1.1 الوثنية تسود الحضارة القديمة:

إن تاريخ الحياة مؤسف.
منذ هبط آدم وبنوه في الأرض، ثم بعد أن شبَّ بهم الزمن واطَّرد العمران وتشعبت الحضارات وأدبرت أجيال وأقبلت على أنقاضها أخرى، منذ ذلك الحين السحيق والناس أخلاط متنافرون، لا تستقيم بهم السبل يوماً إلاّ شردت أياماً، ولا يشيمون بوارق الحق حيناً إلا أطبقت عليهم ظلمات الباطل أحياناً.
ولو تقصَينا تاريخ البشر -على ضوء الإيمان بالله والاستعداد للقائه- لوجدنا العالم أشبه بمخمور تربو فترات سكره على فترات صحوه، أو بمحموم غاب عنه -في سَوْرة الألم- رشده فهو يهذي ولا يدري..
وقد كان في تجارب الناس مع أنفسهم ودنياهم مزدجر يزع عن الشر ويرد إلى الخير، بيد أن الهوى الغالب لا تجدي معه معرفة.
كم سلخت الدنيا من عمرها قبل أن يظهر محمد (صلَّى الله عليه وسلم)؟
لقد مرت عليها قرون طوال أفادت فيها علماً كثيراً، ووعت تجارب خطيرة، ونمت آداب وفنون، وشاعت فلسفات وأفكار.
ومع ذلك فقد غلب الطيش، واستحكم الزيغ، وسقطت أمم شتى دون المكانة المنشودة لها.
فماذا كان مصير الحضارات في مصر واليونان، وفي الهند والصين، وفي فارس وروما؟ لا أقصد مصيرها من ناحية السياسة والحكم، بل من ناحية العاطفة والعقل.
إن الوثنية الوضيعة اغتالتها؛ وفرضت عليها السقوط في هذه الوهدة الزرية.
فأمسى الإنسان الذي استخلفه الله ليكون ملكا في السموات والأرض، أمسى عبداً مسخراً لأدنى شيء في السموات والأرض.
وماذا بعد أن تُقدَّس العجول والأبقار وتعبد الأخشاب والأحجار وتُطِبق شعوب بأسرها على هذه الخرافة؟
إن الوثنية هَوانٌ يأتي من داخل النفس لا من خارج الحياة، فكما يفرض المحزون كآبته على ما حوله، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة أشباحاً جاثمة؛ كذلك يفرض المرء الممسوخ صَغَار نفسه وغباء عقله على البيئة التي يحيا فيها، فيؤلَّه من جمادها وحيوانها ما يشاء.
ويوم ينفسح القلب الضيق، ويشرق الفكر الخامد، وتثوب إلى الإنسان معانيه الرفيعة، فإن هذه الإنعكاسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها.
ومن ثَمَّ كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه، فلو ذبحت العجول المقدسة، ونكست الأصنام المرموقة، وبقيت النفس على ظلامها القديم، ما أجدى ذلك شيئاً في حرب الوثنية! فيبحث العبَّاد المفجوعون عن آلهة أخرى غير ما فقدوا، يوفضون إليها من جديد! وما أكثر الوثنيين في الدنيا وإن لم يلتفوا حول نصب، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق، وربِّه الأعلى، والجري وراء وهم جديد...!!
والخرافة لا تأخذ مجراها في الحياة وهي تعلن عن باطلها أو تكشف عن هرائها. كلا، إنها تداري مجونها بثوب الجد، وتستعير من الحق لبوسه المقبول، وقد تأخذ بعض مقدماته وبعض نتائجه، ثم تتزين بعد ذلك للمخدوعين.
وكذلك فعلت الوثنية! لقد أغارت على الدين الصحيح وحقائقه الناصعة، لا كما يغير النحل على أزهار الربيع، بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد على الحدائق الغنَّاء، فتحيلها قاعاً بلقعاً...
وهي إذ أفسدت ما تركت لم تصلح ما أخذت، ولئن كان ما أخذته خيراً قبل أن تتصل به، لقد أصبح شراً بعدما تحول في جوفها إلى سموم.
وهذا هو السر في أن الوثنية التي لا تعرف الله تزعم أنها بأصنامها تتقرب إليه وتبغي مرضاته...!!
جزء من الحق، في أجزاء من الباطل، في سياق يصرف الناس آخر الأمر عن الله، ويبعدهم عن ساحته..!!
وأعظم نكبة أصابت الأديان إثر عدوان الوثنيات عليها، ما أصاب شريعة عيسى بن مريم عليه السلام من تبدل مروِّع، رد نهارها ليلا، وسلامها وَيْلاً، وجعل الوحدة شركة، وانتكس بالإِنسان، فعلق همته بالقرابين، وفكره بالألغاز المعمَّاة.
إن خرافة الثالوث والفداء تجددت حياتها بعدما أفلحت الوثنية الأولى في إقحامها إقحاماً على النصرانية الجديدة، وبذلك انتصرت الوثنية مرتين: الأولى في تدعيم نفسها، والأخرى في تضليل غيرها.
فلما جاء القرن السادس لميلاد عيسى عليه السلام؛ كانت منارات الهدى قد انطفأت في مشارق الأرض ومغاربها؛ وكان الشيطان يذرع الأقطار الفيح فيرى ما غرس من أشواك قد نما وامتد...
فالمجوسية في فارس طليعة عنيدة للشرك الفاشي في الهند والصين، وبلاد العرب وسائر المجاهل..
والنصرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز مآثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامى، فهي تجعل لله صاحبة وولداً؛ وتغري أتباعها في "رومة" ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أرقى مما ألف عبَّاد النيران وعبَّاد الأوثان، شرك مشوب بتوحيد يحارب شركاً محضاً!!!.
ولكن ما قيمة هذه النقائض التي جمعت النصرانية بين شتاتها؟
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.
ويظهر أن آصرة الشرك بين المجوسية والديانات السماوية المشوّهة هي التي جعلت هذه الأحزاب إلباً على المسلمين يوم بدأوا يقيمون جماعتهم على عبادة الواحد الحق، وقد نبأ الله هذه الأمة بأن الأذى سوف ينصب عليها من عبدة الأصنام، ومن أهل الكتاب في آن. ووصاها أن تتذرع بالصبر أمام هذا التحامل.
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
والظلام الذي ران على الأفئدة والعقول في غيبة أنوار التوحيد طوى في سواده أيضاً تقاليد الجماعة وأنظمة الحكم، فكانت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضعاف نعمة الأمان والسكينة.
وأي خير يرجى في أحضان وثنية كفرت بالعقل، ونسيت الله، ولانت في أيدي الدجّالين؟
لا غرابة إذا رفع الله عنها يده كما جاء في الحديث
"إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب".
وهذه البقايا هي التي ظلت مستعصية على الشرك برغم طوفان الكفر الذي طمَّ البقاع والتلاع.
لقد عمّت الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيرة وبؤس، ناءت بهما الكواهل.
أتيتَ والناس فوضى لا تمر بهم

 

إلا على صنم قد هام في صنم

فعاهل الروم يطغى في رعيته

 

وعاهل الفرس من كِبْر أصم عَمي

حتى تأذن الله ليحسمنّ هذه الآثار، وليسوقن هدايته الكبرى إلى الأنام، فأرسل إلى الأمة محمداً عليه الصلاة والسلام.