9.7 الفتح الأعظم (فتح مكة المكرمة):

شغل المسلمون بعد عهد الحديبية بنشر الدعوة وعرض تعاليم الإسلام على كل ذي عقل، وكان وفاؤهم لقريش أمراً مقرراً فيما أحبوا وفيما كرهوا. ورأى الناس من ذلك الآيات البينات!!.
لكن قريشاً ظلَّت على جمودها القديم في إدارة سياستها، غير واعية للأحداث الخطيرة التي غيَّرت مجرى الأحوال في الجزيرة العربية، وتوشك أن تغيره في العالم كله.
وقد جرها فقدان هذا الوعي إلى حماقة كبيرة أصبح بعدها عهد الحديبية لغواً، وذلك أنها -مع حلفائها من بني بكر- هاجموا خزاعة -وهي مع المسلمين في حلف واحد- وقاتلوهم فأصابوا منهم رجالاً، وانحازت خزاعة إلى الحرم إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم، وقريش تمدَّهم بالسلاح وتعينهم على البغي.
وأحس نفر من بني بكر أنهم دخلوا الحرم -حيث لا يجوز قتال- فقالوا لرئيسهم نوفل بن معاوية: إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال نوفل: لا إله اليوم يا بني بكر..أصيبوا ثأركم..!!.
وفزعت خزاعة لما حلَّ بها، فبعثت إلى رسول الله "عمرو بن سالم" يقص عليه نبأها. فلما قدم المدينة وقف على النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس يقول:
يا ربِّ إنى ناشدٌ محمداً

حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم وُلداً وكنا والدا

ثُمَّتَ أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً أعتدا

وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

أبيض مثل البدر يسمو صعدا

إن سيم خسفاً وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مُزبدا

إنَّ قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كَدَاء رَصَدَا

وزعموا أن لستُ أدعو أحدا

وهم أذلُّ وأقل عدداً

هم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا

وقتلونا ركعاً وسجداً
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): نصرت يا عمرو بن سالم..
وأحست قريش -بعد فوات الأوان- خطأها، فخرج أبو سفيان إلى المدينة يصلح ما أفسده قومه، ويحاول أن يعيد للعقد المهدر حرمته!.
وبلغ المدينة فذهب إلى ابنته أم حبيبة، وأراد أن يجلس على الفراش؛ فطوته دونه. فقال: يا بنية ما أدري، أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟
فقالت: بل هو فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وأنت مشرك نجس! قال: والله لقد أصابك بعدي شر! ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً.
واستشفع أبو سفيان بأبي بكر ليحدث النبي في هذا الشأن فرفض، فتركه إلى عمر فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله! والله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.
فتركهما إلى عليٍّ فرد عليه: والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، ثم نصحه أن يعود من حيث جاء.. فقفل أبو سفيان إلى قومه يخبرهم بما لقي من صدود.
وأمر النبي (صلَّى الله عليه وسلم) الناس أن يتجهزوا، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وأوصاهم بالجد والبدار. وقال: اللهم خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها!.
واستمع المسلمون لأمر نبيهم، فمضوا يعبئون قواهم للّقاء المنتظر، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت.
ووقع في هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب فإن رجلاً من أهل السابقة في جهاد المشركين تطوَّع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه أن محمداً سائر إليهم بجيشه..!!
وقد رأيت أن المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو. أليس مما يقرِّب نجاحهم ويخفف خسائرهم؟ ولعله يدفع قريشاً إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثاً.
وما معنى الكتابة إليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله، والاستكثار من أسباب المقاومة؟.
عن علي بن أبي طالب: بعثني رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة "خاخ" فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تَعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة. فقلنا أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي! فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقينَّ الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم).
فإذا فيه "من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله" فقال: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ: إني كنت امرأ ملصقاً في قريش -كنت حليفاً لها ولم أكن من صميمها- وكان مَنْ معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم. فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم -أن اتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام..
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أما إنه قد صدقكم! فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال: إنه شهد بدراً. وما يدريك!..لعلَّ الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم..؟.
ونزل قول الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذيِن آمنوا لا تتخذُوا عدوِّي وَعَدوّكم أوْلياءَ تُلْقُونَ إليهمْ بالموَدَّةِ وَقد كفروا بِما جَاءكمْ مِنَ الحقِّ، يُخرجون الرَّسولَ وإياكمْ أنْ تؤمنوا بالله رَبِّكمْ، إنْ كنتمْ خَرَجتمْ جِهاداً في سَبيلي وابتغاءَ مَرْضاتي، تُسرُّونَ إليهمْ بالمَودةِ، وأنا أَعلَمْ بما أخفيتمْ وما أعلنتمْ، ومَنْ يَفعلْه مِنكمْ فقد ضلَّ سواءَ السبيلِ}.
إن حاطباً خرج عن جادة الصواب بهذا العمل.
وما كان له أن يوادَّ المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران وتظاهروا على العدوان وصنعوا بالمسلمين ما "حاطب" أعلم به من غيره.
لكن الإنسان الكبير تعرض له فترات يصغر فيها، والله أبرُّ بعباده من أن يؤاخذهم بسَوْرات الضعف التي تعرو نورهم فيخبو، وسعيهم فيكبو.
وقد استكشف النبي (صلَّى الله عليه وسلم) خبيئة حاطب فعرف أنه لم يكذِبه في اعتذاره، إنهم مقبلون على معركة كبيرة قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين، ويبقى حاطب لا حمى له فليتخذ تلك اليد عند قريش حيطة للمستقبل.
ذلك ما فكر فيه حاطب، وهو خطأ، فإن المشركين لم يذكروا في عداوة الإسلام رحماً ولا أهلاً، وما ينبغي -ولو دارت علينا الدوائر- أن نبقي لهم وداً، وقد خاصمناهم في ذات الله، وأخذ علينا العهد أن نبذل في حربهم أنفسنا وأموالنا..
ولو جاز اتخاذ يد عندهم فكيف يُتوسّلُ لذلك بعمل يعدُّ خيانة كبيرة فادحة الإضرار بالإسلام وأهله؟.
على أن حاطباً شفع له ماضيه الكريم، فجبرت عثرته، وأمر النبي (صلَّى الله عليه وسلم) المسلمين أن يذكروا الرجل بأفضل ما فيه، وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حيناً بعد أن أصابوا طويلاً.
سرى القلق في ربوع مكة عقب أوبة أبي سفيان، ورأى العباس بن عبد المطلب أن يسلم هو وعياله وأن يهجروا مكة إلى المدينة، فقابلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في الطريق مقبلاً بجيشه على مكة، وخرج كذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبدالله بن أبي أمية، فلقيا النبي (صلَّى الله عليه وسلم) بالأبواء -وهما ابن عمه وابن عمته- وكانا من أشد الناس إيذاء له بمكة، فأعرض عنهما لما ذكر من مساءتهما.
لكن عليَّ بن أبي طالب أشار على ابن عمه أبي سفيان بوسيلة يترضى بها رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم). قال له: ائته مِن قِبل وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: "تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين" فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جواباً.ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
وأنشده أبو سفيان أبياتاً جاء فيها:
لعمرك إني حين أحمل راية

لتغلب خيل اللاّت خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله

فهذا أواني حين أهدي فأهتدي

هداني هادٍ غير نفسي ودلني

على الله من طرَّدته كل مطرد

فضرب الرسول على صدره وهو يقول له: أنت طردتني كل مطرد.
وسار الجيش يطوي الوهاد والنجاد مسرعاً إلى مكة حتى بلغ "مرَّ الظهران" قريباً منها في العشاء، فنزل الجيش، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران في معسكر يضم عشرة آلاف حتى أضاء منها الوادي، وأهل مكة في عماية من أمرهم لا يدرون عن القضاء النازل بهم شيئاً...وعزَّ على العباس أن تُجتاح مكة في أعقاب قتال تتفانى فيه ولا يغنيها فتيلاً.
فخرج يبحث عن وسيلة تقنع قريشاً بمسالمة النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وتُدخلها في أمانه.
وصادف ذلك أن ثلاثة من كبراء مكة خرجوا يتعرفون الأخبار، ويتسمعون ما يقال، فلما اقتربوا من الوادي راعهم ما به.
قال أبو سفيان زعيم مكة: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً!!.
فقال بديل بن ورقاء: هذه -والله- خزاعة حمشتها الحرب.
فرد أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وكان المسلمون على خطتهم المرسومة يبثون العيون حولهم حتى يأخذوا قريشاً على غرة فلا ترى من التسليم بُداً، فعثرت خيالتهم على رجال قريش أولئك، ومعهم حكيم بن حزام فأخذتهم، وعادت بهم مسرعة إلى رسول الله، ولحق العباس بالأسرى وهو يعلن أنهم في جواره، فلما دخلوا على النبي (صلَّى الله عليه وسلم) حادثهم عامة الليل، فانشرحت صدورهم بالإسلام، وإن كان أبو سفيان قد تأخر إسلامه حتى طلع الصبح...
ثم سألوه الأمان لقريش، فقال رسول الله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
وإنما أعطى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أبا سفيان هذه الميزة إرضاء لعاطفة الفخر في نفسه، وقد أرضاه بما لا يضرُّ أحداً ولا يكلف جهداً، ولا عليه أن يتحبب إلى نفسٍ بمثل هذا الثمن الميسور. وأراد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يستوثق من سير الأمور بعيداً عن الحرب والضرب، فضم إلى ذلك المسلك مع أبي سفيان أن أوصى العباس باحتجازه في مضيق الوادي حتى يستعرض القوى الزاحفة كلها فلا تبقى في نفسه أثارة لمقاومة وهو سيد مكة المتبوع، قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، ومرَّت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: سُلَيْم! فيقول: مالي ولسُلَيْم؟ ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مُزَينة! فيقول: مالي ولمزينة حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولبني فلان؟. حتى مر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس من هؤلاء؟.
قلت: هذا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في المهاجرين والأنصار.
قال: ما لأحد بهؤلاء من قِبَلٍ ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً!!.
قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن.
ودخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح ما أمامه فما يقف دونه شيء، ورأى أهل مكة الجيش الفاتح يقبل من بعيد رويداً رويداً، فاجتمعوا على سادتهم ينتظرون الأوامر بالقتال، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق عالياً واضحاً: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وشُدِهَتْ امرأته هند بنت عتبة وهي تسمع من زوجها هذا الكلام، فوثبت إليه وأخذت بشاربه تلويه وصاحت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش -أي هذا الزقَّ المنتفخ- قُبِّحْتَ من طليعة قوم..
ولم يكترث أبو سفيان لسباب امرأته فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنّكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قِبَل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله؟ وما تغني عنا دارك؟ قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
وأصبحت "أم القرى" وقد قيَّد الرعب حركاتها، واسترخت تجاه القدر المنساق إليها، فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، أو اجتمعوا في المسجد الحرام يرقبون مصيرهم وهم واجمون...
على حين كان الجيش الزاحف يتقدم ورسول الله على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجمّ حتى كاد عثنونه يمس واسطة الرحل. إن الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثاً إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول كيف خرج مطارداً؟ وكيف يعود اليوم منصوراً مؤيداً..!وأي كرامة عظمى حفَّه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناء ويبدو أن هناك عواطف أخرى كانت تجيش في بعض الصدور.
فإن "سعد بن عبادة" زعيم الخزرج، ذكر ما فعل أهل مكة وما فرطوا في جنب الله، ثم شعر بزمام القوة في يده فصاح: اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشاً.
وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: بل اليوم يوم تعظَّم فيه الكعبة. اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً، وأمر أن ينزع اللواء من سعد ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في الناس.
وسار رسول الله فدخل مكة من أعلاها. وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى.
ودخل "خالد بن الوليد" من أسفل مكة. وكان هناك نفر من قريش غاظهم هذا التسليم، فتجمعوا عند "الخندمة" يقودهم "عكرمة" بن أبي جهل و"سهيل بن عمرو" و"صفوان بن أمية"، إلا أن الحقيقة الكبيرة صدمت غرورهم فبددته، فإن خالداً حصدهم حصداً حتى لاذ القوم بالفرار. ومن طريف ما وقع أن حماس بن خالد من قبيلة بني بكر، كان قد أعدَّ سلاحاً لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدُّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يوماً: والله ما أرى أنه يقوم لمحمدٍ وصحبه شيء! فقال إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم...ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي عِلّة

هذا سلاح كامل وألَّه

وذو غرارين سريع السلة
فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئاً من قتال مع رجال عكرمة.
ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزماً حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليَّ الباب..!
فقالت المرأة لفارسها المعلَم: فأين ما كنت تقول؟ فقال -يعتذر- لها:
إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذْ فرَّ صفوان وفرَّ عِكْرِمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمة

واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة

ضرباً فلا تُسمع إلا غمغمة

لهم نَهيتٌ خلفنا وهمهمه

لم تنطقي باللوم أدنى كلمة!!

وسكنت مكة واستسلم سادتها وأتباعها، وعلت كلمة الله في جنباتها، ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطوَّف به، وأخذ يكسر الأصنام المصفوفة حوله، ويضربها بقوسه ظهراً لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة.
كانت هذه الحجارة -قبل ساعة- آلهة مقدسة، وهي -الآن- جص وتراب وأنقاض، يهدمها نبيُّ التوحيد وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"...
ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصَّورَ تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام! فقال -ساخطاً على المشركين-: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، ومحا ذلك كله. حتى إذا طَهَّر المسجد من الأوثان أقبل على قريش وهم صفوف صفوف، يرقبون قضاءه فيهم، فأمسك بعضادتي الباب -باب الكعبة- وهم تحته، فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم!! قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وعندما كان رسول الله بالمسجد يُجْهزُ على الوثنية في عاصمتها الكبرى، اقترب منه "فَضالة بن عمير" يريد أن يجد له فرصة ليقتله.
فنظر إليه النبيُّ نظرة عرف بها طويته إلا أنه في غمرة النصر الذي أكرمه الله به، لم يجد في نفسه على الرجل، بل استدعاه ثم سأله: ماذا كنت تحدث به نفسك؟.
قال: لا شيء! كنت أذكر الله!! فضحك النبيُّ ثم قال: استغفر الله.
وتلطَّف معه الرسول، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما مِنْ خَلْقِ الله شيء أحبَّ إلي منه.
وكانت لفضالة في جاهليته هَنات، فمر -وهو راجع إلى أهله- بامرأة لها معه شأن. فلما رأته قالت: هَلُمَّ إلى الحديث! فانبعث يقول:
قالت: هَلُمَّ إلى الحديث، فقلت لا

يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمداً وقبيله

بالفتح يوم تَكسَّرُ الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيِّناً

والشرك يغشى وجهه الإظلام

وصعد بلال فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات تقصف في الجوّ فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين فلا يملكون أمام دويِّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين.
الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
هذه الصيحات المؤكدة تذكر الناس بالغاية الأولى من محياهم، وبالمرجع الحق بعد مماتهم، فكم ضلّلتِ البشرَ غاياتٌ صغيرة أركضتهم على ظهر الأرض ركضَ الوحوش في البراري، واجتذبت انتباههم كلَّه فاستغرقوا في السعي وراء الحطام! وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والفرح يقتلهم بالامتلاء، ولِمَ يسفه المرء نفسه بالغيبوبة في هذه التوافه؟.
إن صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة ليلقي في روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيد الوجود، ورب العالمين، سيده ومولاه...
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله.
لقد سقط الشركاء جميعاً، طالما ضرع الناس للوهم، واعتزُّوا بالهباء، وأمَّلوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعاً، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة. ولِمَ الخبط في هذه المتاهات؟ إن كان المغفَّلون يشركون مع الله بعض خلائقه، أو يؤلهونها دونه؟ فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربَّاً، ولا يرون غيره موئلا.
والتوحيد المحض، هو المنهج العتيد للغاية التي استهدفوها.
ولكن مَنِ الأسوة؟ مَن الإمام في هذه السبيل؟ مَن الطليعة الهادية المؤنسة؟ إن المؤذن يستتلي ليذكر الجواب:
أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.
سيرة هذا الرجل النبيل هي المثل الكامل لكل إنسان يبغي الحياة الصحيحة، إن محمداً إنسان، يرسم بسنته الفاضلة السلوك الفريد لمن اعتنق الحق وعاش له.
وهو يهيبُ بكل ذي عقل أن يُقبل على الخير، وأن ينشط إلى مرضاة وليِّ أمره، ووليِّ نعمته، فيحث الناس أولاً على أداء عبادة ميسورة رقيقة:
حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة.
هذه الصلوات هي لحظات التأمل في ضجيج الدنيا، هي لحظات المآب كلما انحرف الإنسان عن الجادة، هي لحظات الخضوع لله كلما هاج بالمرء النزق، وطغت على فكره الأثرة فنظر إلى ما حوله، وكأنه إله صغير. هي لحظات الاستمداد والإلهام.
وما أفقر الإنسان -برغم غروره- إلى من يلهمه الرشد فلا يستحمق، ويمده بالقوة فلا يعجز ويستكين. ثم يحث الناس -أخيراً- على تجنب الخيبة في شؤونهم كلها.
والخيبة إنما تكون في الجهد الضائع سدى، في العمل الباطل لأنه خطأ، سواء كان الخطأ في الأداء، أو في المقصد..وهو يحذر من هذه الخيبة عندما يدعو: حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح.
ويوم يخرج العمل من الإنسان وهو صحيح في صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة، ألم يعلِّم الله نبيه أن يجعل شؤون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله؟:
{قلْ: إنَّ صلاتي وَنُسكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمينَ. لا شريكَ لهُ وبذلكَ أمرْتُ وأنا أوَّلُ المسلمينَ}.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبداً، ومن ثم يعود إلى تقرير الغاية والمنهج، مرة أخرى.
الله أكبر الله أكبر...لا إله إلا الله...
إن كلمات الأذان تمثل العناوين البارزة لرسالة كبيرة في الإصلاح، ولذلك جاء في السنن الثابتة أن المسلم عندما يسمعها يقول:
اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد.
وفي يوم الفتح قد ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرنّ فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يرَوا الأصنام مكبوبة على وجوهها مسوَّاة بالرغام، ولم يروا عبّادها الأقدمين وقد ألقوا السلْم واتجهوا إلى الإسلام...
إنهم قتلوا أو ماتوا إبان المعركة الطويلة التي نشبت بين الإيمان والكفر. ولكن النصر الذي يجني الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير، وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة.
إنه ليس من الضروري أن يشهد كل جندي النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل في المراحل الأولى منه، وقد يصرع في هزيمة عارضة كما وقع لسيد الشهداء "حمزة" ومن معه.
والقرآن الكريم ينبه أصحاب الحق إلى أن المعول في الحساب الكامل على الدار الآخرة، لا على الدار الدنيا، فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعاً.
{فاصبرْ إنَّ وعْدَ الله حقٌ. فإما نرينَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهمْ أوْ نتوَفينَّكَ فإلينا يرجعونَ}.
ودخل رسول الله مكة في رمضان، وظلَّ بها سائر الشهر يقصر، ويفطر أكثر من خمسة عشر يوماً، وكان قد خرج من المدينة صائماً ثم أفطر هو وصحبه في الطريق.
فلما استقر الأمر شرع يبايع الناس على الإسلام، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء، فتمت البيعة على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا.
وسنة رسول الله في مبايعة النساء أن يأخذ عليهن الميثاق كلاماً لا مصافحة.
فعن عائشة: "لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط".
وهكذا دخل أهل مكة في الإسلام، وإن كان بعضهم بقي على ريبته وجاهليته يتعلق بالأصنام ويستقسم بالأزلام، وأولئك تركوا للأيام تشفي جهلهم، وتحيي ما مات من قلوبهم وألبابهم.
وما دامت الدولة التي تحمي الوثنية وتقاتل دونها قد ذهبت، فسوف تتلاشى هذه الخرافة من تلقاء نفسها.
إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة، ولقد أفلحت خطة المسلمين في تعمية الأخبار على قريش حتى بوغتوا في عقر دارهم، فلم يجدوا مناصاً من الاستسلام، فما استطاعوا الجلاد ولا استجلاب الأمداد، وفتح العرب جميعاً أعينهم فإذا هم أمام الأمر الواقع؛ حتى خُيل إليهم أن النصر معقود بألوية الإسلام فما ينفك عنها!.