وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصولن ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم، وتمتدى الزمان: اختارت كل فرقة منهم طريقة؛ فصارت الإمامية بعضها: إمكا وعيدية؛ وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية: أما مشبهةح وغما سلفية. ومن ضل الطريق، وتاه؛ لم يبال الله به؛ في أي واد هلك.
الباقرية والجعفرية الواقفة

أتباع: محمد الباقر بن علي زين العابدين وابنه جعفر الصادق. قالوا بإمامتهما، وإمامة والدهما: زين العابدين. إلا أن منهم من توقف على واحد منهما وما ساق الإمامة إلى أولادهما؛ ومنهم من ساق. وإنما ميزنا هذه: فرقة، دون الأصناف المتشيعة التي نذكرها؛ لأن من الشيعة من توقف على الباقر، وقال برجعته، كما توقف القئلون بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق؛ وهو ذو علم غزير في الدينن وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات؛ وقد أقام بالمدينة مدة: يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض علىالموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدة: ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحداً في الخلافة قط. ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط... وقيل: من أنس بالله توحش عن الناس، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس. وهو من جانب الأب: ينتسب إلى شجرة النبوة، ومن جانب الأم: ينتسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد تبرأ عما كان ينسب إليه بعض الرافضة، وحماقاتهم؛ من القول بالغيبة، والرجعة، والبداء، والتناسخ، والحلول، والتشبيه. لكن الشيعة بعده افترقوا؛ وانتحل كل واحد منهم مذهباً، وأراد أن يروجه على أصحابه؛ فنسبه إليه وربطه به. والسيد برىء من ذلكن ومن الاعتزالن والقدر أيضاً.
هذا قوله في الإرادة: " إن الله تعالى أراد بنا شيئاً، وأراد منا شيئاً؛ فما أراده بناك طواه عنا، وما أراده منا: أظهره لنا؛ فما بالنا نشتغل بما أراده بنا، عما أراده منا؟!. وهذا قوله في القدر: هو أمر بين أمرين: لا جبرن ولا تفويض. وكان يقول في الدعاء: اللهم لك الحمد إن أطعتك، ولك الحجة إن عصيتك؛ لا صنع لين ولا لغيري في إحسان؛ ولا حجة لي، ولا لغيري في إساءة.
فنذكر الأصناف الذين اختلفوا فيه، ونعدهم؛ لا على أنهم من تفاصيل أشياعه: بل: على أنهم منتسبون إلى أصل شجرتهن وفروع أولاده؛ ليعلم ذلك.
الناووسية اتباع رجل يقال له: ناووس؛ وقيل: نسبوا إلى قرية: ناوسا. قالت: إن الصادق حي بعد، ولن يموت حتى يظهر؛ فيظهر أمره، وهو القائم المهدين ورووا عنه أنه قال: لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا؛ فإني: صاحبكمن صاحب السيف.
وحكى أبو حامد الزوزني: أن النووسية زعمت أن علياً باق، وستنشق الأرض عنه قبل يوم القيامة؛ فيملأ الأرض عدلاً.
الأفطحية قالوا بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه: عبد الله الأفطح، وهو أخوه إسماعيل من أبيه وأمه، وأمهما: فاطمة بنت الحسين ابن الحسن بن علي، وكان أسن أولاد الصادق.
زعموا أنه قال: الإمامة في أكبر أولاد الإمام. وقال: الإمام من يجلس مجلسي؛ وهو الذي جلس مجلسه، والإمام: لا يغسله ولا يصلى عليه ولا يأخذ خاتمه ولا يواريه إلا الإمام؛ وهو الذي تولى ذلك كله. ودفع الصادق وديعة إلى بعض أصحابه، وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها منه وان يتخذه إماماً، وماتن ولم يعقب ولداً ذكراً.
الشميطية اتباع: يحيى بن أبي شميط. قالوا: إن جعفراً قال: إن صاحبكم اسمه اسم نبيكم. وقد قال له والداه رضوان الله عليهما: إن ولد لك ولد، فسميته باسمي؛ فهو الإمام؛ فالإمام بعده:ابنه محمد.
الإسماعيلية الواقفة قالوا: إن الإمام بعد جعفر: إسماعيل؛ نصاً عليه باتفاق من أولاده؛ إلا أنهم اختلفوا في موته في حال أبيه: فمنهم من قال: لم يمت؛ إلا أنه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس؛ وأنه عقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمديوة. ومنهم من قال: موته صحيح، والنص لا يرجع قهقري؛ والفائدة في النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه؛ دون غيرهم. فالإمام بعد إسماعيل: محمد ابن إسماعيل. وهؤلاء يقال لهم: المباركية. ثم منهم من وقف على محمد ابن إسماعيل؛ وقال برجعته بعد غيبته.
ومنهم من ساق الإمامة في المستورين منهم، ثم في الظاهرين القائمين من بعدهم، وهم الباطنية؛ وسنذكر مذاهبهم على الإنفراد.و إنما مذهب هذه الفرقة: الوقف على إسماعيل بن جعفر، أو محمد بن إسماعيل. والأسماعيلية المشهورة في الفرق منهم؛ هم: الباطنية التعليمية اللذين لهم مقالة مفردة الموسوية والمفضلية

فرقةواحدة قالت بإمامة موسى بن جعفر، نصاً عليه بالإسم؛ حيث قال الصادق رضي اللع عنه: سابعكم قائمكم، وقيل: أن أولاد الصادق على تفرق: فمن ميت في حال حياة أبيه؛ ولم يعقب، ومن مختلف في موته، ومن قائم بعد موته مدة يسيرة، ومن ميت غير معقب... وكان موسى هو الذي تولى الأمر، وقام بعد موت أبيه: رجعوا إليه، واجتمعوا عليه؛ مثل: المفضل بن عمر، وزرارة بن أعين، وعمار الساباطي.
وروت الموسوية عن الصادق رضي الله عنه أنه قال لبعض أصحابه: عد الأيام فعدها من الأحد... حتى بلغ السبت؛ فقال له كم عددت؟ فقال: سبعة: سبت السبوت، وشمس الدهور، ونور الشهور: من لا يلهو ولا يلعب؛ وهو سابعكم قائمكم هذا، وأشار إلى ولده: موسى الكاظم. وقال فيه أيضاً: إنه شبيه بعيسى عليه السلام. ثم إن موسى لما خرج وأظهر الإمامة: حمله هارون الرشيد من المدينة؛ فحبسه عند عيسى بن جعفر، ثم أشخصه إلى بغداد؛ فحبسه عند السندي بن شاهك. وقيل: إن يحيى بن خالد بن برمك سمه في رطب؛ فقتله وهو في الحبس. ثم أخرج ودفن في مقابر قريش ببغداد. واختلفت الشيعة بعده: فمنهم من توقف في موته وقال: لا ندري أمات أم لم يمت! ويقال لهم المطمورة سماهم بذلك علي بن إسماعيل؛ فقال: ما أنتم إلا كلاب مطمورة. ومنهم من قطع بموته؛ ويقال لهم القطيعة. ومنهم من توقف عليه، وقال: إنه لم يمت، وسيخرج بعد الغيبة، ويقال لهم الواقفة.
الإثنا عشرية إن الذين قطعوا بموت موسى الكاظم بن جعفر الصادق وسموا: قطعية، ساقوا الإمامة بعده في أولاده؛ فقالوا: الإمام بعد موسى الكاظم ولده: علي الرضي؛ ومشهده بطوس. ثم بعده: محمد النقي الجواد أيضاً؛ وهو في مقابر قريش ببغداد ثم بعده: علي بن محمد النقي؛ ومشهده بقم. وبعده: الحسن العسكري الزكي. وبعده ابنه: محمد القائم المنتظر؛ الذي هو بسر من رأى؛ وهو الثاني عشر. هذا هو طريق الإثني عشرية في زماننا.
إلا أن الاختلافات التي وقعت في حال كل واحد من هؤلاء الإثني عشرية،و المنازعات التي جرت بينهم وبين إخوتهم وبني أعمامهم... وجب ذكرها؛ لئلا يشذ عنا مذهب لم نذكره،و مقاغلة لم نوردها. فاعلم أن الشيعة من قال بإمامة: أحمد بن موسى بن جعفر دون أخيه: علي الرضي. ومن قال بعلي: شك أولاً في محمد بن علي؛ إذ مات أبوه وهو صغير غير مستحق للإمامة، ولا علم عنده بمناهجها. وثبت قوم على إمامته. واختلفوا بعد موته أيضاً: فقال قوم بإمامة موسى بن محمد. وقال قوم آخرونبإمامة: علي بن محمد؛ ويقولون: هو العسكري. واختلفوا بعد موته أيضاً: فقال قوم بإمامة جعفر بن علي، وقال قوم بإمامة محمد بن علي، وقال قوم بإمامة الحسن بن علي. وكان لهم رئيس يقال له: علي بن فلان الطاحن، وكان من أهل الكلام: قوى أسباب جعفر ابن علي، وأمال الناس إليه، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه؛ وذلك أن علياً قد مات، وخلف الحسن العسكري. قالوا: امتحنا الحسن، فلم نجد عنده علماً؛ ولقبوا من قال بإمامة الحسن: الحمارية؛ وقوموا أمر جعفر بعد موت الحسن؛ واحتجوا بأن الحسن مات بلا خلف؛ فبطلت إمامته ولأنه لم يعقب والإمام لا يموت إلا ويكون له خلف وعقب. وحاز جعفر ميراث الحسن، بعد دعاوى ادعاها عليه: أنه فعل ذلك من حبل في جوار أبيه، وغيرهم. وانكشف أمره عند السلطان، والرعية، وخواص الناس، وعوامهم. وتشتت كلمة من قال بإمامة الحسن، وتفرقوا أصنافاً كثيرة؛ منهم: الحسن بن علي بن فضال، وهو من أجل أصحابهم وفقهائهم؛ كثير الفقه والحديث. ثم قالوا بإمامة جعفر: بعلي بن جعفر وفاطمة بنت علي: أخت جعفر. وقال قوم بإمامة علي بن جعفر، دون فاطمة السيدة. ثم اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً. وغلا بعضهم في الإمامة غلواً كأبي الخطاب الأسدي.
وأما الذين قالوا بإمامة الحسن؛ فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة، وليست لهم ألقاب مشهورة، ولكنا نذكر أقاويلهم: الفرقة الأولى: قالت: إن الحسن لم يمت، وهو: القائم، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهراً؛ لأن الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبت عندنا: أن القائم له غيبتان؛ وهذه إحدى الغيبتين، وسيظهر، ويعرف، ثم يغيب غيبة أخرى.
الثانية: قالت: إن الحسن مات، ولكنه يحيا، وهو القئم؛ لأنا رأينا أن معنى القائم: هو القيام بعد الموت، فنقطع بموت الحسن ولا نشك فيه، ولا ولد له؛فيجب أن يحيا بعد المرت.

الثالثة: قالت: إن الحسن قد مات، وأوصى إلى جعفر أخيه، ورجعت الإمامة إلى جعفر.
الرابعة: قالت: إن الحسن قد مات، والإمام جعفر؛ وإنا كنا مخطئين في الائتمام به؛ إذ لم يكن إماماً،فلما مات ولا عقب له تبينا: أن جعفر كان محقاً في دعواه، والحسن مبطلاً.
الخامسة: قالت: إن الحسن قد مات: وكنا مخطئين في القول به، وإن الإمام كان محمد بن علي أخا الحسن وجعفر، ولما ظهر لنا فسق جعفر وإعلانه به؛ وعلمنا أن الجحسن كان على مثل حاله إلا أنه كان يتستر: عرفنا أنهما لم يكونا إمامين، فرجعنا إلى محمد، ووجدنا له عقباً؛ وعرفنا أنه كان هو الإمام دون أخويه.
السادسة: قالت: إن الحسن كان له ابن، وليس الأمر على ما ذكروا: أنه مات ولم يعقب؛ بل ولد له ولد قبل وفاة أبيه بسنتين فاستتر خوفاً من جعفر وغيره من الأعداء؛ واسمه محمد؛ وهو: الإمام، القائم، الحجة، المنتظر.
السابعة: قالت: إن له إبناً؛ ولكنه ولد بعد موته بثمانية أشهر، وقول من ادعى أنه مات وله ابن باطل؛ لا، ذلك لو كان لم يخف، ولا يجوز مكابرة العيان.
الثامنة: قالت: صحت وفاة الحسن، وصح أن لا ولد له، وبطل ما ادعى: من الحبل في سرية له؛ فثبت أن الإمام بعد الحسن غير موجود؛ وهو جائز في المقولات: أن يرفع الله الحجة عن أهل الأرض؛ لمعاصيهم، وهي: فترة، وزمان لا إمام فيه، والأرض اليوم بلا حجة؛ كما كانت الفترة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
التاسعة: قالت: إن الحسن قد مات، وصح موته، وقد اختلف الناس هذه الاختلافات، ولا ندري كيف هو؟ ولا نشك أنه قد ولد له ابن، ولا ندري: قبل موته؟ أو بعد موته؟ ؛ إلا أنا نعلم يقيناً: أن الأرض لا تخلو من حجة، وهو: الخلف الغائب؛ فنحن نتولاه، ونتمسك به باسمه؛ حتى يظهر بصورته.
العاشرة: قالت: نعلم أن الحسن قد مات، ولا بد للناس من إمام؛ فلا تخلو الأرض من حجةن ولا ندري: من ولده؟ أم من ولد غيره؟ الحادية عشرة: فرقة: توقفت في هذا التخابط، وقالت: لا ندري على القطع حقيقة الحال، لكنا نقطع في الرضي ونقول بإمامته. وفي كل موضع اختلفت الشيعة فيه: فنحن من الواقفة في ذلك، إلى أن يظهر الله الحجة، ويظهر بصورته؛ فلا يشك في إمامته من أبصره، ولا يحتاج إلى معجزة وكرامة وبينة؛ بل معجزته: اتباع الناس بأسرهم إياه، من غير منازعة، ولا مدافعة.
فهذه جملة الفرق الإحدى عشرة قطعوا على كل واحد واحد: ثم قطعوا على الكل بأسرهم.
ومن العجب! أنهم قالوا: الغيبة قد امتدت مائتين ونيفاً وخمسين سنة؛ وصاحبنا قال: إن خرج القائم وقد طعن في الأربعين فليس بصاحبكم، ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيف وخمسون سنة في أربعين سنة؟!. وإذا سئل القوم عن مدة الغيبة: كيف تتصور؟ قالوا: أليس الخضر وإلياس عليهما السلام يعيشان في الدنيا من آلا السنين؛ لا يحتاجان إلى طعام وشراب؟ فلم لا يجوز ذلك في واحد من إهل البيت؟. قيل لهم: ومع اختلافكم هذا؛ كيف يصح لكم دعوى الغيبة؟. ثم الخضر عليه السلام ليس مكلفاً بضمان جماعة، والإمام عندكم: ضامن، مكلفبالهداية والعدل؛ والجماعة مكلفون بالإقتداء به والإستنان بسنته، ومن لا يرى كيف يقتدى به؟.
فلهذا؛ صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأصول؛ وبالمشبهة في الصفات؛ متحيرين تائهين.
وبين الإخباريو منهم والكلامية: سيف وتكفير. وكذلك بين التضيلية والوعيدية: قتال، وتضليل. أعاذنا الله من الحيرة!.
ومن العجب! أن القائلين بإمامة النتظر مع هذا الإختلاف العظيم الذي بينت: لا يسحيون؛ فيدعون فيه أحكام الإلوهية، ويتأولون قوله تعالى: عليه: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة " . قالوا: هو الإمام المنظر الذي يرد إليه علم الساعة؛ ويدعون فيه أنه لا يغيب عنا، وسيخبرنا بأحوالنا، حين يحاسب الخلق. إلى تحكمات باردة، وكلمات عن العقول شاردة.
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر: إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن، أوقاعاً سن نادم
أسامي الأئمةالإثني عشرية عند الإمامية: المرتضى، والمجتبى، والشهيد، والسجاد، والباقر، والصادق، والكاظم، والرضي، والتقي، والنقي، والزكي، والحجة القائم المنتظر.
الغالية

هؤلاء هم الذين غالوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية؛ فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله،و ربما شبهوا الإله بالخلق. وهم على طرفي الغلو والتقصير. وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية، ومذاهب التناسخية، ومذاهب اليهود والنصارى؛ إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق، والنصارى شبهت الخلق بالخالق. فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة؛ حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة. وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعةن وإنما عادت إلى بعض أهل الشنة بعد ذلك، وتمكن الإعتزال فيهم؛ لما رأوا أن ذلك أقرب إلى المعقول، وأبعد من التشبيه والحلول.
وبدع الغلاة محصورة في أربع: التشبيه، والبداء، والرجعة، والتناسخ. ولهم ألقاب؛ وبكل بلد لقب: فيقال لهم بأصبهان: الخرمية والكوذية، وبالري: المزدكية والسنباذية، وبأذربيجان: الدقولية؛ وبموضع: المحمرة وبما وراء النهر: المبيضة.
وهم أحد عشر صنفاً: السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ؛ الذي قال لعلي كرم الله وجهه: أنت أنت يعني: أنت الإله؛ فنفاه إلى المدائن. زعموا: أنه كان يهودياً فأسلم؛ وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه. وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه. ومنه انشعبت أصناف الغلاة.
زعم ان علياً حي لم يمت؛ ففيه الجزء الإلهي؛ ولا يجوز أن يستولي عليه، وهو الذي يجيء في السحاب، والرعد صوته، والبرق تبسمه: وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك؛ فيملأ الرض عدلاً كما ملئت جوراً. وإنما أظهر ابن سبا هذه المقالة بعد انتقال علي رضي الله عنه، واجتمعت عليع جماعة، وهو أول فرقة قالت بالتوقف، والغيبة، والرجعة؛ وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. قال: وهذا المعنى مما كان يعرفه فيه حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم ورفعت القصة إليه: ماذا أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله؟ فأطلق عمر اسم الإلهية عليه؛ لما عرف منه ذلك.
الكاملية أصحاب أبي كاملز أكفر جميع الصحابة بتركها بيعة علي رضي الله عنه. وطعن في علي أيضاً بتركه طلب حقه، ولم يعذره في القعود؛ قال: وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق، على أنه غلا في حقه. وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص لى شخص، وذلك النور: في شخص يكون نبوة، وفي شخص يكون إمامة؛ وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوةز وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت.
والغلاة على أصنافها كلهم متفقون على: التناسخن والحلول. ولقد كان التناسخ مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من: المجوس المزدكية، والهند البرهمية، ومن الفلاسفة، والصائبة. ومذهبهم: أن الله تعالى قائم بكل زمان، ناطق بكل لسان، ظاهر في كل شخص من أشخاص البشر؛ وذلك بمعنى الحلول. وقد يكون الحلول بجزء، وقد يكون بكل: أما الحلول بجزء؛ فهو كإشراق الشمس في كوة؛ أو كغشراقها على البللور، أما الحلول بكل؛ فهو كظهور ملك بشخص؛ أو شيطان بحيوان. ومراتب التناسخ أربع: النسخ، والمسخ، والفسخ، والرسخ. وسيأتي شرح ذلك عند ذكر فرقهم من المجوس على التفصيل. وأعلى المراتب: مرتبة الملكية أو النبوة، وأسفل الوراتب: الشيطانية أو الجنية. وهذا أبو كامل كان يقول بالتناسخ ظاهراً، من غير تفصيل مذهبهم.
العلبائية أصحاب: العلباء بن ذراع الدوسي؛ وقال قوم: هو الأسدي. وكان يفضل علياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه الذي بعث محمداً؛ يعني علياً، وسماه إلهاً. وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه. ويسمون هذه الفرقة: الذمية.
ومنهم من قال بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام إلهية، ويسمونهم: العينية.
ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً، ويفضلون محمداً في الإلهية ويسمونهم: الميمية.
ومنههم من قال بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وقالوا خمستهم شيءواحد، والروح حالة فيهم بالسوية، لا فضل لواحد منهم على الآخر؛ وكرهوا أن يقولوا: فاطمة بالتأنيث؛ بل قالوا: فاطم؛ بلا هاء؛ وفي ذلك يقول بعض شعرائهم: توليت بعد الله في الدين خمسة: نبياً، وسبطية، وشيخلً، وفاطماً.
المغيرية

أصحاب: المغيرة بن سعيد العجلي. ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن؛ الخارج بالمدينة، وزعم أنه حي لم يمت. وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري، وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه، واستحل المحارم، وغلا في حق علي رضي الله عنه غلواً لا يعتقده عاقل. وزاد على ذلك قوله بالتشبيه؛ فقال: إن الله تعالى صورة وجسم ذو أعضاء على مثال حروف الهجاء؛ وصورته صورة رجل من نور، على رأسه تاج من نور، وله قلب تنبع منه الحكمة. وزعم أن الله تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالأسم الأعظم، فطار، فوقع على رأسه تاجاً؛ قال: وذلك قوله: سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى. ثم اطلع على أعمال العباد وقد كتبها على كفه؛ فغضب من المعاصي، فعرق، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر عذب؛ والمالح مظلم، والعذب نير. ثم اطلع في البحر النير، فأبصر ظله؛ فانتزع عين ظله؛ فخلق منها الشمس والقمر؛ كله من البحرين؛ فخلق المؤمنون من البحر النير، وخلقالكفار من البحر المظلم وخلق ظلال الناس أول ما خلق، وأول ما خلق هو ظل محمدج عليه السلام وظل علي؛ قبل خلق ظلال الكل. ثم عرض على السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة؛ وهي أن يمنعن علي بن أبي طالب من الإمامةن فأبين ذلك، ثم عرض ذلك على الناس؛ فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن له أن يعينه على الغدر به على شرط أن يجعل الخلافة له من بعده؛ فقبل منه، وأقدما على المنع متظاهرين؛ فذلك قوله تعالى: " وحملها الإنسان إنه طكان ظلوماً جهولاً:. وزعم أنه نزل في حق عمر قولع تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر؛ فلما كفر قال إني بريء منك " .
ولما أن قتل المغيرة اختلف أصحابه: فمنهم من قال بانتظاره ورجعته، ومنهم من قال بانتظار إمامة: محمد؛ كما كان يقول بانتظاره. وقد قال المغيرة بإمامة أي جعفر محمد بن علي رضي اللع عنهما؛ ثم غلا فيه وقال بإلهيته؛ فتبرأ منه الباقر ولعنه. وقد قال المغيرة لأصحابه : انتظروه؛ فإنه يرجع وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام؛ وزعم: أنه يحيي الموتى.
المنصورية أصحاب: أبي منصور العجلي، وهو الذي عزا بنفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول، فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام؛ ودعا الناس إلى نفسه، ولما توفي الباقر قال:انتقلت الإمامة غلي وتظاهر بذلك. وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة، حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك علىقصته وخبث دعوته؛ فأخذه، وصلبه.
زعم أبو منصور العجلي: أن علياً رضي الله عنه هو الكسف الساقط من السماء، وربما قال: الكسف الساقط من السماء هو الله تعالى. وزعم حين ادعى الإمامة لنفسه أنه عرج به إلى السماء، ورأى معبوده، فمسح بيده راسه، وقال له: يا بني! أنزل فبلغ عني، ثم أهبطه إلى الأرض؛ فهو الكسف الساقط من السماء. وزعم أيضاً: أن الرسل لا تنقطع أبداً، والرسالة لا تنقطع. وزعم: أن الجنة رجل أمرنا بموالاته، وهو إمام الوقت؛ وأن النار رجل أمرنا بمعاداته وهو خصم الإمام. وتأول المحرمات كلها على أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم. وتأول الفرائض على أسماء رجال أمرنا بموالاتهم. واستحل بأصحابه: قتل مخالفيهم، وأخذ أموالهم، واستحلال نسائهم. وهخم صنف من الخرمية. وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال: هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه؛ فقد سقط عنه التكليف، وارتفع الخطاب؛ إذ قد وصل إلى الجنة، وبلغ الكمال. ومما أبدعه العجلي أنه قال: إن أول ما خلق الله تعالى هو عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
الخطابية

اصحاب: ابي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر ابم محمد الصادق رضي الله عنهن فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه: تبرأ منه ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلكن وبالغ في التبري منهن واللعن إليه؛ فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه. زعم أبو الخطاب: أن الأئمة أنبياء ثم آلهةن وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية ىبائه رضي اللع عنهم؛ وهم أبناء الله وأحباؤه. والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمانة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوارز وزعم أن جعفراً هو الإله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه؛ ولكن لما نزل إلى هذا العالم: لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها. ولما توقف عيسى بن موسى صاحب المنصور عى خبث دعوته: قتله بسبخة الكوفة.
وافترقت الخطابية بعدة فرقاً: فزعمت فرقة: أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له: معمر، ودانوا به؛ كما دانوا بأبي الخطاب. وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية، وأن النار: هي التي تصيب الناس من شر ومشقة وبلية. واستحلوا: الخمر، والزنا، وسائر المحرمات. ودانوا بترك الصلاة والفرئض وتسمى هذه الفرقة المعمرية.
وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب: بزيغ. وكان يزعم: أن جعفراً هو الإله؛ أي ظهر الإله بصورته للخلق. وزعم: أن كل مؤمن يوحى إليه من الله،و تأول قول الله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " أي: بوحي إليه من الله؛ وكذلك قوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " . وزعم: أن من أصحابه من هو أقضل من جبريل وميكائيل.و زعم: أن الإنسان إذل بلغ الكمال لا يقال له: إنه قد مات: ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية، قيل: رجع إلى الملكوت. وادعوا كلهم معاينة أمواتهم، وزعموا أنهم يرونهم: بكرة، ةوعشياً. وتسمى هذه الطائفة: البزيغية.
وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب: عمير بن بيان العجلي، وقالوا: كما قالت الطائفة الأولى؛ إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون، وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق رضي الله عنهح فرفع خبرهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة؛ فأخذ عميراً، فصلبه في كناسة الكوفة. وتسمى هذه الطائفة: العجليةن والعميرية أيضاً.
وزعمت طائفة: أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي. وكانوا يقولون بربوبية جعفر، دون نبوته، ورسالته. وتسمى هذه الفرقة المفضلية.
وتبرأ من هؤلاء لكهم جعفر بن محمد لصادق رضي الله عنه، وطردهم ولعنهم؛ فإن القوم كلهم: حيارى، ضالون، جاهلون بحال الأئمة تائهون.
الكيالية أتباع: أحمد بن الكيال، وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن محمد الصادق؛ وأظنه منالأئمة المستورين.
ولعله سمع كلمات علمية برأيه الفائل وفكره العاطلن وأبدع مقالة في كل باب علمي؛ على قاعدة غير مسموعة ولا معقولة، وربما عاند الحس في بعض المواضع. ولما وقفوا على بدعته: تبرءوا منه، ولعنوه وأمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته. ولما عرف الكيال ذلك منهم: صرف الدعوة إلى نفسه، وادعى الإمامة أولاً، ثم ادعى أنه القائم ثانياً.
وكان من مذهبه: أن كل من قدر الآفاق على الأنفس، وأمكنه أن يبين مناهج العالمين؛ أعني: عالم الآفاق؛ وهو العالم العلوين وعالم الأنفس؛ وهو العالم السفلي... كان هو: الإمام، وأن كل من قرر الكل في ذاته، وأمكنه أن يبين كل كلي في شخصه المعين الجزئي... كان هو: القائم. قال: ولم يوجد في زمن من الأزمان أحد يقرر هذا التقرير إلا: أحمد الكيال؛ فكان هو: القائم.
وإنما قتله من انتمى إليه أولاً؛ على بدعته ذلك: أنه هو الإمام، ثم القائم وبقيت من مقالته في العالم تصانيف عربية وأعجمية؛ كلها: مزخرفة، مردودة: شرعاً، وعقلاً.
قال الكيال: العوالم ثلاثة: العالم الأعلى، والعالم الأدنى، والعالم الإنساني. وأثبت في العالم الأعلى خمسة أماكن: الأول: مكان الأماكن، وهو مكان فارغ، لا يسكنه موجود، ولا يدبره روحاني؛ مكان النفس الأعلى، ودونه: مكان النفس الناطقة، ودونه: مكان النفس الحيوانية، ودونه: مكان النفس الإنسانية.

قال: وأرادت النفس الإنسانية الصعود إلى عالم النفس الأعلى، فصعدتن وخرقت المكانين؛ اعني: الحيوانية، والناطقة؛ فلما قربت من الوصول إلى عالم النفس الأعلى: كلت، وانحسرت، وتحيرت، وتعفنتن واستحالت أجزاؤها... فأهبطت إلى العالم السفلي، ومضت عليها أكوار وأدوار؛و هي في تلك الحالة من العفونة والاستحالة، ثم ساحت عليها النفس الأعلى وأفاضت عليها من أنوارهاجزءاً؛ فحدثت التراكيب في هذا العالم، وحدثت: السماوات، والأرض، والمركبات: من المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان؛ ووقعت في بلايا هذا التركيب: تارة سروراً، وتارة غماً، وتارة فرحاً، وتارة ترحاً؛ وطوروا سلامة وعافية، وطوراً بلية ومحنة... حتى يظهر: القائم، ويردها إلى حال الكمال، وتنحل التراكيب، وتبطل المتضادات؛ ويظهر الروحاني على الجسماني؛ وما ذلك القائم إلا: أحمد الكيال.
ثم دل على تعيين ذاته بأضعف ما يتصور، وأوهى ما يقدر؛ وهو أن اسم أحمد مطابق للعوالم الأربعة: فالألف من اسمه في مقابلة النفس الأعلى، والحاء؛ في مقابلة النفس الناطقة، والميم؛ في مقابلة النفس الحيوانية، والدال؛ في مقابلة النفس الإنسانية. قال: والعوالم الأربعة هي المبادىء والسائط، وأما: مكان الأماكن؛ فلا وجود فيه البتة.
ثم أثبت في مقابلة العوالم العلوية: العالم السفلي الجسماني؛ قال: فالسماء خالية؛ في مقابلة مكان الأماكن، ودونها النار، ودونها الهواء، ودونه الأرض، ودونها الماء. وهذه الأربعة في مقابلة العوالم الأربعة.
ثم قال: الإنسان؛ في مقابلة النار، والطائر؛ في مقابلة الهواء، والحيوان؛ في مقابلة الأرض، والحوت؛ في مقابلة الماء؛ وكذلك ما في معناه. فجعل مركز الماء أسفل المراكز، والحوت أخس المركبات.
ثم قابل العالم الإنساني الذي هو أحد الثلاثة وهو عالم الأنفس مع آفاق العالمين الأولين: الروحاني، والجسماني؛ قال: الحواس المركبة فيه خمس: فالسمع: في مقابلة: مكان الأماكن: إذ هو فارغ، وفي مقابلة السماء.
والبصر: في مقابلة: النفس الأعلى من الروحاني، وفي مقابلة النار من الجسماني، وفيه إنسان العين؛ لأن الإنسان مختص بالنار.
والشم: في مقابلة: الناطق من الروحاني، والهواء من الجسماني؛ لأن الشم من الهواء: يتروح، ويتنشم.
والذوق: في مقابلة: الحيواني من الروحاني، والأرض من الجسمانين والحيوان مختص بالأرض؛ والطعم بالحيوان.
واللمس: في مقابلة: الإنساني من الروحاني، والماء من الجسماني؛ والحوت مختص بالماء، واللمس بالحوت. وربما عبر عن اللمس بالكتابة.
ثم قال: أحمد؛ هو: ألف، وحاء، وميم، ودال؛ وهو في مقابلة العالمين: أما في مقابلة العالم العلوي الروحاني؛ فقد ذكرناه.
وأما في مقابلة العالم السفلي الجسماني؛ فالألف تدل على الإنسان، والحاء تدل على الحيوان، والميم على الطائر، والدال على الحوت؛ فالألف من حيث استقامة القامة: كالإنسان، والحاء: كالحيوان؛ لأنه معوج منكوس؛ ولأن الحاء من إبتداء اسم الحيوان، والميم: تشبه رأس الطائر، والدال: تشبه ذنب الحوت.
ثم قال: إن الباري تعالى إنما خلق الإنسان على شكل اسم: أحمد: فالقامة: مثل الألف، واليدان: مثل الحاء، والبطن: مثل الميم، والرجلان: مثل الدال.
ثم من العجب أنه قال: إن الأنبياء هم قادة أهل التقليد، وأهل التقليد عميان. والقائم قائد أهل الصيرة، وأهل البصيرة أولوا الألباب؛ وإنما سحصلون البصائر بمقابلة؛ فكيف يرضى أن يعتقدها؟! وأعجب من هذا كله : تأويلاته الفاسدة، ومقابلاته بين الفرائض الشرعية والأحكام الدينية؛ وبين موجودات عالمي الآفاق والأنفس. واعاؤه أنه منفرد بها. وكيف يصح له ذلك؛ وقد سبقه كثير من أهل العلم بتقرير ذلك؛ لا على الوجه المزيف الذي قرره الكيال؛ وحمله الميزان على العالمين، والصراط على نفسه، والجنة على الوصول إلى علمع من البصائر، والنار على الوصول إلى ما يضاده؟! ولما كانت أصول علمه ماذكرناه: فانظر كيف يكون حال الفروع؟! الهشامية أصحاب: الهشامين: هشام بن الحكم؛ صاحب المقالة في التشبيه، وهشام بن سالم الجواليقي؛ الذي نسج على منواله في التشبيه.
وكان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة، وجرت بينه وبين أبي هذيل مناظرات في علم الكلام: منها في التشبيه، ومنها في تعلق علم الباري تعالى.

حكى ابن الرواندي عن هشام أنه قال: إن بين معبوده وبين الأجسام تشابهاً ما، بوجه من الوجوه؛ ولولا ذلك لما دلت عليه.
وحكى الكعبي عنه أنه قال: هو جسم ذو أبعاض له قددر من الأقدار؛ ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يشبهه شيء.
ونقل عنه أنه قال: هو: سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه في مكان مخصوص، وجهة مخصوصة، وأنه يتحرك؛ وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان. وقال: هو متناه بالذات، غير متناه بالقدرة. وحكى عنه أبو عيسى الوراق أنه قال: إن الله تعالى مماس لعرشه؛ لا يفضل منه شيء عن العرش، ولا يفضل من العرش شيء عنه.
ومن مذهب هشام؛ انه قال: لم يزل الباري تعالى عالماً؛ بنفسه، ويعلم الأشياء بعد كونها؛ بعلم: لا يقال فيه: إنه محدث، أو قديم؛ لأنه صفة، والصفة لا توصف؛ ولا يقال فيه: هو هو، أو غيره، أو بعضه.
وليس قوله في القدرة والحياة كقوله في العلم؛ إلا أنه لا يقول بحدوثهما. قال: ويريد الأشياء، وإرادته حركة: ليست هي عين الله؛ ولا هي غيره. وقال في كلام الباري تعالى: إنه صفة الباري تعالى؛ ولا يجوز أن يقال: هو مخلوق، أو غير مخلوق.
وقال: الأعراض لا تصلح ان تكون دلالة على الله تعالى؛ لأن منها ما يثبت استدلالاً؛ وما يستدل على الباري تعالى يجب أن يكون ضروري الوجود؛ لا استدلالياً. وقال: الاستطاعة: كل ما لا يكون الفعل إلا به: كالآلات، والجوارح، والوقت والمكان.
وقال هشام بن سالم إنه تعالى على صورة إنسان: أعلاه مجوف، وأسفله مصمت، وهو نور ساطع يتلألأ؛ وله حواس خمس، ويد، ورجل، وأنف، وأدذن، وعين، وفم، وله وفرة سوداء: هي نور أسود؛ لكنه ليس بلحم ولا دم. وقال هشام بن سالم: الاستطاعة بعض المستطيع. وقد نقل عنه: أنه أجاز المعصية على الأنبياء؛ مع قوله بعصمة الأئمة. ويفرق بينهما بأن النبي يوحى إليه؛ فينبه على وجه الخطأ؛ فيتوب منه، والإمام لا يوحى إليه؛ فتجب عصمته.
وغلا هشام بن الحكم في حق علي رضي الله عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة. وهذا هشام بن الحكم صاحب عور في الأصول؛ لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة؛ فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه... وذلك انه ألزم الغلاف فقال: إنك تقول: الباري تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته؛ فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم، ويباينها في أن علمه ذاته؛ فيكون عالماً لا كالعالمين، فلم لا تقول: إنه جسم لا كالأجسام، وصورة لا كالصور، وله قدر لا كالأقدار... إلى غير ذلك؟؟ ووافقه زرارة بن أعين في حدوث علم اللع تعالى، وزاد عليه بحدوث: قدرته، وحياته،و سائر صفاته؛ وإنه لم يكن قبل حدوث هذه الصفات: عالماً، ولا قادراً، ولا حياً، ولا سميعاً، ولا بصيراً، ولا مريداً، ولا متكلماً.
وكان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر؛ فلما فاوضه في مسائل، ولم يجده بها ملياً رجع إلى موسى بن جعفر وقيل أيضاً: غنه لم يقل بإمامته، إلا أنه أشار إلى المصحف؛ وقال: هذا إمامي؛ وإنه كان قد التوى على عبد الله بن جعفر بعض الإلتواء.
وحكى عن الزرارية: أن المعرفة ضرورية، وأنه لا يسع جهل الأئمة؛ فإن معارفهم كلها فطرية ضرورية، وكل ما يعرفه غيرهم بالنظر فهو عندهم أولي ضروري، وفطرياتهم لا يدركها غيرهم.
النعمانية أصحاب: محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول، الملقب بشيطان الطاق: وهم: الشيطانية أيضاً.
والشيعت تقول: هو مؤمن الطاق.
وهو تلميذ الباقر: محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم، وأفضى إليه أسراراً من أحواله وعلومه. وما يحكى عنه في التشبيه، فهو غير صحيح.
قيل: وافق هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئاً حتى يكون.
قال محمد بن النعمان: إن الله عالم في نفسه، ليس بجاهل؛ ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها، فأما من قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها، لا لأنه ليس بعالم؛ ولكن الشيء لا يكون شيئاً حتى يقدره وينشئه بالتقدير، والتقدير عنده: الإرادة، والإرادة: فعله تعالى.

وقال: إن الله تعالى نور على صورة إنسان رباني، ونفى أن يكون جسماً، لكنه قال: قد ورد في الخبر: إن الله خلق آدم على صورته، وعلى صورة الرحمن؛ فلا بد من تصديق الخبر. ويحكى عن مقاتل بن سليمان: مثل مقالته في الصورة. وكذلك يحكى عن: داود الجواربي، ونعيم بن حماد المصري؛ وغيرهما من أصحاب الحديث: أنه تعالى ذو صورة وأعضاء. ويحكى عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك؛ فإن في الأخبار ما يثبت ذلك.
وقد صنف ابن النعمان كتبأ جمة للشيعة؛ منها افعل لم فعلت، و: منها افعل لا تفعل؛ ويذكر فيها: أن كبار الفرق أربعة: الفرقة الأولى عنده: القدرية، الفرقة الثانية عنده: الخوارج، الفرقة الثالثة عنده: العامة، الفرقة الرابعة عنده: الشيعة.
ثم عين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق.
وذكر عن هشام بن سالم ومحمد بن النعمان: أنهما أمسكا عن الكلام في الله؛ ورويا عمن يوجبان تصديقه: أنه سئل عن قول الله تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " ؟ قال: إذا بلغ الكلامإلى الله تعالى فأمسكوا؛ فأمسكا عن القول في الله، والتفكر فيه حتى ماتا... هذا نقل الوراق.
ومن جملة الشيعة: اليونسية أصحاب: يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين. زعم أن الملائكة تحمل العرش، والعرش يحمل الرب تعالى؛ إذ قد ورد في الخبر: أن الملائكة تئط أحياناً من وطأة عظمة الله تعالى على العرش.
وهو من مشبهة الشيعة؛ وقد صنف لهم كتباً في ذلك.
النصيرية والإسحاقية من جملة غلاة الشيعة، ولهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبون عن أصحاب مقالاتهم؛ وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الإلهية على الأئمة من أهل البيت.قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل: أما في جانب الخير؛ فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص، والتصور بصورة أعرابي، والتمثل بصورة البشر. وأما في جانب الشر؛ فكظهور الشيطان بصورة إنسان، حتى يعمل الشر بصورته؛ وظهور الجن بصورةبشر حتى يتكلم بلسانه... فكذلكنقول: إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص.
ولما لم يكن بعد رشول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه، وبعده أولاده المخصوصون، وهم خير البرية؛ فظهر الحق بصورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم؛ فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم. وإنما أثبتنا هذا الإختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره؛ لأنه كان مخصوصاً بتأييد غلهي من عند الله تعالى، فيما يتعلق بباطن الأسرار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر " .و عن هذا كان قتال المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقتال المنافقين إلى علي رضي الله عنه. وعن هذا: شبهه بعيسى بن مريم عليه السلام؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام: لقلت فيك مقالاً. وربما أثبتوا له شركة في الرسالة؛ إذ قال النبي عليه السلام: " فيكم من يقاتل على تأويله؛ كما قاتلت على تنزيله؛ ألا وهو خاصف النعل " . فعلم التأويل، وقتال المنافقين، ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر لا بقوة جسدانية: من أدل الدليل على أن فيه جزءاً إلهياً، وقوة ربانية. ويمون هو الذي ظهر الإله بصورته، وخلق بيديه، وأمر بلسانه؛ وعن هذا قالوا: كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض. قال: كنا أظله على يمين العرش، فسبحنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا؛ فتلك الظلال؛ وتلك الصور التي تنبىء عن الظلال: هي حقيقته، وهي مشرقة بنور الرب تعالى إشراقاً لا ينفصل عنها؛ سواء كانت في هذا العالمن أو في ذلك العالم. وعن هذا: قال علي رضي اللع عنه: أنا من أحمد كالضوء من الضوء يعني: لا فرق بين النورين؛ إلا أن أحدهما سابق، والثاني لا حق به تال له. قالوا: وهذا يدل على نوع من الشركة.
فالنصيرية: أميل إلى تقرير: الجزء الإلهي.
والإسحاقية: أميل إلى تقرير: الشركة في النبوة.
ولهم اختلافات كثيرة أخر: لا نذكرها.
وقد أنجزت الفرق الإسلامية، وما بقيت إلا فرقة البطنية؛ وقد أوردهم أصحاب التصانيف في كتب المقالات: إما خارجة عن الفرق، وإما داخلة فيها. وبالجملة: هم قوم يخالفون الإثنتين والسبعين فرقة.
رجال الشيعة ومصنفي كتبهم من المحدثين: فمنالزيدية أبو خالد الواسطي ومنصمور بن الأسود، وهارون بن سعد العجلي.... جارودية.

ووكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم، وعبيد الله بن موسى، وعلي بن صالح، والفضل بن دكين، وأبو حنيفة... بترية.و خرج محمد بن عجلان؛ مع محمد الإمام.
وخرج: إبراهين بن سعيد، وعباد بن عوام، ويزيد بن هارةون، والعلاء ابن ؤاشد، وهشيم بن بشير، والعوام بن حوشب، ومستلم بن سعيد؛ مع إبراهيم الإمامة.
ومن الإمامية وساءر أصناف الشيعة: سالم بن أبي الجعد، وسالم ابن أبي حفصة، وسلمة بن كهيل، وثوير بن أبي فاختة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو المقدام، وشعبة، والأعمش، وجابر الجعفي، وأبو عبد الله الجدلي، وأبو غسحاق السبيعي، والمغيرة، وطاووس، والشعبي، وعلقمة، وهبيرةابن بريم، وحبة العرني، والحارث الأعور.
ومن مؤلفي كتبهم: هشام بن الحكم، وعلي بن منصور، ويونس ابن عبد الرحمن، والشكال، والفضل بن شاذان، والحسين بن إشكاب، ومحمد بن عبد الرحمن، وابن قبة، وأبو سهل النوبختي، وأحمد بن يحيى الرواندي. ومن المتأخرين: أبو جعفر الطوسي.
الإسماعيلية قد ذكرنا: أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الإثني عشرية؛ بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر، وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر.
قالوا: لم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسري بجارية؛ كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها.
وقد ذكرنا: اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه:فمنهم من قال: إنه مات، وإنما فائدة النص عليه: انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة؛ كما نص موسى على هارون عليهما السللام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه. وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده؛ فإن النص لا يرجع قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه؛ والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة.
ومنهم من قال: إنه لم يمت، ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل؛ ولهذا القول دلالات: منها أن محمداً كان صغيراً وهو أخوه لأمه مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائماً عليه؛ ورفع الملاءة؛ فأبصره وقد فتح عينيه؛ فعاد إلى أبيه مفزعاً، وقال: عاش أخي، عاش أخي... قال والده: إن أولاد الرسول عليه السلام كذا تكون حالهم في الآخرة. قالوا ومنها السبب في الإشهاد على موته وكتب المحضر عليه، ولم نعهد ميتاً سجل على موته؛ وعن هذا: لما رفع إلى المنصور: أن إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة؛ وقد مر على مقعد فدعا له، فبرىء، بإذن الله تعالى: بعث المنصور إلى الصادق: أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء؛ وأنه رئي بالبصرة: أنفذ السجل إليه، وعليه شهادة عاملة بالمدينة.
قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السا بع التام، وإنما تم دور السبعة به، ثم ابتدى منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سراً. ويظهرون الدعاة جهراً.
قالوا: ولن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم: إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهراً؛ جاز أن يكون حجته مستوراً. وإذا كان الإمام مستوراً؛ فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
وقالواإ إن الأمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة: كأيام الأسبوع، والسموات السبع، والكواكب السبعة؛ والنقباء تدور أحكامهم على إثني عشر.
قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية؛ حيث قرروا عدد النقباء للأئمة.
ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي بالله، والقائم بأمر الله، وأولادهم: نصاً بعد نص، على إمام بعد إمام.
ومن مذهبهم: أن من مات ولم يعرف إمام زمانه: مات ميتة جاهلية. وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية.
ولهم دعوة في كل زمانن ومقالة جديدة بكل لسان. فتذكر مقالاتهم القديمة؛ ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة.
وأشهر ألقابهم الباطنية؛ وإنما لزمهم هذا اللقب؛ لحطمهم لأن: لكل ظاهر باطناً؛ ولكل تنزيل تأويلاً.
ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم: فبالعراق يسمون: الباطنيةن والقرامطة، والمزدكية؛ وبخراسان التعليمية، والملحدة وهم يقولون: نحن إسماعيلية؛ لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص.

ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج. فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول: هو موجود؛ ولا لا موجود، ولا عالم؛ ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز.
وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجه التي أطلقناها عليه، وذلك تشبيه؛ فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق؛ بل هو: إله المتقابلين، وخالق المتخاصمينن والحاكم بين المتضادين. ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي بن الباقر انه قال: لما وهب العلم للعالمين؛ قيل: هو عالمن ولما وهب القدرة للقادرين؛ قيل: قو قادر؛ فهو: عالمن قادر؛ بمعنى أنه وهب العلم، والقدرة؛ لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرةن أو وصف بالعلم والقدرة.
فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة، معطلة الذات عن جميع الصفات.
وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث؛ بل القديم: أمرهن وكلمتهن والمحدث: خلقه، وفطرته...
لأبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعلن ثم بتوسطه أبدع النفس التاي الذي هو غير تام. ونسبة النفس إلى العقل: إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة، والبيض إلى الطير؛ وإما نسبة الولد إلى الوالدن والنتيجة إلى المنتج؛ وإما نسبة الذكر إلى الانثى، والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة؛ فحدثت الأفلاك السماوية، وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضاً؛ فتركبت المركبات: من المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان؛ واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان. وكان من نوع الإنسان متميزاً عن سائر الموجودات بالإستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في مقابلة العالم كله.
وفي العالم العلوي: عقل، ونفس كلي؛ فوجب أن يكون في هذا العالم: عقل مشخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ، ويسمونه: الناطق... المتوجه إلى الكمال، أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر؛ ويسمونه: الأساس. وهو الوصي.
قالوا: وكما تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقلح كذلك تحركت النفوس والاشخاص بالشرائع بتحريك النبي، والوصي في كل زمان دائراً على سبعة سبعة؛ حتى ينتهي إلى الدور الأخير، ويدخل زمان القيامةن وترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع.
وإنما هذه الحركات الفلكية، والسنن الشرعية؛ لتبلغ النفس إلى حال كمالها؛ وكمالها: بلوغها إلى درجة العقل،و اتحادها به، ووصولها إلى مرتبته فعلاًح وذلك هو القيامة الكبرى. فتنحل تراكيب الأفالك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء، وتتناثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم؛ وفيه يحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر، والمطيع عن العاصين وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزيئات الباطل بالشيطان المضل المبطل. فمن وقت الحركة لى وقت السكون: هو المبدأ؛ ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له: هو الكمال.
ثم قالوا: ما من فريضة، وسنة، وحكم من الأحكام الشرعية: من بيع وإجارةن وهبة، ونكاح، وطلاق، وجراح، وقصاص، ودية...إلا وله وزان من العالم: عدداً في مقابلة عدد، وحكماً في كطابقة حكم؛ فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والوالم شرائع جسمانية خلقية. وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات: على وزان التركيبات في الصور والأجسام؛ والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات: كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام. ولكل حرف: وزان في العالم، وطبيعة يخصها، وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس.

فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للابدان؛ وقد قدر الله تعالى: أن يكون غذاء كل موجود مما خلق منه؛ فعلى هذا الوزن صاروا إلى : ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة وإثني عشر، وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين، وثلاث كلمات في الشهادة الثانية، وسبع قطع في الأولى، وست في الثانية، وإثني عشر حرفاً في الأولى، وإثني عشر حرفاً في الثانية. وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك؛ خوفاً من مقابلته بضدهز وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم؛ قد صنفوا فيها كتباً. ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان: يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة: تنكبوا هذه الطريقة؛ حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته، وقصر على الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال، وتحصن بالقلاع.
وكان بدء صعوده على قلعة: ألموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة؛ وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامة وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه.
فعاد، ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين: إمام صادق، قائم في كل زمان؛ وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي: أن لهم إماماً وليس لغيرهم إمام. وإنما تعود خلاصة كلامه، بعد ترديد القول فيه: عوداً على بدء بالعربية، والعجمية إلى هذا الحرف.
ونحن ننقل ماكتبه بالعجمية إلى العربية. ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق، واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين.
فنبدأ بالفصول الأربعة، التي ابتدأ بها دعوته؛ وكتبها عجمية، فعربتها: الأول:قال: للمفتي في معرفت اللع تعالى أحد قولين: إما أن يقول: أعرف الباري تعالى بمجرد العقل والنظر؛ من غير احتياج إلى تعليم معلم؛ وإما أن يقول: لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم؛ قال:و من أفتى بالأول؛ فليس له الإنكار على عقل غيره ونظره؛ فإنه متى أنكر، فقد علم، والإنكار تعليم، ودليل على أن المنكر عليه محتاج إلى غيره. قال: والقسمان ضروريان؛ لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى، أو قال قولاً؛ فإما أن يقول من نفسه، أو من غيره؛ وكذلك إذا اعتقد عقداً: فإما أن يعتقده من نفسه، أو من غيره.
هذا هو الفصل الأول؛ وهو كسر على: أصحاب الرأي والعقل. وذكر في الفصل الثاني: أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم؛ أفيصلح كل معلم على الإطلاق، أم لا بد من معلم صادق؟. قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم؛ ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد. قيل: وهذا كسر على: أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث: أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم صادق؛ أفلا بد من معرفة المعلم أولاً والظفر به، ثم التعلم منه؟ أم جاز التعلم من كل معلم، من غير تعيين شخصه، وتبيين صدقه؟ والثاني رجوع إلى الأول. ومن لن يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق؛ فالرفيق ثم الطريق. وهو كسر على الشيعة.
وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان؛ فرقة قالت: نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه. وفرقة أخذت في كل علم من معلم، وغير معلم. وقد تبين بالمقدمات السابقة: أن الحق مع الفرقة الأولى، فرئيسهم يجب أن يكون رئيس المحقين؛ وإذ تبين ان الباطل مع الفرقة الثانية؛ فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين.
قال: وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة؛ حتى لا يلزم دوران المسائل. وإنما عنى بالحه ههما: الإحتياج وبالمحق المحتاج إليه. وقال: بالإحتياج عرفنا الإمام، وبالإمام عرفنا مقادير الإحتياج؛ كما بالجواز عرفنا الوجوب، أي واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات. قال: والطريق إلى التوحيد كذلك، حذو القذة بالقذة.
ثم ذكر فصولاً في تقرير مذهبه: إما تمهيداً، وإما كسراً على المذاهب؛ وأكثرها: كسر، وإلزامن واستدلال بالإختلاف على البطلان، وبالإتفاق على الحق.

منها فصل الحق والباطل:الصغيرن والكبير، يذكر أن في العالم حقاً، وباطلاًز ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة، وعلامة الباطل هي الكثرة. وأن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي. والتعليم مع الجماعة، والجماعة مع الإمام. والرأي في الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم.
وجعل الحق والباطل، والتشابه بينهما من وجه، والتمايز بينهما من وجه، والتضاد في الطرفين، والترتب فيأحد الطرفين... ميزاناً يزن به جميع ما يتكلم فيه.قال: وإنما أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة، وتركيبها منالنفي والإثبات حق. ووزن بذلك: الخير والشر، والصدق والكذب... وسائر المتضادات. ونكتته: أن يرجع في كل مقالة، وكلمة؛ إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو:التوحيد والنبوة معاً؛ حتى يكون توحيداً، وأن النبوة هي: النبوة والإمامة معاً؛ حتى تكون نبوة. وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة؛ إلا من عرف: كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم.
ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله : إن إلهنا إله محمد. قال: وأنتم تقولون: إلهنا إله العقول؛ أي: ما هدى غليه عقل كل عاقل. فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى؟ وأنه هل هو: واحد؛ أم كثير؟ عالم؛ أم لا؟ قادر؛ أم لا؟... لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي: إله محمد وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون؛ والرسول هو الهادي إليه.
وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة؛ فلم يتخطوا عن قولهم: أفنحتاج إليك؟، أو نسمع هذا منك؟، أو نتعلم عنك؟؟.
وكم قد ساهلت القوم في الإحتياج؛ وقلت: أين المحتاج إليه؟ وأي شيء يقرر لي في الإهيات؟ وماذا يرسم لي في المقولات؟... إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى؛ ليعلم؛ وقد سددتم باب العلم، وفتحتم باب التسليم والتقليد؛ وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة، وأن يسلك طريقً من غير بينة.
وإن كانت: مبادىء الكلام تحكيمات، وعوقبها تسليمات؛ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؛ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليما.
الباب السابع
أهل الفروع
المختلفون: في الأحكام الشرعية والإجتهادية.
اعلم أن أصول الإجتهاد وأركانه أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وربما تعود إلى إثنين.
وإنما تلقوا صحة هذه الأركان؛ وانحصارها: من إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وتلقوا أصلالإجتهاد والقياس وجوزوا منهم أيضاً؛ فإن العلم قد حصل بالتواتر أنهم إذا وقعت حادثة شرعية؛ من حلال، أو حرام: فزعوا إلى الإجتهاد، واتدؤا بكتاب الله تعالى؛ فإن وجدوا فيه بصاً أو ظاهراً؛ تمسكوا به، وأجروا حكمك الحادثة على مقتضاه؛ وإن لم يجدوا فيه نصاً أو ظاهراً: فزعوا إلى السنة؛ فإن روى لهم في ذلك خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه؛ وإن لم يجدوا الخبر: فزعوا إلى الإجتهاد. فكانت أركان الإجتهاد عندهم: اثنين، أو ثلاثة؛ ولنا بعدهم: أربعة؛ إذ وجب علينا: الأخذ بمقتضى إجماعهم واتفاقهم، والجرى على مناهج اجتهادهم.
وربما كان إجماعهم على حادثة غجماعاً اجتهادياً، وربما كان إجماعاً مطلقاً لم يصرح فيه الإجتهاد؛ وعل الوجهين جميعاً: فالإجماع حجة شرعية؛ لإجماعهم على التمسك ل بالإجماع على التمسك بالإجماع. ونحن نعلم: أن الصحابة رضي الله عتهم، الذين هم الأئمة الراشدون: لا يجتمعون على ضلال؛ وقد قال النبي صلى الله عليع وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة.
ولكن الإجماع لا يخلو عن نص خفي أو جلى: قد اختصه؛ لأنا على القطع نعلم أن الصدر الأول لا يجمعون على أمر إلا عن تثبت، وتوقيف؛ فإما أن يكون ذلك النص فسي نس الحادثة التي اتفقوا على حكمها؛ من غير بيان ما يستند إليه حكمها، وإما أن يكون النص في أن الإجماع حجة، ومخالفة الإجماع بدعة.
وبالجملة: مستند الإجماع نص: خفي أو جلي: لا محالة؛ وإلا فيؤدي إلى إثبات الأحكام المرسلة؛ ومستند الإجتهاد والقياس هو: الإجماع؛ وهو أيضاً مستند إلى نص مخصوص في جواز الإجتهاد. فرجعت الأصول الأربعة في الحقيقة إلى إثنتين، وربما ترجع إلى واحد؛ وهو قول الله تعالىز

وبالجملة: نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات: مما لايقبل الحصر والعد؛ ونعلم قطعاً أيضاً أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضاً؛ والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية؛ ولا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى... علم قطعاً: أن الإجتهاد والقياس واجب الإعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة إجتهاد.
ثم لا يجوز أن يكون الإجتهاد مرسلاً: خارجاً عن ضبط الشرع؛ فإن القياس المرسل شرع آخر، وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر، والشارع هو الواضع للأحكام؛ فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان.
وشرائط الإجتهاد خمسة: معرفة قدر صالح من اللغة؛ بحيث يمكنه فهم لغات العرب؛ والتمييز بين الألفاظ الوضعية والإستعارية، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، وفحوى الخطاب، ومفهوم الكلام، ومايدل على مفهومه بالمطابقة، وما يدل بالتضمن، وما يدل بالإستتباع؛ فإن هذه المعرفة كالآلة التي بها يحصل الشيء؛ ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة.
ثم: معرفة تفسير القرآن؛ خصوصاً مايتعلق بالإحكام، وما ورد من الأخبار في معاني الآيات، ومارئي من الصحابة المعتبرين: كيف سلكوا مناهجها؟ وأي معنى فهموا من مدارجها؟؛ ولو جهل تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص قيل: لم يضره ذلك في الإجتهاد؛ فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ، ولم يتعلم بعد جميع القرآن؛ وكان من أهل الإجتهاد. ثم : معرفة الأخبار: بمتونها، وأسانيدها؛ والإحاطة بأحوال النقلة، والواة: عدولها، وثقاتها، ومطعونها، ومردودها؛ والإحاطة بالوقائع الخاصة فيها، وما هو عام ورد في حادثة خاصة، وما هو خاص عمم في الكل حكمه. ثم الفرق بين: الواجب، والندب، والإباحة، الخطر، والكراهة؛ حتى لا يشذ عنه وجه من هذه الوجوه، ولا يختلط عليه باب بباب.
ثم: معرفة مواقع إجماع الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين من السلف الصالحين؛ حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع.
ثم: التهدي إلى مواضع الأقيسة، وكيفية النظر والتردد فيها: من طلب أصل أولاً، ثم طلب معنى مخيل يستنبط منه؛ فيعلق الحكم عليه، أو شبه يغلب على الظن، فيلحق الحكم به.
فهذه: خمس شرائط، لابد من مراعاتها؛ حتى يكون المجتهد مجتهداً واجب الغتباع والتقليد في حق العامي، وإلا؛ فكل حكم لم يستند إلى قياس واجتهاد مثل ما ذكرنا؛ فهو مرسل مهمل.
قالوا: فإذا حصل المجتهد هذه المعارف: ساغ له الإجتهاد، ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع، ووجب على العامي تقليده، والأخذ بفتواه. وقد استفاض الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: يا معاذ! بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه. وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، قلت: يا رسول الله! كيف أقضي بين الناس وأنا حدث السن؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على صدري، وقال: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه ؛ فما شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين.
أحكام المجتهدين: في الأصول والفروع

ثم اختلف أهل الأصول في تصويب المجتهدين في الأصول والفروع. فعامة أهل الأصول على أن الناظر في المسائل الأصولية، والأحكام العقلية اليقينية القطعية : يجب أن يكون متعين الغصابة؛ فالمصيب فيها واحد بعينه. ولا يجوز أن يختلف المختلفان في حكم عقلي حقيقة الإختلاف: بالنفي والإثبات، على شرط التقابل المذكور؛ بحيث ينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه، من الوجه الذي يثبته،في الوقت الذي يثبته إلا وأن يقتسما: الصدق والكذب، والحق والباطل؛ سواء كان الإختلاف: بين أهل الأصول في الإسلام، أو بين أهل الإسلام وبين أهل الملل والنحل الخارجة عن الإسلام؛ فإن المختلف فيه: لا يحتمل توارد الصدق والكذب، والصواب والخطإ عليه في حالة واحدة. وهو مثل قول أحد المخبرين: زيد في هذه الدار في هذه الساعة؛ فإنا نعلم قطعاً: أن أحد المخبرين صادق،و الآخر كاذب؛ لأن المخبر عنه لا يحتمل اجتماع الحالتين فيه معاً؛ فيكون زيد في الدار، ولا يكون في الدارز لعمري! قد يختلف المختلفان في حكم عقلي في مسألة، ويكون محل الإختلاف مشتركاً، وشرط القضيتين نافذاً؛ فحينئذ يمكن أن يصوب المتنازعتان؛ ويرتفع النزاع بينهما برفع الإشتراك، أو يعود النزاع إلى أحد الطرفين: مثال ذلك: المختلفان في مسالة الكلام؛ ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فغن الذي قال: هو مخلوق، أراد به: أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان، والرقوم والكلمات في الكتابة؛ قال: وهذا مخلوق. والذي قال: ليس بمخلوق، لم يرد به الحروف والرقوم، وإنما أراد به معنى آخر؛ فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد.
وكذلك في مسألة الرؤية فإن النافي قال: الرؤية غنما هي: اتصال شعاع بالمرئي، وهو لا يجوز في حق الباري تعالى. فلم يتوارد النفي والغثبات على معنى واحد؛ ألا إذا رجع الكلام إلى إثبات حقيقة الرؤية فيتفقان أولاً على أنها ما هي؟ ثم يتكلمان: نفياًن وإثباتاً.
وكذلك في مسألة الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام، ثم يتكلمان:نفياً، وغثباتاً؛ وإلا فيمكن أن تصدق القضيتان.
وقد صار أبو الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب؛ لأنه أدى ما كلف به من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه، وإن كان متعيناً: نفياً، وإثباتاً؛ إلا انه أصاب من وجه. وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرقن وأما الخارجون عن الملة؛ فقد تقررت النصوص والغجماع على كفرهم، وخطئه. وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل مجتهد على الإطلاق؛ إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر، وتصديق كل قائل.
وللاصوليينك خلاف في تكفير أهل الأهواء، مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه؛ لأن التكفير: حكم شرعي، والتصويب: حكم عقلي؛ فمن مبالغ متعصب لمذهبه: كفر وضلل مخالفه، ومن متسائل متألف: لم يكفر. ومن كفر: قرن كل مذهب ومقالة واحد من أهل الأهواء والملل؛ كتقرين القدرية بالمجوس، وتقرين المشبهة باليهود، وتقرين الرافضة بالنصارى؛ وأجرى حكم هؤلاء فيهم من المناكحةو أكل الذبيحة.
ومن تساهل؛ ولم يكفر: قضى بالتضليل، وحكم بأنهم هلكى في الآخرة. واختلفوا في اللعن على حسب اختلافهم في التكفير والتضليل.
وكذلك من خرج على الإمام الحق بغياً وعدواناً؛ فغن كان صدر خروجه: عن تأول وإجتهاد، سمي: باغياً: مخطئاً. ثم البغي: هل يوجب اللعن؟؛ فعند أهل السنة: إذا لم يخرج بالبغي عن الإيمان؛ لم يستوجب اللعن...
وعند المعتزلة: يستحق اللعن بحكم فسقه؛ والفاسق خارج عن الإيمان... وإن كان صدر خروجه عن: البغي، والحسد، والمروق عن الدين فإجماع المسلمين؛ استحق: اللعن باللسان، والقتل بالسيف والسنان.

وأما الجتهدون في الفروع؛ فاختلفوا في الأحكام الشرعية: من الحلال والحرام؛ ومواقع الإختلاف مظان غلبات الظنون؛ بحيث يمكن تصويب كل مجتهد فيها. وإنما يبتني ذلك على أصل؛ وهو أنا نبحث هل لله تعالى حكم في كل حادثة أم لا؟. فمن الأصوليين من صار إلى أن لا حكم لله تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكماً بعينه قبل الإجتهاد: من جواز، وحظر، وحلال، وحرام؛ وإنما حكمه تعالى: ما أدى إليه اجتهاد المجتهد؛ وأن هذا الحكم منوط بهذا السبب، فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم، خصوصاً على مذهب من قال: إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات؛ وإنما هي راجعة إلى أقوال الشارع: افعل، لا تفعل. وعلى هذا المذهب: كل مجتهد مصيب في الحكم.
ومن الأصوليين من صار إلى أن لله تعالى في كل حادثة حكماً بعينه؛ قبل الإجتهاد: من جواز، وحظر؛ بل وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف؛ من: تحليل، وتحريم؛ وإنما يرتاده المجتهد بالطلب والإجتهاد؛ إذ الطلب لا بد له من مطلوب، والإجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى شيء، إذ الطلب لا بد له من مطلوب، والإجتهاد يجب بين النصوص والظاوهر والعمومات، وبين المسائل المجمع عليها؛ فيطلب الرابطة المعنوية، أو التقريب من حيث الأحكام والصور؛ حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلفيه في المتفق عليه. ولو لم يكن له مطلوب معين: كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه؟. فعلى هذا المذهب:المصيب واحد من المجتهدين في الحكم المطلوب؛ وإن كان الثاني معذوراً نوع عذر؛ إذ لم يقصر في الإجتهادز ثم: هل يتعين المصيب، أم لا؟ فأكثرهم على أنه لا يتعين؛ فالمصيب واحد لا بعينه. ومن الأصوليين من فصل الأمر فيه؛ فقال: ينظر في المجتهد بعينه، خطأ لا يبلغ تضليلً، والمتمسك بالخبر الصحيح والنص الظاهر مصيب بعينه. وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة: فلم يكن مخطئا بعينه؛ بل كل واحد منهما مصي في إجتهاده، وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه.
هذه جملة كافية في أحكام المجتهدين في نوعي الأصول، والفروع.
والمسالة مشكلة، والقضية معضلة.
حكم الإجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد ثم الإجتهاد من فروض الكفايات، لا من فروض الأعيان: إذا اشتغل بتتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع، وإن قصر فيه أهل عصر: عصوا بتركه، وأشرفوا على خطر عظيم؛ فإن الأحكام الشرعية الإجتهادية، إذاكانت مترتبة على الإجتهاد، ترتب المسبب على السبب: كانت الأحكام عاطلة، والآراء كلها فائلة. فلا بد إذاً من مجتهد.
وإذا اجتهد المجتهدان، وأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر؛ فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. وكذلك إذا اجتهد مجتهد واحد في حادثة، وأدى اجتهاده إلى جواز أو خطر، ثم حدثت تلك الحادثة بعينها، في وقت آخر؛ فلا يجوز له أن يأخذ باجتهاده الأول؛ إذ يجوز أن يبدو له في الإجتهاد الثاني ما أغفله في الإجتهاد الأول.
وأما العامي؛ فيجب عليه تقليد المجتهد، وإنما مذهبه فيما يسأله: مذهب من يسأله عنه. هذا هو الأصل؛ إلا أن علماء الفريقين: لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة، والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي؛ لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي، وأن مذهبه مذهب المفتي: يؤدي إلى خلط، وخبط؛ فلهذا لم يجوزوا ذلك. وإذا كان مجتهدان في بلد: اجتهد العامي فيهما، حتى يختار الأفضل والأروع، ويأخذ بفتواه. وإذا أفتى المفتي على مذهبه، وحكم به قاض من القضاة على مقتضى فتواه ثبت الحكم على المذاهب كلها؛ وكان القضاء إذا اتصل بالفتوى ألزم الحكم؛ كالقبض مثلاً إذا اتصل بالعقد. ثم العامي بأي شيء يعرف أن المجتهد قد وصل إلى حد الإجتهاد؟ وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه استكمل شرائط الإجتهاد؟... ففيه نظر.

ومن اصحاب الظاهر؛ مثل: داود الأصفهاني، وغيره: من لم يجوز القياس والإجتهاد في الأحكام؛ وقال: الأصول هي الكتاب، والسنة، والإجماع فقط؛ ومنع أن يكون القياس أصلاًمن الأصول، وقال: إن أول من قاس إبليس، وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنتة. ولم يدر أنه: طلب حكم الشرع، من مناهج الشرع؛ ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران الإجتهاد بها؛ لأن من ضرورة الإنتشار في العالم: الحكم بأن الإجتهاد معتبر. وقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم: كيف اجتهدوا، وكم قاسوا؛ خصوصاً في مسائل المواريث:من توريث الإخوة مع الجد، وكيفية توريث الكلالة؛ وذلك مما لايخفى على المتدبر لأحوالهم.
أصناف المجتهدين ثم المجتهدون من أئمة الأمة: محصورون في صنفين؛ لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي أصحاب الحديث وهم: أهل الحجاز؛ هم: أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سموا: أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم: بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص؛ ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدود: خبراً، أو أثراً؛ وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراًعلى خلاف مذهبي؛ فاعلموا أن مذهبي: ذلك الخبر. ومن أصحابه: أبو إبراهيم إسماعيل ابن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع ابن سليمان المرادي، وأبو يعقوب البويطي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانين ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهاداً؛ بل يتصرفون فيما نقل عنه: توجيهاً؛ واستنباطاً، ويصدرون عن رأيه جملة؛ فلا يخالفونه البتة.
أصحاب الرأي: وهم: أهل العراق؛ هم: أصحاب ابي حنيفة النعمان بن ثابت. ومن أصحابه: محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب ابن إبراهيم بن محمد القاضي، وأبو مطيع البلخي، وبشر المريسي... وإنما سموا: أصحاب الرأي؛ لأن أكثر عنايتهم: بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها؛ وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه؛ فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأينا.
وهؤلاء ربما يزيدون على إجتهاده غجتهاداً، ويخالفونه في الحكم الغجتهادي. والمسائل التي خالفوه فيها: معروفة.
تفرقة وتذكرة: إعلم أن بين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع، ولهم فيها تصانيف، وعليها مناظرات...؛ وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون؛ حتى كأنهم؛ قد أشرفوا على القطع واليقين. وليس يلزم من ذلك: تكفير، ولا تضليل؛ بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا.
الجزء الثاني
أهل الكتاب
الخارجون عن الملة الحيفية، والشريعة الإسلامية؛ ممن يقول: بشريعة وأحكام، وحدود وأعلام. وهم قد انقسموا: إلى من له كتاب محقق؛ مثل التوراة، والغنجيل؛ وعن هذا يخاطبهم التنزيل بأقل الكتاب.
وإلى من له شبهة كتاب؛ مثل: المجوس، والمانوية؛ فإن الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه السلام قد رفعت إلى السماء؛ لأحداث أحدثها بهم نحو اليهود والنصارى؛ إذ هم: من أهل الكتاب؛ ولكن لا يجوز مناكحتهم، ولا أكل ذبائحهم؛ فإن الكتاب قد رفع عنهم.
فنحن: نقدم ذكر أهل الكتاب؛ لتقدمهم بالكتاب.
ونؤخر ذكر من له شبهة كتاب.
أهل الكتاب والأميون: الفرقتان المتقابلتان قبل المبعث هم: أهل الكتاب والأميون؛ والأمي: من لا يعرف الكتابة.
وكانت اليهود والنصارى بالمدينة؛ والأميون بمكة.
وأهل الكتاب: كانوا ينصرون دين الأسباط، ويذهبون مذهب بني إسرائيل؛ والأميون كانوا ينصرون دين القبائل، ويذهبون مذهب بني إسماعيل وكان النور المنحدر منه إلى بني إسرائيل ظاهراً، والنور المنحدر منه إلى بني غسماعيل مخفياً... كان يستدل على النور الظاهر بظهور الأشخاص. وإظهار النبوة في شخص شخص؛ ويستدل على النور المخفي بغبانة المناسك والعلامات وستر الحال في الأشخاص.

وقبلة الفرقة الأولى : بيت المقدس، وقبلة الفرقة الثانية: بيت الله الحرام؛ الذي وضع للناس بمكة مباركاً وهدى للعالمين. وشريعة الأولى: ظواهر الأحكام، وشريعة الثانية: رعاية المشاعر الحرام. وخصماء الفريق الثاني: المشركون؛ مثل عبدة الأصنام والأوثان. فتقابل الفريقان؛ وصح التقسيم بهذين التقابلين.
اليهود والنصارى وهاتانالأمتان: من كبار اهل الكتاب. والأمة اليهودية أكبر؛ لأن الشريعة كانت لموسى عليه السلام، وجميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بذلك، مكلفين بالتزام أحكام التوراة.
والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام: لا يتضمن أحكاماً، ولا يستبطن حلالاًو لا حراماً؛ ولكنه: رموز، وأمثال، ومواعظ، ومزاجر؛ وما سواها من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، كما سنبين؛ فكانت اليهود لهذه القضية لم ينقادوا لعيسى بن مريم عليه السلام، وادعوا عليه: أنه كان ماموراً بمتابعة موسى عليه السلام، وموافقة التوراة؛ فغير، وبدل؛ وعدوا عليه تلك التغييرات: منها: تغيير السبت إلى الأحد؛ ومنها: تغيير أكل لحم الخنزير، وكان حراماً في التوراة؛ ومنها: الختان، والغسل... وغير ذلك.
والمسلموتن قد بينوا أن الأمتين: قد بدلوا، ة حرفوا؛ وإلا فعيسى عليه السلام كان مقرراً لما جاء به موسى عليه السلام؛ وكلاهما مبشران بمقدم نبينا محمد نبي الرحمة صلوات الله عليهم أجمعين؛ وقد أمرهم أئمتهم وأنبياؤهم وكتابهم بذلك. وإنما بنى أسلافهم الحصون والقلاع بقرب المدينة؛ لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان؛ فأمروهم بمهاجرة أوطانهم بالشام إلى تلك القلاع والبقاع؛ حتى إذا ظهر، وأعلن الحق بفاران، وهاجر لى دار هجرته يثرب: هجروه، وتركوا نصره؛ وذلك قوله تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا؛ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين.
وإنما الخلاف بين اليهود والنصارى ما كان يرتفع إلا بحكمه؛إذ كانت اليهود تقول: ليست النصارى كل شيء ومانت النصارى تقول: ليست اليهود على شيء وهو يتلون الكتاب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما كان يمكنهم إقامتها إلا بإقامة القرآن الحكيم؛ وبحكم نبي الحمة رسول آخر الزمان؛ فلما أبوا ذلك، وكفروا بآيات الله... ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله... الآية.
الباب الأول
اليهود خاصة
هاد الرجل: أي رجع وتاب؛ وإنما لزمهم هذا الاسم؛ لقول موسى عليه السلام: إنا هدنا إليك أي رجعنا وتضرعنا.
وهم: أمة موسى عليه السلام، وكتابهم التوراة، وهو أول كتاب نزل من السماء؛ أعني: أن ما كان ينزل على إبراهيم وغير من الأنبياء عليهم السلام؛ما كان يسمى كتاباً، بل صحفاً؛ وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم،أنه قال: " إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده " ؛ فأثبت لها اختصاصاً آخر سوى سائر الكتب. وقد اشتمل ذلك على أسفار: فيذكر مبتدأ الخلق في السفر الأول؛ ثم يذكر: الأحكام، والحدود، والأحوال، والقصص، والمواعظ، والأذكار... في سفر سفر... وأنزل عليه أيضاً الألواح، على شبه مختصر ما في التوراة؛ تشتمل على الأقسام العلمية والعملية؛ قال الله تعالى: " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة " : إشارة إلى تمام القسم العلمي؛ وتفصيلاً لكل شيء: إشارة إلى تمام القسم العلمي.
قالوا:و كان موسى عليه السلام قد أفضى بأسرار التوراة والألواح لى يوشع ابن نون: وصيه وفتاه والقائم بالأمر من بعده؛ ليفضي بها إلى أولاد هارون؛ لأن الأمر كان مشتركاً بينه وبين أخيه هارون عليهما السلام؛ إذ قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام في دعائه حين أوحى ليه أولاً: " وأشركه في أمري " ، وكان هو الةصي. فلما مات هارون في حال حياة موسى: انتقات الصية إلى يوشع بن نون وديعة؛ ليوصلها إلى شبير وشبر: ابني هارون قراراً؛و ذلك أن الوضية والإمامة: بعضها مستقر، وبغعضها مستودع.

واليهود تدعي أن الشريعة لا تكون غلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى عليه السلام وتمت به؛ فلم تكن قبله شريعة، إلا حدود عقلية، وأحكام مصلحية. ولا يجيزوا النسخ أصلاً؛ قالوا: فلا يكون بعد شريعة أصلاً لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى.
و مسائلهم تدور على: جواز النسخ ومنعه، وعلى التشبيه ونفيه، والقول بالقدر؛ والجبرن وتجويز الرجعة؛ واستحالتها.
أما النسخ؛ فكما ذكرنا.
وأما التشبيه؛ فلأنهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات؛ مثل: الصورة، والمشافهة، والتكليم جهراً، والنزول على طور سينا انتقالاً، والاستواء على العرش استقراراً، وجواز الرؤية فوقاً... وغير ذلك.
وأما القول بالقدر؛ فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام؛ فالربانيون منهم؛ كالمعتزلة فينا، والقراءون؛ كالمجبرة والمشبهة.
وأما جواز الرجعة: فإنما وقع لهم من أمرين: أحدهما حديث عزير عليه السلام؛ إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه، والثاني حديث هارون عليه السلام؛ إذ مات في التيه، وقد نسبوا موسى إلى قتله بألواحه قالوا: حسده؛ لأن اليهود كانوا أميل إليه منهم إلى موسى. واختلفوا في حال موته: فمنهم من قال: إنه مات، وسيرجع: ومنهم من قال: غاب، وسيرجع.
واعلم أن التوراة قد اشتملت بأسرها على دلالات وآيات تدل على كون شريعة نبينا المصطفى عليه السلام: حقاً، وكون صاحب الشريعة صادقاً؛ بله ما حروفوه وغيروه وبدلوه: إما تحريفاً من حيث: الكتابة، والصورة. وإما تحريفاً من حيث: التفسير، والتأويل.
وأظهرها: ذكر غبراهيم عليه السلام ة ابنه إسماعيل، ودعاؤه في حقه وفي حق ذريته، وإجابة الرب تعالى إياه: أني باركت على إسماعيل وأولاده، وجعلت فيهم الخير كله، وسأظهرهم على الأمم كلها، وسأبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتي. واليهود معترفون بهذا القضية، إلا أنهم يقولون: أجابه بالملك دون النبوة والرسالة.
وقد ألزمتهم: أن الملك الذي سلمتم: أهو ملك بعدل وحق، أم لا؟: فإن لم يكن بعدل أو حق، فكيف يمن على إبراهيم عليه السلام بملك في أولاده وه هو جور وظلم؟؛ وإن سلمتم العدل والصدق من حيث الملك، فالملك يجب أن يكون صادقاً على الله تعالى فيما يدعيه ويقوله، وكيف يكون الكاذب على الله تعالى صاحب عدل وحق؟.غذ لا ظلم أشد من الكذب على الله تعالى؛ ففي تكذيبه تجويره، وفي التجوير رفع المنة بالنعمة؛ وذلك: خلف. ومن العجب أن التوراة: أن الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون القبائل من بني إسماعيل، ويعلمون أن في ذلك الشعب علماً لدنياً لم تشتمل التوراة عليه. وورد في التواريخ: أن أولاد إسماعيل عليه السلام كانوا يسمون: إل الله، وأهل الله؛ وأولاد إسرائيل: آل يعقوب، وآل موسى، وآل هارون... وذلك: كسر عظيم.
وقد ورد في التوراة: أن الله تعالى: جاء من طور سيناء، وظهر بساعير وعلن بفاران؛ وساعير: جبال بيت المقدس؛ التي كانت مظهر عيسى عليه السلام. وفاران: جبال مكة؛ التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت الأسرار الإلهية، والأنوار الربانية في: الوحي، التنزيل، والمناجاة، والتاويل؛ على مراتب ثلاث: مبدأ، وسط، وكمال؛ والمجيء أشبه بالوسط، والإعلان أشبه بالكمال؛ عبرت التوراة: عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل: بالمجيء من طور سيناء وعن طلوع الشمس: بالظهور على ساعير، وعن البلوغ إلى درجة الكمال: بالاستواء والإعلان على فاران. وفي هذه الكلمات: إثبات نبوة المسيح عليه السلام، والمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد قال المسيح في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة، بل جئت لأكملها؛ قال صاحب التوراة: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص؛ وأنا أقول: إذالطمك أخوك على خدك الأيمن فضع له خدك الأيسر. والشريعة الأخيرة وردت بالأمرين جميعاً: أما القصاص؛ ففي قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى... " واما العفو؛ ففي قوله تعالى: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " .

ففي التوراة: أحكام السياسة الظاهرة العامة، وفي الإنجيل: أحكام السياسة الباطنة الخاصة، وفي القرآن أحكام السياستين جميعاً: " ولكم في القصاص حياة " إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة، وقوله تعالى: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " وقوله: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " : إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة؛ وقد قال عليه السلام: " هو أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " .
ومن العجب! أن من رأى غيره: يصدق ما عنده، ويكمله، ويرقيه من درجة إلى درجة؛ كيف يسوغ له تكذيبه؟ والنسخ في الحقيقة ليس إبطالاً؛ بل هو تكميل. وفي التوراة: أحكام عامة، وأحكام خاصة: إما بأشخاص، وإما بأزمان؛ وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا محالة، ولا يقال: إنه: إبطال، أو بداء. كذلك ها هنا. وأما السبت فلو أن اليهود عرفوا: لم ورد التكليف بملازمة السبت، وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي مقابلة أية حالة من الأحوال؟ وجزئي أي زمان؟ عرفوا: أن الشريعة الأخيرة: حق؛ وأنها جاءت لتقرير السبت؛ بذلك؛ وبأن موسى عليه السلام بنى بيتاً، وصور فيه صوراً وأشخاصاً، وبين مراتب الصور، وأشار إلى تلك الرموز. ولكن لما فقدوا الباب باب حطة ولم يمكنهم التسور، على سنن اللصوص: تحيروا تائهين، وتاهوا متحيرين؛ فاختلفوا على إحدى وسبعين فرقة.
ونحن نذكر منها: أشهرها وأظهرها عندهم، ونترك الباقي هملاً. والله الموفق.
العنانية نسبوا إلى رجل يقال له: عثمان بن داود؛راس الجالوت. يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا؛ ويصدقون عيسى عليه السلام في مواعظه وإشاراته؛ ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة؛ بل قررها، ودعا الناس إليها، وهو من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة، ومن المستجيبين لمسى عليه السلام؛ إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته.
ومن هؤلاء من يقول: إن عيسى عليه السلام لم يدع: أنه نبي مرسل، وليس من بني إسرائيل، وليس هو صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام؛ بل هو أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة. وليس الإنجيل كتاباً غنزل عليه وحياً من الله تعالى؛ بل هو: جمع أحواله من مبدئه إلى كماله، وإنما جمعه من أصحابه الحواريين فكيف يكون كتاباً منزلاً؟.
قالوا:و اليهود ظلموه؛ حيث: كذبوه أولاً؛ ولم يعرفوا بعد دعواه، وقتلوه آخراً؛ ولم يعلموا بعد محله ومغزاه. وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة؛ وذلك هو: المسيح؛ ولكن لم ترد النبوة، ولا الشريعة الناسخة. وورد فارقليط وهو الرجل العالم، وكذلك ورد ذكره في الإنجيل؛ فوجب حمله على ما وجد. وعلى من ادعى غير ذلك تحقيقه وحده.
العيسوية نسبوا إلى أبي عيسى: إسحاق بن يعقوب الأصفهاني؛ وقيل: إن اسمه: عوفيد ألوهيم، أي: عابد الله. كان في زمن المنصور، وابتدأ دعوته في زمن ىخر ملوك بني أمية: مروان بن محمد الحمار؛ فأتبعه بشر كثير من اليهود، وادعوا له آيات ومعجزات، وزعموا: أنه لما حورب خط على أصحابه خطاً، بعود آس، وقال: أقيموا في هذا الخطن فليس ينالكم عدو بسلاح، فكان العدو يحملون عليهم، حتى إذا بلغوا الخط رجعوا عنهم؛ خوفاً من طلسم أو عزيمة ربما وضعها، ثم إن أبا عيسى خرج من الخط وحده على فرسه فقاتل، وقتل من المسلمين كثيراً، وذهب إلى أصحاب موسى بن عمران الذين هم وراء النهر الرمل؛ ليسمعهم كلام الله. وقيل: إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري: قتل، وقتل أصحابه.
زعم أبو عيسى: أنه نبي، وأنه: رسول المسيح المنتظر. وزعم: أن للمسيح خمسة من الرسل يأتون قبله واحداً بعد واحد. وزعم: أن الله تعالى كلمه، وكلفه أن يخلص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين والملوك الظالمين.و زعم: أن المسيح افضل ولد آدم، وأنه أعلى منزلة من الأنبياء الماضين، وإذ هو رسوله؛ فهو أفضل الكل أيضاً. وكان يوجب تصديق المسيح، ويعظم دعوة الداعي، ويزعم أيضاً: أن الداعي هو المسيح.
وحرم في كتابه: الذبائح كلها، ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق:طيراًكان، أو بهيمة. وأوجب عشر صلوات، وأمر أصحابه بإقامتها؛ وذكر أوقاتها. وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة.

وتوراة الناس: هي التي جمعها ثلاثون حبراً لبعض ملوك الروم؛ حتى لا يتصرف فيها كل جاهل بمواضع أحكامها؛ والله الموفق.
المقاربة واليوذعانية نسبوا إلى: يوذعان منن همذان: وقيل: كان اسمه: يهوذا. كان يحث على الزهد، وتكثير الصلاة؛ وينهى عن اللحوم والأنبذة، وفيما نقل عنه: تعظيم أمر الداعي. وكان يزعم أن للتوراة: ظاهراً؛ وباطناً، وتنزيلاً، وتأويلاً. وخالف بتأويلاته عامة اليهود، وخالفهم في التشبيه، ومال إلى القدر، وأثبت الفعل حقيقة للعبد؛ وقدر الثواب والعقاب عليه، وشدد في ذلك.
ومنهم : الموشكانية؛ أصحاب: موشكان. كان على مذهب يوذعان، غير أنه كان يوجب الخروج على مخالفيه، ونصب القتال معهم؛ فخرج في تسعة عشر رجلاً؛ فقتل بناحية: قم. وذكر عن جماعة من الموشكانية: أنهم أثبتوا نبوة المصطفى محمد عليه السلام إلى العرب وسائر الناس سوى اليهود؛ لأنهم أهل ملة وكتاب. وزعمت فرقة من المقاربة: أن الله تعالى خاطب الأنبياء عليهم السلام، بواسطة ملك اختاره، وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم؛ وقالوا: كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى، فهو خبر عن ذلك الملك؛ وإلا فلا يجوز أن يوصف الله تعالى بوصف. قالوا: وإن الذي كلم موسى عليه السلام تكليماً: هو ذلك الملك؛ والشجرة المذكورة في التوراة: هو ذلك الملك. ويتعالى الرب تعالى عن أن يكلم بشراً تكليماً. وحمل جميع ما ورد في التوراة: من طلب الرؤية، وشافهت الله، وجاء الله،و طلع الله في السحاب، وكتب التوراة بيده، واستوى على العرشس قراراً، وله صورة آدم، وشعر قطط،و وفرة سوداء،و انه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأنه ضحك الجبار حتى بدت نواجذه... إلى غير ذلك؛ على ذلك الملك. قال: ويجوز في العادة أن يبعث ملكاً روحانياً من جملة خواصه، ويلقي عليه اسمه، ويقول: هذا هو رسولي، ومكانه فيكم مكاني، وقوله قولي، وأمره أمري، وظهوره عليكم ظهوري؛ كذلك يكون حال ذلك الملك.
وقيل إن أرنوس حيث قال في المسيح إنه هو الله، وإنه صفوة العالم أخذ قوله من هؤلاء، وكانوا قبل أرنوس بأربعمائة سنة، وهم أصحاب زهد وتقشف.
وقيل صاحب هذه المقالة هو: بنيامين النهاوندي: قرر لهم هذا المذهب، وأعلمهم أن الآيات المتشابهات في التوراة كلها مؤولة، وأنه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يبهه شيء منها؛ وأن المراد بهذه الكلمات الواردة في التوراة: ذلك الملك المعظم.
وهذا كما يحمل في القرآن: المجيء، والإتيان؛ على إتيان ملك من الملائكة؛ وهو كما قال تعالى في حق مريم عليها السلام: " فنفخنا فيها من روحنا " ، وفي موضع آخر: " فنفخنا فيه روحنا " ؛ وإنما النافخ جبريل عليه السلام حين تمثل لها بشراً سوياً؛ ليهب لها غلاماً زكياً.
السامرة هؤلاء قوم يسكنون: جبال بيت المقدس؛ وقرى من اعمال مصر، ويتقشفون في الطهارة أكثر من تقشف سائر اليهود. أثبتوا نبوة: موسى، وهارون، ويوشع بن نون عليهم السلام؛ وأنكروا نبوة من بعدهم من الأنبياء، إلا نبياً واحداً؛ وقالوا: التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد يأتي من بعد موسى، يصدق ما بين يديه من التوراة، ويحكم بحكمها، ولا يخالفها البتة. وظهر في السامرة رجل يقال له: الألفان، ادعى النبوة وزعم أنه هو الذي بشر به موسى عليه السلام، وأنه هو الكوكب الدري الذي ورد في التوراة: أنه يضيء ضوء القمر؛ وكان ظهوره قبل المسيح عليه السلام بقريب من مائة سنة. وافترقت السامرة: إلى دوستانية؛ وهم: الألفانية، وإلى كوستانية. والوستانية معناها: الفرقة المتفرقة الكاذبة. والكوستانية معناها: الجماعة الصادقة؛ وهم يقرون بالآخرة والثواب، والعقاب فيها. والدوستانية تزهم أن الثواب والعقاب في الدنيا. وبين الفريقين اختلاف في الأحكام والشرائع.
وقبلة السامرة جبل يقال له غريزيم بين بيت المقدس ونابلس. قالوا: إن الله تعالى أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس وهو الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، فتحول داود إلى إيلياء وبنى البيت ثمة، وخالف الأمر، فظلم، والسامرة توجهوا إلى تلك القبلة دون سائر اليهود. ولغتهم غير لغة اليهود. وزعموا: أن التوراة كان بلسانهم؛ وهي قريبة من العبرانية، فنقلت إلى السريانية.

فهذه أربع فرق: هم الكبار، وانشعبت منهم الفرق إلى إحدى وسبعين فرقة.
وهم بأسرهم أجمعوا على: أن في التوراة بشارة بواحد بعد موسى؛ وأ نما افتراقهم: إما في تعيين ذلك الواحد، أو في الزيادة على ذلك الواحد، وذكر المشيحا وآثره ظاهر في الأسفار، وخرج واحد من آخر الزمان هو: الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضاً: متفق عليه. واليهود على انتظاره؛ والسبت يوم ذلك الرجل؛ وهو يوم الاستواء بعد الخلق.
وقد اجتمعت اليهود عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقياً على قفاه واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. وقالت فرقة منهم: إن ستة الأيام التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض: هي ستة آلاف سنة؛ فإن يوماً عند الله كألف سنة مما تعدون بالسير القمري ؛ وذلك هو ما مضى من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وبه يتم الخلق. ثم إذا بلغ الخلق إلى النهاية: ابتدأ الأمر، ومن ابتداء الأمر يكون الاستواء على العرش، والفراغ من الخلق؛ وليس ذلك أمراً: كان،و مضى؛ بل هو في المستقبل، إذا عددنا الأيام بالألوف.
الباب الثاني
النصارى
النصارى: أمة المسيح عيسى بن مريم: رسول الله، وكلمته عليه السلام؛ وهو المبعوث حقاً بعد موسى عليه السلام، المبشر به في التوراة. وكانت له آيات ظاهرة، وبينات زاهرة، ودلائل باهرة؛ مثل: غحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص؛ ونفس وجوده وفطرته:آية كاملة على صدقه؛ وذلك: حصوله من غير نطفة سابقاً، ونطقه البين من غير تعليم سالف. وجميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون سنة وقد أوحى الله تعالى إليه: إنطاقاً؛ في المهد، وأوحى إليه:إبلاغاً؛ عند الثلاثين.و كانت مدة دعوته: ثلاث سنين، وثلاثة أشهر،و ثلاثة أيام. فلما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه، وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين: أحدهما: كيفية نزوله؛ واتصاله برمه؛ وتجسد الكلمة، والثاني: كيفية صعوده؛ واتصاله بالملائكة؛ وتوحد الكلمة.
أما الأول؛ فإنهم قضوا بتجسد الكلمة؛و لهم في كيفية الاتحاد والتجسد كلام: فمنهم من قال:أشرق على جسدي إشراق النور على الجسم المشف،و منهم من قال: انطبع فيهم انطباع النقش في الشمع، ومنهم من قال: ظهر به ظهوراً الروحاني بالجسماني، ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء والماء اللبن.و أثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة؛ قالوا: الباري تعالى جوهر واحد يعنون به: القائم بالنفس، لا التحيز والحجمية؛ فهو: واحد بالجوهرية: ثلاثة بالأقنومية؛ ويعنون بالأقانيم الصفات: كالوجود، والحياة، والعلم؛ وسموها: الأب، والابن، وروح القدس؛ وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم.
وقالوا في الصعود: إنه قتل وصلب؛ قتله اليهود: حسداً، وبغياً، وإنكاراً لنبوته ودرجته؛ ولكن القتل ما ورد على الجزء اللاهوتي،و إنما ورد على الجزء الناسوتي. قالوا: وكمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء: نبوة، وإمامة، وملكة؛ وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الصفات الثلاث، أو ببعضها، والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك: لأنه : الابن الوحيد؛ فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء؛و هو الذي به غفرت ذلة آدم عليه السلام، وهو الذي يحاسب الخلق.
ولهم في النزول اختلاف. فمنهم من يقول: ينزل قبل يوم القيامة؛ كما قال أهل الإسلام؛ ومنهم من يقول: لا زول له إلا يوم الحساب. وهو بعد أن قتل وصلب، نزل؛ ورأى شخصه شمعون الصفا، وكلمه، وأوصى إليه؛ ثم فارق الدنيا، وصعد إلى السماء. فكان وصيه:شمعون الصفا؛ وهو أفضل الحواريين علماًو زهداً، وأدباً؛غير ان فولوس شوش أمره، وصير نفسه شريكاً له، وغير أوضاع كلامه، وخلطه بكلام الفلاسفة ووساوس خاطرة.
ورأيت رسالة فولوس التي كتبها إلى اليونانيين: أنكم تظنون أن مكان عيسى عليه السلام كمكان سائر الأنبياء،و ليس كذلك؛ بل إنه مثله مثل ملكيزداق؛ وهو ملك السلام الذي كان إبراهيم عليه السلام يعطى إليه العشور، وكان يبارك على إبراهيم ويمسح رأسه. ومن العجب: أنه نقل في الأناجيل:أن الرب تعالى قال:انك أنت الابن الوحيد؛ ومن كان وحيداً كيف يمثل بواحد من البشر؟!.

ثم أن أربعة من الحواريين اجتمعوا وجمع كل واحد منهم جمعاً سماه: الأنجيل؛ وهم: متى، ولوقا، ومرقس، ويوحنا. وخاتمة إنجيل متى أنه قال: إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم: الأب، والابن، وروح القدس.
وفاتحة إنجيل يوحنا: على القديم الأزلي قد كانت الكلمة، وهو ذا الكلمة كانت عند الله، والله هو كان الكلمة، وكل كان بيده.
ثم افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة؛ وكبار فرقهم ثلاثة: الملكانية والنسطورية، واليعقوبية. وانشعبت منها: الإليانية، والبليارسية، والمقدانوسية، والسبالية، والبوطنوسية، والبولية... على سائر الفرق.
الملكانية أصحاب: ملكا، الذي ظهر بأرض الروم، والستولى عليها.و معظم الروم ملكانية. قالوا: إن الكلمة احدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته: ويعنون بالكلمة: أقنوم العلم، ويعنون بروح القدس: أقنوم الحياة؛ ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابناً، بل المسيح مع ما تدرع به ابن: فقال بعضهم: إن الكلمة ما زجت جسد المسيح؛ كما يمازج الخمر أو الماء اللبن.
وصرحت الملكانية: بأن جوهر غير الأقانيم، وذلك كالموصوف والصفة؛ وعن هذا صرحوا بفثبات التثليث وأخبر عنهم القرآن: " لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة " . وقالت الملكانية: إن المسيح ناسوت كلي، لا جزئي؛ وهو قديم أزلين وقد ولدت مريم عليها السلام إلهاً أزلياً؛ والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معاً. وأطلقوا لفظ الأبوة والنبوة على الله عز وجل وعلى المسيح؛ لما وجددوا في الإنجيل؛ حيث قال: إنك أنت الابن الوحيد؛ وحيث قال له شمعون الصفا: إنك ابن الله حقاً. ولعل ذلك من مجاز اللغة؛ كما يقال لطلاب الدنيا: أبناء الدنيا، ولطلاب الىخرة: أبناء الآخرة؛ وقد قال المسيح عليه السلام للحواريين: أنا أقول لكم: أحبوا اعداءكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لاجل من يؤذيكم؛ لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء، الذي تشرق شمسه كما أن اباكم الذي في السماء تام. وقال: انظروا صدقاتكم، فلا تعطوها قدام الناس؛ لترءوهم؛ فلا يكون لكم اجر عند ابيكم الذي في السماء. وقال حين كان يصلب: أذهب إلى أبي وابيكم.
ولما قال أريوس: القديم هو اللهن والمسيح هو مخلوق؛ اجتمعت: البطارقةن والمطارنةن والأساقفة في بلد فسطنطينية بمحضر من ملكهم، وكانوا ثلاثمائة وثمانية رجلاً؛ واتفقوا على هذه الكلمة: اعتقاداً، ودعوة؛ وذلك قولهم: نؤمن بالله الواحد: الآب: مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى؛ وبالابن الواحد: يسوع المسيح: ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء من أجلنان ومن أجل معشر الناس. ومن أجل خلاصنا: نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنساناً، وحبل به، وولد من مريم البتول، وقتل، وصلب أيام فيلاطوسن ودفن، ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلي عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد؛ روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبمعمودية واحدة: لغفران الخطايا، وبجماعةواحدة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الىبدين.
هذا هو الإتفاق الأول على هذه الكلمات، وفيه إشارة لى حشر الأبدان. وفي النصارى من قال بحشر الارواح دون الأبدان؛ وقال إن عاقبة الأشرار في القيامة: غم، وحزن الجهل؛ وعاقبة الأخيار: سرور، وفرح العلم. وأنكروا أن يكون في الجنة: نكاح، وأكل، وشربز وقالمار إسحاق منهم إن الله تعالى وعد المطيعين، وتوعد العاصين، ولا يجوز أن يخلف الوعد؛ لأنه لا يليق بالكريم، ولكن يخلف الوعيد؛ فلا يعذب العصاة، ويرجع الخلق إلى سرور، وسعادة، ونعيم؛ وعمم في الكل؛ إذ العقاب الأبدي لا يليق بالجواد الحق تعالى.
النسطورية

أصحاب: نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه. وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة. قال: إن الله تعالى واحد، ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة؛ وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام: لا على طريق الامتزاج؛ كما قالت الملكانية، ولا على طريق الظهور به؛ كما قالت اليعقوبية، ولكن؛ كإشراق الشمس في كوة على بلورة، وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم.
واشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم: احوال أبي هاشم من المعتزلة؛ فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء هو مركباً من جنسين؛ بل هو: بسيط، وواحد. ويعنى بالحياة، والعلم: أقنومين جوهرين؛ أي اصبين مبدأين للعالم، ثم فسر العلم بالنطق، والكلمة. ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى: موجوداًن حياً، ناطقاً؛ كما تقول الفلاسفة في حد الإنسان، غلا أن هذه المعاني تتغاير في الإنسان؛ لكونه جوهراً مركباً، وهو جوهر بسيط غير مركب.
وبعضهم يثبت لله تعالى صفات أخر، بمنزلة القدرة والإرادة ونحوهما؛ ولم يجعلوها أقانيم كما جعلوا الحياة والعلم أقنومين.
ومنهم من أطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة: حي، ناطق، إله. وزعم الباقون: أن اسم الإله لا يطلق على كل واحد من الأقانيم. وزعموا: أن الابن لم يزل متولداً من الأب، وإنماتجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد؛ والحدوث راجع إلى الجسد والناسوت؛ فهو: إله وإنسان اتحدا؛ وهما: جوهرانن أقنومان، طبيعتان: جوهر قديم ، وجوهر محدث: إله تام، وإنسان تام؛ ولم يبطل الاتحاد قدم القديم، ولا حدوث المحدث؛ لكنهما صارا: مسيحاً واحداً، طبيعة واحدة. وربما بدلوا العبارة؛ فوضعوا مكان الجوهر:الطبيعة، ومكان الأقنوم: الشخص.
وأما قولهم في: القتل، والصلب؛ فيخالف قول الملكانية واليعقوبية؛ قالوا: إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته، لا من جهة لاهوته؛ لان الإله لا تحله الآلام.
وبوطينوس، وبولس الشمشاطي يقولان: إن الإله واحد، وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام، وإنه: عبد، صالح، مخلوق؛ إلا أن الله تعالى شرفه وكرمه لطاعته، وسماه ابناً على التبني، لا على الولادة والاتحاد.
ومن النسطورية قوم يقال لهم: المصلين قالوا في المسيح مثل ما قال نسطور؛ إلا انهم قالوا: إذا اجتهد الرجل في العبادة، وترك التغذي باللحم والدسم، ورفض الشهوات الحيوانية والنفسانية: تصفى جوهره؛ حتى يبلغ ملكوت السماوات، ويرى الله تعالى جهراً وينكشف له ما في الغيب: فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. ومن النسطورية مكن ينفي التشبيه، ويثبت القول بالقدر: خيره وشره من العبد؛ كما قالت القدرية.
اليعقوبية أصحاب: يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا؛ إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحماً. ودماً؛ فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده، بل هو: هو.
وعنهم أخبرنا القرآن الكريم: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. فمنهم من قال: إن المسيح هو الله تعالى.
ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت؛ فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة؛ بل صار هو: هو؛ وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة إنسان، أو ظهر الشيطان بصورة حيوان؛ وكما أخبر التنزيل عن جبريل عليه السلام: فتمثل لها بشراً سوياً.
وزعم أكثر اليعقوبية: أن المسيح جوهر واحد. أقنوم واحد؛ إلا أنه من جوهرين، وربما قالوا: طبيعة واحدة من طبيعتين؛ فجوهر الإله القديم، وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيباً كما تركبت النفس والبدن؛ فصارا جوهراً واحداً، أقنوم واحداً؛ وهو إنسان كله، وإله كله؛ فيقال: الإنسان صار إلهاً، ولا ينعكس؛ فلا يقال: الإله صار إنساناً؛ كالفحمة تطرح في النار، فيقال: صارت الفحمة ناراً، ولا يقال: صارت النار فحمة، وهي في الحقيقة: لا نار مطلقة، ولا فحمة مطلقة؛ بل هي: جمرة. وزعموا: أن الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئي، لا الكلي. ربما عبروا عن الاتحاد بالإمتزاج، والأدراع، والحلول؛ كحلول صورة الإنسان في المرآة المجلوة.
وأجمع أصحاب التثليث كلهم على أن القديم لا يجوز أن يتحد بالمحدث؛ إلا أن الأقنوم الثاني الذي هو الكلمة اتحدت دون سائر الأقانيم.

وأجمعوا كلهم على أن المسيح عليه السلام ولد من مريم عليها السلام، وقتل، وصلب؛ ثم اختلفوا في كيفية ذلك؛ فقالت الملكانية واليعقوبية: إن الذي ولد من مريم هو الإله؛ فالملكانية لما اعتقدت أن المسيح ناسوت كلي أزلي؛ قالوا: إن مريم إنسان جزئي، والجزئي لا يلد الكلي،و إنما ولده الأقنوم القديم. واليعقوبية لما اعتقدت أن المسيح هو جوهر من جوهرينن وهو إلهن وهو المولود؛ قالوا: إن مريم ولدت إلهاً... تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
وكذلك قالوا في القتل والصلب: إنه وقع على الجوهر الذي هو من جوهرين؛ قالوا: ولو وقع على أحدهما لبطل الاتحاد.
وزعم بعضهم: أنانثبت وجهين للجوهر القديم؛ فالمسيح: قديم من وجه، محدث من وجه.
وزعم قوم من اليعقوبية: أن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئاً، لكنها مرت بها كالماء بالميزاب؛ وما ظهر بها من شخص المسيح في الأعين؛ فهو كالخيال، والصورة في المرآة؛ وإلا فما كان جسماً متجسماً كثيفاً في الحقيقة. وكذلك القتل والصلب إنما وقع على الخيال والحسبان؛ وهؤلاء يقال لهم: الإليانية. وهم قوم بالشام، واليمن، وأرمينية؛ قالوا: وإنما صلب الإله من أجلنا؛ حتى يخلصنا. وزعم بعضهم: أن الكلمة كانت تداخل جسم المسيح عليه السلام أحياناً؛ فتصدر عنه الآيات: ن إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص؛ وتفارقه في بعض الأوقات؛ فترد عليه الآلام في بعض الأوقات؛ فترد عليه الآلام والأوجاع.
ومنهم بليارس وأصحابه؛ حكى عنه أنه كان يقول: إذا صار الناس إلى الملكوت الأعلى: أكلوا ألف سنة، وشربوان وناكحوا؛ ثم صاروا إلى النعم التي وعدهم آريوسح وكلها: لذة، وراحة، وسرور، وحبور؛ لا أكل فيهان ولا شرب، ولا نكاح.
وزعم مقدانيوس أن الجوهر القديم جوهر واحد، أقنوم واحد، له ثلاث خواصن واتحد بكليته بجسد عيسى بن مريم عليهما السلام.
وزعم آريوس: أن الله واحد، سماه: آبا، وأن المسيح كلمة الله وابنه: على طريق الاصطفاء؛ وهو مخلوق قبل خلق العالم، وهو خالق الأشياء. وزعم: أن لله تعالى روحاًمخلوقة أكبر منسائر الأرواح، وأنها واسطة بين الآب والابن، تؤدي غليه الوحي. وزعم أن المسيح ابتدأ: جوهراً، لطيفاً، روحانياً، خالصاً، غير مركب، ولا ممزوج بشيء من الطبائع الأربع؛ وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم. وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث، فتبرءوا منه؛ لمخالفتهم إياه في المذهب.
الجزء الثالث
من له شبهة كتاب
قد بينا كيفية تحقيق الكتاب، وميزنا بين حقيقةالكتاب وشبهة الكتاب، وأن الصحف التي كانت لإبراهيم عليه السلام كانت: شبهة كتاب؛ وفيها: مناهج علمية، ومسالك عملية: أما العلميات؛ فتقرير كيفية الخلق والإبداع، وتسوية المخلوقات على سنة نظام وقوام تحصل منها حكمته الأزلية، وتنفذ فيها مشيئته السرمدية، ثم تقرير التقدير والهداية عليها؛ ليتقدركل نوع وصنف بقدره المحكوم والمحتوم، ويقبل هدايته السارية في العالم بقدر استعداده المعلوم.
والعلم كل العلم لا يعدو هذين النوعين؛ وذلك قوله تعالى: " سبح اسم ربك الأعلى،الذي خلق فسوى، والذي قدر فهذى " ؛ وقال عز وجل خبراً عن إبراهيم عليه السلام: " الذي خلقني فهو يهدين " ؛ وخبراً عن موسى عليه السلام: " الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " .
وأما العمليات: فتزكية النفوس عن درن الشبهات، وذكر الله تعالى؛ بإقامة العبادات، ورفض الشهوات الدنيوية، وإيثار السعادات الأخروية؛ ولن يحصل البلوغ إلى كمال المعاد إلا بإقامة هذين الركنين؛ أعني: الطهارة، والشهادة.
والعمل كل العمل لا يعدو هذين النوعين؛ وذلك قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى،بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى " .
ثم قال عز من قائل: " إن هذا لفي الصحف الأولى:صحف إبراهيم وموسى " ؛ فبين ان الذي اشتملت عليه الصحف: هو الذي اشتملت عليه هذه السورة. وبالحقيقة: هذا هو الإعجاز الحقيقي.
المجوس، وأصحاب الإثنين، والمانوية وسائر فرقهم

المجوسية: يقال لها: الدين الأكبر، والملة العظمى؛ إذا كانت دعوةالأنبياء عليهم السلام بعد إبراهيم الخليل عليه السلام لم تكن في العموم كالدعوة الخليلية، ولم يثبت لها من: القوة، والشوكة، والملك، والسيف... مثل الملة الحنيفية؛ إذا كانت ملوك العجم كلها على ملة إبراهيم عليه السلام، وجميع من كان في زمان كل واحد منهم من الرعايا في البلاد على أديان ملوكهم؛ وكان لملوكهم مرجع هو: موبذ موبذان يعني: أعلم العلماء، وأقدم الحكماء، يصدرون عن أمره، ولا يخالفونه، ولا يرجعون إلاإلى رأيه، ويعظمونه تعظيم السلاطين لخلفاء الوقت.
وكانت دعوة بني إسرائيل أكثرها في بلاد الشام وما وراءها من المغرب؛ وقلما سرى من ذلك إلى بلاد العجم. وكانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل عليه السلام راجعة إلى صنفين إثنين أحدهما: الصابئة والثاني: الحنفاء.
فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج: في معرفة الله تعالى، ومعرفة طاعته، وأوامره، وأحكامه: إلى متوسط؛ لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً؛ وذلك: لزكاء الروحانيات؛ وطهارتها؛ وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا: يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب؛ يماثلنا في المادة والصورة؛ قالوا: ولئن اطعمتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون.
والحنفاء: كانت تقول: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته: في الطهارة، والعصمة، والتأييدن والحكمة:فوق الروحانيات: يماثلنا من حيث البشرية، ويمايزنا من حيث الروحانية؛ فيتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقى إلى نوع الإنسان بطرف البشرية؛ وذلك قوله تعالى: " قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " ، وقال عن ذكره: " قل سبحان ربي: هل كنت إلا بشراً رسولاً " ؟.
ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة؛ والتقرب إليها بأعيانها؛ والتلقي عنها بذواتها... فزعت جماعة إلى هياكلها: وهي السيارات السبع، وبعض الثوابت. فصابئة النبط والفرس والروم: مفزعها السيارات،و صابئة الهند: مفزعها الثوابت.و سنذكر مذاهبهم على التفصيل على قدر الإمكان بتوفيق الله تعالى. وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع، ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئاً. والفرقة الأولى: هم عبدة الكواكب، والثانية: هم عبدة الأصنام.
ولما كان الخليل عليه السلام مكلفاً بكسر المذهبين على الفرقتين،و تقرير الحنيفية السمحة السهلة: احتج على عبدة الأصنام: قولاً، وفعلاً: كسراً من حيث القول، وكسراً من حيث الفعل فقال لأبيه آزر: يا أبت! لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟ .. الآيات... حتى: جعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم، وذلك إلزام من حيث الفعل، وإفحام من حيث الكسر. ففرغ من ذلك كما قال الله تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم " ، وابتدإ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة الموافقة: كما قال تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " : أي كما آتيناه الحجة كذلك نريه المحجة؛ فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ، والمخالفة في النهاية؛ ليكون الإلزام أبلغ، والإفحام أقوى؛ وإلا فإبراهيم الخليل عليه السلام: لم يكن في قوله: هذا ربي: مشركاً، كما لم يكن في قوله: بل فعله كبيرهم هذا: كاذباً. وسوق الكلام من جهة الإلزام، غير سوقه على جهة الإلتزام. فلما أظهر الحجة وبين المحجة: قرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى، والشريعة العظمى، وذلك هو الدين القيم. وكان الانبياء من أولاده كلهم يقررون الحنيفية؛ وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه: كان في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى، وأصحاب المرمى وأصمى. ومن العجب! ان التوحيد من أخص أركان الحنيفية؛ ولهذا: نفي الشرك بكل موضع ذكر الحنيفية: حنيفاً وما كان من المشركين، حنفاء الله غير مشركين به.

ثم إن التثنية اختصت بالمجوس؛ حتى أثبتوا أصلين إثنين، مدبرين، قديمين: يقتسمان: الخير؛ والشر، والنفع؛ والضر، والصلاح؛ والفساد... يسمون أحدهما: النور، والآخر: الظلمة. وبالفارسية: يزدان، وأهرمن. ولهم في ذلك تفصيل مذهب. ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين إثنتين: إحداهما: بيان سبب امتزاج النور بالضلمة، والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة. وجعلوا: الامتزاج مبدأ، والخلاص معاداً.
الباب الأول
المجوس
أثبتوا أصلين كما ذكرنا؛ إلا أن المجوس الأصلية زعموا: أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين؛ بل النور ازلي، والظلمة محدثة. ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها: أمن النور حدثت! والنور لا يحدث شراً جزئياً؛ فكيف يحدث أصل الشر؟، أم من شيء آخر! ولا شيء يشرك النور في الإحداث والقدم؟. وبهذا يظهر خبط المجوس.
وهؤلاء يقولون: المبدأ الأول من الأشخاص: كيومرث؛ وربما يقولون:زروان الكبير، والنبي الثاني: زردشت، والكيومرثية يقولون: كيومرث هو آدم عليه السلام، وتفسير كيومرث هو: الحي الناطق. وقد ورد في تواريخ الهند والعجم: أن كيومرث هو آدم عليه السلام. ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.
الكيومرثية أصحاب المقدم الأول:كيومرث. أثبتوا أصلين: يزدان، وأهرمن؛ وقالوا: يزدان أزلي قديم؛ وأهرمن محدث مخلوق، وقالوا: إن سبب خلق أهرمن أن يزدانن فكر في نفسه: أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟، وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور؛ فحدث الظلام من هذه الفكرة، وسمى: أهرمن؛ وكان مطبوعاً على الشر،و الفتنة، والفساد، والفسق، والضرر، والإضرار؛ فخرج على النور، وخالفه طبيعة وفعلاً، وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة.ثم إن الملائكة توسطوا، فصالحوا؛ على أن يكون العالم السفلي خالصاً لأهرمن سبعة آلاف سنة،ثم يخلى العالم ويسلمه إلى النور؛ والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم. ثم بدأ برجل يقال له: كيومرثن وحيوان يقال له: ثور فقتلهما؛ فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس، وخرج من أصل ريباس: رجل يسمى ميشة، وامراة اسمها: ميشانة، وهما أبوا البشر، ونبت من مسقط الثور: الأنعام، وسائر الحيوانات.
وزعموا: أن النور خير الناس وهو أرواح بلا أجساد بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن، وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربون أهرمن؛ فاختاروا لبس الأجساد، ومحاربة أهرمن... على أن تكون لهم النصرة من عند النور، والظفر بجنود أهرمن، وحسن العاقبة. وعند الظفر به وإهلاك جنوده: تكون القيامة.
فذاك: سبب الامتزاج، وهذا: سبب الخلاص.
الزروانية قالوا: إن النور أبدع أشخاصاً من نور؛ كلها: روحانية، نورانية، ربانية؛ ولكن الشخص الأعظم اسمه زروان شك في شيء من الأشياء؛ فحدث أهرمن الشيطان من ذلك الشك.
وقال بعضهم: لا؛ بل إن زروان الكبير قام، فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعاً وتسعين سنة؛ ليكون له ابن فلم يكن؛ ثم حدث نفسه، وفكر، وقال: لعل هذا العلم ليس بشيء فحدث أهرمن من ذلك الهم الواحد، وحدث هرمز من ذلك العلم؛ فكانا جميعاً في بطن واحد، وكان هرمز أقرب من باب الخروج؛ فاحتالاهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه، فخرج قبله وأخذ الدنيا.
وقيل: إنه لما مثل بين يدي زروان فابصره ورأى ما فيه؛ من الخبث، والشرارة، والفساد: أبغضه، ولعنه، وطرده؛ فمضى واستولى على الدنيا. وأما هرمز فبقى زماناً لا يد له عليه؛ وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه؛ لما وجدوا فيه من: الخير، والطهارة، والصلاح، وحسن الأخلاق.
وزعم بعض الزروانية: أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء: إما فكرة رديئة، وإما عفونة رديئة؛ وذلك هو مصدر الشيطان. وزعموا؛ أن الدنيا كانت سليمة من: الشرور، والآفات، والفتن، والمحن.

وكان بمعزل عن السماء، فاحتال حتى خرق السماء، وصعد. وقال بعضهم: كان هو في السماء، والأرض خالية عنه؛ فاحتال حتى خرق السماء، ونزل إلى الأرض بجنوده كلها؛ فهرب النور بملائكته، واتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته، وحاربه ثلاثة آلاف سنة؛ لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى، ثم توسط الملائكة، وتصالحا: على أن يكون إبليس وجنوده في قرار الأرض تسعة آلاف سنة؛ بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها، ثم يخرج إلى موضعه. ورأى الرب تعالى عن قولهم الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده، وأن لا ينقض الشرط حتى تنقضي المدة المضروبة للصلح. فالناس في: البلايا، والفتن، والخزايا، والمحن... إلى انقضاء المدةن ثم يعودون إلى النعيم الأول. وشرط إبليس عليه: أن يمكنه من أشياء يفعلها، ويطلقه في أفعال رديئة يباشرها. فلما فرغا من الشرط: أشهدا عليهما عدلين، ودفعا سيفهما إليهما، وقالا لهما: من نكث فاقتلاه بهذا السيف.
ولست أظن عاقلاً يعتقد هذا الرأي الفائل، ويرى هذا الإعتقاد المضمحل الباطل؛ ولعله كان رمزاً إلى ما يتصور في العقل. ومن عرف الله سبحانه وتعالى بجلاله وكبريائه: لم يسمح بهذه الترهات عقله، ولم يسمع مثل هذه الترهات سمعه.
وأقب من هذا ما حكاه أبو حامد الزوزني: أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والجو خلاء بمعزل عن سلطان اللهن ثم لم يزل يزحف، ويقرب بحيله؛ حتى رأى النور؛ فوثب وثبة، فصار في سلطان الله في النور، وأدخل معه هذه الآفات والشرور، فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها، وصار متعلقاً بها لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه؛ فهو محبوس في هذا العالم، مضرب في الحبس، يرمى بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله تعالى؛ فمن أحياه الله رماه بالموت، ومن أصحه رماه بالسقم، ومن سره رماه بالحزن، فلا يزال كذلك إلى يوم القيامة؛ وفي كل يوم ينقص سلطانه حتى لا تبقى له قوة. فإذا كانت القيامة: ذهب سلطانه، وخمدت نيرانه، وزالت قوته،و اضمحلت قدرته... فيطرحه في الجو؛ والجو ظلمة ليس لها حد ولا منتهى. ثم يجمع الله تعالى اهل الأديان؛ فيحاسبهم، ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه. وأما المسخية؛ فقالت: إن النور كان وحده نوراً محضاً، ثم انمسخ بعضه فصار ظلمة.
وكذلك الخرمدينية: قالوا بأصلين، ولهم ميل إلى التناسخ، والحلول. وهم لا يقولون: بأحكام ، وحلال، وحرام. ولقد كان في كل أمة من الأمم قوم؛ مثل: الإباحية، والمزدكية، والزنادقة، والقرامطة... كان تشويش ذلك الدين منهم، وفتنة الناس مقصورة عليهم.
الزرداشتية أولئك هم أصحاب زرددشت ابن بورشب؛ الذي ظهر في زمان كشتاسب ابن لهراسب الملك؛ وأبوه كان من أذربيجان، وأمه من الري واسمها: دغدوية.
زعموا: أن لهم أنبياء وملوكاً: او لهم كيومرث، وكان أول من ملك الأرض، وكان مقامه بإصطخر. وبعده: أوشهنك بن فراوك، ونزل أرض الهند، وكانت له دعوة ثمة. وبعده: طهمورث؛ وظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه. وبعده: أخوه جم الملك. ثم بعده أنبياء وملوك؛ منهم منوجهر، ونزل بابل، وأقام بها. وزعموا أن موسى عليه السلام ظهر في زمانه... حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب، وظهر في زمانه زردشت الحكيم.

وزعموا: أن الله عز وجل خلق من وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقاً روحانياً؛ فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألأ، على تركيب صورة الإنسان ،و أحف به سبعين من الملائكة المكرمين وخلق الشمس ، والقمر، والكواكب، والارض، وبني آدم؛ غير متحركة ثلاثة آلاف سنة. ثم جعل روح زردشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين وأحف بها سبعين من الملائكة المكرمين، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف باسمويذخر، ثم مازج شبح زردشت بلبن بقرة، فشربه أبو زردشت، فصار: نطفة، ثم مضغة في رحم أمه؛ فقصدها الشيطان وعيرها، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالة على برئها؛ فبرئت. ثم لما ولد ضحكك ضحكة تبينها من حضر؛ فاحتالوا على زردشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب، فكان ينهض كل واحد منهم لحمايته من جنسه. ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فبعثه الله تعالى: نبياً، ورسولاً إلى الخلق. فدعا: كشتاسب الملك، فأجابه إلى دينه. وكان دينه: عبادةالله، والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث...
وقال: النور والظلمة أصلان متضادان، وكذلك يزدان وأهرمن، وهما مبدأ موجودات العالمن وحصلت التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة. والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما؛ وهو واحد: لا شريك له، ولاضد، ولا ند، ولا يجوزأن ينسب إليه وجود الظلمة؛ كما قالت الزروانية. لكن: الخير والشر، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث: إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة؛ ولو لم يمتزجا لما كان وجود العالم. وهما: يتقاومان، ويتغالبان... إلى أن يغلب النور الظلمة، والخير الشر؛ ثم يتخلص الخير إلى عالمه، والشر ينحط إلى عالمه؛ وذلك هو: سبب الخلاص؛ والباري تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما؛ لحكمة رآها في التراكيب. وربما جعل النور أصلاً؛ وقال: وجوده وجود حقيقي، وأما الظلمة فتبع، كالظل بالنسبة إلى الشخص؛ فإته يرى أنه موجود، وليس بموجود حقيقة؛ فأبدع النور، وحصل الظلام تبعاً؛ لأن من ضرورة الوجود التضاد، فوجوده ضروري، وواقع في الخلق لا بالقصد الأول؛ كما ذكرنا في الشخص والظل. وله كتاب قد صنفه وقيل: إن ذلك أنزل عليه وهو: زند أوستا؛ يقسم العالم قسمين: مبنة وكيتي؛ يعني: الروحاني، والجسماني؛ أو: الروح، الشخص. وكما قسم الخلق إلى عالمين؛ يقول: غنما في العالم ينقسم قسمين: بخشش، وكنش؛ يريد به: التقدير، والفعل؛ وكل واحد مقدر على الثاني. ثم يتكلم في موارد التكليف، وهي: حركات الإنسان؛ فيقسمها ثلاثة أقسام: منش، وكويش، وكنش؛ يعني بذلك:الإعتقاد، والقول، والعمل؛ وبالثلاثة يتم التكليف؛ فإذا قصر الإنسان فيها خرج عن الدين والطاعة، وإذا جرى في هذه الحركات على مقتضى الأمر والشريعة فاز الفوز الأكبر.
وتدعي الزردشتية له معجزات كثيرة؛ منها: دخول قوائم فرس كشتاسب في بطنه، وكان زردشت في الحبس، فأطلقه؛ فانطلقت قوائم الفرس. ومنها: أنه مر على أعمى بالدينور فقال: خذوا حشيشة وصفها لهم واعصروا ماءها في عينه، فإنه يبصر؛ ففعلوا؛ فأبصر الأعمى.
وهذا من جملة معرفتهم بخاصية الحشيشة. وليس من المعجزات في شيء!. ومن المجوس الزردشتية صنف يقال لهم: السيسانية، والبهافريدية؛ رئيس رجل يقال له سيسان من رستاق نيسابور، من ناحية يقال لها: خواف. خرج في أيام أبي مسلم؛ صاحب الدولة. كان زمزمياً في الأصل؛ يعبد النيرانح ثم ترك ذلكن ودعا المجوس إلى: ترك الزمزمة، ورفض عبادة النيران.و وضع لهم كتاباً؛ وأمرهم فيه بإرسال الشعور؛ وحرم عليهم: الأمهات، والبنات ، والأخوات؛ وحرم عليهم الخمر؛ وأمرهم باستقبال الشمس عند السجود على ركبة واحدة، وهم: يتخذون الرباطات، ويتباذلون الأموال، ولا يأمكلون الميتة، ولا يذبحون الحيوان حتى يهرم. وهم أعدى خلق الله للمجوس الزمازمة. ثم إن موبذ المجوس رفعه إلى أبي مسلم، فقتله على باب الجامع بنيسابور. وقال أصحابه: إنه صعد إلى السماء على برذون اصفر، وأنه سينزل على البرذون؛ فينتقم من أعدائه. وهؤلاء اقروا بنبوة زردشت، وعظموا الملوك الذين يعظمهم زردشت.

ومما خبر به زردشت في كتاب زند أوستا أنه قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا، ومعناه: الرجل العالم، يزين العالم بالدين والعدل؛ ثم يظهر في زمانه بتيارهن فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة؛ ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا عالاى أهل العالم، ويحيي العدل، ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأول، وتنقاد له الملوك، وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق، ويحصل في زمانه: الأمن، والدعة، وسكون الفتن، وزوال المحن.
مقالة زردشت في المبادىء وقد نقل الجيهاني في مقالة من المقالات لزردشت في المبادىء: أن دين زردشت: هو الدعوة إلى دين مارسيان، وأن معبوده: أورمزد والملائكة المتوسطون في رسالاته إليه:بهمن،و أرديبهشت، وشهريورن وإ سفندارمز، وخرداد، ومرداد.و قد رآهم زردشت، واستفاد منهم العلوم. وجرت مساءلات بينه وبين أورمزد من غير توسط: أولهما: قال زردشت: ما الشيء الذي كان، ويكون وهو الآن موجود؟.
قال اورمزد: أنا، والدين، والكلام؛ أما الدين فعمل أورمزد وكلامه وإيمانه؛ وأما الكلام فكلامهن والدين أفضل من الكلام؛ إذ العمل أفضل من القول. وأول من أبدع من الملائكة: بهمن، وعلمه الدين، وخصه بموضع النور مكاناً، وأقنعه بذاته ذاتاً؛ فالمبادىء على هذا الرأي ثلاثة. السؤال الثاني: قال : لم لم تخلق الأشياء كلها في زمان غير متناه؟ إذ قد جعلت الزمان نصفين: نصفه متناه، ونصفه غير متناه؛ فلو خلقتها في زمان غير متناه: كان لا يستحيل شيء منها. قال أورمزد: فإذاً كان لا يمكن أن تفنى ثم آفات الأثيم إبليس.

السؤال الثالث: قال: مما ذا خلقت هذا العالم؟. قال أورمزد: خلقت جميع هذا العالم من نفسي: أما أنفس الابرار فمن شعر رأسي، وأما السماء فمن أم رأسي، والظفر والمعاضد فمن جهتي، والشمس فمن عيني، والقمر فمن أنفي، والكواكب فمن لساني، وسروس وسائر الملائكة فمن أذني، والأرض فمن عصب رجلي. وأريت هذا الدين أولاً كيومرث؛ فشعر به، وحفظه من غير تعلم ولا مدارسة. قال زردشت: فلماذا أريت هذا الدين كيومرث بالوهم، وألقيته إلي بالقول؟. قال: أورمزد: لأنك تحتاج أن تتعلم هذا الدين وتعلمه غيرك، وكيومرث لم يجد من يقبله؛ فأمسك عن التكلم، وهذا خير لك؛ لأني أقول وأنت تسمع، وأنت تقول والناس يسمعون ويقبلون . فقال زردشت لأورمزد: هل أريت هذا الدين أحداً قبلي غير كيومرث؟ قال: بلى! أريت هذا الدين جم خمسين نجماً مخمساً؛ من أجل إنكاره الضحاك. قال: إذاً كنت عالماً أنه لا يقبله؛ فلماذا أريته؟ قال: لو لم أره لما صار إليك، وقد أريته أيضاً: أفريدون، وكيكاوس، وكيقباد، وكشتاسب. قالزردشت: خلقك العالم،و ترويجك الدين لأي شيء؟ قال: لأن فناء العفريت الأثيم لا يمكن إلا بخلق العالم، وترويج الدين؛ ولو لم يتروج أمر الدين لما أمكن أن تتروج أمور العالم. فلما إخذ زردشت الدين من أورمز الوهاب؛ واستحكمه، وعمل به؛ وزمزم في بيت أبيه عليه... وغاظ ذلك كون الأثيم وأقلقه؛ إذ كان شريراً، ممتلئاً موتاً، وظلمة، وبلاء، ومحنة؛ فدعا بشياطنه، وأسماؤهم: يرى ديوانياخ ديويهمان زوش، ونومر بفنارديو؛ وأمرهم جميعاً بالمسير إلى زردشت وقتله، فعلم زردشت بذلك؛ فقرأ، وزموم، وأراق الماء على يد مارسيان؛ فانهزموا عنه مقهورين. وجرت محاربات أخرى؛ فهزمهم زردشت بإحدى وعشرين آية، من كتابه: أوستا، وتوارت الشياطين عن الناس. ولما بلغ زردشت مبلغ الكمال بأربعين سنة؛ وتمت له المخاطبات في سبع عودات إلى أورمزد اكمل فيها معرفة شرائع دين الله وفرائضه وسسنه... أمره الله بالمسير إلى كشتاسب الملك، وإظهار ذكر الله، واسمه؛فنفذ لأمر الله، ودعا ملكين كانا بذلك الصقعة يقال لهما: فوربماراى وبيويدست؛ فدعاهما إلى دين الله، والكفر بالشيطان، وفعل الخير، واجتناب الشر؛ فلم يقبلا قوله، وأخذتهما العزة بالإثم؛ فجاءتهما ريح؛ فحملتهما من الأرض، ووقفت بهما في الهواء، واجتمع الناس ينظرون إليهما؛ فقشيهما الطير من كل ناحية، واتوا على لحومهما، وسقطت عظامهما على الأرض. ولما بلغ كشتاسب لقي منه كل ما أنبأه بهأورمزد؛ من الحبس والبلاء؛ حتى حدث أمر الفرس الذيدخلت قوائمه في باطن بدنه؛ حتى لم ير أثرها في جسده، واستبهم حاله على الناس، وتحيروا؛ وأخرجه كشتاسب من الحبس، وسأله الحال؛ فقال: تلك آية من آيات صدقى؛ الذي أخبرني به إلهي وخالقي، وشارطهم على الإيمان به؛ إن هو دعا وأخرج قوائم الفرس، وشرطوا، ودعا باسم الله؛ فخرجت قوائم الفرس كما كانت؛ فآمن به كشتاسب؛ وأمر بجمع علماء أهل زمانه من:بابل، وإيران شهر؛ وأمرهم بمحاورة زردشت؛فناظروه؛ فاعترفوا له بالفضيلةز قال: ومما جاء به زردشت المصطفى من دين مارسيان: أن إلهه أورمزد لم يزل، ولم يزل معه شيء سماه: أسنى أسنه وهو شيء مضيء حوله، وهو فوق؛ وأن إبليس لم يزل معه شيء سماه: أستا أستاه وهو مظلم حوله. وهو أسفل. وأول ما خلق الله من الملائكة: بهمن، ثم أررديهشت، ثم شهريور، ثم اسفندارمز، ثم خرداد، ثم مرداد. وخلق بعضهم من بعض؛ كما يؤخذ السراج من السراج من غير أن ينقص من الأول شيء، وقال لهم: من ربكم وخالقكم؟ فقالوا: أنت ربنا وخالقنا. وعلم أورمزد أن إبليس ستيتحرك من ظلمته؛ فأعلم بذلك الملائكة، وبدأ بإعداد ما يورطه، ويدفع شره وأذاه عن عالمه، ويبطل إرادته؛ فخلق السماء في خمسة وأربعين يوماً، وسمى: كاهينازاى شورم؛ ومهناه: ظهور ضمائر أهل الدنيا... إلى سائر الكاهينازات المذكورات عندهم؛ وخلق الأرض في خمسة وأربعين يوماً، وأول من ابتعثه أورمزد إلى الأرض: كيومرث، وقد كان يستنشق النسيم ثلاثة آلاف سنة، ثم أخرجه في قامة ثلاثة رجال. ولما ان جاء وقت تحريك إبليس في ظلمته، ارتفع، ورأى النور، وطمع في الإستيلاء على أسنى أورمزد،و تصييره مظلماً، ودخل السماء يكيد ثم لكيومرث ثلاثين سنة، وصارت نطفته ثلاثة أقسام؛ قسم: أمر الله الأرض أن تحفظه، وقسم: أمر سروس الملك أن

يحفظه، وثلث: اختطفته الشياطين. وأمر أورمزد بسد الثقوب التي صعد منها إبليس؛ فبقي داخل السماء منقطعاً عن أصله وقوته، فانتصب لمنابذة أورمزد، ورام الصعود إلى الجنان؛ فدفعه عن ذلك قدر ثلاثة آلاف سنة، ثم أعلمه أنه يسعى في الباطل والخسار، وبروم ما لا يقدر عليه. واتفق الأمر بينهما على أن يبقى إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة ويروى سبعة آلاف سنة ثم يبطل، ويحتمل خلقه الأذى في هذه السنين، ويصبرون عليه وعلى ما ينالهم: من الفقر، والبلاء، والموت، وسائر الآفات؛ ليعوضهم منها الحياة الدائمة في الجنان. واشترط إبليس لنفسه وشياطينه ثمانية عشر شرطاً: الأول منها: أن تصير معيشة خلقه من خلق الله، والثاني: أن يكون ممن خلقه على خلق الله، والثالث: أن يصلت خلقه على خلق الله، والرابع: أن يخلط جوهر خلقه بجوهر خلق الله، والخامس: أن يصير له السبيل لى أن يأخذ الطين الذي في خلق الله، والسادس: أن يصير له من النور الذي في خلق الله ما يريد، والسابع: أن يصير له من الرياح التي في خلق الله حاجته، والثامن: ان يصير له من الرطوبة التي في خلق الله، والتاسع: أن يصير له من النار التي في خلق الله، والعاشر: أن يصير له من المودة والمصاهرة التي في خلق الله؛ ليخلط الأشرار بالأخيار، والحادي عشر: أن يصير له من العقل والبصر الذي في خلق الله؛ ليعرف خلقه مسالك المنافع والمضار، والثاني عشر:ان يصير له من العدل الذي في خلق الله؛ ليجعل للأشرار فيه نصيباً، والثالث عشر: أن تخفى على الناس معرفة عمل الصالحين والأشرار إلى يوم القيامة والحساب، والرابع عشر: أن يصير له السبيل إلى أن يبلغ بأهل بيت الشرارة والخبث غاية الغنى والدرجات؛ ويصيرهم عند الناس صالحين، والخامس عشر: أن يصير له السبيل إلى أن يعمر من أهل الدنيا من أراد من خلقه ألف سنة؛ او ثلاثة ىلاف سنة؛ ويصيرهم أغنياء أقوياء قادرين على ما يريدون؛ وأن يلهم الناس حتى يكونوا بإعطاء الأشرار أسخى منهم بإعطاء الأخيار وأطيب نفساً، والسابع عشر: أن يصير له السبيل إلى إفناء أهل بيت الصالحين؛ حتى لا يعرف منهم أحد بعد ثلاثمائةو خمسن سنة، والثامن عشر: أن يملك امر من: يحيي الأموات؛ ويبقى الأخيار؛ وينفي الأشرار إلى يوم القيامة. فتمت البيعة، واقاما عليها، ودفعا سيفيهما إلى عدلين؛ على أن يقتلا من رجع عن شرطه. وأمر الله تعالى: الشمس، والقمر، والكواكب... أن تجري؛ لمعرفة:الأيام، والشهور، والأعوام... التي جعلها عدة الإنظارو الإمهال. ومما نص عليه زردشت: ان للعالم قوة إلهية؛ هي المدبرة لجميع ما في العالم، المنتهية مبادئها إلى كمالاتها. وهذه القوة تسمى: مشاسبند؛ وهي: على لسان الصابئة: المدبر الأقرب، وعلى لسان الفلاسفة: العقل الفعال؛ ومنه: الفيض الإلهي؛ والعناية الربانية، وعلى لسان المانوية: الأرواح الطيبة، وعلى لسان العرب: الملائكة، وعلى لسان الشرع والكتاب الإلهي: الروح: تنزل الملائكة والروح فيها. وأثبت غيره: منشاه ومنشاية؛ ويعني بهما: آدم وحواء في العالم الجسماني، والعقل والنفس في العالم الروحاني.ظه، وثلث: اختطفته الشياطين. وأمر أورمزد بسد الثقوب التي صعد منها إبليس؛ فبقي داخل السماء منقطعاً عن أصله وقوته، فانتصب لمنابذة أورمزد، ورام الصعود إلى الجنان؛ فدفعه عن ذلك قدر ثلاثة آلاف سنة، ثم أعلمه أنه يسعى في الباطل والخسار، وبروم ما لا يقدر عليه. واتفق الأمر بينهما على أن يبقى إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة ويروى سبعة آلاف سنة ثم يبطل، ويحتمل خلقه الأذى في هذه السنين، ويصبرون عليه وعلى ما ينالهم: من الفقر، والبلاء، والموت، وسائر الآفات؛ ليعوضهم منها الحياة الدائمة في الجنان. واشترط إبليس لنفسه وشياطينه ثمانية عشر شرطاً: الأول منها: أن تصير معيشة خلقه من خلق الله، والثاني: أن يكون ممن خلقه على خلق الله، والثالث: أن يصلت خلقه على خلق الله، والرابع: أن يخلط جوهر خلقه بجوهر خلق الله، والخامس: أن يصير له السبيل لى أن يأخذ الطين الذي في خلق الله، والسادس: أن يصير له من النور الذي في خلق الله ما يريد، والسابع: أن يصير له من الرياح التي في خلق الله حاجته، والثامن: ان يصير له من الرطوبة التي في خلق الله، والتاسع: أن يصير له من النار التي في خلق الله، والعاشر: أن يصير له من المودة والمصاهرة التي في خلق الله؛ ليخلط الأشرار بالأخيار، والحادي عشر: أن يصير له من العقل والبصر الذي في خلق الله؛ ليعرف خلقه مسالك المنافع والمضار، والثاني عشر:ان يصير له من العدل الذي في خلق الله؛ ليجعل للأشرار فيه نصيباً، والثالث عشر: أن تخفى على الناس معرفة عمل الصالحين والأشرار إلى يوم القيامة والحساب، والرابع عشر: أن يصير له السبيل إلى أن يبلغ بأهل بيت الشرارة والخبث غاية الغنى والدرجات؛ ويصيرهم عند الناس صالحين، والخامس عشر: أن يصير له السبيل إلى أن يعمر من أهل الدنيا من أراد من خلقه ألف سنة؛ او ثلاثة ىلاف سنة؛ ويصيرهم أغنياء أقوياء قادرين على ما يريدون؛ وأن يلهم الناس حتى يكونوا بإعطاء الأشرار أسخى منهم بإعطاء الأخيار وأطيب نفساً، والسابع عشر: أن يصير له السبيل إلى إفناء أهل بيت الصالحين؛ حتى لا يعرف منهم أحد بعد ثلاثمائةو خمسن سنة، والثامن عشر: أن يملك امر من: يحيي الأموات؛ ويبقى الأخيار؛ وينفي الأشرار إلى يوم القيامة. فتمت البيعة، واقاما عليها، ودفعا سيفيهما إلى عدلين؛ على أن يقتلا من رجع عن شرطه. وأمر الله تعالى: الشمس، والقمر، والكواكب... أن تجري؛ لمعرفة:الأيام، والشهور، والأعوام... التي جعلها عدة الإنظارو الإمهال. ومما نص عليه زردشت: ان للعالم قوة إلهية؛ هي المدبرة لجميع ما في العالم، المنتهية مبادئها إلى كمالاتها. وهذه القوة تسمى: مشاسبند؛ وهي: على لسان الصابئة: المدبر الأقرب، وعلى لسان الفلاسفة: العقل الفعال؛ ومنه: الفيض الإلهي؛ والعناية الربانية، وعلى لسان المانوية: الأرواح الطيبة، وعلى لسان العرب: الملائكة، وعلى لسان الشرع والكتاب الإلهي: الروح: تنزل الملائكة والروح فيها. وأثبت غيره: منشاه ومنشاية؛ ويعني بهما: آدم وحواء في العالم الجسماني، والعقل والنفس في العالم الروحاني.

الباب الثاني
الثنوية
هؤلاء: هم أصحاب الإثنين الأزليين. يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان؛ بخلاف المجوس؛ فإنهم قالوا: بحدوث الظلام، وذكرواسبب حدوثه.و هؤلاء قالوا: بتساويهما في القدم، واختلافهما:في الجوهر؛ والطبع؛ والفعل؛ والحيز؛ والمكان والأجناس؛ والابدان والارواح.
المانوية أصحاب ماني بن فاتك الحكيم، الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى بن مريم عليه السلام. أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية،و كان يقول بنبوة المسيح عليه السلام، ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام. حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذاهب القوم: ان الحكيم ماني زعم: أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهماا نور، والآخر ظلمة؛ وأنهما: أزليان لم يزالا؛ ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا: قويين ، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين وهما مع ذلك: في النفسن والصورة، والفعل، والتدبير... متضادان. وفي الحيز: متحاذيان: تحاذي الشخص والظل. وإنما تتبين جواهرهما، وأفعالهما: في هذا الجدول: النور جوهره: حسن، فاضل، كريم، صاف، نقي، طيب الريح الظلمة جوهرها: قبيح، ناقص، لئيم، كدر، خبيث، منتن الريح النور حسن المنظر.
الظلمة قبيحة المنظر.
النور نفسه: خيرة، كريمة، حكيمة، نافعة، عالمة.
الظلمة نفسها: شريرة، لئيمة، سفيهة، ضارة، جاهلة.
النور فعله: الخير، والصلاح، والنفع، والسرور، والترتيب، والنظام، والإتفاق.
الظلمة فعلها: الشر، والفساد، والضر، والغم، والتشويش، والتتبير، والإختلاف.
النور جهته: جهة فوق؛ وأكثرهم على أنه مرتفع من ناحية الشمال،و زعم بعضهم أنه تجنب الظلمة.
الظلمة جهتها: جهة تحت؛ وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب، وزعم بعضهم أنها تجنب النور.
النور أجناسه خمسة: أربعة منها أبدان، والخامس روحه فالأبدان هي: النار والنور، والريح، والماء؛ وروحها النسيم وهي تتحرك في هذه الأبدان.
الظلمة أجناسها خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها. فالأبدان هي: الحريق، والظلمة، والسموم، والضباب؛ وروحها الدخان وتدعى الهامة، وهي تتحرك في هذه الأبدان.
النور صفاته حية، خيرة، طاهرة، زكية. وقال بعضهم: كون النور لم يزل على مثال هذا العالم: له أرض وجو. فأرض النور: لم تزل لطيفة، على غير صورة الأرض؛ وشعاعها كشعاع الشمس؛ ورائحتها أطيب رائحة، وألوانها ألوان قوس قزح. وقال بعضهم: لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع: أرض النور: أرض وهي خمسة. وهناك جسم آخر الطف منه وهو: الجو، وهو نفس النور. وجسم آخر وهو ألطف منه، وهو النسيم. قال: ولم يزل يولد النور ملائكة، وآلهة، وأولياء، لا على سبيل المناكحة؛ بل كما تتولد الحكمة من الحكيم، والمنطق الطيب من الناطق. قال: وملك ذلك العالم: هو روحه. ويجمع عالمه: الخير، والحمد، والنور. الظلمة صفاتها ميتة، شريرة، نجسة، دنسة.و قال بعضهم: كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم: لها ارض وجو. فأرض الظلمة: لم تزل كثيفة، على غير صورة هذه الأرض، بل هي أكثف وأصلب؛ ورائحتها كريهة أنتن الروائح، وألوانها ألوان السواد. وقال بعضهم: لا شيء إلا الجسم. والأجسام على ثلاثة أنواع: أرض الظلمة؛ وجسم آخر أظلم منه وهو الجو. وجسم آخر اظلم منه وهو السموم، روح النور. قال: ولم تزل تولد الظلمة شياطين وأراكنة وعفاريت، لا على سبيل لا على سبيل المناكحة؛ بل كما تتولد الحشرات من العفونات القذرة. قال: وملك ذلك العالم هو: روحه الشر، والذميمة، والظلمة.

ثم اختلفت المانوية في: المزاج وسببه، والخلاص وسببه: قال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والإتفاق؛ لا بالقصد، والإختيار. وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغلن فنظرت الروح، فرأت النور، فبعثت الأبدان على ممازجة النور، فأجابتها لإسراعها إلى الشر؛ فلما رأى ذلك ملك النور، وجه إليها ملكاً من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة؛ فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية: فخالط الدخان النسيم؛ وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم؛ والهلاك والآفات من الدخان،و خالط الحريق النار، والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء. فما في العالم من: منفعة؛ وخير؛ وبركة؛ فمن أجناس النور، ومافيه من: مضرة؛ وشر؛ وفساد؛ فمن أجناس الظلمة. فلما رأى ملك النور هذا الإمتزاج أمر ملكاً من ملائكته؛ فخلق هذا العالم على هذه الهيئة؛ لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة. وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب؛ لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة: فالشمس تصطفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر يصطفي النور الذي امتزج بشياطين البرد، والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع؛ لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها؛ وكذلك جميع أجزاء النور أبداً في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبداً في النزول والتسفل... حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، ويبطل الامتزاج، وتنحل التراكيب، ويصل كل إلى كله وعالمه؛ وذلك هو القيامة والمعاد.
قال: ومما يعين في التخليص، والتمييز، ورفع أجزاء النور:التسبيح، والتقديس، والكلام الطيب، وأعمال البر؛ فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر؛ ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه، فيمتلىء، فيصير بدراً، ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر، وتدفع الشمس إلى نور فوقها... فيسري ذلك في العالم... إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص. ولا يزال يفعل ذلك، حتى لا يبقي من أجزاء النور شيء في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد، لاتقدر الشمس والقمر على استصفائه؛ فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض، ويدع الملك الذي يجذب السماوات؛ فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور؛ وتكون مدة الاضطرام: ألفاً وأربعمائة وثمانياًو ستين سنة.و ذكر الحكيم ماني في باب الألف من الجبلة، وفي أول الشابرقان : أن ملك عالم النور في كل أرضه لا يخلو منه شيء، وأنه ظاهر باطن، وأنه لا نهاية له؛ إلا من حيث تناهى أرضه إلى أرض عدوه.و قال أيضاً: إن ملك عالم النور في سرة أرضه. وذكر: ان المزاج القديم هو امتزاج: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والمزاج المحدث هو: الخير، والشر. وقد فرض ماني على أصحابه: العشر في الأموال كلها، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق. وترك: الكذب؛ والقتل؛ والسرقة، والزنا؛ والبخل؛ والسحر؛ وعبادة الأوثان؛ وان يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله. واعتقاده في الشرائع والأنبياء: ان أول من بعث الله تعالى بالعلم، والحكمة. آدم أبو البشر، ثم بعث شيثا بعده، ثم نوحاً بعده، ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام... ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند، وزردشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب؛ وبولس بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب. وزعم أبو سعيد المانوي؛ رئيس من رؤسائهم: أن الذي مضى من المزاج إلى الوقت الذي هو فيه وهو سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة : أحد عشر ألفاً وسبعمائة سنة؛ وأن الذي بقي إلى وقت الخلاص: ثلاثمائة سنة . وعلى مذهبه مدة المزاج. اثنا عشر الف سنة؛ فيكون قد بقي من المدة خمسون سنة في زماننا هذا: وهو غحدى وعشرون وخمسمائة هجرية.فنحن في آخر المزاج وبدء الخلاص؛ فغلى الخلاص الكلي، وانحلال التراكيب خمسون سنة!.
المزدكية

اصحاب: مزدك ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان؛ فدعا قباذ إلى مذهبه، فأجابه. وطلع أنوشروان على: خزييه، وافترائه؛ فطلبه؛ فوجده؛ فقتله. حكى الوراق: أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية: في الكومين والأصلين؛ إلا أن مزدك كان يقول: إن النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. والنور: عالم؛ حساس، والظلام: جاهل؛ أعمى. وإن المزاج كان على الاتفاق والخبط؛ لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار. وكان مزدك ينهي الناس عن: المخالفة، والمباغضة، والقتال؛؛ ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب: النساء، والأموال؛ أحل النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما؛ كاشتراكهم في: الماء، والنار، والكلأ. وحكى عنه: انه أمر بقتل الأنفس؛ ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة. ومذهبه في الاصول والأركان انها ثلاثة: الماء والأرض، والنار. ولما اختلطت حدث عنها: مدبر الخيرن ومدبر الشر؛ فما كان من صفوها فهو مدبر الخير، وما كان من كدرها فهو مدبر الشر. وروي عنه: أن معبوده قاعد على كرسيه في العالم الأعلى، على هيئة قعود خسرو في العالم الأسفل، وبين يديه أربع قوى: قوة التمييز، والفهم، والحفظ، والسرور؛ كان بين يدي خسرو أربعة أشخاص: موبذان، والهربد الأكبر، والأصهبدن والرامشكر. وتلك الأربع يدبرون امر العالم بسبعة من وراءهم: سالار، وبيشكار، وبالون، وكازران، ودستور، وكوذك. وهذه السبعة تدور في إثني عشر روحانيين: خوانندهن ودهنده، وستاننده، وبرنده خور ننده، ودونده، وخيزنده، وكشنده، وزننده، وكنندهن وآبنده،و شونده، وباينده.و كل إنسان اجتمعت له هذه القوى الأربع، والسبع، والإثنا عشر: صار ربانياً في العالم السفلي،و ارتفع عنه التكليف. قال: وإن خسرو العالم الأعلى إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم، ومن تصور من تلك الحروف شيئاً انفتح له السر الأكبر، ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة والغم: في مقابلة القوى الأربع الروحانية. وهم فرق: الكوذية، وابو مسلمية، والماهانية، والإسبيد خانمكية. والكوذية بنواحي: الأهواز؛ وفارس؛ وشهرزور، والآخر بنواحي: سغدسمرقند، والشاش، وإيلاق.
الديلصانية

أصحاب ديصان. اثبتوا اصلين: نوراً، وظلاماً؛ فالنور: يفعل الخير قصداً واختياراً، والظلام: يفعل الشر طبعاً واضطراراً؛ فما كان من: خير، ونفع، وطيب، وحسن؛ فمن النور، وما كان من: شر، وضرر، ونتن، وقبح؛ فمن الظلام. وزعموا أن النور: حي، عالم، قادرن حساس، دراك، ومنه تكون الحركة والحياة. والظلام: ميت، جاهل، عاجز، جمام، موات، لا فعل له ولا تمييز؛ وزعموا أن الشر يقع منه طباعاً وخرقاً وزعموا أن النور جنس واحد؛ وكذلك الظلام جنس واحد، وأن ادراك النور ادراك متفق؛ فإن سمعه وبصره وسائر حواسه: شيء واحد؛ فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه؛ وإن ما قيل: سميع، بصير؛ لاختلاف التركيب؛ لا لأنهما في نفسهما شيئان مختلفان. وزعموا: أن اللون هو الطعم، وهو الرائحة، وهو المحسة، وإنما وجده لوناً؛ لأن الظلم خالطته ضرباً من المخالطة، ووجده طعماً؛ لأنها خالطته بخلاف ذلك الضرب، وكذلك القول في لون الظلمة، وطعمها، ورائحتها، ومحستها. وزعموا: أن النور بياض كله، وأن الظلام سواد كله، وزعموا: أن النور لم يزل يلقي الظلمة بأسفل صفحة منه، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها. واختلفوا في المزاج والخلاص: فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة، والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ؛ فتاذى بها، وأحب أن يرققها ويلينها، ثم يتخلص منها؛ وليس ذلك لاختالف جنسهما، ولكن كما أن المنشار جنسه حديد، وصفحته لينة، وأسنانه خشنة؛ فاللين في النور، والخشونة في الظلمة، وهما جنس واحد؛ فتلطف النور بلينه حتى يدخل تلك الفرج، فما أمكنه إلا بتلك الخشونة، فلا يتصور الوصول إلى كمال وجود إلا بلين وخشونة. وقال بعضهم: بل الظلام لما احتال حتى تشبثت بالنور من أسفل صفحته، فاجتهد النور حتى يتخلص منه، ويدفعه عن نفسه، فاعتمد عليه، فلجج فيه، وذلك بمنزلة الإنسان الذي يريد الخروج من وحل وقع فيه، فيعتمد على رجله ليخرج، فيزداد لجوجاً فيه...؛ فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه. وقال بعضهم: إن النور إنما دخل أجزاء الظلام اختياراً؛ ليصلحها؛ ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه؛ فلما دخل تشبثت به زماناً، فصار يفعل الجور والقبيح اضطراراً لا اختياراً؛ ولو افرد في عالم ما كان يحصل منه إلا الخير المحض، والحسن البحت. وفرق بين الفعل الاضطراري، وبين الفعل الاختياري.
المرقيونية

أصحاب: مرقيون. أثبتوا أصلين قديمين متضادين: أحدهما النورن والثاني الظلمة،و أثبتوا أصلاً ثالثاً هو: المعدل الجامع، وهو سبب المزاج؛ فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. وقالوا: إن الجامع دون النور في المرتبة وفوق الظلمة؛ وحصل من الإجتماع والامتزاج هذا العام ومنهم من يقول الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها، فامتزجت به؛ لتطيب به، وتلتذ بملاذه؛ فبعث النور إلى العالم الممتزج روحاً مسيحية، وهو روح الله وابنه: تحنناً على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين؛ فمن اتبعه؛ فلم يلامس النساء، ولم يقرب الزهومات: أفلت، ونجا؛ ومن خالفه: خسر، وهلك. قالوا: وإنما أثبتنا المعدل؛ لأن النور الذي هو الله تعالى: لا يجوز عليه مخالطة الشياطين؛ وأيضاً فإن الضدين يتنافران طبعاً؛ ويتمانعان ذاتاً ونفساً؛ فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟؛ فلا بد من معدل يكون بمنزلة دون النور، وفوق الظلام؛ فيقع الامتزاج منه. وهذا على خلاف ما قالته المانوية؛ وإن كان ديصان أقدم، وإنما أخذ ماني منه مذهبه، وخالفه في المعدل. وهو أيضاً خلاف ما قال زردشت؛ فإنه يثبت التضاد بين النور والظلمة، ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين، الجامع بين المتضادين: لا يجوز أن يكون طبعه وجوهره من أحد الضدين: وهو الله عز وجل الذي لا ضد له ولا ند. وحكى محمد بن شبيب عن الديصانية أنهم زعموا: أن المعدل هو الإنسان الحساس الدراك؛ إذ هو ليس بنور محض، ولا ظلام محض. حكي عنهم: أنهم يرون المناكحةة وكل ما فيه منفعة لبدنه وروحه حراماً، ويحترزرن عن ذبح الحيوان؛ لما فيه من الألم. وحكي عن قوم من الثنوية: أن النور والظلمة لا يزالا حيين؛ إلا أن النور حساس عالم، والظلام جاهل أعمى؛ والنور يتحرك حركة مستوية مستقيمة، والظلام يتحرك حركة عجرفية خرقاء معوجة. فبينا هما كذلك إذ هجم بعض هامات الظلام على حاشية من حواشي النور، فابتلع النور منه قطعة على الجهل، لا على القصد والعلم؛ ثم إن النور الأعظم دبر في الخلاص ؛ فبنى هذا العالم ليستخلص ما امتزج به من النور، ولا يمكنه استخلاصه إلا بهذا التدبير.
الكينوية؛ والصيامية، والتناسخية منهم:

حكي جماعة من المتكلمين أن الكينوية زعموا أن الأصول ثلاثة: النار، والأرض، والماء. وإنما حدثت الموجودات من هذه الأصول دون الأصلي، الذين أثبتهما الثنوية. قالوا: والنار بطبعها: خيرة؛ نورانية، والماء ضدها في الطبع؛ فما كان من خير في هذا العالم فمن النار، وما كان من شر فمن الماء، والأرض متوسطة. وهؤلاء يتعصبون للنار شديداً؛ من حيث أنها: علوية، نورانية، لطيفة: لا وجود إلا بها، ولا بقاء إلا بإمدادها. والماء يخالفها في الطبع، فيخالفها في الفعل، والأرض متوسطة بينهما. فتركيب العالم من هذه الأصول. والصيامية منهم: أمسكوا عن طيبات الرزق، وتجردوا لعبادة الله، وتوجهوا في عباداتهم إلى النيران تعظيماً لها؛ وأمسكوا أيضاً عن النكاح والذبائح. والتناسخية منهم: قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد، والانتقال من شخص إلى شخص؛ وما يلقي الإنسان من: الراحة، والتعب، والدعة، والنصب: فمرتب على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر؛ جزاء على ذلك. والإنسان أبداً في أحد أمرين: إما في فعل، وإما في جزاء. وما هو فيه: فإما مكافئة على عمل قدمه، وإما عمل ينتظر المكافأة علية. والجنة والنار في هذه الأبدان، وأعلى عليين: درجة النبوة، وأسفل السافلين: دركة الحية؛ فلا وجود أعلى من درجة الرسالة، ولا وجود أسفل من دركة الحية. ومنهم من يقول: الدرجة الأعلى درجة الملائكة، والأسفل دركة الشياطين. ويخالفون بهذا المذهب سائر الثنوية؛ فإنهم يعنون بأيام الخلاص: رجوع أجزاء النور إلى عالمه الشريف الحميد، وبقاء أجزاء الظلام في عالمه الخسيس الذميم. وأما بيوت النيران للمجوس: فأول بيت بناه أفريدون: بيت نار بطوس، وآخر بمدينة بخارى؛ هو بردسون. واتخذ بهن بيتاً بسجستان؛ يدعى: كركوا. ولهم بيت نار آخر في نواحي بخارى؛ يدعى قباذان؛ وبيت نار يسمى كويسة، بين فارس وأصبهان، بناه كيخسرو. وآخر بقومس؛ يسمى: جرير. وبيت نار يسمى كنكدز؛ بناه سياوش في مشرق الصين. وآخر بأرجان من فارس واتخذه أرجان جد كشتاسب وهذه البيوت كات قبل زردشت. ثم جدد زردشت بيت نار بنيسابور، وآخر بنسة. وأمر كشتاسب أن يكلب ناراً كان يعظمها جم، فوجدها بمدينة خوارزم، فنقلها إلى دارابجرد وتسمى أذرخرهو المجوس يعظمونها أكثر من غيرها. وكيخسرو لما خرج إلى غزو أفراسياب؛ عظمها، وسجد لها؛ ويقال: إن انوشروان هو الذي نقلها إلى كاريان؛ فتركوا بعضها وحملوا بعضها إلى نسا. وفي بلاد الروم على أبواب قسطنطينية: بيت نار؛ اتخذه سابور ابن أردشير؛ فلم يزل كذلك إلى أيام المهدي، وبيت نار بإستينيا؛ على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى. وكذلك بالهند والصين: بيوت نيران. وأما اليونانيون: فكان لهم ثلاثة أبيات ليست فيها نار؛ وقد ذكرناها: والمجوس إنما يعظمون النار لمعان فيها؛ منها: أنها جوهر شريف علوي، ومنها: أنها ما أحرقت الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنها: ظنهم أن التعظيم لها ينجيهم في المعاد من عذاب النار. وبالجملة؛ هي: قبلة لهمن ووسيلة، وإشارة. والله أعلم.
هذا آخر تفصيل أرباب الديانات والملل. وبعد هذا شرح آهل الأهواء والنحل والحمد لله وحده
القسم الثاني
أهل الأهواء والنحل

من الصابئة؛ والفلاسفة؛ وآراء العرب في الجاهلية؛ وآراء الهند وهؤلاء: يقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد؛ كما ذكرنا. واعتمادهم على: الفطرة السليمة؛ والعقل الكامل؛ والذهن الصافي. فمن: معطل بطال؛ لا يرد عليه فكره براد، ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد، ولا يرشده فكره وذهنه إلى معاد؛ قد ألف المحسوس وركن إليه وظن أنه لا عالم سوى ما هو فيه: من مطعم شهين ومنظر بهي، ولا عالم وراء هذا المحسوس... وهؤلاء: هم الطبيعيون الدهريون لا يثبتون معقولاً. ومن: محصل نوع تحصيل، قد ترقى عن المحسوس، وأثبت المعقول؛ لكنه لا يقول بحدود، وأحكام، وشريعة، وإسلام؛ ويظن أنه إذا حصل المعقول، وأثبت للعالم مبدأً ومعاداً: وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه؛ فتكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه، وشقاوته بقدر سفاهته وجهله. وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة، ووضعه هو المستعد لقبول تلك الشقاوة... وهؤلاء: هم الفلاسفة الإلهيون؛ قالوا: الشرائع وأصحابها: أمرر مصلحية عامية، والحدود والأحكام والحلال والحرام: أمور وضعية، وأصحاب الشرائع: رجال لهم حكم عملية، وربما يؤيدون من عند واهب الصور بإثبات أحكام، ووضع حلال وحرام: مصلحة للعباد، وعمارة للبلاد، وما يخبرون عنه من الأمور الكائنة في حال من أحوال عالم الروحانيين من: الملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم... فإنما هي أمور معقولة لهم؛ قد عبروا عنها بصورة خيالية جسمانية، وكذلك ما يخبرون به من أحوال المعاد من الجنة والنار؛ مثل: قصور، وأنهار، وطور، وثمار في الجنة ؛ فترغيبات للعوام بما يميل إليه طباعهم، وسلاسل وأغلال، وخزي ونكال في النار فترهيبات للعوام ؛ بما ينزجر عنه طباعهم؛ وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية، وصور جرمانية. وهذا أحسن ما يعتقدونه في الأنبياء عليهم السلام؛ لست أعني بهم: الذين أخذوا علومهم من مشكاة النبوة؛ وغنما أعني بهؤلاء: الذين كانوا في الزمن الأول: دهرية، وحشيشية، وطبيعية، وإلهيية؛ قد اغتروا بحكمهم واستقلوا بأهوائهم وبدعهم. ثم يتلوهم، ويقرب منهم: قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية، وربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيد بالوحي؛ إلا انهم اقتصروا على الأول منهم، وما نفذوا إلى الآخر... وهؤلاء: هم الصابئة الأولى؛ الذين قالوا بعاذيمون وهرمس؛ وهما: شيث وإدريس عليهما السلام، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، والتقسيم الضابط أن نقول: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول؛ وهم: السوفسطائية. ومنهم من يقول بالمحسوس، ولا يقول بالمعقول؛ وهم: الطبيعية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول، ولا يقول بحدود وأحكام؛ وهم: الفلاسفة الدهرية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام؛ وهم: الصابئة. ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما وإسلام، ولا يقول بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهم: المجوس، واليهود والنصارى. ومنهم من يقول بهذه كلها؛ وهم: المسلمون. ونحن قد فرغنا عمن يقول بالشرائع والأديان؛ فنتكلم الآن فيمن لا يقول بها ويستبد برأيه وهواه؛ في مقابلتهم.
الجزء الأول
الصابئة
قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبوة في مقابلة الحنيفية. وفي اللغة: صبأ الرجل: إذا مال وزاغ؛ فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق، وزيغهم عن نهج الأنبياء.. قيل لهم: الصابئة. وقد يقال: صبأ الرجل إذا عشق وهوى. وهم يقولون: الصبوة: هي الانحلال عن قيد الرجال. وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين. والصابئة تدعي: أن مذهبها هو الاكتساب، والحنفاء تدعي: أن مذهبها هو الفطرة. فدعوة الصابئة إلى الاكتساب، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة.
الباب الأول
أصحاب الروحانيات.
وفي العبارة لغتان: روحاني بالضم؛ من الروح، وروحاني بالفتح؛ من الروح. والروح والروح متقاربان؛ فكأن الروح: جوهر، والروح: حالته الخاصة به.
مذهب أصحاب الروحانيات ومذهب هؤلاء: أن للعالم صانعاً، فاطراً، حكيماً، مقدساً عن سمات الحدثان. والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله؛ وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه؛ وهم: الروحانيونن المطهرون، المقدسون: جوهراً، وفعلاً، وحالةً.

أما الجوهر: فهم المقدسون عن المواد الجسمانية، المبرأ ونعن القوى الجسدانية، المنزهون عن الحركات المكانية والتغيرات الزمانية؛ قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح: لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول عاذيمون وهرمس. فنحن نتقرب إليهم، ونتوكل عليهم، وهم أربابنا وآلهتنا، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب، وإله الآلهة: رب كل شيء، وملكه. فالواجب علينا: أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية؛ حتى تحصل مناسبة ما: بيننا وبين الروحانيات؛ فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم؛ فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس يحصل غلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيات الشهوات؛ باستمداد من جهة الروحانيات. والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم؛ فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، بل يكون حكمنا وحكم من يدعي الوحي على وتيرة واحدة. قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وأشكالنا في الصورة: يشاركوننا في المادة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا في الصورة: أناس بشر مثلنا؛ فمن أين لنا طاعتهم؟ وبأية مزية لهم لزمت متابعته؟: ولأن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون. مقالتهم. وأما الفعل فقالوا: الروحانيات: هم الأسباب المتوسطون في الاختراع، والإيجاد، وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال يستمدون القوة من الحضرة القديسة، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية. فمنها مدبرات الكراكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها؛ فلكل روحاني هيكل، ولكل هيكل فلك؛ ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به؛ نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه ومدبره ومديره. وكانوا يسمون الهياكل: أرباباً، وربما يسمونها: آباء، والعناصر: أمهات. ففعل الروحانيات: تحريكها على قدر مخصوص؛ ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر؛ فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات؛ فيتبعها قوى جسمانية، وتركب عليها نفوس روحانية؛ مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي؛ فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك. ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو: مما يصعد من الأرض فينزل؛ مثل : الأمطار، والثلوج، والبرد، والرياح. ومما ينزل من السماء؛ مثل: الصواعق، والشهب. ومما يحدث في الجو؛ من الرعد، والبرق، والسحاب، والضباب، وقوس قزح ، وذوات الأذناب، والهالة، والمجرة. ومما يحدث في الأرض؛ مثل: الزلازل، والمياه، والأبخرة... إلى غير ذلك. ومنها متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات؛ حتى لا نرى موجوداً ما خالياً عن قوة وهداية إذا كان قابلاً لهما. قالوا: وأما الحالة: فأحوال الروحانيات؛ من الروح، والريحان، والنعمة، واللذة، والراحة، والبهجة، والسرور في جوار رب الأرباب... كيف يخفي؟. ثم طعامهم وشرابهم: التسبيح، والتقديس، والتهليل، والتمجيد، والتحميد... وأنهم بذكر الله تعالى وطاعته؛ فمن قائم، ومن راكع، ومن ساجد، ومن قاعد لا يريد تبديل حالته؛ لما هو فيه من البهجة واللذة، ومن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرك، ومن متحرك لا يسكن، ومن كروبي في عالم القبض، ومن روحاني في عالم البسط... لا يعصون الله ما أمرهم. ويفعلون ما يؤمرون.
مناظرات بين الصابئة والحنفاء

وقد جري مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض وبين البشرية النبوية. ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب. وفيها فوائد لا تحصى: قالت الصابئة الروحانيات أبدعت إبداعاً، لا من شيء: لا مادة؛ ولا هيولى، وهي كلها جوهر واحد؛ على صنف واحد وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها، وهي من شدة ضيائها: لا يدركها الحس؛ ولا ينالها البصر، ومن غاية لطافتها: يحار فيها العقل، ولا يجول فيها الخيال. ونوع الإنسان: مركب من العناصر الأربعة؛ مؤلف من مادة وصورة، والعناصر متضادة ومزدوجة بطباعها: اثنان منها مزدوجان، واثنان مكنها متضادان. ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج. فما هو مبدع لا من شيء؛ لا يكون كمخترع منشئ. والمادة والهيولى سنخ الشر، ومنبع الفساد؛ فالمركب منها ومن الصورة: كيف يكون كمحض الصورة؟، والظلام: كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج؛ والمضطر في هوة الاختلاف: كيف يرقي إلى درجة المستغني عنهما؟! أجابت الحنفاء بأن قالت: بم عرفتم معاشرة الصابئة وجود هذه الروحانيات؛ والحس ما دلكم عليه؛ والدليل ما أرشدكم إليه؟. قالوا: عرفنا وجودها، وتعرفنا أحوالها من عاذيمون، وهرمس: شيث، وإدريس عليهما السلام. قالت الحنفاء: لقد ناقضتم وضع مذهبكم: فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني نفي متوسط البشري؛ فصار نفيكم إثباتاً. وعاد إنكاركم إقراراً. ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء اشرف من المخترع من شيء!؟ بل وجانب الروحاني أمر واحد. وجانب الجسماني أمران: أحدهما نفسه وروحه، والثاني حسه وجسده؛ فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى ومن حيث الجسد مخترع بخلقه؛ ففيه أثران: أمري وخلقي: قولي. وفعلي... فساوى الروحاني بجهة، وفضله بجهة؛ خصوصاً إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى: بل كملت وطهرت. وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين: أحدهما: أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد والجسماني المجرد، فحكمتم بأن الفضل للروحاني، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد. والجسماني والروحاني المجتمع؛ ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد: فإنه بطرف ساواه، وبطرف سبقه، والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها، ولم تؤثر فيه أحكام التضاد والازدواج؛ بل كان مستخدماً لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله: حصل التركيب، وعطلت الوحدة والبساطة؛ وذلك تخليص النفوس التي تدنست بالمادة ولوزمها، وصارت العلائق عوائق. وليت شعري! ماذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟، وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل

هذا كمن خاير بين اللفظ المجرد والمعنى المجرد: اختار المعنى؛ قيل له: لا، بل خاير بين المعنى المجرد والعبارة والمعنى؛ حتى لا يشكل؛ إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة، أشرف من المعنى المجرد. والوجه الثاني: أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالاً وتماماً فحسب، ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمل غيره؛ ففاضلتم بين كمالين مطلقاًن وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني! ونحن نقول: ما قولكم في كمالين: أحدهما كامل، والثاني كامل ومكمل عالماً: أيهما أفضل؟ قالت الصابئة نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب ،و هما ينزعان إلى البهيمية والسبعية، وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها؛ فيثور من الشهوية: الحرص والأمل، ومن الغضبية: الكبر والحسد... إلى غيرهما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما: صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها؛ لم يحملهم الغضب على حب الجاه، ولا حملتهم الشهوة على حب الماء؛ بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة، وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد؟! أجابت الحنفاء بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل: فإن في طرف البشرية نفسين: نفس حيوانية لها قوتان: قوة الغضب؛ وقوة الشهوة، ونفس إنسانية لها قوتان: قوة علمية؛ وقوة عملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال، ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له: من العقائد: الحق دون الباطل، ومن الأقوال: الصدق دون الكذب، ومن الأفعال: الخير دون الشر؛ ويختار بقوته العملية من لوازم القوى الغضبية: الشدة، الشجاعة، والحمية؛ دون الذلة، والجبن، والنذالة؛ ويختار بها أيضاً من لوازم القوة الشهوية: التآلف، والتودد، والبذاذة؛ دون الشرة، والمهانة، والخساسة... فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه، ومن أرحم الناس تذللاً وتواضعاً لوليه وصديقه. وإذا بلغ هذا الكمال، فقد استخدم القوتين واستعملهما في جانب الخير، ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب، وإبلاغها إلى حد الكمال. ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها؛ لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها، وحكم العنين العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة؛ لا يكون كحكم المتصوم الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر مع القدرة عليه؛ فإن الأول: مضطر عاجز، والثاني: مختار، قادر، حسن الاختيار. جميل التصرف. وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين؛ وإنما الكمال كله في استخدام القوتين. فنفس النبي عليه السلام كنفوس الروحانيين: فطرة، ووضعاً؛ وبذلك الوجه وقعت الشركة. وفضلها وتقدمها: باستخدام القوتين التي دونها؛ فلم تستخدمه، واستعمالهما: في جانب الخير والنظام؛ فلم تستعمله، وهو الكمال.
قالت الصابئة: الروحانيات صور مجردة عن المواد. وإن قدر لها أشخاص تتعلق بها: تصرفاً، وتدبيراً؛ لا ممازجة؛ ولا مخالطة؛ فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا والفرض أنها إذا كانت صوراً مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة: كاملة لا ناقصة؛ والمتوسط يجب أن يكون كاملاً حتى يكمل غيره. وأما الموجودات البشرية فصور في مواد، وإن قدر لها نفوس؛ فنفوسها: إما مزاجية، وإما خارجة عن المزاج. والفرض أنها إذا كانت صوراً في مواد، كانت موجودات بالقوة لا بالفعل، ناقصة لا كاملة، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمراً بالفعل، ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج؛ فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل؛ بل بغيره. والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل، والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج؟!

أجابت الحنفاء هذا الحكم الذي ذكرتموه - وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل غير مسلم على الإطلاق؛ لأن من الروحانيات ما يكون وجوده بالقوة، أو ما هو فيه: وجود بالقوة، ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل؛ حتى يخرجه من القوة إلى الفعل؛ فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم، والعقل له إعداد لكل شيء، وفيض على كل شيء، وأحدهما بالقوة والآخر بالفعل؛ وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية، فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمشى له قاعدة عقلية أصلاً؛ وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب؛ فليس كل روحاني كاملاً من كل وجه، ولا كل جسماني ناقصاً من كل وجه. فمن الجسمانيات أيضاً ما وجوده كامل بالفعل، وسائر النفوس أيضاً محتاجة إليه، وذلك أيضاً لضرورة الترتب في الموجودات السفلية. وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلاً؛ وإذا ثبت الترتب، فقد ثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب، فليس كل جسماني ناقصاً من كل وجه. قالت: وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحانين وإنما يختلفان من حيث أن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم، والعالمان متقابلان كالشخص والظل؛ وإذا أثبتم في ذلك العالم موجوداً ما بالفعل كاملاً تاماً؛ حتى تصدر عنه سائر الموجودات: وجوداً، ووصولاً إلى الكمال... فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضاً موجوداً ما بالفعل كاملاً تاماً؛ حتى تصدر عنه سائر الموجودات: تعلماً، ووصولاً إلى الكمال. قالوا: وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية؛ طريقكم في إثبات الأرباب عندكم وهي الروحانيات السماوية، وذلك احتياج كل مربوب إلى رب يدبره، ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب. ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة، وإنما الفاعل الكامل واحد؛ وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث، وقد اخبر التنزيل عنهم بذلك: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثاً.
وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحداً؛ فما سواه: قابل، محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل... فكذلك نقول في الموجودات السفلية: النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل، فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل، والمخرج هو النبي والرسول. وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمراً بالقوة، محتاجاً؛ فإن لم يتحقق بالفعل وجوداً: لا يخرج غيره من القول إلى الفعل؛ فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير، بل الطير يخرج البيضة.
وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه وفيه فائدة أخرى من وجه آخر: وهي: أن عند الحنفاء: المعقول لا يكون معقولاً حتى يثبت له مثال في المحسوس؛ وإلا: كان متخيلاً موهوماً، والمحسوس لا يكون محسوساً حتى يثبت له مثال في المعقول؛ وإلا: كان سراباً معدوماً. وإذا ثبتت هذه القاعدة؛ فمن أثبت عالماً روحانياً، وأثبت فيه مدبراً كاملاً من جنسه: وجوده بالفعل، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق، فيلزمه ضرورة أن يثبت عالماً جسمانياً، ويثبت فيه مدبراً كاملاً من جنسه: وجوده بالفعل، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق. ويسمى المدبر في ذلك العالم الروح الأول على مذهب الصابئة، والمدبر في هذا العالم الرسول على مذهب الحنفاء. ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة، وملاقاة عقلية؛ فيكون الروح الأول مصدراً، والرسول مظهراً. ويكون بين الرسول وسائر الشر مناسبة وملاقاة حسية؛ فيكون الرسول مؤدياً، والبشر قابل.
قال الصابئة: الجسمانيات مركبة من مادة وصورة، والمادة لها طبيعة عدمية. وإذا بحثنا عن أسباب: الشر، والفساد، والسفه، والجهل: لم نجد لها سبباً سوى المادة والعدم؛ وهما منبعا الشر. والروحانيات غير مركبة من المادة والصورة، بل هي صور مجردة، والصورة لها طبيعة وجودية. وإذا بحثنا عن أسباب: الخير، والصلاح، والحكمة، والعلم: لم نجد لها سبباً سوى الصورة؛ وهي منبع الخير. فنقول: ما فيه أصل الخير أو ما هو أصل الخير كيف يماثل ما فيه أصل الشر؟!

أجابت الحنفاء: بأن ما ذكرتم في المادة أنها سبب الشر فغير مسلم؛ فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم، وذلك هو الهيولى الأولى والعنصر الأول؛ حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها قبل وجود العقل. ثم إن سلم؛ في المركب من المادة والصورة كالمركب من الوجوب والجواز عندكم؛ فإن الجواز له طبيعة عدمية، وما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده جائز بذاته واجب بغيره، فيجب أن يلازمه أصل الشر.
قالوا: وإن سلم لكم أيضاً تلك المقدمة؛ فعندنا صور النفوس البشرية وخصوصاً صور النفوس النبوية كانت موجودة قبل وجود المواد، وهي المبادئ الأولى حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس سرمديين، وهي الصور المجردة التي كانت موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش: يسبحون بحمد ربهم، وكانت هي أصل الخير ومبدأ الوجود؛ ولكن لما ألبست الصور البشرية لباس المادة: تشبثت بالطبيعة، وصارت المادة شبكة لها؛ فساح عليها الواهب الأول فبعث إليها واحداً من عالمه، وألبسه لباس المادة؛ ليخلص الصور عن الشبكة، لا ليكون هو المتشبث بها، المنغمس فيها، المتوسخ بأوضارها، المتدنس بآثارها. وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزاً بالحمامة المطوقة، والحمامات الواقعة في الشبكة.
ثم قالوا: معاشر الصابئة! أبداً تشنعون علينا بالمادة ولوازمها، وما لم نفصل القول فيها: لم ننج من تشنيعكم. فنقول: النفوس البشرية وخصوصاً النبوية من حيث أنها نفوس، فهي مفارقة للمادة، مشاركة لتلك النفوس الروحانية: إما مشاركة في النوع؛ بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية، وأما مشاركة في الجنس؛ بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة. والجسد لم ينتقص منها؛ بل كملت هي لوازم الجسد، وكملت بها؛ حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم: من العوم الجزئية، والأعمال الخلقية. والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران؛ فكان الاقتران: خيراً لا شر فيه، وصلاحاً لا فساد معه، ونظاماً لا فسخ له... فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟.
قالت الصابئة: الروحانيات: نورانية، علوية، لطيفة؛ والجسمانيات: ظلمانية، سفلية، كثيفة؛ فكيف يتساويان والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء، وصفاتها، ومراكزها، ومحالها؟. فعالم الروحانيات: العل لغاية النور واللطافة، وعالم الجسمانيات: السفل لغاية الكثافة والظلمة. العالمان متقابلان، والكمال للعلوي لا للسفلي. والصفتان متقابلتان، والفضيلة للنور لا للظلمة.
أجابت الحنفاء: قالوا: لسنا نوافقكم أولاً: على أن الروحانيات كلها نورانية، ولا نساعدكم ثانياً: أن الشرف للعلو، ولا نساهلكم أصلاً: أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء. وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث؛ فإن فيها فوائد كثيرة: أما الأولى: فقالوا: حكمتم على الروحانيات حكم التساوي، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب، وإذا كانت الموجودات كلها روحانيها وجسمانيها على قضية التضاد والترتب، فلما أغفلتم الحكمين ههنا؟! وذلك أن من قال: الروحاني هو ما ليس بجسماني؛ فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة في جملة الروحانيات، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية؛ ثم من الجن من هو مسلم، ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحاً، فمن الأرواح ما هو خير، ومنها ما هو شرير، والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة؛ فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين، وتنافر بين الطرفين. فلم نسلم دعواكم: أنها كلها نورانية.
بلى! وعندنا معاشر الحنفاء الروح: هو الحاصل بأمر الباري تعالى الباقي على مقتضى أمره: فمن كان لأمره تعالى أطوع، وبرسالات رسله أصدق: كانت الروحانية فيه أكثر، والروح عليه أغلب؛ ومن كان لأمره تعالى أنكر، وبشرائعه أكذب: كانت الشيطنة عليه أغلب.
هذه قاعدتنا في الروحانيات، فلا روحاني أبلغ في الروحانية، من ذوات الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وأما قولكم: إن الشرف للعلو: إن عنيتم به علو الجهة فلا شرف فيه؛ فكم من عال جهة: سافل رتبة، وعلماً، وذاتاً، وطبيعة؛ وكم من سافل جهة: عال على الأشياء كلها رتبة، وفضيلة، وذاتاً، وطبيعة.

وأما قولكم: إن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء، وصفاتها، ومحالها، ومراكزها؛ فليس بحق، وهو مذهب اللعين الأول؛ حيث نظر إلى ذاته، وذات آدم عليه السلام، ففضل ذاته؛ إذ هي مخلوقة من النار، وهي علوية نورانية، على ذات آدم وهو مخلوق من الطين، وهو سفلي ظلمائي.
بل عندنا الاعتبار في الشرف: بالأمر، وقبوله: فمن كان أقبل لأمره، وأطوع لحكمه، وأرضى بقدره: فهو أشرف؛ ومن كان على خلاف ذلك: فهو أبعد، وأخس، وأخبث. فأمر الباري تعالى هو الذي يعطي الروح: قل : الروح من أمر ربي؛ وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقية، وبالحياة يستعد للعقل الغريزي، وبالعقل يكتسب الفضائل ويجتنب الرذائل. ومن لم يقبل أمر الباري تعالى: فلا روح له، ولا حياة له، ولا عقل له، ولا فضيلة له، ولا شرف عنده.
قالت الصابئة: الروحانيات فضلت الجسمانيات بقوتي: العلم، والعمل. أما العلم فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا، وإطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية عليه؛ ولأن علومها كلية، وعلوم الجسمانيات جزئية؛ وعلومهم فعلية، وعلوم الجسمانيات انفعالية؛ وعلومهم فطرية، وعلوم الجسمانيات كسبية... فمن هذه الوجوه: تحقق لها الشرف على الجسمانيات.
وأما العمل فلا ينكر أيضاً عكوفهم على العبادة، ودوامهم على الطاعة: يسبحون الليل والنهار لا يفترقون لا يلحقهم كلال ولا سآمة، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة. فتحقق لها الشرف أيضاً بهذا الطرف، وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.
أجابت الحنفاء: عن هذا بجوابين: أحدهما: التسوية بين الطرفين، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهم السلام. والثاني؛ بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.
أما الأول: فإنهم قالوا: علوم الأنبياء عليهم السلام كلية وجزئية، وفعلية وانفعالية، وفطرية وكسبية؛ فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية: فطرة ودفعة واحدة، ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية: اكتساباً بالحواس على ترتيب وتدريج؛ فكما أن للإنسان علوماً نظرية هي المعقولات، وعلوماً حاصلة بالحواس عن المحسوسات؛ فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس؛ فنظرياتنا فطرية لهم، ونظرياتهم لا نصل إليها قط؛ بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم، ولنا بكواسب الجوارح: جوارح الحواس. فأمزجه الأنبياء عليهم السلام أمزجة نفسانية، ونفوسهم نفوس عقلية، وعقولهم عقول أمرية فطرية. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا؛ كي تزكي هذه العقول وتصفي هذه الأذهان والنفوس؛ وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر.
وأما الثاني؛ فإنهم قالوا: من العجب أنهم لا يعجبون بهذه العلوم؛ بل ويؤثرون التسليم على البصيرة، والعجز على القدرة، والتبرؤ من الحول والقوة على الاستقلال، والفطرة على الاكتساب... وما أدرى ما يفعل به ولا بكم على إنما ما أوتيته على علم عندي. ويعلمون أن الملائكة والروحانيات بأسرها وإن علمت إلى غاية قوة نظرها وإدراكها ما أحاطت بما أحاط به علم الباري تعالى؛ بل لكل منهم: مطرح نظر، ومسرح فكر، ومجال العقل، ومنتهى أمل ، ومطار وهم وخيال... وإنهم إلى الحد الذي انتهى نظرهم إليه مستبصرون، ومن ذلك الحد إلى ما وراءه ما لا يتناهى مسلمون مصدقون، وإنما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون، والتصديق لما يجهلون؛ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ليس كمال حالهم؛ بل سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا هو الكمال.
فمن أين لكم معاشر الصابئة أن الكمال والشرف في العلم والعمل لا في التسليم والتوكل؟.
وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة؛ فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين: بداية أقدام السالين من الأنبياء والمرسلين: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، فعالم الروحانيات بالنسبة إليهم شهادة، وبالنسبة إلينا غيب، وعالم البشر الجسمانيات بالنسبة إلينا شهادة، وبالنسبة إليهم غيب. والله تعالى: هو الذي يعلم السر وأخفى.

قالت الحنفاء: من علم أنه لا يعلم؛ فقد أحاط بكل العلم، ومن اعترف بالعجز عن أداء الشكر؛ فقد أدى كل الشكر. قالت الصابئة الروحانيات: لهم قوة تصريف الأجسام، وتقليب الأجرام، والقوة التي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب فتنحسر، ولكن القوى الروحانية بالخواص الجسمانية أشبه، وإنك لترى الخامة اللطيفة من النبات في بدء نموها تفتق الحجر، وتشق الصخر؛ وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من القوة السماوية، ولو كانت هي قوى مزاجية: لما بلغت إلى هذا المنتهى. فالروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام تقليباً وتصريفاً لا يثقلهم حمل الثقيل، ولا يستخفهم تحريك الخفيف: فالرياح تهب بتحريكها، والسحاب يعرض ويزول بتصريفها، وكذلك الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها... وكل هذه وإن استندت إلى أسباب جزئية. فإنها تستند في الآخرة إلى أسباب من جهتها. ومثل هذه القوة: عديم الوجود في الجسمانيات.
أجابت الحنفاء: وقالوا: منا يقتبس: تفصيل القوى وتجنيسها. فإن القوى تنقسم إلى: قوى معدنية، وقوى نباتية، وقوى حيوانية، وقوى إنسانية، وقوى ملكية، وقوى روحانية، وقوى نبوية ربانية. والإنسان: مجمع القوى بجملتها، والإنسانية النبوية: تفضلها بقوى ربانية ومعان إلهية.
فنذكر أولاً: وجه تركيب الإنسان ووجه ترتيب القوى فيه، ثم نذكر: تركيب البشرية النبوية؛ وترتيب القوى فيها، ثم نخاير بين الوضعين: الروحاني منهما؛ والجسماني، وإليك الاختيار.
أما شخص الإنسان فمركب من الأركان الأربعة: التراب، والماء، والهواء، والنار؛ التي لها الطبائع الأربعة: اليبوسة، والرطوبة، والحرارة، والبرودة، ثم مركب فيه نفوس ثلاثة: إحداها : نفس نباتية: تنمو؛ وتتغذى؛ وتولد المثل، والثانية: نفس حيوانية: تحس؛ وتتحرك بالإرادة، والثالثة: نفس إنسانية: بها يميز؛ ويفكر؛ ويعبر عما يفكر. ووجود النفس الأولى: من الأركان وطباعها؛ وبقاءها بها؛ واستمدادها منها، ووجود النفس الثانية: من الأفلاك وحركاتها؛ وبقاؤها بها؛ واستمدادها منها، ووجود النفس الثالثة: من العقول البحتة والروحانيات الصرفة؛ وبقاؤها بها؛ واستمدادها منها. ثم إن النباتية تطلب الغذاء طبعاً، والحيوانية تطلب الغذاء حساً، والإنسانية تطلب الغذاء اختياراً وعقلاً. ولكل نفس منها محل؛ فمحل النباتية: الكبد، ومنه مبدأ النمو والنشوء؛ وعن هذا جعل فيه عروق دقاق ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف. ومحل الحيوانية: القلب، ومنه مبدأ تدبير الحس والحركة؛ وعن هذا فتح منه عروق إلى الدماغ، فيصعد إلى الدماغ من حرارته ما يعدل تلك البرودة وينزل منه من آثاره ما يدبر به الحركة. ومحل الإنسانية تصريفاً وتدبيراً: الدماغ؛ ومنه مبدأ الفكر، والتعبير عن الفكر؛ وعن هذا فتحت إليه أبواب الحواس مما يلي هذا العالم، وفتحت إليه أبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم. وههنا ثلاثة أعضاء ممدات لا بد منها: المعدة التي تمد الكبد بالغذاء، والرئة التي تمد القلب بترويح الهواء، والعروق التي تمد الدماغ بالحرارة. فإن: التركيب الإنساني أشرف التراكيب؛ فهو مجمع آثار الكونين والعالمين؛ فكل ما هو في العالم منتشر ففيه مجتمع، وكل ما هو فيه من خواص الاجتماع فليس للعالم البتة؛ لأن للاجتماع والتركيب خاصية لا توجد في حال الافتراق والانحلال. واعتبر فيه حالة السكر والخل، وحال السكنجبين، وكذلك الحكم في كل مزاج.
هذا وجه تركيب البدن، وترتيب القوى الخاصة به.
وأما وجه اتصال النفس به، وترتيب القوى الخاصة بها مما يلي هذا العالم، ومما يلي ذلك العالم؛ فاعلم أن النفس الإنسانية جوهر هو أصل القوى: المحركة؛ والمدركة؛ والحافظة للمزاج: تحرك الشخص بالإرادة؛ لا في جهات ميله الطبيعي، وتتصرف في أجزائه؛ ثم في جملته، وتحفظ مزاجه عن الانحلال، وتدرك بالمشاعر المركوزة فيه: وهي الحواس الخمسة؛ فبالقوة الباصرة تدرك الألوان والأشكال، وبالقوة السامعة تدرك الأصوات والكلمات، وبالقوة الشامة تدرك الروائح، وبالقوة الذائقة تدرك المطعومات، وبالقوة اللامسة تدرك الملموسات وله فروع من قوى منبثة في أعضاء البدن؛ حتى إذا أحس بشيء من أعضائه، أو تخيل، أو توهم، أو اشتهى، أو غضب... ألفى العلاقة التي بينه وبين تلك الفروع هيئة فيه، حتى يفعل؛ وله إدراك وقوة تحريك.

أما الإدراك فهو أن يكون مثال حقيقة المدرك: متمثلاً، مرتسماً في ذات المدرك، غير مباين له. ثم المثال: قد يكون مثال صورة الشيء، وقد يرتسم في القوة الباصرة وقد غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته؛ مثل: أين، وكيف، ووضع، وكم... معينة، لو توهم بدلها غيرها لم يؤثر في ماهية ذلك المدرك؛ والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة: لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته.
ثم الخيال الباطن يتخيله مع تلك العوارض التي لا يقدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العوائق الوضعية التي تعلق بها الحس، فهو يتمثل صورة مع غيبوبة حاملها، وعنده مثال العوارض، لا نفس العوارض، ثم الفكر العقلي يجرده عن تلك العوارض؛ فيعرض ماهيته وحقيقته على العقل، فيرتسم فيه مثال حقيقته؛ حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً.
وأما ما هو بريء في ذاته عن الشوائب المادية منزه عن العوارض الغريبة؛ فهو معقول لذاته، ليس يحتاج إلى عمل يعمل فيه؛ فيعقله ما من شأنه أن يعقله؛ فلا مثال له يتمثل في العقل، ولا ماهية له فيجرد له، ولا وصول إليه بالإحاطة والفطرة؛ إلا أن البرهان يدلنا عليه ويرشدنا إليه.
وكثيراً ما يلاحظ العقل الإنساني عالم العقل الفعال فيرتسم فيه من الصور المجردة المعقولة ارتساماً بريئاً عن العوائق المادية والعوارض الغريبة، فيبتدر الخيال إلى تمثله، فيمثله في صورة خيالية مما يناسب عالم الحس، فينحدر إلى الحس المشترك ذلك المثال، فيبصره كأنه يراه معايناً مشاهداً يناجيه ويشاهده، حتى كأن العقل عمل بالمعقول عملاً جعله محسوساً؛ وذلك إنما يكون عند اشتغال الحواس كلها عن أشغالها، وسكون المشاعر عن حركاتها: في النوم لجماعة. وفي اليقظة للأبرار.
يا عجباً كل العجب من تركيب على هذا النمط!! ومن أين لغيره مثله؟؟ ونعود إلى ترتيب القوى وتعيين محالها؛ أما القوى المتعلقة بالبدن التي ذكرناها آلات ومشاعر للجوهر الإنساني: فالأولى منها: الحس المشترك المعروف ببنطاسيا الذي هو مجمع الحواس، ومورد المحسوسات، وآلتها الروح المصبوب في مبادئ عصب الحس؛ لا سيما في مقدم الدماغ.
والثانية: الخيال والمصورة. وآلتها الروح المصبوب في البطن والمقدم من الدماغ؛ لا سيما في الجانب الأخير.
والثالثة: الوهم الذي هو لكثير من الحيوان، وهو ما به تدرك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه، وبه تدرك معنى في النوع فتنفر إليه وتزدوج به؛ وآلته الدماغ كله؛ لكن الأخص منه به هو التجويف الأوسط.
والرابعة: المفكرة وهي قوة لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني الوهمية المدركة بالوهم؛ فتارة تجمع، وتارة تفصل، وتارة تلاحظ العقل فتعرض عليه، وتارة تلاحظ الحس فتأخذ منه؛ وسلطانها في الجزء الأول من وسط الدماغ، وكأنها قوة ما للوهم؛ وتتوسط بين الوهم والعقل.
والخامسة: القوة الحافظة وهي التي كالخزانة لهذه المدركات: الحسية، والوهمية، والخيالية دون العقلية الصرفة ؛ فإن المعقول البحت لا يرتسم في جسم ولا في قوة في جسم، والحافظة قوة في جسم؛ وآلتها الروح المصبوب في أول البطن المؤخر من الدماغ.
والسادسة: القوة الذاكرة، وهي التي تستعرض ما في الخزانة على جانب العقل أو على الخيال والوهم؛ وآلتها الروح المصبوب في آخر البطن المؤخر من الدماغ.

وأما المعقول الصرف المبرأ عن الشوائب المادية؛ فلا يحل في قوة جسمانية وقوة جسدانية، حتى يقال: ينقسم بانقسامها، ويتحقق لها وضع ومثال؛ ولهذا لم تكن القوة الحافظة، خزانة لها، بل المصدر الأول الذي أفاض عليها تلك الصورة ار خازناً لها؛ فحيثما طالعته النفس الإنسانية بقوتها العقلية المناسبة لواهب الصور نوعاً من المناسبة، فاضت منه عليها تلك الصور المستحفظة له؛ حتى كأنه ذكرها بعدما نسيت، ووجدها بعدما ضلت عنه. وغريزة النفس الصافية تنزع إلى جانب القدس في تذكار الأمور الغائبة عن حضرة العقل نزاعاً طبيعياً، فتستحضر ما غاب عنها؛ ولهذا السر أخبر الكتاب الإلهي: " واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً " ....حتى صار كثير من الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكار؛ وذلك أن النفوس كانت في البدء الأول في عالم التذكار ثم هبطت إلى عالم النسيان فاحتاجت إلى مذكرات لما قد نسيت، معيدات إلى ما كانت قد ابتدأت:: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " ، وذكرهم بأيام الله.
ثم للنفس الإنسانية: قوى عقلية، لا جسمانية؛ وكمالات نفسانية روحانية، لا جسدانية: فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي؛ وذلك أن تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل ولا يفعل. ومن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلاً بالفعل، وإنما يخرج من القوة إلى الفعل بمخرج غير ذاتها لا محالة، فيجب أن يكون لها قوة استعدادية تسمى عقلاً هيولانياً؛ حتى يقبل من غيرها ما به يخرجها من الاستعداد إلى الكمال. فأول خروج لها إلى الفعل حصول قوة أخرى من واهب الصور يحصل لها عند استحضار المعقولات الأول؛ فيتهيأ بها لاكتساب الثواني: إما بالفكر أو الحدس، فيتدرج قليلاً قليلاً إلى أن يحصل لها ما قدر لها من المعقولات، ولكل نفس استعداد إلى حد ما لا يتعداه؛ ولكل عقل حد ما لا يتخطاه، فيبلغ إلى كماله المقدر له، ويقتصر على قوته المركوزة فيه... ولا يتبين ههنا: وجود التضاد بين النفوس والعقول، ووجوب الترتب فيها.
وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس: الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها: روحانياتها وجسمانياتها، معقولاتها ومحسوساتها، كلياتها وجزئياتها، علوياتها وسفلياتها... فعرفوا مقاديرها وعينوا موازينها ومعاييرها.
وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم، مركبة فيهم، منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس، مستديمة الشروق بنور الحق فيها؛ حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني: موكل بحفظ ما وجه إليه، واستتمام ما رشح له. بل ومجموع جسده ونفسه: مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات، وزيادة أمرين: أحدهما: ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب كما بينا من مثال السكر والخل. والثاني: ما أشرق عليه من الأنوار القدسية: وحياًن وإهاماً، ومناجاة، وإكراماً.
فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والكمال الموجود؟ بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به؟ وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام، وتصريف الأجرام: فليس يقتضي شرفاً؛ فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفاً. ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك؛ وليس ذلك مما يوجب شرفاً وكمالاً. وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له، وأمرت به، وقدرت عليه.
قالت الصابئة الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر. متوجهة إلى الخير، مقصورة على نظام العالم، وقوام الكل؛ لا يشوبها البتة شائبة الشر، وشائبة الفساد؛ بخلاف اختيار البشر؛ فإنه متردد بين طرفي الخير والشر لولا رحمة الله في حق البعض؛ وإلا: فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد، إذا كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما. وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى، وطلب رضاه، وامتثال أمره؛ فلا جرم!: كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره، فكما أراد، واختار: وجد المراد، وحصل المختار.
وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره؛ فلا يوجد المراد، ولا يحصل المختار.

أجابت الحنفاء بجوابين: أحدهما نيابة عن جنس البشر، والثاني نيابة عن الأنبياء عليهم السلام.
أما الأول: فنقول: اختيار الروحانيات إذا كان مقصوراً على أحد الطرفين، محصوراً: كان في وضعه مجبوراً، ولا شرف في الجبر. واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر؛ فمن جانب يرى آيات الرحمن، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان؛ فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر، وتميل به طوراً داعية الشهوة إلى أتباع الهوى؛ فإذا أقر طوعاً وطبعاً بوحدانية الله تعالى، واختار من غير جبر وإكراه طاعته، وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبوراً تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار: صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة... كالمكره فعله: كسباً ، الممنوع عما لا يجب: جبراً؛ ومن لا شهوة له؛ فلا يميل إلى المشتهى؛ كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى؛ فنهى النفس عن الهوى...فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.
وأما الثاني: فنقول إن اختيار الأنبياء عليهم السلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه؛ فهو متوجه إلى الخير، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل، صادر عن الأمر، صائر إلى الأمر، لا يتطرق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد، بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام؛ فإن العالي لا يريد أمراً لأجل سافل من حيث هو سافل بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي، وأمر أعلى من الجزئي، ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعاً لا مقصوداً، وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات؛ لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل، غير معللة بعلة، حتى لا يقال: إنما اختار هذا لكذا، وإنما فعل هذا لكذا؛ فلكل شيء علة: ولا علة لصنعه تعالى، بل لا يريد إلا كما علم؛ وذلك أيضاً ليس بتعليل؛ لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها؛ وإلا لكان ذلك الشيء حاملاً له على ما يريد. وخالق العلل والمعلولات لا يكون محمولاً على شيء؛ فاختياره لا يكون معللاً بشيء. واختيار الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره، كما أن أمره ينوب عن أمره؛ فيسلك سبل ربه ذللاً، ثم يخرج من قضية اختياره نظام حال وقوام أمر مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس. فمن أين للروحانيات هذه المنزلة؟ وكيف يصلون إلى هذه الدرجة؟ كيف! وكل ما يذكرونه؛ فموهوم، وكل ما يذكره النبي؛ فمحقق: مشاهدة، وعيان. بل وكل ما يحكى عن الروحانيات: من كمال علمهم، وقدرتهم، ونفوذ اختيارهم، واستطاعتهم؛ فإنما أخبرنا بذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام. وإلا فأي دليل أرشدنا إلى ذلك ونحن لم نشاهدهم، ولم نستدل بفعل من أفعالهم على صفاتهم وأحوالهم؟؟ قالت الصابئة الروحانيون متخصصون بالهياكل العلوية؛ مثل زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر؛ وهذه السيارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها، وكل ما يحدث من الموجودات، ويعرض من الحوادث؛ فكلها مسببات هذه الأسباب، وآثار هذه العلويات، فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم، ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات... فهم الأسباب الأول، والكل مسبباتها، والمسبب لا يساوي السبب والجسمانيون متشخصون بالأشخاص السفلية، والمتشخص كيف يماثل غير المتشخص؟.
وإنما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيات في أفعالها وحركاتها؛ حتى يراعى أحوال الهياكل وحركات أفلاكها: زماناً، ومكاناً، وجوهراً، وهيئة، ولباساً، وبخوراً، وتعزيماً. وتنجيماً، ودعاءً، وحاجة... خاصة بكل هيكل؛ فيكون: تقرباً إلى الهيكل تقرباً إلى الروحاني الخاص به؛ فيكون تقرباً إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب؛ حتى يقضي حاجته، ويتم مسألته.
وسيأتي تفصيل ما أجملوه من أمر الهياكل عند ذكر أصحابها إن شاء الله تعالى.
أجابت الحنفاء بأن قالوا: الآن: نزلتم عن نيابة الروحانيات الصرفة إلى نيابة هياكلها، وتركتم مذهب الصبوة الصرفة؛ فإن الهياكل: أشخاص الروحانيين، والأشخاص: هياكل الربانيين؛ غير أنكم أثبتم لكل روحاني هيكلاً خاصاً، له فعل خاص لا يشاركه فيه غيره.

ونحن نثبت أشخاصاً رسلاً كراماً، تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كل الكون: الروحاني منهم: في مقابلة الروحاني منها، والأشخاص منهم: في مقابلة الهياكل منها، وحركاتهم: في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك، وشرائعهم مراعاة حركات استندت إلى تأييد إلهي، ووحي سماوي: موزونة بميزان العدل، مقدرة على مقادير الكتاب الأول؛ ليقوم الناس بالقسط، ليست مستخرجة بالآراء المظلمة، ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة: إن طابقتها على المعقولات: تطابقتا، وإن وافقتها بالمحسوسات: توافقتا.
كيف ونحن ندعي: أن الدين الإلهي هو الموجود الأول، والكائنات تقدرت عليه؛ وأن المناهج التقديرية هي الأقدم؛ ثم المسالك الخلقية والسنن الطبيعية توجهت إليها. ولله تعالى سنتان في خلقه وأمره، والسنة الأمرية اقدم وأسبق من السنة الخلقية؛ وقد أطلع خواص عباده من البشر على السنتين: ولن تجد لسنة الله تحويلاً: هذا من جهة الخلق، ولن تجد لسنة الله تبديلاً: هذا من جهة الأمر.
فالأنبياء عليهم السلام: متوسطون في تقرير سنة الأمر، والملائكة: متوسطون في تقرير سنة الخلق. والأمر أشرف من الخلق؛ فمتوسط الأمر أشرف من متوسط الخلق؛ فالأنبياء عليهم السلام: أفضل من الملائكة. وهذا عجب: حيث صارت الروحانيات الأمرية متوسطات في الخلق، وصارت الأشخاص الخلقية متوسطين في الأمر...؛ ليعلم: إن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة، واليد للجسمائي لا للروحاني، والتوجه إلى التراب أولى من التوجه إلى السماء، والسجود لآدم عليه السلام أفضل من التسبيح والتحميد والتقديس.
وليعلم: أن الكمال في إثبات الرجال؛ لا في تعيين الهياكل والظلال، وانهم هم الآخرون وجوداً، السابقون فضلاً، وأن آخر العمل أول الفكرة، وأن الفطرة لمن له الحجة. وأن المخلوق بيديه لا يكون كالمكون بحرفيه؛ قال عز وجل: " فو عزتي وجلالي، لا أجعل من خلقته بيدي، كمن قلت له: كن، فكان " .
قالت الصابئة الروحانيات: مبادئ الموجودات وعالمها: معاد الأرواح. والمبادئ أشرف ذاتاً، وأسبق وجوداً، وأعلى رتبة ودرجة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها. وكذلك عالمها؛ عالم، المعاد؛ والمعاد كمال؛ فعالمها عالم الكمال. فالمبدأ منها، والمعاد إليها، والمصدر عنها، والمرجع إليها بخلاف الجسمانيات. وأيضاً؛ فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان، فتوسخت بأوضار الأجسام، ثم تطهرت عنها: بالأخلاق الزكية، والأعمال المرضية؛ حتى انفصلا عتها، فصعدت إلى عالمها الأول. والنزول هو النشأة الأولى، والصعود هو النشأة الآخرة. فعرف أنهم أصحاب الكمال، لا أشخاص الرجال.
أجابت الحنفاء قالوا: من أين تسلمتم هذا التسليم: أن المبادئ هي: الروحانيات؟ وأي برهان أقمتم؟؛ وقد نقل عن كثير من قدماء الحكماء: إن المبادئ هي: الجسمانيات، على اختلاف منهم في الأول منها: أنه نار، أو هواء، أو ماء، أو أرض؟ واختلاف آخر: أنه مركب، أو بسيط؟ واختلاف آخر: أنه إنسان، أو غيره؟؛.. حتى صارت جماعة إلى إثبات أناس سرمديين.
ثم منهم من يقول: أنهم كانوا كالظلال حول العرش، ومنهم من يقول: إن الآخر وجوداً من حيث الشخص في هذا العالم: هو الأول وجوداً من حيث الروح في ذلك العالم. وعليه: خرج أن أول الموجودات نور محمد عليه السلام؛ فإذا كان شخصه هو الآخر من جملة الأشخاص النبوية، فروحه هو الأول من جملة الأرواح الربانية، وإنما حضر هذا العالم ليخلص الأرواح المدنسة بالأوضار الطبيعية، فيعيدها إلى مبدئها؛ وإذا كان هو المبدأ، فهو المعاد أيضاً. فهو النعمة وهو النعيم، وهو الرحمة وهو الرحيم.

قالوا: ونحن إذا أثبتنا إن الكمال في التركيب، لا في البساطة والتحليل؛ فيجب أن يكون المعاد بالأشخاص والأجساد، لا بالنفوس والأرواح؛ والمعاد كمال لا محالة. غير أن الفرق بين المبدأ والمعاد هو أن الأرواح في المبدأ مستورة بالأجساد، وأحكام الأجساد غالبة، وأحوالها ظاهرة للحس؛ والأجساد في المعاد مغمورة بالأرواح، وأحكام النفوس غالبة، وأحوالها ظاهرة للعقل؛ وإلا: فلو كانت الأجساد تبطل رأساً، وتضمحل أصلاً، وتعود الأرواح إلى مبدئها الأول: ما كان الاتصال بالأبدان والعمل بالمشاركة فائدة؛ ولبطل تقدير الثواب والعقاب على فعل العباد. ومن الدليل القاطع على ذلك: أن النفوس الإنسانية في حال اتصالها بالبدن اكتسبت أخلاقاً نفسانية صارت هيئات متمكنة فيها تمكن الملكات، حتى قيل: أنها نزلت منزلة الفصول اللازمة التي تميزها عن غيرها، ولولاها لبطل التمييز. وتلك الهيئات إنما حصلت بمشاركات من القوى الجسمانية، بحيث لن يتصور وجودها إلا مع تلك المشاركة، وتلك القوى لن تتصور إلا في أجسام مزاجية، فإذا كانت النفوس لن تتصور إلا معها وهي المعينة المخصصة وتلك لن تتصور إلا مع الأجسام؛ فلا بد من حشر الأجسام، والمعاد بالأجسام.
قالت الصابئة: طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر، وشرعنا معقول؛ فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصاً في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات؛ راعوا فيها: جوهراًُ وصورة، وعلى أوقات وأحوال وهيئات؛ أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات: تختماًن ولباساً، وتبخراً، ودعاء، وتعزيماً؛ فتقربوا إلى الروحانيات، فتقربوا إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب. وهو طريق متبع، وشرع ممهد: لا يختلف بالأمصار والمدن، ولا ينتسخ بالأدوار والأكوار. ونحن تلقينا مبدأه من عاذيمون وهرمس العظيمين؛ فعكفنا على ذلك دائمين.
وأنتم معاشر الحنفاء تعصبتم للرجال، وقلتم بأن الوحي والرسالة ينزلوا عليهم من عند الله تعالى بواسطة، أو بغير واسطة. فما الوحي أولاً؟ وهل يجوز أن يكلم الله بشراً؟ وهل يكون كلامه من جنس كلامنا؟ وكيف ينزل ملك من السماء وهو ليس بجسماني: ابصورته أم بصورة البشر؟ وما معنى تصوره بصورة الغير: أفيخلع صورته ويلبس لباساً آخر، أم يتبدل وضعه وحقيقته؟. ثم ما لبرهان أولاً على جواز انبعاث الرسل في صورة البشر؟ وما دليل كل مدع منهم؟: أفنأخذ بمجرد دعواه، أم لا بد من دليل خارق للعادة؟ وإن أظهر ذلك: أفهو من خواص النفوس؟ أم من خواص الأجسام؟ أم من فعل الباري تعالى؟. ثم ما الكتاب الذي جاء به: أفهو كلام الباري تعالى، وكيف يتصور في حقه كلام؟ أم هو كلام الروحاني؟. ثم هذه الحدود والأحكام أكثرها غير معقولة، فكيف يسمح عقل الإنسان بقبول أمر لا يعقله؟ وكيف تطاوعه نفسه بتقليد شخصه مثله؟ أبأن يريد أن يتفضل عليه؟ " ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " .
أجابت الحنفاء بأن المتكلمين منا يكفوننا جواب هذا الفصل بطريقتين: أحدهما الإلزام: تعرضاً لإبطال مذهبنا. والثاني الحجة: تعرضاً لإثبات مذهبنا.
أما الإلزام؛ فقالوا: إنكم ناقضتم مذهبكم؛ حيث قلتم بتوسط عاذيمون وهرمس، وأخذتم طريقتكم منهما. ومن أثبت المتوسط في إنكار المتوسط؛ فقد تناقض كلامه، وتخلف مرامه.
وزادوا هذا تقريراً: بأنكم معاشر الصابئة أيضاً متوسطون، يحتاج إليكم في التزام مذهبكم؛ إذ من المعلوم أن كل من دب ودرج منكم ليس يعرف طريقتكم، ولا يقف على صنعتكم: من علم، وعمل. أما العلم فالإحاطة بحركات الكواكب والأفلاك، وكيفية تصرف الروحانيات فيها. وأما العمل فصنعة الأشخاص في مقابلة الهياكل على النسب بل قوم مخصوصون أو واحد في كل زمان: يحيط بذلك علماً، ويتيسر له عملاً؛ فقد أثبتم متوسطاً عالماً من جنس البشر، وقد ناقض آخر كلامكم أوله.
وزادوا هذا تقريراً آخر بإلزام الشرك عليهم: إما الشرك في أفعال الباري تعالى، وإما الشرك في أوامره.

أما الشرك في الأفعال فهو إثبات تأثيرات الهياكل والأفلاك؛ فإن عندهم: الإبداع الخاص بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها، والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل ثم تفويض أمور العالم السفلي إليها؛ كمن يبني معملة، وينصب أركاناً للعمل من: الفاعل، والمادة، والآلة، والصورة، ويفوض العمل إلى التلامذة. فهؤلاء اعتقدوا أن الروحانيات آلهة، والهياكل أرباب، والأصنام في مقابلة الهياكل باتخاذ وتصنع من كسبهم وفعلهم. فألزم أصحاب الأصنام: أنكم تكلفتم كل التكلف حتى توقعوا حجراً جماداً في مقابلة هيكل، وما بلغت صنعتكم إلى إحداث: حياة فيه، وسمع، وبصر، ونطق، وكلام: " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم؛ أف لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون " ؟ أو ليست النسب أوضاعكم الفطرية، وأشخاصكم العقلية: أفضل منها وأشرف؟ أو ليست النسب والإضافات النجومية المرعية في خلقكم: أشرف وأكمل مما راعيتموها في صنعكم؟: " أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون؟!. أو لستم تحتاجون إلى المتوسط المعمول لقضاء حاجة؟: إما جلب نفع، أو دفع ضر؟؛ فهذا العامل الصانع أقدر؛ إذ فيه من القوة العلمية والعملية ما يستعمل به الهياكل العلوية ويستخدم الأشخاص الروحانية؛ فهلا ادعى لنفسه ما يثبت بفعله من جماد؟! ولهذا الإلزام تفطن اللعين فرعون حيث ادعى الإلهية والربوبية لنفسه وكان في الأصل على مذهب الصابئة فصبا عن ذلك ودعا إلى نفسه، فقال: أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري؛ إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام، واستظهر بوزيره هامان، وكان صاحب الصنعة؛ فقال: ياهامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات، فأطلع إلى إله موسى. وكان يريد أن يبني صرحاً مثل الرصد فيبلغ به إلى حركات الأفلاك والكواكب، وكيفية تركيبها، وهيئآتها، وكمية أدوارها وأكوارها؛ فلربما يطلع على سر التقدير في الصنعة، ومآل الأمر في الخلقة والفطرة... ومن أين له هذه القوة والبصيرة؟! ولكن: اعتزاز بنوع فطنة وكياسة في جبلته، واغترار بضرب إهمال في مهله؛ فما تمت لهم الصنعة حتى أغرقوا فأدخلوا ناراً.
فحدث بعده السامري وقد نسج على منواله في الصنعة، حتى أخذ قبضة من أثر الروحاني، وأراد أن يرقى الشخص الجمادي عن درجته إلى درجة الحيواني؛ فاخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، وما أمكنه أن يحدث فيه ما هو أخص أوصاف المتوسط من الكلام والهداية: ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ فانحسر في الطريق... حتى كان من الأمر ما كان، وقيل: لنحرقنه، ثم لننسفنه في اليم نسفاً.
ويا عجباً من هذا السر!! حيث: أغرق فرعون فأدخل النار؛ مكافئة على دعوة الإلهية لنفسه، وأحرق العجل ثم نسف في اليم؛ مكافئة على إثبات الإلهية له. وما كان للنار والماء على الحنفاء يد للاستيلاء: قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم؛ فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك... .
هذه مراتب الشرك في الفعل، والخلق.
ويشبه أن يكون دعوى اللعينين: نمرود، وفرعون: أنهما إلهان أرضيان كالآلهة السماوية الروحانية: دعوى الإلهية من حيث الأمر لا من حيث الفعل، والخلق؛ وإلا ففي زمان كل واحد منهما من هو أكبر منه سناً، وأقدم في الوجود عليه... فلما ظهر من دعواهما أن الأمر كله لهما، فقد ادعيا الإلهية لنفسها. وهذا هو الشرك الذي ألزمه المتكلم على الصابئ؛ فإنه لما ادعى أنه أثبت في الأشخاص ما يقضي به حاجة الخلق، فقد عاد بالتقدير إلى صنعته، وو قف بالتدبير على معاملته؛ فكان الأمر بأن هذا الفعل واجب الإقدام عليه، وهذا واجب الإحجام عنه أمراً في مقابلة أمر الباري تعالى، والمتوسط فيه متوسط الأمر؛ وكان شركاً؛ إذ لم ينزل الله به سلطاناً، ولا أقام عليه حجة وبرهاناً.

كيف، وما يتمسك به من الأحكام مرتبة على هيئات فلكية: لم تبلغ قوة البشر قط إلى مراعاتها؟ ولا يشك أن الفلك كله يتغير لحظة فلحظة بتغير جزء من أجزاءه تغير الوضع والهيئة؛ بحيث لم يكن على تلك الهيئة فيما سبق، ولا يرجع إلى تلك فيما يستقبل. ومتى يقف الحاكم على تغيرات الأوضاع حتى تكون صنعته في الأشخاص والأصنام مستقيمة؟! وإذا لم تستقم الصنعة فكيف تكون الحاجة مقضية؟!... ومن رفع الحاجة إلى من لا ترفع الحوائج إليه فقد أشرك كل الشرك.
وأما الطريق الثاني: فإقامة الحجة على إثبات المذهين ولمتكلمي الحنفاء فيه مسلكان أحدهما أن يسلك الطريق نزولاً من أمر الباري تعالى إلى سد حاجات الخلق، والثاني: أن يسلك الطريق صعوداً من حاجات الخلق إلى إثبات أمر الباري تعالى؛ ثم تخرج الإشكالات عليهما.
أما الأول؛ فقال المتكلم الحنيف: قد قامت الحجة على أن الباري تعالى: خالق الخلائق، ورازق العباد وأنه المالك الذي له الملك والملك. والمالك هو أن يكون له على عباده: أمر، وتصريف؛ وذلك أن حركات العباد قد انقسمت إلى اختيارية، وغير اختيارية؛ فما كان منها باختيار من جهتهم، فيجب أن يكون له فيها: تصريف، وتقدير. ومن المعلوم: أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى، وأمره؛ فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده، وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر، حتى يعرفهم أحكامه وأوامره؛ ويجب أن يكون مخصوصاً من عند الله عز وجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية، يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه؛ تدل تلك الآيات على صدقه، نازلة منزلة التصديق بالقول. ثن إذا ثبت صدقه وجب أتباعه في جميع ما يقول ويفعل، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه؛ إذ ليس كل علم تبلغ إليه قوة البشر.
ثم الوحي من عند العزيز يمد حركاته الفكرية، والقولية، والعملية: بالحق في الأفكار، والصدق في الأقوال، والخير في الأفعال. فبطرف يماثل البشر؛ وهو طرف الصورة، وبطرف يوحى إليه؛ وهو طرف المعنى والحقيقة: " قل سبحان ربي! هل كنت بشراً رسولاً " ؟ فبطرف يشابه نوع الإنسان، وبطرف يماثل نوع الملائكة، وبمجموعهما يفضل النوعين؛ حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع: مزاجاً؛ واستعداداً، وملكيته فوق ملكية النوع الآخر: قبولاً؛ وأداء، فلا يضل ولا يغوي بطرف البشرية، ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية؛ فيقرر أن أمر الباري تعالى واحد: لا كثرة فيه، ولا انقسام له: " وما أمرنا إلا بواحدة " غير أنه يلبس تارة عبارة العربية، وتارة عبارة العبرية، والمصدر يكون واحداً، والمظهر متعدداً.
والوحي: إلقاء الشيء بسرعة، فيلقى الروح الأمر إليه دفعة واحدة، بلا زمان: كلمح بالبصر؛ فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقى، كما يتمثل في المرآة المجلوة صورة المقابل؛ فيعبر عنه: غما بعبارة قد اقترنت بنفس التصور، وذلك هو آيات الكتب؛ أو بعبارة نفسه، وذلك هو أخبار النبوة... وهذا كله بطرفه الروحاني.
وقد يتمثل الملك الروحاني له بمثال صورة البشر تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة، أو تمثل الصورة الواحدة في المرايا المتعددة، أو الظلال المتكثرة للشخص الواحد؛ فيكالمه مكالمة حسية، ويشاهده مشاهدة عينية... ويكون ذلك بطرفه الجسماني. وإن انقطع الوحي عنه لم ينقطع عنه التأييد والعصمة: حتى يقومه في أفكاره، ويسدده في أقواله، ويوفقه في أفعاله.
ولا تستبعدوا معاشر الصابئة تلقي الوحي على الوجه المذكور، ونزول الملك على النسق المعقود؛ وعندكم أن هرمس العظيم صعد إلى العالم الروحاني، فانخرط في سلكهم. فإذا تصور صعود البشر؛ فلم لا يتصور بزلل الملك؟، وإذا تحقق أنه خلع لباس البشرية؛ فلم لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟. فالحنيفية: إثبات الكمال في هذا اللباس، أعني لباس الناس. والصبوة: إثبات الكمال في خلع كل لباس. ثم لا يتطرق ذلك لهم حتى يثبتوا لباس الهياكل أولاً، ثم لباس الأشخاص والأوثان ثانياً. ولقد قال لهم راس الحنفاء متبرئا عن الهياكل والأشخاص: إني بريء مما تشركون. غني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.

وأما الثاني؛ فهو الصعود من حاجة الناس إلى إثبات أمر الباري تعالى؛ قال المتكلم الحنيف: لما كان نوع الإنسان محتاجاً إلى اجتماع على نظام. وذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بحدود وأحكام في حركاته ومعاملاته، يقف كل منهم عند حده المقدر له لا يتعداه؛ وجب أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يبين فيه: أحكام الله تعالى في الحركات، وحدوده في المعاملات؛ فيرتفع به الاختلاف والفرقة، ويحصل به الاجتماع والألفة. وهذا الاحتياج لما كان لازماً لنوع الإنسان ضرورة، يجب أن يكون المحتاج إليه قائماً ضرورة؛ بحيث تكون نسبته إليه نسبة: الغني والفقير، والمعطي والسائل، والملك والرعية؛ فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكاً لم يكن ملك أصلاً؛ كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلاً. ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان وعمره لا يساوي عمر العالم؛ فينوب منابه علماء أمته، ويرث علمه أمناء شريعته؛ فتبقى سنته ومنهاجه، ويضيء على البرية مدى الدهر سراجه. والعلم بالتوارث؛ وليست النبوة بالتوارث. والشريعة تركة الأنبياء، والعلماء ورثة الأنبياء.
قال الصابئة الناس متماثلة في حقيقة الإنسانية والبشرية، ويشملهم حد واحد، وهو: الحيوان الناطق المائت. والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية؛ فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات: أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك: أنه جوهر غير جسم هو كمال الجسم محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي بالفعل أو بالقوة؛ فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية. وأما العقل فقوة أو هيئة لهذه النفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، والناس في ذلك على استواء من القدم؛ وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين: أحدهما اضطراري؛ وذلك من حيث المزاج المستعد لقبول النفس؛ والثاني اختياري؛ وذلك من حيث الاجتهاد المؤثر في رفع الحجب المادية، وتصقيل النفس عن الصدأة المانعة لارتسام الصور المعقولة... حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال: تساوت الأقدام، وتشابهت الأحكام؛ فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة، ولا يتحكم أحد على أحد بالإستتباع.
أجابت الحنفاء بأن التماثل والتشابه في الصور البشرية والإنسانية مسلم لا مرية فيه؛ وإنما التنازع بيننا في النفس والعقل قائم؛ فإن عندنا: النفوس والعقول على التضاد والترتب، وعلينا بيان ذلك، على مساق حدودكم، ومذاق أصولنا: فقولكم: إن النفس جوهر، غير جسم: هو كمال الجسم، محرك له بالاختيار؛ وذلك إذا أطلق النفس على الإنسان والملك، وهو كمال جسم كبيعي آلي ذي حياة بالقوة؛ إذا أطلق على الإنسان والحيوان؛ فقد جعلتم لفظ النفس من الأسماء المشتركة، وميزتم بين النفس الحيواني، والنفس الإنساني، والنفس الملكي؛ فهل زدتم فيه قسماً ثالثاً وهو: النفس النبوي حتى يتميز عن الملكي، كما تميز الملكي عن الإنساني؟ فإن عندكم: المبدأ النطقي للإنسان بالقوة، والمبدأ العقلي للملك بالفعل، فقد تغايرا من هذا الوجه؛ ومن حيث إن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان ولا يطرأ على الملك، وذلك تمييز آخر؛ فليكن في النفس النبوي مثل هذا الترتب. وأما الكمال الذي تعرضتم له، فإنما يكون كمالاً للجسم إذا كان اختيار المحرك محموداً؛ فأما إذا كان اختياره مذموماً من كل وجه صار الكمال نقصاناً؛ وحينئذ يقع التضاد بين النفس الخيرة والنفس الشريرة، حتى تكون إحداهما في جانب الملكية، والثانية في جانب الشيطانية؛ فيحصل التضاد المذكور، كما حصل الترتب المذكور؛ فإن الاختلاف بالقوة والفعل اختلاف بالترتب، والاختلاف بالكمال والنقص والخير والشر: اختلاف بالتضاد؛ فبطل التماثل.

ولا تظنن أن الاختلاف بين النفسين الخيرة والشريرة اختلاف بالعوارض؛ فإن الاختلاف بين النفس الملكية والشيطانية بالنوع، كما أن الاختلاف بين النفس الإنسانية والملكية بالنوع؛ وكيف لا يكون كذلك! والاختلاف ههنا بالقوة والفعل، والاختلاف ثم بالخير والشر؟ وهذا لسر: وهو أن الخير غريزة هي هيئة متمكنة في النفس بأصل الفطرة، وكذلك الشر طبيعة غريزية. لست أقول: فعل الخير، وفعل الشر؛ فإن الغريزة غير الفعل المترتب عليها. فتحقق أن ههنا نفساً محركة للبدن اختياراً نحو الخير عن مبدأ عقلي: إما بالقوة أو بالفعل، وهو كمال للجسم وليس بجسم، وههنا نفساً محركة للبدن اختياراً نحو الشر عن مبدأ نطقي: إما بالقوة أو بالفعل، وهو نقص للجسم وليس بجسم. ولا ينبون طبعك عن أمثال ما يورد عليك المتكلم الحنيف، فإنما يغترفه من بحر، وليس ينحته من صخر؛ فلربما لا يساعدك على أن الإنسان نوع الأنواع، وأن الاختلاف فيه يقع في العوارض واللوازم؛ بل يثبت في النفوس الإنسانية اختلافاً جوهرياً، فيفصل بعضها على بعض بالفصول الذاتية، لا باللوازم العرضية. فكما أن الاختلاف بالقوة والفعل في النفس الإنسانية والملكية: اختلاف جوهري، أوجب اختلاف النوع والنوع؛ وإن شملهما اسم النفس الناطقة؛ والفصل الذاتي هو القوة والفعل... كذلك نقول في نفس لها قوة علم خاص، وقوة عمل خاص، وقوة خير، وقوة شر؛ وكمال مطلق، هو أصل الخير؛ ونقص مطلق، هو أصل الشر. وأما ما ذكره المتكلم الصابي من حد العقل: أنه قوة أو هيئة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد؛ فغير شامل لجميع العقول عنده، ولا عند الحنيف؛ بل هو تعرض للعقل الهيولاني فقط. فأين العقل النظري؟ وحده: أنه قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية. وأين العقل العملي؟ وحده: أنه قوة للنفس هي مبدأ لتحريك القوة الشوقية إلى ما يختار من الجزئيات، لأجل غاية مظنونة. وأين العقل بالملكة؟ وهو استكمال القوة الهيولانية، حتى تصير قريبة من الفعل. وأين العقل بالفعل؟ وهو استكمال النفس بصورة ما أو صورة معقولة، حتى متى ما شاء عقلها وأحضرها بالفعل. وأين العقل المستفاد؟ وهو ماهية مجردة عن المادة. مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج. وأين العقول المفارقة؟ فإنها: ماهيات مجردة عن المادة. وأين العقل الفعال؟؛ فإنه من جهة ما هو عقل؛ فإنه جوهر صوري، ذاته ماهية مجردة في ذاتها لا بتجريد غيرها عن المادة وعن علائق المادة، وهي ماهية كل موجود؛ ومن جهة ما هو فعال؛ فإنه جوهر بالصفة المذكورة، من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه؟. فقد تعرض لنوع واحد من العقول. ولا خلاف أن هذه العقول قد اختلفت حدودها، وتباينت فصولها كما سمعت. فأخبرني أيها المتكلم الحكيم : من أي عقل تعد عقلك أولاً؟ وهل ترضى أن يقال لك: تساوت الأقدام في العقول؟ حتى يكون عقلك بالفعل والإفادة كعقل غيرك بالقوة والاستعداد؟ بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبي غوي: لا يرد عليه الفكر براده، ولا ينفك الخيال عن عقله، كما لا ينفك الحس عن خياله؟؛ وإذا كانت الأقدام متساوية، فما هذا الترتب في الأقسام؟؛ وإذا أثبت ترتباً في العقول، فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة، وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة. ثم: هل في نوعه ما هو عديم الاستعداد أصلاً حتى يشبه أن يكون عقلاً، وليس عقلاً؟ وما النوع الذي تثبته للشياطين؟؛ أو هو من عداد ما ذكرنا، أم خارج عن ذلك ؟؛ فإنك إذا ذكرت حد الملك، وأنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي، غير مائت، هو واسطة بين الباري تعالى والأجسام السماوية والأرضية؛ وعددت أقسامه: أن منه ما هو عقلي، ومنه ما هو نفسي. ومنه ما هو حسي... فيلزمك من حيث التضاد، أ، تذكر حد الشيطان على الضد مما ذكرته من حد الملك، وتعد أقسامه أيضاً...؛ ويلزمك من حيث الترتب، أن تذكر حد الإنسان على الضد مما ذكرته من حد الملك وتعد أقسامه وأنواعه كذلك؛ حتى يكون من الإنسان: ما هو محسوس فقط؛ ومنه: ما هو مع كونه محسوساً روحاني، نفساني، عقلي؛ وذلك هو درجة النبوة. فمن عقل عمل من حس، ومن حس عمل من عقل، ومن نفس مزاجي، ومن مزاج نفسي، ومن روح جسماني، ومن جسم روحاني... دع عنك كلام لعامة، ولا

تظنن هذه طامة.ظنن هذه طامة.
قالت الصابئة لقد حصرتمونا: بإبطال تساوي العقول والنفوس، وإثبات الترتب والتضاد فيهما؛ ولا شك أن من سلم الترتب فقد لزمه الإتباع؛ فأخبرونا: ما رتبة الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان؟ وما رتبتهم بالإضافة إلى الملك والجن وسائر الموجودات؟ ثم ما رتبة النبي عند الباري تعالى؟. فإن عندنا: الروحانيات أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وهم المقربون في الحضرة الإلهية، والمكرمون لديه؛ ونراكم تارة تقولون: إن النبي يتعلم من الروحاني، ونراكم تارة تقولون: إن الروحاني يتعلم من النبي.
أجابت الحنفاء بأن الكلام في المراتب صعب، ومن لم يصل إلى رتبة من المراتب كيف يمكنه أن يستوفي بيانها؟. لكنا نعرف أن رتبته بالنسبة إلينا: رتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس من الحيوان، فكما أنا نعرف أسامي الموجودات ولا يعرفها الحيوان؛ كذلك هم: يعرفون خواص الأشياء وحقائقها، ومنافعها، ومضارها، ووجوه المصالح في الحركات، وحدودها، وأقسامها... ونحن لا نعرفها.
وكما أن نوع الإنسان ملك الحيوان بالتسخير، فالأنبياء عليهم السلام ملوك الناس بالتدبير، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان، كذلك حركات الأنبياء معجزات الناس؛ لأن الحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل، ولا أن تبلغ إلى الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب، ولا أن تبلغ إلى الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر؛ فلا التمييز العقلي لها بالوجود، ولا مثل هذه الحركات لها بالفعل. وكذلك حركات الأنبياء؛ لان منتهى فكرهم لا غاية له، وحركات أفكارهم في مجالي القدس مما تعجز عنها قوة البشر؛ حتى يسلم لهم: لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر.
وهم في الرتبة العليا، والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها؛ فقد أحاطوا علماً بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين؛ ففي الأول تكون حاله حال التعلم: علمه الشديد القوي، وفي الأخير: حاله حال التعليم، وذلك في حق آدم عليه السلام: أنبأهم بأسمائهم حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف؛ فانظر؛ كيف تكون الحال في نهاية الظهور.
وأما إضافتهم جناب القدس؛ فالعبودية الخاصة: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، قولوا: إن عباد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم. أحق الأسماء لهم، وأخص الأحوال بهم: عبده ورسوله؛ لا جرم كان أخص التعريفات لجلاله تعالى بأشخاصهم: إله إبراهيم: إله إسماعيل وإسحاق: إله موسى وهرون: إله عيسى: إله محمد عليهم السلام. فكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة، ومنها ما هو خاص الإضافة: كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية، والتجلي للعباد بالخصوصية: منه ما له عموم رب العالمين ومنه ما له خصوص رب موسى وهارون.
فهذه نهاية مذهبي الصابئة والحنفاء. وفي الفصول التي جرت بين الفريقين فوائد لا تحصى.
وكان في الخاطر بعد زوايا: نريد نمليها، وفي القلم خفايا: أكاد أخفيها؛ فعدلت عنها إلى ذكر حكم هرمس العظيم لأعلى أنه من جملة فرق الصابئة؛ حاشاه؛ بل على أن حكمه مما تدل على تقرير مذهب الحنفاء، في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية، وإيجاب القول بإتباع النواميس الإلهية؛ على خلاف مذاهب الصابئة.
حكم هرمس العظيم المحمودة آثاره، المرضية أقواله وأفعاله، الذي يعد من الأنبياء الكبار،؛ ويقال: هو إدريس النبي عليه السلام. وهو الذي وضع أسامي البروج والكواكب السيارة، ورتبها في بيوتها، وأثبت لها: الشرف والوبال، والأوج والحضيض، والمناظر بالتثليث والتسديس والتربيع، والمقابلة والمقارنة، والرجعة والاستقامة؛ وبين: تعديل الكواكب، وتقويمها، وأما الأحكام المنسوبة إلى هذه الاتصالات، فغير مبرهن عليها عند الجميع.
وللهند وللعرب طريقة أخرى في الأحكام؛ أخذوها من خواص الكواكب لا من طبائعها، ورتبوها على الثوابت؛ لا على السيارات.
ويقال: إن عاذيمون وهرمس هما: شيث وإدريس عليهما السلام.
ونقلت الفلاسفة عن عاذيمون أنه قال المبادئ الأول خمسة: الباري تعالى، والعقل، والنفس، والمكان، والخلاء؛ وبعدها وجود المركبات. ولم ينقل هذا عن هرمس. ومن حكم هرمس:

قوله: أول ما يجب على المرء الفاضل بطباعه، المحمود بسنخه، المرضي في عادته، المرجو في عاقبته: تعظيم الله عز وجل، وشكره على معرفته؛ وبعد ذلك؛ فللناموس عليه حق الطاعة له؛ والاعتراف بمنزلته، وللسلطان عليه حق المناصحة والانقياد، ولنفسه عليه حق الاجتهاد؛ والدأب في فتح باب السعادة، ولخلصائه عليه حق التحلي لهم بالود؛ والتسارع إليهم بالبذل. فإذا أحكم هذه الأسس لم يبق عليه إلا كف الأذى عن العامة، وحسن المعاشرة، وسهولة الخلق. انظروا معاشر الصابئة كيف عظم أمر الرسالة؛ حتى قرن طاعة الرسول الذي عبر عنه بالناموس بمعرفة الله تعالى. ولم يذكر ههنا تعظيم الروحانيات، ولا تعرض لها؛ وإن كانت هي من الواجبات. وسئل: بماذا يحسن رأي الناس في الإنسان؟ قال: بأن يكون لقاؤه لهم لقاءً جميلًا، ومعاملته إياهم معاملة حسنة.
وقال: ومدة الإخوان أن لا تكون لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة؛ ولكن لصلاح فيه، وطباع له.
وقال: افضل ما في الإنسان من الخير العقل، وأجدر الأشياء أن لا يندم عليه صاحبه، العمل الصالح، وأضل ما يحتاج إليه في تدبير الأمور الاجتهاد، وأظلم الظلمات الجهل، وأوثق الإسار الحرص.
وقال: من أفضل البر ثلاثة: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو عند المقدرة.
وقال: من لم يعرف عيب نفسه؛ فلا قدر لنفسه عنده.
وقال: الفصل بين العاقل والجاهل: أن العاقل منطقه له، والجاهل منطقه عليه. وقال: لا ينبغي للعاقل أن يستخف بثلاثة أقوام: السلطان، والعلماء، والإخوان؛ فإن من استخف بالسلطان أفسد عليه عيشه، ومن استخف بالعلماء أفسد عليه دينه، ومن استخف بالإخوان أفسد عليه مروءته..
وقال: الاستخفاف بالموت أحد فضائل النفس. وقال: المرء حقيق له أن يطلب الحكمة ويثبتها في نفسه أولاً؛ بان لا يجزع من المصائب التي تعم الأخيار، ولا يأخذه الكبر فيما يبلغه من الشرف، ولا يعير أحداً بما هو فيه، ولا يغيره الغنى والسلطان، وأن يعدل بين نيته وقوله حتى لا يتفاوت، وتكون سنته ما لا عيب فيه، ودينه ما لا يختلف فيه، وحجته ما لا ينتقض.
وقال: أنفع الأمور للناس القناعة والرضى، وأضرها الشره والسخط؛ وإنما يكون كل السرور بالقناعة ر، وكل الحزن بالشره والسخط.
ويحكى عنه فيما كتبه: أن أصل الضلال والهلكة لأهله أن يعد ما في العالم من الخير من عطية الله عز وجل ومواهبه؛ ولا يعد ما فيه من الشر والفساد من عمل الشيطان ومكايده، ومن افترى على أخيه فرية لم يخلص من تبعتها حتى يجازى بها؛ فكيف يخلص من أعظم الفرية على الله عز وجل: أن يجعله سبباً للشرور وهو معدن الخير؟.
وقال: الخير والشر أصلان إلى أهلمها لا محالة؛ فطوبى لمن جرى وصول الخير إليه وعلى يديه، والويل لمن جرى وصول الشر إليه وعلى يديه.
وقال: الإخاء الدائم الذي لا يقطعه شيء اثنان: أحدهما محبة المرء نفسه في أمر معاده، وتهذيبه إياها في العلم الصحيح والعمل الصالح؛ والآخر مودته لأخيه في دين الحق؛ فإن ذلك مصاحب أخاه في الدنيا بحسده، وفي الآخرة بروحه.
وقال: الغضب سلطان الفظاظة، والحرص سلطان الفاقة؛ وهما منشئا كل سيئة، ومفسدا كل جسد، ومهلكا كل روح.
وقال: كل شيء يطاق تغييره إلا الطباع، وكل شيء يقدر على إصلاحه غير الخلق السوء، وكل شيء يستطاع دفعه إلا القضاء.
وقال: الجهل والحمق للنفس بمنزلة الجوع والعطش للبدن؛ لأن هذين خلاء النفس، وهذين خلاء البدن.
وقال: أحمد الأشياء عند أهل السماء والأرض لسان صادق ناطق بالعدل والحكمة والحق في الجماعة. وقال: أدحض الناس حجة من شهد على نفسه بدحوض حجته.
وقال: من كان دينه السلامة والرحمة والكف عن الأذى فدينه دين الله عز وجل؛ وخصمه شاهد له بفلج الحجة، ومن كان دينه الإهلاك والفظاظة والأذى فدينه دين الشيطان؛ وهو بدحوض حجته شاهد على نفسه.
وقال: الملوك تحتمل الأشياء كلها إلا ثلاثة: قدح في الملك، وإفشاء للسر، والتعرض للحرمة. وقال: لا تكن أيها الإنسان كالصبي: إذا جاع ضغا ولا كالعبد: إذا شبع طغى، ولا كالجاهل: إذا ملك بغى.
وقال: لا تشيرون على عدو ولا صديق إلا بالنصيحة؛ فأما الصديق فتقضي بذلك من واجبه حقه، وأما العدو فإنه إذا عرف نصيحتك إياه هابك وحسدك، وإن صح عقله استحى منك وراجعك.

وقال: يدل على غريزة الجود السماحة عند العسرة، وعلى غريزة الورع الصدق عند الشرة، وعلى غريزة الحلم العفو عند الغضب.
وقال: من سره مودة الناس له، ومعونتهم إياه، وحسن القول منهم فيه: حقيق بأن يكون على مثل ذلك لهم.
وقال: لا يستطيع أحد أن يحوز الخير والحكمة، ولا أن يخلص نفسه من المعايب: إلا أن يكون له ثلاثة أشياء: وزير، وولي، وصديق؛ فوزيره عقله، ووليه عفته، وصديقه عمله الصالح. وقال: كل إنسان موكل بإصلاح قدر باع من الأرض؛ فإنه إذا أصلح قدر ذلك الباع صلحت له أموره كلها، وإذا أضاعه أضاع الجميع؛ وقدر ذلك نفسه.
وقال: لا يمدح بكمال العقل من لا تكمل عفته، ولا بكمال العلم من لا يكمل عقله. وقال: من افضل أعمال العلماء ثلاثة أشياء: أن يبدلوا العدو صديقاً، والجاهل عالماً، والفاجر براً.
وقال: الصالح من خيره خير لكل أحد، ومن يعد خير كل أحد لنفسه خيراً.
وقال: ليس بحكمة ما لم يعاد الجهل، ولا بنور ما لم يمحق الظلم، ولا بطيب ما لم يدفع النتن، ولا بصدق ما لم يدحض الكذب، ولا بصالح ما لم يخالف الطالح.
الباب الثاني
أصحاب الهياكل والأشخاص
وهؤلاء من فرق الصابئة. وقد أدرجنا مقالتهم المناظرات جملة. ونذكرها ههنا تفصيلاً.
أصحاب الهياكل أعلم أن أصحاب الروحانيات لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى؛ فيتوجه إليه، ويتقرب به، ويستفاد منه... فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع؛ فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها، وثانياً مطالعها ومغاربها، وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها، ورابعاً تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامساً تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها.
فعملوا الخواتيم، وتعلموا العزائم والدعوات، وعينوا ليوم زحل مثلاً: يوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى وتختموا بخاتمة المعمول على صورته وهيئته وصنعته، ولبسوا اللباس الخاص به، وتبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعواته الخاصة به، وسألوا حاجتهم منه: الحاجة التي تستدعي من زحل: من أفعاله وآثاره الخاصة به؛ فكان يقضي حاجتهم، ويحصل في الأكثر مرامهم. وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه. وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب. وكانوا يسمونها: أرباباً آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس: إله الآلهة، ورب الأرباب. وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهيام أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي تتصرف في أبدانها: تدبيراً ، وتصريفاً، وتحريكاً؛ كما نتصرف في أبداننا. ولاشك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب؛ والسحر، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، والصور... كلها من علومهم.
أصحاب الأشخاص

وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به، وشفيع يتشفع إليه؛ والروحانيات وإن كانت هي الوسائل، لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن: لم يتحقق التقرب إليها بهياكلها. ولكن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في وقت؛ لأن لها طلوعاً وأفولاً، وظهوراً بالليل وخفاءً بالنهار؛ فلم يصف لنا التقرب بها، والتوجه إليها... فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا؛ نعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل؛ فنتقرب بها إلى الروحانيات، ونتقرب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى؛ فنعبدهم: ليقربونا إلى الله زلفى. فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة: كل شخص في مقابلة هيكل، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل؛ اعني الجوهر الخاص به، من الحديد وغيره، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه، وراعوا في ذلك: الزمان، والوقت، والساعة، والدرجة، والدقيقة، وجميع الإضافات النجومية؛ من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه. فتقربوا إليه في يومه وساعته، وتبخروا بالبخور الخاص به، وتختموا بخاتمه، ولبسوا لباسه، وتضرعوا بدعائه، وعزموا بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه؛ فيقولون: إنه كان يقضي حوائجهم بعد رعاية الإضافات كلها. وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم: أنهم عبدة الكواكب والأوثان. فأصحاب الهياكل: هم عبدة الكواكب؛ إذ قالوا بإلهيتها كما شرحنا. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهة في مقابلة الآلهة السماوية، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
مناظرات إبراهيم الخليل لأصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص، وكسره مذاهبهما وقد ناظر الخليل عليه السلام هؤلاء الفريقين.

فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص وذلك قوله تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم " ، وتلك الحجة: أن كسرهم قولاً بقوله: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " ! ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام، ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية؛ ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره: كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه؛ إذ قال عليه السلام لأبيه آزر: أتتخذ أصناماً آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين، وقال: يا أبت! لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟؛ لأنك جهدت كل الجهد، واستعملت كل العلم حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية، فما بلفت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً، وأن تغني عنك، وتضر وتنفع. وأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها؛ لأنك خلقت: سميعاً، بصيراً، نافعاً، ضاراً؛ والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً والمعمول تصنعاً، فيالها من حيرة! إذ صار المصنوع!: يا أبت! لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً: با أبت! إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن... ثم دعاه إلى الحيفية الحقة؛ قال: يا أبت! إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً... قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟!... فلم تقبل حجته القوية. فعدل عليه السلام عن القول إلى الكسر للأصنام بالفعل، فجعلهم جذاذاً غلا كبيراً لهم؛ فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟.. قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم نكثوا عن رؤوسهم، لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. فافحمهم بالفعل؛ حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول؛ حيث أحال الفعل منهم. وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم؛ وإلا فما كان الخليل كاذباً قط. ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل؛ وكما أراه الله تعالى الحجة على قومه، قال: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين: تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها. وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريراً: أن الكمال في الرجال؛ فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل: فلما جن عليه الليل رأى كوكباً، قال: هذا ربي، على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام: بل فعله كبيرهم هذا؛ وإلا فما كان الخليل عليه السلام كاذباً في هذا القول، ولا مشركاً في تلك الإشارة. ثم استدل بالأفول الزرال، والتغير، والانتقال على أنه لا يصلح أن يكون رباً إلهاً؛ فإن الإله القديم لا يتغير، وإذا تغير احتاج إلى مغير... هذا لو اعتقدتموه: رباً قديماً، وإلهاً أزلياً؛ ولو اعتقدتموه: واسطة، وقبلة، وشفيعاً، ووسيلة؛ فإن الأفول الزوال يخرجه أيضاً عن حد الكمال. وعن هذا ما استدل عليه بالطلوع وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول؛ فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول، فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيرهم؛ فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم لما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لأن لم يهدني ربي لأكون متن القوم الضالين؛ فيا عجباً مما لا يعرف رباً كيف يقول: لأن لم يهدني ربي لأكون من القوم الضالين؟!.. رؤية الهداية من الرب تعالى: غاية التوحيد، ونهاية المعرفة؛ والواصل إلى الغاية والنهاية، كيف يكون في مدارج البداية؟!.

دع هذا كله خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف؛ فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم: من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج؛ وعن هذا قال لما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر؛ لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو رب الأرباب: الذي يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار؛ فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين. قرر مذهب الحنفاء، وأبطل مذهب الصابئة، وبين أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الطهارة فيها، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها وأن النجاة والخلاص متعلقة بها، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها، وأن الأنبياء والرسل مبعوثون لتقريرها وتقديرها، وأن الفاتحة والخاتمة والمبدأ والكمال منوطة بتحصيلها وتحريرها... ذلك: الدين القيم، والصراط المستقيم، والمنهج الواضح، والمسلك اللائح؛ قال الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه سلم: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله؛ ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين: من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون " .
الباب الثالث
الحرنانية
وهم جماعة من الصابئة مقالات الحرنانية قالوا: إن الصانع المعبود واحد وكثير: أما واحد؛ ففي الذات،، والأول، والأصل، والأزل. و ؟؟؟؟؟؟ أما كثير؛ فلأنه يتكثر بالأشخاص في رأي العين، وهي المدبرات السبعة والأشخاص الأرضية: الخيرة، العالمة، الفاضلة؛ فإنه يظهر بها، ويتشخص بأشخاصها، ولا تبطل وحدته في ذاته. وقالوا: هو أبدع الفلك وجميع ما فيه من الأجرام والكواكب، وجعلها مدبرات هذا العالم؛ وهم الآباء، والعناصر أمهات، والمركبات مواليد. والآباء أحياء ناطقون، يؤدون الآثار إلى العناصر؛ فتقبلها العناصر في أرحامها، فيحصل من ذلك المواليد. ثم من المواليد قد يتفق شخص مركب من صفوها دون كدرها ويحصل له مزاج كامل الاستعداد؛ فيتشخص الإله به في العالم. ثم أن طبيعة الكل تحدث في كل إقليم من الأقاليم المسكونة على رأس كل سنة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة: زوجين من كل نوع من أجناس الحيوانات، ذكراً أو أنثى، من الإنسان وغيره؛ فيبقى ذلك النوع تلك المدة. ثم إذا انقضى الدور بتمامه انقطعت الأنواع: نسلها، وتوالدها؛ فيبتدأ دور آخر؛ ويحدث قرن آخر: من الإنسان، والحيوان، والنبات... وكذلك أبد الدهر. قالوا: وهذه هي القيامة الموعودة على لسان الأنبياء عليهم السلام؛ وإلا فلا دار سوى هذه الدار: وما يهلكنا إلا الدهر. ولا يتصور إحياء الموتى، وبعث من في القبور: أيعدكم: أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون. وهم الذين أخبر التنزيل عنهم بهذه المقالة.
نشأة التناسخ والحلول منهم وإنما نشأ أصل التناسخ والحلول من هؤلاء القوم. فإن التناسخ هو أن تتكرر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له، ويحدث في كل دور مثلما حدث في الأول. والثواب والعقاب في هذه الدار؛ لا في دار أخرى لا عمل فيها. والأعمال التي نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منا في الأدوار الماضية؛ فالراحة، والسرور، والفرح، والدعة التي نجدها: هي مرتبة على أعمال البر التي سلفت منا في الأدوار الماضية؛ والغم، والحزن، والضنك، والكلفة التي نجدها: هي مرتبة على أعمال الفجور التي سبقت منا. وكذلك كان في الأول. وكذا يكون في الآخر؛ والانصرام من كل وجه غير متصور في الحكيم. وأما الحلول فهو التشخص الذي ذكرناه، وربما يكون ذلك بحلول ذاته، وربما يكون بحلول جزء من ذاته؛ على قدر استعداد مزاج الشخص. وربما قالوا: إنما تشخص بالهياكل السماوية كلها، هو واحد؛ وإنما يظهر فعله في واحد بقدر آثاره فيه، وتشخصه به. فكأن الهياكل السبعة أعضاؤه السبعة، وكأن اعضاءنا السبعة هياكله السبعة: فيها يظهر؛ فينطق بلساننا، ويبصر بأعيننا، ويسمع بآذاننا، ويقبض ويبسط بأيدينا، ويجيء ويذهب بأرجلنا، ويفعل بجوارحنا.
مزاعم الحرنانية

وزعموا: أن الله تعالى أجل من أن يخلق: الشرور، والقبائح، والأقذار، والخنافس، والحيات، والعقارب.... بل هي كلها واقعة ضرورة عن اتصالات الكواكب: سعادة؛ ونحوسة، واجتماعات العناصر: صفوة؛ وكدورة.. فما كان من: سعد، وخير، وصفو؛ فهو المقصود من الفطرة؛ فينسب إلى الباري تعالى. وما كان من: نحوسة، وشر، وكدر؛ فهو الواقع ضرورة؛ فلا ينسب إليه؛ بل هي: إما اتفاقيات؛ وضروريات، وإما مستندة إلى أصل الشرور؛ والاتصال المذموم.
والحرانية ينسبون مقالتهم إلى عاذيمون، وهرمس، وأعيانا، وأواذى: أربعة من الأنبياء.
ومنهم من ينتسب إلى سولون جد أفلاطون لأمه، ويزعم أنه كان نبياً. وزعموا أن أواذى حرم عليهم: البصل، والكراث، والباقلي.
أعمال الصابئة كلهم، وهياكلهم والصابئون كلهم يصلون ثلاث صلوات، ويغتسلون من الجنابة ومن مس الميت، وحرموا أكل الجزور، والخنزير، والكلب، ومن الطير كل ما له مخلب، والحمام.
ونهوا: عن السكر في الشراب، وعن الإختتان.
وأمروا بالتزويج بولي وشهود، ولا يجوزون الطلاق إلا بحكم حاكم، ولا يجمعون بين إمرأتين.
وأما الهياكل التي بناها الصابئة على أسماء الجواهر العقلية الروحانية، وأشكال الكواكب السماوية؛ فمنها: هيكل العلة الأولى؛ ودونها: هيكل العقل، وهيكل السياسة، وهيكلا لصورة، وهيكل النفس. مدورات الشكل.
وهيكل زحل: مسدس، وهيكل المشتري: مثلث، وهيكل المريخ: مربع مستطيل، وهيكل الشمس: مربع، وهيكل الزهرة: مثلث في جوف مربع، وهيكل عطارد: مثلث في جوفه مربع مستطيل، وهيكل القمر: مثمن.
الجزء الثاني
الفلاسفة
الفلسفة باليونانية: محبة الحكمة.
والفيلسوف هو: فيلا وسوفا؛ وفيلا هو المحب، وسوفا: الحكمة؛ أي هو: محب الحكمة.
والحكمة: قولية، وفعلية: أما الحكمة القولية، وهي العقلية أيضاً؛ فهي كل ما يعقله العاقل بالحد، وما يجري مجراه؛ مثل الرسم... وبالبرهان، وما يجري مجراه؛ مثل الاستقراء... فيعبر عنه بهما.
وأما الحكمة الفعلية: فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية.
فالأولي الأزلي لما كان هو: الغاية، والكمال؛ فلا يفعل فعلاً لغاية دون ذاته وإلا فيكون الغاية والكمال هو الحامل، والأول محمول؛ وذلك محال. فالحكمة في فعله وقعت تبعاً لكمال ذاته؛ وذلك هو الكمال المطلق في الحكمة، وفي فعل غيره من المتوسطات وقعت مقصوداً للكمال المطلوب؛ وكذلك في أفعالنا.
ثم إن الفلاسفة اختلفوا في الحكمة القولية العقلية اختلافاً لا يحصى كثرة؛ والمتأخرون منهم خالفوا الأوائل في أكثر المسائل. وكانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات، والإلهيات؛ وذلك هو الكلام في الباري تعالى، والعالم؛ ثم زادوا فيها الرياضيات.
وقالوا: العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: علم ما، وعلم كيف، وعلم كم. فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي، والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي، والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي؛ سواء كانت الكميات مجردة عن المادة، أو كانت مخالطة بعد. فأحدث بعدهم أرسطوطاليس الحكيم: علم المنطق، وسماه تعليمات؛ وإنما هو جرده من كلام القدماء؛ وإلا فلم تخل الحكمة عن قوانين المنطق قط. وربما عدها آلهة العلوم؛ لا من جملة العلوم؛ فقال: الموضوع في العلم الإلهي؛ هو الوجود المطلق؛ ومسائله: البحث عن أحوال الوجود من حيث هو وجود.
والموضوع في العلم الطبيعي؛ هو الجسم؛ ومسئله: البحث عن أحوال الجسم من حيث هو جسم.
والموضوع في العلم الرياضي؛ هو الأبعاد والمقادير؛ وبالجملة: الكمية من حيث إنها مجردة عن المادة؛ ومسائله: البحث عن أحوال الكمية من حيث هي كمية.
والموضوع في العلم المنطقي؛ هو المعاني التي في ذهن الإنسان من حيث يتأدى بها إلى غيرها من العلوم؛ ومسائله: البحث عن أحوال تلك المعاني من حيث هي كذلك.
قالت الفلاسفة: ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنما يكدح الإنسان لنيلها، والوصول إليها، وهي لا تنال بالحكمة؛ فالحكمة تطلب إما ليعمل بها، وإما لتعلم فقط؛ فانقسمت الحكمة إلى قسمين: عملي، وعلمي.

ثم منهم من قدم العملي على العلمي، ومنهم من أخر؛ كما سيأتي. فالقسم العملي هو عمل الخير، والقسم العلمي هو علم الحق. قالوا: وهذان القسمان مما يوصل إليه بالعقل الكامل، والرأي الراجح؛ غير أن الاستعانة في القسم العملي منه بغيره أكثر. والأنبياء عليهم السلام أيدوا بإمداد روحانية تقريراً للقسم العلمي؛ ولطرف ما من القسم العملي. فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون؛ ويتشبه بالإله الحق تعالى وتقدس بغاية الإمكان. وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون؛ فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم، وتنظيم مصالح العباد؛ وذلك لا يتأتى إلا بترغيب، وترهيب، وتشكيل، وتخييل. فكل ما ورد به أصحاب الشرائع والملل: مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة، إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة؛ فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم، وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم.
فمن الفلاسفة حكماء الهند من البراهمة: لا يقولون بالنبوات أصلاً.
ومنهم: حكماء العرب، وهم شرذمة قليلون؛ لأن أكثر حكمهم: فلتات الطبع، وخطرات الفكر؛ وربما قالوا بالنبوات.
ومنهم: حكماء الروم، وهم منقسمون إلى القدماء؛ الذين هم أساطين الحكمة، وإلى المتأخرين منهم؛ وهم: المشاءون، وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطوطاليس؛ وإلى فلاسفة الإسلام؛ الذين هم حكماء العجم؛ وإلا كانت متلقاة من النبوات: إما من الملة القديمة؛ وإما من سائر الملل.
غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة.
فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء: من الروم، واليونانيين، على الترتيب الذي نقل في كتبهم، ونعقب ذلك بذكر سائر الحكماء إن شاء الله تعالى.
فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم، وغيرهم كالعيال لهم.
الباب الأول
الحكماء السبعة
الذين هم أساطين الحكمة؛ من الملطية، وساميا، وأثينية؛ وهي بلادهم.
وأما أسماؤهم؛ فهي: تاليس الملطي، وأنكساغورس، وأنكسيمانس، وانبادقليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون.
وتبعهم جماعة من الحكماء؛ مثل: فلوطرخيس، وبقراط، وديمقريطيس، والشعراء، والنساك.
وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى، وإحاطته علماً بالكائنات؛ كيف هي؟ وفي الإبداع، وتكوين العالم، وأن المبادئ الأول: ما هي؟ وكم هي؟ وأن المعاد: ما هو؟ ومتى هو؟. وربما تكلموا في الباري تعالى بنوع حركة وسكون.
وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم، وذكر مقالاتهم رأساً؛ إلا نكتة شاذة نادرة، ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم، أشاروا إليها تزييفاً.
ونحن تتبعناها نقلاً، وتعقبناها نقداً، وألقينا زمام الاختيار إليك: في المطالعة، والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر.
رأي تاليس وهو أول من تفلسف في ملطية. قال: إن للعالم مبدعاً، لا تدرك صفته العقول من جهة هويته؛ وإنما يدرك من جهة آثاره، وهو الذي لا يعرف اسمه فضلاً عن هويته؛ إلا من نحو: أفاعيله، وإبداعه، وتكزينه الأشياء...؛ فلسنا ندرك له اسماً من نحو ذاته؛ بل من نحو ذاتنا.
ثم قال: إن القول الذي لا مراد له: هو أن البدع كان ولا شيء مبدع، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات؛ لأن قبل الإبداع إنما هو فقط، وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ: جهة، وجهة؛ حتى يكون هو، وصورة، أو حيث؛ حتى يكون هو، وذو صورة. والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين.
والإبداع هو: تأييس ما ليس بأيسي، وإذا كان هو مؤيس الآيسيات والتأييس لا من شيء متقادم فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيسي بالايسية؛ وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفرداً عن الصورة التي عنده؛ فيكون هو وصورة، وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط. وأيضاً: فلو كانت الصورة عنده: أكانت مطابقة للموجود الخارج؟ أم غير مطابقة؟. فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات؛ ولتكن كلياتها مطابقة للكليات، وجزئياتها مطابقة للجزئيات؛ ولتغيير بتغيرها كما تكثرت بتكثرها....، وكل ذلك محال؛ لأنه ينافي الوحدة الخالصة. وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذاً صورة عنه؛ بل إنما هي شيء آخر.

قال: لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها؛ فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول، فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات العنصر.
وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ومثال عنه.
قال: ومن كمال ذات الأول الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر؛ فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور يعني صور المعلومات فهو مبدعه؛ ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه. ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء؛ قال: الماء قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها: من السماء، والأرض، وما بينهما، وهو علة كل مبدع، وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض، ومن إحلاله تكون الهواء، ومن صفوة الهواء تكونت النار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب؛ فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه. قال: والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلا، والنار ذكر والهواء أنثى وهما يكونان علواً.
وكان يقول: إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات؛ لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة. ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر؛ فما كان من صفوه فإنه يكون جسماً، وما كان من كدره فإنه يكون جرماً. فالجرم يدثر، والجسم لا يدثر. والجرم كثيف ظاهر، والجسم لطيف باطن. وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم، ويكون الجسم اللطيف ظاهراً، والجرم الكثيف دائراً.
وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء، وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره، ولا يبصر نوره، والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه؛ وهو الدهر المحصن من نحو آخره، لا من نحو أوله؛ وإليه تشتاق العقول والأنفس؛ وهو الذي سميناه الديمومة، والسرمد، والبقاء؛ في حد النشأة الثانية.
فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله: الماء هو المبدع الأول، أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية، لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية؛ لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل كل صورة أي منبع الصور كلها فأثبت في العالم الجسماني له مثالاً يوازيه في قبول الصور كلها، ولم يجد عنصراً على هذا النهج مثل الماء، فجعله المبدع الأول في المركبات، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.
وفي التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه، فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان، فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية.
والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية؛ إذ فيه جميع أحكام المعلومات، وصور جميع الموجودات، والخبر عن الكائنات.
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش: وكان عرشه على الماء.
رأي انكساغورس وهو أيضاً من أهل ملطية، رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس وخالفه في المبدأ الأول. قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل، منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي؛ لأن المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضاً مسبوقة بالمتشابهات. أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر؛ وهي بسائط متشابهة الأجزاء؟ وأليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة، فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة، ثم تجري في العروق والشرايين، فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم؟.
وحكي عنه أيضاً أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول: إنه العقل الفعال. غير أنه خالفهم في قوله إن الأول الحق تعالى ساكن غير متحرك. وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى، ونبين اصطلاحهم في ذلك.

وحكى فرفوريوس عنه أنه قال: إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع الكل؛ لا نهاية له، ولم يبين ما ذلك الجسم أهو من العناصر؟ أم خارج عن ذلك؟ قال: ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف.
وهو أول من قال بالكمون والظهور، حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول؛ وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعاً وصنفاً ومقداراً وشكلاً وتكاثفاً وتخلخلاً؛ كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة، والطير من البيض؛ فكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن استعداد مادة. وإنما الإبداع واحد، ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول.
وحكي عنه انه قال: كانت الأشياء ساكنة، ثم إن العقل رتبها ترتيباً على أحسن نظام، فوضعها مواضعها من عال ومن سافل ومن متوسط، ثم من متحرك، ومن ساكن، ومن مستقيم في الحركة، ومن دائر، ومن أفلاك متحركة على الدوام، ومن عناصر متحركة على الاستقامة. وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول من الموجودات. ويحكى عنه أن المرتب هو الطبيعة، وربما يقول: المرتب هو الباري تعالى. وإذا كان المبدأ الأول عنده ذلك الجسم؛ فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم. وإذا كانت النشأة الأولى هي الظهور؛ فيقتضي أن تكون النشأة الثانية هي الكمون. وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى التي حدثت فيها الصور؛ إلا أنه أثبت جسماً غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء، وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسماً بالفعل. وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسماً مطلقاً لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية، وفي نفيه النهاية عنه، وفي قوله بالكمون والظهور، وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب. وإنما عقبت مذهبهم برأي تاليس؛ لأنهما من أهل ملطية، ومقاربان في إثبات العنصر الأول والصور فيه متمثلة، والجسم الأول والموجودات فيه كاملة. وحكى أرسطوطاليس عنه: أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة. قال وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس.
رأي أنكسيمانس

وهو الملطيين المعروف بالحكمة، المذكور بالخير عندهم. قال: إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر: هو مبدأ الأشياء ولا بدء له: هو المدرك من خلقه أنه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكل هوية مبدعة منه: هو الواحد ليس كواحد الأعداد؛ لأن واحد الأعداد يتكثر، وهو لا يتكثر. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول، والصور عنده بلا نهاية. قال: ولا يجوز في الباري تعالى إلا أحد قولين، إما أن نقول: إنه أبدع ما في علمه، وإما أن نقول: إنما أبدع أشياء لا يعلمها؛ وهذا من قول المستشنع. وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصور أزلية بأزليته، وليس تتكثر ذاته بتكثر المعلومات، ولا تتغير بتغيرها. قال: أبدع بوحدانيته صورة العنصر، ثم صورة العقل انبعثت عنها ببدعة الباري تعالى. فرتب العنصر في العقل ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار، وصارت تلك الطبقات صوراً كثيرة دفعة واحدة؛ كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان ولا ترتيب بعض على بعض، غير أن الهيولى لا تحتمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان؛ فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب. ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم؛ حتى قلت أنوار الصور في الهيولى، وقلت الهيولى، وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة، التي لم تقبل نفساً روحانية، ولا نفساً حيوانية، ولا نباتية. وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار. وكان يقول: إن هذا العالم، يدثر، ويدخله الفساد والعدم؛ من أجل أنه سفل تلك العوالم وثفلها؛ ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر، والقشر يرمى. قال: وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم، وإلا لما ثبت طرفة عين، ويبقي ثباته إلى أن يصفي العقل جزءه الممتزج به، وإلى أن تصفي النفس جزءها المختلط فيه. فإذا صفي الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم. فسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها، وبقيت الأنفس الدنسة الخبيثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور، ولا روح ولا راحة، ولا سكون ولا سلوة. ونقل عنه أيضاً أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء، ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية. قال: ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد وليقبل الدنس والخبث، وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث. فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه؛ وذلك عالم الروحانيات، وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره؛ وذلك من عالم الجسمانيات؛ وهو كثير الأوساخ والأوار، يتشبث به من سكن إليه فيمنعه من أن يرتفع علواً، ويتخلص منه من لم يسكن إليه فيصعد إلى عالم كثير اللطافة، دائم السرور. ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني، كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني. وهو على مثال مذهب تاليس إذ أثبت العنصر والماء في مقابلته. وهو قد أثبت العنصر والهواء في مقابلته، ونزل العنصر منزلة القلم الأول، والعقل منزلة اللوح القابل لنقش الصور، ورتب الموجودات على ذلك الترتيب. وهو أيضاً من مشكاة النبوة اقتبس، وبعبارات القوم التبس.
رأي انبادقليس

وهو من الكبار عند الجماعة، دقيق النظر في العلوم، رقيق الحال في الأعمال. وكان في زمن داود النبي عليه السلام، مضى إليه وتلقى منه العلم، واختلف إلى لقمان الحكيم، واقتبس منه الحكمة، ثم عاد إلى يونان وأفاد. قال: إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط، وهو العلم المحض، وهو الإرادة المحضة، وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق؛ لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء، بل هي، هو، وهو: هذه كلها. مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء، ولا أن شيئاً كان معه. فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول، وهو العنصر الأول. ثم كثر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول، ثم كون المركبات من المبسوطات. وهو مبدع الشيء واللاشيء: العقلي، والفكري، والوهمي؛ أي مبدع المتضادات والمتقابلات: المعقولة والخيالية والحسية. وقال: إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة، بل بنوع أنه علة فقط وه العلم والإرادة. فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها؛ فالعلة ولا معلول؛ وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات، فإن جاز أن يقال إن معلولاً مع العلة؛ فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة، وأن يكون المعلول ليس أولي بكونه معلولاً من العلة، ولا العلة بكونها علة أولي من المعلول؛ فالمعلول إذا تحت العلة وبعدها، والعلة علة العلل كلها، أي علة كل معلول تحتها؛ فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة، وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول. فالمعلول الأول هو العنصر، والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل، والثالث بتوسطهما النفس، وهذه بسائط ومتوسطات، وما بعدها مركبات. وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط والمنطق مركب، والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئآت. فليس للمنطق إذاً أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة، وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب. فإذا كان هو ولاشيء؛ فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين. ثم قال أنبادقليس: العنصر الأول بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه وليس هو بسيطاً مطلقاً أي واحداً بحتاً من نحو ذات العلة، فلا معلول إلا وهو مركب تركيباً عقلياً أو حسياً ، فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة، وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية، والجواهر المركبة الجسمانية؛ فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر، مبدأين لجميع الموجودات، فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة، والجسمانيات كلها على الغلبة، والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة، والازدواج والتضاد؛ وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات. قال: ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعاً بنوع وصنفاً بصنف، واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعاً عن نوع وصنفاً عن صنف.
فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات، وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات، وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين.
وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة، والغلبة إلى زحل والمريخ؛ فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين.
ولكلام أنبادقليس مساق آخر، قال: إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية، والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية، والمنطقية قشر للعقلية، وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى، والأعلى لبه. وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح، فيجعل النفس النامية جسداً للنفس الحيوانية، وهذه روحاً لها، وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل.
وقال: لما صور العنصر الأول في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية، وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر: صورت النفس الكلية في الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل؛ فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها، ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف. فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور: ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية

حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب، فيصعد باللبوب إلى عالمها، فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت، والطبيعة الكلية معلولة للنفس، وفرق بين الجزء وبين الطبيعة؛ فالجزء غير المعلول.
ثم قال: وخاصية النفس الكلية المحبة؛ لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق عاشق لمعشوقه، فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه.
وخاصية الطبيعة الكلية العذبة؛ لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما، بل انبجست منها قوى متضادة: أما في بسائطها فمتضادات الأركان، وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية والنباتية والحيوانية. والطبيعية تمردت عليها؛ لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها، وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار، فركنت إلى لذات حسية: من مطعم مري، ومشرب هني، وملبس طرى، ومنكح شهى... ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي، فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءاً من أجزائها، هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية، والنباتية ومن تلك النفوس المغترة بهما، فيكسر النفسين عن تمردهما، ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها، ويذكرها بما نسيت، ويعلمها ما جهلت، ويطهرها مما تدنست فيه، ويزكيها عما تنجست به. وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار، فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة؛ فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة. فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفاً، وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفاً، فيخلص النفوس الجزئية الشريفةالتى اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل، والتسيل الزائل الفائل. وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة، فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة، فتغلب محبة الخير والحق والصدق، وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب؛ فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعاً، فتكونان جسداً لها في ذلك العالم، كما كانتا جسداً لها في هذا العالم. وقد قيل: إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله؛ فيغلب بمحبتهم له أضداده.
ومما نقل عن أنبادقليس أنه قال :العالم مركب من الأسطقسات الأربعة؛ فانه ليس وراءها شئ ابسط منها، وان الأشياء كامنة بعضها في بعض. وأبطل الكون والاستحالة والنمو، وقال: الهواء لا يستحيل ناراً، ولا الماء هواء، ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل وبكمون وظهور، وتركب وتحلل. وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون، والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون. ومما نقل عنه أيضاً: انه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون، فقال: أنه متحرك بنوع سكون؛ لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون، وهو مبدعهما، ولا محالة أن المبدع أكبر؛ لأنه علة كل متحرك وساكن. وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء... إلى أفلاطون. وأما زينون الأكبر وديمقريط والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك، وقد سبق النقل عن أن كسا غورس أنه قال: هو ساكن لا يتحرك؛ لأن الحركة لا تكون إلا محدثة، ثم قال: إلا أن يقولوا: إن تلك الحركة فوق هذه الحركة، كما أن ذلك السكون فوق هذا السكون.
وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان، ولا بالحركة التغيير والاستحالة، ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة؛ فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها.

ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر، فكيف يجازف هذه المجازفة في التغيير؟! فأما الحركة والسكون في العقل والنفس، فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال؛ وذلك أن العقل لما كان موجوداً كاملاً بالفعل قالوا: هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلاً، والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال قالوا: هي متحركة طالبة درجة العقل. ثم قالوا: العقل ساكن بنوع حركة، أي هو في ذاته كامل بالفعل، فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل. والفعل نوع حركة في سكون؛ والكمال نوع سكون في حركة، أي هو كامل ومكمل غيره. فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى. ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل؛ حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان، ومستو على مكان؛ وذلك إشارة إلى السكون، وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب وينزل ويصعد؛ وذلك عبارة عن الحركة، إلى أنه يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس، حقيق بحلال الحق. ومما نقل عن أنبادقليس في أمر المعاد أنه قال: يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع، والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها، فتتضرع النفس إلى العقل، ويتضرع العقل إلى الباري تعالى، فيسيح الباري تعالى على العقل، ويسيح العقل على النفس، وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها؛ فتستضئء الأنفس الجزئية، وتشرق الأرض بنور ربها، حتى تعاين الجزئيات كلياتها، فتتخلص من الشبكة، فتتصل بكلياتها، وتستقر في عالمها: مسرورة، محبورة: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
رأي فيثاغورس ابن منسارخس من أهل ساميا. وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما السلام. قد أخذ الحكمة من معدن النبوة. وهو الحكيم الفاضل، ذو الرأي المتين، والعقل الرصين. يدعى: أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه، وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال: ما سمعت شيئاً قط ألذ من حركاتها، ولا رأيت شيئاً أبهى من صورها وهيئاتها.
قوله في الإلهيات. قال: إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد، ولا يدخل في العدد، ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس؛ فلا الفكر العقلي يدركه، ولا المنطق النفسي يصفه، فهو فوق الصفات الروحانية، غير مدرك من نحو ذاته، وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله. وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر في صنعته، فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته؛ فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعنه من حيث تلك الآثار، والموجودات في العالم الجسماني قد خصت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار. ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها، وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها. فكل يصفه من نحو ذاته، ويقدسه عن خصائص صفاته.

ثم قال: الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير، وهي: وحدة الباري تعالى: وحدة الإحاطة بكل شيء: وحدة الحكم على كل شيء: وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها، وإلى وحدة مستفادة من الغير، وذلك وحدة المخلوقات. وربما يقولون: الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر، ووحدة مع الدهر، ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان، ووحدة مع الزمان. فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى، والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول، والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس، والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات. وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول: الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات، وإلى وحدة بالعرض. فالوحدة بالذات يئست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوجدانيات في العدد والمعدود، والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد، وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه: فالأول كالواحدية للعقل الفعال؛ لأنه لا يدخل في العدد والمعدود، والثاني ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له؛ فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين، وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل، وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه؛ وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه؛ فإن الاثنين والثلاثة في كونهما أثنين وثلاثة واحدة، وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة: إما في الجنس، أو في النوع، أو في الشخص؛ كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق، والإنسان في أنه إنسان، والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد؛ فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط. وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها، وإن كانت في ذواتها متكثرة. وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه، فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل.

ثم إن لفيثاغورس رأياً في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله، وخالفه فيه من بعده، وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة، وتصوره موجوداً محققاً، وجرد الصورة، وتحققها. وقال: مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى. فأول العدد هو الواحد، وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق، وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد؛ فيبتدئ العدد من اثنين. ويقولون هو منقسم إلى زوج وفرد، فالعدد البسيط الأول اثنان، والزوج البسيط الأول أربعة؛ وهو المنقسم بمتساويين، ولم يجعل الاثنين زوجاً؛ فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين، وكان الواحد داخلا في العدد، ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين، والزوج قسم من أقسامه؛ فكيف يكون نفسه؟. والفرد البسيط الأول ثلاثة، قال: وتتم القسمة بذلك، وما وراءه فهو قسمة القسمة؛ فالأربعة هي نهاية العدد، وهي الكمال، وعن هذا كان يقسم بالرباعية: لا؛ وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا: الني هي أصل الكلام. وما وراء ذلك فهو: زوج الفرد، وزوج الزوج، وزوج الزوج والفرد. ويسمي الخمسة عدداً دائراً؛ فإنها إذا ضربتها في نفسها أبداً عادت الخمسة من الرأس. ويسمي الستة عدداً تاماً؛ فإن أجزائها مساوية لجملتها. والسبعة عدداً كاملاً؛ فإنها مجموع الزوج والفرد؛ وهي نهاية أخرى. والثمانية مبتدأة: مركبة من زوجين. والتسعة من ثلاثة أفراد؛ وهي نهاية أخرى. والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة؛ وهي نهاية أخرى. فللعدد أربع نهايات: أربعة، وسبعة، وتسعة، وعشرة. ثم يعود إلى الواحد فيقول: أحد عشر ويعد. والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ستة: فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلاً في العدد فهي مركبة من عدد وفرد، وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين. وكذلك الستة على الأول فمركبة من فردين أو عدد وزوج، وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج. والسبعة على الأول فمركبة من فرد وزوج، وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج . والثمانية على الأول فمركبة من زوجين، وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج. والتسعة على الأول فمركبة من ثلاثة أفراد، وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج. والعشرة على الأول فمركبة من عدد وزوجين أو زوج وفردين، وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة؛ وهو النهاية والكمال. ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس. قال: وهذه هي أصول الموجودات. ثم إنه ركب العدد على المعدود؛ والمقدار على المقدور؛ فقال: المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين: اعتباراً من حيث ذاته وأنه ممكن الوجود بذاته، واعتباره من حيث مبدعه وأنه واجب الوجود به، فقابله الاثنان. والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس؛ إذ زاد على الاعتبارين اعتباراً ثالثاً. والمعدود الذي فيه أربعة هو الطبيعة؛ إذ زاد على الثلاثة رابعاً. وثم النهاية؛ أعني نهاية المبادئ، وما بعدها المركبات؛ فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شئ إما عين أو أثر، حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة، ويعد العقل والنفوس التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض. وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول، ويقول: الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد المقادير، وهي لا تختلف؛ فعلمه لا يختلف. وربما يقول: المقابل للواحد هو العنصر الأول - كما قال أنكسيمانسو يسميه الهيولي الأولي؛ وذلك هو الواحد المستفادلا الواحد الذي هو كالاحادو هو: واحد، كل: تصدر عنه كل كثرة، وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات، ولا تفارقها البتة؛ كما قررنا. وذكر إن العنصر انفراد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات؛ فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده، ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله، ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئته. وعلى ذلك آثار المبادئ في المركبات؛ فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما، وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما، وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال: إما طبيعي إلي هو مبدأ الحركة، وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس. فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد

قبول هذا الكمال: أفاض عليه العنصر وحدته، والعقل هدايته، والنفس نطقه وحكمته.قبول هذا الكمال: أفاض عليه العنصر وحدته، والعقل هدايته، والنفس نطقه وحكمته.

قال: ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضاً من المبادئ. فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادئ هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية؛ ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات، وألطف التأليفات. ثم تعد من ذلك إلى الأقوال، حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادئ هي الحروف والحدود المجردة عن المادة، وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد، والباء في مقابلة الاثنين... إلى غير ذلك من المقابلات. ولست أدري! على أي لسان ولغة قدروها؟؛ فإن الألسن يختلف باختلاف الأمصار والمدن، أو على أي وجه من التركيب؟؛ فإن التركيبات أيضاً مختلفة. فالبسائط من الحروف مختلف فيها، والمركبات كذلك، ولا كذلك العدد؛ فإنه لا يختلف أصلاً. وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة، والجسم مركب عنها، وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد، والخط في مقابلة الاثنين، والسطح في مقابلة الثلاثة، والجسم في مقابلة الأربعة. وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام، وتضاعيف الأعداد. ومما ينقل عن فيثاغورس: أن الطبائع أربعة، والنفوس التي فينا أيضاً أربعة: العقل، والعلم، والرأي، والحواس. ثم ركب فيه العدد على المعدود. والروحاني على الجسماني. قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا: وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن يقال: كون الشيء واحداً، غير كونه موجوداً أو إنساناً، وهو في ذاته أقدم منهما؛ فالحيوان الواحد لا يحصل واحداً إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صارا به واحداً، ولولاه لم يصح وجوده؛ فإذاً هو: الأشرف: الأبسط: الأول، وهذه صورة العقل؛ فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة، والعلم دون ذلك في الرتبة؛ لأنه بالعقل ومن العقل، فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه، وكذلك العلم يؤول إلى العقل. ومعنى الظن والرأي عدد السطح ، والحس عدد المصمت: أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعم من العلم مرتبة؛ وذلك لأن العلم يتعلق بمعوم معين، والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه، والحس أعم من الظن، فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات. ومما نقل عن فيثاغورس: أن العالم إنما ألف من اللحوم البسيطة الروحانية. ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة ، بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل، ولا تتجزأ من نحو الحواس. وعد عوالم كثيرة: فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع وابتهاج وروح في وضع الفطرة، ومنه عالم هو دونه. ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية؛ فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة، وقد يكون باللحون الروحانية المركبة. والأول يكون سرورها دائماً غير منقطع. ومن اللحون ما هو بعد ناقص في التركيب؛ لأن المنطق بعد لم يخرج إلى العقل، فلا يكون السرور بغاية الكمال؛ لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق. وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة، وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة. والأخير ثقل العوالم وثفلها وسفلها؛ ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع، ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد، وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر؛ إلا أن فيه نوراً قليلاً من النور الأول؛ فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات، ولولا ذلك لم يثبت طرف عين، وذلك النور القليل: جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم. وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير؛ ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه، ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القدر والمقدور، وصار ضياعاً هملاً. وربما يقول: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية؛ ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان، والتذت بسماعها وطاشت، وتوجدت باستماعها وجاشت. ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى، ثم اتصلت بالأبدان، فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة، وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة: اتصلت بعالمها، وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول؛ فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة، وبالرياضة والمجاهدة في

هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل. قال: والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات... هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية. وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول: ليس في العالم سوى التأليف، والأجسام والأعراض تأليفات، والنفوس والعقول تأليفات. ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه. وكان خرينوس وزينون الشاعر: متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع. إلا أنهما قالا: الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما، وفي بدء ما أبدعهما: أبدعهما لا يموتان. ولا يجوز عليهما الدثور والفناء. وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس: صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها؛ وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذباً من كل ثقل وكدر، فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى؛ لأنه غير مشاكل للجسم السماوي؛ لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس. فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم؛ لأنه أشد روحانية، وهذا العالم لا يشاكل الجسم، بل الجرم يشاكله. فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب، وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب. وهذا العالم عالم الجرم، وذلك العالم عالم الجسم. فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائماً، لا يجوز عليه الفناء والدثور، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس. وقيل لفيثاغورس: لم قمت بإبطال العالم؟؛ قال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان، فإذا بلغها سكنت حركته. وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية، وذلك كما يقال: التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود. وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا: إن مبدأ الموجودات هو النار، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار ناراً. فالنار مبدأ، وبعدها الارض، وبعدها الماء، وبعدها الهواء، وبعدها النار. والنار هي المبدأ وإليها المنتهي، فمنها التكون وإليها الفساد. وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس، فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلاً، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء، وزعم أن الخلاء لا نهاية له، وكذلك الأجسام لا نهاية لها؛ إلا أن لها ثلاثة أشياء: الشكل، والعظم، والثقل. وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين: الشكل، والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ، أي لا تنفعل ولا تتكثر، وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة، فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطراراً واتفاقاً، فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها، وتحركت على أنحاء من جهات التحرك. وذلك هو الذي يحكي عنهم: أنهم قالوا بالاتفاق؛ فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك، وأوجد هذه الصور. وهؤلاء قد أثبتوا الصانع، وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر. وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق؛ فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط.ذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل. قال: والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات... هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية. وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول: ليس في العالم سوى التأليف، والأجسام والأعراض تأليفات، والنفوس والعقول تأليفات. ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه. وكان خرينوس وزينون الشاعر: متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع. إلا أنهما قالا: الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما، وفي بدء ما أبدعهما: أبدعهما لا يموتان. ولا يجوز عليهما الدثور والفناء. وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس: صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها؛ وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذباً من كل ثقل وكدر، فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى؛ لأنه غير مشاكل للجسم السماوي؛ لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس. فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم؛ لأنه أشد روحانية، وهذا العالم لا يشاكل الجسم، بل الجرم يشاكله. فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب، وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب. وهذا العالم عالم الجرم، وذلك العالم عالم الجسم. فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائماً، لا يجوز عليه الفناء والدثور، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس. وقيل لفيثاغورس: لم قمت بإبطال العالم؟؛ قال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان، فإذا بلغها سكنت حركته. وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية، وذلك كما يقال: التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود. وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا: إن مبدأ الموجودات هو النار، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار ناراً. فالنار مبدأ، وبعدها الارض، وبعدها الماء، وبعدها الهواء، وبعدها النار. والنار هي المبدأ وإليها المنتهي، فمنها التكون وإليها الفساد. وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس، فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلاً، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء، وزعم أن الخلاء لا نهاية له، وكذلك الأجسام لا نهاية لها؛ إلا أن لها ثلاثة أشياء: الشكل، والعظم، والثقل. وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين: الشكل، والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ، أي لا تنفعل ولا تتكثر، وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة، فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطراراً واتفاقاً، فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها، وتحركت على أنحاء من جهات التحرك. وذلك هو الذي يحكي عنهم: أنهم قالوا بالاتفاق؛ فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك، وأوجد هذه الصور. وهؤلاء قد أثبتوا الصانع، وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر. وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق؛ فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط.

وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان: يدعى أحدهما: فلنكس ويعرف بمرزنوش قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة قيثاغورس، وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم. ويدعى الآخر: قلانوس دخل الهند، ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضاً، وأضاف حكمته إلى برهمية القوم. إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله، والهند أخذوا روحانية قوله.
ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به: قال: إني عانيت هذه العوالم العلوية بالحس بعد الرياضة البالغة، وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل، فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة، وما لها من الحسن والبهاء والنور، وسمعت ما لها من اللحون الشريفة والأصوات الشجية الروحانية.
وقال: إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن؛ لكونه معلول الطبيعة، وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن، إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف، فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء. فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم؛ حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلاً بعد ما نالكم من الفساد والدثور وتصيرون إلى عالم هو: حسن كله، وبهاء كله، وسرور كله، وعز وحق كله... ويكون سروركم لذتكم دائمة غير منقطعة.
وقال: من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص. وإذا كان البدن مفتقراً في مصالحه إلى تدبير الطبيعة، وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس، وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد العقل؛ ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية....! فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهوداً له بفطنة الاكتفاء بمولاه، وأن يكون التابع لشهوة البدن، المنقاد لدواعي الطبيعة، المواتي لهوى النفس... بعيداً من مولاه، ناقصاً في رتبته.
رأي سقراط سقراط بن سفر نيسقوس الحكيم، الفاضل، الزاهد: من أهل أثينية. وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس، واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات، واشتغل بالزهد ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق، وأعرض عن ملاذ الدنيا، واعتزل إلى الجبل، وأقام في غاربه. ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان؛ فثورا عليه الغاغة وألجأوا ملوكهم إلى قتله؛ فحبسه الملك، ثم سقاه السم. وقضيته معروفة.

قال سقراط: إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط؛ وهو جوهر فقط. وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف، والقول فيه: وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن إكتناه ووصفه، وحقيقته، وتسميته، وإدراكه؛ لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره، فهو المدرك حقاً، والواصف لكل شيء وصفاً، والمسمى لكل موجود اسماً؛ فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسماً، وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفاً؟! فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله، وهي أسماء وصفات؛ إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر المخبرة عن حقيقته وذلك مثل قولنا: إله أي واضع كل شيء، وخالق أي مقدر كل شيء، وعزيز أي ممتنع أن يضام، وحكيم أي محكم أفعاله على النظام... وكذلك سائر الصفات. وقال: إن علمه، وقدرته، وجوده، وحكمته... بلا نهاية، ولا يبلغ العقل أن يصفها، ولو وصفها لكانت متناهية. فألزم عليه: إنك تقول: إنها بلا نهاية ولا غاية، وقد نرى الموجودات متناهية!؛ فقال: إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل، لا بحسب القدرة والحكمة والجود، ولما كانت المادة لم تحتمل صوراً بلا نهاية، فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب؛ بل لقصور في المادة. وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت: ذاتاً، وصورة، وحيزاً، ومكاناً؛ إلا أنها لا تتناهى زماناً في آخرها إلا من نحو أولها، وإن لم يتصور بقاء شخص؛ فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع، وذلك بتجدد أمثالها؛ ليستحفظ الشخص ببقاء النوع، ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص، فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية. ثم إن من مذهب سقراط: أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه: حياً، قيوماً؛ لأن: العلم، والقدرة، والجود، والحكمة: تندرج تحت كونه حياً؛ والحياة صفة جامعة للكل. والبقاء، والسرمد، والدوام، وحفظ النظام في العالم: تندرج تحت كونه قيوماً، والقيومية صفة جامعة للكل. وربما يقول: هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا؛ ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس. وحكى فلوطرخيس في المبادئ أنه قال: أصول الأشياء ثلاثة وهي: العلة الفاعلة، والعنصر، والصورة؛ فالله تعالى هو الفاعل، والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد، والصورة جوهر لا جسم. وقال: الطبيعة أمة للنفس، والنفس أمة للعقل، والعقل أمة للمبدع الأول؛ من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول صورة العقل. وقال: المبدع لا غاية له ولا نهاية؛ وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة. وقال: اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة ووضع وترتيب، وما تحقق له صورة ووضع وترتيب: صار متناهياً؛ فالموجودات ليست بلا نهاية، والمبدع الأول ليس بذي نهاية؛ ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية، كما يتخيله الخيال والوهم، بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية، فلا نهاية له من جهة العقل؛ إذ ليس يحده، ولا من جهة الحس؛ فليس يحده. فهو ليس له نهاية؛ فليس له شخص وصورة خيالية وجودية حسية أو عقلية: تعالى وتقدس. ومن مذهب سقراط: أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على نحو من أنحاء الوجود: إما متصلة بكلها، وإما متمايزة بذواتها وخواصها؛ فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة، والأبدان قوالبها وآلاتها، فتبطل الأبدان ،و ترجع النفوس إلى كليتها. وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه: أنه يريد قتله قال: إن سقراط في حب، والملك لا يقدر إلا على كسر الحب، فالحب يكسر، ويرجع الماء إلى البحر.
ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية. ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط: أن الحكمة قبل الحق، أم الحق قبل الحكمة؟ وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة؛ إلا أنه قد يكون جلياً، وقد يكون خفياً. وأما الحكمة فهي أخص من الحق؛ إلا أنها لا تكون إلا جلية؛ فإذاً: الحق مبسوط في العالم، مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم، والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم؛ والحق ما به الشيء، والحكمة ما لأجله الشيء.

ولسقراط أيضاً الغاز ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس؛ وجلها في كتاب فاذن. ونحن نوردها مرسلة معقودة: منها قوله: عندما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت، وعندما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة. ومنها: اسكت عن الضوضاء التي في الهواء، وتكلم بالليالي؛ حيث لا تكون أعشاش الخفافيش، وأسدد الخمس الكوي؛ ليضيء مسكن العلة، وأملا الوعاء طيباً، وأفرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة، وأحبس على باب الكلام، وأمسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب؛ فترى نظام الكواكب، ولا تؤكل الأسود الذئب، ولا تجاوز الميزان، ولا تسوطن النار بالسكين ولا تجلس على المكيال، ولا تشم التفاحة، وأمت الحي تحيي بموته؛ وكن قاتله بالسكين المزينة لوالديه، واحذر الأسود ذا الأربع، ومن جهة العلة كن أرنباً، وعند الموت لا تكن نملة، وعندما تذكر دوران الحياة أمت الميت؛ لتكون ذاكراً، وكن صديق مفضض؛ ولا تكن صديق شرطي، ولا تكن مع أصدقائك قوساً، ولا تنعس على أبواب أعدائك، واثبت على ينبوع واحد متكئاً على يمينك، وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع، وافحص عن ثلاث سبل؛ فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق، واضرب الأترجة بالرمانة، واقتل العقرب بالصوم، وإن أحببت أن تكون ملكاً؛ فكن حمار وحش، وليست السبعة بأكمل من الواحد، وبالإثني عشر اقتن اثني عشر، وازرع بالأسود واحصد بالأبيض، ولا تسلبن الإكليل؛ ولا تهتكه، ولا تقفن راضياً بعدمك للخير وأنت موجود؛ ذلك لك في أربعة وعشرين مكاناً، وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه، وإن كان مستحقاً للغذاء المريء فأعطه وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه؛ لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء فهو للبالغين.
وقال: يكفي من تأجج النار نورها.
وقال له رجل: من أين لك أن هذا المشار إليه واحد؟ فقال إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني؛ فمتى فرضته قريناً للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج غليه البتة إلى جانب ما لا بد منه البتة. وقال: الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده، وثلاث مراتب من جهة هيئته. وقال: للقلب آفتان الغم والهم؛ فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر. وقال: الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت حدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
وقال: ينبغي أن تغتم بالحياة، وتفرح بالموت؛ لأنا نحيا لنموت. ونموت لنحيا.
وقال: قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة، وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة.
وقال: للحياة حدان أحدهما الأمل. والثاني الأجل: فبالأول بقاؤها. وبالآخر فناؤها.
وقال: النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة.
فأما حركتها المفردة فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل، وأما حركاتها المختلفة فإذا تحركت نحو الحواس الخمس. واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة: أحدهما: بيت بأنطاكية على جبلها؛ وكانوا يعظمونه، ويقربون القرابين فيه، وقد خرب. والثاني من جملة الأهرام التي بمصر: بيت كانت فيه أصنام تعبد؛ وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها. والثالث: بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام، ويقال: إن سليمان هو الذي بناه، والمجوس يقولون: إن الضحاك بناه؛ وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه.
رأي أفلاطون الإلهي أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس: من أثينية، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، معروف بالتوحيد والحكمة. ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة من ملكه، وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثاً متعلماً يتلمذ لسقراط، ولما اغتيل سقراط بالسم ومات: قام مقامه، وجلس على كرسيه.

وقد أخذ العلم من سقراط وطيماوس والغريبين: غريب أثينية وغريب الناطس؛ وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية. وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطو طاليس وطيماوس وثاوفرسطيس...أنه قال: إن للعالم محدثاً، مبدعاً، أزلياً، واجباً بذاته، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية، كان قي الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل؛ إلا مثالاً عند الباري تعالى، ربما يعبر عنه بالهيولى، وربما يعبر عنه بالعنصر؛ ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى.
قال: فأبدع العقل الأول، وبتوسطه النفس الكلية؛ وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة، وبتوسطهما العنصر.
ويحكى عنه: أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر. ويحكى عنه: أنه أدرج الزمان في المبادئ ؛ وهو الدهر وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي: مثالاً غير مشخص في العالم العقلي؛ ويسمى ذلك: المثل الأفلاطونية. فالمبادئ الأول بسائط، والمثل مبسوطات، والأشخاص مركبات؛ فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول، وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن.
وقال: والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم، ولا بد لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعاً من المشابهة. قال: ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالاً منتزعاً من المادة معقولاً، يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته، ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته. ولولا ذلك لما كان لما يدركه العقل مطابقاً مقابلاً من خارج؛ فما يكون مدركاً لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك.
وقال: والعالم عالمان: عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية، وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية؛ كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات فإن الصور فيها مثل الأشخاص، وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها؛ غير أن الفرق: أن المنطبع في المرآة ة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك، وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك؛ فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص؛ فلها الوجود الدائم، ولها الثبات القائم، وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها. قال: وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية؛ لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول الحق، والصور عنده بلا نهاية؛ ولو لم تكن الصور معه في أزليته في علمه لم تكن لتبقى، ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى، ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف؛ ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها، وإنما تبقى إذا كانت لها صور عقلية في ذلك العالم ترجو اللحوق بها وتخاف التخلف عنها.
قال: وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حساً ومحسوساً، وعقلاً ومعقولاً، وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات، وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان؛ فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات، وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان، فتكون مثلاً عقلية.
ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم! قال: إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات، ومن المركبات أنواعها وأشخاصها، ومن البسائط ما هي هيولانية وهي التي تعرى عن الموضوع، وهي رسوم الجزئيات مثل: النقطة، والخط، والسطح، والجسم التعليمي.

قال: وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها؛ وكذلك توابع الجسم مفردة مثل: الحركة، والزمان ، والمكان، والأشكال؛ فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ومركبة مرة أخرى، ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات. ومن البسائط: ما ليست هي هيولانية مثل: الوجود، والوحدة، والجوهر. والعقل يدرك القسمين جميعاً متطابقين عالمين متقابلين: عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية، وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية. فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم، وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم؛ وعليه وضع الفطرة والتقدير، ولهذا الفصل شرح وتقرير. وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي؛ إلا أنهم يقولون: هو معنى في العقل موجود في الذهن؛ والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن؛ إذ لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو وهو في نفسه واحد.
وأفلاطون يقول: ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه؛ وذلك هو المثال الذي في العقل، وهو جوهر لا عرض؛ إذ تصور وجوده لا في موضوع، وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس؛ وهو تقدم ذاتي وشرفي معاً. وتلك المثل هي مبادئ الموجودات الحسية: منها بدأت، وإليها تعود.
ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف : كانت موجودة قبل وجود الأبدان، وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي، وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض. وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء؛ وقالوا: أن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان. وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما ستأتي حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون: في كون النفوس موجودة قبل وجود الأبدان؛ إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره.
وخالفه أيضاً في حدوث العالم: إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها؛ لأنك إذا قلت حادث، فقد أثبت سبق الأزلية لكل واحد، وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل. قال: وأن صورها لا بد وأن تكون حادثة؛ لكن الكلام في هيولاها وعنصرها. فأثبت عنصراً قبل وجودها، فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم، وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته، وأطلق لفظ الإبداع على العنصر؛ فقد أخرجه عن الأزلية بذاته، بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادئ التي ليست زمانية، ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني. فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني، والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني.
وقال: إن العالم لا يفسد فساداً كلياً. ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس: ما الشيء الذي لا حدوث له؟ وما الشيء الحادث وليس بباق؟ وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدأ بحال واحدة؟. وإنما يعنى بالأول وجود الباري تعالى، وبالثاني وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة. وبالثالث وجود المبادئ والبسائط التي لا تتغير. ومن أسئلته: ما الشيء الكائن ولا وجود له؟ وما الشيء الموجود ولا كون له؟. وإنما يعنى بالأول الحركة المكانية والزمان؛ لأنه لم يؤهله لاسم الوجود، ويعنى بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود؛ إذ لها السرمد والبقاء والدهر.

ويحكى عنه أنه قال: إن الأسطقسات لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظام، وإن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم. وربما عبرة عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة، وقيل: إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت. ورأيت في راموز له أنه قال: إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور، فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات، وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية، فسقطت رياشها قبل الهبوط، فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم وحكى ارسطوطاليس عنه: أنه أثبت المبادئ خمسة أجناس: الجوهر، والاتفاق، والاختلاف، والحركة، والسكون. ثم فسر كلامه فقال: أما الجوهر؛ فنعني به الوجود، وأما الاتفاق؛ فلأن الأشياء متفقة بأنها من الله تعالى، وأما الاختلاف؛ فلأنها مختلفة في صورها، وأما الحركة؛ فلأن لكل شيء من الأشياء فعلاً خاصاً. وذلك نوع من الحركة؛ لا حركة النقلة، وإذا تحرك نحو الفعل؛ وفعل؛ فله سكون بعد ذلك لا محالة. قال: وأثبت البخت أيضاً مبدأً سادساً وهو نطق عقلي وناموس لطبيعة الكل؛ وقال جرجيس: إنه قوة روحانية مدبرة للكل؛ وبعض الناس يسميه: جداً؛ وزعم الرواقيون: أنه نظام لعلل الأشياء وللأشياء المعلولة. وزعم بعضهم: أن علل الأشياء ثلاثة: المشتري، والطبيعة، والبخت. وقال أفلاطون: إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل، وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة؛ وحد الطبيعة بأنها: مبدأ الحركة والسكون في الأشياء؛ أي مبدأ التغير، وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها؛ فطبيعة الكل محركة الكل. والمحرك الأول يجب أن يكون ساكناً؛ وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له. حكي أرسطو طاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب ما بعد الطبيعة: أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس؛ فكتب عنه ما روى عن هرقليطس: أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة، وأن العلم لا يحيط بها. ثم اختلف بعده إلى سقراط وكان مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها، فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة؛ لأن الحدود ليست للمحسوسات؛ لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية، أعني: الأجناس. والأنواع. فعند ذلك: سمى أفلاطون الأشياء الكلية صوراً؛ لأنها واحدة، ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور. إذاً: كانت الصور رسوماً ومثالات لها. متقدمة عليها. وإنما وضع سقراط الحدود مطلقاً، لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس. وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات؛ فأثبتها مثلاً عامة. وقال أفلاطون في كتاب النواميس: إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها؛ منها: أن له صانعاً، وأن صانعه يعلم أفعاله. وذكر: أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب؛ أي: لا شبيه له ولا مثاله. أنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام، وأن كل مركب فهو إلى الانحلال، وأنه لن يسبق العالم زمان، ولم يبدع عن شيء.
اختلاف الأوائل في الإبداع والمبدع والإرادة ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع والمبدع: هل هما عبارتان عن معبر واحد؟ أم للإبداع نسبة إلى المبدع ونسبة إلى المبدع؟ وكذلك في الإرادة: إنها المراد، أم المريد؟ على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في: الخلق، والمخلوق، والإرادة: إنها: خلق، أم مخلوقة، أم صفة في الخالق؟. قال انكساغورس بمذهب فلوطرخيس: إن الإرادة ليست هي غير المراد، ولا غير المريد، وكذلك الفعل؛ لأنهما لا صورة لهما ذاتية، وإنما يقومان بغيرهما. فالإرادة: مرة تكون مستبطنة في المريد، ومرة ظاهرة في المراد؛ وكذلك الفعل. وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول، وقالا: إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان، وهما أبسط من صورة المراد، كالقاطع للشيء هو المؤثر، وأثره في الشيء، والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر والمؤثر فيه هو الأثر ، وهو محال؛ فصورة المبدع فاعلة، وصورة المبدع مفعولة، وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول. فللفعل: صورة، وأثر؛ فصورته من جهة المبدع. وأثره من جهة المبدع. والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة، وصورة باري مفترقتان؛ بل هي حقيقة واحدة.

وأما برمنيدس الأصغر؛ فإنه أجاز قولهم في الإرادة، ولم يجزه في الفعل، وقال: إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى: فأجاز ما وصفوه. وأما الفعل فيكون بتوسط منه، وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط؛ بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة، ولا ينعكس. وأما الأولون مثل: تاليس وأبندقليس؛ فقد قالوا الإرادة من جهة المبدع هي المبدع، ومن جهة المبدع هي المبدع. وفسروا هذا؛ بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع، ومن جهة الأثر هي المبدع. ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع؛ لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع؛ فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول، بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول. ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه. وفي الفصل انغلاق.
الباب الثاني
الحكماء الأصول
الحكماء الأصول الذين هم من القدماء؛ إلا أنا لم نجد لهم رأياً في المسائل المذكورة غير حكم مرسلة عملية أوردناها؛ لئلا تشذ مذاهبهم عن القسمة، ولا يخلو الكتاب عن تلك الفوائد.
فمنهم الشعراء؛ الذين يستدلون بشعرهم. وليس شعرهم على وزن وقافية، ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم؛ بل الركن في الشعر عندهم إيراد المقدمات المخيلة فحسب. ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل. فإن كانت المقدمة التي نوردها في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعرياً، وإن انضم إليها قول إقناعي يقينياً تركبت المقدمة من معينين شعري وإقناعي، وإن كان الضميم إليه قولاً يقينياً تركبت المقدمة من شعري وبرهاني.
ومنهم النساك؛ ونسكهم وعبادتهم عقلية لا شرعية، ويقتصر ذلك على تهذيب النفس عن الأخلاق الذميمة، وسياسة المدينة الفاضلة التي هي الجنة الإنسانية.
وربما وجدنا لبعضهم رأياً في بعض المسائل المذكورة؛ أعني: المبدع؛ والإبداع، وأنه عالم، وأن أول ما أبدعه ماذا؟ وأن المبادئ كم هي؟ وأن المعاد كيف يكون؟. وصاحب الرأي الموافق للأوائل المذكورين أوردنا اسمه، وذكرنا مقالته؛ وإن كانت كالمكروه. نبتدئ بهم، ونجعل فلوطرخيس مبدأ آخر.
رأي فلوطرخيس قيل إنه أول من شهر بالفلسفة. ونسبت إليه المحكمة. تفلسف بمصر. ثم سار إلى ملطية وأقام بها. وقد يعد من الأساطين.
قال: إن الباري تعالى لم يزل بالأزلية التي هي أزلية الأزليات، وهو مبدع فقط. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته عنده؛ أي كانت معلومة له. فالصور عنده بلا نهاية؛ أي المعلومات بلا نهاية. قال: ولو لم تكن الصور عنده ومعه لما كان إبداع، ولا بقاء للمبدع، ولو لم تكن باقية دائمة لكانت تدثر بدثور الهيولى، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الرجاء والخوف؛ ولكن لما كانت الصور باقية دائمة، ولها الرجاء والخوف: كان ذلك دليلاً على أن الصور أزلية في علمه تعالى. قال: ولا وجه إلا القول بأحد الأقوال: إما أن يقال: الباري تعالى لا يعلم شيئاً البتة؛ وهذا من المحال الشنيع، وأما أن يقال: يعلم بعض الصور دون بعض؛ وهذا من النقص الذي لا يليق بكمال الجلال، وإما أن يقال: يعلم جميع الصور والمعلومات؛ وهذا هو الرأي الصحيح.
ثم قال: إن أصل المركبات هو الماء؛ فإنه إذا تخلخل صافياً وجد ناراً، وإذا تخلخل وفيه بعض الثقل صار هواء، وإذا تكاثف تكاثفاً مبسوطاً بالغاً صار أرضاً.
وحكى فلوطرخيس أن هيرقليطس زعم أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت وجوهر البخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
رأي أكسنوفانس

كان يقول: إن المبدع الأول هو آنية أزلية دائمة ديمومة القدم؛ لاتدرك بنوع صفة منطقية ولا عقلية؛ مبدع كل صفة وكل نعت نطقي وعقلي، فإذا كان هذا هكذا؛ فقولنا: إن صور ما في هذا العالم المبدعة لم تكن عنده، أو كانت، أو كيف أبدع؟ ولم أبدع؟... محال؛ لأن العقل مبدع، والمبدع مسبوق بالمبدع، والمسبوق لا يدرك السابق أبداً، فلا يجوز أن يصف المسبوق السابق. بل نقول: إن المبدع أبدع كيفما أحب وكيفما شاء؛ فهو هو ولا شيء معه. قال: وهذه الكلمة أعنى: هو ولا شيء بسيطاً ولا مركباً معه، وهو مجمع كل ما نطلبه من العلم؛ لأنك إذا قلت ولا شيء معه، فقد نفيت عنه: أزلية الصورة والهيولى، وكل مبدع من صورة وهيولى، وكل مبدع من صورة فقط. ومن قال أن الصور أزلية مع آنيته فليس هو فقط، بل هو وأشياء كثيرة، فليس هو مبدع للصور؛ بل كل صورة إنما أظهرت ذاتها، فعند إظهارها ذاتها ظهرت هذه العوالم... وهذه أشنع ما يكون من القول.
وكان تيرز والقادميون يقولان: ليست أوائل البتة، ولا معقول قبل المحسوس بحال، فلا مثل بدعة الأشياء مثل الذي يفرخ من ذاته بلا حدث ولا فعل ظهر، فلا يزال يخرجه من القوة إلى الفعل حتى يوجد، فيكمل، فنحسه وندركه؛ وليس شيء معقول البتة. والعالم دائم لا يزول ولا يفنى؛ فإن المبدع لا يجوز أن يفعل فعلاً يدثر إلا وهو داثر مع دثور فعله، وذلك محال.
رأي زينون الأكبر زينون الأكبر ابن ماوس: من أهل قنطس. كان يقول: إن المبدع الأول كان في علمه صورة إبداع كل جوهر، وصورة دثور كل جوهر؛ فإن علمه غير متناه، والصور التي فيه من حيث الإبداع غير متناهية، وكذلك صور الدثور غير متناهية، فالعوالم تتجدد في كل حين وفي كل دهر؛ فما كان منها مشاكلاً لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل، وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه إلا أنه ذكر وجه التجدد؛ فقال: إن الموجودات باقية دائرة: أما بقاؤهما فبتجدد صورها، وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى عند تجدد الأخرى. وذكر أن الدثور قد يلزم الصورة والهيولى معاً.
وقال أيضاً: إن الشمس والقمر والكواكب تستمد القوة من جوهر السماء؛ فإذا تغيرت السماء تغيرت النجوم أيضاً. ثم هذه الصور كلها: بقاؤها، ودثورها في علم الباري تعالى، والعلم يقتضي بقاءها دائماً وكذلك الحكمة تقتضي ذلك؛ لأن بقاءها على هذه الحال أفضل. والباري تعالى قادر على أن يفني العوالم يوماً ما إن أراد. وهذا الرأي و وقد مال إليه الحكماء المنطقيون الجدليون؛ دون الإلهيين.
وحكى فلوطرخيس أن زينون كان يزعم أن الأصول هي الله عز وجل والعنصر فقط؛ فالله هو العلة الفاعلة، والعنصر هو المنفعل.
حكمه: قال: أكثروا من الإخوان؛ فإن بقاء الإخوان كما أن شفاء الأبدان بالأدوية.
وقيل: رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزوناً يتلهف على الدنيا؛ فقال له: يا فتى! ما يلهفك على الدنيا؟ لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق كانت غاية مطلوبك النجاة وتفوت كل ما في يدك؟ قال: نعم، قال: لو كنت ملكاً على الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك: كان مرادك النجاة من يده وتفوت كل ملكك؟ قال: نعم، قال: فأنت الغني، وأنت الملك الآن؛ فتسلى الفتى.
وقال لتلميذه: كن بما تأتي من الخير مسروراً، وبما تجتنب من الشر محبوراً. وقيل له: أي الملوك أفضل: ملك اليونانيين ،أم ملك الفرس ؟قال: من ملك غضبه وشهوته.
وسئل عد أن هرم: ما حالك؟ قال: هو ذا أموت قليلا قليلا على مهل.
وقيل له: إذا مت! من يدفنك؟. قال: من يؤذيه نتن جيفتي.
وسئل: ما لذي يهرم؟ قال: الغضب والحسد، وأبلغ منهما الغم. وقال: الفلك تحت تدبيره.
ونعى إليه ابنه فقال: ما ذهب ذلك على؛ إنما ولدت ولداً يموت، وما ولدت ولداً لا يموت. وقال: لا تخف موت البدن، ولكن يجب عليك أن تخاف موت النفس. فقيل له: لما قلت خف موت النفس، والنفس الناطقة عندك لا تموت؟ فقال: إذا انتقلت النفس الناطقة من حد النطق إلى حد البهيمية وإن كان جوهرها لا يبطل فقد ماتت من العيش العقلي.
وقال: أعط الحق من نفسك؛ فإن الحق يخصمك إن لم تعطه حقه.
وقال: محبة المال وتد الشر؛ لأن سائر الآفات تتعلق بها، ومحبة الشرف وتد العيوب؛ لأن سائر العيوب متعلقة بها.
وقال: أحسن مجاورة النعم فتنعم بها، ولا تسيء بها فتسيء بك.

وقال: إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته، وإذا أدركها الطالب لها قتلته. وقيل له وكان لا يقتي إلا قوت يومه : إن الملك يبغضك فقال: وهل يحب الملك من هو أغنى منه؟.
وسئل: بأي شيء يخالف الناس في هذا الزمان البهائم؟ فقال: بالشرور.
قال: وما رأينا العقل قط إلا خادماً للجهل؛ وفي رواية للسجزي إلا خادماً للجد، والفرق بينهما ظاهر؛ فإن الطبيعة ولوازمها إذا كانت مستولية على العقل: استخدمه الجهل، وإذا كان ما قسم للإنسان من الخير والشر فوق تدبيره العقلي: كان الجد مستخدماً للعقل، ويعظم جد الإنسان ما يعقل، وليس يعظم العقل ما يجد؛ ولهذا! خيف على صاحب الجد ما لم يخف على صاحب العقل. والجد: أصم، أخرس، لا يفقه، ولا ينقه؛ وإنما هو ريح تهب، وبرق يلمع، ونار تلوح، وصحو يعرض، وحلم يمتع. وهذا اللفظ أولى؛ فإنه عمم الحكم فقال ما رأينا العقل قط، وقد يعرض للعقل أن يرى ولا يستخدمه الجهل، وذلك هو الأكثر. وقال زينون: في الجرادة خلقة سبعة جبابرة: رأسها راس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل، وبطنها بطن عقرب، وذنبها ذنب حية. هكذا ذكره زينون.
رأي ديمقريطيس وشيعته كان يقول في المبدع الأول: إنه ليس هو العنصر فقط، ولا العقل فقط؛ بل الأخلاط الأربعة، وهي الاسطقسات: أوائل الموجودات كلها، ومنها أبدعت الأشياء البسيطة كلها دفعة واحدة، وأما المركبة فإنها كونت دائمة داثرة؛ إلا أن ديمومتها بنوع، ودثورها بنوع. ثم إن العالم بجملته باق غير داثر؛ لأنه ذكر أن هذا العالم متصل بذلك العالم الأعلى؛ كما أن عناصر هذه الأشياء متصلة بلطيف أرواحها الساكنة فيها. والعناصر وإن كانت تدثر في الظاهر، فإن صفوها من الروح البسيط الذي فيها؛ فإذا كان كذلك فليس يدثر إلا من جهة الحواس، فأما من نحو العقل فإنه ليس يدثر، فلا يدثر هذا العالم إذا كان صفوها فيه، وصفوه متصل بالعوالم البسيطة. وإنما شنع عليه الحكماء من جهة قوله: إن أول مبدع هو العناصر، وبعدها أبدعت البسائط الروحانية؛ فهو يرتقي من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأكدر إلى الأصفى.
ومن شيعته فليوخوس؛ إلا أنه خالفه في المبدع الأول، وقال بقول سائر الحكماء؛ غير أنه قال: إن المبدع الأول هو مبدع الصورة فقط دون الهيولى؛ فإنها لم تزل مع المبدع.
فأنكروا عليه وقالوا: إن الهيولى لو كانت أزلية قديمة :لما قبلت الصور، ولما تغيرت منحال إلى حال، ولما قبلت فعل غيرها؛ إذ الأزلي لا يتغير. وهذا الرأي مما كان يعزى إلى أفلاطون الإلهي، والرأي في نفسه مزيف، والعزوة إليه غير صحيحة. ومما نقل عن ديمقريطيس وزينون الأكبر وفيثاغورث أنهم كانوا يقولون: إن الباري تعالى متحرك بحركة فوق هذه الحركة الزمانية. وقد أشرنا إلى المذهبين، وبينما المراد بإضافة الحركة والسكون إلى الله تعالى. ونزيده شرحا من احتجاج كل فريق على صاحبه.
قال أصحاب السكون: إن الحركة لا تكون أبداً إلا ضد السكون، والحركة لا تكون إلا بنوع زمان إما ماض وإما مستقبل، والحركة لا تكون إلا مكانية إما منتقلة وإما مستوية؛ ومن المستوية تكون الحركة المستقيمة، والحركة المعوجة؛ والمكانية تكون مع الزمان، فلو كان الباري تعالى متحركاً؛ لكان داخلاً في الدهر والزمان.
قال أصحاب الحركة: إن حركته أعلى من جميع ما ذكرتموه، وهو مبدع الدهر والمكان، وإبداعه ذلك هو يعنى بالحركة. والله أعلم.
رأي فلاسفة أقاديما

كانوا يقولون: إن كل مركب ينحل، ولا يجوز أن يكون مركباً من جوهرين متفقين في جميع الجهات، وإلا فليس بمركب؛ فإذا كان هذا هكذا، فلا محالة أنه إذا انحل المركب رحل كل جوهر فاتصل بالأصل الذي كان منه؛ فما كان منها بسيطاً روحانياً لحق بعالمه الروحاني البسيط، والعالم الروحاني باق غير داثر؛ ويرجع حتى يصل إلى ألطف من كل لطيف فإذا لم يبق من اللطافة شيء اتحد باللطيف الأول المتحد به، فيكونان متحدين إلى الأبد، وإذا اتحدت الأواخر بالأوائل، وكان الأول هو أول مبدع ليس بينه وبين مبدعه جوهر آخر متوسط، فلا محالة أن ذلك المبدع الأول متعلق بنور مبدعه؛ فيبقى خالداً دهر الدهور. وهذا الفصل أيضاً قد نقل عنهم وهو يتعلق بالمعاد، لا بالمبدأ وهؤلاء يسمون: مشائي أقاديما وأما المشاءون المطلق، فهم. أهل لوقيون وكان أفلاطون يلقن الحكمة ماشياً؛ تعظيماً لها، وتابعه على ذلك أرسطوطاليس؛. ويسمى هو وأصحابه: المشائين. وأصحاب الرواق هم أهل المظال.
وكان لأفلاطون تعليمات: تعليم كليس؛ وهو الروحاني الذي لا يدرك بالبصر ولكن بالفكر اللطيف، وتعليم كأيس؛ وهو الهيولانيات. والله الموفق للصواب.
رأي هرقل الحكيم كان يقول: إن الباري تعالى هو النور الحق الذي لا يدرك من جهة عقولنا لأنها أبدعت من ذلك النور الأول الحق؛ وهو اسم الله حقاً، وهو اسم الله باليونانية حقاً.
إنها تدل عليه، إنه مبدع الكل. وهذا الاسم عندهم شريف جداً .
وكان يقول: إن بدء الخلق، وأول شيء أبدع، والذي هو أول لهذه العوالم؛ هو المحبة، والمنازعة. ووافق في هذا الرأي أنبادقليس حيث قال: الأول الذي أبدع هو المحبة والغلبة.
وقال هرقل: السماء كرة متحركة من ذاتها، والأرض مستديرة ساكنة جامدة بذاتها؛ ة الشمس حللت كل ما فيها من الرطوبة، فاجتمعت فيها، فصار البحر؛ والذي حجرت الشمس ونفذت فيه حتى لم تذر فيه شيئاً من الرطوبة صار منه: الحصى، والحجارة، والجبل؛ وما لم تنفذ فيه الشمس أكثر، ولم تنزع عنه الرطوبة كلها، فهو التراب.
وكان يقول إن السماء في النشأة الأخرى تصير بلا كواكب؛ لأن الكواكب تهبط سفلاً حتى تحيط بالأرض وتلتهب، فيصير متصلاً ببعضها البعض، حتى تكون كالدائرة وحول الأرض؛ وإنما يهبط منها ما كان من أجزائها ناراً محصنة، ويصعد منها ما كان نوراً محصناً؛ فتبقى النفوس الشريرة الدنسة الخبيثة في هذا العالم الذي أحاط به النار إلى الأبد في عقاب السرمد، وتصعد النفوس الشريفة الخالصة الطيبة إلى العالم الذي تمحض نوراً وبهاءً وحسناً في ثواب السرمد. وهناك: الصور الحسان لذات البصر، والألحان الشجية لذات السمع؛ ولأنها أبدعت بلا توسط مادة وتركب اسطقسات فهي: جواهر، شريفة، روحانية، نورانية. وقال: إن الباري تعالى يمسح تلك الأنفس في كل دهر مسحة، فيتجلى لها حتى تنظر إلى نوره المحض الخارج من جوهره الحق؛ فحينئذ يشتد عشقها، وشوقها، ونورها، ومجدها. فلا تزال كذلك دائماً إلى الأبد.
رأي أبيقورس خالف الأوائل في الأوائل. قال؛ المبادئ اثنان: الخلاء، والصورة؛ أما الخلاء فمكان فارغ، وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء، ومنها أبدعت الموجودات وكل ما كون منها فإنه ينحل إليها، فمنها المبدأ، وإليها المعاد.
وربما يقول: الكل يفسد؛ وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء ولا مكافئة ولا جزاء، بل كلها تضمحل وتدثر. والإنسان كالحيوان مرسل مهمل في هذا العالم. والحالات التي ترد على الأنفس في هذا العالم كلها من تلقائها على قدر حركاتها وأفاعيلها؛ فإن فعلت خيراً وحسناً فيرد عليها سرور الفرح، وإن فعلت شراً وقبيحاً فيرد عليها حزن وترح. وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى، وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى... بقدر ما يظهر لها من أفاعيل.
وتبعه جماعة من التناسخية على هذا الرأي حكم سولون الشاعر وكان عند الفلاسفة من الأنبياء العظام بعد هرمس وقبل سقراط، وأجمعوا على تقديمه والقول بفضائله.
قال سولون لتلميذه: تزود من الخير وأنت مقبل، خير لك من أن تتزود منه وأنت مدبر.
وقال: من فعل خيراً فليتجنب ما خالفه؛ وإلا دعي شريراً.
وقال: إن أمور الدنيا: حق، وقضاء؛ فمن أسلف فليقض، ومن قضى فقد وفى.
وقال: إذا عرضت عليك فكرة سوء فادفعها عن نفسك، ولا ترجع باللائمة على غيرك؛ لكن ما رأيك بما أحدث عليك.

وقال: إن فعل الجاهل في خطابه أن يذم غيره، وفعل طالب الأدب أن يذم نفسه، وفعل الأديب أن لا يذم نفسه ولا غيره.
وقال: إذا انكب الدن وأريق الشراب، وانكسر الإناء... فلا تغتم؛ بل قل: كما أن الأرباح لا تكون إلا فيما يباع ويشترى، كذلك الخسرانات لا تكون إلا في الموجودات، فانفي الغم والخسارة عنك؛ فإن لكل ثمناً، وليس يجيء بالمجان.
وسئل: أيما أحمد في الصبا: الحياء، أم الخوف؟ قال: الحياء؛ لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على المقة والشهوة.
وقال لابنه دع المزاح؛ فإن المزاح لقاح الضغائن.
وسأله رجل؛ فقال: هل ترى أن أتزوج، أم أدع؟ قال: أي الأمرين فعلت ندمت عليه.
وسئل: أي شيء أصعب على الإنسان؟ قال: أن يعرف عيب نفسه، وأن يمسك عما لا يتكلم به.
ورأى رجلاً عثر؛ فقال له: لأن تعثر برجلك خير من أن تعثر بلسانك.
وسئل: ما الكرم؟ فقال: النزاهة عن المساوئ.
وسئل: ما الحياة؟ فقال: التمسك بأمر الله تعالى.
وسئل: ما النوم؟ فقال: النوم موتة خفيفة، والموت نومة طويلة.
وقال: ليكن اختارك من الأشياء حديثها. ومن الإخوان أقدمهم.
وقال: أنفع العلم ما أصابته الفكرة، وأقله نفعاً ما قلته بلسانك.
وقال: ينبغي أن يكون المرء: حسن الشكل في صغره، وعفيفاً عند إدراكه، وعدلاً في شبابه، وذا رأي في كهلولته، وحافظاً للستر عند الفناء؛ حتى لا تلحقه الندامة.
وقال: ينبغي للشاب أن يستعد لشيخوخته مثل ما يستعد الإنسان للشتاء من البرد الذي يهجم عليه.
وقال: يا بني! احفظ الأمانة تحفظك، وصنها حتى تصان.
وقال: جوعوا إلى الحكمة، واعطشوا إلى عبادة الله تعالى؛ قبل أن يأتيكم المانع منهما.
وقال لتلامذته: لا تكرموا الجاهل فيستخف بكم، ولا تتصلوا بالأشرار فتعدوا فيهم، ولا تعتمدوا الغنى إن كنتم تلامذة الصدق، ولا تهملوا أمر أنفسكم في أيامكم ولياليكم، ولا تستخفوا بالمساكين في جميع أوقاتكم.
وكتب إليه بعض الحكماء يستوصفه أمر عالمي العقل والحس؛ فقال: أما عالم العقل فدار ثبات وثواب، وأما عالم الحس فدار بوار وغرور.
وسئل: ما فضل علمك على علم غيرك؟ قال: معرفتي بأن علمي قليل.
وقال: أخلاق محمودة وجدتها في الناس؛ إلا أنها إنما توجد في قليل: صديق يحب صديقه غائباً كمحبته حاضراً، وكريم يكرم الفقراء كما يكرم الأغنياء، ومقر بعيوبه إذا ذكرت، وذاكر يوم نعيمه في يوم بؤسه ويوم بؤسه في يوم نعيمه، وحافظ لسانه عند غضبه. وآمر بالمعروف دائماً.
حكم أوميروس الشاعر وهو من الكبار القدماء، الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب. ويستدل بشعره؛ لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة، ومتانة الحكمة، وجودة الرأي، وجزالة اللفظ؛ فمن ذلك قوله: لا خير في كثرة الرؤساء، وهذه كلمة وجيزة تحتها معان شريفة، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال، ويستدل بها أيضاً في التوحيد؛ لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكر على حقيقة الإلهية بالإفساد. وفي الحكمة: لو كان أهل بلد كلهم رؤساء؛ لما كان رئيس البتة، ولو كان أهل بلد كلهم رعية؛ لما كانت رعية البتة.
ومن حكمه قال: إني لأعجب من الناس! إذ كان يمكنهم الإقتداء بالله تعالى فيدعون ذلك الإقتداء بالبهائم!؛ قال له تلميذه: لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رأوا أنهم يموتون كما تموت البهائم؟، فقال له: بهذا السبب يكثر تعجبي منهم! من قبل أنهم يحسون بأنهم لابسون بدناً ميتاً ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفساً غير ميتة.
وقال: من يعلم أن الحياة لنا مستعبدة، والموت معتق مطلق... آثر الموت على الحياة.
وقال العقل نحوان: طبيعي، وتجريبي؛ وهما مثل الماء والأرض، وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلصه وتمكن من العمل فيه؛ كذلك العقل يذيب الأمور ويخلصها ويفصلها ويعدها للعمل. ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر.
وقال: إن الإنسان الخير أفضل من جميع ما على الأرض، والإنسان الشرير أخس وأوضع من جميع ما على الأرض.
وقال: لن: تنبل، واحلم: تعز، ولا تكن معجباً: فتمتهن، واقهر شهوتك؛ فإن الفقير من انحط إلى شهواته.
وقال: الدنيا دار تجارة، والويل لمن تزود عنها الخسارة.

وقال: الأمراض ثلاثة أشياء: الزيادة والنقصان في الطبائع الأربع، وما تهيجه الأحزان؛ فشفاء الزائد والناقص في الطبائع الأدوية، وشفاء ما تهيجه الأحزان كلام الحكماء والإخوان.
وقال: العمى خير من الجهل؛ لأن أصعب ما يخاف من العمى التهور في بئر ينهد منه الحسد، والجبل يتوقع منه هلاك الأبد.
وقال: مقدمة المحمودات الحياء، ومقدمة المذمومات القحة.
وقال إيرقليطس: إن أوميروس الشاعر لما رأى تضاد الموجودات دون فلك القمر قال: يا ليته هلك التضاد من هذا العالم، ومن الناس، والسادة؛ يعني النجوم، واختلاف طبائعها؛ وأراد بذلك أن يبطل التضاد والاختلاف حتى يكون هذا العالم المتحرك المنتقل داخلاً في العالم الساكن الدائم الباقي.
ومن مذهبه: أن بهرام يعني الريح واقع الزهرة؛ فتولدت من بينهما طبيعة هذا العالم.
وقال: إن الزهرة علة التوحد والاجتماع، وبهرام علة التفرق والاختلاف، والتوحد ضد التفرق؛ فلذلك صارت الطبيعة ضداً: تركب، وتنقص، وتوحد، وتفرق.
وقال: الحظ شيء أظهره العقل بوساطة العلم، فلما قابل النفس عشقته بالعنصر... هذه حكمه.
وأما مقطعات أشعاره؛ فمنها: قال: ينبغي للإنسان أن يفهم الأمور الإنسانية. إن الأدب للإنسان ذخر لا يسلب. ارفع من عمرك ما يحزنك. إن أمور العالم تعلمك العلم. إن كنت ميتاً فلا تحقر عداوة من لا يموت. كل ما يمتاز في وقته يفرح به. إن الزمان يبين الحق وينيره. اذكر نفسك أبداً: أنك إنسان. إن كنت إنساناً فافهم كيف تضبط غضبك. إذا نالتك مضرة فاعلم أنك كنت أهلها. اطلب رضاء كل أحد؛ لإرضار نفسك فقط. إن الضحك في غير وقته هو ابن عم البكاء. إن الأرض تلد كل شيء ثم تسترده. إن الرأي من الجبان جبان.
انتقم من الأعداء نقمة لا تضرك. كن حسن الجرأة ولا تكن متهوراً. إن كنت ميتاً؛ فلا تذهب مذهب من لا يموت. إن أردت أن تحيا فلا تعمل عملاً يوجب الموت. إن الطبيعة كونت الأشياء بإرادة الرب تعالى. من لا يفعل شيئاً في الشر فهو إلهي. آمن بالله؛ فإنه يوفقك في أمورك. إن مساعدة الأشرار في أفعالهم كفر بالله. إن المغلوب من قاتل الله والبخت. اعرف الله، واعقل الأمور الإنسانية. إذا أراد الله خلاصك عبرت البحر على البادية. إن العقل الذي يناطق الله لشريف. إن قوام السنة بالرئيس. إن لفيف الناس وإن كانت لهم قوة فليس لهم عقل. إن السنة توجب كرامة الوالدين مثل كرامة الإله. رأي ان: والديك آلهة لك. إن الأب هو من ربي لا من ولد. إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله. إذا حضر البخت تمت الأمور. إن سنن الطبيعة لا تتعلم. إن اليد تغسل اليد، والإصبع الإصبع. ليكن فرحك بما تدخره لنفسك دون ما تدخره لغيرك؛ يعني بالمدخر لنفسه العلم والحكمة، والمدخر لغيره المال.
وقال: الكرم يحمل ثلاثة عناقيد: عنقود الالتذاذ، وعنقود الشكر، وعنقود الشيم.
خير أمور العالم الحسي أوساطها، وخير أمور العالم العقل أفضلها.
وقيل: إن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة؛ وإنما أبدعه أوميروس. وتاليس كان بعده بثلاثمائة واثنتين سنة. وأول فيلسوف كان منهم: في سنة تسعمائة وإحدى وخمسين من وفاة موسى عليه السلام، وهذا ما أخبر به كورفس في كتابه؛ وذكر فورفوريوس أن تاليس ظهر في سنة ثلاث وعشرين ومائة من ملك بختنصر.
حكم بقراط بقراط واضع الطب. الذي قال بفضله الأوائل والأواخر. وكان أكثر حكمته في الطب وشهرته به، فبلغ خبره إلى بهمن ابن اسفنديار بن كشتاسب؛ فكتب إلى فيلاطس ملك قوه وهو بلد من بلد اليونانيين يأمر بتوجيه بقراط إليه، وأمر له بقناطير من الذهب، فأبى ذلك، وتأبى عن الخروج إليه ضناً بوطنه وقومه. وكان لا يأخذ على المعالجة أجرة من الفقراء وأوساط الناس؛ وقد شرط أن يأخذ من الاغنياء أحد ثلاثة أشياء: طوقاً. وإكليلاً، أو سواراً... من ذهب.
فمن حكمه إن قال: استهينوا بالموت؛ فإن مرارته في خوفه. وقيل له: أي العيش خير؟ قال: الأمن مع الفقر، خير من الغنى مع الخوف.
وقال: الحيطان والبروج لا تحفظ المدن، ولكن تحفظها آراء الرجال وتدبير الحكماء.
وقال: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة متطلعة إلى هوائها، ونازعة إلى غذائها.
ولما حضرته الوفاة قال: خذوا جامع العلم مني: من كثر نومه، ولانت طبيعته، ونديت جلدته... طال عمره.

وقال: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع.
وقال: لو خلق الإنسان من طبيعة واحدة لما مرض؛ لأنه لم يكن هناك شيء يضادها فيمرض.
ودخل على عليل فقال له: أنا، والعلة، وأنت؛ فإن أعنتني عليها بالقبول لما تسمع مني: صرنا اثنين، وانفرد العلة، فقينا عليها؛ والاثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه.
وسئل: ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنه إذا شرب الدواء؟؛ قال: مثل ذلك مثل البيت ؛أكثر ما يكون غبارا إذا كنس.
وحديث ابن الملك: أنه عشق جارية من حظايا أبيه فنهك بدنه واشتدت علته، فأحضر بقراط فجس نبضه، ونظر إلى تفسرته، فلم ير أثر علة؛ فذكراه حديث العشق، فرآه يهش لذلك ويطرب، فاستخبر الحال من حاضنته فلم يكن عندها خبر، وقالت: ما خرج قط من الدار، فقال: بقراط للملك: مر رئيس الخصيان بطاعتي، فأمره بذلك، فقال: أخرج علي النساء، فخرجن، وبقراط واضع إصبعه على نبض الفتى؛ فلما خرجت الحظية اضطرب عرقه. وطار قلبه، وحار طبعه، فعلم بقراط أنها المعينة لهواه؛ فصار بقراط إلى الملك. وقال له: ابن الملك قد عشق من الوصول إليها صعب، قال الملك: ومن ذاك؟ قال: هو يحب حليلتي؛ قال: انزل عنها ولك عنها بدل؛ فتحازن بقراط ووجم: وقال: هل رأيت أحداً كلف أحداً طلاق امرأته؛ ولا سيما الملك في عدله ونصفته يأمرني بمفارقة حليلتي؛ ومفارقتها مفارقة روحي؟، قال الملك: إني أوثر ولدي عليك، وأعوضك من هو احسن منها؛ فامتنع، حتى بلغ الأمر إلى التهديد بالسيف، قال بقراط: إن الملك لا يسمى عدلاً حتى ينتصف من نفسه ما ينتصف من غيره، أرأيت لو كانت العشيقة حظية الملك؟! قال: يا بقراط! عقلك أتم من معرفتك! ونزل عنها لابنه، وبرئ الفتى من مرضه ذلك. وقال بقراط: إياك أن تأكل إلا ما تستمرئ، وأما مالا تستمرئ فإنه يأكلك. وقيل لبقراط: لم يثقل الميت؟ قال: لأنه كان اثنين: أحدهما خفيف رافع، والآخر ثقيل واضع؛ فلما انصرف أحدهما وهو الخفيف الرافع، ثقل الثقيل الواضع. وقال: الجسد يعالج جملة على خمسة أضرب: ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في البدن بإسهال البطن، وما بين الجلدين بالعرق، وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم.
وقال الصفراء بيتها المرارة وسلطانها في الكبد، والبلغم بيته المعدة وسلطانه في الصدر، والسوداء بيتها الطحال، وسلطانها في القلب، والدم بيته القلب وسلطانه في الرأس.
وقال لتلميذ له: ليكن أفضل وسيلتك إلى الناس محبتك لهم، والتفقد لأمورهم، ومعرفة حالهم، واصطناع المعروف إليهم.
ويحكى عن بقراط قوله المعروف: العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والزمان جديد، والتجربة خطر، والقضاء عسر.
وقال لتلاميذه: اقسموا الليل والنهار ثلاثة أقسام: فاطلبوا في القسم الأول العقل الفاضل واعملوا في القسم الثاني بما أحرزتم من ذلك العقل، ثم عاملوا في القسم الثالث من لا عقل له؛ وانهزموا من الشر ما استطعتم.
وكان له ابن لا يقبل الأدب؛ فقالت له امرأته: إن ابنك هو منك فأدبه؛ فقال لها: هو مني طبعاً، ومن غيري نفساً؛ فما أصنع به؟.
وقال: ما كان كثيراً فهو مضاد للطبيعة؛ فلتكن الأطعمة، والأشربة، والنوم، والجماع، والتعب... قصداً.
وقال: إن صحة البدن إذا كانت في الغاية كان أشد خطراً.
وقال: إن الطب هو حفظ الصحة بما يوافق الأصحاء، ودفع المرض بما يضاده.
وقال: من سقى السم من الأطباء، وألقى الجنين، ومنع الحمل، واجترأ على المريض... فليس من شيعتي؛ وله أيمان معروفة على هذه الشرائط. وكتبه معروفة كثيراً في الطب.
وقال في الطبيعة: إنها القوة التي تدبر الجسم من الإنسان، فتصوره من النطفة إلى تمام الخلقة؛ خدمة للنفس في إتمام هيكلها، ولا تزال هي المدبرة له غذاء من الثدي وبعده مما به قوامه من الأغذية. ولها ثلاث قوى: المولدة، والمربية، والحافظة. ويخدم الثلاث أربع قوى: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة.
حكم ديمقريطيس وهو من الحكماء المعتبرين في زمان بهمن بن اسفنديار، وهو وبقراط كانا في زمان واحد قبل أفلاطون، وله آراء في الفلسفة؛ وخصوصاً في مبادئ الكون والفساد. وكان أرسطوطاليس يؤثر قوله على قول أستاذه أفلاطون الإلهي؛ وما أنصف.

قال ديمقريطيس: إن الجمال الظاهر يشبه به المصورون بالأصباغ، ولكن الجمال الباطن لا يشبه به إلا من هو له بالحقيقة، وهو مخترعه ومنشئه.
وقال: ليس ينبغي أن تعد نفسك من الناس ما دام الغيظ يفسد رأيك، ويتبع شهوتك.
وقال: ليس ينبغي أن يمتحن الناس في وقت ذلتهم بل في وقت عزتهم وملكهم؛ ومنا أن الكير يمتحن به الذهب، كذلك الملك يمتحن به الإنسان؛ فيتبين خيره وشره.
وقال: ينبغي أن تأخذ في العلوم بعد أن تنفي عن نفسك العيوب، وتعودها الفضائل؛ فإنك إن لم تفعل هذا لم تنتفع بشيء من العلوم.
وقال: من أعطى أخاه المال فقد أعطاه خزائنه، ومن أعطاه علمه ونصيحته فقد وهب له نفسه.
وقال: لا ينبغي أن تعد النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعاً، ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم ضرراً، ولا الحياة التي لا تحمد أن تعد حياة.
وقال: مثل من قنع بالاسم، كمثل من قنع عن الطعام بالرائحة.
وقال: عالم معاند خير من جاهل منصف.
وقال: ثمرة الغرة التواني، وثمرة التواني الشقاء، وثمرة الشقاء ظهور البطالة، وثمرة البطالة: السفه، والعبث، والندامة، والحزن.
وقال: يجب على الإنسان أن يطهر قلبه من المكر والخديعة؛ كما يطهر بدنه من أنواع الخبث.
وقال: لا تطمع أحداً أن يطأ عقبك اليوم؛ فيطأك غداً.
وقال: لا تكن حلواً جداً لئلا تبلع، ولا مراً جداً لئلا تلفظ.
وقال: ذنب الكلب يكسب له الطعام، وفمه يكسب له الضرب.
وكان بأثينية نقاش غير حاذق، فأتى ديمقريطيس. وقال: جصص بيتك فاصوره، قال: صوره أو لا حتى أجصصه.
وقال: مثل العلم مع من لا يقبل وإن قبل لا يعمل؛ كمثل دواء مع سقيم وهو لا يداوي به.
وقيل له: لا تنظر؛ فغمض عينيه، قيل له: لا تسمع؛ فسد أذنيه، قيل له: لا تتكلم؛ فوضع يده على شفتيه، قيل له: لا تعلم؛ قال: لا أقدر... وإنما أراد به: أن البواطن لا تندرج تحت الاختيار؛ فأشار إلى ضرورة السر، واختيار الظاهر.
ولما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه، وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه؛ فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله؛ لاستحالة أن يكون الفاعل أصله. ولهذا الكلام شرح آخر؛ وهو أنه أراد التمييز بين العقل والحس؛ فإن الإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه، وإذا حصل لن يتصور نسيانه بالاختيار والإعراض عنه؛ بخلاف الإدراك الحسي. وهذا يدل على أن العقل ليس من جنس الحس، ولا النفس من حيز البدن.
وقد قيل: إن الاختيار في الإنسان مركب من افعالين: أحدهما انفعال نقيصة، والثاني انفعال تكامل، وهو إلى الانفعال الأول أميل بحكم الطبيعة والمزاج، والآخر ضعيف فيه إلا إذا وصل إليه مدد من جهة العقل والتمييز والنطق؛ فمتى وقف هذا المدد من القوة الاختيارية كانت الغلبة للانفعال الآخر، ولولا تركب الاختيار عن هذين الانفعالين أو انقسامه إلى هذين الوجهين؛ لتأتى للإنسان جميع ما يقصده بالاختيار؛ بلا مهلة ولا ترجح، ولا هنية ولا تريح، ولا استشارة ولا استخارة.
وهذا الرأي الذي رآه هذا الحكيم: لم أجد أحداً أبه له ولا عثر عليه، أو حكم به وأومأ إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم أوقليدس وهو أول من تكلم في الرياضيات وأفرده علماً نافعاً في العلوم، منقحاً للخاطر، ملقحاً للفكر. وكتابه معروف باسمه؛ وكذلك حكمته.
وقد وجدنا له حكماً متفرقة؛ فأوردناها على سوق مرامنا، وطرد كلامنا. فمن ذلك قوله: الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية.
وقال له رجل يتهدده: إني لا آلو جهداً في أن أفقدك حياتك، قال أوقليدس: وأنا لا آلو جهداً في أن أفقدك غضبك.
وقال: كل أمر تصرفنا فيه وكانت النفس الناطقة هي المقدرة له فهو داخل في الأفعال الإنسانية، وما لم تقدره النفس الناطقة فهو داخل في الأفعال البهيمية.
وقال: من أراد أن يكون محبوبه محبوبك وافقك على ما تحب؛ فإذا اتفقتما على محبوب واحد صرتما إلى الاتفاق.
وقال: إفزع إلى ما يشبه الرأي العام التدبيري العقلي، واتهم ما سواه.
وقال: كل ما أستطيع خلعه ولم يضطر إلى لزومه المرء فلم الإقامة على مكروهه؟.
وقال: الأمور جنسان: أحدهما يستطاع خلعه والمصير إلى غيره، والآخر منهما غير سائغ في الرأي.

وقال: إن كانت الكائنات من المضطرة فما الاهتمام بالمضطر إذ لا بد منه؟ وإن كانت غير مضطرة فلم الهم فيما يجوز الانتقال عنه؟ وقال: الصواب إذا كان عاماً كان أفضل؛ لأن الخاص يقع بالتحري وتلقاء أمر ما.
وقال: العمل على الإنصاف ترك الإقامة على المكروه؛ وقال: إذا لم يضطرك إلى الإقامة عليه شيء فإن أقمت رجعت باللائمة عليك.
وقال: الحزم هو العمل على أن لا تثق بالأمور التي في الإمكان عسرها ويسرها.
وقال: كل فائت وجدت في الأمور منه عوضاً أو أمكنك اكتساب مثله؛ فما الأسف على فوته؟ وإن لم يكن منه عوض ولا يصاب له مثل؛ فما الأسف على ما لا سبيل إلى مثله والإمكان في دعه.
وقال: لما علم العاقل أنه لا ثقة بشيء من أمر الدنيا: ألقى منها ما منه بد واقتصر على ما لا بد منه، وعمل فيما يوثق به بأبلغ ما قدر عليه، وقال: إذا كان الأمر تمكنا فيه التصرف فوقع بحال ما تحب فاعتده رحاً، وإن وقع بحال ما تكره فلا تحزن؛ فإنك قد كنت عجلت فيه على غير ثقة بوقوعه على ما تحب. وقال: لم أر أحداً إلا ذاما للدنيا وأمورها إذ هي على ما هي من التغير والتنقل، فالمستكثر منها يلحقه أن يكون أشد اتصالا بما يذم؛ وإنما يذم الإنسان ما يكره، والمستقل منها مستقل مما يكره، وإذا أستقل مما يكره كان ذلك أقرب إلى ما يحب. وقال: أسوأ الناس حالا من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله.
وقال: الجشع بين شرين؛ فالإعدام يخرجه إلى السفه، والجدة تخرجه إلى الأشر.
وقال: لا تعن أخاك على أخيك في خصومة؛ فإنهما يصطلحان عن قليل وتكتسب المذمة.
حكم بطلميوس وهو صاحب المجسطى الذي تكلم في هيئات الفلك، واخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل.
فمن حكمه أنه قال: ما أحسن الإنسان أن يصبر عما اشتهى، وأحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي.
وقال: الحليم الذي إذا صدق صبر؛ لا الذي إذا قذف كظم.
وقال: لمن يغني الناس ويسأل أشبه بالملوك ممن يستغني بغيره ويسأل.
وقال: لان يستغني الإنسان عن الملك أكرم له من أن يستغني به.
وقال: موضع الحكمة من قلوب الجهال؛ كموقع الذهب والجوهر من ظهر الحمار.
وسمع جماعة من أصحابه وهم حول سرادقه يقعون فيه ويثلبونه، فهز رمحاً كان بين يديه؛ ليعلموا أنهم بمسمع منهم، وأن يتباعدوا عن قيد رمح، ثم يقولوا ما أحبوا.
وقال: العلم من موطنه كالذهب في معدنه: لا يستنبط إلا بالدءوب، والتعب، والكد، والنصب؛ ثم يجب تخليصه بالفكر، كما يخلص الذهب بالنار.
وقال بطلميوس: دلالة القمر في الأيام أقوى. ودلالة الشمس والزهرة في الشهور أقوى، ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى.
ومما ينقل عنه أنه قال: نحن كائنون في الزمن الذي يأتي بعد؛ وهذا رمز إلى المعاد؛ إذ الكون والوجود الحقيقي: ذلك الكون، والوجود في ذلك العالم.
حكم أهل المظال ومنهم خروسيبس وزينون وقولهما الخالص: إن الباري تعالى المبدع الأول: واحد محض، هو، إن فقط؛ أبدع العقل والنفس دفعة واحدة، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما؛ وفي بدء ما أبدعهما، أبدعهما جوهرين لا يجوز عليهما الدثور والفناء.
وذكروا: أن للنفس جرمين: جرم من النار والهواء، وجرم من الماء والأرض؛ فالنفس متحدة بالجرم الذي من النار والهواء، والجرم الذي من النار والهواء متحد بالجرم الذي من الماء والأرض، والنفس تظهر أفاعيلها في ذلك الجرم، وذلك الجرم ليس له طول ولا عرض، ولا قدر مكاني؛ وباصطلاحنا سميناه جسماً؛ وأفاعيل النفس فيه نيرة بهية، ومن الجسم إلى الجرم ينحدر: النور، والحسن، والبهاء... ولما ظهرت أفاعيل النفس عندنا بمتوسطين؛ كانت أظلم، ولم يكن لها نور شديد.
وذكروا: أن النفس إذا كانت طاهرة زكية استخصت الأجزاء النارية والهوائية، وهي جسمها؛ واستصحبت في ذلك العالم جسماً روحانياً، نورانياً، علوياً، طاهراً، مهذباً من كل ثقل وكدر.
وأما الجرم الذي من الماء والأرض فيدثر ويفنى؛ لأنه غير مشاكل للجسم السماوي؛ لأن ذلك الجسم خفيف، لطيف، لا وزن له، ولا يلمس؛ وإنما يدرك من البصر فقط، كما تدرك الأشياء الروحانية من العقل؛ فألطف ما يدرك الحس البصري من الجواهر هي النفسانية، وألطف ما يدرك من إبداع الباري تعالى الآثار التي عند العقل.

وذكروا أن النفس ما هي مستطيعة، ما خلاها الباري تعالى أن تفعل؛ وإذا ربطها فليست بمستطيعة، كالحيوان الذي إذا خلاه مدبره أعني الإنسان كان مستطيعاً في كل ما دعي إليه؛ وتحرك إليه، وإذا ربطه لم يقدر حينئذ أن يكون مستطيعاً.
وذكروا: أن دنس النفس وأوساخ الجسد إنما تكون لازمة للإنسان من جهة الأجزاء، وأمات التطهير والتهذيب فمن جهة الكل؛ لأنه إذا انفصلت النفس الكلية إلى النفس الجزئية والعقل الجزئي من العقل الكلي : غلظت، وصارت من حيز الجرم؛ لأنها كلما سفلت اتحدت بالجرم، والجرم من حيز الماء والأرض، وهما ثقيلان يذهبان سفلاً؛ وكلما اتصلت النفس الجزئية بالنفس الكلية، والعقل الجزئي بالعقل الكلي: ذهبت علواً؛ لأنها تتحد بالجسم، والجسم من حيز النار والهواء، وكلاهما لطيفان، يذهبان علواً.
وهذان الجرمان مركبان، وكل واحد منهما من جوهرين. واجتماع هذين الجرمين يوجب الاتحاد شيئاً واحداً عند الحس البصري، فأما عند الحواس الباطنة، وعند العقل فليست شيئاً واحداً، فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم؛ لأنه أشد روحانية؛ ولأن هذا العالم ليس مشاكلاً له، ولا مجانساً له، والجرم مشاكل ومجانس لهذا العالم؛ فصار لجرم أظهر من الجسم لمجانسة هذا العالم وتركيبه، وصار الجسم مستبطناً في الجرم؛ لأن هذا العالم غير مشاكل له، وغير مجانس له. فإما في ذلك العالم فالجسم ظاهر على الجرم؛ لأن ذلك العالم: عالم الجسم؛ لأنه مجانس، ومشاكل له، ويكون لطيف الجرم الذي هو من لطيف الماء والأرض المشاكل لجوهر النار والهواء مستبطناً في الجسم؛ كما كان الجسم مستبطناً في هذا العالم في الجرم. فإذا كان هذا فيما ذكروا هكذا كان ذلك الجسم باقياً دائماً، لا يجوز عليه الدثور، ولا الفناء؛ ولذته دائمة، لا تملها النفوس ولا العقول، ولا ينفد ذلك السرور والحبور. ونقلوا عن أفلاطون أستاذهم: لما كان الواحد لا بدء له؛ صار: نهاية كل متناه؛ وإنما صار الواحد لا نهاية له؛ لأنه لا بدء له، لا أنه لا بدء لهلأنه لا نهاية له.
وقال: ينبغي للمرء أن ينظر كل يوم إلى وجهه في المرآة؛ فإن كان قبيحاً: لم يفعل قبيحاً، فيجمع بين قبيحين؛ وإن كان حسناً: لم يشنه بقبيح.
وقال: إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين: إما مؤخراً في نفسه قدمه حظه، أو مقدماً في نفسه آخره دهره؛ فارضى بما أنت فيه اختياراً؛ وإلا رضيت اضطراراً.
الباب الثالث
متأخر وحكماء اليونان
وهم الحكماء الذين تلوهم في الزمان، وخالفوهم في الرأي؛ مثل أرسطو طاليس ومن تابعه على رأيه؛ مثل: الإسكندر الرومي، والشيخ اليوناني، وديوجانس الكلبي... وغيرهم؛ وكلهم على رأى أرسطو طاليس في المسائل التي تفرد بها عن القدماء.
ونحن نذكر من آرائه ما يتعلق بغرضنا: من المسائل التي شرع فيها الأوائل؛ وخالفهم المتأخرون. ونحصرها في ست عشرة مسألة. وبالله التوفيق.
رأى أرسطو طاليس بن نبقو ماخوس من أهل أسطاخرا. وهو المقدم المشهور، والمعلم الأول، والحكيم المطلق... عندهم. وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا، فلما أتت عليه سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة. وإنما سموه المعلم الأول؛ لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل؛ وحكمه حكم واضع النحو، وواضع العروض فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر. وهو واضع، لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها؛ بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين؛ حتى يكون كالميزان عندهم، يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ، والحق بالباطل. إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين، وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين. وله حق السبق، وفضيلة التمهيد. وكتبه في الطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق؛ معروفة، ولها شروح كثيرة. ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح ثامسطيوس الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم أبو علي بن سينا، وأوردنا نكتاً من كلامه في الإلهيات، وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين؛ إذ لم يخالفوه في رأي، ولا نازعوه في حكم؛ بل هم كالمقلدين له، المتهالكين عليه، وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه.

المسألة الأولى: في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول. قال في كتاب أولوجيا من حرف اللام: إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب: اثنان طبيعيان، وواحد غير متحرك. قال: إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها ة أوضاعها، ولا بد لكل متحرك من محرك، فإما أن يكون المحرك متحركاً، فيتسلسل القول فيه، ولا يتحصل؛ وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك. ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة؛ فإنه يحتاج إلى شئ آخر يخرجه من القوة إلى الفعل؛ إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل، فالفعل إذا أقدم من القوة، وما بالفعل أقدم على ما بالقوة،. وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة، وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب، وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك؛ فواجب الوجود بذاته: ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره، وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل. وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان، وذلك إذا أخذته بلا شرط، وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب، وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع.
المسألة الثانية: في أن واجب الوجود. أخذ أرسطو طاليس يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إن العالم واحد، ويقول: إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر، وأما ما هو بالآنية الأولى فليس له عنصر؛ لأنه تمام، قائم بالفعل. لا يخالط القوة، فإذاً المحرك الأول واحد بالكلمة والعدد، أي بالاسم والذات. قال: فمحرك العالم واحد؛ لأن العالم واحد. هذا نقل ثامسطيوس. وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته؛ قال: ولو كان كثيراً لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ؛ فيشملها جنساً، وينفصل أحدهما عن الآخر نوعاً؛ فتتركب ذاته من جنس وفصل، فتسبق أجزاء المركب على المركب سبقاً بالذات، فلا يكون واجباً بذاته. ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج؛ فلم يكن واجباً بذاته... هذا: خلف.
المسألة الثالثة في أن واجب الوجود لذاته: عقل لذاته، وعاقل ومعقول لذاته؛ عقل من غيره، أو لم يعقل. أما أنه عقل؛ فلأنه مجرد عن المادة، منزه عن اللوازم المادية، فلا تحتجب ذاته عن ذاته. وأما أنه عاقل لذاته؛ فلأنه مجرد لذاته. وأما أنه معقول لذاته؛ فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره. قال: الأول يعقل ذاته، ثم من ذاته يعقل كل شيء، فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة، من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول؛ وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات بل يعقلها من ذاته؛ وليس كونه عاقلاً وعقلاً: بسبب وجود الأشياء المعقولة، حتى يكون وجودها قد جعله عقلاً، بل الأمر بالعكس؛ أي عقله للأشياء جعلها موجودة. وليس للأول شيء يكمله، فهو الكامل لذاته، المكمل لغيره؛ فلا يستفيد وجوده من وجود كمالاً. وأيضاً فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء؛ لكان وجودها متقدماً على وجوده، ويكون جوهره في نفسه، وفي قوامه، وفي طباعه: أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء؛ فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه، حتى يقال: لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى، وكان فيه عدمها؛ فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادماً للمعقولات، ومن شأنه أن يكون له ذلك؛ فيكون باعتبار نفسه مخالطاً للإمكان والقوة.
وإذ فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجوداً بالفعل، فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره.
قال: وإذا عقل ذاته: عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل، وعقل كونه مبدأ، وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه؛ وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها.
قال: وإن كان ليس يعقل بالفعل، فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله؟! فيكون حاله كحال النائم، وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته، وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب.

وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريباً من هذا المعنى، فيقول: إن كان جوهره العقل وأن يعقل؛ فإما أن يعقل. ذاته، أو غيره؛ فإن كان يعقل شيئاً آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله؟، وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل؛ بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل؟ أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل؟.
فإنه لا يمكن القسم الآخر: وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر، افضل من الذي له في ذاته من حيث هو في ذاته شيء يلزمه أن يعقل، فيكون فضله وكماله بغيره. وهذا محال.
المسألة الرابعة في أن واجب الوجود لا يعتريه تغير وتأثر من غيره؛ بأن يبدع أو يعقل.
قال: الباري تعالى عظيم الرتبة جداً غير محتاج إلى غيره، ولا متغير بسبب من غيره: سواء كان التغير زمانياً، أو كان تغيراً بأن ذاته تقبل من غيره أثراً وإن كان دائماً في الزمان. وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان؛ لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير؛ لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته، وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه، ولا يكون أيضاً مناسباً للحركة، خصوصاً إن كانت بعدية زمانية. وهذا معنى قوله: إن التغير: إلى الشيء الذي هو شر.
وقد ألزم على كلامه: أنه إذا كان الأول يعقل أبداً ذاته؛ فإنه يتعب، ويكل، ويتغير، ويتأثر. وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب؛ لأنه يعقل ذاته، وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته.
قال أبو الحسين بن عبد الله بن سينا: ليست العلة أنه لذاته يعقل. أو لذاته يجب؛ بل لأنه ليس مضاداً لشيء في الجوهر العاقل؛ فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة؛ وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادت لمطلوب الطبيعة، فأما الشىء الملائم اللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه فلم يجب أن يكون تكرره متعباً.
المسألة الخامسة في أن واجب الوجود حي بذاته باق بذاته، أي كامل في أن يكون بالفعل مدركاً لكل شيء، نافذ الأمر في كل شيء.
وقال: إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس، وتحريك خسيس، وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة: هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته كل شيء، وهو باق الدهر أزلي؛ فهو حي بذاته، باق بذاته. عالم بذاته. وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا؛ من غير تكثر، ولا تغير في ذاته.
المسألة السادسة في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد.
قال: الصادر الأول هو العقل الفعال؛ لأن الحركات إذا كانت كثيرة، ولكل متحرك؛ فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات، فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان، بل جملة واحدة؛ لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك، ومتحرك متحرك، فتكثر بذاته. وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه، فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال. وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود، وباعتبار علته وجوب الوجود؛ فتتكثر ذاته لا من جهة علته، فيصدر عنه شيئان؛ ثم يزيد التكثر في الأسباب، فتتكثر المسببات، والكل ينسب إليه.
المسألة السابعة في عدد المفارقات. قال: إذا كان عدد المتحركات مرتباً على عدد المحركات؛ فتكون الجواهر المفارقة كثيرة، على ترتيب: أول، وثان؛ فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق، ومحرك آخر مزاول للحركة؛ فيكون صورة للجرم السماوي؛ فالأول عقل مفارق، والثاني نفس مزاول؛ فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة، والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة. ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر. وذلك شيء لم يكن ظاهراً في زمانه؛ وإنما ظهر بعد.
والأكر تسع؛ لما دل الرصد عليها؛ فالعقول المفارقة عشرة: تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة، وواحد هو العقل الفعال.

المسألة الثامنة في أن الأول مبتهج بذاته. قال أرسطوطاليس: اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم، وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به. فالأول مغتبط بذاته، ملتذ بها؛ لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها، وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية. بل يجب أن يسمي ذلك: بهجة، وعلاء، وبهاء. كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق؛ ونحن مصروفون عنه، مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس؛ وذلك لضعف عقولنا، وقصورنا في المعقولات، وانغماسنا في الطبيعة البدنية؛ لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول، فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جداً، وهذه الحال له أبداً، وهو لنا غير ممكن؛ لأنا مذنبون، ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفه وخلسة.
المسألة التاسعة في صدور نظام الكل، وتربيته عنه.
قال: قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب: اثنان طبيعيان، وواحد غير متحرك. وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك، وأما الاثنان الطبيعيان فهما: الهيولى والصورة، أو العنصر والصورة، وهما مبدأ الأجسام الطبيعية. وأما العدم فيعد من المبادئ بالعرض لا بالذات. فالهيولى جوهر قابل للصورة، والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعاً؛ كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه، والعدم ما يقابل الصورة؛ فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة. والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة، والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة.
قال: وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرماً ذا طول وعرض وعمق؛ وهي الهيولى الثانية، وليست بذات كيفية. ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان، والرطوبة واليبوسة المنفعلتان؛ فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي النار، والهواء، والماء والأرض؛ وهي الهيولى الثالثة. ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون، والفساد، ويكون بعضها هيولى بعض.
قال: وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس؛ وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط، فلم نقدر في الوجود جوهراً مطلقاً قابلاً للأبعاد ثم لحقته الأبعاد، ولا جسماً عارياً عن هذه الكيفيات ثم عرض له ذلك؛ وإنما هو عند نظرنا هو أقدم بالطبع، وأبسط في الوهم والعقل.
ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد، ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير، وهي طبيعة السماء. وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع؛ بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه. ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة، ويتحرك بحركة خاصة. ولكل متحرك محرك مزاول، ومحرك مفارق. والمتحركات أحياء ناطقون، والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر، وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك. فترتيب العالم كله علوية وسفلية على نظام واحد، وصار النظام في الكل: محفوظاً بعناية المبدأ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام، متوجهاً إلى الخير. وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على موع نوع ليس على ترتيب المساواة؛ فليس حال السباع كحال الطير، ولا حالها كحال النبات، ولا حال النبات كحال الحيوان.

قال: وليس مع هذا التفاوت منقطعاً بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض، بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل، تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود؛ على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه. قال: وترتيب الطباع في الكل كترتيب المزل الواحد من الأرباب، والأحرار، والعبيد، والبهائم، والسباع؛ فقد جمعهم صاحب المنزل، ورتب لكل واحد منهم مكاناً خاصاً، وقدر له عملاً خاصاً. ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا؛ فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام. فهم وإن اختلفوا في مراتبهم، وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم: منتسبون إلى مبدأ واحد، صادرون عن رأيه وأمره، مصرفون تحت حكمه وقدره؛ فكذلك تجري الحال في العالم؛ بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة؛ مثل السماوات، ومحركاتها، ومدبراتها، وما قبلها منن العقل الفعال. وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع والإرادة والجبر الممزوج بالاختيار. ثم ينسب الكل إلى عناية الباري جلت عظمته.
المسألة العاشرة في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير، والشر واقع في القدر بالعرض.
قال: لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان؛ لا لإرادة وقصد أمر في السافل حتى يقال: إنما أبدع العقل مثلاًلغرض في السافل؛ حتى يفيض مثلاً على السافل فيضاً، بل لأمر أعلى من ذلك، وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض؛ فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق، ثم توجهت إلى لخير؛ لأنها صادرة عن أصل الخير، وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد.
ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسباب السافلة دون العالية التي كلها خير؛ مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيراً ونظاماً للعالم، فيتفق أن يخرب به بيت عجوز؛ فإن وقع كان ذلك واقعاً بالعرض لا بالذات، أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي؟؛ فإن فقدان المطر أصلاً شر كلي، وتخريب بيت عجوز شر جزئي، والعالم للنظام الكلي لا الجزئي؛ فالشر إذاً: واقع في القدر بالعرض.
وقال: إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب، وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض، وإفاضة على بعض. فالدرجة الأولى احتمالها على نحو أفضل، والثانية دون ذلك. والذي عندنا من العناصر دون الجميع؛ لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له، ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان؛ لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول والثاني. قال: إنا لم نجز الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم.
المسألة الحادية عشرة في كون الحركات سرمدية، وأن الحوادث لم تزل.
قال: إن صدور الفعل عن الحق الأول إنما يتأخر لا بزمان، بل بحسب الذات. والفعل ليس مسبوقاً بعدم، بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط. ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبيلة وكانت القبيلة في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني، وأن تقدمه تقدم زماني. قال: ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك.

ثم نقول: الحركات لا تخلو: إما ان تكون لم تزل، أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن؛ وقد كان المحرك لها موجوداً بالفعل، قادراً، ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه، ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل؛ إذاً: كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه، وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه. ولا يمكن أن يقال: قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر، أو لم يرد فأراد، أو لم يعلم فعلم؛ فإن ذلك كله يوجب الاستحالة، ويوجب أن يكون شيئاً آخر غيره هو الذي أحاله. وإن قلنا: إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى، والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركاً. وبالجملة: كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك؛ وإلا فالإرادة الكلية، والقدرة الشاملة، والعلم الواسع العام: ليس يختص بزمان دون زمان، بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة؛ فلا بد لكل حادث من سبب حادث، ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة.
قال: وإذا كان لا بد من محرك للمحركات، ومن حامل للحركات: تبين أن المحرك سرمدي، والحركات سرمدية؛ فالمتحركات سرمدية. فإن قيل: إن حامل الحركة وهو الجسم لم يحدث، لكنه تحرك عن سكون: وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة. فإن قلنا: إن ذلك الجسم حدث؛ فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة. فقد بان: أن الحركة، والمتحرك، والزمان الذي هو عاد للحركة: أزلية سرمدية.
والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة، والاتصال لا يكون إلا للمستديرة؛ لأن المستقيم ينقطع، والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية؛ فإن الذي يسكن ليس بأزلي، والزمان متصل؛ لأنه لا يمكن أن يكون قطعاً مبتورة، فيجب من ذلك أن تكون هي أزلية، فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضاً أزلياً؛ إذ لا يكون ما هو أخس علة لما هو أفضل، ولا فائدة في محركات ساكنة غير محركة كالصور الأفلاطونية؛ فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك.
المسألة الثانية عشرة في كيفية تركب العناصر.
حكى فرفوريوس عنه أنه قال: كل موجود ففعله مثل طبيعته، فما كانت طبيعته بسيطة؛ ففعله بسيط. والله تعالى واحد بسيط؛ ففعل الله تعالى واحد بسيط، وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود؛ فإنه موجود. لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضاً بالحركة؛ وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجوداً من ذاته بمنزلة الوجود الأول الحق، لكن من التشبه بذلك الأول الحق. وكل حركة تكون: إما أن تكون مستقيمة، أو مستديرة؛ فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية، والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي: الطول، والعرض، والعمق: على خطوط مستقيمة، حركة متناهية، فيصير بذلك جسماً. وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية، ولا يسكن في وقت من الأوقات، إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة؛ وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه: كالنقطة؛ فانقسم الجوهر، فمتحرك بعضه على الاستدارة وهو الفلك، وسكن بعضه في الوسط.
قال: وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً وفي طبيعته قبول التأثير منه أحدث سخونة فيه، وإذا سخن: لطف، وانحل، وخف؛ فكانت طبيعة النار تلي الفلك المتحرك. والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار؛ فتكون حركته أقل، فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه، فيسخن دون سخونة النار، وهو الهواء. والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له، فهو بارد لسكونه، ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب؛ ولذلك انحل قليلاً؛ وهو الماء. والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك، ولم يستفد من حركته شيئاً، ولا قبل منه تأثيراً، فيبس وبرد؛ وهو الأرض.
وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها عن بعض. وتختلط: يتولد عنها أجسام مركبة، وهي المركبات المحسوسات، التي هي: المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان. ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضاً خاصاً على ما قدر الباري جلت قدرته.
المسألة الثالثة عشرة في الآثار العلوية.

قال أرسطوطاليس: الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين: أحدهما: أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها.
والثاني: أبخرة مائية؛ فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية، فتتكاثف، وتجتمع بسبب ريح أو غيرها، فتصير ضباباً أو سحاباً، فتصادفها برودة، فتعصر ماءً، وثلجاً، وبرداً؛ فتنزل إلى مركز الماء، وذلك لاستحالة الأركان بعضها عن بعض؛ فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد، كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل. ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد، ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق. وقد يكون من الأدخنة ما تكون الهنية، على مادتها أغلب، فيشتعل، فيصير شهاباً ثاقباً، وهي الشهب. ومنها ما يحترق في الهواء، فيتحجر، فينزل: حديداً، أو حجراً. ومنها ما يحترق ناراً، فيدفعها دافع، فينزل صاعقة. من المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال؛ ووقف تحت كوكب، ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك، فكان ذنباً له. وربما كان عريضاً؛ فرئي كأنه لحية كوكب، وربما وقع صقيل الظاهر من السحاب صور اليرات وأضواؤها، كما يقع على المرائي والجدران الصقيلة؛ فيرى ذلك على أحوال مختلفة، بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها، وصفائها وكدورتها؛ في: هالة، وقوس قزح، وشموس، وشهب، والمجرة. وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية والسماء والعالم وغيرهما.
المسألة الرابعة عشرة في النفس الإنسانية الناطقة، واتصالها بالبدن.
قال: النفس الإنسانية ليست بحسم ولا قوة في جسم، وله في إثباتها مآخذ: منها الاستدلال على وجودها بالحركات الاختيارية، ومنها الاستدلال عليها بالتصورات العلمية.
أما الأول فقال: لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية؛ إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية: لتحركت إلى جهة واحدة لا تختلف البتة، فلما تحركت إلى جهات متضادة: علم أن حركاته اختيارية. والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان، إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر، فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال، وهو في معرفته في عاقبة كل حال. والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج؛ فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص؛ كما تميز الحيوان عن سائر الموجودات بنفس خاص.
وأما الثاني وهو المعول عليه قال: إنا لا نشك أنا نعقل ونتصور أمراً معقولاً صرفاً؛ مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع، ومحل هذا المعقول جوهر ليس بحسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم؛ فإنه إن كان جسماً فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفاً منه لا ينقسم، أو جملته المنقسمة. وبطل أن يكون طرفاً منه غير منقسم؛ فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط؛ فإن الطرف نهاية الخط، والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى، وإلا تسلسل القول فيه؛ فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية، وذلك محال. وإن كل محل المعقول من الجسم شيئاً ينقسم. فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله، ومن المعقولات ما لا ينقسم البتة؛ فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئاً كالشكل والمقدار. والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع، ولا كمقدار قابل للفصل. فتبين أن النفس ليست بجسم، ولا قوة في جسم، ولا صورة في جسم.
المسألة الخامسة عشرة في وجه اتصالها بالبدن، ووقت اتصالها.
قال: إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه، ولا حلول فيه؛ بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف. وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده؛ قال: لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت متكثرة بذواتها، وإما متحدة. وبطل الأول؛ فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة، وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها؛ فلا تكثر فيها ولا تمايز. وإما أن تكون متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة. وهذا محال أيضاً؛ فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة، وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها، وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل، والقوابل، والمنفعلات عنها؛ وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة وكاثرة.

ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة؛ فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتاً منفردة باختلاف موادها التي كانت، وباختلاف أزمنة حدوثها، وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن؛ فهي حادثة مع حدوث البدن، تصيره نوعاً كسائر الفصول الذاتية؛ وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له: لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن. وبهذا الدليل: فارق أستاذه. وفارق قدماءه.
وقد وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان. فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور؛ كما يقال: إن النار موجودة في الحجر والشجر، أو الإنسان موجود في النطفة، والنخلة موجودة في النواة، والضياء موجود في الشمس. ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها، وقال: اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها غيرها، فليست متفقة بالنوع؛ أعني: النوع الأخير. ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها، وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متميزة في المادة: كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان، والصنائع، والأفعال، واستعداد كل نفس لصنعة خاصة، أو علم خاص؛ فتنهض هذه فصولاً ذاتية أو عوارض لازمة لوجودها.
المسألة السادسة عشرة في بقائها بعد البدن، وسعادتها في العالم العقلي.
قال: إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى، وو صلت إلى كمالها؛ وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد، وإما بحسب الاجتهاد، فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين، وانخرط في سلك الملائكة المقربين. ويتم له التذاذ والابتهاج. وليس كل لذة فهي جسمانية؛ فإن تلك اللذات نفسانية عقلية، وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد، ويعرض للملتذ سآمة، وكلال، وضعف، وقصور... إن تعدى عن الحد المحدود؛ بخلاف اللذات العقلية؛ فإنها حيثما ازدادت: ازداد الشوق، والحرص، والعشق... إليها.
وكذلك القول في الآلام النفسانية؛ فإنها تقع بالضد مما ذكرنا. ولم يحقق المعاد إلا للأنفس، ولم يثبت حشراً، ولا نشراً، ولا إحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم، ولا إبطالاً لنظامه؛ كما ذكره القدماء.
فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة، وأكثرها من شرح ثامسيطيوس وكلام الشيخ أبي على بن سينا الذي يتعصب له، وينصر مذهبه، ولا يقول من القدماء إلا به.
وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء الله تعالى. ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده، دون الآراء العلمية؛ إذ لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد.
ووجدت كلمات وفصولاً للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة، فنقلتها على الوجه الذي وجدت، وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسيطيوس واعتمده ابن سينا: منها في حدوث العالم؛ قال: الأشياء المحمولة، أعني الصور المتضادة فليس يكون أحدهما من صاحبه، بل يجب أن يكون بعد صاحبه، قيتعاقبان على المادة؛ فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل. وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء؛ لأن الدثور غاية، وهو أحد الجنبين: يدل على أن جائياً جاء به. فقد صح أن الكون حادث لا من شيء، وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها، وحمله إياها وهي ذات بدء وغاية يدل على أن حواملها ذو بدء وغاية، وأنه حادث لا من شيء، ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية؛ لأن الدثور آخر، والآخر ما كان له أول، فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما؛ لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان شيء.
وخروج الشيء من حد إلى حد ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية، وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره، وحدوث أحواله يدل على ابتدائه، وابتداء جزئه يدل على بدء كله، وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلاً له، وكان له بدء يقبل الفساد وآخر يستحيل إلى كون؛ فالبدء والغاية يدلان على مبدع.

وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس وقال: إذا كان لم يزل ولاشيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال له: لم غير جائزة عليه؛ لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه، ولا علة فوقه؛ وليس بمركب فتحمل ذاته العلل؛ فلم عنه منتفية، فإنما فعل ما فعل؛ لأنه جواد، فقيل: فيجب أن يكون فاعلاً لم يزل؟ قال: معنى لم يزل أن لا أول، وفعل يقتضي أولاً، واجتماع ما لا أول له وذو أول في القول والذات محال متناقص، قيل له: فهل يبطل هذا العالم؟، قال: نعم، قيل فإذا أبطله بطل الجود؟، قال: سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد.تم كلامه ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس قاله لبقراطيس؛ وهو بكلام الماء أشبه.
ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة؛ قال: الحار: ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض، وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض. وقال: البارد: ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس؛ لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليداً: اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما.
قال: والرطب: العسير الانحصار من ذاته اليسير الانحصار من ذات غيره، واليابس: اليسير الإنحصار من ذاته العسير الانحصار من ذات غيره؛ والحدان الأولان يدلان على الفعل، والآخران يدلان على الانفعال. ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة: أن مبادئ الأشياء هي العناصر الأربعة. وعن بعضهم: أن المبدأ الأول هو ظلمة وهاوية، وفسره بفضاء، وخلاء، وعماية. وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها: الظلمة الخارجة.
ومما خالف أرسطو طاليس أستاذه أفلاطون: أن أفلاطون قال: من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه؛ فخالفه وقال: إذا كان الطبع سليماً صلح لكل شيء. وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كلل نوع لشيء ما لا يتعداه، وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد، وإذا تهيأ صنف لشيء: تهيأ له كل النوع. والله الموفق.
حكم الإسكندر الرومي وهو ذو القرنين الملك، وليس هو المذكور في القرآن؛ بل هو ابن فيلبوس الملك. وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. سلمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس، فاقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ، ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه، فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها، فلما وصل إليه جدد العهد له، وأقبل عليه، واستولت عليه العلة؛ فتوفي منها، واستقل الإسكندر بأعباء الملك.
فمن حكمه أنه سأله معلمه وهو في المكتب إن أفضي إليك هذا الأمر يوماً ما فأين تضعني؟ قال: بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت.
وقيل له: إنك تعظم مؤد بك أكثر تعظيمك والدك! قال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية، ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية؛ وفي رواية: لأن أبي كان سبب حياتي، ومؤدبي سبب تجويد حياتي؛ وفي رواية: لأن أبي كان سبب كوني ومؤدبي كان سبب نطقي. وقال أبو زكريا الصيمري: لو قيل لي هذا لقلت: لأن أبي كان قضى وطراً بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد.
وجلس الإسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة، فقال لأصحابه: والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي، قيل: ولم أيها الملك؟ قال؛ لأن الملك هذا اليوم من أيام عمري في ملكي، قيل: ولم أيها الملك؟ قال؛ لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل، وإغاثة الملهوف، ومكافأة المحسن؛ وإلا بإنالة الراغب، وإسعاف الطالب.
وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل... اجمع في سياستك بين: بدار لا حدة فيه، وريث لا غفلة معه، وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته، وصن وعدك عن الخلف؛ فإنه شين، وشب وعيدك بالعفو؛ فإنه زين، وكن عبداً للحق؛ فإن عبد الحق حر، وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق؛ ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها. وأظهر لأهلك أنك منهم، ولا صحابك أنك بهم، ولرعيتك أنك لهم.
وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالاً وتعظيماً، فقال: لا سجود لغير بارئ الكل؛ بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل.

وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب، فقال له الإسكندر: دعه: لا تنحط إلى دناءته، ولكن ارفعه إلى شرفك.
وقال الإسكندر: من كنت تحب الحياة لأجله؛ فلا تستعظم الموت بسببه. وقيل له: إن روشنك امرأتك: بنت دارا الملك، وهي من أجمل النساء؛ فلو قربتها إلى نفسك! قال: أكره أن يقال: غلب الإسكندر دارا وغلبت روشنك الإسكندر.
وقال: من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين، وأن يبطئوا عن العقوبة.
وقال: سلطان العقل على باطن العاقل أشد تحكماً من سلطان السيف على ظاهر الأحمق.
وقال: ليس الموت بألم للنفس؛ بل للجسد.
وقال: الذي يريد أن ينظر إلى أفعال الله عز وجل مجردة؛ فليعف عن الشهوات.
وقال: إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوي؛ لأنها أمثال له بحق.
وقال: العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء؛ بل الجسد يألم ويسأم.
وقال: النظر في المرآة يرى رسم الوجه؛ وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس.
ووجدت في عضده صحيفة فيها: قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم، والاتكال على القدر أروح، وعند حسن الظن تقر العين، ولا ينفع مما هو واقع التوقي.
وقال بعضهم عنه: إنه أخذ يوماً تفاحة فقال: ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها، وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية: من تركيب بسيط، وبسط مركب، حسب تمثيل النفس لها؛ كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل. ولو قيل: وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية، وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية: من تركيب بسيط، وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها؛ وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل.
وسأله أطوسايس الكلي أن يعطيه ثلاث حبال فقال الإسكندر: ليست هذه عطية ملك، فقال الكلبي: أعطني مائة رطل من الذهب، فقال: ولا هذه مسألة كلبي.
وقال بعضهم: كنا عند شبر المنجم إذا وصل إلينا الإسكندر الملك، فأقامنا في جوف الليل، وأدخلنا بستاناً له؛ ليرينا النجوم، فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر، فقال: من تعاطى علم ما فوقه، بلى بجهل ما تحته.
وقال السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه؛ لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه.
وقال استقلل كثير ما تعطى، واستكثر قليل ما تأخذ؛ فإن قرة عين الكريم فيما يعطي، ومسرة اللئيم فيما يأخذ. ولا تجعل الشحيح أميناً، ولا الكذاب صفياً فإنه لا عفة مع شح، ولا أمانة مع كذب.
وقال: الظفر: بالحزم، والحزم: بإحالة الرأي، وإحالة الرأي: بتحصين الأسرار.
ولما توفي الإسكندر برومية المدائن: وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية، وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة، وملك اثنتي عشرة سنة وندب جماعة من الحكماء لندبته.
فقال بليموس: هذا يوم عظيم العبرة: أقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على من زال ملكه؛ فليبكه.
وقال ميلاطوس: خرجنا إلى الدنيا جاهلين، وأقمنا فيها غافلين، وفارقناها كارهين.
وقال زينون الأصغر: يا عظيم الشأن! ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل، فما تحس لملكك أثراً، ولا نعرف له خيراً.
وقال أفلاطون الثاني: أيها الساعي المغتصب! جمعت ما خذلك، وتوليت ما تولى عنك؛ فلزمتك أوزاره، وعاد على غيرك مهنئوه وثماره.
وقال فوطس: ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختياراً، حتى وعظنا بنفسه اضطراراً!.
وقال مسطورس: قد كنا ب الأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول، واليوم نقدر على القول؛ فهل نقدر على الاستماع؟.
وقال ثاون: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظل الغمام كيف انجلى؟.
وقال سوس: كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات، فكيف لم يدفع عن نفسه بالموت؟.
وقال حكيم: طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى منها في ذراعين.
وقال آخر: ما سافر الإسكندر سفراً بلا أعوان، ولا آلة ولا عدة... غير سفره هذا.
وقال آخر: ما ارغبنا فيما فارقت، وأغفلنا عما عاينت.
وقال آخر: لم يؤدينا بكلامه كما أدبنا بسكوته.
وقال آخر: من يرى هذا الشخص فليتق، وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها.
وقال آخر: قد كان بالأمس طلعته علينا حياة، واليوم النظر إليه سقيم.
وقال آخر: قد كان يسأل عما قبله، ولا يسال عما بعده.

وقال آخر: من شدة حرصه على الارتفاع انحط كله.
وقال آخر: الآن تضطرب الأقاليم؛ لأن مسكنها قد سكن.
وقال آخر: الآن وقت الانصراف؛ لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار، والله تعالى يبقى ولا يفنى.
حكم ديوجانس الكلبي وكان حكيماً فاضلاً متقشفاً، لا يقتني شيئاً، ولا يأوي إلى منزل، وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر. قال: ليس الله تعالى علة الشرور، بل الله تعالى علة الخيرات والفضائل، والجود، والعقل... جعلها بين خلقه، فمن كسبها وتمسك بها نالها؛ لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها.
وسأله الإسكندر يوماً فقال: بأي شيء يكتسب الثواب؟ قال: بأفعال الخيرات، وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها.
وسأله عصبة من أهل الجهل: ما غذاؤك؟، قال: ما عفتم؛ يعني الحكمة.
قالوا: فما عفت؟ قال: ما استطبتم؛ يعني الجهل. قالوا: كم عبد لك؟ قال: أربابكم؛ يعني: الغضب، والشهوة، والأخلاق الرديئة الناشئة منهما. وقالوا له يوماً: ما أقبح صورتك! قال: لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها. ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها، وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق وقاصية الجهد؛ واستكملتم شين ما في ملككم.
قالوا: فما الذي في الملك من التزيين والتهجين؟ قال: أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة. وجلاء العقل بالأدب، وقمع الشهوة بالعفاف، وردع الغضب بالحلم، وقطع الحرص بالقنوع، وإماتة الحسد بالزهد، وتذليل المرح بالسكون، ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات، وهجر الدنيات. ومن التهجين: تعطيل الذهن من الحكمة، وتوسيخ العقل بضياع الأدب، وإثارة الشهوة بأتباع الهوى، وإضرام الغضب بالانتقام، وإمداد الحرص بالطلب.
وقدم إليه رجل طعاماً وقال له: استكثر منه؛ فقال: عليك بتقديم الأكل، وعلينا باستعمال العدل.
وقال زمام العافية بيد البلاء، ورأس السلامة تحت جناح العطب، وباب الأمن مستور بالخوف؛ فلا تكون في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها.
وقيل له: مالك لا تغضب؟ قال: أما غضب الإنسانية فقد أغضبه، وأما غضب البهيمة فقد تركته؛ لترك الشهوة البهيمة.
واستدعاه الملك الإسكندر يوماً إلى مجلسه؛ فقال للرسول: قل له: إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك؛ منعك استغناؤك عني بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي.
وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة؛ فقال: منظر الرجال بعد المخبر، ومخبر النساء بعد المنظر؛ فخجلت، وتابت.
ووقف عليها الإسكندر يوماً فقال له: ما تخافني؟ قال: أنت خير أم شرير؟ قال: بل خير، قال: فما لخوفي من الخير معنى؛ بل يجب على رجاؤه.
وكان لأهل مدينة من بلاد اليونان صاحب جيش جبان، وطبيب لم يعالج أداً إلا قتله؛ فظهر عليهم عدو، ففزعوا إليه؛ فقال: اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو، واجعلوا صاحب جيشكم طبيب.
وقال: اعلم أنك ميت لا محالة، فاجتهد أن تكون حياً بعد موتك؛ لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية.
وقال كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب؛ كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب.
وسئل عن العشق؟ فقال: هو اختيار صادف نفساً فارغة.
ورأى غلاماً معه سراج، فقال له: تعلم من أين تجيء هذه النار؟ فقال له الغلام: إن أخبرتني إلى أين تذهب، أخبرتك من أين تجيء؛ فأعياه وأفحمه، بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد.
ورأى امرأة قد حملها الماء، فقال: على هذا المعنى جرى المثل: دع الشر يغسله الشر.
ورأى امرأة تحمل ناراً، فقال: نار على نار، وحامل شر من محمول.
ورأى امرأة متزينة في ملعب، لم تخرج لترى، ولكن لتري.
ورأى نساءً يتشاورن، فقال: على هذا جرى المثل: هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سماً.
ورأى جارية تتعلم الكتابة، فقال: يسقي هذا السهم سماً؛ ليرمى به يوماً ما.
ورأى امرأة ضاحكة، فقال: لو كنت تدركين الموت لما كنت ضاحكة أبداً.
وقال للاسكندر يوماً وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه: أيها الملك! قد آمنت بالفقر؛ فليكن غناك اقتناء الحمد، وابتغاء المجد.
حكم الشيخ اليوناني

وله رموز وأمثال. منها قوله: إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء، وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر؛ يعني بالأم الهيولى وبالأب الصورة وبالرءوم انقيادها، وبالفقر احتياجها إلى الصورة، وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه، وأما حداثة الصورة: أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى، وأما جودها: أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها؛ فإنها جواد، لكن من قبل قبول الهيولى؛ فإنها إنما تقبل على تقديرها... وهذا ما فسر به رمزه ولغزه. وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى، وليس حمل الأب على الصورة بذلك الوضوح؛ بل حمله على العقل الفعال الجواد، الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل... أظهر. وقال: لك نسبان: نسب إلى أبيك، ونسب إلى أمك. أنت بأحدهما أشرف، وبالآخر أوضع، فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف، وتبرأ في ظاهرك وباطنك ممن أنت فيه أوضع؛ فإن الولد الفسل يحب أمه أكثر مما يحب أباه، وذلك دليل وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد.
قيل: أراد بذلك: الهيولى والصورة، أو البدن والنفس، أو الهيولى والعقل الفعال.
وقال: قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك: أحدهما محق والآخر مبطل، فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت. والخصمان: أحدهما العقل، والثاني الطبيعة.
وقال: كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة، كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال.
وقال: الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر. وقال أبو سليمان السجزي مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا فهو بالعقل لنا هناك.
إلا أن الذي عندنا ظل ذاك؛ ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلاً عما هو عليه، ومرة قالصاً عما هو به، ومرة على قدره... عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق؛ فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي، والوجود السرمدي أتم، وأظهر، وأبقى، وأبلغ؛ فبالحق: ما كان الغائب طي الشاهد، وبتصفح هذا الشاهد، يصح ذلك الغائب.
وقال الشيخ اليوناني: النفس جوهر كريم شريف، يشبه دائرة قد دارت على مركزها، غير أنها دائرة لا بعد لها، ومركزها هو العقل، وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها، وهو الخير الأول المحض. غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين؛ لكن دائرة العقل لا تتحرك أبداً؛ بل هي ساكنة ذاتية، شبيهة بمركزها؛ وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال. على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق؛ لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول. وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق، وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقاً إلى النفس كشوق النفس إلى العقل، وشوفق العقل إلى الخير المحض الأول؛ ولأن دائرة هذا العالم جرم، والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه، ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه، فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة؛ أن يصير إليه فيعانقه، فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة؛ لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها، ويسكن عندها. وقال: ليس للمبدع الأول صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية، ولا مثل صور الأشياء السافلة، ولا له قوة مثل قواها؛ لكنه فوق كل صورة، وحلية، وقوة؛ لأنه مبدعها بتوسط العقل.
وقال: المبدع الحق ليس شيئاً من الأشياء، وهو جميع الأشياء؛ لأن الأشياء منه، وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم: مالك الأشياء كلها هو الأشياء كلها إذ هو علة كونها بآنيته فقط ، وعلة شوقها إليه. وهو خلاف الأشياء كلها وليس فيه شئ مما أبدعه، ولا يشبه شيئاً منه، ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها، وإذا كان العقل واحداً من الأشياء فليس فيه عقل، ولا صورة، ولا حلية.
أبدع الأشياء بآنيته فقط، وبآنيته يعلمها، ويحفظها، ويدبرها... لا بصفة من الصفات، وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل؛ لأنه علتها، وأنه الذي جعلها في الصور؛ فهو مبدعها.

قال: وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية؛ لاختلاف قبولها من النور الأول جل وعز؛ فلذلك صارت ذوات مراتب شتى: فمنها ما هو أول في المرتبة، ومنها ما هو ثان، ومنها ما هو ثالث، ؛ فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول، لا بالمواضع والأماكن، وكذلك الحواس تختلف بأماكنها على أن القوى الحاسة فإنها مما لا يفترق بمفارقة الآلة.
وقال: المبدع ليس بمتناه، لا كأنه جثة بسيطة، وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة لا بالكمية والمقدار فليس للأول صورة ولا حلية، ولا شكل؛ فلذلك صار محبوباً معشوقاً تشتاقه الصور العالية والسافلة، وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء؛ لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود. وهو قديم، دائم على حاله لا يتغير، والعاشق يحرص على أن يصير إليه ويكون معه، وللمعشوق الأول عشاق كثيرون، وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء؛ لأنه ثابت، قائم بذاته، لا يتحرك.
وأما المنطق الجزئي؛ فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية، وشوق العقل الأول إلى المبدع الأول أشد من شوق سائر الأشياء؛ لأن الأشياء كلها تحته، وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقاً إلى الأول؛ إذ العشق لا علة له.
وأما المنطق الذي يختص بالنفس قيفحص عن ذلك ويقول: إن الأول هو المبدع الحق، وهو الذي لا صورة له، وهو مبدع الصور؛ فالصور كلها تحتاج إليه، وتشتاق إليه؛ وذلك أن كل صورة تطلب مصورها ة تحن إليه.
وقال: إن الفاعل الأول أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة. لا يقدر أحد أن ينال علل كونها، ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها؟ ولا أن يعرفها كنه معرفتها، ولم صارت الأرض في الوسط، ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة؟ إلا أن يقول: إن الباري صيرها كذلك وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة.
وكل فاعل يفعل بروية وفكرة، لا بآنيته فقط بل يفصل فيه؛ فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام. والفاعل الأول لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر؛ وذلك أنه ينال العلل بلا قياس، بل يبدع الأشياء ويعلم عللها قبل الروية والفكر. والعلل، والبرهان، والعلم، والقنوع...و سائر ما أشبه ذلك: إنما كانت أجزاء وهو الذي أبدعها، وكيف يستعين بها، وهي لم تكن بعد؟!.
حكم ثاوفرسطيس كان هذا الرجل من كبار تلامذة أرسطوطاليس وكبار أصحابه، واستخلفه على كرسي حكمته بعد وفاته، وكانت المتفلسفة في عهده تختلف إليه، وتقتبس منه. وله كتب الشروح الكثيرة، والتصانيف المعتبرة؛ وبالخصوص في الموسيقات. فمما يؤثر عنه أنه قال: الإلهية لا تتحرك، ومعناه لا تتغير ولا تتبدل: لا في الذات، ولا سنة الأفعال.
وقال: السماء مسكن الكواكب، والأرض مسكن الناس على أنهم مثل وشبه لما في السماء؛ فهم الآباء والمدبرون، ولهم نفوس وعقول مميزة ليس لها أنفس نباتية؛ فلذلك لا تقبل الزيادة ولا النقصان. وقال: الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصرت عن تبيين كنهها فأبرزتها لحونا، وأثارت بها شجونا، وأضمرت في عرضها فنونا وفتونا.
وقال: الغناء شئ يخص النفس دون الجسد فيشغلها عن مصالحها. كما أن لذة المأكول والمشروب شيء يخص الجسم دون النفس.
وقال: إن النفوس إلى اللحون إذا كانت محجبة أشد إصغاء منها إلى ما قد تبين لها، وظهر معناه عندها.
وقال: إن العقل نحوان: أحدهما مطبوع، والآخر مسموع؛ فالمطبوع منه كالأرض، والمسموع منه كالبذر والماء، فلا يخلص للعقل المطبوع عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع، فينبهه من نومه، ويطلقه من وثاقه، ويقلقه من مكانه؛ كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض.
وقال: الحكمة غنى النفس، والمال غنى البدن، وطلب غنى النفس أولى؛ لأنها إذا غنيت بقيت، والبدن إذا غني فنى، وغنى النفس ممدود، وغنى البدن محدود.
وقال: ينبغي للعاقل أن يداري الزمان مداراة رجل لا يسبح في الماء الجاري إذا وقع.
وقال لا يغبطن بسلطان من غير عدل، ولا بغنى من غير حسن تدبير، ولا ببلاغة من غير صدق منطق، ولا بجود في غير إصابة موضع، ولا بأدب من غير أصالة رأي، ولا بحسن عمل في غير حينه.
شبه برقلس في قدم العالم

إن القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع، والقول بالعلة الأولى: إنما شهر بعد أرسطوطاليس؛ لأنه خالف القدماء صريحاً، وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهاناً؛ فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه، مثل الأسكندر الإفروديسي وثامسطيوس وفورفوريوس.
وصنف فورقلس المنتسب إلى أفلاطونفي هذه المسألة كتاباً وأورد فيه هذه الشبه، وإلا فالقدماء إنما أبدوا فيه ما نقلناه سالفاً.
الشبهة الأولى: قال: إن الباري تعالى جواد بذاته، وعلة وجود العالم جوده، وجوده قديم لم يزل؛ فيلزم أن يكون وجود العالم قديماً لم يزل. قال: ولا يجوز أن يكون مرة جواداً ومرة غير جواد؛ فإنه يوجب التغير في ذاته، فهو جواد لذاته، لم يزل. قال: ولا مانع من فيض جوده؛ إذ لو كان مانع لما كان من ذاته بل من غيره، وليس لواجب الوجود لذاته حامل على شيء، ولا مانع من شيء.
الشبهة الثانية: قال: ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعاً بالفعل، أو لم يزل صانعاً بالقوة؛ أي يقدر أن يفعل، ولا يفعل.
فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل، وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج، ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء؛ فيجب أن يكون له مخرج من خارج يؤثر فيه؛ وذلك ينافي كونه صانعاً مطلقاً لا يتغير ولا يتأثر.
الشبهة الثالثة: قال: كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غير فعل إلى فعل، وكل علة من جهة ذاتها فمعلومها من جهة ذاتها؛ وإذا كانت ذاتها لم تزل فمعلومها لم يزل.
الشبهة الرابعة: قال: إن الزمان لا يكون موجوداً إلا مع الفلك ولا الفلك إلا مع الزمان؛ لأن الزمان هو العاد لحركات الفلك. ثم لا يجوز أن يقال متى وقبل إلا حين يكون الزمان، ومتى وقبل أبدى، فالزمان أبدى فحركات الفلك أبدية، فالفلك أبدى.
الشبهة الخامسة: قال: إن العالم حسن النظام كامل القوام، وصانعه جواد خير، ولا ينقض الجيد الحسن إلا شرير، وصانعه ليس بشرير، وليس يقدر على نقضه غيره، فليس ينتقض أبداً، وما لا ينتقض أبداً كان سرمداً.
الشبهة السادسة: قال: لما كان الكائن لا يفسد إلا بشيء غريب يعرض له، ولم يكن شيء غريب عن العالم خارجاً منه يجوز أن يعرض فيفسد: ثبت أنه لا يفسد، وما لا يتطرق إليه الفساد لا يتطرق إليه الكون والحدوث؛ فأن كل كائن فاسد.
الشبهة السابعة: قال: إن الأشياء التي هي في المكان الطبيعي لا تتغير، ولا تتكون، ولا تفسد، وإنما تتغير، وتتكون، وتفسد إذا كانت في أماكن غريبة فتتجاذب إلى أماكنها، كالنار التي في أجسادنا تحاول الانفصال إلى مركزها، فينحل الرباط، فيفسد؛ إذ الكون والفساد إنما يتطرق إلى المركبات، لا إلى البسائط التي هي أركان في أماكنها. ولكنها هي بحالة واحدة، وما هو بحال واحدة فهو أزلي.
الشبهة الثامنة: قال: العقل والنفس والأفلاك تتحرك على الاستدارة والطبائع تتحرك إما عن الوسط، وإما إلى الوسط على الاستقامة؛ وإذا كان كذلك كان التفاسد في العناصر إنما هو لتضاد حركاتها، والحركة الدورية لا ضد لها؛ فلم يقع فيها فساد. قال: وكليات العناصر إنما تتحرك على استدارة وإن كانت الأجزاء منها تتحرك على الاستقامة، فالفلك وكليات العناصر لا تفسد، وإذا لم يجز أن يفسد العالم لم يجز أن يتكون.
وهذه الشبهات هي التي يمكن أن يقال عليها؛ فتنقص، وفي كل واحدة منها نوع مغالطة، وأكثرها تحكمات. وقد أقرت لها كتاباً أوردت فيه: شبهات أرسطوطاليس، وهذه، وتقريرات أبي علي ابن سينا؛ ونقضتها على قوانين منطقية. فليطلب ذلك.
ومن المتعصبين لبرقلس من مهد له عذرا في ذكر هذه الشبهات، وقال: إنه كان يناطق الناس منطقين: أحدهما روحاني بسيط ، والآخر جسماني مركب.

وكان أهل زمانه الذين يناطقونه جسمانيين، وإنما دعاه إلى ذكر هذه الأقوال مقاومتهم إياه، فخرج من طريق الحكمة والفلسفة من هذه الجهة؛ لأن من الواجب على الحكيم أن يظهر العلم على طرق كثيرة، يتصرف فيها كل ناظر بحسب نظره، ويستفيد منها بحسب فكره واستعداده، فلا يجد على قوله مسلخاً، ولا يصيب مقالاً ولا مطعناً؛ لأن برقلس لما كان يقول بدهر هذا العالم وإنه باق لا يدثر وضع كتاباً في هذا المعنى، فطالعه من لم يعرف طريقته، ففهموا منه جسمانية قوله دون روحانيته، فنقضوه على مذهب الدهرية.
وفي هذا الكتاب يقول: لما اتصلت العوالم بعضها ببعض، وحدثت القوى الواصلة فيها، وحدثت المركبات من العناصر: حدثت قشور، واستنبطت لبوب؛ فالقشور داثرة ، واللبوب قائمة دائمة لا يجوز الفساد عليها؛ لأنها بسيطة وحيدة القوى، فانقسم العالم إلى عالمين: عالم الصفوة واللب، وعالم الكدورة والقشر؛ فاتصل بعضه ببعض، وكان آخر هذا العالم من بدء ذلك العالم، فمن وجه: لم يكن بينهما فرق، فلم يكن هذا العالم داثراً إذ كان متصلاً بما ليس يدثر، ومن وجه: دثرت القشور، وزالت الكدرة وكيف تكون القشور غير داثرة ولا مضمحلة؟ وما لم تزل القشور باقية كانت اللبوب خافية! وأيضاً: فإن هذا العالم مركب والعالم الأعلى بسيط، وكل مركب ينحل حتى يرجع إلى البسيط الذي تركب منه ، وكل بسيط باق دائماً غير مضمحل ولا متغير. قال الذي يذب عن برقلس: هذا الذي نقل عنه هو المنقول عن مثله، بل الذي أضاف إليه هذا القول الأول لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه لم يقف على مرامه؛ للعلة التي ذكرنا فيما سلف، وإما لأنه كان محسوداً عند أهل زمانه؛ لكونه بسيط الفكر، واسع النظر، ساير القوى؛ وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات؛ فإنه يقول في موضع من كتابه: إن الأوائل منها تكونت العوالم، وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل، وهي لازمة الدهر، ماسكة له؛ إلا أنها من أول، لا يوصف بصفة، ولا يدرك بنعت ونطق؛ لأن صور الأشياء كلها منه وتحته، وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها؛ إلا الأول الواحد، وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل، وقدرته أبدعت هذه المبادئ. وقال أيضاً: إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته؛ لأنه حق حقاً بلا حق، وكل حق حقاً فهو تحته إنما هو حق حقاً إذ حققه الموجب له الحق، فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء، وهو أفاد هذا العالم بدءاً وبقاء بعد دثور قشوره، وزكي البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق فيه وقال: إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه وصار بسيطاً روحانياً بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية، مثل العوالم العلوية التي بلا نهاية، وكان هذا واحداً منها؛ وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث، ويكون له أهل يلبسه؛ لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس القشور والأدناس، مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد؛ وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية، وما كان القشر والدنس عليه أغلب؛ فأما ما كان من الباري تعالى، بلا متوسط، أو كان من متوسط بلا قشر: فإنه لا يضمحل. قال: وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات، فيدخل عليه بالعرض لا بالذات، وذلك إذا كثرت المتوسطات، وبعد الشيء عن الإبداع الأول؛ لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء: كان أنور، وأقل قشوراً ودنساً، وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى، والأشياء أبقى.
ومما ينقل عن برقلس أنه قال: إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها: أجناسها، وأنواعها، وأشخاصها... وخالف بذلك أرسطوطاليس؛ فإنه قال: يعلم أجناسها وأنواعها دون أخاصها الكائنة الفاسدة؛ فإن علمه يتعلق بالكليات دون الجزئيات كما ذكرنا.

ومما ينقل عنه في قدم العالم قوله: لن يتوهم حدوث العالم إلا بعد أن يتوهم أنه لم يكن؛ فأبدعه الباري تعالى في الحالة التي لم يكن. وفي الحالة التي لم يكن لا يخلو من حالات ثلاث: إما أن الباري لم يكن قادراً فصار قادراً، وذلك محال لأنه قادر لم يزل؛ وإما أنه لم يرد فأراد، وذلك محال أيضاً؛ لأنه مريد، لم يزل وإما أنه لم تقتض الحكمة وجوده وذلك محال أيضاً؛ لأن الوجود أشرف من العدم على الإطلاق. فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث: تشابهاً في الصفة الخاصة، وهي القدم على أصل المتكلم؛ وكان القدم بالذات له دون غيره، وإن كانا معا في الوجود. والله الموفق.
رأي ثامسطيوس وهو الشارح لكلام الحكيم أرسطوطاليس؛ وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشارته ورموزه، وهو على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذكرنا من إثبات العلة الأولى، واختار من المذاهب في المبادئ قول من قال: إن المبادئ ثلاثة: الصورة، والهيولي، والعدم؛ وفرق بين العدم المطلق والعدم الخاص، فإن عدم صورة بعينها عن مادة تقبلها مثل عدم السيفية عن الحديد ليس كعدم السيفية عن الصوف؛ فإن هذه المادة لا تقبل هذه الصورة أصلا.
وقال: إن الأفلاك حصلت من العناصر الأربعة لا أن العناصر حصلت من الأفلاك ففيها نارية، وهوائية، ومائية، وأرضية؛ إلا أن الغالب على الأفلاك هو النارية، كما أن الغالب على المركبات السفلية هو الأرضية. والكواكب نيران مشتعلة حصلت تراكيبها على وجه لا يتطرق إليها الانحلال؛ لأنها لا تقبل الكون، والفساد، والتغير، والاستحالة؛ وإلا فالطبائع واحدة... والفرق يرجع إلى ما ذكرنا.
ونقل ثامسطيوس عن أرسطوطاليس وثاون وأفلاطون وثاوفرسطيس وفرفوريوس وفلوطرخيس وهو رأيه: أن في العالم أجمع طبيعة واحدة عامة، وكل نوع من أنواع النبات والحيوان مختص بطبيعة خاصة؛ وحدوا الطبيعة العامة بأنها مبدأ الحركات في الأشياء والسكون فيها على الأمر الأول من ذواتها، وهي علة الحركة في المتحركات، وعلة السكون في الساكنات. وزعموا: أن الطبيعة هي التي تدبر الأشياء كلها في العالم حيوانه، ونباته، ومواته تدبيراً طبيعياً، وليست هي حية، ولا قادرة، ولا مختارة؛ ولكن لا تفعل إلا حكمة وصواباً، وعلى نظم صحيح وترتيب محكم.
قال ثامسطيوس: قال أرسطوطاليس في مقالة اللام: إن الطبيعة تفعل ما تفعل من الحكمة والصواب وإن لم تكن حيواناً؛ لأنها ألهمت من سبب هو أكرم منها، وأوماً إلى أن السبب هو الله عز وجل. وقال أيضاً: إن الطبيعة طبيعتان: طبيعة هي مستعلية على الكون والفساد بكليتها وجزئيتها؛ يعني الفلك والنيرات، وطبيعة يلحق جزئياتها الكون والفساد لا كلياتها؛ يريد بالجزئيات الأشخاص، وبالكليات الأسطقسات.
رأي الإسكندر الأفروديسي وهو من كبار الحكماء رأياً وعلماً. وكلامه أمتن، ومقالته أرصن. وافق أرسطوطاليس في جميع آرائه، وزاد عليه في الاحتجاج على أن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها كلياتها وجزئياتها على نسق واحد، وهو عالم بما كان وبما سيكون، ولا يتغير علمه بتغير المعلوم، ولا يتكثر بتكثره.

ومما انفرد به أن قال: كل كوكب ذو نفس وطبع وحركة من جهة نفسه وطبعه، ولا يقبل التحريك من غيره أصلاً؛ بل إنما يتحرك بطبعه واختياره إلا أن حركاته لا تختلف أبداً؛ لأنها دورية. وقال: لما كان الفلك محيطاً بما دونه، وكان الزمان جارياً عليه؛ لأن الزمان هو العاد للحركات أو هو عدد الحركات، ولما لم يكن يحيط بالفلك شئ آخر، ولا كان الزمان جارياً عليه... لم يجز أن يفسد الفلك ويكون؛ فلم يكن قابلاً للكون والفساد، وما لم يقبل الكون والفساد كان قديماً أزلياً. وقال في كتابه في النفس: إن الصناعة تتقبل الطبيعة. وإن الطبيعة لا تتقبل الصناعة. وقال: للطبيعة لطف وقوة، وإن أفعالها تفوق في البراعة واللطف كل أعجوبة يتلطف فيها بصناعة من الصناعات. وقال في ذلك الكتاب: لا فعل للنفس دون مشاركة البدن حتى التصور بالعقل؛ فإنه مشترك بينهما، وأومأ إلى أنه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها قوة أصلاً؛ حتى القوة العقلية. وخالف بذلك أستاذه أرسطوطاليس؛ فإنه قال: الذي يبقى مع النفس من جميع مالها من القوة هي القوة العقلية فقط، ولذاتها في ذلك العالم مقصورة على اللذات العقلية فقط؛ إذ لا قوة لها دون ذلك فتحس وتلتذ بها. والمتأخرون يثبتون بقاءها على هيئات أخلاقية استفادتها من مشاركة البدن؛ لتستعد بها لقبول هيئات ملكية في ذلك العالم.
رأي فرفوريوس وهو أيضاً على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه، وهو الشارح لكلام أرسطو أيضاً؛ وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشاراته وجميع ما ذهب إليه. ويدعى أن الذي يحكى عن أفلاطون من القول بحدوث العالم غير صحيح: قال في رسالته إلى أبانوا: وأما ما قذف به أفلاطون عندكم من أنه يضع للعالم ابتداء زمانياً فدعوى كاذبة، وذلك أن أفلاطون ليس يرى أن للعالم ابتداء زمانياً لكن ابتداء على جهة العلة، ويزعم أن علة كونه ابتداؤه. وقد أرى أن المتوهم عليه في قوله: إن العالم مخلوق، وإنه حدث لا من شئ، وإنه خرج من لا نظام إلى نظام... وقد أخطأ وغلط؛ وذلك أنه لا يصح دائماً أن كل عدم أقدم من الوجود فيما علة وجود شئ آخر غيره، ولا كل سوء نظام أقدم من النظام. وإنما يعني أفلاطون: أن الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود وإن وجد أنه لم يكن من ذاته، لكن سبب وجوده من الخالق. قال: وقال في الهيولى: إنها قابل للصور وهي كبيرة وصغيرة، وهما في الموضوع والحد واحد ولم يبين العدم، كما ذكره أرسطو طاليس إلا أنه قال: الهيولى لا صورة لها؛ فقد علم أن عدم الصورة في الهيولى. وقال: إن المركبات كلها إنما تتكون بالصور على سبيل التغير، وتفسد بخلو الصور عنها.
وزعم فرفوريوس: أن من الأصول الثلاثة التي هي الهيولى والصورة والعدم: أن كل جسم إما ساكن وإما متحرك، وههنا شيء يكون ما يتكون، ويحرك الأجسام، وكل ما كان واحداً بسيطاً ففعله واحد بسيط، وكل ما كان كثيراً مركباً فأفعاله كثيرة مركبة، وكل موجود ففعله مثل طبيعته؛ ففعل الله بذاته فعل واحد بسيط وباقي أفعاله يفعلها بمتوسط مركب. قال: وكل ما كان موجوداً فله فعل من الأفعال مطابق لطبيعته، ولما كان الباري تعالى موجوداً ففعله الخاص هو الإجتلاب إلى الوجود، ففعل فعلاً واحداً وحرك حركة واحدة وهو الإجتلاب إلى شبهة؛ يعني الوجود. ثم إما يقال: كان المفعول معدوماً يمكن أن يوجد، وذلك هو طبيعة الهيولى بعينها، فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود. وإما أن يقال: لم يكن معدوماً ما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء وأبدع وجوده من غير توهم شيء سبقه، وهو ما يقوله الموحدون.

قال: فأول فعل فعله هو الجوهر، إلا أن كونه جوهراً وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهراً بالحركة؛ وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول لكن من التشبه بذلك الأول. وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة، فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين. ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة؛ فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة: الطول، والعرض، والعمق؛ إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية؛ إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية؛ فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة، وصار بذلك جسماً. وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة؛ لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه، فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط. قال: وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً في طبيعته فبول التأثير منه حركه معه، وإذا حركه سخن وإذا سخن لطف، وانحل، وخف...؛ فكانت النار تلي الفلك. والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل، فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه، فيسخن دون سخونة النار...؛ وهو الهواء . والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك؛ فهو بارد لسكونه وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء؛ ولذلك انحل قليلاً...؛ وهو الماء . وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط؛ فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً: سكن وبرد...؛ وهذه هي الأرض.
وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت وتولد عنها أجسام مركبة...؛ وهذه هي الأجسام المحسوسة.
وقال: الطبيعة تفعل بغير فكر ولا عقل ولا إرادة، ولكنها ليست تفعل بالبخت والاتفاق والخبط؛ بل لا تفعل إلا ماله نظم وترتيب وحكمة، وقد تفعل شيئاً من أجل شيء؛ كما تفعل البر لغذاء الإنسان وتهيئ أعضائه لما يصلح له.
وقد قسم فرفوريوس مقالة أرسطو طاليس في الطبيعة خمسة أقسام: أحدها العنصر، والثاني الصورة، والثالث المجتمع منهما كالإنسان، والرابع الحركة الجاذبة في الشيء بمنزلة حركة النار الكائنة الموجودة فيها إلى فوق، والخامس الطبيعة العامة للكل؛ لأن الجزئيات لا يتحقق وجودها إلا عن كل يشملها. ثم اختلفوا في مركزها: فمن الحكماء من صار إلى أنها فوق الكل، وقال آخرون إنها دون الفلك؛ قالوا: والدليل على وجودها أفعالها وقواها المنبثة في العالم الموجبة للحركات والأفعال؛ كذهاب النار والهواء إلى فوق، وذهاب الماء والأرض إلى تحت؛ فعلم يقيناً أنه لولا قوى فيها أوجبت تلك الحركات وكانت مبدأ لها لم توجد فيها؛ وكذلك ما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء وقوة النمو والنشوء.
الباب الرابع
المتأخرون من فلاسفة الإسلام
مثل: يعقوب بن إسحاق الكندي. وحنين بن أسحاق. ويحيى النحوي. وأبي الفرج المفسر. وأبي سليمان السجزي. وأبي سليمان محمد ابن معشر المقدسي. وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني. وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري. وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي. وأبي محارب الحسن بن سهل ابن محارب القمي. وأحمد بن الطيب السرخسي. وطلحة بن محمد النسفي. وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفزاري. وعيسى بن علي بن عيسى الوزير. وأبي علي أحمد ابن محمد بن مسكويه. وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري. وأبي الحسن محمد ابن يوسف العامري. وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي... وغيرهم.
وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به؛ سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين. ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة، ونظره في الحقائق أغوص: اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار؛ كأنها: عيون كلامه، ومتون مرامه. وأعرضت عن نقل طرق الباقين ابن سينا كلامه في المنطق

قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا: العلم إما تصور، وإما تصديق. أما التصور فهو العلم الأول، وهو أن تدرك أمراً ساذجاً من غير أن تحكم عليه بنفي أو إثبات؛ مثل تصورنا ماهية الإنسان. وأما التصديق فهو أن تدرك أمراً وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات؛ مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ. وكل واحد من القسمين منه أولى، ومنه ما هو مكتسب. فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه؛ فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية. وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو دون الحقيقي ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند الله عز وجل؛ فلا بد إذاً للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره؛ وذلك هو الغرض من المنطق.
ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون لها مادة منها ألفت وصورة بها التأليف، والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين وقد يعرض من جهتيهما معاً. فالمنطق هو الذي نعرف به: من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقيناً، ومن أيها ما يوقع عقداً شبيهاً باليقين، ومن أيها ما يوقع ظناً غالباً، ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلاً؛ وهذه فائدة المنطق. ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة، والأفكار العقلية بأقوال عقلية؛ فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق. ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق. وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام، والعروض إلى الشعر؛ فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضاً من حيث تدل على المعاني.

واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه: أحدها بالمطابقة، والثاني بالتضمن، والثالث بالالتزام. وهو ينقسم إلى مفرد، ومركب؛ فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات: أي حين هو جزء له، والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه؛ ومن معانيها يلتئم معنى الجملة. والمفرد ينقسم إلى كلي. وجزئي؛ والكلي هو الذي يدل على كثيرون بمعنى واحد متفق؛ ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه، والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه ذلك. ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي، وعرضي؛ والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه ، والعرضى؛ هو الذي لا يقوم ماهية؛ سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم، أو مفارقاً بين الوجود، أو غير بين الوجود له. ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب ما هو؟ وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية التي يقوم الشيء بها، وفرق بين المقول في جواب ما هو وبين الداخل في جواب ما هو. وإلى ما هو مقول في جواب أي شئ هو؟ وهو الذي يدل على معنى تتميز به أشياء مشتركة في معنى واحد تميزاً ذاتياً. وأما العرضى فقد يكون ملازماً في الوجود والوهم وبه يقع تمييز أيضاً لا ذاتياً، وقد يكون مفارقاً. وفرق بين العرضى والعرض الذي هو قسيم الجوهر. وأما رسوم الألفاظ الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام: فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق الذاتية في جواب ما هو؟. والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو؟ إذا كان نوع الأنواع؛ وإذا كان نوعاً متوسطاً فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب ما هو؟ ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة؟... وينتهى الإرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه، وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه فيكون العموم بالتشكيك؛ والنزول إلى نوع لا نوع تحته، وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض. ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه: بأنه أي شيء هو؟. وترسم الخاصة بأنها هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو، لا بالذات. ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي، ويشترك في معناه كثيرون، ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر وقوع بمعنيين مختلفين. في المركبات: الشيء إما عين موجودة، وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن؛ ولا يختلفان في النواحي والأمم. وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن، وأما كتابة دالة على اللفظ؛ ويختلفان في الأمم. فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على الصورة في الذهن، وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة. مبادئ القول: إما اسم، وإما كلمة، وإما أداة. فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى، والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى موضوع ما غير معين، والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقترن باسم أو كلمة، وإذا ركبت اللفظ تركيباً يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولاً. ووجوه التركيبات مختلفة؛ وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص؛ وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق والتكذيب. فالقضية هي: كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب، والحملية منها : كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة ، والمتصلة من الشرطية: هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية، والمنفصلة منها: ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية. والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها؛ وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع، والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية؛ وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع. والمحمول هو المحكوم به، والموضوع هو المحكوم عليه. والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي، والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه؛ ولابد أنه في البعض وشك في أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي، والمحصورة هي التي موضوعها كلي والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه؛ وقد تكون موجبة وسالبة. والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر؛ ككل، ولا واحد، وبعض، ولا كل. والقضيتان المتقابلتان هما

اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد: في المعنى، والإضافة، والقوة، والفعل، والجزء، والكل، والمكان، والزمان، والشرط. والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب؛ ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة. والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل، والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل؛ كقولنا: زيد هو غير بصير، والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين؛ أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء، أو لنوعه، أو لجنسه؛ مثل قولنا: زيد جائر. ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائماً في كل وقت في إيجاب أو سلب؛ أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب. وجهات القضايا ثلاث: واجب ويدل على دوام الوجود، وممتنع ويدل على دوام العدم، وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم. والفرق بين الجهة والمادة: أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني، والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها؛ وربما تخالفاً؛ كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً، فالمادة واجبة والجهة ممكنة. والممكن يطلق على معنين: أحدهما ما ليس بممتنع، وعلى هذا: الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي؛ والثاني ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم وعلى هذا: الشيء إما واجب وإما ممتنع وإما ممكن، وهو الممكن الخاصي. ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف؛ مع إتفاقهما في معنى الضرورة؛ فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال، والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال، والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم. والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام: الأول أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزال، والثاني أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد؛ وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري، والثالث أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها، والرابع أن يكون الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط، والخامس أن تكون الضرورة وقتاً ما معيناً لابد منه، والسادس أن تكون الضرورة وقتاً ما غير معين. ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طرداً وعكساً وقد لا تتلازم؛ فواجب أن يوجد يلزمه: ممتنع أن لا يوجد، وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد؛ ونقائض هذه متعاكسة... وقس عليه سائر الطبقات. وكل قضية فإما ضرورية، وإما ممكنة، وإما مطلقة؛ فالضرورية مثل قولنا: كل ب أ بالضرورة: أي كل واحد مما يوصف بأنه ب، دائماً، أو غير دائم؛ فذلك الشيء دائماً ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ. والممكنة هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري. والمطلقة فيها رأيان: أحدهما أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً، والثاني ما يكون الحكم فيها موجوداً لا دائماً بل وقتاً ما، وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به، أو ما دام المحمول محكموماً به، أو في وقت معين ضروري، أو في وقت ضروري غير معين. وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والإيجاب بحالة والصدق والكذب بحالة، والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس، والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها.اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد: في المعنى، والإضافة، والقوة، والفعل، والجزء، والكل، والمكان، والزمان، والشرط. والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب؛ ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة. والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل، والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل؛ كقولنا: زيد هو غير بصير، والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين؛ أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء، أو لنوعه، أو لجنسه؛ مثل قولنا: زيد جائر. ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائماً في كل وقت في إيجاب أو سلب؛ أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب. وجهات القضايا ثلاث: واجب ويدل على دوام الوجود، وممتنع ويدل على دوام العدم، وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم. والفرق بين الجهة والمادة: أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني، والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها؛ وربما تخالفاً؛ كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً، فالمادة واجبة والجهة ممكنة. والممكن يطلق على معنين: أحدهما ما ليس بممتنع، وعلى هذا: الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي؛ والثاني ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم وعلى هذا: الشيء إما واجب وإما ممتنع وإما ممكن، وهو الممكن الخاصي. ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف؛ مع إتفاقهما في معنى الضرورة؛ فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال، والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال، والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم. والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام: الأول أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزال، والثاني أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد؛ وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري، والثالث أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها، والرابع أن يكون الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط، والخامس أن تكون الضرورة وقتاً ما معيناً لابد منه، والسادس أن تكون الضرورة وقتاً ما غير معين. ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طرداً وعكساً وقد لا تتلازم؛ فواجب أن يوجد يلزمه: ممتنع أن لا يوجد، وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد؛ ونقائض هذه متعاكسة... وقس عليه سائر الطبقات. وكل قضية فإما ضرورية، وإما ممكنة، وإما مطلقة؛ فالضرورية مثل قولنا: كل ب أ بالضرورة: أي كل واحد مما يوصف بأنه ب، دائماً، أو غير دائم؛ فذلك الشيء دائماً ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ. والممكنة هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري. والمطلقة فيها رأيان: أحدهما أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً، والثاني ما يكون الحكم فيها موجوداً لا دائماً بل وقتاً ما، وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به، أو ما دام المحمول محكموماً به، أو في وقت معين ضروري، أو في وقت ضروري غير معين. وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والإيجاب بحالة والصدق والكذب بحالة، والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس، والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها.

في القياس ومبادئه وأشكاله ونتائجة: المقدمة: قول يوجب شيئاً لشيء أو يسلب شيئاً عن شيء: جعلت جزء قياس. والحد: ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة. والقياس: هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطراراً؛ وإذا كان بيناً لزومه يسمى قياساً كاملاً، وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل. والقياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي، والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولاً فيه بالفعل بوجه ما، والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولاً فيه بالفعل. والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ويفترقان في حدين؛ فتكون الحدود ثلاثة؛ ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين؛ فيكون ذلك هو اللازم ويسمى نتيجة، فالمكرر يسمي حداً أوسط، والباقيان طرفين، والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر، والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر، والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى، والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى، وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة، وهيئة الاقتران تسمى شكلاً، والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياساً، واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوباً، وإذا لزم يسمى نتيجة. والحد الأوسط إن كان محمولاً في مقدمة وموضوعاً في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلاً أولاً، وإن كان محمولاً فيهما يسمى شكلاً ثانياً، وإن كان موضوعاً فيهما يسمى شكلاً ثالثاً. وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين، وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين، ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية. والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف. وشريطة الشكل الأول أن تكون كبراه كلية وصغراه موجبة. وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف؛ ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما، وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى موجبة، ثم لا بد من كلية في كل شكل. وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه. وأما القياسات الشرطية بقضاياها؛ فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات، بل وفي الاتصال والانفصال؛ فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل، كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل، والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل؛ وكذلك السلب، وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه. وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال. وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة. والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما تالي الآخر؛ فيشتركان في التالي، أو يشتركان في المقدم؛ وكذلك على قياس الأشكال الحملية ،و الشرائط فيها واحدة، والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين. والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام، وهو جزء تال أو مقدم. والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين إحداهما شرطية، والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها؛ ولا يجوز أن تكون حملية وشرطية؛ وتسمى المستثناة. والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي، وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم، واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئاً. وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزئين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي، وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي

وأما القياسات المركبة فهي ما إذا حللت أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئاً آخر؛ إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض، وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها، وعكس نقيضها، وجزاها، وعكس جزئها؛ إن كان لها عكس، والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة، ولا ينعكس؛ فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة. والدور: أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية؛ وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية. وعكس القياس: هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى: احتيالاً في الجدل. وقياس الخلف: هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه، فيكون هو بالحقيقة مركباً من قياس اقتراني وقياس استثنائي. والمصادرة على المطلوب الأول: هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه، وربما تكون في قياس واحد، وربما تبين في قياسات، وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب. والاستقراء: هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي؛ إما كلها وإما أكثرها. والتمثيل: هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء؛ على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه؛ فيكون المحكوم عليه هو المطلوب، والمنقول منه الحكم هو المثال، والمعنى المتشابه فيه هو الجامع. وحكم الرأي: مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن وصواب أم خطأ. والدليل: قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع. والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه وبالتمثيل من وجه. في مقدمات القياس من جهة ذواتها، وشرائط البرهان: المحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس، والمجربات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول؛ إما لأمر سماوي يختص به؛ أو لرأي وفكر قوي تميز به، والوهميات آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس، والذائعات آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل، والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات بل يخطر إمكان نقضها بالبال، ولكن الذهن يكون إليها أميل، والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها؛ بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر على سبيل المحاكات، والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها، والبرهان قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني.
واليقينيات: إما أوليات وما جمع منها؛ وإما تجربيات؛ وإما محسوسات.
وبرهان اللم: هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي في النتيجة في الوجود والذهن جميعاً. وبرهان الإن: هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به والمطالب أربعة: هل مطلقاً؛ هو تعرف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقاً، وهل مقيداً؛ وهو تعرف وجود الشيء على حال ما أو ليس. ما: يعرف التصور؛ وهو إما بحسب الاسم؛ أي ما المراد باسم كذا؟ وهذا يتقدم كل مطلب، وإما بحسب الذات؛ أي ما الشيء في وجوده؟ وهو يعرف حقيقة الذات؛ ويتقدمه الهل المطلق. لم: يعرف العلة بجواب هل؛ وهو إما علة التصديق فقط؛ وإما علة نفس الوجود. وإما أي فهو بالقوة داخل في الهل المقيد وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية، وإما بالخواص. والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة: موضوعات، ومسائل، ومقدمات. فالموضوعات يبرهن فيها، والمسائل يبرهن عليها، والمقدمات يبرهن بها؛ ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية؛ وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل، كلية؛ وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما؛ فتكون أكثرية، وتكون عللاً لوجود النتيجة؛ فتكون مناسبة الحمل الذاتي يقال على وجهين: أحدهما أن يكون المحمول مأخوذاً في حد الموضوع، والثاني أن يكون الموضوع مأخوذاً في حد المحمول.
المقدمة الأولية على وجهين: أحدهما أن التصديق بها حاصل في أول العقل، والثاني من جهة أن الإيجاب والسلب لا يقال على ما هو أعم من الموضوع قولاً كلياً.

المناسب هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب. الموضوعات هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية. المسائل هي القضايا الخاصة بعلم علم؛ المشكوك فيها المطلوب برهانها. والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم، وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم؛ فلا برهان عليها، ولا برهان أيضاً على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين؛ لأن الحد والمحدود متساويان، وذلك الأوسط لا يخلو: إما أن يكون حداً آخر، أو يكون رسماً، أو خاصة. فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت، فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية، وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور، وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد؟ على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد، وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجوداً للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد؟ وأيضاً فإن الحد لا يكتسب بالقسمة؛ فإن القسمة تضع أقساماً، ولا تحمل من الأقسام شيئاً بعينه إلا أن يوضع وضعاً من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل؛ وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد؛ فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه؛ فإنك إذا قلت: لكن ليس الإنسان غير ناطق؛ فهو إذاً ناطق: لم تكن أخذت في الاستثناء شيئاً أعرف من النتيجة، وأيضاً فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد؛ ولا أيضاً حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر، والاستقراء لا يفيد علماً كلياً فكيف يفيد الحد؟ لكن الحد يقتنص بالتركيب؛ وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم، وتنظر من أي جنس هي من العشرة فتأخذ جميع المحولات المقومة لها التي في ذلك الجنس وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول، وأيها الثاني؛ فإذا جمعنا هذه المحولات ووجدنا منها شيئاً مساوياً للمحدود من وجهين فهو الحد: أحدهما المساواة في الحمل، والثاني المساواة في المعنى؛ وهو أن يكون دالاً على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء، فإن كثيراً ما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول؛ فيكون مساوياً في الحمل ولا يكون مساوياً في المعنى، وبالعكس، ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزاً؛ بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده، ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية؛ فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات.
والحد: عنوان للذات وبيان لها؛ فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها، فحينئذ يعرض أن يتميز أيضاً المحدود، ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له وإنما ذلك قول يشرح الاسم؛ فالحد إذاً: قول دال على الماهية، والقسمة معينة في الحد خصوصاً إذا كانت بالذاتيات، ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه، ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء، ولا بما لا يعرف الشيء إلا به.
في الأجناس العشرة: الجوهر: هو ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه.
الكم: هو الذي يقبل لذاته المساواة واللا مساواة والتجزؤ؛ وهو إما أن يكون متصلاً إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به كالنقطة للخط، وإما أن يكون منفصلاً لا يوجد لأجزائه ذلك لا بالقوة ولا بالفعل كالعدد، والمتصل قد يكون ذا وضع، وقد يكون عديم الوضع؛ وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها: أنه أين هو من الآخر؟؛ فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط، ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو الشطح، ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم. والمكان أيضاً ذو وضع؛ لأنه الشطح الباطن من الحاوي، وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس من وضع، إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له اتصال؛ إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن، وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل.

ومن المقولات العشرة: الإضافة؛ وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره؛ مثل الأبوة بالقياس إلى النبوة؛ لا كالأب فإن له وجوداً يخصه كالإنسانية. وأما الكيف؛ فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج، ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتباراً يكون ذا جزء؛ مثل البياض والسواد. وهو إما أن يكون مختصاً بالكم من جهة ما هو كم؛ كالتربيع بالسطح، والاستقامة بالخط، والفردية بالعدد؛ وإما أن لا يكون مختصاً به.
وغير المختص به: إما أن يكون محسوساً تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات؛ فالراسخ منه مثل صفرة الذهب وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات، وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية ومنه ما لا يكون محسوساً: فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات؛ فإن كل استعداد للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية؛ كالمصحاحية والصلابة، وإن كان استعداداً لسرعة الإذعان والانفعال سمي: لا قوة طبيعية؛ مثل الممراضية واللين. وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادت لكمالت أخرى وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها، فما كان ثابتاً منها يسمى ملكة؛ مثل العلم والصحة، وما كان سريع الزوال سمي حالاً؛ مثل غضب الحليم ومرض المصحاح. وفرق بين الصحة والمصحاحية؛ فإن المصحاح قد لا يكون صحيحاً، والممراض قد يكون صحيحاً.
ومن جملة العشرة: الأين وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه: ككون زيد في السوق، ومتى وهو كون الجوهر في زمانه الذي يمون فيه؛ مثل كون هذا الأمر أمس، والوضع وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان؛ مثل القيام والقعود؛ وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم، والملك ولست أحصله، ويشبه أن يكون: كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله؛ مثل التلبس والتسلح، والفعل وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير قار الذات بل لا يزال يتجدد ويتصرم؛ كالتسخين والتبريد، والانفعال وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة؛ مثلا لتقطع والتسخن.
والعلل أربع: يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة؛ مثل النجار للكرسي، ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء؛ مثل الخشب، ويقال علة للصورة في كل شيء يكون؛ فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون، ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء؛ مثل الكن للبيت. وكل واحدة من هذه إما قريبة أو بعيدة، وإما بالقوة أو بالفعل، وإما بالذات وإما بالعرض، وإما خاصة أو عامة. والعلل الأربع قد تقع حدوداً وسطى في البراهين؛ لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية. وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل. والله الموفق.

في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي: الظن: الحق أنه: رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا. والعلم: اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجبه، والشيء كذلك في ذاته، وقد يقال علم لتصور الماهية بتحديد. والعقل: اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعاً بلا واسطة؛ كاعتقاد المبادئ الأولى للحد. وألذه: قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم. والذكاء: قوة استعداد لحدس. والحدس حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب، أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط؛ وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول. والحس: إنما يدرك الجزئيات الشخصية. والذكر والخيال: يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته؛ أما الخيال فيحفظ الصورة، وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ، وإذا تكرر الحس صار ذكراً، وإذا تكرر الذكر كان تجربة. والفكر: حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ؛ ليصير منها إلى المطالب. والصناعة: ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية. والحكمة: خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل: أما في جانب العلم فأن يكون متصوراً للموجودات كما هي ومصدقاً للقضايا كما هي، وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة. والفكر العقلي ينال الكليات مجردة، والحس والخيال على العقل، ثم العقل يفعل التمييز. ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها في قسمي: التصور والتصديق.
في الإلهيات يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل: المسألة الأولى منها: في موضوع هذا العلم، وجملة ما يتظر فيه، والتنبيه على الوجود وأقسامه.

إن لكل علم موضوعاً ينظر فيه فيبحث عن أحواله، وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولو أحقه التي له بذاته ومبادئه، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، وفيه بيان مبادئها. وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام الوجود وهي: الواحد والكثير ولواحقهما، والعلة والمعلول، والقديم والحادث، والتام والناقص، والفعل والقوة، وتحقيق المقولات العشر: ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساماً بالفصول، وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتهما انقساماً بالأعراض. والوجود يشمل الكل شمولاً بالتشكيك لا بالتواطؤ ولهذا لم يصلح أن يكون جنساً؛ فإنه في بعضها أولى وأول ، وفي بعضها لا أولى ولا أول، وهو أشهر من أن يحد أو يرسم، ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم؛ لأنه مبدأ أول لكل شئ؛ فلا شرح له، بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شئ. وينقسم نوعاً من القسمة إلى واجب بذاته وممكن بذاته، والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقط وجب وجوده، والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه محال. ثم إذا عرض على القسمين عرضاً حملياً الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب، والكثير أولى بالجائز؛ وكذلك العلة والمعلول، والقديم والحادث، والتام والناقص، والفعل والقوة، والغنى والفقر... كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته؛ ولما لم تتطرق إليه الكثرة بوجه لم يتتطرق إليه التقسيم؛ بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض، وقد عرفناهما برسميهما. وأما نسبة أحدهما إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه، والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه، فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر، وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض. وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهراً لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوماً به وليس متقوماً بذاته ثم مقوماً له ، ونسميه صورة؛ وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض. وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو: إما أن لا يكون في محل أصلاً، أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل. فإن كان في محل بهذه الصفة فإنا نسميه صورة مادية، وإن لم يكن في محل أصلاً فإما أن يكون محلاً بنفسه لا تركيب فيه؛ أولا يكون، فإن كان محلاً بنفسه فإنا نسميه الهيولى المطلقة، وإن يكن فإما أن يكون مركباً مثل أجسامنا المركبة من مادة ومن صورة جسمية؛ وإما أن لا يكون. وما ليس بمركب فلا يخلو: إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام؛ أو لم يكن له تعلق، فما له تعلق نسميه نفساً، وما ليس له تعلق فنسميه عقلاً. وأما أقسام العرض فقد ذكرناها، وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر.

المسألة الثانية: في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه، وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة، وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود. اعلم أن الجسم ليس جسماً بأن فيه أبعاداً ثلاثة بالفعل؛ فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل؛ وأنت تعلم أن الكرة لا قطع فيها بالفعل، والنقط والخطوط قطوع. بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر، ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة؛ فالذي يفرض فيه أولاً هو الطول، والقائم عليه العرض، والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق؛ وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية. وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم، وهي لواحق لا مقومات، ولا يجب أن يثبت شيء منها له؛ بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه، وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها؛ وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل، وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة؛ فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخله فيها، والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعالميين أو داخلة فيها. ثم الصورة الجسمية طبيعة وراء الاتصال يلزمها الاتصال، وهي بعينها قابلة للانفصال. ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال؛ فإن القابل يبقى بطريان أحدهما، والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال. وظاهر أن هنا جوهراً غير الصورة الجسمية هو الهيولى الذي يعرض لها الانفصال والاتصال معاً، وهي تقارن الصورة الجسمية؛ فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسماً واحداً بما يقومها، وذلك هو الهيولى أو المادة. والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل: والدليل عليه من وجهين: أحدهما: أنا لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز ولا أنها تقبل الانقسام؛ فإن هذه كلها صور، ثم قدرنا أن الصورة صادقتها: فإما أن تكون صادقتها دفعة؛ أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدريج، أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدريج. فإن حل فيها دفعة ففي اتصال المقدار بها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها؛ فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه؛ فيكون ذلك الجوهر متحيزاً وقد فرض غير متحيز البتة... وهذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار؛ ولأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص، وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات وما له جهات فهو ذو وضع، فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقد فرض غير ذي وضع البتة... وهذا خلف. فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط، وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط. والدليل الثاني: أنا لو قدرنا للمادة وجوداً خاصاً متقوماً غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه، ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لو رود عارض عليه؛ فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل، وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل؛ فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم، ومرة في قوته أن ينقسم. ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل أثنين، ثم صارا شيئاً واحداً بأن خلعا صورة الأثنينية؛ فلا يخلو: أما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد، وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعاً بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدان وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة، وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة؛ فالمادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة، وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة. ولا يجوز أن يقال: إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة وإنما تصير بالفعل بالمادة؛ لأن جوهر الصورة هو الفعل، وما بالقوة محله المادة؛ والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تقوم بالهيولى بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى، وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها؛ والعلة لا تتقوم بالمعلول، وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه؛ فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة

لها. فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود، وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة. وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم، ثم الهيولى؛ وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود، فإنه محل لنيل الوجود، وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها. ثم العرض أولى بالوجود؛ فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضاً. فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود، وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة. وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم، ثم الهيولى؛ وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود، فإنه محل لنيل الوجود، وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها. ثم العرض أولى بالوجود؛ فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضاً.

المسألة الثالثة: في أقسام العلل، وأحوالها، وفي القوة والفعل، وفي إثبات الكيفيات في الكمية، وإن الكيفيات أعراض لا جواهر. وقد بينا في المنطق أن العلل أربع، وتحقيق وجودها ههنا أن نقول: المبدأ، والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه ثم حصل منه وجود شيء آخر ونقوم به، ثم لا يخلو ذلك: إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له؛ وهذا على وجهين: إما أن يكون جزءاً ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجوداً بالفعل وهذا هو العنصر؛ ومثاله الخشب للسرير فإنك تتوهم الخشب موجوداً ولا يلزم من وجوده وحده أن يحصل السرير بالفعل، بل المعلول موجود فيه بالقوة. وإما أن يكون جزءاً يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل وهذا هو الصورة؛ ومثاله الشكل والتأليف للسرير. وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له: فإما أن يكون مبايناً أو ملاقياً لذات المعلول؛ والملاقى: فإما أن ينعت به المعلول، وإما أن ينعت بالمعلول؛ وهذان هما في حكم الصورة والهيولى. وإن كان مبايناً: فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل، وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية. والغاية تتأخر في حصول الوجود وتتقدم سائر لعلل في السببية، وفرق بين السببية والوجود في الأعيان؛ فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس، وأمر مشترك؛ وذلك الأمر المشترك هو السببية، والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم وهي علة العلل في أنها علل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية. كان الفاعل متأخراً في السببية عن الغاية. ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية، وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية؛ فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط. وأما سائر العلل؛ فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان...، وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة بل بالرتبة والشرف؛ لأن القابل أبداً مستفيد، والفاعل مفيد. وقد تكون العلة علة للشيء بالذات. وقد تكون بالعرض. وقد تكون علة قريبة، وقد تكون علة بعيدة، وقد تكون علة لوجود الشيء فقط، وقد تكون علة لوجوده، ولدوام وجوده؛ فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده، لا لعدمه السابق وفي حال عدمه؛ فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد، فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم. وأما القوة والفعل؛ فالقوة تقال لمبدأ التغير في آخر من حيث إنه آخر، وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية، وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية: وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ، وفي الشمع قوة عليهما جميعاً، وفي الهيولى الأولى قوة الجميع ولكن بتوسط شيء دون شيء، وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد؛ كقوة النار على الإحراق فقط، وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين، وقد يكون في الشيء قوة على شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء، والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة، وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيه الأضداد؛ وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل؛ فإن هذه تبقى موجودة عندما يفعل، والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الفعل. وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه، أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر، وأما الذي ليس بالاختيار فلا يخلو: إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته، أو عن قوة في ذاته، أو عن شيء مباين؛ فغن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام، وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد على الجسمية؛ وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسماً أو غير جسم؛ فإن كان جسماً فالفعل عنه بقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر؛ هذا خلف. وإن لم يكن جسماً؛ فتأثر الجسم عن ذلك المفارق غما أن يكون لكونه جسماً أو لقوة فيه؛ ولا يجوز أن يكون بكونه جسماً وقد أبطلناه، فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية، وهي التي تصدر عنها الأفاعيل

الجسمانية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية، وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية فيجب أن تكون كرة؛ وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة.نية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية، وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية فيجب أن تكون كرة؛ وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة.
المسألة الرابعة: في المتقدم والمتأخر، والقديم والحادث، وإثبات المادة لكل متكون.
التقدم قد يقال بالطبع؛ وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود ولا يوجد الآخر إلا وهو موجود كالواحد والاثنين، وقد يقال بالزمان كتقدم الأب على الابن، ويقال بالرتبة وهو الأقرب إلى المبدأ الذي عين كالمتقدم في الصف الأول أن يكون أقرب إلى الإمام، ويقال بالكمال والشرف كتقدم العالم على الجاهل، ويقال بالعلية لأن للعلة استحقاقاً للوجود قبل المعلول وهما بما هما ذاتان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ولا خاصية المعية؛ ولكن بما متضايفان وعلة ومعلول وإن أحدهما لم يستفد الوجود من الآخر والآخر استفاد الوجود منه؛ فلا محالة كان المفيد متقدماً والمستفيد متأخراً بالذات. وإذا رفعت العلة ارتفع المعلول لا محالة، وليس إذا ارتفع المعلول ارتفعت بارتفاعه العلة؛ بل إن صح فقد كانت العلة ارتفعت أولى بعلة أخرى حتى ارتفع المعلول. واعلم بأن الشيء إذا كان كما يكون محدثاً بحسب الزمان كذلك قد يكون محدثاً بحسب الذات؛ فإن الشيء إذا كان له في ذاته أن لا يجب له وجود بل هو باعتبار ذاته ممكن الوجود مستحق للعدم لولا علته... والذي بالذات يجب وجوده قبل الذي من غير الذات؛ فيكون لكل معلول في ذاته أولاً أنه ليس تم عن العلة، وثانياً أنه أيس فيكون كل معلول محدثاً: أي مستفيداً الوجود من غيره، وإن كان مثلاً في جميع الزمان موجوداً مستفيداً لذلك الوجود عن موجد فهو محدث؛ لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات، وليس حدوثه إنما هو آن من الزمان فقط بل هو محدث في الدهر كله، ولا يمكن أن يكون حادثاً بعد ما لم يكن في زمانه إلا وقد تقدمت المادة؛ فإنه قبل وجوده ممكن الوجود، وإمكان الوجود إما أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً، ومحال أن يكون معدوماً؛ فإن المعدوم قبل والمعدوم مع: واحد، وهو قد سبقه الإمكان، والقبل المعدوم موجود مع وجوده؛ فهو إذاً معنى موجود؛ وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع أو قائم في موضوع، وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً، وإمكان الوجود إنما هو وا ه وبالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له؛ فهو إذاً معنى في موضوع وعارض لموضوع. ونحن نسميه قوة الوجود، ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعاً وهيولى ومادة وغير ذلك. فإذاً: كل حادث فقد تقدمته المادة، كما تقدمه الزمان.
المسالة الخامسة: في الكلي، والواحد، ولواحقهما.

قال: المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء، وبما هو واحد أو كثير خاص أو عام شيء آخر؛ بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج. وإذا قد عرفت ذلك، فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط، وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء، وهو محمول على كل واحد؛ لا على أنه واحد بالذات، ولا على أنه كثير. وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين، وهو بهذا الاعتبار ليس موجوداً بالفعل في الأشياء. فبين ظاهر أن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو، فلا كلي عام في الوجود؛ بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل، وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة. ثم الواحد يقال لما هو منقسم من الجهة التي قيل له منها أنه واحد، ومنه ما لا ينقسم في الجنس، ومنه ما لا ينقسم في النوع، ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السود، ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس. ومنه ما لا ينقسم في العدد، ومنه ما لا ينقسم في الحد. والواحد بالعدد: إما أن يكون فيه كثرة بالفعل فيكون واحداً بالتركيب والاجتماع، وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة فيكون واحداً بالاتصال، وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق. والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بازاء الواحد كما ذكرنا، والكثير بالإضافة هو الذي يترتب بإزائه القليل؛ فأقل العدد اثنان. وأما لواحق الواحد: فالمشابهه وهي اتحاد في الكيفية، والمساواة وهي اتحاد في الكمية، والمجانسة اتحاد في الجنس، والمشاكلة اتحاد في النوع، والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء، والمطابقة اتحاد في الأطراف، واللهو هو حال بين اثنين جعلا اثنين في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما؛ ويقابل كل واحد منهما من باب الكثير مقابل.
المسألة السادسة: في تعريف واجب الوجود بذاته، وأنه لا يكون بذاته وبغيره معاً، وانه لا كثرة في ذاته بوجه، وإنه خير محض وحق محض، وأنه واحد من وجوه شتى ولا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود وفي إثبات واجب الوجود بذاته.

قال: واجب الوجود معناه أنه ضروري الوجود، وممكن الوجود معناه أنه ليس فيه ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه. ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته، وقد لا يكون بذاته. والقسم الأول هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر، والثاني هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان؛ ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود؛ مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند وضع أثنين واثنين، ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً؛ فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل: إما أن يبقى وجوب وجوده، أو لم يبق؛ فإن بقي فلا يكون واجباً بغيره، وإن لم يبق فلا يكون واجباً بذاته، فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته؛ فإن وجوب وجوده تابع لنسبة ما وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء؛ فاعتبار الذات وحدها: إما أن يكون مقتضياً لوجوب الوجود وقد أبطلناه، وإما أن يكون مقتضياً لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره، وإما أن يكون مقتضياً لإمكان الوجود وهو الباقي. وذلك إنما يجب وجوده بغيره؛ لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه؛ ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق؛ فإن قيل: تجددت حالة؛ فالسؤال عنها كذلك. ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز لذاته مبادئ تجتمع، فيتقوم منها واجب الوجود: لا أجزاء كمية، ولا أجزاء حد؛ سواء كانت كالمادة والصورة، أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه: يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته؛ وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع، وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل؛ فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل؛ ولا يكون شيء منها بواجب الوجود. وليس يمكننا أن نقول: إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معاً؛ فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بحسم، ولا مادة في جسم، ولا صورة في جسم، ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة؛ ولا قسمة له: لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول؛ فهو واجب الوجود في جميع جهاته؛ إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة وجهة. وأيضاً فإن قدر أن يكون واجباً من جهة ممكناً من جهة كان إمكانه متعلقاً بواجب، فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً؛ فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر؛ بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له؛ فلا له إرادة منتظرة؛ ولا علم منتظر، ولا طبيعة، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة، وهو خير محض، وكمال محض. والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء، والشر لا ذات له؛ بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح حال للجوهر؛ فالوجود خيرية، وكمال الوجود كمال الخيرية، والوجود الذي لا يقارنه عدم؛ لا عدم جوهر ولا عدم حال للجوهر، بل هو دائم بالفعل؛ فهو خير محض، والممكن بذاته ليس خيراً محضاً لأن ذاته تحتمل العدم، وواجب الوجود هو حق محض؛ لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له؛ فلا أحق إذاً من واجب الوجود.

وقد يقال حق أيضاً لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً؛ فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً، ومع صدقه دائماً، ومع دوامه لذاته لا لغيره. وهو واحد محض؛ لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته؛ لأن وجود نوعه له بعينه: إما أن تقتضيه ذات نوعه، أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة؛ فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له؛ وإن كان لعلة فهو معلول؛ فهو إذاً تام في وحدانيته، وواحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حده له، وواحد من جهة أنه لا ينقسم إلا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية، وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له؛ فلا يجوز إذاً أن يكون أيمان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته، فيكون وجوب الوجود مشتركاً فيه على أن يكون جنساً أو عارضاً ويقع الفصل بشيء آخر؛ إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما. بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلاً الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما؛ لأن تلك الطبائع معلولة، وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود. وههنا: فوجوب الوجود هو الماهية، وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيواناً بل في أن يكون موجوداً. ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما؛ كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود، ويشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في منع كثرة اللفظ والاسم، بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم؛ وإن كان بالتباطؤ فقد حصل معنا عام عموم لازم أو عموم جنس؛ وقد بينا استحالة هذا. وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج واللوازم معلولة؟ وإما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان إن، وهو الاستدلال الممكن على الواجب، فنقول: كل جملة من حيث أنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذا كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو: إما أن تكون واجبة بذاتها، أو ممكنة بذاتها؛ فإن كانت واجبة الوجود بذاتها، وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم ببمكنات الوجود؛ هذا خلف. وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها، فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود؛ فإما أن يكون المفيد خارجاً عنها أو داخلاً فيها؛ فإن كان داخلاً فيها فيكون واحداً منها واجب الوجود وكائن كل واحد منها ممكن الوجود، هذا خلف. فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجاً عنها؛ وذلك هو المطلوب.
المسألة السابعة: في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول، وأنه يعقل ذاته والأشياء، وصفاته الإيجابية والسلبية لا توجب كثرة في ذاته، وكيفية صدور الأفعال عنه.
قال: العقل يقال على كل مجرد عن المادة، وإذا كان مجرداً بذاته عن المادة فهو عقل لذاته، واجب الوجود مجرد بذاته عن المادة؛ فهو عقل لذاته.

وبما يعتبر له أن هويته مجردة لذاته؛ فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة؛ فهو عاقل لذاته، وكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب أن يكون اثنين في الذات، ولا اثنين في الاعتبار؛ فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة، وأنه ماهية مجردة ذاته له؛ وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا، والغرض المحصل هو شيء واحد. وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات، وإذا عقلنا شيئاً فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل. ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود ؛ فهو الجمال المحض والبهاء المحض، وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق؛ وكلما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر؛ فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته؛ عشق من غيره أو لم يعشق. وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس؛ لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو، ويدركه بكنهه لا بظاهره، ولا كذلك الحس؛ فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس، لكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمر العسل لعارض. واعلم أن واجب الوجود ايس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء؛ وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال، بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها. والموجودات الكائنة الفسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك بأشخاصها، ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات؛ بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي؛ فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وأما كيفية ذلك؛ فلأنه إذا عقل ذاته، وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها. ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه؛ فتكون الأسباب بمصادماتها تتأذى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية. فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها؛ فيعلم ضرورة ما تتأذى إليه، وما بينها من الأزمنة، وما لها من العادات؛ فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات؛ وإن تخصصت بها شخصاً فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة. وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له وإبداع وإيجاد، ولا يستبعد هذا؛ فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سبباً للصورة الموجودة الصناعية؛ ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة، وهو العقل المقتضى لوجوده؛ فواجب الوجود ليس إرادته وقدرته مغايرة لعلمه... لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل: لا مأخوذاً عن الكل، ومبدأ بذاته لا متوقفاً على غرض وذلك هو الإرادة، وهو جواد بذاته، وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه؛ فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الأضافة، ومنها ما له هذا الوجود مع سلب؛ فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع. وهو واحد، أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول؛ أو مسلوب عنه الشريك، وهو عقل وعاقل ومعقول، أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما، وهو أول، أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل، وهو مريد، أي واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله، وهو جواد، أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته: فصفاته إما إضافية محضة، وإما سلبية محضة، وإما مؤلفة من إضافة وسلب: وذلك لا يوجب تكثراً في ذاته. قال: وإذا عرفت انه واجب الوجود وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن

يوجد؛ وذلك لأن الجائز أن يوجد وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود، والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض البتة شيء فيه ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحاً؛ إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة، فلا بد وأن يعرض له شيء، وذلك لا يخلو: إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر، وإما أن يعرض مبايناً عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال. قال: والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة، وهي كما كانت، وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل، وهي الآن كذلك؛ فالآن لا يوجد عنها شيء، فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة: من قصد، أو إرادة، أو طبع، أو قدرة، أو تمكن، أو غرض؛ ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات؛ وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل، ولم تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحالة، ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله، وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مبايناً عن ذاته؛ وقد بينا استحالة ذلك. وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلاً؛ فيلزم أن لا يحدث شيء أصلاً وقد حدث؛ فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته، وأنه سبقه لا بزمان ووقت ولا تقدير زمان بل سبقاً ذاتياً من حيث إنه هو الواجب لذاته، وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته. فالممكن مسبوق بالواجب فقط، والمبدع مسبوق بالمبدع فقط... لا بالزمان.جد؛ وذلك لأن الجائز أن يوجد وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود، والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض البتة شيء فيه ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحاً؛ إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة، فلا بد وأن يعرض له شيء، وذلك لا يخلو: إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر، وإما أن يعرض مبايناً عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال. قال: والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة، وهي كما كانت، وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل، وهي الآن كذلك؛ فالآن لا يوجد عنها شيء، فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة: من قصد، أو إرادة، أو طبع، أو قدرة، أو تمكن، أو غرض؛ ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات؛ وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل، ولم تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحالة، ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله، وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مبايناً عن ذاته؛ وقد بينا استحالة ذلك. وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلاً؛ فيلزم أن لا يحدث شيء أصلاً وقد حدث؛ فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته، وأنه سبقه لا بزمان ووقت ولا تقدير زمان بل سبقاً ذاتياً من حيث إنه هو الواجب لذاته، وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته. فالممكن مسبوق بالواجب فقط، والمبدع مسبوق بالمبدع فقط... لا بالزمان.

المسألة الثامنة: في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية، وأن المحرك القريب للسماويات نفس، والمبدأ الأبعد عقل، وحال تكون الأسطقسات عن العلل. إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد، ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوماً معاً فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته، ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته فتكون ذاته منقسمة بالمعنى، وقد منعناه وبينا فساده؛ فتبين أن أول الموجودات عن الأول واحد بالعدد، وذاته وماهيته وحدة لا ما في مادة، وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل. وأنت تعلم أن في الموجودات أجساماً وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسي وأنه يجب بغيره، وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول بغير واسطة؛ وعلمت أن الواسطة واحدة؛ فبالحري أن تكون عنها المبدعات الثانية والثالثة وغيرها؛ بسبب إثنينية فيها ضرورة. فالمعلول الأول ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول، ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة، وليست هذه الكثرة له من الأول فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول، بل له من الأول وجوب وجوده ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول، وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه، ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة، ولا كان يتسلسل الوجود من وحدات فقط؛ فما كان يوجد جسم. فالعقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه وهو الأمر المشارك للقوة. فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل، وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها: كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك. وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك... إلا أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا.

وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق، فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة، وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة؛ فتلزم كثرته هذه المعلولات، ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقاً. ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول، فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحداً هو المعلول الأول، ولا أيضاً يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للتأخر ؛ لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة، فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة. والمادة لها طبيعة عدمية، والعدم ليس مبدأ للوجود؛ فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود؛ فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم، ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله؛ إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهراً مفارقاً وإلا كان عقلاً، وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتها. وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم، ولا يكون متوسطاً بين نفس ونفس. ولو أن نفساً كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم، وليست النفس الفلكية كذلك، فلا تفعل شيئاً، ولا تفعل حسماً؛ فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال. فتعين أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور للأجرام؛ والجميع مشترك في مبدأ واحد وهو الذي نسميه المعلول الأول والعقل المجرد. ويختص كل فلك بمبدأ خاص فيه، ويلزم دائماً عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها وينتهي بالفلك الأخير، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد؛ لتكثر الأسباب. فكل عقل هو أعلى في المرتبة؛ فإنه المعني فيه، وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه. وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه؛ فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته. وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره. ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية؛ فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل. والمادة بنفسها لا قوام لها، كما أن الإمكان نفسه لا وجود له. وإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقسات، ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة وجب أن يكون مبادئها متغيرة؛ فلا يكون ما هو عقل محض وحده سبباً لوجودها، ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلف في أحوال الأفلاك، واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك؛ فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة، ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة. ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شئ فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال، كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل، ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية، فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري؛ أو بواسطة تجعله على استعداد خاص به بعد العام الذي كان في جوهره: فاض عن هذا المفارق صورة خاصة. وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة، وهي معدات المادة. والمعد: هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولي من مناسبته لشيء آخر، ويكون هذا الإعداد مرجحاً لوجود ما هو أولي منه من الأوائل الواهبة للصور. ولو كانت المادة على التهيؤ الأول تشابهت نسبتها إلى الصندين فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة. قال: والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية: إما عن أربعة أجرام. أو عن عدة منحصرة في أربع، أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساماً من الأسباب منحصرة في أربع؛ فتحدث منها العناصر الأربعة، وانقسمت بالخفة والثقل؛ فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق، وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل، وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة فبينهما.

وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية، وسنذكر أقسامها وتوابعها. وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد؛ فإنها كثيرة مع وحدة النوع. والمعلول الأول الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا، ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع؛ فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها، وصور تتخالف وتتكثر؛ بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئاً غير ما يقتضيه الآخر في النوع، فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر. فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول بتوسط علة أو علل أخرى وأسباب من الأمزجة والمواد؛ وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع. ونبتدئ القول في الحركات، وأسبابها، ولوازمها: أعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم والجسم على حالته الطبيعية، وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية؛ إذ لو كان شيء من الحركات مقتضي طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف، وإما في الكم، وإما في المكان، وإما في الوضع، وإما في مقولة أخرى. والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية؛ فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة، وإلا كانت عن حال غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية؛ لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار بل على سبيل التسخير؛ فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة: إما عن أين غير طبيعي، أو وضع غير طبيعي هرباً طبيعياً عنه، وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه. والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذاً طبيعية، إلا أنها قد تكون بالطبع؛ وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئاً بالطبع، وإنما تحرك بتوسط الميل الذي فيه. ونقول: إن الحركة معنى متجدد السبب، وكل شطر منه مختص بسبب؛ فإنه لا ثبات له. ولا يجوز أ يكون عن معنى ثابت البتة وحده؛ ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال؛ فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت، فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة؛ فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير، والقوة العقلية حاضرة المعقول دائماً، ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركاً للتخيل والحس؛ فلا بد للحركة من مبدأ قريب. والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتحد تصوراتها وإراداتها؛ وهي كمال جسم الفلك وصورته؛ ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلاً محضاً لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالط ما بالقوة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا؛ إلا أن لها أن اعقل بوجه ما تعقلاً مشوباً بالمادة. وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة؛ وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية؛ كالفعل العقلي فينا، والمحرك الأول لها غير مادي أصلاً، وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية؛ والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها نوره دائماً صارت قوتها غير متناهية؛ فكانت الحركات المستديرة أيضاً غير متناهية. والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل، ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة؛ إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولي لأن يكون ملاقياً له أو لجزئه من جزء آخر، فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة. والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال، ولم يكن هذا ممكناً للجرم السماوي بالعدد؛ فحفظ بالنوع والتعاقب، فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال، ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال، ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه. فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور المرجب له، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول؛ لأن ذلك تصور لما بالفعل، فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب، ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى

المقصود الأول، وتتبع تلك التصورات الحرمات المنتقل بها في الأوضاع، وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية. وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها؛ بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء، فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر متشابه، وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء؛ ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان. فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه، ومتحرك بالنفس، ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية؛ وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها؛ وعرفت أن المحرك الأول لجملة السماء واحد، ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه، ومتشوق معشوق يخصه. فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى؛ وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى، ولكل واحدة مبدأ خاص، وللكل مبدأ؛ فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة. ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة، ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء بل ولا قصد فعل البتة لأجلها؛ وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود، ويكون أنقص وجوداً من المقصود؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر، ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل؛ وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئاً له ومفيد وجوده شيء آخر، وكل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً ما لقاصد؛ لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال. ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن؛ فالعالي إذاً لا يريد أمراً لأجل السافل، وإنما يريده لما هو أعلى منه؛ وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان. الأول، وتتبع تلك التصورات الحرمات المنتقل بها في الأوضاع، وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية. وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها؛ بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء، فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر متشابه، وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء؛ ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان. فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه، ومتحرك بالنفس، ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية؛ وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها؛ وعرفت أن المحرك الأول لجملة السماء واحد، ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه، ومتشوق معشوق يخصه. فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى؛ وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى، ولكل واحدة مبدأ خاص، وللكل مبدأ؛ فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة. ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة، ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء بل ولا قصد فعل البتة لأجلها؛ وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود، ويكون أنقص وجوداً من المقصود؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر، ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل؛ وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئاً له ومفيد وجوده شيء آخر، وكل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً ما لقاصد؛ لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال. ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن؛ فالعالي إذاً لا يريد أمراً لأجل السافل، وإنما يريده لما هو أعلى منه؛ وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان.

ولا يجوز أن يكون الغرض تشبهاً بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي؛ إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم، ولم يكن مخالفاً له أو أسرع في كثير من الواضع. ولا يجوز أن يكون الغرض شيئاً يوصل إليه بالحركة؛ بل شيئاً مباسناً غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها. وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه؛ وتختلف الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك، وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها. وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك؛ وهذا نعنى قول القدماء: إن للكل محركاً واحداً معشوقاً، ولكل كرة محركاً يخصها ومعشوقاً يخصها؛ فيكون إذاً لكل فلك نفس محركة تعقل الخير، ولها بسبب الجسم تخيل أي تصور للجزئيات وإرادة لها؛ ثم يلزمها حركات ما دونها لزوماً بالقصد الأول حتى تنتهي آلة حركات الفلك الذي يلينا، ومدبرها العقل الفعال. ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك، وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال، فيعطيها صورها على قدر استعداداتها، كما قررنا. فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها، وستعلم بواقيها في الطبيعيات.
المسألة التاسعة: في العناية الأزلية، وبيان دخول الشر في القضاء.

قال: العناية هي كون الأول عالماً لذاته بما عليه الوجود من نظام، وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، وراضياً به على النحو المذكور؛ فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان؛ فيفيض منه ما يعثله نظاماً وخيراً على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضاناً على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان، فهذا هو معنى العناية. والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولاً بالذات لا بالعرض، والشر بالعكس منه وهو على وجوه: فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة، ويقال شر لمثل الألم والغم، ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء، وبالجملة الشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته. والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه، والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه، ولو كان له حصول ما لكان الشر العام. وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل، وليس فيه ما بالقوة أصلاً فلا يلحقه شر. وأما الشر بالعرض فله وجود ما؛ وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة؛ وذلك لأجل المادة. فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها؛ وأول وجودها: هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه، فتجعلها أردأ مزاجاً وأعصى جوهراً لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم، فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية؛ لا لأن الفاعل قد حرم، بل لأن المنفعل لم يقبل. وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين: إما مانع للمكمل، وإما مضاد ماحق للكمال. مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتركمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص. ويقال شر للأفعال المذمومة، ويقال شر لمبادئها من الأخلاق؛ مثال الأول: الظلم والرياء، ومثال الآني: الحقد والحسد. ويقال شر للآلام والغموم، ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله. والضابط لكله إما عدم وجود، وإما عدم كمال. فنقول: الأمور إذا توهمت موجودة فإما تمتنع أن تكون إلا خيراً على الإطلاق، أو شراً على الإطلاق، أو خيراً من وجه وشراً من وجه؛ وهذا القسم إما أن يتساوى الخير والشر، أو الغالب فيه أحدهما. أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة، وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلاً. فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن شر، والأحرى به أن يوجد؛ فإن لا كونه أعظم شراً من كونه، فواجب أن يفيض وجوده من حيث يقيض منه الوجود؛ لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي. وأيضاً؛ فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض، وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي، بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها؛ فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل، وبقي نمط من الوجود إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إليه ويتبعه ضرر وشر، مثل النار؛ فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخن، ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق، والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار، فأما الدائم؛ فلأن أنواعاً كثيرة لا تستحفظ على لدوام إلا بوجود النار، وأما الأكثر؛ فلان أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق، فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية؛ فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذا الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال: إن الله تعالى يريد الأشياء، ويريد الشر أيضاً على الوجه الذي بالعرض؛ فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض، وكل بقدر. والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة: السماوية والأرضية: الطبيعية والنفسانية؛ بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور، فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس: صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر، ويحدث في بدن: صورة قبيحة مشوهة، ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت، فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم

الفاسدة التي تعرض بالضرورة. وقيل: خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي؛ وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وكل ميسر لما خلق له.ة التي تعرض بالضرورة. وقيل: خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي؛ وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وكل ميسر لما خلق له.
المسألة العاشرة: في المعاد، وإثبات سعادات دائمة للنفوس، وإشارة إلى النبوة، وكيفية الوحي والإلهام.
ولنقدم على الخوض فيها أصولاً ثلاثة: الأصل الأول: أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً يخصها، وأذى وشراً يخصها؛ وحيثما كان المدرك أشد إدراكاً وأفضل ذاتاً والمدرك أكمل وجوداً وأشرف ذاتاً وأدوم ثباتاً؛ فاللذة أبلغ وأوفر.
الأصل الثاني: أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما؛ بحيث يعلم أن المدرك لذيذ، ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه ولم يفزع نحوه؛ فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك.
الأصل الثالث: أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة، وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده، أو تكون القوة ممنوة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمرور، فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه؛ فصدقت شهوته، واشتهت طبيعته، وحصل له كمال اللذة.

فنقول بعد تمهيد الأصول: إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل، والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض من واهب الصور على الكل؛ مبتدئاً من المبدأ. وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئآتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله؛ فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق ، ومتحداً به، ومنتقشاً بمثاله، ومنخرطاً في سلكه، وصائرا من جوهره؛ وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجوداً ودواماً ولذة وسعادة؛ بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية، وأعلى من الكمالات الجسمانية، بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال. وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وتهذيب الأخلاق. والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية، وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين؛ لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين؛ فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان، وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء. ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية؛ فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن، شديدة الانصراف إليه. وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة؛ فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن، فسعدت السعادة الكبرى. ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين؛ أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما، فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات، والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية. وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد؟ وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت؟ قال: فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب، وليته سكت عنه، وقد قيل: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال: وأطن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً ويصدق بها تصديقاً يقيناً لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، ويتصور العناية وكيفيتها، ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها: وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه؛ وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها. وكلما ازداد استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً؛ وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة. ثم إن النفوس والقوى الساذجة ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت، أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأياً مكتسباً إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي ؛ وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية، والجاحدون أسوأ حالا. والنفوس البله أدنى من الخلاص من فطانة بتراء، لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة، ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة، ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة، بل جميع هيئآتهم النفسانية متوجهة إلى الأسفل، منجذبة إلى الأجسام، ولابد لها من تخيل، ولابد للتخيل من أجسام. قال: فلابد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة؛ فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الرديئة أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه؛ فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد تأثيراً؛ كما تشاهد في المنام، وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة. وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها

بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية، ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها. قال: والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة؛ إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فيها يسمع كلام الله تعالى، ويرى ملائكته المقربين؛ وقد تحولت على صور يراها. وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول، ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس؛ كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة. ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته، مكتفياً بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضاً مكتفياً به؛ ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما، يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير. ولا بد في المعامل من سنة وعدل، ولا بد من سان ومعدل، ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة؛ فلا بد من أن يكون إنساناً. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً؛ فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها. ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود؟!. فلا بد إذاً من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى: يدعوهم إلى التوحيد ويمنعهم من الشرك، ويسن لهم الشرائع والأحكام، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن التباغض والتحاسد، ويرغبهم في الآخرة وثوابها، ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالاً تسكن إليها نفوسهم؛ وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير. والمذكرات إما حركات، وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات؛ فالحركات كالصلوات وما في معناها، وأعدام الحركات كالصيام ونحوه، وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين. وينفعهم ذلك أيضاً في المعاد منفعة عظيمة؛ فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن، وتحصل لها ملكة التسلط عليه، فلا تنفعل عنه، وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق، والإعراض عن الباطل، وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية؛ وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى؛ وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله، ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ؛ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى، وبإرسال الله تعالى، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنه؛ وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة، وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه؟!. وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات. لكنك تحدس مما سلف آنفاً: أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات؟ وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة، وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب، وقد تصفو النفس صفاء شديداً لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال، وبالقوة الثانية يخبر عن غيب ويكلمه ملك. فيكون ما للأنبياء عليهم السلام: وحياً، وما للأولياء: إلهاماً.بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية، ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها. قال: والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة؛ إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فيها يسمع كلام الله تعالى، ويرى ملائكته المقربين؛ وقد تحولت على صور يراها. وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول، ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس؛ كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة. ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته، مكتفياً بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضاً مكتفياً به؛ ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما، يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير. ولا بد في المعامل من سنة وعدل، ولا بد من سان ومعدل، ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة؛ فلا بد من أن يكون إنساناً. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً؛ فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها. ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود؟!. فلا بد إذاً من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى: يدعوهم إلى التوحيد ويمنعهم من الشرك، ويسن لهم الشرائع والأحكام، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن التباغض والتحاسد، ويرغبهم في الآخرة وثوابها، ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالاً تسكن إليها نفوسهم؛ وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير. والمذكرات إما حركات، وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات؛ فالحركات كالصلوات وما في معناها، وأعدام الحركات كالصيام ونحوه، وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين. وينفعهم ذلك أيضاً في المعاد منفعة عظيمة؛ فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن، وتحصل لها ملكة التسلط عليه، فلا تنفعل عنه، وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق، والإعراض عن الباطل، وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية؛ وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى؛ وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله، ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ؛ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى، وبإرسال الله تعالى، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنه؛ وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة، وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه؟!. وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات. لكنك تحدس مما سلف آنفاً: أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات؟ وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة، وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب، وقد تصفو النفس صفاء شديداً لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال، وبالقوة الثانية يخبر عن غيب ويكلمه ملك. فيكون ما للأنبياء عليهم السلام: وحياً، وما للأولياء: إلهاماً.

وها نحن نبتدأ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي على ابن سينا.
في الطبيعيات قال أبو علي ابن سينا: إن للعلم الطبيعي موضوعاً ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم، وموضوعه: الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير؛ وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات، وأما مبادئ هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن المادة والصورة؛ والقول في حقيقتهما؛ ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني... فقد ذكرناها في العلم الإلهي. والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير؛ وإما مختلفتها كبدن الإنسان، ومنها أجسام مفردة. والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية؛ وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت، وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر. والتجزؤ إما بتفريق الاتصال، وإما باختصاص العرض ببعض منه، وإما بالتوهم؛ وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل. قال: ومن أثبت الجسم مركباً من أجزاء لا تتجزأ بالفعل؛ فبطلانه لأن كل جزء مس جزءاً فقد شغله بالمس، وكل ما شغل شيئاً بالمس فإما أن يدع فراغاً عن شغله لجهة أو لا يدع؛ فإن ترك فراغاً فقد تجزأ الممسوس، وإن لم يترك فراغاً فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول وقد ماسه آخر... هذا خلف. وكذلك في كل جزء موضوع على جزأين متصل وغيره. من تركيب المربعات منها؛ لمساواة الأقطار والأضلاع، ومن جهة مسامتات الظل والشمس... دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ البتة: محال وجوده.
فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم. ونحصرها في ست مقالات.
المقالة الأولى في لواحق الأجسام الطبيعية؛ مثل الحركة، والسكون، والزمان، والمكان، والخلاء، والتناهي، والجهات، والتماس، والالتحام، والاتصال، والتتالي.

أما الحركة: فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيراً على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل؛ فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال، ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقياً غير متشابه الحال في نفسه، وذلك مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والطول والقصر والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره؛ فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول؛ فهو في المكان الأول بالفعل وفي المكان الثاني بالقوة؛ فالحركة: كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة، ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحصنة والفعل المحض، وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولاً قاراً مستكملاً، وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من بجواهر كذلك؛ فإذاً: لا شيء من الحركات في الجوهر. وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة. وأما الكمية؛ فلأنها تقبل التزيد والتنقص فخليق أن يمون فيها حركة؛ كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف. وأما الكيفية؛ فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود فيوجد فيه الحركة. وأما المضاف؛ فأبداً عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد، فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة. وأما الأين، فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة. وأما متى؛ فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة، فكيف يكون فيه الحركة؟ ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر. وأما الوضع؛ فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه؛ إذ لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً. ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع؛ ومثاله في الموجودات: الجرم الأقصى الذي ليس وراءه جسم. والوضع يقبل التنقص والاشتداد، فيقال: انصب وأنكس. وأما الملك؛ فإن تبدل الحال فيه تبدل أولاً في الأين؛ فإذاً الحركة فيه بالعرض. وأما أن يفعل؛ فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة؛ فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولاً، وفي الفعل بالعرض. على أن الحركة إن كانت خروجاً عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك؛ فإذاً: لا حركة بالذات إلا: في الكم، والكيف، والأين، والوضع؛ وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده.
والسكون: هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه، وهذا العدم له معنى ما ويمكن أن يرسم، وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقداً وقولاً وبين عدم المشي له؛ فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي، وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة بنحو، والمشي علة بالعرض لذلك العدم؛ فالعدم معلول بالعرض موجود بالعرض.

ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة؛ إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركاً فيجب أن يكون المحرك معنى زائداً على هيولى الجسمية وصورتها، ولا يخلو: إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم، وإما أن لا يكون؛ فإن كان المحرك مفارقاً فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير. ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركاً بذاته، وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى فيسمى متحركاً بالاختيار، وإما أن لا يصح فيسمى متحركاً بالطبع. والمتحرك بالطبع لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية؛ لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت. وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل، لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية؛ فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك؛ فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية. وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان؛ لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي، وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة، وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم؛ فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية، ولا الحركة الوضعية؛ فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية، ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها، وقد تحقق العود؛ فهي إذاً غير طبيعية؛ فهي إذاً عن اختيار وإرادة، ولو كانت عن قسر فلا بد أن ترجع إلى الطبع أو الاختيار. وأما الحركات في أنفسها فيتطرق غليها الشدة والضعف؛ فيتطرق إليها الشرعة والبطء لا بتخلل سكنات. وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة، وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد وفي زمان مساو؛ مثل تبييض ما يتبيض، وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ووحدتها بوجود الاتصال فيها. والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد. وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض أو أبطأ أو مساو، والأسرع هو الذي يقطع شيئاً مساوياً لما يقطعه الآخر في زمان اقصر وضده الأبطأ، والمساوي معلوم. وقد يكون التطابق بالقوة، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالتخيل. وأما تضاد الحركات فإن الضدين هما اللذين موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الخلاف؛ فتضاد الحركات ليس بتضاد الأطراف والجهات، فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية؛ لأنهما لا يتضادان في الجهات، بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل؛ لأنها متصل واحد، فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور؛ فالهابطة ضد الصاعدة، والمتيامنة ضد المتياسرة. وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة، وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون؛ بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك، ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة. والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه؛ بل ربما كان هذا السكون استكمالاتها.

وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول: كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معاً، فإنهما يقطعان المسافة معاً؛ وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركتا الحركة معاً؛ فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى. وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر، وكان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة وأقل منها ببطء معين؛ وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة... يكون هذا الإمكان طابق جزءاً من الأول ولم يطابق جزءاً مقتضياً وكان من شأن هذا الإمكان التقضي؛ لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها، ولما كان إمكان أقل من إمكان؛ فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان، فكان ذا مقدار مطابق للحركة؛ فإذاً ههنا مقدار للحركات مطابق لها. وكل ما طابق الحركات فهو متصل، ويقتضي الاتصال تجدده؛ وهو الذي نسمبه: الزمان. ثم هو لا بد وأن يكون في مادة، ومادته الحركة؛ فهو مقدار الحركة. وإذا قدرت وقوع حركتين مختلقتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان، بل مقداران مختلفان. وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع؛ فليس الزمان محدثاً حدوثاً زمانياً بحيث يسبقه زمان؛ لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه؛ وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه. وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه، فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم؛ فإذا قسم ثبتت منه آنات وانقسم إلى الماضي والمستقبل؛ وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد، وكون الآن فيه كالوحدة في العدد، وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد. والدهر هو المحيط بالزمان. وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم؛ كالساعات والأيام، والشهور، والأعوام.
وأما المكان؛ فيقال مكان: لشيء يكون محيطاً بالجسم، ويقال: لشيء يعتمد عليه الجسم. والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي؛ وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له، وليس هو شيئاً في المتمكن، وكل هيولى وصورة فهو منن المتمكن؛ فليس إذا المكان إذاً بهيولى وصورة؛ ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة قائمة بمكان الجسم المتمكن؛ لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم، ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء. ونقول في نفي الخلاء: إن فرض خلاء خال، فليس هو لا شيئاً محضاً، بل هو ذات ما له كم؛ لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو اكثر، ويقبل التجزؤ في ذاته. والمعدوم واللا شيء ليس يوجد هكذا، فليس الخلاء لا شيء، فهو ذو كم. وكل كم فإما متصل وإما منفصل؛ والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه، وقد تقرر في الخلاء حد مشترك، فهو إذاً متصل الأجزاء منحازها في جهات؛ فهو إذاً كم ذو وضع، قابل للأبعاد الثلاثة؛ كالجسم الذي يطابقه، وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة. فنقول: الخلاء المقدر إما أن يكون موضوعاً لذلك المقدار، أو يكون الوضع والمقدار جزأين من الخلاء؛ والأول باطل؛ فإنه إذا رفع المقدار في التوهم: كان الخلاء وحده بلا مقدار بنفسه لا لمقدار حله، وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذا جسم فهو ملاء.
وأيضاً؛ فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا والخلاء لا مادة له؛ فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال ونقول: إن التمانع محسوس بين الجسمين، وليس التمانع من حيث المادة؛ لأن المادة من حيث إنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء، وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد؛ فطباع الأبعاد تأبى التداخل، وتوجب المقاومة والتنحي. وأيضاً؛ فإن بعداً لو دخل فإما أن يكونا جميعاً؛ فهما أزيد من الواحد، وكل ما هو عظيم، وهو أزيد، فهو أعظم. وإن عدما جميعاً. أو وجد أحدهما وعدم الآخر؛ فليس مداخلة. فإذا قيل: جسم في خلاء، فيكون بعداً في بعد، وهو محال.

ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم: إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه؛ إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف. فإن كل غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم، قيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئاً على حدة، إما أن يكونا بحيث يمتدان معاً متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال، وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهياً والفصل أيضاً كان متناهياً فيكون المجموع متناهياً فالأصل متناه. وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويمون طرفاً ونهاية، ويكون الكلام في الأجزاء والجزأين كالكلام في الأول. وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه، وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد وفرض أنه يحتمل زيادة ونقصاناً وجب أن يلزم ذلك محال. وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معاً وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحداً قبل آخر أو بعده لاحقاً، أو كانت ذات عدد مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معاً، وذلك أن ما لا يترتب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق؛ وما لا وجود له معاً فهو فيه أبعد، ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية: قال: الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه، فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل؛ بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة. واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها، أو إلى عدة ما يظهر عنها، أو إلى مدة بقاء الفعل؛ وبينها فرقان بعيدان؛ فإن جل ما يكون زائداً بنوع الشدة يكون ناقصاً بنوع المدة. وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر، ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة؛ لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو: إما أن يقل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهياً يجوز عليه زيادة في آخره، وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة؛ فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية.
وأما الكلام في الجهات؛ فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعاداً أو جسماً غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة فلا يكون فوق وسفل، ويمين ويسار، وقدام وخلف؛ فالجهات إنما تتصور في أجسام متناهية، فتكون الجهات أيضاً متناهية، ولذلك يتحقق إليها إشارة. ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى. وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط، والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط. وإذا كان الجسم المحدد محيطاً كفى لتحديد الطرفين؛ لأن الإحاطة تثبت المركز، فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر. وأما إن فرض محاطاً لم تتحدد به وحده الجهات؛ لأن القرب يتحدد به، والبعد منه يتحدد بجسم آخر؛ إذ لا خلاء، وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط. ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها، بل الجهات تحصل بحركاتها؛ فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسماً متقدماً عليه، وتكون إحدى الجهات بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام، بل بما هي حيوانات؛ فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية، واليمين الذي منه مبدأ القوة، والفوق إما بقياس فوق العالم؛ والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى أن يسمى طولاً، واليمين واليسار بما الأولى أن يسمى عرضاً، والقدام والخلف بما الأولى أن يسمى عمقاً.
المقالة الثانية في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام.

من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة، وأن لكل جسم حيزاً ما ضرورة؛ فلا يخلو: إما أن يكون كل حيز له طبيعياً، أو منافياً لطبيعته، أو لا طبيعياً ولا منافياً، أو بعضه طبيعياً وبعضه منافياً. وبطل أن يكون كل حيز له طبيعياً؛ لأنه يلوم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجاً عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائماً لطبعه، وليس الأمر كذلك؛ فهو خلف. وبطل أن يكون كل حيز منافياً لطبعه؛ لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم البتة بالطبع ولا يتحرك أيضاً، وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه؟. وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً؛ لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي، فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر. وتعين القسم الرابع: لأن بعض الأحياز له طبيعي، وبعضها غير طبيعي. وكذلك نقول في الشكل: إن لكل جسم شكلاً ما بالضرورة لتناهي حدوده، وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر، وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كرياً؛ لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه، فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطاً مستقيماً أو منحنياً، فينبغي أن يتشابه الأجزاء، فيجب أن يكون الشكل كرياً. وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها. فالأجسام السماوية كلها كرية. وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة، فلا يتصور أرضا، في وسطين في عالمين، ولا ناران في أفقين، بل لا يتصور عالمان؛ لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل؛ فلو قدر كريان أحدهما بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم؛ وقد تقدم استحالة الخلاء. وأما الحركة؛ فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض بل من حيث هو جسم في حيز فهو إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ساكناً، وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي، فنقول: إن كان الجسم بسيطاً كانت أجزاؤه متشابهة، وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك، فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص بعض أجزاء المكان من بعض؛ فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعياً، فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع، بل في طباعه أن يزول عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة، وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج فبالضرورة في طباعه حركة ما إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركاً في الوضع بحركة الأجزاء، وإذا: صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل، ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة. والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق؛ فهي متحركة على الاستدارة، وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها.

وأما الكيف فنقول أولاً: إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة بل هي مختلفة بالطبع، كما أن صورها مختلفة، ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى؛ ولو أمكن ذلك كذلك لقبلت الحركة المستقيمة، وهو محال. فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع، بخلاف طبائع العناصر؛ فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة، وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار، وإلى حار رطب كالهواء، وإلى بارد رطب كالماء، وإلى بارد يابس كالأرض؛ وهذه أعراض فيها لا صور، ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض، ويقبل النمو والذبول، ويقبل الآثار من الأجسام السماوية. وأما الكيفيات؛ فالحرارة والبرودة فاعلتان؛ فالحار هو الذي يغير جسماً آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه، والبارد هو الذي يغير جسماً بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه. وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان؛ فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع والتشكيل والدفع، واليابس هو عسر القبول لذلك. فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع، ولا يوجد شيئاً منها عديماً لواحدة من هذه. وليست هذه صوراً مقومة للأجسام؛ لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر أو برد ورطوبة ويبس، كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة، فلذلك قيل قوة طبيعية، وقيل النار حارة بالطبع، والسماء متحركة بالطبع. فعرفت الأحياز الطبيعية، والأشكال الطبيعية، والحركات الطبيعية، والكيفيات الطبيعية. وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه؛ فنقول بعد ذلك: إن العناصر قابلة للاستحالة والتغير وبينها مادة مشتركة، والاعتبار في ذلك بالمشاهدة؛ فإنا نرى الماء العذب انعقد حجراً جلمد والحجر يكلس فيعود رماداً، ويرام بالحيلة حتى يصير ماء، فالمادة مشتركة بين الماء والأرض. ونشاهد هواء صحواً يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبرداً وثلجاً، ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح؛ لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حاراً والكوز مملوءا، ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد، وقد يدفن القدح في جمد محفور حفراً مهندماً ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير، وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء؛ وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء؛ فبين الماء والهواء مادة مشتركة. وقد يستحيل الهواء ناراً، وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ، فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره، وليس ذلك على طريق الانجذاب؛ لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو، ولا على طريق الكمون؛ إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق، والكمون أجمع لها، والمنتشر أضعف تأثيراً من المجتمع؛ فتعين أنه هواء اشتعل ناراً؛ فبين النار والهواء مادة مشتركة. ونقول: إن العناصر قابلة للكبر والصغر والتكاثف والتخلخل، فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج، ويصير أصغر من غير نقصان؛ فبين الكبير والصغير مادة مشتركة؛ إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى، والكبر والصغر أعراض في الكميات. وقد نشاهد ذلك إذا أغلي الماء انتفخ وتخلخل، والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان، وكذلك القمقمة الصياحة، وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت، ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان، ولا جائز من الماء ولا خلاء فيه؟ ولا جائز أن يقال: إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها؛ فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره، وإذا كان الإناء صلباً خفيفاً كان رفعه أسهل من كسره؛ فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف، وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص. ونقول: إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية: غما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة؛ والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق، وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب

الصور، وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات؛ وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد؟ وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه؟. فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير. وتبين ما لها بالعنصر والجوهر.ر، وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات؛ وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد؟ وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه؟. فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير. وتبين ما لها بالعنصر والجوهر.

المقالة الثالثة في المركبات والآثار العلوية. قال ابن سينا: إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة بل يكون فيها اختلاط، ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض، أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها، وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل، وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة، ثم الأرض على طبقات: الطبقة الأولى القريبة من المركز، والثانة الطين، والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر. والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة والماء يستحيل أرضاً فتحصل ربوة، والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة. وأما الهواء فهو أربع طبقات: طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمي فتتعدى الحرارة إلى ما يجامرها، وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة، وطبقة هي هواء صرف صاف، وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق. وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها بل هي كالهواء المشف الذي لا لون له، وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون. ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية؛ والعناصر بطبقاتها طوعها والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها. والفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها، ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي، ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن، بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء؛ فالفلك إذاً هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية الأرضية. والبخار أقل مسافة وأثار شيئاً بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية. والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان؛ لأن الماء إذا سخن كان حاراً رطباً. والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة، والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء، والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار. والبخار لا يجاوز مركز الهواء بل إذا وافى منقطع تاثير الشعاع برد وكثف، والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار، وإذا احتبستا فيهما حدثت كائنات أخر. فالدخان إذا وافى حيز النار اشتغل، وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به، وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود، ز ربما كان غليظاً ممتداً وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنباً له، وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب، وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة، وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحاً وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد، وإن ناراً مضيئة تسمى البرق، وإن كان المشتعل كثيفاً ثقيلاً محرقاً اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة؛ ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس؛ ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير. ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعاً عن الحركة؛ ولكن البصر أحد، فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع، وقد يرى متقدماً ويسمع متأخراً.

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً؛ والقاطر مطراً، ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعاً قبل أن يتركم سحاباً؛ وهذا هو الطل، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجاً، وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعاً، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً؛ وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب وفي الربيع وهو داخل السحاب؛ وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة، وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً واستحال مطراً. ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها واستوائها ورعشتها وكثريها وقلتها؛ فيرى هالة وقوس قزح وشموس وشهب. فالهالة تحدث على انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير؛ فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير، وما في داخلها ينفذ عن البصر إلى النير، ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود، وكأن الغيم هناك هواء شفاف. وأما القوس فإن الغمامة يكون في خلاف جهة النير، فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير؛ فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور، فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين؛ فيرى القوس نصف دائرة، فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر في المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة، وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد. والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضباباً، وربما اندفعت بعد التطلف إلى أسفل فصارت رياحاً، وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة، وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى؛ وأكثر ما يهيج البرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادئ الرياح فوقانية، وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحاً، والسموم ما كان منها محترقاً. وأما الأبخرة داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيوناً، وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت، وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن، وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب حظ؛ وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد. فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويمون قبل أن يصلب زئبقاً ونفطاً؛ وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام. ومنها ما لا يقبل ذلك. وقد تتكون من عناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً من المعادن، فيحصل في المركب قوة عادية وقوة نامية وقوة مولدة؛ وهذه القوى متمايزة بخصائصها.
المقالة الرابعة: في النفوس وقواها.
اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها النباتية: وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي، والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه: ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل. والثاني النفس الحيوانية: وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة. والثالث النفس الإنسانية: وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية. وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي: القوة الغاذية: وهي القوة التي تحيل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه، والقوة المنمية: وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً بقدر الواجب؛ ليبلغ به كماله في النشوء، والقوة المولدة: وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءاً هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهاً به بالفعل. فللنفس النباتية ثلاث قوى.
وللنفس الحيوانية قوتان محركة ومدركة، والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة، وإما محركة بأنها فاعلة. والباعثة: هي القوة النزوعية الشوقية. وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك، ولها شعبتان: شعبة تسمى شهوانية، وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلباً للذة، وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة. وأما القوة المحركة على أنها فاعلة؛ فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات ومن شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.
وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين: أحدهما قوة تدرك من خارج، وهي الحواس الخمس، أو الثمانية: فمنها البصر؛ وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقلية. ومنها السمع؛ وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتلأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاضاً بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتادى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ، ويموجه بشكل نفسه، وتماس أمواج تلك الحركة العصبة؛ فيسمع. ومنها الشم؛ وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح، والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة. ومنها الذوق؛ وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله. ومنها اللمس؛ وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه؛ والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة، ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعاً بل جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد كله: الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس، والرابعة حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس؛ إلا أن اجتماعها معاً في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات. والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة.

والقسم الثاني: قوى تدرك في باطن؛ فمنها ما يدرك صور المحسوسات، ومنها ما يدرك معاني المحسوسات. والفرق بين القسمين في أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معاً ولكن الحس يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس؛ مثل إدراك الشاة صورة الذئب. أو المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولاً؛ مثل إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه. ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل، ومنها ما يدرك ولا يفعل. والفرق بين القسمين: أن الفعل فيها هو أن تركب الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض؛ وتفصل بعضها عن بعض؛ فيكونه إدراك وفعل أيضاً فيما أدرك، والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرف فيه. ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولاً ومنها ما يدرك ثانياً، والفرق بين القسمين: أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه، والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها.
ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة بنطاسية وهو الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه إليه. ثم الخيال والمصورة؛ وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قله الحس المشترك من الحواس، ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات. والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية، وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية؛ فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار. ثم إن القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية؛ كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه وأن الولد معطوف عليه. ثم القوة الحافظة الذاكرة؛ وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات. ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك؛ إلا أن ذلك في المعاني وهذا في الصور. فهذه خمس قوى الحيوانية.
وأما النفس الناطقة للإنسان فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عالمة وقو عاملة، وكل واحد من القوتين يسمى عقلاً باشتراك الاسم. فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية، ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية، واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة، واعتبار بالقياس إلى نفسها. وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال؛ مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء. وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة، واستنباط الصناعات الإنسانية. وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة؛ مثل إن الكذب قبيح والصدق حسن. وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه البتة بل ينفعل عنها؛ فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية، وهي التي تسمى أخلاقاً رذيلة، بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها وتكون متسلطة عليها. وأما القوة العالمة النظرية؛ فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة؛ فإن كانت مجردة بذاتها فذاك، وإن لم تكن فإنها تسيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء. ثم لها إلى هذه الصور نسب؛ وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئاً قد يكون بالقوة قابلاً لها، وقد يكون بالفعل.
والقوة على ثلاثة أوجه: قوة مطلقة هيولانية؛ وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة، وقوة ممكنة؛ وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف، وقوة تسمى ملكة؛ وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب.

فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق؛ وتسمى عقلاً هيولانياً، وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية تسمى عقلاً بالفعل، وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت محزونة له بالفعل متى شاء طالعها؛ فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلاً مستفاداً، وإذا كانت مخزونة تسمى عقلاً بالملكة، وههنا ينتهي النوع الإنساني ويتشبه بالمبادئ الأولى للوجود كله. وللناس مراتب في هذا الاستعداد؛ فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم، حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليداً بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه: إما دفعة في زمان واحد، وإما دفعات في أزمنة شتى؛ وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات. أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية. فالدرجة العليا منها النبوة فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة وكلمات مسموعة؛ فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل، وعن الكلام بوحي في صورة عبارة.

المقالة الخامسة في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم. وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات. وأنها واحدة وقواها كثيرة، وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن. أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكاً معقولاً مجرداً عن المواد وعوارضها؛ أعني الكم والأين والوضع؛ إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقاً، وإما لان العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقاً. فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي تجردها؟ أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه؟ أم بالقياس إلى مجرد الآخذ؟ ولا شك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة؛ فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل، والجسم ذو وضع وأين، وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين. وهذه الطريقة أقوى الطرق؛ فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو: إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامناً أو متياسراً بالنسبة إلى المحل، أو تكونه نسبته إلى الكل نسبة واحدة، أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء؛ فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه، وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع؛ هذا خلف. وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحاً لأمور جزئية منقسمة، ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها. وأيضاً فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم، فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم؟. وأيضاً من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحداً من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر؛ وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسماً ولا قوة في جسم. ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم: أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة، وما لاينقسم لا يحل المنقسم، والمعقول غير منقسم، فلا يحل المنقسم: أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه، وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه، وأما أن لا ينقسم لا يحل منقسماً؛ فإنا لو قسمنا المحل، فلا يخلو: إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب، أو لا يبطل؛ ولا يخلو: إما أن يبقى حالاً في بعضه كما كان حالاً في كله وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل، وإما أن ينقسم بانقسام محله، وقد فرض فير منقسم. ثم لو فرض انقسام الحال فيه لا يخلو: إما أن كون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد، وليس كل صورة معقولة بشكل، أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة. وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال: إن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى، وإن كانت غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالت: منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضاً؛ فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية وهذا باطل. وأيضاً؛ فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب وهو محال، ثم ليس أحد الجزءان أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل. وأيضاً: ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات ابسط؛ فإن ههنا معقولات هي ابسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى؛ فلا يتوهم فيها أجزاء مشابهة. فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم، ولا قوة في جسم؛ فهو إذاً: جوهر معقول، علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف، وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة، وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة؛ فيتصرف في البدن. وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه؛ فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته، ويعقل أنه عقل ذاته، وليس بينه وبين ذاته آلة، ولا بينه وبين آلته آلة؛ فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه. وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل: إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة، وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة أبداً، فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلاً أبداً، وليس الأمر كذلك؛ فإنه تارة يعقل وتارة يعرض عن الإدراك، والأعراض عن

الحاضر محال. وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد؛ فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم، وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة، فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد، وهو محال. والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان؛ فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك. ولا يختص ذلك وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته؛ ولهذا فإن القوى الداركة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل، والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها؛ كالضوء الشديد للبصر، والرعد القوي للسمع، وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف. والأمر في القوة العقلية بالعكس؛ فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول، وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال.ضر محال. وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد؛ فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم، وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة، فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد، وهو محال. والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان؛ فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك. ولا يختص ذلك وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته؛ ولهذا فإن القوى الداركة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل، والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها؛ كالضوء الشديد للبصر، والرعد القوي للسمع، وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف. والأمر في القوة العقلية بالعكس؛ فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول، وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال.
على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة: أحدها: انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها، ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي؛ فيحدث للنفس من ذلك مبادئ بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب، فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتياً بيناً بنفسه أخذته، وما كان ليس كذلك تركته إلى يصادف الواسطة. والثالث: تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو تال لازم لمقدم، فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما. والرابع: الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق، وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق، وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها، وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق.

قال: والدليل أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى؛ فإن وجدت قبل البدن: فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة، ومحال أن تكون متكثرة الذوات؛ فإن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة، وأما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة، وبطل الأول لأن صورتها واحدة وهي متفقة في النوع، والماهية لا تقبل اختلافاً ذاتياً؛ وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود. قال: ومحال أن تكون واحدة الذات؛ لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان: فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة وهو محال؛ لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسماً، وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين، وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله؛ فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها، ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله، والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته. وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتاً إلا بواسطته. وأما بعد مفارقة البدن وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها. وأنها لا تموت بموت البدن؛ لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق: فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود، وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه، فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما بفساد الثاني؛ لأنه أمر إضافي، وفساد أحدهما يبطل الإضافة لا الذات. وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود، فالبدن علة النفس، والعلل أربع: فلا يجوز أن يكون علة فاعلية؛ فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئاً إلا بقواه، والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية؛ فمحال أن يفيد أمر قائم بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ولا يجوز أن يكون علة قابلية؛ فقد بينا أن النفس ليست منطبقة في البدن. ولا يجوز أن يكون علة صورية إن كمالية؛ فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس: فإذاً تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً على انه علة ذاتية لها. نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس؛ فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية؛ فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد، ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين. ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شئ معطل في الطبيعة، ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شئ هو النفس. وليس إذا وجب حدوث شئ من حدوث شئ وجب أن يبطل مع بطلانه. وأما القسم الثالث مما ذكرناه وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم؛ فالمتقدم إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان، وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم؛ على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب وليس ذلك مما يتعلق بالنفس: فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس.

ويقول: إن سبباً آخر لا يفسد النفس أيضاً، بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد؛ لان كل شئ من شأنه أن يفسد بأمر ما ففيه قوة أن يفسد، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى، ومحال أن يكون من جهة واحدة في شئ واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى؛ فإن تهيؤه للفساد شئ وفعله للبقاء شئ آخر؛ فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين، أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها. ومن الدليل على ذلك أيضاً: أن كل شئ يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضاً: لأن بقاءه ليس بواجب ضروري، وإذا لم يكن واجباً كان ممكناً، والإمكان هو طبيعة القوة، فإذا: يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى؛ فيكون فعل أن يبقى منه أمراً يعرض للشيء الذي له قوة على البقاء، وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة، وقوة البقاء له كالمادة؛ فيكون مركباً من مادة وصورة، وقد فرضناه واحداً فرداً؛ هذا خلف. فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته؛ والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات. وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفساً تدبره، ولا يختص هذا ببدن دون بدن، بل كل بدن حكمه كذلك، فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال؛ فالتناسخ إذاً باطل.
المقالة السادسة في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل.
وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة، وإدراكها علم الغيب، ومشاهدتها صوراً لا وجود لها من خارج تلك الوجوه، ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق.
أما الأول؛ فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية؛ أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلابد له من سبب يخرجه إلى الفعل، وذلك السبب يجب أن يكون موجوداً بالفعل، فإنه لو كان موجوداً بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر: فإما أن يتسلسل، أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه؛ فلا يجوز أن يكون ذلك جسماً لأن الجسم مركب من مادة وصورة، والمادة أمر بالقوة، فهو إذاً جوهر مجرد عن المادة وهو العقل الفعال. وإنما سمى فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة. وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر. وليس يختص فعله بالعقول والنفوس، بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام؛ فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور. وأعلم أن الجسم وقوة في الجسم لا يوجد شيئاً؛ فإن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة طبيعتها عدمية؛ فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم ،و العدم لا يؤثر في الوجود .فالفعل الفعال: هوا لمجرد عن المادة وعن كل قوة؛ فهو بالفعل من كل وجه. وأما الثاني من الأحوال الخاصة بالنفس؛ فالنوم، والرؤيا. والنوم غرور القوى الظاهرة في أعماق البدن، وانحناس الأرواح من الظاهر إلى الباطن، ونعني بالأرواح ههنا أجساماً لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب، وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية؛ ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة، فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس؛ لأنها لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها، فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها، فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء، لا سيما ما يناسب أغراض الرائي، ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة. فإن كانت الصور جزئية ووقعت في النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا؛ ولا تحتاج إلى تعبير، وإن وقعت في المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة؛ وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل، ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير، وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلطت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام؛ لا تعبير لها، وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالاً مختلطة.

وأما الثالث؛ في إدراك علم الغيب في اليقظة. إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشغله الحواس ولا تمنعه، بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعاً، فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف، وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحياً صريحاً. وإن وقع في المخيلة، واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقراً إلى التأويل.
وأما الرابع؛ في مشاهدة النفس صوراً محسوسة لا وجود لها؛ وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكاً قوياً، فيبقى عين ما أدركته في الحفظ ، وقد تقبله قبولاً ضعيفاً فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك، وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة.
والإبصار: هو وقوع صورة في الحس المشترك، فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوساً؛ فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك، ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات.
وأما الخامس: فالمعجزات والكرامات.
قال: خصائص المعجزات والكرامات ثلاث: خاصية: في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة؛ وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة، مطيعة لقواها السارية في العالم، وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس. فتفعل فعلها، وتقوى على ما قويت هي؛ فتزيل جبلاً عن مكانه وتذيب جوهراً فيستحيل ماء، وتجمد جسماً سائلاً فيستحيل حجراً. ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس؛ فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخيناً بالإضاءة، كذلك السراج يؤثر بقدره. وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن؛ فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمى المزاج وأحمر الوجه، وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها: حدثت في أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح؛ حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع، فتستعد له... والمؤثر ههنا مجرد التصور لا غير.
والخاصية الثانية: أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم؛ فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم فالشريف البالغ منها: يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار، نور على نور.
والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة؛ بأن تقوى النفس، وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق، وتحتكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك؛ فيكون مسموعاً.
قال: والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص، وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة. وفي الطبيعة أسرار، ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب.
وجل جنات الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد.
وبعد؛ فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل، عبرة للمحصل، فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه؛ فإنها لا تناسبه. وكل ميسر لما خلق له.
تمت الطبيعيات بحمد الله.
الجزء الثالث
آراء العرب في الجاهلية
بين العرب وغيرهم: قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب: أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأجملنا القول فيه؛ حيث كانت المقاربة بين الفريقين والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع. وأن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد؛ حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفيات الأشياء والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد.
والآن نذكر أقاويل العرب في الجاهلية، ونعقبها بذكر أقاويل الهند وبها نختم الكتاب.
حكم البيت العتيق: وقبل أن نشرع في ذكر مذاهبهمم نريد أن نذكر حكم البيت العتيق، حرسه الله تعالى، ونصل بذلك حكم البوت المبنية في العالم؛ فإن منها ما بني على الدين الحق قبلة للناس، ومنها ما بني على الرأي الباطل فتنة للناس. وقد ورد في التنزيل: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين " .

وقد اختلفت الروايات في أول من بناه.
قيل: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع إلى سرنديب من أرض الهند، وكان يتردد في الأرض متحيراً بين فقدان زوجته ووجدان توبته؛ حتى وافى حواء بجبل الرحمة من عرفات وعرفها، وصار إلى أرض مكة، ودعا وتضرع إلى الله تعالى حتى يأذن له في بناء بيت يكون قبلة لصلاته ومطافاً لعبادته، كما كان قد عهد في السماء من البيت المعمور الذي هو مطاف الملائكة ومزار الروحانيين؛ فأنزل الله تعالى عليه مثال ذلك البيت على شكل سرداق من نور، فوضعه مكان البيت، فكان يتوجه إليه ويطوف به.
ثم لما توفي: تولى وصية شيث عليه السلام بناء البيت من الحجر والطين على الشكل المذكور حذو القذة بالقذة. ثم لما خرب ذلك بطوفان نوح عليه السلام، وامتد الزمان حتى غيض الماء وقضى الأمر، وانتهت النبوة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وحمله هاجر أم إسماعيل ابنه إلى الموضع المبارك، وولادة إسماعيل عليه السلام هناك ونشوئه وتربيته ثمة، وعود إبراهيم إليه واجتماعه به في بناء البيت؛ وذلك قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " فرفعا قواعد البيت على مقتضى إشارة الوحي مرعياً بينها جميع المناسبات التي بينها وبين الشرع الأخير، وتقبل الله تعالى ذلك منهما، وبقي الشرف والتعظيم إلى زماننا وإلى يوم القيامة: دلالة على حسن القبول. فاختلفت آراء العرب في ذلك.
وأول من وضع فيه الأصنام عمرو بن لحي بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة، واستولى على أمر البيت. ثم صار إلى مدينة البلقاء بالشام فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها، فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية: نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقي، ونستشفى بها فنشفى... فأعجبه ذلك، وطلب منهم صنماً من أصنامهم، فدفعوا إليه هبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة، وكان معه أساف ونائلة على شكل زوجين. فدعا الناس إلى تعظيمها، والتقرب إليها، والتوسل بها إلى الله تعالى، وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف، إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام، فأخرجت وأبطلت؛ وبهذا يعرف كذب من قال: إن بيت الله الحرام إنما هو بيت زحل بناه الباني الأول على طوالع معلومة واتصالات مقبولة، وسماه بيت زحل المعنى اقترن الدوام به بقاء والتعظيم له لقاء؛ لأن زحل يدل على البقاء وطول العمر أكثر مما يدل عليه سائر الكواكب، وهذا خطأ؛ لأن الباني الأول كان مستنداً إلى الوحي على يدي أصحاب الوحي.
البيوت المتخذة للعبادة: ثم إعلم أن البيوت تنقسم إلى بيوت الأصنام، وإلى بيوت النيران. وقد ذكرنا المواضع التي كانت بيوت النيران ثم في مقالات المجوس، فأما بيوت الأصنام التي كانت للعرب والهند فهي البيوت السبعة المعروفة المشهورة، المبنية على السبع الكواكب. فمنها ما كانت فيه أصنام فحولت إلى النيران، ومنها ما لم تحول. ولقد كان بين أصحاب الأصنام وبين أصحاب النيران مخالفات كثيرة، والأمر دول فيما بينهم، وكان كل من استولى وقهر غير البيت إلى مشاعر مذهبه ودينه. فمنها بيت فارس على رأس جبل بأصفهان على ثلاثة فراسخ كانت فيه أصنام إلى أن أخرجها كشتاسب الملك لما تمجس وجعله بيت نار ومنها البيت الذي بمولتان من أرض الهند؛ فيه أصنام لم تغير ولم تبدل. ومنها بيت سدوسان من أرض الهند أيضاً؛ وفيه أصنام كبيرة كثيرة العجب. والهند يأتون البيتين في أوقات من السنة حجاً وقصداً إليهما. ومنه النوبهار الذي بناه منوجهر بمدينة بلخ على اسم القمر؛ فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ. ومنها بيت غمدان الذي بمدينة صنعاء اليمن بناه الضحاك على اسم الزهرة وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه. ومنها بيت كاوسان بناه كاووس الملك بناء عجيباً على اسم الشمس بمدينة فرغانة وخربه المعتصم.
أصناف العرب في الجاهلية: واعلم أن العرب أصناف شتى: فمنهم معطلة، ومنهم محصلة نوع تحصيل.
الباب الأول
معطلة العرب
وهم أصناف منكرو: الخالق، والبعث، والإعادة

فصنف منهم أنكروا الخالق ولبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد: " وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا: نموت، ونحيا " ؛ إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصراً للحياة والموت على تركبها وتحللها؛ فالجامع هو الطبع، والملك هو الدهر: " وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون " . فاستدل عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية في كمآية وكم سورة؛ فقال تعالى: " أو لم يتفكروا بصاحبهم من جنة؛ إن هو إلا نذير مبين " ؟ " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " ؟ وقال: " أو لم ينظروا إلى ما خلق الله " ؟ وقال: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " ؟ وقال: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم " ؛ فأثبت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق، وأنه قادر على الكمال ابتداء وإعادة.
منكرو: البعث، والإعادة وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع، وأنكروا البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه؛ قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ " ؛ فاستدل عليهم بالنشأة الأولى؛ إذ اعترفوا بالخلق الأول، فقال عز وجل: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وقال: " افعيينا بالخلق الأول؟ بل هم في لبس من خلق جديد! " .
منكرو الرسل: عبّاد الأصنام وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام؛ وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا لها الهدايا، وقربوا المقربين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر... وأحلوا، وحرموا، وهم الدهماء من العرب، إلا شرذمة منهم نذكرهم؛ وهم الذين أخبر عنهم التنزيل: " وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق " ؟... إلى قوله: " إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً!.
فاستدل عليهم بأن المرسلين كلهم كانوا كذلك؛ قال الله تعالى: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق " .
شبهات العرب وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداهما إنكار البعث: بعث الأجسام، والثانية جحد البعث: بعث الرسل.
فعلى الأولى قالوا: " أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون؟ إلى أمثالها من الآيات، وعبروا عن ذلك في أشعارهم؛ فقال بعضهم:
حياة ثم موت ثم نشر؟ ... حديث خرافة يا أم عمرو
ولبعضهم في مرثية أهل بدر من المشركين:
فماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزي تكلل بالسنام
يخبرنا الرسول: بأن سنيحاً ... و كيف حياة أصداء، وهام!
ومن العرب من يعتقد التناسخ؛ فيقول: إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته؛ فانتصب طيراً هامة، فيرجع إلى رأس القبر كل مائة سنة. وعن هذا: أنكر عليهم الرسول عليه السلام فقال: لا هامة ولا عدوى، ولا صفر.
وأما الشبهة الثانية؛ فكان إنكارهم لبعث لرسول صلى الله عليه وسلم في الصورة البشرية أشد، وإصرارهم على ذلك أبلغ. وأخبر التنزيل عنهم بقوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً؟ " أبشر يهدوننا؟ " ... فمن كان يعترف بالملائكة كان يريد أن يأتي ملك من السماء؛ وقالوا: لولا أنزل عليه ملك ومن كان لا يعترف بهم كان يقول: الشفيع والوسيلة لنا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة؛ إما الأمر والشريعة من الله تعالى إلينا فهو المنكر.
أصنام العرب وميولهم: فيعبدون الأصنام التي هي وسائل وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً. وكان ود لكلب وهو بدومة الجندل، وسواع لهذي وكانوا يحجون إليه وينحرون له، ويغوث لذحج ولقبائل من اليمن، ويعوق لهمدان، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير. وكانت اللات لثقيف بالطائف، والعزي لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم، ومناة للأوس والخزرج وغسان. وهبل أعظم الأصنام عندهم؛ وكان على ظهر الطعبة، وأساف ونائلة على الصفا والمروة وضعهما عمر بن لحي وكان يذبح عليهما نجاة الكعبة، وزعموا: أنهما كانا من جرهم: أساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل تعاسقا ففجرا الكعبة، فمسخا حجرين، وقيل: لا بل كانا صنمين جاء بهما عمرو بن لحي فوضعهما على الصفا.

وكان لبني ملكان من كنانة صنم يقال له سعد وهو الذي يقول فيه قائلهم:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد، فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغي ة لا رشد
وكانت العرب إذا لبت وهللت:قالت:
لبيك اللهم لبيك ... لبيك لاشريك لك
إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك
ومن العرب من كان يميل إلى اليهودية، ومنهم من كان يميل إلى النصرانية ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة؛ ويعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء؛ ويقول: مطرنا بنوء كذا، ومنهم من كان يصبوا إلى الملائكة فيعبدهم؛ بل كانوا يعبدون الجن؛ ويتعقدون فيهم أنهم بنات الله... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الباب الثاني
المحصلة من العرب علومهم
إعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم: أحدها علم الأنساب والتواريخ والأديان، ويعدونه نوعاً شريفاً؛ خصوصاً معرفة أنساب أجداد النبي عليه الصلاة والسلام، والإطلاع على ذلك النور الوارد من صلب إبراهيم، إلى إسماعيل عليهما الصلاة، وتواصله في ذريته إلى أن ظهر بعض الظهور في أسارير عبد المطلب: سيد الوادي: شيبة الحمد؛ وسجد له الفيل الأعظم؛ وعليه قصة أصحاب الفيل.
وببركة ذلك النور: دفع الله تعالى شر أبرهة وأرسل عليهم طيراً أبابيل.
وببركة ذلك النور: رأى تلك الرؤيا في تعريف موضع زمزم ووجدان الغزالة والسيوف التي دفنتها جرهم.
وببركة ذلك النور: ألهم عبد المطلب النذر الذي نذر في ذبح العاشر من أولاده؛ وبه افتخر النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: أنا ابن الذبيحين: أراد بالذبيح الأول إسماعيل عليه السلام؛ وهو أول من انحدر إليه النور فاختفى، وبالذبيح الثاني عبد الله بن عبد المطلب؛ وهو آخر من انحدر إليه النور فظهر كل الظهور.
وببركة ذلك النور: كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي. ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور.
وببركة ذلك النور: كان قد سلم إليه النظر في حكومات العرب والحكم بين المتخاصمين؛ فكان يوضع له وسادة عند الملتزم فيستند إلى الكعبة وينظر في حكومات القوم.
وببركة ذلك النور: قال لأبرهة: إن لهذا البيت رباً يحفظه ويذب عنه وفيه قال وقد صعد إلى جبل أني قبيس:
لا هم إن المرء يمنع ... حله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... و محالهم عدواً محالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فأمر ما بدا لك
وببركة ذلك النور: كان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة؛ إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل عبد المطلب في ذلك، ففكر، وقال: والله إن وراء هذه الدار دار يجزي فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته.
ومما يدل على إثباته المبدأ والمعاد: أنه كان يضرب بالقداح على ابنه عبد الله ويقول:
يا رب أنت الملك المحمود ... و أنت ربي المبدىء والمعيد
من عندك الطارف والتليد ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة: أن أهل مكة لما اصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم، فأحضره وهو رضيع في قماط فوضعه على يديه، واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء، وقال: يا رب! بحق هذا الغلام ورماه ثانياً، وثالثاً.... وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر؛ حتى خافوا على المسجد. وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي الذي منه:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم ورب البيت نبزي محمداً ... و لما نطاعن دونه ونناضل
و لا نسلمه حتى نصرع حوله ... ز نذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال العباس بن عبد المطلب في النبي عليه الصلاة والسلام: قصيدة منها:

من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حين يخصف الورق
ثم هبطت البلاد: لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسراً وأمهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن في ... خندف علياء تحتها النطق
و أنت لما ظهرت أشرقت الأ ... رض وضاءت بورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي ... النور وسبل الرشاد: نخترق
وأما النوع الثاني من العلوم؛ فهو علم الرؤيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن يعبر الرؤيا في الجاهلية ويصيب، فيرجعون إليه، ويستخبرون عنه.
وأما النوع الثالث؛ فهو علم الأنواء، وذلك مما يتولاه الكهنة والقافة منهم؛ وعن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال: مطرنا بنوء كذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد " .
معتقداتهم وم العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتظر النبوة. وكانت لهم سنن وشرائع قد ذكرناها؛ لأنها نوع تحصيل.
فممن كان يعرف النور الظاهر، والنسب الطاهر، ويعتقد الدين الحنيفي، وينتظر المقدم النبوي...زيد بن عمرو بن نفيل؛ كان يسند ظهره إلى الكعبة، ويقول: أيها الناس هلموا إلي؛ فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. وسمع أمية بن أبي الصلت يوماً ينشد:
كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفة: زور
فقال له: صدقت. وقال زيد أيضاً:
فلن تكون لنفس منك واقية ... يوم الحساب إذا ما يجمع البشر
وممن كان يعتقد التوحيد ويؤمن بيوم الحساب: قس بن ساعدة الإيادي قال في مواعظه: كلا ورب الكعبة! ليعودون ما باد، ولئن ذهب ليعودن يوماً. وقال أيضاً:
كلا بل هو الله إله واحد ... ليس بمولود ولا والد
أعاد وأبدى ... و إليه المآب غداً
وأنشد في معنى الإعادة:
يا باكي الموت والأموات في جدث ... عليهم من بقايا بزهم خرق
دعهم؛ فإن لهم يوماً يصاح بهم ... كما ينبه من نوماته الصعق
حتى يجيئوا بحال غير حالهم ... خلق مضى ثم هذابعد ذا خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها الأزرق الخلق
ومنهم: عامر بن الظرب العدواني وكان من شعراء العرب وخطبائهم، وله وصية طويلة يقول في آخرها: ني ما رايت شيئاً قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً، ولا جاثياً إلا ذاهباً، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء. ثم قال: إني أرى أموراً شتى، وحتى؛ قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حياً، ويعود لا شيء شيئاً؛ ولذلك خلقت السموات والأرض؛ فتولوا عنه ذاهبين، وقال: ويل؛ إنها نصيحة، لو كان من يقبلها؟!.
وكان عامر قد حرم الخمر على نفسه فيمن حرمها؛ وقال فيها:
إن أشرب الخمر أشربها للذتها ... و إن أدعها فإني ماقت قال
لولا اللذاذة والقينات لم أرها ... و لا رأتني إلا من مدى عالي
سآله للفتى ما ليس في يده ... ذهابه بعقول القوم والمال
تورث القوم أضغاناً بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
أقسمت بالله: اسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب الأرض أوصالي
وممن كان قد حرم الخمر في الجاهلية: قيس بن عاصم التميمي، وصفوان ابن أمية بن محرث الكناني وعفيف بن معدي كرب الكندي وقالوا فيها أشعاراً. وقال الاسلوم اليالي وقد حرم الخمر والزنا على نفسه:
سالمت قومي بعد طول مضاضة ... و السلم أبقى في الأمور وأعرف
وتركت شرب الراح وهي أثيرة ... و المومسات؛ وترك ذلك أشرف
وعففت عنه يا أميم تكرماً ... وكذاك يفعل ذو الحجى المتعفف
وممن كان يؤمن بالخالق تعالى، وبخلق آدم عليه السلام: عبد لطابخة بن ثعلب ابن وبرة من قضاعة؛ وقال فيه:
وأدعوك يا ربي بما أنت أهله ... دعاء غريق قد تشبث بالعصم
لأنك اهل الحمد والخير كله ... و ذو الطول لم تعجل بسخط ولم تلد

وأنت الذي لم يحيه الدهر ثانياً ... و لم ير عبد منك في صالح وجم
وأنت القديم الأول الماجد الذي ... تبدأت خلق الناس في أكثم العدم
وأنت الذي أحللتني غيب ظلمة ... إلى ظلمة من صلب آدم في ظلم
من هؤلاء النابغة الذبياني؛ آمن بيوم الحساب؛ فقال:
فعلتهم: ذات الإله، ودينهم ... قويم؛ فما يرجون غير العواقب
وأراد بذلك: الجزاء بالأعمال.
ز من هؤلاء زهير بن أبي سلمى المزني وكان يمر بالعصاة وقد أورقت بعد يبس فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم ثم آمن بعد ذلك، وقال في قصيدته التي أولها؛ أمن أم أوفى دمنة لم تكلم... وهي من السبعيات:
يؤخر، فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب، أو يعجل فينقم
ومنهم علاف بن شهاب التيمي كان يؤمن بالله تعالى وبيوم الحساب، وفيه قال:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة ... فأخذت منه خطة المقتال
وعلمت أن الله جاز عبده ... يوم الحساب بأحسن الأعمال
وكان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده: ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها، فإن لم تفعلوا حشرت على رجلي... قال جريبة بن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت؛ يوصي ابنه سعداً:
يا سعد إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثر راجلاً ... في الحشر يصرع لليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح ... و ابغ المطية؛ إنه هو أصوب
ولعل لي مما تركت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا
وقال عمرو بن زيد بن المتمني يوصي ابنه عند موته:
ابني! زودني إذا فارقتني ... في القبر راحلة برحل قاتر
للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا ... متساوقين معاً لحشر الحاشر
من لا يوافيه على عشرائه ... فالخلق بين مدفع أو عاثر
وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كأكلها وبطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر، ويسمون الناقة: بلية، والخيط الذي تشد به: ولية. وقال بعضهم يشبه رجالاً في بلية: كالبلايا في أعناقها الولايا.
سننهم التي وافقهم القرآن عليها وبعض عاداتهم قال محمد بن السائب الكلبي: كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها. كانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات.
وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين، أو يختلف على امرأة أبيه؛ وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيرن؛ قال: اوس بن حجر التميمي يعير قوماً من بني قيس بن ثعلبة تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة؛ واحداً بعد آخر:
والفارسية فيكم غير منكرة ... و كلكم لأبيه ضيزن سلف
نيكوا فكيهة وامشوا حول قبتها ... مشي الزرافة في آباطها الحجف
وكان أول من جمع بين الأختين من قريش أبو أحيحة سعيد بن العاص جمع بين هند وصفية ابنتي المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
قال: وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلقها، قام أكبر بنيه، فإن كان له فيها حاجة طرح ثوبه عليها، وإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض أخوته بمهر جديد قال: وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو إلى أخيه أو عمها أو بعض بني عمها.
وكان يخطب الكفء إلى الكفء؛ فإن كان أحدهما أشرف من الآخر في النسب رغب له في المال، وإن كان هجيناً خطب إلى هجين فزوجه هجينة مثله، ويقول الخاطب إذا أتاهم: أنعموا صباحاً، ثم يقول نحن أكفاؤكم ونظراؤكم؛ فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتموها وكنا لصهركم حامدين، وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين؛ فإن كان قريب القرابة من قومه قال لها أبوها أو أخوها: إذا حملت إليه أيسرت، وأذكرت، ولا أنثت؛ جعل الله منك عدداً، وعزاً، وحلباً... أحسني خلقك، وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء.

وإذا زوجت في غربة قال لها: لا أيسرت ز لا أذكرت؛ فإنك تدنين البعداء، وتلدين الأعداء... أحسني خلقك، وتحببي إلى احمائك؛ فإن لهم عيناً ناظرة إليك وأذناً سامعة... وليكن طيبك الماء.
وكانوا يطلقون ثلاثاً على التفرقة؛ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أول من طلق ثلاثاً على التفرقة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وكان العرب يفعلون ذلك؛ فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها، حتى إذا استوفى الثلاث: انقطع السبيل عنها، ومنه قول الأعشى: ميمون بن قيس حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه، فآتاه قومها، فهددوه بالضرب أو يطلقها:
أيا جارتي بيني فإنك طالقة ... كذاك أمور الناس غاد وطارقة
قالوا: تنه؛ فقال:
وبيني؛ فإن البين خير من العصا ... و أن لا ترى لي فوق رأسك بارقة
قالوا:ثلث؛ فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... و موموقة قد كنت فينا، ووامقة
قال وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع: رجل يخطب فيتزوج، وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها؛ فإن ولدت قالت: هو لفلان؛ فيتزوجها بعد هذا، وامرأة يختلف إليها النفر وكلهم يواقعها في طهر واحد؛ فإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم؛ وهذه تدعى المقسمة، وامرأة ذات راية: يختلف إليها الكثير وكلهم يواقعها؛ فإذا ولدت جمعوا لها القافة فيلحقون الولد بشبيهه.
قال: وكانوا يحجون البيت ويعتمرون، ويحرمون؛ قال زهير: وكم بالقيان من محل ومحرم... ويطوفون بالبيت سبعاً، ويمسحون بالحجر، ويسعون بين الصفا والمروة؛ قال أبو طالب:
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... و ما فيهما من صورة وتخايل
وكانوا يلبون، إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته؛ في قوله: إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويقفون المواقف كلها؛ قال العدوي:
فأقسم بالذي حجت قريش ... و موقف ذي الحجيج على اللآلي
وكانوا يهدون الهدايا، ويرمون الجمار، ويحرمون الأشهر الحرم؛ فلا يغزون ولا يقاتلون فيها... إلا طي وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب: فإنهم كانوا لا يحجون، ولا يعتمرون، ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام.
وإنما سمت قريش الحرب التي كانت بينها وبين غيرها: عام الفجار لأنها كانت في الأشهر الحرم حيث لا تقاتل؛ فلما قاتلوا فيها قالوا: قد فجرنا؛ فلذلك سموها: حرب الفجار.
وكانوا يكرهون الظلم في الحرم؛ وقالت امرأة منهم تنهي ابنها عن الظلم:
ابني! لا تظلم بمكة ... لا الصغير ولا الكبير
ابني! من يظلم بمكة ... يلق أطراف الشرور
ابني! قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور
لبني! أمن طيرها ... و الوحش تامن في ثبير
ومنهم من كان ينسىء الشهور، وكانوا يكبسون في كل عامين شهراً، وفي كل ثلاثة أعوام شهراً؛ وكانوا إذا حجوا في شهر من السنة لم يخطئوا أن يجعلوا يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر؛ كهيئة ذلك في شهر ذي الحجة؛ حتى يكون يوم النحر اليوم العاشر من ذلك الشهر، ويقيمون بمني؛ فلا يبيعون في يوم عرفة، ولا في أيام منى، وفيهم أنزلت: " إنما النسيء زيادة في الكفر " .
وكانوا إذا ذبحوا للأصنام لطخوها بدماء الهدايا؛ يلتمسون بذلك الزيادة في أموالهم.
وكان فصي بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله من الأصنام؛ وهو القائل:
أباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزي جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير
فلا العزي أدين ولا أبنتيها ... و لا صنمي بني غنم أزور
وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل؛ فلقي في ذلك من قريش شراً، حتى أخرجوه عن الحرم؛ فكان لا يدخله إلا ليلاً.
وقال القلمس بن أمية الناني يخطب للعرب بفناء مكة: أطيعوني ترشدوا، قالوا: وما ذاك! قال: إنكم قد تفرقتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به، وإن الله رب هذه الآلهة، وإنه ليجب عنه طائفة، وزعمت أنه على دين بني تميم.
قال: وكانوا يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم؛ قال الأفوه الأودي
ألا عللاني واعلما أنني غرر ... فما قلت ينجيني الشقاق ولا الحذر
وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت ... مفاصل أوصالي وقد شخص البصر

وجاءوا بماء بارد يغسلونني ... فيالك من غسل سيتبعه غبر
قال: وكانوا يكفنون موتاهم، ويصلون عليهم؛ وكانت صلاتهم: إذا مات الرجل حمل على سريره، ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها، ويثنى عليه، ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله وبركاته. وقال رجل من كلب في الجاهلية لإبن ابن له:
أعمرو إن هلكت وكنت حيا ... فإني مكثر لك في صلاتي
وأجعل نصف مالي لابن سام ... حياتي إن حييت وفي مماتي
قال: وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابلي بها غبراهيم عليه السلام، وهي الكلمات العشر؛ فإنهن: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما اللواتي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك. وأما اللواتي في الجسد: فالاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان. فلما جاء الإسلام قررها سنة من السنن.
وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سق.
وكانت ملوك اليمن وملوك الحيرة يصلبون الرجل إذا قطع الطريق.
وكانوا يوفون بالعهود، ويكرمون الجار، ويكرمون الضيف... قال حاتم الطائي:
إلههم ربي، وربي ألههم ... فأقسمت لا ارسو ولا اتعذر
وقال أيضاً:
لقد كان في البرايا الناس أسوة ... كأن لم يسق جحش بعير ولا حمر
وكانوا أناساً موقنين بربهم ... بكل مكان فيهم: عابد بكر
الجزء الرابع
آراء الهند
ميول الهند وفرقهم: قد ذكرنا أن الهند أمة كبيرة، وملة عظيمة، وآراؤهم مختلفة. فمنهم البراهمة؛ وهم المنكرون للنبوات أصلاً، ومنهم من يميل إلى الدهر، ومنهم من يميل إلى مذهب الثنوية؛ ويقول بملة إبراهيم عليه السلام. وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها: فمن قائل بالروحانيات؛ ومن قائل بالهياكل؛ ومن قائل بالأصنام؛ إلا أنهم مختلفون في شكل الهياكل التي ابتدعوها؛ وكيفية أشكال وضعوها، ومنهم حكماء على طريق اليونانيين: علماً، وعملاً.
فمن كانت طريقته على منهاج الدهرية والثنوية والصابئة فقد أغنانا حكاية مذاهبهم قبل عن حكاية مذهبه، ومن انفرد عنهم بمقالة ورأي فهم خمس فرق: البراهمة، وأصحاب الروحانيات، وأصحاب الهياكل، وعبدة الأصنام، والحكماء. ونحن نذكر مقالات هؤلاء كما قد وجدنا في كتبهم المشهورة.
الباب الأول
البراهمة

انتساب البراهمة وما يجمعهم: من الناس من يظن أنهم سموا براهمة لا نتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام وذلك خطأ؛ فإن هؤلاء القوم هم المخصوصون بنفي النبوات أصلاً ورأساً فكيف يقولون بإبراهيم عليه السلام؟ والقوم الذين اعتقدوا نبوة إبراهيم عليه السلام من أهل الهند فهم الثنوية منهم القائلون بالنور والظلمة على رأي أصحاب الاثنين وقد ذكرنا مذاهبهم. وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلاً وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه. منها أن قال: إن الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون معقولاً وإما أن لا يكون معقولاً؛ فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولاً؛ إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية، ودخول في حريم الهيمية. ومنها أن قال: قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم، وقد دلت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً؛ وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا... وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه، وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه، فما بالنا نتبع بشراً مثلنا! فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا، وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلاً ظاهراً على كذبه. ومنها أن قال: قد دل العقل على أن للعالم صانعاً حكيماً؛ والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم، وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل: من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله، والسعي ورمي الجمار والإحرام والتلبية وتقبيل الحجر الأصم، وكذلك ذبح الحيوان، وتحريم ما يمكن أن يكون غذاء للإنسان، وتحليل ما ينقص من بنيته... وغير ذلك، وكل هذه الأمور مخالفة لقضايا العقول. والنفس، والعقل؛ يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب؛ حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعاً ووضعاً، أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً، أو كعبد يتقدم إليك أمراً ونهياً؛ فأي تميز له عليك؟ وأية فضيلة أوجبت استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟ فإن اغتررتم بمجرد قوله فلا تمييز لقول على قول، وإن حسرتم بحجته ومعجزته فعندنا من خصائص الجواهر والأجسام ما لا يحصى كثرة، ومن المخبرين عن مغيبات الأمور من ساوى خبره؛ قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فإذا اعترفتم بأن للعالم صانعاً وخالقاً، وحكيماً؛ فاعترفوا بأنه آمر، وناه: حالك على خلقه، وله في جميع ما نأتي ونذر، ونعمل ونفكر... حكم، وأمر. وليس كل عقل إنساني على استعداد ما يعقل عنه أمره، ولا كل نفس بشرى بمثابة من يقبل عنه حكمه؛ بل أوجبت منته ترتيباً في العقول والنفوس، واقتضت قسمته أن يرفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون؛ فرحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة، وذلك خير مما يجمعون بعقولهم المختالة. ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافاً: فمنهم أصحاب البددة، ومنهم أصحاب الفكرة، ومنهم أصحاب التناسخ.
أصحاب البددة

ومعنى البد عندهم: شخص في هذا العالم: لا يولد، ولا ينكح، ولا يطعم، ولا يشرب، ولا يهرم، ولا يموت. وأول بد ظهر في العالم اسمه شاكمين وتفسيره السيد الشريف؛ ومن وقت ظهوره إلى وقت الهجرة خمسة آلاف سنة. قالوا ودون مرتبة البد: مرتبة البوديسعية ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية، وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه. وبالامتناع والتخلي عن الدنيا، والعزوف عن شهواتها ولذاتها، والعفة عن محارمها. والرحمة على جميع الخلق، وبالاجتناب عن الذنوب العشرة: قتل كل ذي روح؛ واستحلال أموال الناس؛ والزنا؛ والكذب؛ والنميمة؛ والبذاء؛ والشتم؛ وشناعة الألقاب؛ والسفه؛ والجحد لجزاء الآخرة، وباستكمال عشرة خصال: إحداها الجود والكرم؛ والثانية العفو عن المسيء ودفع الغضب بالحلم؛ والثالثة التعفف عن الشهوات الدنيوية؛ والرابعة الفكرة في التخلص إلى ذلك العالم الدائم الوجود من هذا العالم الفائي؛ الخامسة رياضة العقل بالعلم والأدب وكثرة النظر إلى عواقب الأمور؛ والسادسة القوة على تصريف النفس في طلب العلييات؛ والسابعة لين القول وطيب الكلام مع كل أحد؛ والثامنة حسن المعاشرة مع الإخوان بإيثار اختيارهم على اختيار نفسه؛ والتاسعة الإعراض عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق بالكلية؛ والعاشرة بذل الروح شوقاً إلى الحق ووصولاً إلى جناب الحق.
وزعموا: أن البددة أتوهم على عدد الهياكل من نهر الكنك وأعطوهم العلوم، وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتى، ولم يكونوا يظهرون إلا في بيوت الملوك لشرف جواهرهم. قالوا: ولم يكن بينهم اختلاف في ما ذكر عنهم من ازلية العالم، وقولهم في الجزاء على ما ذكرنا. وإنما اختص ظهور البددة بأرض الهند لكثرة ما فيها من خصائص التربة والإقليم، ومن فيها من أهل الرياضة والاجتهاد وليس يشبه البد على ما وصفوه إن صدقوا في ذلك إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام.
أصحاب الفكرة والوهم وهؤلاء أعلم منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم. وللهند طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم؛ وذلك أنهم يحكمون أكثر الأحكام باتصالات الثوابت دون السيارات، وينشئون الأحكام عن خصائص الكواكب دون طبائعها، ويعدون زحل السعد الأكبر؛ وذلك لرفعة مكانه، وعظم جرمه، وهو الذي يعطي العطايا الكلية من السعادة، والجزئية من النحوسة. وكذلك سائر الكواكب لها طبائع وخواص؛ فالروم يحكمون من الطبائع، والهند يحكمون من الخواص. وكذلك طبهم؛ فإنهم يعتبرون خواص الأدوية دون طبائعها، والروم تخالفهم في ذلك. وهؤلاء أصحاب الفكرة يعظمون الفكر، ويقولون: هو المتوسط بين المحسوس والمعقول؛ فالصور من المحسوسات ترد عليه، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضاً؛ فهو مورد العلمين من العالمين. فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة، والاجتهادات المجهدة حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم؛ فربما يخبر عن مغيبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال ولا يستعبد ذلك؛ فإن للوهم أثراً عجيباً في تصريف الأجسام والتصرف في النفوس: أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم؟ أليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص؟ أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع فيسقط في الحال ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية؟.
والوهم إذا تجرد عمل أعمالاً عجيبة؛ ولهذا كانت الهند تغمض عينها أياماً لألا يشتغل الفكر والوهم بالمحسوسات، ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصاً إذا كانا متفقين غاية الاتفاق؛ ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلاً من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة؛ فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكادهم ثقله. ومنهم البكر نتينية يعني: المصفدين بالحديد. وسنتهم: حلق الرؤوس واللحي، وتعرية الأجسام ما خلا العورة، وتصفيد البدن من أوساطهم إلى صدورهم؛ لألا تنشق بطونهم من كثرة العلم وشدة الوهم وغلبة الفكر، ولعلهم رأوا في الحديد خاصية تناسب الأوهام؛ وإلا فالحديد كيف يمنع انشقاق البطن؟ وكثرة العلم كيف توجب ذلك؟ أصحاب التناسخ

وقد ذكرنا مذاهب التناسخية. وما من ملة من الملل إلا وللتناسخ فيها قدم راسخ وإنما تختلف طرقهم في تقرير ذلك. فأما تناسخية الهند فأشد اعتقاداً لذلك؛ لما عاينوا من طير يظهر في وقت معلوم، فيقع على شجرة معلومة، فيبيض ويفرخ، ثم إذا تم نوعه بفراخه حك بمنقاره ومخالبه فتبرق منه نار تلتهب، فيحترق الطير، ويسيل منه دهن يجتمع في أصل الشجرة في مغارة، ثم إذا حال الحول وحان وقت ظهوره انخلق من هذا الدهن مثله طير فيطير ويقع على الشجرة وهو أبداً كذلك. قالوا فما مثل الدنيا وأهلها في الأدوار والأكوار إلا كذلك.
قالوا: وإذا كانت حركات الأفلاك دورية فلا محالة يصل رأس الفرجار إلى ما بدأ ودار دورة ثانية على الخط الأول: أفاد لا محالة ما أفاد الدور الأول؛ إذ لا اختلاف بين الدورين حتى يتصور اختلاف بين الأثرين فإن المؤثرات عادت كما بدأت، والنجوم والأفلاك دارت على المركز الأول وما اختلفت أبعادها واتصالاتها ومناظراتها ومناسباتها بوجه؛ فيجب أن لا تختلف المتأثرات الباديات منها بوجه؛ وهذا هو تناسخ الأدوار والأكوار. ولهم اختلافات في الدورة الكبرى: كم هي من السنين؟ وأكثرهم على أنها ثلاثون ألف سنة، وبعضهم على أنها ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة. وإنما يعتبرون في تلك الأدوار سير الثوابت لا السيارات. وعند الهند أكثرهم: إن الفلك مركب من الماء والنار والريح، وأن الكواكب فيه نارية هوائية؛ فلم تعدم الموجودات العلوية إلا العنصر الأرضي فحسب.
الباب الثاني
أصحاب الروحانيات
ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية، يأتونهم بالرسالة من عند الله في صورة البشر من غير كتاب؛ فيأمرهم بأشياء، وينهاهم عن أشياء، ويسن لهم الشرائع، ويبين لهم الحدود.
وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن: الأكل، والشرب، والبعال.
الباسنوية زعموا: أن رسولهم ملك روحاني نزل من السماء على صورة بشر، فأمرهم بتعظيم النار وأن يتقربوا إليها بالعطر والطيب والأدهان والذبائح، ونهاهم عن القتل والذبح إلا ما كان للنار، وسن لهم إن يتوشحوا بخيط يعقدونه من مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم، ونهاهم أيضاً عن الكذب وشرب الخمر؛ وأن لا يأكلوا من أطعمة غير ملتهم ولا من ذبائحهم، وأباح لهم الزنا لئلا ينقطع النسل.
وأمرهم أن يتخذوا بالمعازف والتبخير والغناء والرقص، وأمرهم بتعظيم البقرة والسجود لها حيث رأوها؛ وأن يفزعوا في التوبة إلى التمسح بها، وأمرهم أن لا يجوزوا نهر كنك.
الباهودية زعموا: أن رسولهم ملك روحاني على صورة بشر واسمه باهود أتاهم وهو راكب على ثور، على رأسه إكليل مكلل بعظام الموتى من عظام الرؤوس. ومتقلد من ذلك بقلادة، وبإحدى يديه قحف إنسان، وبالأخرى مزراق ذو ثلاث شعب.
يأمرهم بعبادة الخالق عز وجل وبعبادته معه، وأن يتخذوا على مثاله صنماً يعبدونه، وأن لا يعافوا شيئاً، وأن تكون الأشياء كلها في طريقة واحدة؛ لأنها جميعاً صنع الخالق عز وجل، وأن يتخذوا من عظام الناس قلائد يتقلدونها وأكاليل يضعونها على رؤوسهم، وأن يمسحوا أجسادهم ورؤوسهم بالرماد. وحرم عليهم الذبائح والنكاح، وجمع الأموال، وأمرهم برفض الدنيا، ولا معاش لهم فيها إلا من الصدقة.
الكابلية زعموا أن رسولهم ملك روحاني يقال له شب أتاهم في صورة بشر متمسح بالرماد، على رأسه قلنسوة من لبود أحمر طولها ثلاثة أشبار، مخيط عليها صفائح من قحف الناس، متقلد قلادة من أعظم ما يكون، متمنطق من ذلك بمنطقة، متسور منها بسوار، متخلخل منها بخلخال... وهو عريان. فأمرهم أن يتزينوا بزينة ويتزيوا بزيه، وسن لهم شرائع وحدوداً.
البهادونية

قالوا: إن بهادون كان ملكاً عظيماً أتانا في صورة إنسان عظيم، وكان له أخوان قتلاه؛ وعملا من جلدته الأرض، ومن عظامه الجبال، ومن دمه البحار وقيل: هذا رمز، وإلا فحال إنسان لا تبلغ إلى هذه الدرجة. وصورة بهادون راكب على دابة، كثير شعر الرأس، قد أسبله على وجهه، وقد قسم الشعر على جوانب رأسه قسمة مستوية. وأسبله كذلك على نواحي الرأس قفاً ووجهاً. وأمرهم أن يفعلوا ذلك. وسن لهم أن لا يشربوا الخمر، وإذا رأوا امرأة هربوا منها، وأن يحجوا إلى جبل يدعى جور عن وعليه بيت عظيم فيه صورة بهادون. ولذلك البيت سدنة لا يكون المفتاح إلا بأيديهم فلا يدخلون إلا بإذنهم، وإذا فتحوا الباب سدوا أفواههم حتى لا تصل أنفاسهم إلى الصنم؛ من حجهم لم يدخلوا العمران في طريقهم، ولم ينظروا إلى محرم. ولم يصلوا إلى أحد بسوء وضرر؛ من قول وفعل.
الباب الثالث
عبدة الكواكب
ولم ينقل للهند مذهب في عبادة الكواكب إلا فرقتان توجهتا إلى النيرين: الشمس، والقمر. ومذهبهم في ذلك مذهب الصابئة في توجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر البروبية والإلهية عليها.
عبدة الشمس: الدينيكيتية زعموا: أن الشمس ملك من الملائكة، ولها نفس وعقل، ومنها نور الكواكب وضياء العالم وتكون الموجودات السفلية، وهي ملك الفلك؛ فتستحق التعظيم، والسجود، والتبخير، والدعاء؛ وهؤلاء يسمون الدينتكيتية أي: عباد الشمس ومن سنتهم أن اتخذوا لها صنماً على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، ووقفوا عليه ضياعاً وقرياناً، وله سدنة وقوام. فيأتون البيت ويصلون ثلاث كرات، ويأتيه أصحاب العلل والأمراض فيصومون له ويصلون ويدعون ويستشفون به.
عبدة القمر: الجندريكينية زعموا: أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأمور الجزئية فيه، ومنه نضج الأشياء المتكونة وإيصالها إلى كمالها، وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات، وهو تلو الشمس وقرينها ومنها نوره وبالنظر إليها تكون زيادته ونقصانه؛ وهؤلاء يسمون الجندريكينية أي: عباد القمر. ومن سنتهم أن اخذوا له صنماً على شكل عجل يجره أربعة، وبيد الصنم جوهر. ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه، وأن يصوموا النصف من كل شهر ولا يفطروا حتى يطلع القمر، ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن ثم يرغبون إليه، وينظرون إلى القمر، ويسألونه حوائجهم، فإذا استهل الشهر علوا السطوح وأوقدوا الدخن ودعوا عند رؤيته ورغبوا إليه، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور، ولم ينظروا غليه إلا على وجوه حسنة. وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار اخذوا في الرقص واللعب بالمعازف بين يدي الصنم والقمر.
الباب الرابع
عبدة الأصنام
اعلم أن الأصناف التي ذكرناها مذاهبهم يرجعون آخر الأمر إلى عبادة الأصنام؛ إذ كان لا يستمر لهم طريقة إلا بشخص حاضر: ينظرون إليه، ويعكفون عليه؛ وعن هذا اتخذت أصحاب الروحانيات والكواكب أصناماً زعموا أنها على صورتها. وبالجملة: وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبو غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائباً منابه وقائماً مقامه؛ وإلا فنعلم قطعاً: أن عاقلاً ما لا ينحت جسماً بيده ويصوره صورة، ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه، وإله الكل وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقاً بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته.
لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها، وربطوا حوائجهم بها من غير إذن وحجة وبرهان وسلطان من الله تعالى... كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها. وعن هذا كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب.
المها كالية

لهم صنم يدعى مها كال له أربع أيد، كثير شعر الرأس سبطها؛ وبإحدى يديه ثعبان عظيم فاغر فاه، وبالأخرى عصا، وبالثالثة رأس إنسان، وباليد الرابعة قد دفعها؛ وفي أذنيه حيتان كالقرطين، وعلى جسده ثعبانان عظيمان قد التفا عليه، وعلى رأسه إكليل من عظام القحف، وعليه من ذلك قلادة. يزعمون: أنه عفريت يستحق العبادة لعظمة قدره، واستجماعه الخصال المحمودة المحبوبة والمذمومة من الإعطاء، والمنع، والإحسان، والإساءة؛ وأنه المفزع لهم في حاجاتهم.
وله بيوت عظام بأرض الهند ينتابها أهل ملته في كل يوم ثلاث مرات: يسجدون له، ويطوفون به. ولهم موضع يقال له اختر فيه صنم عظيم على صورة هذا الصنم؛ يأتونه من كل موضع، ويسجدون له هناك، ويطلبون حاجات الدنيا. حتى إن الرجل يقول له فيما يسأل: زوجني فلانه، وأعطني كذا. ومنهم من يأتيه فيقيم عنده الأيام والليالي ولا يذوق شيئاً: يتضرع إليه، ويسأله الحاجة؛ حتى إنه ربما ينفق.
البركسهيكية من سنتهم أن يتخذوا لأنفسهم صنماً يعبدونه، ويقربون له الهدايا.
وموضع متعبدهم له: أن ينظروا إلى باسق الشجر وملتفه، مثل الشجر الذي يكون في الجبال فيلتمسون منها أحسنها وأطولها، فيجعلون ذلك الموضع موضع متعبدهم. ثم يأخذون ذلك الصنم، فيأتون شجرة عظيمة من ذلك الشجر فينقبون فيها موضعاً، فيركبونه فيها؛ فيكون سجودهم وطوافهم نحو تلك الشجرة.
الدهكينية من سننهم: أن يتخذوا صنماً على صورة امرأة، وفوق رأسه تاج، وله أيد كثيرة. ولهم عيد في يوم من أيام السنة، عند استواء الليل والنهار ودخول الشمس الميزان؛ فيتخذون في ذلك اليوم عريشاً عظيماً بين يدي ذلك الصنم، ويقربون إليه القرابين من الغنم وغيرها، ولا يذبحونها، ولكن يضربون أعناقها بين يديه بالسيوف. ويقتلون من أصابوا من الناس قرباناً بالغيلة حتى ينقضي عيدهم، وهم مسيئون عند عامة الهند بسبب الغيلة.
الجلهكية: أي عباد الماء يزعمون أن الماء ملك ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شيء، وبه كل ولادة ونمو، ونشوء، ويقاء، وطهارة، وعمارة... وما من عمل في الدنيا إلا وهو محتاج إلى الماء.
فإذا أراد الرجل عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل الماء إلى وسطه، فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر، ويأخذ ما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغاراً ويلقي فيه بعضها بعد بعض وهو يسبح ويقرأ. وإذا أراد الانصراف حرك الماء بيده، ثم أخذ منه فنقط به: رأسه، ووجهه، وسائر جسده... خارجاً... ثم سجد وانصرف.
الأكنواطرية: أي عباد النار زعموا: أن النار أعظم العناصر جرماً، وأوسعها حيزاً، وأعلاها مكاناً، وأشرفها جوهراً، وأنورها ضياءً وإشراقاً، وألطفها جسماً وكياناً. والاحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع، ولا كون في العالم إلا بها، ولا حياة، ولا نمو، ولا انعقاد: إلا بممازجتها.
وغنما عبادتهم لها أن يحفروا أخدوداً مربعاً في الأرض، ويؤججو النار فيه، ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً، ولا شراباً لطيفاً، ولا ثوباً فاخراً، ولا عطراً فائحاً، ولا جوهراً نفيساً... إلا طرحوه فيها؛ تقرباً إليها، وتبركاً بها. وحرموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها؛ خلافاً لجماعة أخرى من زهاد الهند. وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعطائها: يعظمون النار لجوهرها تعظيماً بالغاً، ويقدمونها على الموجودات كلها.
ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين يسدون منافسهم؛ حتى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر محروم.
وسنتهم: الحث على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها؛ وهي الكذب، والحسد، والحقد، واللجاج، والبغي، والحرص، والبطر؛ فإذا تجرد الإنسان عنها قرب من النار، وتقرب إليها.
الباب الخامس
حكماء الهند
انتقال الحكمة إلى الهند: كان لفيثاغورس الحكيم اليوناني تلميذ يدعى قلانوس قد تلقى الحكمة منه، وتلمذ له، ثم صار إلى مدينة من مدائن الهند، وأشاع فيها مذهب فيثاغورس.
انتشار حكمة فيثاغورس في الهند

وكان برخمنين رجلاً جيد الذهن، نافذ البصيرة، صائب الفكر، راغباً في معرفة العوالم العلوية. قد أخذ من قلانوس الحكيم حكمته، واستفاد منه علمه وصنعته. فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم، فرغب الناس في تلطيف الأبدان، وتذهيب الأنفس، وكان يقول: أي امرئ هذب نفسه، وأسرع الخروج عن هذا العالم الدنس، وطهر بدنه من أوساخه.،. ظهر له كل شىء، وعاين كل غائب، وقدر على كل متعذر، وكان محبوراً، مسروراً، ملتذاً، عاشقاً، لا يمل ولا يكل ، ولا يمسه نصب ولا لغوب. فلما نهج لهم الطريق، واحتج عليهم بالحجج المقنعة: اجتهدوا اجتهاداً شديداً. وكان يقول أيضاً: إن ترك لذات هذا العالم هو الذي يلحقكم بذلك العالم حتى تتصلوا به، وتنخرطوا في سلكه، وتخلدوا في لذاته ونعيمه. فدرس أهل الهند هذا القول ورسخ في عقولهم.
افتراق أهل الهند بعد برخمينن ثم توفي عنهم برخمنين وقد تجسم القول في عقولهم؛ لشدة الحرص والعجلة في اللحاق بذلك العالم،.. فافترقوا فرقتين: فرقة قالت: إن التناسل في هذا العالم هو الخطأ الذي لا خطأ أبين منه؛ إذ هو نتيجة اللذة الجسدانية، وثمرة النطفة الشهوانية؛ فهو حرام، وما يؤدي إليه من الطعام اللذيذ، والشراب الصافي، وكل ما يهيج الشهوة واللذة الحيوانية، وينشط القوة البهيمية... فهو حرام أيضاً؛ فاكتفوا بالقليل من الغذاء على قدر ما تثبت به أبدانهم. ومنهم من كان لا يرى ذلك القليل أيضاً؛ ليكون لحاقه بالعالم الأعلى أسرع. ومنهم من إذا رأى عمره قد تنفس ألقى بنفسه في النار؛ تزكية لنفسه، وتطهيراً لبدنه، وتخليصاً لروحه . ومنهم من يجمع ملاذ الدنيا من الطعام والشراب والكسوة فيمثلها نصب عينيه؛ لكي يراها البصر وتتحرك نفسه البهيمية إليها فتشتاقها وتشتهيها، فيمنع نفسه عنها بقوة النفس المنطقية... حتى يذبل البدن، وتضعف النفس، وتفارق البدن؛ لضعف الرباط الذي كان يربطها به. وأما الفريق الآخر؛ فإنهم كانوا يرون: التناسل، والطعام، والشراب... وسائر اللذات بالقدر الذي هو طريق الحق: حلالاً. وقليل منهم: من يتعدى عن الطريق، ويطلب الزيادة.
الفيثاغوريون الهنود وكان قوم من الفريقين سلكوا مذهب فيثاغورس من الحكمة والعلم، فتلطفوا حتى صاروا يظهرون على ما في أنفس أصحابهم من الخير والشر، ويخبرون بذلك، فيزيدهم ذلك حرصاً على رياضة الفكر، وقهر النفس الأمارة بالسوء، واللحوق بما لحق به أصحابهم. ومذهبهم في الباري تعالى: أنه نور محض، إلا أنه لابس جسداً ما: يستمر به لئلا يراه إلا من استأهل رؤيته واستحقها، كالذي يلبس في هذا العالم جلد حيوان؛ فإذا خلعه نظر إليه من وقع بصره عليه، وإذا لم يلبسه لم يقدر أحد من النظر إليه. ويزعمون: أنهم كالسبايا في هذا العالم؛ فإن من حارب النفس الشهوية حتى منعها عن ملاذها فهو الناجي من دنيات العالم السفلى، ومن لم يمنعها بقي أسيراً في بدنها. والذي يريد أن يحارب هذا أجمع فإنما يقدر على محاربتها بنفي التجبر، والعجب، وتسكين الشهوة، والحرص، والبعد عما يدل عليها ويوصل إليها.
الإسكندر وحكماء الهند ولما وصل الإسكندر إلى تلك الديار وأراد محاربتهم، صعب عليه افتتاح مدينة أحد الفريقين وهم اللذين كانوا يرون استعمال اللذات في هذا العالم بقدر القصد الذي لا يخرج إلى فساد البدن فجهد حتى افتتحها، وقتل منهم جماعة من أهل الحكمة، فكانوا يرون جثث قتلاهم مطروحة كأنها جثث السمك الصافية النقية التي في الماء الصافي؛ فلما رأوا ذلك ندموا على فعلهم ذلك بهم، وأمسكوا عن الباقين. والفريق الثاني وهم الذين زعموا: أن لا خير في اتخاذ النساء والرغبة في النسل ولا في شئ من الشهوات الجسدانية - كتبوا إلى الإسكندر كتاباً مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم، وتعظيم أهل الرأي والعقل، والتمسوا منه حكيماً يناظرهم، فنفذ إليهم واحداً من الحكماء فنضلوه بالنظر، وفضلوه بالعمل؛ فانصرف الإسكندر عنهم، ووصلهم بجوائز سنية، وهداية كريمة. فقالوا: إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم، فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها، واتصلت بنا غاية الاتصال؟! ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس.
سجودهم للشمس، ودعاؤهم عند شروقها

ومن سنتهم: إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها، وقالوا: ما أحسنك من نور، وما أبهاك، وما أنورك، لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك. فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح. وإياك نطلب، وإليك نسعى؛ لندرك السكن بقربك، وننظر إلى إبداعك الأعلى. وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له، فهذا التسبيح وهذا المجد له؛ وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم؛ لنصير مثلك، ونلحق بعالمك، ونتصل بساكنك. وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال؛ فكيف يكون بهاء العلة، وجلالها، ومجدها، وكمالها؟!. فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات؛ فيظفر بالجوار بقربه، ويدخل في غمار جنده وحزبه.
الختام: رجاء، ودعاء هذا ما وجدته من مقالات أهل العالم، ونقلته على ما وجدته؛ فمن صادف فيه خللاً في النقل فأصلحه: أصلح الله عز وجل - بفضله حاله ، وسدد أقواله وأفعاله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين. وصلواته على سيد المرسلين: محمد المصطفى، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، وسلم تسليماً كثيراً.