8.6 طرد المسلمين ليهود بني قينقاع من المدينة:

وأول من كشف عن ضغنه وهزأ بالإسلام وأهله يهود بني قينقاع المقيمين داخل المدينة نفسها، وكظم المسلمون غيظهم، وانتظروا ما تتمخض عنه الليالي من مكر اليهود.
وسعى هؤلاء إلى حتفهم بظلفهم، فقد حدث أن امرأة عربية قدمت بحليها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى الصائغ هناك، فاجتمع حولها نفر من اليهود يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها وهي غافلة فعقده إلى ظهرها.
فلما قامت انكشفت سوأتها وضحك اليهود منها، وصاحت المرأة فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا طارت الشرارة ووقعت الحرب بين المسلمين وبني قينقاع.
وكان ذلك في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة.
لجأ اليهود إلى حصونهم يقاتلون فيها، ففرض الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) عليهم الحصار، وأحكمه خمس عشرة ليلة حتى اضطروا إلى التسليم، ورضوا بما يصنعه رسول الله في رقابهم ونسائهم وذريتهم، فلما أمكن الله منهم جاء عبدالله بن أبي فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ -وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول الله، فكرر ابن أُبيّ مقالته: أحسن في مواليَّ، فأعرض عنه الرسول. فأدخل يده في جيب درعه، فتغيَّر لون النبي وقال له: أرسلني، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم عاد أمره وهو مغضب: أرسلني ويحك! قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاث مائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله: هم لك على أن يخرجوا من المدينة ولا يجاورونا بها.
فرحلوا إلى "أذرعات" بالشام ولم يبقَوا هناك طويلاً حتى هلك أكثرهم.
أما كان خيراً لهم أن يؤدوا حقوق الجوار، ويعرفوا قيم العهود، ويبقوا في المدينة آمنين موفورين؟ لقد تعجلوا الشر فباؤوا به...وفي حوار عبدالله بن أبيّ مع الرسول عليه الصلاة والسلام نزل قوله تعالى:
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.
ويحسن أن نتأمل في سيرة هؤلاء اليهود، وسر نقمتهم الشديدة على الإسلام ونبيه وتحيزهم المعيب إلى الوثنية في نضال الإسلام معها.
أصحيح أن نزاع اليهودية والإسلام كان سياسياً لا دينياً؟ وأن الانفراد بالسلطان في الجزيرة العربية هو مبعث هذا الخصام الحادّ؟.
إن التغلغل في فهم العواطف والمشاعر الإنسانية يفسر كثيراً من المواقف الغامضة. لقد رأينا المسلمين في مكة يتحمسون للنصرانية في صراعها مع المجوسية، ويحزنون لانكسار الروم أمام الفرس، مع أن الإسلام لم يكن قد اتصل بعد بالنصارى اتصالاً يبرر هذا الحماس. لكنه الشعور الطبيعي الوحيد الذي ينتظر من الرجل المخلص لدينه، فالمسلمون أصحاب كتاب يدعو إلى التوحيد، والنصارى -وإن اضطرب فهمهم لمعنى التوحيد وشابوا الحق بالخرافة- فهم -على كل حال- أهل كتاب، ويعتبرون أعلى مرتبة من عبدة النار، فالرغبة في انتصارهم على الوثنية الصريحة الشرك ضرب من الوفاء للإسلام نفسه! ومن الاحترام للحقيقة التي معك أن تقترب مما يقرب منها، وأن تبتعد عن كل ما يبعد عنها.
وقد كان المشركون من أهل مكة منطقيين مع أنفسهم حين رحبوا بانتصار الفرس، وعدوه رمزاً لغلبة الوثنية في كل صورها على أديان السماء جملة...
فما معنى أن يغضب اليهود الموحدون -كما يزعمون- من انتصار الإسلام على الشرك؟ وبم يفسر حنوهم على القتلى من عبدة الأصنام، وسعيهم الحثيث لتغليب كفة الوثنية العربية على هذا الدين الجديد؟؟
إن التفسير الوحيد لهذا الموقف أن اليهود انقطعت صلاتهم بمعنى الدين، وأن سلوكهم العام لا يرتبط بما لديهم من تراث سماوي، وأنهم لا يكترثون بما يقترب من عقيدة التوحيد أو أحكام التوراة، لأن هذه وتلك مؤخرة أمام شهواتهم الغالبة وأثرتهم اللازبة. ومن ثَمَّ شكك القرآن الكريم في قيمة الإيمان الذي يدَّعيه القوم:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ...}.
والظاهر أن طوائف اليهود التي عاشت بين العرب كانت عصابات من المرتزقة اتخذت الدين عنواناً لمطامع اقتصادية بعيدة المدى، فلما توهمت أن هذه المطامع مهددة بالزوال ظهر الكفر المخبوء، فإذا هو كفر بالله وسائر المرسلين.
ولم يعرف أولئك شرفاً في حرب الإسلام، ولم يقفهم حد أو عهد في الكيد له، فلم يكن بد من إجلائهم وتنظيف الأرض منهم.