1.7 ذكر عمرة الحديبية ودخول مكة:

جاء تفكير المسلمين في زيارة المسجد الحرام بداية لمرحلة متميزة في تاريخ دعوتهم، أليسوا يعالنون بعزمهم على دخول مكة وهم الذين طردوا منها بالأمس وحوربوا حيث استقر بهم النوى؟ وظلت حالة الحرب قائمة بينهم وبين قريش لم تسفر عن نتيجة حاسمة؟ فكيف ينوون العمرة في هذه الظروف...؟
والجواب أن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) أراد بهذا النسك المنشود إقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم، وإفهام المشركين أن المسجد الحرام ليس ملكاً لقبيل يحتكر القيام عليه ويمكنه الصدّ عنه، فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحج إليه واجب على كل من بلغه أذان أبي الأنبياء من قرون:
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
ومن ثمَّ فليس يجوز لأهل مكة أن يحجبوا المسلمين عنه، ولئن استطاعوا قديماً إقصاءهم، إنهم -بعدما وقع من قتال- لن يصرُّوا على خطئهم القديم.
وإحرام النبي وصحبه بالعمرة فحسب -وهم يريدون دخول مكة - آية على الرغبة العميقة في السلم، وعلى الرغبة في نسيان الخصومات السابقة، وتأسيس علائق أهدأ وأرقّ.
ومتى يحدث هذا؟ بعد أن استفرغت قريش جهدها في إيذاء المسلمين، وبعدها بدا فشلها الذريع في ذلك. لقد استمرت بضع سنين تقاتل وتبذل من دمها ومالها لتهزم الإسلام فلم ترجع آخر الأمر إلا بالخسائر الفادحة والأزمات العضوض، على حين رسخت أقدام المسلمين، وعلت راياتهم، وانكمش عدوهم، وها هم أولاء يخرجون إلى مكة عبَّاداً مخبتين، لا غزاة منتقمين. أجل إنهم لا يبغون إلا أن ينالوا مثل ما لغيرهم من حق الاعتمار والحج، ولا يسوغ أن يحرموا من ذلك أبداً.
وبذلك القصد السمح المهذب، استنفر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جمهور المسلمين وأعراب البوادي، وآذنهم أنه يريد العمرة ولا يريد قتالاً، وساق أمامه الهَدْي الذي سيذبح ليطعمه فقراء مكة ، الفقراء الذين حشدوا لاستئصاله يوم الأحزاب...
أكان الكافرون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام يفقهون هذه النية ويقدرون مكانة صاحبها؟.
لا...إنهم بقوا على العهد بهم من فساد الضمير ونية السوء.
فالأعراب المنتشرون حول يثرب، ومن على شاكلتهم من المنافقين، عرفوا أن أهل مكة سوف يقاتلون محمداً عليه الصلاة والسلام أمرّ قتال، وأنه إذا أبى إلا زيارة البيت-كما أعلن-فلن تدعه قريش حتى تهلكه أو تهلك هي دون إبلاغه مأربه...فهي عمرة محفوفة بالأخطار في نظرهم، والفرار منها أجدى!!.
ولو فرض أن الرسول عليه الصلاة والسلام نجح في مقصده هذا، فالاعتذار إليه بعد عودته سهل.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}.
وخرج المؤمنون الواثقون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وعددهم قريب من ألف وأربعمائة، وذلك في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة. وساروا ملبِّين يطوون الطريق إلى البيت العتيق، فلما بلغوا "عُسفان" -على مرحلتين من مكة - جاء الخبر إلى المسلمين أن قريشاً خرجت عن بكرة أبيها، قد أقسمت ألاَّ يدخل بلدهم مسلم، وأن جيشهم استعد للنضال، يقود خيله خالد بن الوليد.
وبدأ شبح الحرب أمام الأعين يملأ هذه البقاع المحرمة بالدماء والأشلاء، والمسلمون لم يجيئوا لهذا، وما كان لأهل مكة أن يلجئوهم إليه. فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب. فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا! وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة" -يعني إلى الموت-.
ومُضيّاً مع الرغبة عن القتال، وتخليصاً للنسك المقصود من شائبة تحدٍّ سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: منْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟.
فجاء رجل من أسلم فسلك بهم طريقاً وعراً أجرد شق على المسلمين اجتيازه، ثم أفضى بهم إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، انثنى المسلمون عندها يميناً ليهبطوا عند الحديبية أسفل مكة !.
ولم تخفَ هذه الحركة عن فرسان قريش ، فتراكضوا راجعين إلى مكة كي يحولوا بين المسلمين ودخولها.
ومضى النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه في وجهتهم المحددة فإذا بناقته تبرك لا تجاوز مكانها! ودهش الناس لما عراها فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): "ما خلأت، وما هو لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ! لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"، ثم أمر الناس أن يحلّوا حيث انتهى بالناقة المسير.
ونزل المسلمون كما أُمروا ينتظرون من الغد القريب أن تفتح لهم أبواب مكة فيطوفوا ويسعَوا، ثم يعودوا وافرين رابحين. إنهم واثقون من إدراك بغيتهم، ولماذا يشكُّون وقد سمعوا من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بشريات كثيرة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين، محلقين رؤوسهم ومقصرين؟.
أما قريش فقد ذعرت لهذا الزحف المباغت، وفكرت جادّة في إبعاده عن مكة مهما كلفها من مغارم، وذلك أنها نظرت إلى الأمر من زاوية ضيقة، فرأت أن مهابتها ستنزع من أفئدة الناس قاطبة إذا دخل المسلمون بلدهم على هذا النحو بعد ما وقع من حروب طاحنة.
غير أن قريشاً تعرف حروجة موقفها إن نشب قتال جديد.
فحجتها فيه أمام نفسها وأمام أحلافها داحضة، وقد ينتهي بكارثة تودي بكيانها كله، ولهذا سيَّرت الوسطاء يفاوضون محمداً علَّهم ينتهون معه إلى مَخْلَص من هذه الورطة!!.
وكان أول من جاءه "بُدَيل بن ورقاء" في رجال من خزاعة ، فكلَّموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأتِ يريد حرباً، وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً حرمته.
فرجعوا إلى قريش يقولون: يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً لهذا البيت. فاتهموهم وجبّهوهم، وقالوا:
وإن كان جاء لا يريد قتالاً...فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدَّث بذلك عنا العرب؟.
ثم بعثت قريش "مِكْرز بن حفص" فعاد بما عاد به بُدَيل الخزاعي.
ثم بعثوا سيد الأحابيش "الحُلَيس بن علقمة" فلما رآه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال: إن هذا من قوم يتألَّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.
فلمّا رأى الهَدْيَ يسيل عليه من عرض الوادي عاد إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله إعظاماً لما شاهد، فقال لهم ذلك، فأجابوه: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك، فاستشاط الحليس وصاح: يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد..فقالوا: مَهْ، كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) "عروة بن مسعود" وكره عروة أن يعود من مفاوضة المسلمين فيسمعه رجال قريش ما يسوؤه فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم مَنْ بعثتموه إلى محمد من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج حتى أتى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيضتك لتفضَّها؟ -إلى قومك لتجتاحهم- إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل -يقصد النساء والأطفال- قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً!
وكان أبو بكر خلف رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يسمع، فلما وصل في حديثه إلى التعريض بالمسلمين قال له هازئاً: امصص بَظْر اللات! أنحن ننكشف عنه؟!.
فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة! فردّ عروة على أبي بكر يقول: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه. وعاود عروة حديثه مع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وجعل يتناول لحيته وهو يكلمه -كأنه ينبهه إلى خطورة ما سيقع بقومه- إلا أن المغيرة بن شعبة كان يقرع يده كلما فعل ذلك وهو يقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك، فقال عروة له. ويحك ما أفظك وأغلظك!! ثم سأل النبي: من هذا يا محمد؟.
فأجاب الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وهو يبتسم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة!! فقال عروة للمغيرة: أي غُدَر، هل غسلتُ سوءتك إلا بالأمس!!.
وقد ردَّ النبي عليه الصلاة والسلام على عروة بما يقطع اللجاجة وينفي الشبهة: إنه لا يبغي حرباً، وإنما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره فلا يلقى صادّاً ولا رادّاً.
ورجع عروة ينوِّه بإجلال الصحابة لرسول الله، ويقول: إني والله ما رأيت مَلِكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم.
إن الرجال الذين تكلموا باسم قريش في هذه المفاوضات لم تنهض لهم حجة، بل إنهم عادوا إلى أهل مكة وهم أميل إلى ملاينة المسلمين وتمكينهم من أداء نسكهم، ولم يحلف بعضهم في التصريح بذلك إلا لما لمسه من كبرياء قريش وعزوفها عن الحق بعدما تبين. إنَّ النزق استبد بهم وأطاش ألبابهم، فقرروا ألاَّ يدخل المسلمون البلد الحرام وليكن ما يكون..
وبقي المسلمون في أماكنهم يلتمسون للمشكلة حلولاً أخرى أفضل من اقتحام مكة في هجوم عام، وحاول فريق من السفهاء أن يشعل المعركة، لكن المسلمين لزموا الهدوء وملكوا أعصابهم.
فعن ابن عباس أن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا وأُتي بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم، وكانو رَموا في العسكر بالحجارة والنبل..
وفي فظاظة قريش وسماحة المسلمين نزل قوله عز وجل:
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
ومن السكينة التي تنزلت على المسلمين أن رسل قريش كانت تغدو على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وتروح فلا يعترضها أحد، أما رسل المسلمين إلى قريش فقد تعرضت للهلاك، كاد خراش بن أمية الخزاعي يقتل، لولا ان أنقذه الأحابيش، فرجع وقد عُقر جمله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أرسله ليبلِّغ أهل مكة حقيقة مجيئه، وأنه يريد العبادة لا الحرب..
والرسل لا تقتل، بيد أن غليان قريش أفقدها الوعي.
والرجل إذا فقد وعيه لا يبالي أن ينتحر، وقد انحرف كبراء مكة عن الصراط السوي، ولم يكترثوا للمصير القاتم الذي ينتظرهم إذا ركبوا رؤوسهم، فلو اصطدم المسلمون بهم ما قامت لهم قائمة ولا أصيبت حرمات مكة في صميمها.
{وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.
لكن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) كره أن تجري الأمور على هذا النحو، ورأى أن يعيد محاولاته لإقناع أهل مكة ، بتركه يزور البيت ثم يعود لشأنه. فدعا عمر بن الخطاب ليذهب إلى القوم يحدثهم بما خرج المسلمون فيه، فقال عمر: يا رسول الله، ليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته لا تزال بمكة وإنه مبلِّغ عنك ما أردت.
ودخل عثمان مكة في جوار قريبه أبان بن سعيد بن العاص، واستطاع أن يبلغ رسالته كاملة وأن يفهم من لقيه الحقيقة الكريمة التي جاء المسلمون قاطبة بها، فكان الردُّ الذي حظي به عثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُفْ.
فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله!!.
ومما يذكر هنا أن مكة لم تخل من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات.
كانت قلوبهم معلّقة بالمسلمين المحجوزين خارج مكة.
لقد انتشر الإسلام سراً في بيوت كثيرة طالما تشوَّقت إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تظهر إيمانها، وتتخلص من سطوة الكفر عليها.
ويظهر أن عثمان اتصل بأولئك النفر المؤمن وبشّرهم بقرب الفتح، فرأت قريش أن عثمان قد عدا الحدود المعهودة، وأمرت باحتباسه عندها، وشاع -لدى المسلمين- أن عثمان قُتل.
وحين بلغت هذه الشائعة مسامع النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ودعا الناس إلى مبايعته، وكان تحت شجرة متشابكة الغصون، فهرع أصحابه إليه يبايعونه على الموت أو على أن لا يفروا.
حدَّث جابر بن عبدالله بعدما كفّ بصره قال: قال لنا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يوم الحديبية : أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
وروي عن جابر أن عبداً لحاطب جاء يشكوه إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ويقول: ليدخلنَّ حاطب النار، فقال له الرسول (صلَّى الله عليه وسلم): "كذبتَ، لا يدخلها، شهد بدراً والحديبية" وتسمى هذه البيعة "بيعة الرضوان" إشارة لقولِ الله في أصحابها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.
وقد قطعت الشجرة ونسي مكانها، وذلك خير، فلو بقيت لضربت عليها قبة وشدّت إليها الرحال، فإن الرعاع سراع التعلق بالمواد والآثار التي تقطعهم عن الله.
عن طارق بن عبد الرحمن: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلُّون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايع النبي عليه الصلاة والسلام بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيِّب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) تحت الشجرة، قال: فلما كان العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها! وعلمتوها أنتم؟ فأنتم أعلم!.
وعند أخذ البيعة من المسلمين ضرب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بإحدى يديه على الأخرى وقال هذه لعثمان.
على أن عثمان لم يطل احتباسه، فإن قريشاً جزعت أن تصيبه بأذى وهو من سرواتها بمكان، وسارعت إلى بعث "سهيل بن عمرو" ليعقد مع محمدٍ صلحاً.
ولم يكن يعنيها في هذا الصلح إلا أن يرجع المسلمون هذا العام، على أن يعودوا بعد إذا شاؤوا، وذلك إبقاء على مكانة قريش في العرب!!.
واستقبل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مفاوض قريش وهو أرغب ما يكون في موادعة القوم، وإن كان قادراً على تحكيم السيف وإنزال خصومه على منطقه الذي آثروه مذ صدُّوه عن البيت، وتكلم "سهيل" فأطال، وعرض الشروط التي يتم في نطاقها الصلح، ووافق عليها النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، ولم يبقَ إلا أن تسجل في وثيقة يمضيها الفريقان.
وحدثت في معسكر المسلمين دهشة عامة للطريقة التي سلكها رسول الله مع أوليائه ومع أعدائه.
فأما مع أعدائه، فقد ذهب في ملاينتهم إلى حدود بعيدة، وأولى به أن يقسو عليهم.
وأما مع أصحابه -فإنه على غير ما ألفوا منه- لم يستشرهم في هذا الاتفاق المقترح.
مع أنه في شؤون الحرب والسلم التي سلفت كان يرجع إليهم، وربما نزل على رأيهم وهو له كاره، لكنه اليوم ينفرد بالعمل ويقر ما يكرهون على غير ضرورة ملجئة..
وقد شرحنا في غير هذا المكان موقف النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية خاصة، وأبنَّا أن تقدير الأمور لم يترك للنظر المعتاد، بل كان للإلهام الأعلى توجيهه الصائب.
إن الله الذي عقل الناقة أن تتابع سيرها لا يأذن لهذه الكتائب أن توالي زحفها وتشرع رماحها، وقد تحرز نصراً أقلّ على الإسلام -في جدواه- من سلم مباركة النتائج.
قال الزهري: فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى . قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال أوليسوا بالمشركين!. قال: بلى. قال: فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا!.
قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه -أمره- فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله!.
ثم أتى رسول الله فقال: ألست برسول الله! قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين! قال: بلى.
قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا؟!.
قال أنا عبدالله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني.
ثم دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عليّ بن أبي طالب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو:
اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه!.
وأن بيننا عيبة مكفوفة -صدوراً منطوية على ما فيها من خير- وأنه لا إسلال ولا إغلال -لا سرقة ولا خيانة- وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.

فبينا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يكتب الكتاب، إذ جاء ابن المفاوض عن قريش نفسه!..
جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يريد الالتحاق بالمسلمين، فقد دخل في دين الله ولقي العذاب من أهله، وها هو ذا يرسف في الحديد وتثقل به قيوده..
ما كان المسلمون يشكون في دخول مكة؛ فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قص عليهم رؤيا أنه دخلها، وطوف بالبيت العتيق فيها، فلما رأوا ما رأوا من شروط الهدنة وأمر الصلح والعودة، وتعنت سهيل مع النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، وافتياته على شخصه، دخل عليهم من ذلك كله أمر عظيم حتى كادوا يهلكون! ثم جاءت قصة أبي جندل فزادت الطين بلّة..
ورأى سهيل ابنه فقام إليه يضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثم قال: يا محمد قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا!! قال: صدقتَ. فجعل سهيل ينتر ابنه بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته:
يا معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني!
فزاد ذلك الناس إلى ما بهم!.
وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
ونفذت القضية، وأعلنت خزاعة دخولها في عقد المسلمين، وأعلنت بنو بكر دخولها في عقد قريش ، ومضت شروط الهدنة...
والنظرة الأولى لهذه الشروط تدل على أنها مجحفة بحقوق المسلمين مرضية لكبرياء قريش وحميتها الجاهلية، وقد تساءل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مستنكرين:
لماذا يردون إلى قريش من جاء منهم مسلماً ولا ترد قريش من جاءها من المسلمين مرتدّاً؟.
وفسَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) هذا الشرط بأنَّ من ذهب إليهم كافراً فلا ردَّه الله وقد وُقي المسلمون خبثه. أما المستضعفون من المسلمين، فستعيى قريش بأمرهم، كما عجزت عن سابقيهم، وستكون العقبى لهم.
ألم يكن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) ومن معه مستضعفين؟ ثم نصرهم الله وخذل قريشاً أمامهم؟.
ثم هاجت في نفوس المسلمين مرة أخرى خيبة الأمل، لقد حُدِّثوا أنهم داخلون في المسجد الحرام، وها هم أولاء قد ارتدوا عنه. لكن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بيَّن أنهم عائدون إلى دخوله كما وعدوا، فهو لم يذكر لهم أنهم سيطوفون به هذا العام. وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجىء. فلما فرغ الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من قضية الكتاب قال لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا -ليتحللوا من عمرتهم ويعودوا إلى المدينة - فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أتحب ذلك؟. اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك.
فلما رأى المسلمون ما صنع النبي زاح عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمره، فقاموا -عجلين- ينحرون هديهم ويحلق بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم.
ليت نيات الخير والشر تؤتي ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التي ظهرت في عهد الحديبية الآنف، إنه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التي فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة.
ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد!.
لقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تم هذا العقد، فإن قريشاً كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعندما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة وخصوصاً لأن قريشاً جمدت سياستها النفعية واهتمت بشؤونها التجارية، فلم تجتهد في ضم أحلاف لها، في الوقت الذي اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافي والسياسي والعسكري، ونجحت دعايتهم في تألف قبائل غفيرة وإدخالها في الإسلام.
وكثيرون من المؤرخين يعد صلح الحديبية فتحاً، بل إن الزهري يقول فيه: ما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين -بعد الحديبية - مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة -بعد ذلك بسنتين- في عشرة آلاف.
أما المسلمون المعذّبون في مكة فقد فرَّ منهم أبو بصير عبيد بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها تنفيذاً لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر! وإن الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك. وحزن أبو بصير وقال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين ليفتنونني في ديني؟ فلم يزد النبي عن تكرار رجائه في الفرج القريب. ثم أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا جميعاً إلى مكة.
ورفض أبو بصير أن يستسلم لهذا المصير فاحتال أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به، ففر الآخر مذعوراً وقفل راجعاً إلى المدينة يخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بما وقع لصاحبه، وإذا أبو بصير يطلع متوشحاً السيف يقول: يا رسول الله وفَتْ ذمتك، وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: وَيْلُ أمِّه، مِسْعَر حرب لو كان معه رجال.
وأدرك أبو بصير أنه لا مقام له في المدينة ، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر في ناحية تدعى العيص، وشرع يهدِّد قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول فيه "مسعر حرب لو كان معه رجال" فتلاحقوا بأبي بصير يشدون أزره حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائراً فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
وألَّف أولئك المعذَّبون الناقمون جيشاً، ضيَّق الخناق على قريش ، فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها.
وإذا قريش ترسل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) تناشده الرحم أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتاً، وقبله المسلمون كارهين.
وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهي قصة العقيدة المكافحة في لؤمٍ من الأعداء ووحشةٍ من الأصحاب! وهي توضح أن الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجرداً من كل شيء إلا سلامة جوهره. إنهم قد فقدوا الأمداد الروحية التي تجيئهم من مخالطة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) والإصغاء إليه وهو يتلو وينصح، بَيْد أنهم عوَّضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من آدابه، فكانوا -في اهتدائهم للحق وإبائهم للضيم وإيثارهم للمغامرة- مُثُلاً حسنى للإسلام المكافح العزيز.
ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر، وروى موسى بن عقبة أن رجال أبي بصير صادروا قافلة فيها أبو العاص بن الربيع صهر النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وهو لما يدخل الإسلام بعد- وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص-لمكانته- فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه وما ضاع لهم من أموال، وحدَّثت زينب رسول الله في ذلك، فقام رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فخطب الناس قائلاً: إنا صاهرنا أناساً، وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأخذوا ما كان معهم؛ وإن زينب بنت رسول الله، سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال المسلمون: نعم.
وبلغ هذا الحوار أبا جندل فأفرجوا عن الأسرى، وردّوا عليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال.
ثم جاء كتاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى أبي بصير ليترك مكانه ويرجع حيث يحب، وكان أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة، فمات والكتاب على صدره ودفنه أبو جندل. أما أبو العاص بن الربيع فارتحل ببضائع قريش حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس أموالهم حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم أرده عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، قد وجدناك وفياً كريماً.
قال: والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا أن تظنوا أني أسلمت لأذهب بأموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
وعاد إلى المدينة فرد عليه رسول الله امرأته زينب، وكان اختلاف الدين قد فرَّق بينهما، ولم ينشىء في ذلك عقداً جديداً.
وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهنَّ لا يستطعن مضطرباً في الأرض وردّاً للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما.
وأيَّاً ما كان الأمر. فإن احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن، وكلف المسلمون أن يدفعوا لأزواجهن المشركين عوضاً يستعينون به على زواج آخر إذا لم يشاؤوا الدخول في الإسلام والعودة إلى أزواجهم الأوليات.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
والآية تشير -بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتع به المرأة من استقلال فكري وكيان أدبي محترم.
ولو حدث ذلك اليوم لتساءل فريق كبير من ا لمسلمين: من الذي يمتحن؟ أهو رجل أم مرأة، وإن كان رجلاً، فهل يكون شاباً أو شيخاً؟ وهل تمتحن المرأة مباشرة أو من وراء حجاب؟.