24.7 قدوم ضمام بن ثعلبة وافداً عن قبيلة سعد بن بكر على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وقدوم وفد نجران من النصارى على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وفد للأميين ووفد لأهل الكتاب:

أرسلت قبيلة سعد بن بكر "ضمامَ بن ثعلبة" وافداً إلى رسول الله.
فامتطى "ضِمامٌ" بعيره حتى دخل المدينة ، فأناخه على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله جالس في أصحابه.
وكان "ضمام" رجلاً جلداً، أشعر، ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله في أصحابه. فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟.
فقال رسول الله:
أنا ابن عبد المطلب، قال: أمحمد؟ قال: نعم.
قال: يا ابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدنَّ في نفسك.
قال:
لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك.
قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك. آلله بعثك إلينا رسولاً؟.
قال:
اللهم نعم.
قال: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك.
آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟.
قال:
اللهم نعم.
وفي رواية أنه قال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟
قال:
صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله.
قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟
قال:
نعم.
قال ضمام: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟ قال:
نعم.
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام وشرائعه على هذا النحو، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه. ثم لا أزيد ولا أنقص، وانصرف إلى بعيره راجعاً.
فقال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة.
فأتى ضمام بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى!! قالوا: مَهْ يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون..قال: ويلكم، إنهما -والله- لا يضران ولا ينفعان.
إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه..
قال: فوالله ما أمسى في الحي من ذلك اليوم رجل ولا امرأة إلا مسلما.
ذلك وفد يمثل بساطة الأميين في منطقهم، وسلامة طويتهم في جدلهم وتساؤلهم وخلو أذهانهم من العقد التي تعترض الحق في مسيله السمح.
ولا نكران في أن جهاد الدعوة القديم له أثره في الوصول إلى هذه النتائج السريعة.
وهذا طبيعي فإن تغيير دين ليس كتجديد زي، و"ضمام بن ثعلبة" كان يستحضر في ذهنه وهو يسأل النبي ثم وهو يخطب قومه أن هذه الرسالة الجديدة مرت بأطوار شتى من المحن والفتن، كشفت عن صدقها وسلامة جوهرها، فليس إيمانه وإيمان قومه وليد ساعة من كلام.
ذاك وفد الأميين، وهو مثل لوفود أخرى كبرت أو صغرت أمّت المدينة ، لترى هذا النبي وتبايعه، ثم تؤوب إلى قومها حاملة الهدى والخير.
أما أهل الكتاب فإن قلةً منهم شرحت صدراً بالحق، وسارعت إلى اعتناقه ومؤازرته، والكثرة الباقية اختلفت عداوتها له شدة وفتوراً.
أبى اليهود إلا إبادة الإسلام فوقعوا في شرور نيتهم، وباد سلطانهم العسكري والسياسي قبل أن يدركوا هذه الغاية.
وقبلهم الإسلام في دولته القائمة أفراداً يبقون على ديانتهم ما أحبوا، ولا يمكنون من تجمع على عدوان ودس.
وذلك حقه لا ريب!!.
ولم تصادر الحقوق الشخصية ليهودي تحت سلطان الإسلام، وحسبك أن النبي نفسه -لكي يقترض من يهودي- ارتهنه درعه..وما فكر قط في إحراجه بما يملك من سلطان بعيد..
وكان النصارى أخف خصومة حيث ابتعدوا عن سلطان الكنيسة..فأسلم بعضهم عن طواعية وإعجاب بما في الإسلام من سهولة واستقامة..وبقي الآخرون على ما ورثوا..
وسارت العلاقة بين الدينين في مجراها الذي أبنّا عنه آنفاً، حتى تحولت إلى حرب طاحنة بين المسلمين والرومان..
وكانت النصرانية -مع تفوق الرومان السياسي والعسكري- تسود شمال الجزيرة وجنوبها..
فرأى المسلمون -وهم في حرب مع دولة الروم- أن يحددوا موقفهم مع نصارى الجنوب، خصوصاً وأن الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويبسطون عليهم الكرامات، ويشجعونهم على المضي في تنصير القبائل المتوطنة بهذه الأرجاء.
فأرسل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) إلى أهل نجران كتاباً جاء فيه
"باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد..
وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد...
فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسلام".

فأرسلت نجران -وهي كعبة النصرانية جنوباً- وفدَها إلى المدينة ليقابل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ويتفاهم معه، ووافى الوفد المدينة بعد العصر، ودخل المسجد:
فكان أول ما صنع أن اتجه إلى بيت المقدس يصلي لله على ما تقضي به طقوس المسيحية، وأراد الناس منعهم، فقال رسول الله:
دعوهم...حتى انتهوا من عبادتهم...
ورآهم النبي (صلَّى الله عليه وسلم) قد لبسوا لملاقاته أردية الكهنوت الفاخرة، وتحلوا بخواتم الذهب، وجاؤوا يخبّون في الحرير، وتبدو لهم -بين القلانس والطيالس- سيماء التكلف الشديد.
فأبى أن يتحدث معهم، حتى يرجعوا إلى ملابس سفرهم، ويدعوا هذه الزينة...
والغريب أن بعضهم سأل النبيَّ: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما يُعبَد عيسى بن مريم؟ وإلى ذلك تدعونا؟.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم):
معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا أمرني.
وأنزل الله عز وجل في ذلك:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‍}.
وعرض النبي (صلَّى الله عليه وسلم) على أحبار "نجران" وسائر الوفد أن يسلموا، فقالوا له: أسلمنا قبلك، قال:
كذبتم، يمنعكم من الإسلام دعاؤكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير.
فجادلوه في عيسى، وقالوا من أبوه؟ فروي أن النبي ردَّ عليهم قائلا:
ألستم تعلمون أن الله حيٌّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى ، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى .
قال:
فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا.
قال:
ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى . قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئاً إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا...‍
قال:
ألستم تعلمون أن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف يشاء؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدث الحدث؟ قالوا: بلى‍.
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى .
قال:
فكيف يكون هذا كما زعمتم؟.
فقالوا: ألست تقول في عيسى: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه؟ قال:
بلى .
فلما رأى النبي أن الجدل يتمادى بالقوم، وأنهم مصرون على اعتبار عيسى إلهاً وندّاً للإله قال لهم: أقيموا غداً حتى أخبركم.
فنزلت آيات المباهلة:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
فأصبح رسول الله من الغد، وقد أقبل بنفسه، وحفيديه الحسن، والحسين، وابنته فاطمة.
واستعد أن يشترك مع وفد نجران في صلاة جامعة تُستنزل فيها لعنة الله على المفترين.
واستمع وفد نجران إلى هذا الاقتراح، فأوجسوا خيفة من قبوله! من يدري؟ قد يكون محمد صادقاً في أن عيسى بشر مثله ويكونون -هم- واهمين في انتحال الألوهية له.
فلماذا يبتهلون إلى الله أن يمحقهم؟.
ونظروا إلى محمد وطفليه وابنته، فشعروا أن الكاذب منهما لن يهلك وحده بل ستهلك معه أسرته، فخشوا على أولادهم وأهليهم البوار إن هم قبلوا هذه المباهلة، ثم خلصوا نجياً.
قال بعضهم للآخر: إن كان هذا الرجل ملكاً، فلن نأمن طعننا عليه وخصامنا له، فإن دولته مقبلة، وربما أصابنا قومه بجائحة.
وإن كان نبياً مرسلاً فلاعنّاه، فلن يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، فما الرأي؟.
فجاءه متحدث القوم شرحبيل بن وداعة، وقال له: رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال النبي:
ما هو؟ قال: أدَعُ لك الحكم فينا فمهما قضيت فهو جائز!.
فقال رسول الله:
لعل وراءك أحداً يثرِّب عليك؟ فقال شرحبيل: سل عني، فلما سأل الرسول عنه أُخبر أن أهل الوادي لا يصدرون ولا يردون إلا عن رأيه، فقال: جاحد موفق.
ورجع رسول الله ولم يلاعنهم، وعقد معهم صلحاً أصبحوا بمقتضاه من رعايا الدولة الإسلامية.
وجاء في شروط هذا الصلح "أنَّ لنصارى نجران جوار الله وذمة محمد النبي، على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وتبعهم. وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.
وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية، ولا يحشرون -يكلفون- بجهاد، ولا يُعشَّرون -يكلفون بزكاة- ولا يطأ أرضهم جيش.
ومن سأل منهم حقاً فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.
وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم".
وشهد على هذه المعاهدة أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، والمغيرة بن شعبة.
فماذا كُلِّف به نصارى نجران بإزاء هذه الحقوق؟ أن يدفعوا للدولة ألفي حلة في السنة! وهي بدل تافه عن الزكاة التي يدفعها المسلمون وحدهم، والجهاد الذي يحملونه وحدهم.
وتلك هي الجزية التي ضربت على نجران بعد المفاوضات التي رأيت.
وبذلك قطع الإسلام الصلة بين أولئك العرب المتنصرين وبين دولة الروم التي يشتبك معها في الحرب، بعدما ضمن الحرية الدينية لمن سالموه وكفوا عنه.
ونحن نسأل -على وجه التحدي- هل عاملت الطوائف المسيحية بعضها بعضاً بهذه السماحة الرائعة؟ أم كان ذلك مسلكاً أضاء به الإسلام وحده ظلمات القرون الأولى؟.
ثم نسأل مرة أخرى: هل احترم أهل الكتاب ما عليهم من واجب، وهل أنصفوا الدين الذي رعى ذمامهم؟.
لقد دخلت السنة العاشرة على الإسلام وهو يبسط تعاليمه على حساب الوثنية المتقلصة، فإذا بعض القبائل في الجنوب تثور ضده تحسب أن رجلاً من قريش ملك العرب بادعاء النبوة، فليس يعجزها أن تقدم من مفاليكها من يزعم النبوة كذلك!! لعله يملك مثل ما ملك محمد بن عبدالله.
ومن المؤسف أن النصارى في جنوب الجزيرة ساعدوا في إشعال هذه الثورات، وأن نصارى نجران كاتبوا الأسود العنسي فسار إليهم -وهو أحد المتنبئين- ثم رحل عنهم إلى اليمن ، فملكها حتى قتلته امرأته هناك وأراحت الأرض منه.
أكانت هذه الفتن معاونة لنصارى الشمال في حربهم ضد الإسلام، أم كانت شغباً يمليه الكره المجرد فحسب؟.
وما فعله نصارى نجران في تأييد الأسود العنسي فعل مثله نصارى تغلب في تأييد مسيلمة الكذاب حين ادَّعى -هو الآخر- أنه نبي!.
ونحن نفهم أن يرفض أهل نجران وبنو تغلب الدخول في الإسلام، وأن يؤثروا البقاء على ما اقتنعوا به من ديانتهم الموروثة، لكننا لم نفهم بتة أن يكذِّب رجل بصحف الوحي وأن يؤمن -مثلاً- بالبعكوكة.
ذاك إن كانوا قد آمنوا حقاً بالأسود ومسيلمة..
أما إذا كان الأمر لا يعدو الإعانة على حرب الإسلام بأي سلاح ومع أي حليف، فهذه مسألة أخرى يحتار في علاجها أطباء القلوب.