اظهار الحق

الشيخ رحمت اللـه بن خليل الرحمن الهندي

الجزء الثاني

 

 

 

 

 

الجزء الثاني : الفهرست

 

تابع: الباب الرابع:  في إبطال التثليث.

الفصل الثاني: في إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام.

الفصل الثالث: في ابطال ألوهية المسيح عليه السلام

 

الباب الخامس:  في كون أن القران كلام الله و معجزا, ورفع شبهات القسيسين

 

الفصل الأول: في اثبات أن القران الكريم كلام الله

الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين

الفصل الثالث: في اثبات صحة الأحاديث النبوية المروية في كتب الصحاح و من كتب أهل السنة و الجماعة

الفصل الرابع: في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث

 

الباب السادس:  في اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

 

الفصل الأول: في اثبات نبوته صلى الله عليه وسلم

الفصل الثاني: في دفع المطاعن

 

القسم الأول: في أن الذنوب المذكورةفي كتبهم تقدح في نبوه أنبيائهم

القسم الثاني: في نقل مطاعن القساوسة و الرد عليها

 

 

 

 

 

تابع: الباب الرابع في إبطال التثليث.

الفصل الثاني: في إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

(القول الأول): في الآية الثالثة من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا قول عيسى عليه السلام في خطاب اللّه هكذا: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فبين عيسى عليه السلام أن الحياة الأبدية، عبارة عن أن يعرف الناس أن اللّه واحد حقيقي وأن عيسى عليه السلام رسوله. وما قال إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله مجسم ولما كان هذا القول في خطاب اللّه في الدعاء فلا احتمال ههنا للخوف من اليهود فلو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لبينه، وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي للّه واعتقاد الرسالة للمسيح فضدهما يكون موتاً أبدياً وضلالاً بيناً ألبتة، والتوحيد الحقيقي ضد للتثليث الحقيقي كما عرفت مفصلاً في الفصل الأول، وكون المسيح رسولاً ضد لكونه إلهاً، لأن التغاير بين المرسِل والمرسَل ضروري، وهذه الحياة الأبدية توجد في أهل الإسلام بفضل اللّه. وأما غيرهم فالمجوس ومشركو الهند والصين محرومون منها لانتفاء الاعتقادين فيهم، وأهل التثليث من المسيحيين محرومون منها لانتفاء الاعتقاد الأول، واليهود كافة محرومون منها لانتفاء الاعتقاد الثاني.

 

(القول الثاني): في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا 28: (فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسناً سأله: أية وصية هي أول الكل) 29: (فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد. [30]: وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى [31] وثانية مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك ليس وصية أخرى أعظم من هاتين [32] فقال له الكاتب جيداً يا معلم بالحق قلت لأنه) أي اللّه (واحد وليس آخر سواه) 33 (ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح) 34 (فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيداً عن ملكوت اللّه). وفي الباب الثاني والعشرين من إنجيل متى في قوله عليه السلام بعد بيان الحكمين المذكورين هكذا: (بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس والأنبياء). فعلم أن أول الوصايا الذي هو مصرح به في التوراة وفي جميع كتب الأنبياء وهو الحق وهو سبب قرب الملكوت، أن يعتقد أن اللّه واحد ولا إله غيره ولو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لكان مبيناً في التوراة وجميع كتب الأنبياء لأنه أول الوصايا، ولقال عيسى عليه السلام: أول الوصايا الرب واحد ذو أقانيم ثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي، لكنه لم يبين في كتاب من كتب الأنبياء صراحة ولم يقل عيسى عليه السلام هكذا فلم يكن مدار النجاة. فثبت أن مدارها هو اعتقاد التوحيد الحقيقي لا اعتقاد التثليث، وهوسات التثليثيين باستنباطه من بعض كتب الأنبياء لا يتم على المخالف لأن هذا الاستنباط خفي جداً مردود بمقابلة النص، وغرض المخالف هذا أن اعتقاد التثليث لو كان له دخل ما في النجاة لبينه الأنبياء الإسرائيلية بياناً واضحاً، كما بينوا التوحيد في الباب الرابع من كتاب الاستثناء - 35 (لتعلم أن الرب هو اللّه وليس غيره) 39 (فاعلم اليوم واقبل بقلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت وليس غيره). وفي الباب السادس من السفر المذكور 4 (اسمع يا إسرائيل إن الرب إلهنا فإنه رب واحد) 5 (حِب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك) وفي الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعياء 5 (أنا هو الرب وليس غيري وليس دوني إله شددتك ولم تعرفني) 6 (ليعلم الذين هم من مشرق الشمس والذين هم من المغرب أنه ليس غيري أنا الرب وليس آخر). فالواجب على أهل المشرق والمغرب أن يعلموا أن لا إله إلا اللّه وحده لا أن يعلموا أن اللّه ثالث ثلاثة. وفي الآية التاسعة من الباب السادس والأربعين من كتاب أشعياء 2 (إني أنا اللّه وليس غيري إلهاً وليس لي شبه).

(تنبيه) حرّف صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 م قول المسيح عليه السلام بتبديل ضمير المتكلم بضمير الخطاب، وترجم هكذا: (الرب إلهك إله واحد) وضيع بهذا التحريف المقصود الأعظم لأن ضمير المتكلم ههنا دال على أن عيسى ليس برب بل عبد مربوب بخلاف ضمير الخطاب والظاهر أن هذا التحريف قصدي.

 

(القول الثالث) في الآية الثانية والثلاثين من الباب الثالث عشر من إنجيل مرقس قول المسيح عليه السلام هكذا: (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب) وهذا القول ينادي على بطلان التثليث لأن المسيح عليه السلام خصص علم القيامة باللّه ونفى عن نفسه كما نفى عن عباد اللّه الآخرين وسوى بينه وبينهم في هذا، ولا يمكن هذا في صورة كونه إلهاً سيما إذا لاحظنا أن الكلمة وأقنوم الابن عبارتان عن علم اللّه وفرضنا اتحادهما بالمسيح وأخذنا هذا الاتحاد على مذهب القائلين بالحلول أو على مذهب اليعقوبية القائلين بالانقلاب فإنه يقتضي أن يكون الأمر بالعكس ولا أقل من أن يعلم الابن كما يعلم الأب، ولما لم يكن العلم من صفات الجسد فلا يجري فيه عذرهم  المشهور أنه نفى عن نفسه باعتبار جسميته فظهر أنه ليس إلهاً لا باعتبار الجسمية ولا باعتبار غيرها.

 

(القول الرابع): في الباب العشرين من إنجيل متى هكذا: 20 (تقدمت إليه أم ابني زيدي مع ابنيها وسجدت وطلبت منه شيئاً) 21 (فقال لها ماذا تريدين قالت له قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك) 22 (فأجاب يسوع) إلخ 23 (الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدلهم من أبي) انتهى ملخصاً فنفى عيسى عليه السلام ههنا عن نفسه القدرة وخصصها باللّه كما نفى عن نفسه علم الساعة وخصصه باللّه ولو كان إلهاً لما صح هذا.

 

(القول الخامس): في الباب التاسع عشر من إنجيل متى هكذا: 16 (وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية) 17 (فقال له لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو اللّه) فهذا القول يقلع أصل التثليث وما رضي تواضعاً أن يطلق عليه لفظ الصالح أيضاً ولو كان إلهاً لما كان لقوله معنى ولكان عليه أن يبين لا صالح إلا الأب وأنا وروح القدس، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وإذا لم يرض بقوله الصالح فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلاتهم (يا ربنا وإلهنا يسوع لا تضيع من خلقت بيدك) حاشا جنابه أن يرضى بها.

 

(القول السادس): في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: 46 (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني) 50 (فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح). وفي الآية السادسة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيل لوقا هكذا: (ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي) وهذا [ص 7] القول ينفي ألوهية المسيح رأساً سيما على مذهب القائلين بالحلول أو الانقلاب لأنه لو كان إلهاً لما استغاث بإله آخر بأن قال إلهي إلهي لماذا تركتني، ولما قال يا أبتاه في يدك أستودع روحي ولامتنع العجز والموت عليه.. الآية الثامنة والعشرون من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (أما عرفت أو ما سمعت إله سرمدي الرب الذي خلق أطراف الأرض لن يضعف ولن يتعب وليس فحصاً عن حكمته). والآية السادسة من الباب الرابع والأربعين من الكتاب المذكور هكذا: (هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود أنا الأول وأنا الآخر وليس إله غيري). والآية العاشرة من الباب العاشر من كتاب أرسياء هكذا: (أما الرب هو إله حق هو إله حي وملك سرمدي) إلخ. وفي الآية الثانية عشرة من الباب الأول من كتاب حقوق هكذا: (يا رب إله قدوسي ولا تموت). وفي الآية السابعة عشرة من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس هكذا: (وملك الدهور الذي لا يفنى لا يرى الإله الحكيم وحده). فكيف يعجز ويموت الذي هو إله سرمدي بريء من الضعف والتعب حي قدوس لا يموت ولا إله غيره أيكون الفاني العاجز إلهاً حاشا وكلا بل الإله الحقيقي هو الذي كان عيسى عليه السلام يستغيث به هذا الوقت على زعمهم. والعجب أنهم لا يكتفون بموت الإله بل يعتقدون أنه بعد ما مات دخل جهنم أيضاً. نقل جواد ابن ساباط هذه العقيدة من كتاب الصلاة المطبوع سنة 1506 هكذا: (كما أن المسيح مات لأجلنا ودفن فكذا لا بد أن نعتقد أنه دخل جهنم) انتهى.

(وفيلبس كوادنولس) الراهب كتب في رد رسالة أحمد الشريف ابن زين العابدين الأصفهاني كتاباً بلسان العرب سماه بخيالات فيلبس وطبع هذا الكتاب سنة 1669 في الرومية الكبرى في بسلوقيت وحصلت لي بطريق العارية نسخة قديمة من هذا الكتاب من كتبخانة إنكليز في بلدة دهلي فكتب الراهب المستور في كتابه المذكور هكذا: (الذي تألم لخلاصنا وهبط إلى الجحيم ثم في اليوم الثالث قام من بين الأموات) انتهى. وفي بريئربوك في بيان عقيدة أتهانييش التي تؤمن بها المسيحيون لفظ (هل) موجود ومعناه الجحيم وقال جواد بن ساباط إن القسيس مارطيروس قال لي في توجيه هذه العقيدة إن المسيح لما قبل الجسم الإنساني فلا بد عليه أن يتحمل جميع العوارض الإنسانية فدخل جهنم وعُذب أيضاً ولما خرج من جهنم أخرج منها كل من كان معذباً فيها قبل دخوله. فسألته هل لهذه العقيدة دليل نقلي قال إنها غير محتاجة إلى الدليل، فقال رجل مسيحي من أهل ذلك المحفل على وجه الطرافة إن الأب كان قاسي القلب وإلا لما ترك الابن في الجحيم فغضب القسيس وطرده من المحفل فجاء هذا الرجل عندي وأسلم لكن أخذ العهد مني ألا أظهر حال إسلامه ما دام حياً ودخل يوسف ولف بلدة لكهنو سنة 1248 من الهجرة وسنة 1833 من الميلاد وكان من القسيسين المشهورين وكان يدعي الإلهام لنفسه وكان يدعي أن نزول المسيح يكون في سنة 1847 من الميلاد ووقعت المناظرة فيما بينه وبين مجتهد الشيعة تحريراً وتقريراً في هذا الباب فسأله مجتهد الشيعة عن هذه العقيدة أيضاً فقال نعم دخل المسيح الجحيم وعذب لكن لا بأس فيه لأن هذا الدخول كان لنجاة أمته، وبعض فرقهم يعتقدونها بأشنع حالة، قال بل في تاريخه في بيان فرقة مارسيوني. هذه الفرقة كانت تعتقد أن عيسى عليه السلام بعد ما مات دخل جهنم ونجى أرواح قابيل وأهل سدوم لأنهم حضروا عنده وكانوا غير مطيعين لإله خالق الشر وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء الآخرين من القدماء في جهنم لأنهم خالفوا الفرقة الأولى. (وهذه الفرقة كانت تعتقد أن خالق  العالم ليس منحصراً في الإله الذي أرسل عيسى ولذلك ما كانت تسلم كون كتب العهد العتيق إلهامية) انتهى.

فكانت عقيدة هذه الفرقة مشتملة على أمور:‏

1-  جميع الأرواح سواء كانت أرواح الأنبياء والصلحاء أو الأشقياء كانت معذبة في جهنم قبل دخول عيسى عليه السلام.‏

2- أن عيسى عليه السلام دخل جهنم.‏

3- أن عيسى عليه السلام نجى أرواح الأشقياء من العذاب وأبقى أرواح الأنبياء والصلحاء فيه.‏

4- أن هؤلاء الصلحاء مخالفون لعيسى والأشقياء موافقون له.‏

5- أن خالق العالم إلهان خالق الخير وخالق الشر وعيسى عليه السلام رسول الأول والأنبياء الآخرون المشهورون رسل الثاني.‏

6-كتب العهد العتيق ليست إلهامية.

وقال صاحب ميزان الحق في كتابه المسمى بحل الإشكال في جواب كشف الأستار هكذا: (الحق أنه توجد في العقيدة المسيحية أن المسيح دخل جهنم وقام في اليوم الثالث وعرج إلى السماء لكن المراد ههنا من جهنم هاوس وهو موضع ما بين جهنم والفلك الأصلي والمعنى أنه دخل هاوس ليرى أهله جلاله وينبههم على أني مالك الحياة وأني أعطيت كفارة الذنب بالموت الصليبي وجعلت الشيطان وجهنم مغلوبين وللمؤمنين كالمعدومين) انتهى ملخصاً.

 

(أقول) أولاً: ثبت من ظاهر كتاب الصلاة وكلام فيلبس كوادلونس وثبت صراحة من إقرار مارطيروس ويوسف ولف ومن عقيدة اتهاني سيش أن جهنم على معناه، واعترف هو أيضاً أنه يوجد هذا في العقيدة ثم أول، فتأويله بدون الدليل لا يقبل ولا بد عليه أن يثبت من كتبه أن ما بين جهنم والفلك الأصلي مكان يسمى بهاوس ثم يثبت من هذه الكتب أن دخول المسيح في جهنم كان لأجل الإراءة والتنبيه المذكورين على أنه لا وجود للأفلاك عند حكماء أوروبا، وعلماء بروتستنت من المتأخرين يتابعونهم في هذا الرأي فكيف يصح هذا التوجيه على زعمهم.

(ثم أقول) ثانياً: إن هذا الهاوس محل السرور والثواب أو محل المحن والعقاب، فإن كان الأول فلا حاجة إلى تنبيه أهله لأنهم كانوا قبل هذا في سرور وعيشة راضية، وإن كان الثاني فلا فائدة في التأويل لأن جهنم الأرواح لا يكون إلا محل عذابها.

(ثم أقول) ثالثاً: إن كون الموت الصليبي كفارة الذنب غير معقول يقيناً لأن المراد بهذا الذنب على زعمهم الذنب الأصلي الذي صدر عن آدم عليه السلام لا الذنب الذي يصدر عن أولاده، ولا يجوز أن يعاقب أولاده على هذا الذنب الأصلي لأن الأبناء لا يؤاخذون بذنوب الآباء ولا بالعكس بل هو خلاف العدل.. الآية العشرون من الباب الثامن عشر من كتاب حزقيال هكذا: (النفس التي تخطئ فهي تموت والابن لا يحمل إثم الأب والأب لا يحمل إثم الابن وعدل العادل يكون عليه ونفاق المنافق يكون عليه).

(ثم أقول) رابعاً: ما معنى جعل الشيطان مغلوباً بالموت لأنه على حكم إنجيلهم مقيد بقيود أبدية قبل ميلاد عيسى عليه السلام. الآية السادسة من رسالة يهودا هكذا: (والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام). ثم العجب أنهم لا يكتفون بموت إلههم المزعوم ودخوله جهنم بل يزيدون عليهما أنه صار ملعوناً أيضاً والعياذ باللّه وملعونيته مسلمة عند المسيحيين ويسلمها صاحب ميزان الحق أيضاً  بكمال رضا الخاطر ويصرح بها في كتبه وصرح بها مقدسهم بولس أيضاً. الآية الثالثة عشرة من الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية هكذا: (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة) وعندنا إطلاق مثل هذا اللفظ شنيع جداً بل لاعن اللّه واجب الرجم بحكم التوراة ورجم واحد على هذا الخطأ في عهد موسى عليه السلام كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من سفر الأخبار، بل لاعن الأبوين أيضاً واجب القتل فضلاً عن لاعن اللّه كما هو مصرح في الباب العشرين من السفر المذكور.

 

(القول السابع): في الآية السابعة عشرة من الباب العشرين من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه السلام في خطاب مريم المجدلية هكذا: (لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) فسوى بينه وبين الناس في هذا القول (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا إنه إله أو ابن إله فكما أن تلاميذه عباد اللّه وليسوا بأبناء اللّه حقيقة بل بالمعنى المجازي فكذلك هو عبد اللّه وليس بإبن اللّه حقيقة ولما كان هذا القول بعد ما قام عيسى عليه السلام من الأموات على زعمهم قبل العروج بقليل ثبت أنه كان يصرح بأني عبد اللّه إلى زمان العروج وهذا القول يطابق ما حكى اللّه عنه في القرآن المجيد: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربي وربكم}.

 

(القول الثامن): في الآية الثامنة والعشرين من الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه السلام هكذا: (إن أبي أعظم مني) ففيه أيضاً نفي لألوهيته لأن اللّه ليس كمثله شيء فضلاً عن أن يكون أعظم منه.

 

(القول التاسع): في الآية الرابعة والعشرين من الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه السلام هكذا: (الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني) ففيه أيضاً تصريح بالرسالة وبأن الكلام الذي تسمعونه وحي من جانب اللّه.

(القول العاشر): في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متى قول المسيح عليه السلام في خطاب تلاميذه هكذا: 9 (ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات) 10 (ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح) فهنا أيضاً صرح (بأن اللّه واحد وإني معلم لكم).

 

(القول الحادي عشر): في الباب السادس والعشرين من إنجيل متى هكذا: 36 (حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جشيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك) 37 (ثم أخذ معه بطرس وابني زيدي وابتدأ يحزن ويكتئب) 38 (فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت امكثوا ههنا واسهروا معي) 39 (ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ليس كما أريد بل كما تريد أنت) 40 (ثم جاء إلى التلاميذ الخ) 42 (فمضى أيضاً ثانية وصلى قائلاً يا أبتاه إن لم يكن أن تعبر عني هذه الكأس ألا أشربها فلتكن مشيئتك) 43 (ثم جاء الخ) 44 (فتركهم ومضى أيضاً وصلى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه) فأقواله وأحواله المندرجة في هذه العبارات تدل على عبوديته ونفى ألوهيته. أيحزن ويكتئب الإله ويموت ويصلي لإله آخر ويدعو بغاية التضرع لا واللّه. ولما جاء جنابه الشريف إلى العالم وتجسد ليخلص العالم بدمه الكريم من عذاب الجحيم فما معنى الحزن والاكتئاب وما معنى الدعاء: بأن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس.

(القول الثاني عشر): كان من عادته الشريفة أنه إذا عبر عن نفسه كان يعبر بابن الإنسان غالباً كما لا يخفى على ناظر هذا الإنجيل المروج أيضاً: مثلاً  في الآية 20 باب 8 و 6 باب 9 و 13 و 27 باب 16 و 9 و 12 و 22 باب 17 و 11 باب 18 و 28 باب 19 و 18 و 28 باب 20 و 27 باب 24 و 24 و 45 و 64 باب 26 من إنجيل متى وهكذا في غيره وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنساناً.‏

 

 

الفصل الثالث: في إبطال ألوهية المسيح المسيح

 

قد عرفت في الأمر الخامس من المقدمة أن كلام يوحنا مملوء من المجاز قلما تجد فقرة لا تحتاج إلى التأويل وقد عرفت في الأمر السادس أن الإجمال يوجد كثيراً في أقوال المسيح عليه السلام بحيث لم يفهمها معاصروه ولا تلاميذه في كثير من الأحيان ما لم يفسرها بنفسه وقد عرفت في الأمر الثاني عشر أن عيسى عليه السلام ما بين ألوهيته إلى العروج ببيان لا يبقى فيه شبهة ويفهم منه صراحة هذا المعنى، فالأقوال الذي يتمسك بها المسيحيون غالباً مجملة منقولة من إنجيل يوحنا وعلى ثلاثة أقسام

-بعضها لا يدل بحسب معانيها الحقيقية على مقصودهم فاستنباط الألوهية منها مجرد زعمهم، وهذا الاستنباط والزعم ليسا بمعتدّين ولا جائزين في مقابلة البراهين العقلية القطعية والنصوص العيسوية كما عرفت في الفصلين المذكورين،

-وبعضها أقوال يفهم تفسيرها من الأقوال المسيحية الأخرى ومن بعض مواضع الإنجيل ففيها أيضاً لا اعتبار لرأيهم

-وبعضها أقوال يجب تأويلها عندهم أيضاً فإذا وجب التأويل فنقول لا بد أن يكون هذا التأويل بحيث لا يخالف البراهين والنصوص، وأنى لهم ذلك؟! فلا حاجة إلى نقل الكل بل أنقل الأكثر ليتضح منه للناظر حال استدلالهم ويقيس الباقي عليه.

(الأول): من إطلاق لفظ ابن اللّه على المسيح عليه السلام:  أقول هذا الدليل في غاية الضعف بوجهين:

أما أولاً فلأن هذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان كما عرفت وبإطلاق ابن داود فلا بد من التطبيق بحيث لا يثبت  المخالفة للبراهين العقلية ولا يلزم منه محال، وأما ثانياً فلأنه لا يصح أن يكون لفظ الابن بمعناه الحقيقي لأن معناه الحقيقي باتفاق لغة أهل العالم من تولد من نطفة الأبوين وهذا محال ههنا، فلا بد من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح وقد علم من الإنجيل أن هذا اللفظ في حقه بمعنى الصالح. الآية التاسعة والثلاثون من الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرح هكذا وأسلم الروح قال حقاً كان هذا الإنسان ابن اللّه) ونقل لوقا قول القائد في الآية السابعة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيله هكذا: (بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً) ففي إنجيل مرقس لفظ ابن اللّه وفي إنجيل لوقا بدله لفظ البار واستعمل مثل هذااللفظ في حق الصالح غير المسيح أيضاً، كما استعمل مثل ابن إبليس في حق الصالح في الباب الخامس من إنجيل متى هكذا: (و) (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء اللّه يدعون) 44 (وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم باركوا لأعينكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسبونكم) 54 (لكي تكون أبناء أبيكم الذي في السماوات) فأطلق عيسى عليه السلام على صانعي السلام والصلح على العاملين بالأعمال المذكورة لفظ أبناء اللّه وعلى اللّه لفظ الأب بالنسبة إليهم. وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا في المكالمة التي وقعت بين اليهود والمسيح هكذا: 41 (أنتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو اللّه) 42 (فقال لهم يسوع لو كان اللّه أباكم لكنتم تحبونني) الخ 44 (أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذب وأبو الكذب) فاليهود ادعوا أن لنا أباً واحداً وهو اللّه وقال المسيح عليه السلام لا بل أبوكم الشيطان وظاهر أن اللّه والشيطان ليس أباً لهم بالمعنى الحقيقي فلا بد من الحمل على المعنى المجازي فغرض اليهود نحن صالحون ومطيعون لأمر اللّه، وغرض المسيح عليه السلام إنكم لستم كذلك بل أنتم صالحون مطيعون للشيطان وفي الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: 9 (كل من هو مولود من اللّه لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من اللّه) 10 (بهذا أولاد اللّه ظاهرون وأولاد إبليس) الخ وفي الآية السابعة من الباب الرابع من الرسالة المذكورة: (وكل من يحب فقد ولد من اللّه) وفي الباب الخامس من الرسالة المذكورة: (كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من اللّه وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً) 2 (بهذا نعرف أننا نحب أولاد اللّه إذا أحببنا اللّه وحفظنا وصاياه) والآية الرابعة عشرة من الباب الثامن من الرسالة الرومية هكذا: (لأن كل الذين ينقادون بروح اللّه فأولئك هم أبناء اللّه) وفي الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل فيلبس هكذا: 14 (افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة) 15 (لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد اللّه بلا عيب) ودلالة هذه الأقوال على ما قلت غير خفية، وإذا لم يفهم من إطلاق لفظ اللّه ومثله الألوهية كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة فكيف يفهم من لفظ ابن اللّه ومثله سيما إذا لاحظنا كثرة وقوع المجاز في كتب العهد العتيق والجديد، كما عرفت في المقدمة وسيما إذا لاحظنا أن استعمال الأب والابن في كتب العهدين جاء في المواضع الغير المحصورة وأنقل بعضها بطريق الأنموذج:

 

-[1] قال لوقا في الباب الثالث من إنجيله في بيان نسب المسيح عليه السلام أنه ابن يوسف وآدم ابن اللّه وظاهر أن آدم عليه السلام ليس ابناً للّه بالمعنى الحقيقي ولا إلهاً لكن لما ولد بلا أبوين نسبه إلى اللّه. وللّه در لوقا لقد أجاد ههنا لأنه لما كان المسيح عليه السلام مولوداً بلا أب فقط نسبه إلى يوسف النجار ولما كان آدم عليه السلام مولوداً بلا أبوين نسبه إلى اللّه.

 

-[2] في الباب الرابع من سفر الخروج قول اللّه هكذا: 22 (وتقول له هذا ما يقول الرب ابني بكري إسرائيل) 33 (فقلت له أطلق ابني ليعبدني وإن أبيت أن تطلقه هو ذا أنا سأقتل ابنك بكرك) فأطلق على إسرائيل لفظ ابن اللّه في الموضعين بل أطلق عليه لفظ الابن البكر.

 

-[3] في الزبور الثامن والثمانين قول داود عليه السلام في خطاب اللّه هكذا: 19 (حينئذ كلمت نبيك بالوحي وقلت إني وضعت عوناً على القوي ورفعت منتخباً من شعبي) 20 (وجدت داود عبدي فمسحته بدهن قدسي) 26 (هو يدعونني أنت أبي وإلهي وناصر خلاصي) 27 (وأنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من كل ملوك الأرض) فأطلق على اللّه لفظ الأب وعلى داود لفظ القوي والمنتخب والمسيح وابن اللّه البكر وأعلى من كل ملوك الأرض.

 

-[4] الآية التاسعة من الباب الحادي والثلاثين من كتاب أرساء قول اللّه هكذا: (إني صرت أباً لإسرائيل وأفرام هو بكري) فأطلق على أفرام لفظ ابن اللّه البكر فلو كان إطلاق مثل هذه الألفاظ موجباً للألوهية لكان إسرائيل وداود وأفرام أحقاء بالألوهية لأن الابن البكر أحق بالإكرام من غيره بحسب الشرائع السابقة وبحسب الزواج العام أيضاً وإن قالوا جاء في حق عيسى عليه السلام لفظ الابن الوحيد قلنا إن الوحيد لا يمكن أن يكون بمعناه لأن اللّه أثبت له أخوة كثيرين وقال في حق الثلاثة منهم لفظ الابن البكر بل لا بد أن يكون بالمعنى المجازي مثل الابن.

 

-[5] في الباب السابع من سفر صموئيل الثاني قول اللّه تعالى في حق سليمان هكذا: (وأنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً) فلو كان إطلاق هذا اللفظ سبباً للألوهية لكان سليمان عليه السلام أحق من المسيح عليه السلام لسبقه وكونه من آباء المسيح عليه السلام.

 

-[6] في الآية الأولى من الباب الرابع عشر والآية التاسعة عشرة من الباب  الثاني والثلاثين من كتاب الاستثناء، والآية الثانية من الباب الأول والآية الأولى من الباب الثلاثين، والآية الثامنة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا، والآية العاشرة من الباب الأول من كتاب هوشع، جاء إطلاق أبناء اللّه على جميع بني إسرائيل.

 

-[7] في الآية السادسة عشرة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا، قول أشعيا في خطاب اللّه هكذا: (فإنك أنت أبونا وإبراهيم لم يعرفنا وإسرائيل جهلنا أنت يا رب أبونا فخلصنا من الدهر اسمك). الآية الثامنة من الباب الرابع والستين من الكتاب المذكور هكذا: (والآن يا رب أنت أبونا) الخ، فصرح أشعيا عليه السلام في حقه وحق غيره من بني إسرائيل: بأن اللّه أبونا.

 

-[8] الآية السابعة من الباب الثامن والثلاثين من كتاب أيوب هكذا: (إذا كان تسبح لي نجوم الصبح جميعاً ويفرحون جميع بني اللّه).

 

-[9] قد عرفت في صدر الجواب أنه جاء إطلاق أبناء اللّه على الصالحين وعلى المؤمنين بالمسيح وعلى المحبين وعلى المطيعين لأمر اللّه، وعلى العاملين بالأعمال الحسنة.

 

-[10] الآية الخامسة من الزبور السابع والستين هكذا: (أبو اليتامى وحاكم الأرامل اللّه في موضع قدسه). فأطلق على اللّه لفظ أبي اليتامى.

 

-[11] في الباب السادس من سفر الخليقة هكذا 2: (فرأى بنو اللّه بنات الناس أنهن حسنات، واتخذوا لهم نساء من كل ما اختاروا) 4: (فأما الجبابرة كانوا في تلك الأيام على الأرض لأن من بعد ما دخل أبناء اللّه على بنات الناس وولدن، فهؤلاء هم أقوياء منذ الدهر مشهورون) والمراد بأبناء اللّه بنو الأشراف وببنات الناس بنات العامة، ولذا ترجم مترجم الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 م الآية الأولى هكذا: (رأى بنو الأشراف بنات العامة حساناً فاتخذوا لهم نساء) فجاء إطلاق أبناء اللّه على أبناء الأشراف مطلقاً، وفهم منه صحة إطلاق اللّه على الشريف أيضاً.

 

-[12] جاء في المواضع الكثيرة من الإنجيل، إطلاق لفظ أبيكم على اللّه في خطاب التلاميذ وغيرهم.

 

-[13] قد يضاف لفظ الابن والأب إلى شيء له مناسبة ما، بمعناها الحقيقي كإطلاق أبي الكذب على الشيطان كما عرفت، وكإطلاق أبناء جهنم وأولاد أورشليم على اليهود في كلام المسيح عليه السلام في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متى، وجاء إطلاق أبناء الدهر على أهل الدنيا، وجاء إطلاق أبناء اللّه وأبناء القيامة على أهل الجنة، في قول المسيح عليه السلام في الباب العشرين من لوقا. وفي الآية الخامسة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي جاء إطلاق أبناء النور وأبناء النهار على أهل تسالونيقي.

 

الثاني في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (فقال لهم أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم) يعني أني إله نزلت من السماء وتجسمت.

(أقول): لما كان هذا القول مخالفاً للظاهر لأن عيسى عليه السلام كان من هذا العالم فأولوا بهذا التأويل وهو غير صحيح بوجهين: (الأول): أنه مخالف للبراهين العقلية والنصوص.(والثاني): أن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً في الآية التاسعة عشرة من الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن إنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم). وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا 14: (لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) [16] (ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) فقال في حق تلاميذه: إنهم ليسوا من العالم، وسوّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم، فلو كان هذا مستلزماً للألوهية كما زعموا، لزم أن يكونوا كلهم آلهة والعياذ باللّه، بل التأويل الصحيح: أنتم طالبو الدنيا الدنية وأنا لست كذلك، بل طالب الآخرة ورضاء اللّه، وهذا المجاز شائع في الألسنة يقال للزهاد والصلحاء إنهم ليسوا من الدنيا.

 

الثالث: في الآية الثلاثين من الباب العاشر من إنجيل يوحنا هكذا: (أنا والأب واحد) فهذا يدل على اتحاد المسيح باللّه. أقول هذا الاستدلال غير صحيح بوجهين: (الأول): أن المسيح عليه السلام عندهم أيضاً إنسان ذو نفس ناطقة، وليس بمتحد بهذا الاعتبار. فيحتاجون إلى التأويل فيقولون: كما أنه إنسان كامل فكذلك إله كامل، فبالاعتبار الأول مغاير، وبالاعتبار الثاني متحد. وقد عرفت أن هذا التأويل باطل. (والثاني): إن مثل هذا وقع في حق الحواريين في الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا 21: (ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني) 22 (وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد) 33 (أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد). فقوله ليكون الجميع واحداً وقوله [ص 20] ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد. وقوله يكونوا مكملين إلى واحد، تدل على اتحادهم. وسوّى في القول الثاني بين اتحاده باللّه وبين اتحاده فيما بينهم. وظاهر أن اتحاده فيما بينهم ليس حقيقياً، فكذا اتحاده باللّه، بل الحق أن الاتحادباللّه عبارة عن إطاعة أحكامه والعمل بالأعمال الصالحة، وفي نفس هذا الاتحاد المسيح والحواريون وجميع أهل الإيمان متساوية الأقدام، وإنما الفرق باعتبار القوة والضعف، فاتحاد المسيح بهذا المعنى أشد وأقوى من اتحاد غيره. والدليل على كون الاتحاد عبارة عن هذا المعنى قول يوحنا في الباب الأول من رسالته الأولى وهو هكذا 5: (وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به أن اللّه نور وليس فيه ظلمة ألبتة 6 إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق 7 ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض). والآية السادسة والسابعة في التراجم الفارسية هكذا: 6 (اكر كونييم كه باوى متحديم ودرظلمت رفتا رنماييم در وغكوييم ودر راستي عمل نتماييم).‏ 7 وأكردر رو شنائى رفتا رنماييم جنا نجه أودر روشنائي مى باشد بايكد يكر متحد هستيم) فوقع فيها بدل لفظ الشركة لفظ الاتحاد فعلم أن الاتحاد باللّه أو الشركة باللّه عبارة عما قلنا.

 

الرابع: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 9 (الذي رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب‏10 ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الأب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال) فقوله: الذي رآني فقد رأى الأب، وقوله أنا في الأب والأب فيّ، وقوله الأب الحالّ فيّ دالة على اتحاد المسيح باللّه، وهذا الاستدلال أيضاً ضعيف بوجهين: (أما الأول): فلأن رؤية اللّه في الدنيا ممتنعة عندهم كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة فيؤلونها بالمعرفة، ومعرفة المسيح باعتبار الجسمية أيضاً لا تفيد الاتحاد، فيقولون إن المراد بالمعرفة باعتبار الألوهية، والحلول الذي وقع في القول الثاني والثالث واجب التأويل عند جمهور أهل التثليث، فيقولون إن المراد به الاتحاد الباطني.فبعد هذه التأويلات يقولون إنه لما كان إنساناً كاملاً، وإلهاً عاملاً. صح أقواله الثلاثة بالاعتبار الثاني، وقد عرفت مراراً أنه باطل لأن التأويل يجب أن لا يخالف البراهين والنصوص. (وأما الثاني): فلأن الآية العشرين من الباب المذكور هكذا: (في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأني فيكم) وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أن المسيح قال في حق الحواريين: (أنا فيهم وأنت فيّ) وبديهي أن حال الحال، حال في محل الحال. والآية التاسعة عشرة من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من اللّه وأنكم لستم لأنفسكم). والآية السادسة عشرة من الباب السادس من الرسالة الثانية إلى قورنيثوس هكذا: (وآية موافقة لهيكل اللّه مع الأوثان فإنكم أنتم هيكل اللّه الحي) الخ. والآية السادسة من الباب الرابع من الرسالة إلى أهل أفسس هكذا: (إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم). فلو كان الحلول مشعراً بالاتحاد ومثبتاً للألوهية لزم أن يكون الحواريون بل جميع أهل قورنيثوس وكذا جميع أهل أفسس آلهة بل الحق أن الأدنى إذا كان من اتباع الأعلى كأن يكون رسوله أو عبده أو تلميذه أو قريباً من أقربائه. فالأمر المنسوب إلى الأدنى من التعظيم والتحقير والمحبة وغيرها، ينسب إلى الأعلى مجازاً ولذلك قال المسيح عليه السلام في حق الحواريين: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني). كما وقع في الآية الأربعين من الباب العاشر من إنجيل متى وقال في حق الولد الصغير: (من قبل هذا الولد باسمي يقبلني ومن قبلني يقبل الذي أرسلني) كما هو مصرح في الآية في الآية الثامنة والأربعين من الباب التاسع من إنجيل لوقا. وقال في حق السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد (الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني) كما هو مصرح في الآية السادسة عشرة في الباب العاشر من إنجيل لوقا.. وهكذا وقع في حق أصحاب اليمين وأصحاب الشمال في الباب الخامس والعشرين من إنجيل متى ولذلك قال اللّه على لسان أرمياء: (أكلني ابتلعني يختنصر ملك بابل جعلني كإناء فارغ ملأ بطنه من رخصتي وطردني) كما هو مصرح في الباب الحادي والخمسين من كتاب أرمياء ومثل هذا وقع في القرآن المجيد أيضاً: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم}. وقال مولانا المعنوي قدس سره في مثنويه:

 

كرتو خواهي همنشيتي باخدا * رونشين تودر حضور اوليا

 

فمعرفة المسيح بهذا الاعتبار بمنزلة معرفة اللّه وأما حلول الغير في اللّه أو حلول اللّه فيه، وكذا حلول الغير في المسيح أو حلول المسيح فيه، فعبارة عن إطاعة أمرهما. في الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه. وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا). وقد يتمسكون على ألوهيته ببعض حالاته فيستدلون تارة أنه ولد بلا أب وهذا الاستدلال ضعيف جداً، لأن العالم حادث بأسره وما مضى على حدوثه إلى هذا الزمان ستة آلاف سنة على زعمهم. وكل مخلوق من السماء والأرض والجماد والنبات والحيوان وآدم، خلق عندهم في أسبوع واحد فجميع الحيوانات مخلوقة بلا أب وأم فكل من هذه يشارك المسيح في كونه مخلوقاً بلا أب، ويفوق عليه في كونه بلا أم، وتتولد أصناف من الحشرات في كل سنة في موسم نزول المطر بلا أب وأم فكيف يكون هذا الأمر سبباً للألوهية. (ولو نظرنا إلى نوع الإنسان فآدم عليه السلام يفوق عليه، وكذلك ملكي صادوق الكاهن الذي هو معاصر إبراهيم عليه السلام). في الآية الثالثة من الباب السابع من الرسالة العبرانية حاله هكذا: (بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة) فيفوق المسيح في كونه بلا أم وفي كونه لا بداية له ويستدلون تارة بمعجزاته، وهذا أيضاً ضعيف لأن من أعظم معجزاته إحياء الموتى مع قطع النظر عن ثبوته، وعن أنه يفهم من هذا الإنجيل المتعارف تكذيبه. أقول إن عيسى عليه السلام بحسب هذا الإنجيل ما أحيا إلى زمان الصلب إلا ثلاثة أشخاص كما عرفت في الباب الأول، وأحيا حزقيال عليه السلام ألوفاً كما هو مصرح في الباب السابع والثلاثين من كتابه، فهو أولى بأن يكون إلهاً، وأحيا إيليا عليه السلام ميتاً كما هو مصرح في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول، وأحيا اليسع عليه السلام أيضاً ميتاً كما هو مصرح في الباب الرابع من سفر الملوك الثاني، وصدرت هذه المعجزة عن اليسع بعد موته، أن ميتاً ألقي في قبره فحيي بإذن اللّه كما هو مصرح في الباب الثالث عشر من السفر المذكور، وأبرأ الأبرص من برصه، كما هو مصرح في الباب الخامس من السفر المذكور. وقد يتمسكون ببعض آيات كتب العهد العتيق وببعض أقوال الحواريين.

 

وإني قد نقلت هذه التمسكات مع أجوبتها في كتاب إزالة الأوهام، فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إليه، وتركت ذكرها في هذا الكتاب لأن التمسكات الأولية ضعيفة جداً ومع قطع النظر عن الضعف لا يثبت منها الألوهية على زعمهم أيضاً ما لم يعترف أن المسيح إنسان كامل وإله كامل، وهذا التأويل باطل، كما عرفت مراراً، والتمسكات الثانوية حالها كحال التمسكات بالأحوال المسيحية غالباً فيعامل بها معاملة أقوال المسيح من الحالات الثلاث كما عرفت في صدر هذا الفصل. ولو فرضنا أن بعض القول منهم نص على هذا الأمر، فيحمل على أنه بحسب اجتهادهم. وقد عرفت في الباب الأول أن جميع تحريراتهم ليست بالإلهام، وأنه قد وقع منهم الأغلاط والاختلافات والتناقض يقيناً، وقول مقدسهم بولس غير مسلم عندنا لأنه ليس بحواري ولا واجب التسليم عندنا، بل لا نسلم وثاقته. واعلم أرشك اللّه تعالى إنما نقلت الأقوال المسيحية وأولتها لأجل إتمام الإلزام وإثبات أن تمسكهم بها ضعيف، وكذا ما قلت من أقوال الحواريين إنما هو على تقدير تسليم أنها أقوالهم، ولا يثبت عندنا أنها أقوال المسيح عليه السلام والحواريين لأجل فقدان إسناد هذه الكتب كما عرفت في الباب الأول، ولأجل وقوع التحريف فيها عموماً وفي هذه المسألة خصوصاً أيضاً كما عرفت في الباب الثاني أن عادتهم في مثل هذه الأمور كانت كذلك وعقيدتي أن المسيح والحواريين كانوا برآء من هذه العقيدة الكفرية يقيناً، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد اللّه ورسوله وأن الحواريين رسل رسول اللّه.

 

ووقعت بين الإمام الهمام الفخر الرازي عليه الرحمة وبين بعض القسيسين مناظرة بخوارزم ولما كان نقلها لا يخلو عن فائدة فأنقلها: قال قدس سره في المجلد الثاني من تفسيره في سورة آل عمران تحت تفسير قوله تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} الآية. اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث، فقال لي ما الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم. فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم، وجب الاعتراف قطعاً بنبوة محمد عليه السلام ضرورة. إذ عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.. فقال النصراني لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً، بل أقول إنه كان إلهاً. فقلت له الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الكلام الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب ألا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً,  وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً، وقتل بعد أن كان حياً على قولكم، وكان طفلاً أولاً ثم صار مترعرعاً، ثم صار شاباً. وكان يأكل ويشرب وَيُحْدِث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً. والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً. (والوجه الثاني) في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فإن كان إلهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزء من الإله حالاً فيه فَلِمَ لَمْ يدفعهم عن نفسه ولِمَ لَمْ يهلكهم بالكلية، وأية حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم. وباللّه إنني لأتعجب جداً أن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول، ويعتقد صحته. فتكاد أن تكون بداهة العقل شاهدة بفساده. (الوجه الثالث) وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته. أو حل بعض الإله وجزأ منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول، فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إله العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله. ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم فهو أيضاً فاسد لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله. وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره. وكل ذلك سخيف. وأما الثالث وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه فذلك أيضاً محال، لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلهاً وإن لم يكن معتبراً في تحقيق الإلهية لم يكن جزءاً من الإله. فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطلاً. (الوجه الرابع) في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر من أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة ولو كان إلهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه. فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم.

 

 ثم قلت للنصراني وما الذي دلك على كونه إلهاً فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى. فقلت له هل تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا. فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول لما جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أن الإله ما حل بدني وبدنك ومن بدن كل حيوان ونبات وجماد. فقال الفرق ظاهر وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا. فقلت له تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك بل وفي حق الكلب والسنور والفأر، ثم قلت إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات اللّه في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة. ثم إن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى عليه السلام إلهاً وابناً للإله فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام واللّه أعلم. انتهى كلامه بعبارته الشريفة

 

 

 

 

الباب الخامس: في إثبات كون القرآن كلام اللّه ومعجزاً ورفع شبهات القسيسين وضممت إلى مبحث القرآن مبحث إثبات صحة الأحاديث النبوية المروية في كتب الصحاح من كتب: أهل السنة والجماعة.

وجعلت هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول:‏

 

الفصل الأول: في اثبات  أن القرآن كلام اللّه

 

الأمور التي تدل على أن القرآن كلام اللّه كثيرة، أكتفي منها على اثني عشر أمراً على عدد حواري المسيح وأترك الباقي، مثل أن يقال إن الخائب المخالف وقت بيان أمر من الأمور الدنيوية والدينية أيضاً يكون ملحوظاً في القرآن، وأن بيان كل شيء ترغيباً كان أو ترهيباً رأفة كان أو عتاباً يكون على درجة الاعتدال لا بالإفراط ولا بالتفريط، وهذان الأمران لا يوجدان في كلام الإنسان لأنه يتكلم في بيان كل حال بما يناسب ذلك الحال، فلا يلاحظ في العتاب حال الذين هم قابلون للرأفة وبالعكس، ولا يلاحظ عند ذكر الدنيا حال الآخرة وبالعكس. ويقول في الغضب زائداً على الخطأ وهكذا أمور أخر.

 

(الأمر الأول): كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم، وهي عبارة عن التعبير باللفظ المعجب عن المعنى المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام، بلا زيادة ولا نقصان في البيان، والدلالة عليه، وعلى هذا كلما ازداد شرف الألفاظ ورونق المعاني ومطابقة الدلالة كان الكلام أبلغ وتدل على كونه في هذه الدرجة وجوه:

 

(أولها) أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة. وكذا فصاحة العجم سواء كانوا شاعرين أو كاتبين أكثرها في أمثال هذه الأشياء. ودائرة الفصاحة والبلاغة فيها متسعة جداً لأن طبائع أكثر الناس تكون مائلة إليها. وظهر من الزمان القديم في كل وقت وفي كل إقليم من شاعر أو كاتب مضمون جديد ونكتة لطيفة في بيان لشيء من هذه الأشياء المذكورة ويكون المتأخر المتتبع واقفاُ على تدقيقات المتقدم غالباً. فلو كان الرجل  سليم الذهن وتوجه إلى تحصيل ملكة في وصفها يحصل له بعد الممارسة والاشتغال ملكة البيان في وصف شيء من هذه الأشياء على قدر سلامة فكره وجودة ذهنه، وليس القرآن في بيان خصوص هذه الأشياء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت عليها العرب في كلامهم.

 

(ثانيها) أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ولذلك قيل أحسن الشعر أكذبه. وترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت رضي اللّه عنهما لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي كشعرهما الجاهلي، والقرآن جاء فصيحاً مع التنزه عن الكذب والمجازفة.

 

(ثالثها) أن الكلام الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك، بخلاف القرآن فإنه مع طوله فصيح كله، بحيث يعجز الخلق عنه. ومن تأمل في قصة يوسف عليه السلام عرف أنها مع طولها وقعت على الدرجة العالية من البلاغة.

 

(رابعها) أن الشاعر أو الكاتب إذا كرر مضموناً أو قصة لا يكون كلامه الثاني مثل الأول، وقد تكررت قصص الأنبياء وأحوال المبدأ والمعاد والأحكام والصفات الإلهية، واختلفت العبارات إيجازاً وإطناباً وتفنناً في بيانها غيبة وخطاباً، ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً.

 

(خامسها) أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثال هذه الأمور توجب تقليل الفصاحة. ولذلك إذا قيل لشاعر فصيح أو كاتب بليغ أن يكتب تسع أو عشر من مسائل الفقه أو العقائد في عبارة فصيحة مشتملة على التشبيهات البليغة والاستعارات الدقيقة يعجز.

 

(سادسها) أن كل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، كما قالوا في شعراء العرب: إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر وشعر زهير عند الرغبة والرجاء. وقالوا في شعراء فارس إن النظامي والفردوسي وحيدان في بيان الحرب، والسعدي فريد في الغزل، والأنوري في القصائد.. والقرآن جاء فصيحاً على غاية الفصاحة في كل فن ترغيباً كان أو ترهيباً، زجراً كان أو وعظاً أو غيرهما. (وأورد ههنا بطريق الأنموذج من كل فن آية آية) ففي الترغيب قوله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} وفي الترهيب قوله {وخاب كل جبار عنيد. من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد. يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. ومن ورائه عذاب غليظ} وفي الزجر والتوبيخ قوله {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً. ومنهم من أخذته الصيحة. ومنهم من خسفنا به الأرض. ومنهم من أغرقنا. وما كان اللّه ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} وفي الوعظ قوله {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون} وفي الإلهيات قوله {اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال}.

 

(سابعها) الأغلب أنه إذا انتقل الكلام من مضمون إلى مضمون آخر، واشتمل على بيان أشياء مختلفة لا يبقى حسن ربط الكلام ويسقط عن الدرجة العالية للبلاغة. والقرآن يوجد فيه الانتقال من قصة إلى قصة إلى قصة أخرى، والخروج من باب إلى باب، والاشتمال على أمر ونهي، وخبر واستخبار، ووعد وعيد، وإثبات النبوة، وتوحيد الذات، وتفريد الصفات، وترغيب وترهيب، وضرب مثال، وبيان حال. ومع ذلك يوجد فيه كمال الربط والدرجة العالية للبلاغة الخارجة عن العادة فتحير فيها عقول بلغاء العرب.

 

(ثامنها) أن القرآن في أغلب المواضع يأتي بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير ويكون اللفظ أعذب، ومن تأمل في سورة (ص) علم ما قلت كيف صدرها وجمع فيها من أخبار الكفار وخلافهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ومن تكذيبهم لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن إجماع ملئهم على الكفر، وظهور الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتحقيرهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك اللّه لهم، ووعيد قريش وأمثالهم مثل مصابهم. وحمل النبي على الصبر على أذاهم وتسليته في قصص الأنبياء مثل داود وسليمان وأيوب وإبراهيم ويعقوب وغيرهم عليهم السلام. وكل هذا الذي ذكر من أولها إلى آخرها في ألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة، وكذلك قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة} فإن هذا القول لفظه يسير ومعناه كثير. ومع كونه بليغاً مشتملاً على المطابقة بين المعنيين المتقابلين وهما القصاص والحياة. وعلى الغرابة، بجعل القتل الذي هو مفوت للحياة ظرفاً لها وأولى من جميع الأقوال المشهورة عند العرب في هذا الباب، لأنهم عبروا عن هذا المعنى بقولهم: (قتل البعض إحياء الجميع) وقولهم: (أكثروا القتل ليقل القتل) وقولهم: (القتل أنفى للقتل). وأجود الأقوال المنقولة عن القول الأخير ولفظ القرآن أفصح منه بستة أوجه: (أحدها): أنه أخصر من الكل لأن قوله {ولكم} لا يدخل في هذا الباب لأنه لا بد من تقدير ذلك في الكل لأن قول القائل قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله وكذلك في قولهم القتل أنفى للقتل. (وثانيها): أن قولهم القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء  نفسه بخلاف لفظ القرآن فإنه يقتضي أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة. (وثالثها): أن قولهم الأجود تكرير لفظ القتل بخلاف لفظ القرآن. (ورابعها): أن قولهم الأجود لا يفيد إلا الردع عن القتل، بخلاف لفظ القرآن فإنه يفيد الردع عن القتل والجرح فهو أفيد.

(وخامسها): أن قولهم الأجود دال على ما هو المطلوب بالتبع بخلاف لفظ القرآن فإنه دال على ما هو مقصود أصلي، لأن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة الذي هو مطلوب أصالة. (وسادسها): أن القتل ظلماً أيضاً قتل مع أنه ليس بناف للقتل بخلاف القصاص فظاهر قولهم باطل وأما لفظ القرآن فصحيح ظاهراً وباطناً. وكذلك قوله تعالى: {مع يطع اللّه} في فرائضه {ورسوله} في سننه أو في جميع ما يأمرانه وينهيانه {ويخشى اللّه} أي يخف خلافه وعقابه وحسابه {ويتقه} فيما بقي من عمره في جميع أمره {فأولئك هم الفائزون} بالمراد في المبدأ والمعاد، فإن هذا القول مع وجازة لفظه جامع لجميع الضروريات (حكي) أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق فأعلمه أنه من بطارقة الروم ومن جملة من يحسن فهم الألسن من العرب وغيرها، وأنه سمع رجلاً من أسراء المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملها فإذا هي جامعة لكل ما أنزل اللّه على عيسى بن مريم من أحوال الدنيا والآخرة، وهي قوله {ومن يطع اللّه ورسوله} الآية. وحكي أن طبيباً نصرانياً حاذقاً سأل الحسين بن علي الواقدي: لماذا لم ينقل شيء في كتابكم عن علم الطب.. والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان. فقال الحسين: إن اللّه بين علم الطب كله في نصف آية، فسأل الطبيب النصراني عن هذه الآية. فقال: هي قوله: {كلوا واشربوا} ما أحل اللّه لكم من المطعومات  والمشروبات {ولا تسرفوا} أي لا تتعدوا إلى الحرام ولا تكثروا الإنفاق المستقبح، ولا تناولوا مقداراً كثيراً يضركم ولا تحتاجون إليه. ثم سأل الطبيب أقال نبيكم أيضاً شيئاً في هذا الأمر، فقال الحسين: إن نبينا أيضاً جمع الطب في ألفاظ يسيرة، فسأل الطبيب عنها، فقال الحسين: هي هذه: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته" فقال الطبيب: الإنصاف أن كتابكم ونبيكم ما تركا حاجة إلى جالينوس، يعني بينا الأمر الذي هو رأس حفظ الصحة وإزالة المرض وأصلهما ومضارهما.

 

(تاسعها): أن الجزالة والعذوبة بمنزلة الصفتين المتضادتين، واجتماعهما على ما هو ينبغي في كل جزء من الكلام الطويل خلاف العادة المعتادة للبلغاء، فاجتماعهما في كل موضع من مواضع القرآن كله دليل على كمال بلاغته وفصاحته الخارجتين عن العادة.

 

(عاشرها): أنه مشتمل على جميع فنون البلاغة من ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل، وأصناف الاستعارة وحسن المطالع والمقاطع، وحسن الفواصل، والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام، وخلوه عن اللفظ الركيك والشاذ الخارج عن القياس النافر عن الاستعمال، وغير ذلك من أنواع البلاغات. ولا يقدر أحد من البلغاء والكملاء من العرب العرباء إلا على نوع أو نوعين من الأنواع المذكورة، ولو رام غيره في كلامه لم يتأت له، وكان مقصراً. والقرآن محتو عليها كلها فتلك عشرة كاملة، وهذه الوجوه العشرة تدل على أن القرآن في الدرجة العالية من البلاغة الخارجة عن العادة، يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم، وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن.

 

(الأمر الثاني): تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة، ولطف الإشارة، وسلامة التركيب، وسلامة الترتيب، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء، وفهوم الفصحاء. والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة، ويمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه، لأن البليغ ناظماً كان أو ناثراً يجتهد في هذه المواضع اجتهاداً كاملاً، ويمدح ويعاب عليه غالباً في هذه المواضع كما عيب على مطلع امرئ القيس:

 

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل

 

 بأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل، وأن الشطر الثاني لا يوجد فيه شيء من ذلك... وعيب على مطلع أبي النجم الشاعر المشهور فإنه دخل على هشام بن عبد الملك، فأنشده:

 

صفراء قد كادت ولما تفعل .. كأنها في الأفق عين الأحوال

وكان هشام أحول فأخرجه وأمر بحبسه.

 

وعيب على مطلع جرير، فإنه دخل على عبد الملك وقد مدحه بقصيدة حائية. أولها:

 

أتصحو أم فؤداك غير صاح

فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا ابن الفاعلة .

.

وعيب على مطلع البحتري فإنه أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي مطلعها:

 

لك الويل من ليل تقاصر آخره

 

فقال: بل لك الويل والخزي... وعيب على مطلع إسحاق الموصلي الأديب  الحاذق، فإنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان وأنشده قصيدته التي مطلعها:

 

يا دار غيرك البلى ومحاك * يا ليت شعري ما الذي أبلاك!!

 

فتطير المعتصم من هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور. وهكذا قد خطئ أكثر الشعراء المشهورين في المواضع المذكورة. وأشراف العرب، مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وشدة عداوتهم للإسلام، لم يجدوا في بلاغة القرآن وحسن نظمه وأسلوبه مجالاً لم يوردوا في القدح مقالاً، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خطب الخطباء وشعر الشعراء، ونسبوه تارةً إلى السحر تعجباً من فصاحته وحسن نظمه، وقالوا تارةً إنه إفك افتراه وأساطير الأولين، وقالوا تارةً لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون. وهذه كلها دأب المحجوج المبهوت. فثبت أن القرآن معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب العرباء كثيرين كثرة رمال الدهناء وحصى البطحاء، ومشهورين بغاية العصبية والحمية الجاهلية، وتهالكهم على المباراة والمباهاة، والدفاع عن الأحساب. فيتركون الأمر الأسهل الذي هو الإيتان بمقدار أقصر سورة ويختارون الأشد الأصعب مثل الجلاء وبذل المهج والأرواح، ويبتلون بسبي الذراري ونهب الأموال، ومخالفهم المتحدي يقرعهم إلى مدة على رؤوس الملأ بأمثال هذه الأقوال: {فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين}. {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}. {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}.  ولو كانوا يظنون أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم استعان بغيره، لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم لأنه كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك وآثروا المقارعة على المعارضة والمقاتلة على المقاولة، ثبت أن بلاغة القرآن كانت مسلمة عندهم وكانوا عاجزين عن المعارضة، غاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق به وبمن أنزل عليه، وبين متحير في بديع بلاغته. روي أنه سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى اللّه عليه وسلم {إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} فقال: واللّه إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر ما يقول هذا بشر.. وروي أيضاً أنه لما سمع القرآن رق قلبه، فجاءه أبو جهل وكان ابن أخيه منكراً عليه قال: واللّه ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، واللّه ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا. وروي أيضاً أنه جمع قريشاً عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب ترد العرب فاجمعوا فيه رأياً لا يكذب بعضكم بعضاً، قالوا: نقول كاهن، قال: واللّه ما هو بكاهن بزمزمته ولا سجعته. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون ولا بحنقه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول. قال: ما أنتم بقائلين شيئاً من هذا إلا وأنا أعرف أنه باطل وأن أقرب القول إنه ساحر. ثم قال: فإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته، فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس عن متابعة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تعالى في الوليد: {ذروني ومن خلقت وحيداً}..الآيات. وروي أن عتبة كلم النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه، فتلا عليه: {حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت..} إلى قوله: {أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}. فأمسك عتبة بيده على فيه وناشده الرحم أن يكف، وفي رواية فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ ملق بيديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه، فاعتذر لهم وقال واللّه لقد كلمني بكلام ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له... وذكر أبو عبيدة أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ {فاصدع بما تؤمر} فسجد وقال سجدت لفصاحته، وسمع رجل آخر من المشركين رجلاً من المسلمين يقرأ: {فما استيأسوا منه خلصوا نجياً} فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام.. وحكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة وهي خماسية أو سداسية، وهي تقول أستغفر اللّه من ذنوبي كلها، فقال: مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت:

 

أستغفر اللّه لذنبي كله * قتلت إنساناً بغير حله

مثل غزال ناعم في دله * انتصف الليل ولم أصله

 

فقال لها: قاتلك اللّه ما أفصحك، فقالت: أو بعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني. إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.. وفي حديث إسلام أبي ذر ووصف أخاه أنيساً فقال: واللّه ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاءني، قلت: فما يقول الناس، قال: يقولون شاعر كاهن ساحر ثم قال: لقد سمعت ما قال الكهنة فما هو قولهم ولقد وضعته على إقراء الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد بعدي إنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون. وروي في الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون}. كاد قلبي أن يطير للإسلام. وقد حكي أن ابن المقفع طلب معارضة القرآن وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} فرجع فمحا ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يعارض وما هو من كلام البشر. وكان يحيى بن حكم الغزالي بليغ الأندلس في زمنه فحكى أنه رام شيئاً من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليأتي على أسلوبها وينظم الكلام على منوالها، قال: فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة. وقال النظام من المعتزلة: إعجاز القرآن بالصرف، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم، لكن اللّه صرفهم عن معارضته بسبب الدواعي بعد المبعث فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزاً، فهو أيضاً يسلم أن القرآن معجز لأجل الصرف ومثله غير مقدور لهم بعد المبعث، وإنما نزاعه في كونه مقدور قبل المبعث وقوله غير صحيح بوجوه: (الأول): أنه لو كان كذا لعارضوا القرآن بالكلام الذي صدر عنهم قبل المبعث ويكون مثل القرآن. (والثاني): أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلالته في جزالته، لا لعدم تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها. (والثالث): أنه لو قصد الإعجاز بالصرف لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته، لأن القرآن على هذا التقدير كلما كان أنزل في البلاغة، وأدخل في الركاكة، كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة. (والرابع): يأباه قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}..

 

 فإن قيل: إن فصحاء العرب لما كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها القصيرة، كانوا قادرين على الإتيان بمثلها (قلت) هذه الملازمة ممنوعة لأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء، ألا ترى أن كل شعرة شعرة لا يصلح أن يربط بها الفيل أو السفينة، وإذا سوى من الشعرات حبل متين يصلح أن يربط بهذا الحبل الفيل أو السفينة، ولأنها لو صحت لزم أن يكون كل آحاد العرب قادر على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم كامرئ القيس وأضرابه.

 

(الأمر الثالث): كون القرآن منطوياً على الإخبار عن الحوادث الآتية، فوجدت في الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر.‏

1-  كقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون}.فوقع كما أخبر، ودخل الصحابة المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين غير خائفين.‏ 2- وكقوله تعالى: {وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.  فكان اللّه وعد المؤمنين بجعل الخلفاء منهم وتمكين الدين المرضي لهم، وتبديل خوفهم بالأمن، فوفى وعده في مدة قليلة بأن ظهر في حياة الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن أهل الإسلام تسلطوا على مكة، وخيبر والبحرين، ومملكة اليمن، وأكثر ديار العرب، وأن إقليم الحبش صار دار الإسلام بإيمان النجاشي الملك، وأن أناساً من هجر وبعض المسيحيين من نواحي الشام قبلوا الإطاعة وأداء الجزية،  وأن هذا التسلط زاد في خلافة الصديق الأكبر رضي اللّه عنه بأن تسلط أهل الإسلام على بعض ديار فارس وعلى بصرى ودمشق، وبعض الديار الأخرى من الشام أيضاً، ثم زاد هذا التسلط في خلافة الفاروق رضي اللّه عنه بأن تسلطوا على سائر ديار الشام وجميع مملكة مصر، وعلى أكثر ديار فارس أيضاً، ثم زاد هذا التسلط في خلافة ذي النورين رضي اللّه عنه، بأن تسلطوا في جانب الغرب إلى أقصى الأندلس والقيروان، وفي جانب الشرق إلى حد الصين، ففي مدة ثلاثين سنة تسلط أهل الإسلام على هذه الممالك تسلطاً تاماً، وغلب دين اللّه المرضي على سائر الأديان في هذه المماليك فكانوا يعبدون اللّه آمنين غير خائفين. وفي خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه وإن لم يتسلط أهل الإسلام على الممالك الجديدة لكنه لا شبهة في ترقي الملة الإسلامية في عهده الشريف أيضاً.‏ 4-  وكقوله تعالى: {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}. ووقع كما أخبر لأن المراد بقوم أولي بأس على أظهر الوجوه وأشهرها، بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب والداعي الصديق الأكبر رضي اللّه عنه.‏  5- وكقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}. وحال هذا القول كحال القول الثاني وسيظهر الوفاء الكامل لهذا الوعد عن قريب على ما هو المرجو إن شاء اللّه. وهو على كل شيء قدير.‏5-  وكقوله تعالى: {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً. ومغانم كثيرة  يأخذونها وكان اللّه عزيزاً حكيماً. وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم. ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً. وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط اللّه بها وكان اللّه على كل شيء قديراً}. والمراد بالفتح القريب فتح خيبر، وبالمغانم الكثيرة في الموضع الأول مغانم خيبر أو هجر وبالمغانم الكثيرة في الموضع الثاني المغانم التي تحصل للمسلمين من يوم الوعد إلى يوم القيامة، وبأخرى مغانم هوازن أو فارس أو الروم وقد وقع كما أخبر.‏ 6-  وكقوله تعالى: {وأخرى تحبونها نصر من اللّه وفتح قريب}. فقوله أخرى أي يعطيكم خصلة أخرى، وقوله نصر من اللّه مفسر للأخرى وقوله فتح قريب، أي عاجل وهو فتح مكة. وقال الحسن: هو فتح فارس والروم وقد وقع كما أخبر.‏ 7-  وكقوله تعالى: {إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً}. والمراد بالفتح فتح مكة، لأن الأصح أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة لأن {إذا} يقتضي الاستقبال ولا يقال فيما وقع إذا جاء وإذا وقع، فحصل فتح مكة ودخل الناس في الإسلام فوجاً بعد فوج من أهل مكة والطائف وغيرها في حياته صلى اللّه عليه وسلم.‏ 8-  وكقوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون}. وقد وقع كما أخبر فصاروا مغلوبين.‏ 9-  وكقوله تعالى: {وإذ يعدكم} أي اذكروا إذ يعدكم {اللّه إحدى الطائفتين} القافلة الراجعة من الشام والقافلة الآتية من بيت اللّه الحرام {أنها لكم  وتودون أن غير ذات الشوكة} أي القافلة الراجعة {تكون لكم ويريد اللّه أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} فوقع كما أخبر.‏

10-  وكقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين}. لما نزلت هذه الآية بشر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بأن اللّه كفاه شرهم وأذاهم وكان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه فهلكوا بضروب البلاء وفنون العناء فتم نوره وكمل ظهوره.‏ 11-  وكقوله تعالى: {واللّه يعصمك من الناس}. وقد وقع كما أخبر مع كثرة من قصد ضره فعصمه اللّه تعالى، حتى انتقل من الدار الدنيا إلى منازل الحسنى في العقبى.‏ 12-  وكقوله تعالى: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض} أي أرض العرب {وهم} أي الروم {من بعد غلبهم سيغلبون} أي الفرس {في بضع سنين} أي ما بين الثلاث والعشر {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون}. الفرس كانوا مجوساً والروم نصارى، فورد خبر غلبة الفرس إياهم مكة ففرح المشركون وقالوا أنتم والنصارى أهل الكتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآيات. فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: لا يقرن اللّه أعينكم فو اللّه لتظهرن الروم على فارس في بضع سنين فقال أُبَيّ بن خلف: كذبت اجعل بيننا وبينك أجلاً فراهنه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبو بكر  رضي اللّه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الإبل وماده في الأجل، فجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبي بعد ما رجع من أحد وظهرت الروم على فارس في السنة السابعة من مغلوبيتهم فأخذ أبو بكر القلائص من ورثة أبي، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: تصدق بها.

 

قال صاحب ميزان الحق في الفصل الرابع من الباب الثالث: (لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل غلبة الروم الفرس فنقول إن محمداً صلى اللّه عليه وسلم قال بظنه أو بصائب فكره لتسكين قلوب أصحابه، وقد سمع مثل هذه الأقوال من أصحاب العقل والرأي في كل زمان) انتهى. فقوله لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين، يشير إلى أن هذا الأمر ليس بمسلم عنده، وهذا عجيب لأن قوله تعالى {سيغلبون في بضع سنين}، نص في أن هذا الأمر يحصل في الزمان المستقبل القريب في زمان أقل من عشر سنين كما هو مقتضى لفظ السنين والبضع، وكذا قوله {ويومئذ يفرح المؤمنون}، وقوله {وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده}، لأنهما يدلان على حصول فرح في الزمان الآتي وحصول هذا الأمر فيه، ولا معنى للوعد وعدم الخلف في الأمر بعد وقوعه وقوله إن محمداً صلى اللّه عليه وسلم قال بظنه أو بصائب فكره مردود بوجهين: (الأول): أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم كان من العقلاء عند المسيحيين أيضاً ويعترف بهذا القسيس النبيل ههنا وفي المواضع الأخر من تصانيفه، وليس من شأن العاقل المدعي للنبوة أن يدعي ادعاء قطعياً أن الأمر الفلاني يكون في المدة القليلة هكذا ألبتة ويأمر معتقديه بالرهان على هذا، سيما في مقابلة المنكرين الطالبين لمذلته، المتفحصين لمزلة أقدامه في أمر لا يكون وقوعه مفيداً فائدة يعتد بها، ويكون عدم وقوعه سبباً لمذلته وكذبه عندهم، ويحصل لهم سند عظيم لتكذيبه.  (والثاني): أن العقلاء وإن كانوا يقولون في بعض الأمور بعقولهم ويكون ظنهم صحيحاً تارةً وخطأ أخرى لكن جرت العادة الإلهية بأن القائل لو كان مدعي النبوة كذباً ويخبر عن الحادثة الآتية، ويفتري على اللّه بنسبة هذا الخبر إلى اللّه، لا يكون هذا الخبر صحيحاً بل يخرج خطأ وغلطاً ألبتة كما ستعرف في آخر هذا المبحث إن شاء اللّه.‏ 13- وكقوله تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر}.  عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال لما نزلت: لم أعلم ما هو حتى كان يوم بدر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يلبس درعه ويقول: {سيهزم الجمع}. فعلمته.‏

14-  وكقوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين}. وقد وقعت هذه الأحوال كما أخبر.‏ 15- وكقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما السلام، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} فأخبر فيه عن ثلاث مغيبات: (الأول): أن المؤمنين يكونون آمنين من ضرر اليهود. (والثاني): لو قاتلوا المؤمنين ينهزمون. (والثالث): أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكلها وقع.‏ 16- وكقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس وباءوا بغضب من اللّه وضربت عليهم المسكنة}. وقد وقع كما أخبر وليس لليهود حكومة في موضع من المواضع وفي كل إقليم يوجدون رعايا مضروباً عليهم الذلة 17- وكقوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وقد وقع يوم أحد بوجهين كما أخبر.(الأول): أن المشركين لما استولوا يوم أحد على المسلمين وهزموهم أوقع اللّه الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب. (والثاني): أنهم لما ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا فقالوا بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب فذهبوا إلى مكة.‏ 18-  وكقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} أي من التحريف والزيادة والنقصان مما تواتر عند علماء الأعيان من قراء الزمان، وقد وقع كما أخبر فما قدر أحد من الملاحدة والمعطلة والقرامطة أن يحرف شيئاً منه، لا حرفاً من حروف مبانيه ولا من حروف معانيه ولا إعراباً من إعراباته إلى هذه المدة التي نحن فيها، أعني ألفاً ومائتين وثمانين من الهجرة بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما كما عرفت في الباب الأول والثاني، والحمد للّه على إتمام هذه النعمة.‏

 

19- وكقوله تعالى: {لا يأتيه الباطل} أي التحريف بالزيادة والنقصان {من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، وحال هذا القول كالقول السابق.‏ 20-  وكقوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن} أي أحكامه وفرائضه {لرادك إلى معاد}. وروي أنه عليه السلام لما خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال: تشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه السلام: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن اللّه تعالى يقول: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} يعني إلى مكة ظاهراً عليهم.‏ 21- وكقوله تعالى: {قل إن كانت لكم} أيها اليهود {الدار الآخرة عند اللّه خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً} أي ما عاشوا {بما قدمت أيديهم واللّه عليم بالظالمين}. والمراد بالتمني التمني بالقول، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة كما هو المسلم به عند المخالف والموافق والوصول إلى المنزل الذي وصل إليه في الدارين، والوصول إلى الرياسة العظيمة، لا يجوز له - وهو غير واثق من جهة الرب بالوحي - أن يتحدى أعدى الأعداء بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة، لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك، فكيف الحال في أعقل العقلاء. فثبت أنه ما أقدم على هذا التحدي إلا بعد الوحي واعتماده التام. وكذا لا شك أنهم كانوا من أشد أعدائه، وكانوا أحرص الناس في تكذيبه، وكانوا متفكرين في الأمور التي بها ينمحي الإسلام أو تحصل الذلة لأهله، وكان المطلوب منهم أمراً سهلاً لا صعباً، فلو لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم صادقاً في دعواه عندهم  لبادروا إلى القول به لتكذيبه، بل أعلنوا هذا التمني بالقول مراراً وشهروا أنه كاذب يفتري على اللّه أنه قال كذا، ويدعي من جانب نفسه ادعاء ويقول تارةً: والذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه، يعني مات مكانه، ويقول تارةً: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ونحن تمنينا مراراً وما متنا مكاننا فظهرت بصرفهم عن تمنيهم مع كونهم على تكذيبه أحرص الناس معجزته وبانت حجته، وفي هذه الآية إخباران عن الغيب: (الأول) أن قوله {لن يتمنوه} يدل دلالة بينة على أن ذلك لا يقع في المستقبل من أحد منهم فيفيد عموم الأشخاص. (والثاني) أن قوله أبداً يدل على أنه لا يوجد في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل يفيد عموم الأوقات فبالنظر إلى العمومين هما غيبان 22-  وكقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} فأخبر بأنهم لا يفعلون ألبتة، ووقع كما أخبر، وهذه الآية دالة على الإعجاز من وجوه أربعة:  (أولها) أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي غاية الحرص على إبطال أمره، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى الأدلة على ذلك، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} صار حرصهم أشد، فلو كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به، فحيث ما أتوا به ظهر الإعجاز. (وثانيها) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان متهماً عندهم في أمر النبوة، لكنه كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب، فلو كان كاذباً لما تحداهم بالغاً في التحدي إلى النهاية، بل كان عليه أن يخاف مما يتوقعه  من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره، فلو لم يعلم بالوحي عجزهم عن المعارضة لما جاز أن يحملهم عليها بهذا التقريع.

(وثالثها) أنه لو لم يكن قاطعاً في أمره لما قطع في أنهم لا يأتون بمثله لأن المزور لا يجزم بالكلام، فجزمه يدل على كونه جازماً في أمره.

(ورابعها) أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه، لأنه من عهده عليه السلام إلى عصرنا هذا لم يحل وقت من الأوقات من يعادي الدين والإسلام، وتشددوا عليه في الوقيعة فيه، ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط. فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على الإعجاز مما تشتمل عليه هذه الآية، فهذه الأخبار وأمثالها تدل على كون القرآن كلام اللّه، لأن عادة اللّه جارية على أن مدعي النبوة لو أخبر عن شيء ونسب إلى اللّه كذباً لا يخرج خبره صحيحاً.  في الباب الثامن عشر من كتاب الاستثناء هكذا:  (فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب). ‏22- فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهذا الرب لم يكن تكلم به، بل ذلك النبي صوره في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه).

 

(الأمر الرابع) ما أخبر من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد علم أنه كان أمياً ما قرأ ولا كتب ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء ولا مجالسة مع الفضلاء، بل تربى بين قوم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعرفون الكتاب، وكانوا عارين عن العلوم العقلية أيضاً، ولم يغب عن قومه غيبة يمكن له التعلم فيها من غيرهم، والمواضع التي خالف القرآن فيها في بيان القصص والحالات المذكورة [في] كتب أهل الكتاب كقصة صلب المسيح عليه السلام وغيرها فهذه لمخالفة قصدية: إما لعدم كون بعض هذه الكتب أصلية كالتوراة والإنجيل المشهورين، وإما لعدم كونها إلهامية، ويدل على ما ذكرت قوله تعالى: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون}.

 

(الأمر الخامس) ما فيه من كشف أسرار المنافقين حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، وكان اللّه يطلع رسوله على تلك الأحوال حالاً فحالاً، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، وكذا ما فيه من كشف حال اليهود وضمائرهم.

 

(الأمر السادس) جمعه لمعارف جزئية وعلوم كلية لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة من علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقلية والسير والمواعظ والحكم، وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والشيم. وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما دينية أو غيرها ولا شك أن الأولى أعظمها شأناً وأرفعها مكاناً، فهي إما علم العقائد والأديان، وإما علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة اللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أما معرفة اللّه تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه وأفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب، بل لا يقرب منه، وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر، وهو علم الفقه. ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن، وإما أن يكون علم التصوف المتعلق بتصفية الباطن ورياضة القلوب، وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يوجد في غيره، كقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وقوله: {إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وقوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فقوله: {ادفع بالتي هي أحسن} يعني ارفع سفاهتهم وجهالتهم بالخصلة التي هي أحسن وهي الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة. وقوله {فإذا الذي} إلخ يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضة إلى المودة ونحو هذه الأقوال كثيرة فيه. فثبت أنه جامع لجميع العلوم النقلية أصولها وفروعها، ويوجد فيه التنبيه على أنواع الدلالات العقلية والرد على أرباب الضلال ببراهين قاهرة وأدلة باهرة سهلة المباني مختصرة المعاني، كقوله تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} وكقوله تعالى: {يحيها الذي أنشأها أول مرة} وكقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا} ولنعم ما قيل: جميع العلم في القرآن، لكن تقاصرت عنه أفهام الرجال.

 

(الأمر السابع) كونه بريئاً عن الاختلاف والتفاوت مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير اللّه لوقعت فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك. ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير اللّه كما قال اللّه تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} وإلى هذه الأمور السبعة المذكورة أشار اللّه تعالى بقوله: {أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} لأن مثل هذه البلاغة والأسلوب العجيب والإخبار عن الغيوب والاشتمال على أنواع العلوم والبراءة من الاختلاف والتفاوت، مع كون الكتاب كبيراً مشتملاً على أنواع العلوم لا يأتي إلا من العالم الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة مما في السماوات والأرض.

 

(الأمر الثامن) كونه معجزة باقية متلوّة في كل مكان مع تكفل اللّه بحفظه، بخلاف معجزات الأنبياء فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت النزول إلى زماننا هذا، وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين وحجتها قاهرة، ومعارضته ممتنعة وفي الأزمان كلها القرى والأمصار مملوءة بأهل اللسان وأئمة البلاغة، والملحد فيهم كثير والمخالف العنيد حاضر ومهيأ، وتبقى إن شاء اللّه هكذا ما بقيت الدنيا وأهلها في خير وعافية. ولما كان المعجز منه بمقدار أقصر سورة فكل جزء منه بهذا المقدار معجزة، فعلى هذا يكون القرآن مشتملاً على أكثر من ألفي معجزة.

 

(الأمر التاسع) أن قارئه لا يسأمه وسامعه لا يمجه، بل تكراره يوجب زيادة محبته كما قيل:

 

وخير جليس لا يمل حديثه * وترداده يزداد فيه تجملا

 

وغيره من الكلام، ولو كان بليغاً في الغاية يمل مع الترديد في السمع ويكره في الطبع، ولكن هذا الأمر بالنسبة إلى من له قلب سليم لا إلى من له طبع سقيم.

 

(الأمر العاشر) كونه جامعاً بين الدليل ومدلوله فالتالي له إذا كان ممن يدرك معانيه يفهم مواضع الحجة والتكليف معاً في كلام واحد باعتبار منطوقه ومفهومه، لأنه ببلاغة الكلام يستدل على الإعجاز، وبالمعاني يقف على أمر اللّه ونهيه ووعده ووعيده.

 

(الأمر الحادي عشر) حفظه لمتعلميه بالسهولة، كما قال اللّه تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} فحفظه ميسر على الأولاد الصغار في أقرب مدة ويوجد في هذه الأمة في هذا الزمان أيضاً مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن بحيث يمكن أن يكتب القرآن من حفظ كل منهم من الأول إلى الآخر، بحيث لا يقع الغلط في الإعراب فضلاً عن الألفاظ ولا يخرج في جميع ديار أوربا عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي الحفاظ في قرية من قرى مصر مع فراغ بال المسيحيين وتوجههم إلى العلوم والصنائع منذ ثلثمائة سنة، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولكتابهم.

 

(الأمر الثاني عشر) الخشية التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماع  القرآن، والهيبة التي تعتري تاليه، وهذه الخشية قد تعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفسيره، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة ومنهم من استمر على كفره، ومنهم من كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه.

روي أن نصرانياً مر بقارئ فوقف يبكي فسئل عن سبب البكاء فقال الخشية التي حصلت له من أثر كلام الرب، وأن جعفر الطيار رضي اللّه عنه لما قرأ القرآن على النجاشي وأصحابه ما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر رضي اللّه عنه من القراءة، وأن النجاشي أرسل سبعين عالماً من العلماء المسيحية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ عليهم سورة (يس) فبكوا وآمنوا فنزل في حق الفريقين أو أحدهما قوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} وقد عرفت حال جبير بن مطعم رضي اللّه عنه، وعتبة، وابن المقنع، ويحيى بن حكم الغزالي. وقال نور اللّه الشوستري في تفسيره: إن العلامة علي القوشجي لما راح من وراء النهر إلى الروم جاء إليه حبر من أحبار اليهود لتحقيق الإسلام وناظره إلى شهر وما سلم دليلاً من أدلة العلامة إلى هذا الحين فجاء يوماً وقت الصبح وكان العلامة مشتغلاً بتلاوة القرآن على سطح الدار، وكان كريه الصوت في الغاية، فلما دخل الباب وسمع القرآن أثر القرآن في قلبه تأثيراً بليغاً، فلما وصل إلى العلامة قال: إني أدخل في الإسلام فأدخله العلامة في الإسلام ثم سئل عن السبب فقال: ما سمعت مدة عمري كريه الصوت مثلك، فلما وصلت إلى الباب سمعت منك القرآن وقد حصل تأثيره البليغ فيَّ فعلمت أنه وحي.  فثبت من الأمور المذكورة أن القرآن معجز وكلام اللّه، كيف لا وحسن الكلام يكون لأجل ثلاثة أشياء: أن تكون ألفاظه فصيحة وأن يكون نظمه مرغوباً، وأن يكون مضمونه حسناً. وهذه الأمور الثلاثة متحققة في القرآن بلا ريب ونختم هذا الفصل ببيان ثلاث فوائد:

 

(الفائدة الأولى) سبب كون معجزة نبينا من جنس البلاغة أيضاً أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله أيضاً، لأنهم يبلغون فيه الدرجة العليا فيقفون فيه على الحد الذي يمكن للبشر الوصول إليه، فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحد المذكور علموا أنه من عند اللّه، وذلك كالسحر في زمن موسى عليه السلام فإنه كان غالباً على أهله وكاملين فيه، ولما علم السحرة الكملة أن حد السحر تخييل لما لا ثبوت له حقيقة ثم رأوا عصاه انقلبت ثعباناً يتلقف سحرهم الذي كانوا يقلبونه من الحق الثابت إلى المتخيل الباطل من غير أن يزداد حجمها، علموا أنه خارج عن السحر ومعجزة من عند اللّه فآمنوا به. وأما فرعون فلما كان قاصراً في هذه الصناعة ظن أنه سحر أيضاً، وإن كان أعظم من سحر سحرته. وكذا الطب لما كان غالباً على أهل زمن عيسى عليه السلام، وكانوا كاملين فيه، فلما رأوا إحياء الميت وإبراء الأكمه علموا بعلمهم الكامل أنهما ليسا من حد الصناعة الطبية، بل هو من عند اللّه. والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول عليه السلام إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحدياً لمعارضتها كما تشهد به كتب السير، فلما أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بما عجز عن مثله جميع البلغاء عُلم أن ذلك من عند اللّه قطعاً.

 

(الفائدة الثانية) نزول القرآن منجماً ومفرقاً ولم ينزل دفعة واحدة بوجوه: (أحدها) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن من أهل القراءة، فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه، ولجاز عليه السهو.  (وثانياً) أنه لو أنزل عليه الكتاب دفعة فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ، فلما أنزل اللّه منجماً حفظه وبقي سنة الحفظ في أمته.  (وثالثها) في صورة نزول الكتاب دفعة لو كان نزول جميع الأحكام دفعة واحدة على الخلق لكان يثقل عليهم ذلك، ولما نزل مفرقاً لا جرم نزلت التكاليف قليلاً قليلاً، فكان تحملها أسهل، كما روي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن اللّه إلينا كل الإحسان، كنا مشركين فلو جاءنا رسول اللّه بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة فلما قبلناها وذقنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. (ورابعها) أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة، وعلى احتمال أذية القوم. (وخامسها) أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجز، فإنهم لو قدروا لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً.  (وسادسها) كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم، فكانوا يزدادون بصيرة، لأن الإخبار عن العيوب كان ينضم بسبب ذلك إلى الفصاحة. (وسابعها) أن القرآن لما نزل منجماً مفرقاً وتحداهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن، فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة.  (وثامنها) أن السفارة بين اللّه وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إليهم منصب عظيم، فلو نزل القرآن دفعة واحدة كان زوال هذا المنصب عن جبريل عليه السلام محتملاً. فلما نزل مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العظيم عليه.

 

(الفائدة الثالثة) سبب تكرار بيان التوحيد وحال القيامة وقصص الأنبياء في مواضع أن العرب كانوا مشركين وثنيين ينكرون هذه الأشياء، وغير العرب بعضهم مثل أهل الهند والصين والمجوس كانوا مثل العرب في الإنكار، وبعضهم كأهل التثليث كانوا في الإفراط والتفريط في اعتقاد هذه الأشياء، فلأجل التقرير والتأكيد كرر بيان هذه الأشياء.  ولتكرار القصص أسباب أخر أيضاً، منها: أن إعجاز القرآن لما كان باعتبار البلاغة أيضاً وكان التحدي بهذا الاعتبار فكررت القصص بعبارات مختلفة إيجازاً وإطناباً مع حفظ الدرجة العليا للبلاغة في كل مرتبة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر، لأن هذا الأمر عند البلغاء خارج عن القدرة البشرية.  ومنها أنه كان لهم أن يقولوا إن الألفاظ الفصيحة التي كانت مناسبة لهذه القصص استعملتها وما بقيت الألفاظ الأخرى مناسبة لها، وأن يقولوا إن طريق كل بليغ يخالف طريق الآخر، فبعضهم يقدر على الطريق المطنب، وبعضهم يقدر على الموجز فلا يلزم من عدم القدرة على نوع عدم القدرة مطلقاً.  أو أن يقولوا إن دائرة البلاغة ضيقة في بيان القصص وما صدر عنك بيانها مرة محمول على البخت والاتفاق فلما كررت القصص إيجازاً وإطناباً لم يبق عذر من هذه الأعذار الثلاثة.  ومنها أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يضيق صدره بإيذاء القوم وشرهم كما أخبر اللّه تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} فيقص اللّه قصة من قصص الأنبياء مناسبة لحاله في ذلك الوقت لتثبيت قلبه، كما أخبر اللّه تعالى: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}.  ومنها أن المسلمين كان يحصل لهم الإيذاء من أيدي الكفار، أو أن قوماً كانوا يسلمون، أو أن الكفار كان المقصود تنبيههم فكان اللّه ينزل في كل موضع من هذه القصص ما يناسبه، لأن حال السلف تكون عبرة للخلف.  ومنها أن القصة الواحدة قد تشتمل على أمور كثيرة فتذكر تارةً وتقصد بها بعض الأمور قصداً، وبعضها تبعاً وتعكس مرة أخرى .  والحق أنها لا تملك من مقومات الدولة أي شيء فما زالت تعيش على إعانات بعض الدول الأجنبية في فزع ورعب دائم..  وعن قريب سيطردها العرب من أرضهم شر طردة ولن يلتئم لهم شمل، ولن يتنصر لهم جيش وسيهزم الجمع ويولون الدبر {وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده}.

 

الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين على القرآن.

 

(الشبهة الأولى) لا نسلم بأن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة، ولو سلمنا بذلك فهو يكون دليلاً ناقصاً على الإعجاز، لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلسان العرب، ويلزم أن تكون جميع الكتب التي توجد في الألسن الأخرى مثل اليوناني واللاطيني وغيرهما في الدرجة العالية من بلاغة كلام اللّه، على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى.

 

(والجواب) عدم تسليم كون عبارة القرآن في الدرجة العليا - مكابرة محضة، لما عرفت في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، وقولهم لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة حقة بلسان العرب، لكن التقريب غير تام لأن هذه المعجزة لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوا واعترفوا بها وعرفها أهل اللسان بسليقتهم وغيرهم من العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام وعرفها العوام من الفرق بشهادة ألوف ألوف من أهل اللسان والعلماء، فظهر أنها معجزة يقيناً، ودليل كامل لا ناقص كما زعموا، وصارت سبباً من الأسباب الكثيرة التي يعلم بها أن القرآن كلام اللّه ولا يدعي أهل الإسلام أن سبب كون القرآن كلام اللّه منحصر في كونه بليغاً فقط وكذا لا يدعون أن معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم منحصرة في بلاغة القرآن فقط بل يدعون إن هذه البلاغة سبب من الأسباب الكثيرة لكون القرآن كلام اللّه، وأن القرآن بهذا الاعتبار أيضاً معجزة من المعجزات الكثيرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما عرفت في الفصل الأول، وستعرف في الباب السادس إن شاء اللّه تعالى. وهذه المعجزة ظاهرة في هذا الزمان أيضاً لألوف ألوف من أهل اللسان وماهري علم البيان، وعجز المخالفين ثابت من ظهورها إلى هذا الحين وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين من الهجرة، وقد عرفت في الأمر الثاني من الفصل الأول أن قول النظام مردود وما قال أبو موسى الملقب بمزدار راهب المعتزلة من أن الناس قادرون على مثل هذا القرآن فصاحة ونظماً وبلاغة فهو مردود أيضاً كقول النظام، على أن مزدار هذا كان رجلاً مجنوناً استولت على دماغه اليبوسة بسبب كثرة الرياضة فهذى بأمثال هذه الهذيات كثيراً فكان يقول مثلاً إن اللّه قادر على أن يكذب ويظلم ولو فعل لكان إلهاً كاذباً ظالماً وإن من لابس السلطان كافر لا يرث ولا يورث، وقوله يلزم أن يكون جميع الكتب إلخ غير مسلم، لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي مر ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، ولم يثبت ادعاء مصنفيها بالإعجاز، ولا عجز فصحاء هذه الألسن عن معارضتها.  فإن ادعى أحد هذه الأمور بالنسبة إلى هذه الكتب فعليه الإثبات. وإلا فلا بد أن يمتنع عن مثل هذا الادعاء الباطل.

 

 على أن شهادة بعض المسيحيين في حق الكتب المذكورة بأنها في هذه الألسن مثل القرآن في اللسان العربي في الدرجة العليا من البلاغة غير مقبولة، لأنهم إذا لم يكونوا من أهل اللسان فلا يميزون غالباً في لسان الغير بين المذكر والمؤنث، ولا بين المفرد والتثنية والجمع ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور، فضلاً عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ وعدم تميزهم هذا لا يختص بالعربي، بل فيه وفي العبراني واليوناني واللاطيني على طريقة واحدة، ومنشأ عدم التمييز سذاجة كلامهم سيما إذا كان هذا البعض من أهل إنكلترة فإنهم يشاركون في هذه السذاجة غيرهم من المسيحيين ويمتازون عنهم بعادة أخرى أيضاً، وهي أنهم إذا عرفوا ألفاظاً معدودة من لسان الغير يظنون أنهم تبحروا في المعرفة، وإذا تعلموا مسائل معدودة من علم يعدون أنفسهم من علماء هذا العلم، والفرنساويون واليونانيون طاعنون عليهم في هذه العادة. ويشهد على الدعوى الأولى أن الأب سركيس الهاروني مطران الشام جمع بإذن البابا أربانوس الثامن كثيراً من القسيسين والرهبان والعلماء ومعلمي اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها ليصلحوا الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة والنقصانات الغزيرة فاجتهدوا في هذا الباب اجتهاداً تاماً في سنة ألف وستمائة وخمس وعشرين من الميلاد فأصلحوا، لكنه لما بقيت بعد الإصلاح التام في تراجمهم النقصانات التي هي لازمة لسجية المسيحيين اعتذروا عنه في المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة، وإني أنقل عذرهم عن المقدمة المذكورة بعبارتهم وألفاظهم وهي هذه:  (ثم إنك في هذا النقل تجد شيئاً من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضاد لها كالجنس المذكر بدل المؤنث، والعدد المفرد بدل الجمع، والجمع بدل المثنى والرفع مكان الجر والنصب في الاسم والجزم في الفعل وزيادة الحروف عوض الحركات وما يشابه ذلك، فكان سبباً لهذا كله سذاجة كلام المسيحيين فصار لهم نوع تلك اللغة مخصوصاً، ولكن ليس في اللسان العربي فقط، بل في اللاطيني واليوناني والعبراني تغافلت الأنبياء والرسل والآباء الأولون عن قياس الكلام، لأنه لم يرد روح القدس أن نقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود الضيقة التي حددتها الفرائض فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة) انتهى كلامهم.

 

ويشهد على الدعوى الثانية أن أبا طالب خان السياح ألف كتاباً باللسان الفارسي سماه بـ (المسير الطالبي) وهو مشتمل على أحوال سياحته، وكتب فيه من حالات كل إقليم ساح فيه ما رأى فيه من المحاسن والذمائم، فكتب محاسن أهل إنكلترة وذمائمهم، وإني أترجم الذميمة الثامنة من كتابه لتعلق الحاجة بها في هذا المقام. قال:  (الثامنة) خطؤهم في معرفة حد العلوم ولسان الغير، لأنهم يحسبون أنفسهم  عارفي كل لسان ومن أهل كل علم إذا عرفوا ألفاظاً معدودة من ذلك اللسان أو مسائل معدودة من ذلك العلم ويؤلفون الكتب فيهما وينشرون هذه المزخرفات بعد الطبع، ووقفت على هذا المعنى بشهادة الفرنساويين واليونانيين لأن تحصيل ألسنتهم رائج في أهل إنكلترة، وحصل لي اليقين بمشاهدة تصرفاتهم في اللسان الفارسي) انتهى، ثم قال:  (اجتمع في لندن الكتب الكثيرة من هذا النوع بحيث كادت تبقى الكتب الحقة بعد برهة من الزمان غير مميزة)، انتهى كلامه.  وقولهم على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة إلخ -لا ورود له في حق القرآن، لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر هذه الأمور السبعة والعشرين، ولا تجد آية طويلة فيه تكون خالية من ذكر أمر من هذه الأمور:

(الأول) الصفات الكاملة الإلهية مثل كونه واحداً وقديماً وأزلياً وأبدياً وقادراً وعالماً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً وحكيماً وخبيراً وخالق السماوات والأرض ورحيماً ورحماناً وصبوراً وعادلاً وقدوساً ومحيياً ومميتاً وغيرها. (الثاني) تنزيه اللّه عن المعايب والنقائص مثل الحدوث والعجز والجهل والظلم وغيرها. (الثالث) الدعوة إلى التوحيد الخالص والمنع عن الشرك مطلقاً وعن التثليث الذي هو شعبة الشرك يقيناً كما علمت في الباب الرابع.  (الرابع) ذكر الأنبياء عليهم السلام. (الخامس) تنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها. (السادس) مدح المؤمنين بالأنبياء. (السابع) ذم منكريهم. (الثامن) تأكيد الإيمان بالأنبياء عموماً وبالمسيح خصوصاً. (التاسع) الوعد بأن المؤمنين يغلبون المنكرين عاقبة الأمر. (العاشر) حقيقة القيامة وجزاء الأعمال في يومها. (الحادي عشر) ذكر الجنة والنار. (الثاني عشر) ذم الدنيا وبيان عدم ثباتها. (الثالث عشر) مدح العقبى وبيان ثباتها. (الرابع عشر) بيان حل الأشياء وحرمتها. (الخامس عشر) بيان أحكام تدبير المنزل. (السادس عشر) بيان أحكام سياسات المدن. (السابع عشر) التحريض على محبة اللّه وأهل اللّه. (الثامن عشر) بيان الأشياء التي هي ذريعة الوصول إلى اللّه. (التاسع عشر) الزجر عن مصاحبة الفجار والفساق. (العشرون) تأكيد خلوص النية في العبادات البدنية والمالية. (الحادي والعشرون) التهديد على الرياء والسمعة. (الثاني والعشرون) التأكيد على تهذيب الأخلاق بالإجمال والتفصيل. (الثالث والعشرون) التهديد على الأخلاق الذميمة بالإجمال. (الرابع والعشرون) مدح الأخلاق الحسنة، مثل الحلم والتواضع والكرم والشجاعة والعفة وغيرها. (الخامس والعشرون) ذم الأخلاق القبيحة مثل الغضب والتكبر والبخل والجبن والظلم وغيرها. (السادس والعشرون) وعظ التقوى. (السابع والعشرون) الترغيب إلى ذكر اللّه وعبادته، ولا شك أن هذه الأمور محمودة عقلاً ونقلاً، وجاء ذكر هذه الأمور في القرآن مراراً للتأكيد، والتقرير، ولو كانت هذه المضامين قبيحة فأي مضمون يكون حسناً.

 

نعم لا يوجد في القرآن: -[1] أن النبي الفلاني زنى بابنته. -[2] أو زنى بزوجة الغير وقتله بالحيلة. -[3] أوعبد العجل. -[4] أو ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى المعابد لها. -[5] أو افترى على اللّه الكذب، وكذب في التبليغ وخدع بكذبه نبياً آخر مسكيناً وألقاه في غضب الرب. -[6] أو أن داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد ولد الزنا وهو فارض بن يهودا. -[7] أو أن الرسول الأعظم ابن اللّه البكر أبا الأنبياء زنى ابنه الأكبر بزوجة أبيه. -[8] وابنه الثاني بزوجة ابنه، وسمع هذا النبي العظيم الشأن ما صدر عن ابنيه المحبوبين وما أجرى عليهما الحد، غير أنه دعا على الأكبر وقت موته لأجل هذه الحركة الشنيعة ولم ينقل في حق الآخر الغضب أيضاً، بل دعا له بالبركة التامة عند الموت. -[9] أو أن الرسول العظيم الآخر البكر الثاني أيضاً الزاني بزوجة الغير زنى ابنه الحبيب ببنته الحبيبة وسمع، وما أجرى عليهما الحد لعله امتنع عن الحد لأنه كان مبتلى بالزنا أيضاً في زعمهم، فكيف يجري على الغير سيما على أولاده وهذا القدر مسلم بين اليهود والنصارى ومصرح به في كتب العهد العتيق المسلمة عند الفريقين. -[10] أو أن يحيى عليه السلام الرسول الذي هو أعظم الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام وإن كان الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه بشهادة عيسى عليه السلام أيضاً لم يعرف إلهه الثاني ومرسله الذي هو عيسى باعتبار العلاقة المجهولة معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريداً لعبده هذا وما لم يحصل الاصطباغ منه وما لم ينزل على هذا الإله الثاني الإله الثالث في شكل الحمامة، وبعد ما رأى نزول الثالث على الثاني في الشكل المذكور تذكر أمر الإله الأول الأب أن الإله الثاني هو ربه ومالكه وخالق الأرض والسماوات. -[11] أو أن الرسول الآخر السارق الذي كان عنده الكيس للسرقة أعني يهود الأسخريوطي الذي هو صاحب الكرامات والمعجزات وأحد الحواريين الذين هم أعلى منزلة من موسى بن عمران وسائر الأنبياء الإسرائيلية على زعمهم باع دينه بدنياه بثلاثين درهماً، ورضي بتسليم إلهه بأيدي اليهود على هذه المنفعة القليلة حتى أخذوا إلهه وصلبوه لعل هذه المنفعة كانت عظيمة عنده، لأنه كان صياداً مفلوكاً لصاً، وإن كان رسولاً صاحب معجزات أيضاً على زعمهم فثلاثون درهماً عنده كانت أحب وأعظم رتبة من هذا الإله المصلوب. -[12] أو أن قيافا رئيس الكهنة الذي ثبتت نبوته بشهادة يوحنا الإنجيلي أفتى بقتل إلهه وكذبه وكفره وأهانه ووقع في حق هذا الإله المصلوب ثلاثة أمور عجيبة من ثلاثة أنبياء عدد التثليث أن اعظم أنبيائه الإسرائيلية لم يعرفه معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريداً له ولم ينزل عليه الإله الثالث في شكل الحمامة، وأن نبيه الثاني رضي بتسليمه ورجح منفعة ثلاثين درهماً منزلة ألوهيته ووعده، وأن رسوله الثالث أفتى بقتله وكذبه وكفره أعاذنا اللّه من أمثال هذه الاعتقادات السوء في حق الأنبياء عليهم السلام.  ولا يؤاخذني على ما نقلت هذه المزخرفات على سبيل الإلزام واللّه ثم باللّه لا أعتقد في حق الأنبياء هذه الكذبات وهم بريئون منها، وأقول القدر الذي نقلت من حال يحيى عليه السلام إلى حال قيافا مصرح به في العهد الجديد.

 

وكذا لا يوجد في القرآن هذه المسائل الفخيمة التي عجزت في أكثرها عقولنا، بل عقول العالم ويعتقدها الفرقة القديمة العظيمة الشأن، أعني فرقة كاثلك التي عددها بحسب ادعاء بعض آبائها في هذا الزمان أيضاً بقدر مائتي مليون. -[1] إن مريم عليها السلام قد حبلت بها أمها بلا قرب الزوج كما انكشفت هذه الحقيقة على البابويين من مدة قريبة.  ومثل [2] أن مريم والدة اللّه حقيقة. ومثل [3] أن كل خبز من الخبزات وإن كانت بمقدار مليونات غير متعددة يستحيل في العشاء الرباني في آن واحد في أمكنة مختلفة إلى المسيح الكامل بلاهوته وناسوته الذي تولد من العذراء إذا فرض أن مليونات من الكهنة في أطراف العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً قدسوا في آن واحد. ومثل [4] أن خبزاً واحداً إذا كسره الكاهن ولو إلى مائة ألف كسرة يصير كل كسرة منه أيضاً مسيحاً كاملاً وإن كان وجود الحبوب ثم الطحن ثم العجن ثم وجود الخبز ثم الكسرة كلها من الحوادث بمشاهدة فتعطل حكم الحبس عندهم في هذه الأمور كلها. ومثل [5] أنه لا بد أن يصطنع الصورة والتماثيل ويسجد قدامهن. ومثل [6] أنه لا خلاص بدون الإيمان بالبابا وإن كان غير صالح في نفس الأمر.

ومثل [7] أن أسقف رومية هو البابا دون غيره وهو رأس الكنيسة ومعصوم من الغلط، وأن [8] كنيسة رومية هي أم الكنائس كلها ومعلمتها. ومثل [9] أن للبابا ولمتعلقيه خزانة من قدر جزيل من استحقاقات القديسين أن يمنحوا الغفرانات سيما إذا استوفوا ثمناً وافياً لأجلها كما هو المروج عندهم. ومثل [10] أن البابا له منصب تحليل الحرام وتحريم الحلال. قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء بروتستنت في الصفحة 66 من كتابه المسمى بأجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليديين المطبوع سنة 1852 في بيروت هذا: (والآن تراهم يزوجون العم بابنة أخيه، والخال بابنة أخته، والرجل بامرأة أخيه ذات الأولاد خلافاً لتعليم الكتب المقدسة ولمجامعهم المعصومة. وقد أضحت هذه المحرمات حلالاً عند أخذهم الدراهم عليها، وكم من التحديدات وضعوها على الإكليريكيين بتحريم الزيجة الناموسية المأمور بها من رب الشريعة) انتهى كلامه بلفظه.  ثم قال: (وكم حرموا أصناف الأطعمة ثم أباحوا ما حرموه، وفي عصرنا أباحوا أكل اللحوم في صومهم الكبير الذي طالما شددوا بتحريهما فيه) انتهى كلامه بلفظه.  وفي الرسالة الثانية من كتاب الثلاث عشرة رسالة في الصفحة 88:

(فرنسيس ذابادلا الكردينال يقول: إن البابا مأذون أن يعمل ما يريد حتى ما لا يحل أيضاً، وهو أكبر من اللّه سبحان اللّه عما يصفون) انتهى كلامه بلفظه.

 

ومثل [11] أن أنفس الصديقين تتوجه إلى العذاب في المطهر وتتقلب في نيرانه حتى يمنحها البابا الغفران أو يخلصها القسوس بقداساتهم بعد استيلائهم على أثمانها، وهو غير جهنم. وأهل هذه يحصلون السندات من نواب البابا وخلفائه لتحصيل النجاة من عذابه. لكن العجب من هؤلاء العقلاء أنهم إذا اشتروا سندات من خليفة اللّه النافذ أمره في الأرض والسماء فلم لا يطلبون منه وصولات ممضية بختم الذين أعتقهم من العذاب، ولما كانت قدرة الباباوات تزيد يوماً فيوماً بفيض روح القدس اخترع البابا لاون العاشر للمغفرة تذاكر تعطى منه أو من وكيله للمشتري بمغفرة خطاياه الماضية والمستقبلة أيضاً، وكان مكتوباً فيها هكذا:  (ربنا يسوع المسيح يرحمك ويعفو عنك باستحقاقات آلامه المقدسة. وبعد فقد وهب لي بقدرة سلطان رسله بطرس وبولس والبابا الجليل في هذه النواحي أن أغفر لك أولاً عيوبك الاكليروسية مهما كانت ثم خطاياك ونقائصك مهما كانت تفوت الإحصاء، بل أيضاً الخطايا المحفوظ حلها للبابا، وبقدر امتداد مفاتيح الكنيسة الرومانية أغفر لك كل العذابات التي سوف تستحقها في المطهر وأردك إلى أسرار الكنيسة المقدسة وإلى اتحادها وإلى ما كنت حاصلاً عليه عند عمادك من العفة والطهارة حتى أنك متى مت تغلق في وجهك أبواب العذابات وتفتح لك أبواب الفردوس وإن لم تمت الآن فهي باقية لك بفاعلية تامة إلى آخر ساعة موتك باسم الأب والابن والروح القدس آمين) كتب بيد الأخ يوحنا تنزل الوكيل الثاني. ومثل [12] أن مسافة جهنم فراغ مكعب في قلب الأرض كل من أضلاعه مائتا ميل. ومثل [13] أن البابا يرسم الصليب على نعليه وغيره على وجهه لعل نعلي البابا ليسا أدون من الصليب ومن وجوه الأساقفة الآخرين. ومثل [14] أن بعض القديسين وجهه كوجه الكلب وجسده كجسد الإنسان، وهو يشفع لهم عند اللّه. قال المعلم المذكور في الصفحة 114 من كتابه  المذكور طاعناً على تلك الفرقة أو الكتابة: (وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق اللّه مثلها، كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس ويقدمون له أنواع العبادة إذ يلقبونه ويسجدون أمامه ويشعلون له الشموع ويطلقون البخور ويلتمسون شفاعته، فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل النطقي والقداسة في أدمغة الكلاب؟ أي هي من عصمة كنائسهم من الغلط؟ انتهى كلامه بلفظه.

وهذا القول هل يليق بالمسيحيين الخ صادق يقيناً، وهذا القديس مشابه لبعض قديسي مشركي الهند، ولعل محبة المسيحيين من أهل أوربا للكلاب لأجل كونها على صورة هذا القديس المكرم.

 

ومثل [15] أن خشبة الصليب وتصاوير الأب الأزلي والابن والروح القدس يسجد لها بالسجود الحقيقي العبادي وأن صور القديسين يسجد لها بالسجود الإكرامي، وإني متحير ما معنى استحقاق الأشياء الأولية للسجود العبادي، لأن تعظيمهم لخشبة الصليب لا يخلو إما أن يكون مثلها قد مس جسد المسيح، وهو ارتفع عليه بحسب زعمهم، وإما لأجل أنها واسطة فداء، وإما لأجل أن دمه سال عليه.  فإن كان الأول يلزم أن يكون نوع الحمير معبوداً لهم أعلى من الصليب عندهم، لأن المسيح عليه السلام ركب على الأتان والجحش ومساجد المسيح وكانا موضوعي راحته ودخوله ممجداً إلى أورشليم، والحمار يشارك الإنسان في الجنس القريب والحيوانية، فهو جسم نام حساس متحرك بالإرداة بخلاف الخشب الذي ليست له قدرة الحس والحركة. وإن كان الثاني فيهودا الاسخريوطي الدافع أحق بالتعظيم لأنه الواسطة  الأولى والذريعة الكبرى للفداء، فإنه لولا تسليمه لما أمكن لليهود مسك المسيح وصلبه، ولأنه مساوٍ للمسيح عليه السلام في الإنسانية وعلى صورة الإنسان الذي هو صورة اللّه، وكان ممتلئاً بروح القدس صاحب الكرامات والمعجزات فالعجب أن هذه الواسطة الأولى عندهم ملعونة والصغرى مباركة معظمة. وأما الثالث فلأن الشوك المضفور إكليلاً على رأس المسيح عليه السلام قد فاز أيضاً بالمنصب الأعلى، وهو سيلان الدم عليه فما باله لا يعظم ولا يعبد ويشعل بالنار، وهذا الخشب يعبد إلا أن يقولوا إن هذا سر مثل سر التثليث والاستحالة خارج عن إدراك العقول البشرية وأفحش منه تعظيم صورة أقنوم الأب، لأنك قد عرفت في الأمر الثالث والرابع من مقدمة الباب الرابع أن اللّه بريء من الشبه وما رآه أحد ولا يقدر أن يراه أحد في الدنيا فإذا كان كذلك فأي أب من آبائهم رآه فصوره؟ ومن أين علموا أن هذه الصورة مطابقة لصورته تعالى وليست مطابقة لصورة شيطان من الشياطين، أو لصورة كافر من الكفار؟ ولم لا تعبدون كل إنسان سواء أكان مسلماً أم كافراً لأن الإنسان على صورة اللّه بحسب نص التوراة. والعجب أن البابا يسجد لهذه الصورة الوهمية الجمادية التي لا حس ولا حركة لها ويحقر صورة اللّه التي هي الإنسان ويمد رجله لذلك الإنسان لكي يقبل حذاءه وما ظهر لي فرق بين هؤلاء أهل الكتاب ومشركي الهند وجدت عوامهم كعوامهم وخواصهم كخواصهم في هذه العبادة وعلماء مشركي الهند يقولون مثل قول علمائهم في الاعتذار. ومثل [16] أن البابا هو القاضي الأعلى في الحكم على تفسير معاني الكتب واخترعت هذه العقيدة في الأجيال المتأخرة وإلا لما قدر اكستاين وفم الذهب وغيرهما من القدماء الذين لم يكونوا باباوات ولم يستأذنوهم  أن يفسروا جميع الكتب المقدسة من تلقاء أنفسهم، وتفاسيرهم قبلت عند جميع كنائس عصرهم لعل الباباوات حصل لهم هذا القضاء الأعلى بمطالعة تفاسيرهم بعد ما صنفوها. ومثل [17] أن الأساقفة والشمامسة ممنوعون من الزواج، ولذلك يفعلون ما لا يفعله المتزوجون، وقاوم في كثير من الأحيان بعض معلميهم اجتهاد الباباوات فأنقل بعض أقوالهم عن كتاب الثلاث عشرة رسالة في الرسالة الثالثة في الصفحة 144 و 145:

القديس برنردوس يقول - وعظ عدد 66 في نشيد الإنشاد: نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس فملؤها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الإدناس.  والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفاً في بلاد البورتكال سنة 1300 يقول: يا ليت إن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة ولا سيما أكليروس سبانيا لأن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت، ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر كتب أنه وجد قسوساً قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا. انتهى كلامه بلفظه ملخصاً.  وكيف يعتقد العصمة في حقهم إذا كانوا شابين شاربي الخمر وما نجا روبيل ابن يعقوب عليه السلام فزنى ببلهاء سرية أبيه، ولا يهوذا بن يعقوب عليه السلام فزنى بزوجة ابنه، ولا داود عليه السلام فزنى بزوجة أوريا مع كونه ذا زوجات كثيرة ولا لوط عليه السلام فزنى في حالة خمار الخمر بابنتيه، وهكذا. فإذا كان حال الأنبياء وأبنائهم على عقائدهم هكذا فكيف يرجى منهم  العصمة، بل الحق أن الفاروس بيلاجيوس ويوحنا صادقان في أن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا.

 

 وأمثال هذه المسائل كثيرة أطوي الكشح عن بيانها خوفاً من التطويل.  فأقول:

 

 لعل هذه المضامين العالية التي نقلتها وأمثالها لو وجدوها في القرآن لاعترفوا بأنه كلام اللّه وقبلوه، لكنهم لما وجدوه خالياً منها ومن أمثالها فكيف يعترفون ويقبلون لأن المضامين الحسنة المألوفة عندهم هي هذه المضامين وأمثالها، لا المضامين التي ذكرت في القرآن. وأما بعض المضامين التي توجد في القرآن في ذكر الجنة والنار وغيرهما ويزعمون أنها قبيحة فأذكرها إن شاء اللّه تعالى في الشبهة الثالثة بأجوبتها فانتظر.‏

 

(الشبهة الثانية) أن القرآن مخالف لكتب العهد العتيق والجديد في مواضع، فلا يكون كلام اللّه.

 

والجواب: أولاً - أن هذه الكتب لما لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها وكذا لم يثبت أن كل كتاب منها إلهامي قد ثبت أنها مختلفة اختلافاً معنوياً في مواضع كثيرة ومملوءة بالأغلاط الكثيرة يقيناً - كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول - وقد ثبت التحريف فيها أيضاً كما عرفت في الباب الثاني فلا تضر مخالفتها القرآن في المواضع المذكورة، بل تكون دليلاً على كون المواضع المذكورة غلطاً أو محرفة في الكتب المذكورة كسائر الأغلاط والتحريفات التي عرفتها في البابين الأولين، وقد عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من هذا الباب أن هذه المخالفة قصدية لأجل التنبيه على أن ما خالف القرآن غلط أو محرف لا أنها سهوية.  (والجواب الثاني) أن المخالفة التي بين القرآن وبين كتب العهدين في ذم القسيسين على ثلاثة أنواع: (الأول) باعتبار الأحكام المنسوخة. (والثاني) باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن لا يوجد ذكرها في العهدين. (والثالث) باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن يخالف بيان هذه الكتب، ولا مجال لهم أن يطعنوا على القرآن باعتبار هذه الأنواع.

 

(أما الأول) فلأنك قد عرفت في الباب السادس بما لا مزيد عليه أن النسخ لا يختص بالقرآن، بل وجد في الشرائع السابقة بالكثرة، وأنه لا استحالة فيه، وأن الشريعة العيسوية نسخت جميع أحكام التوراة إلا تسعة أحكام من الأحكام العشرة المشهورة، وقد وقع فيها التكميل أيضاً على زعمهم، والتكميل أيضاً نوع من أنواع النسخ، فصارت هذه الأحكام أيضاً منسوخة بهذا الوجه فبعد ذلك ليس من شأن المسيحي العاقل أن يطعن على القرآن باعتبار هذا النوع.

(وأما الثاني) فهو كالأول أيضاً، وشواهده كثيرة أكتفي منها على ثلاثة عشر شاهداً:‏

 

(الشاهد الأول) الآية التاسعة من رسالة يهودا هكذا: (وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجاً عن جسد موسى لم يجسر أن يورد حكم افتراء، بل قال لينتهرك الرب) فمخاصمة ميخائيل إبليس عن جسد موسى لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق.‏ (الشاهد الثاني) ثم في تلك الرسالة هكذا 14: (وتنبأ عن هؤلاء أيضاً  أخنوخ السابع من آدم قائلاً: هو ذا قد جاء الرب في ربوات قديسية) 15 (ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاط فجار) ولا أثر لهذا الخبر أيضاً في كتاب من كتب العهد العتيق. (الشاهد الثالث) الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني عشر من الرسالة العبرانية هكذا: (وكان المنظر هكذا مخيفاً حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد)، وهذا الحال مذكور في الباب التاسع عشر من سفر الخروج، لكن لا توجد فيه ولا في كتاب من كتب العهد العتيق هذه الفقرة: (حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد).‏ )الشاهد الرابع) الآية الثامنة من الباب الثالث من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس هكذا: (وكما قاوم ينيس ويمبريس موسى) إلخ، وهذا الحال مذكور في الباب السابع من سفر الخروج ولا أثر لهذين الاسمين في هذا الباب ولا في باب آخر ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق.‏ (الشاهد الخامس) الآية السادسة من الباب الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا) ولا يوجد لهذا أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة، ولا في كتاب أعمال الحواريين مع أن لوقا أحرص الناس على تحرير أمثال هذه الأحوال.‏ (الشاهد السادس) في الآية الخامسة والثلاثين من الباب العشرين من كتاب الأعمال هكذا: (متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ)، وهذا القول لا يوجد له أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة.

(الشاهد السابع) الأسماء التي ذكرت في الباب الأول من إنجيل متى بعد زربابل لا توجد في كتاب من كتب العهد العتيق. ‏(الشاهد الثامن) في الباب السابع من كتاب الأعمال هكذا: 23 (ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل). 24: (وإذا رأى واحداً مظلوماً حامى عنه وأنصف المغلوب إذ قتل المصري). 25: (فظن أن إخوته يفهمون أن اللّه على يده يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا). 26: (وفي اليوم الثاني ظهر لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى السلامة قائلاً: أيها الرجال أنتم أخوة لماذا تظلمون بعضكم بعضاً) 27: (فالذي كان يظلم قريبه دفعه قائلاً: من أقامك رئيساً وقاضياً علينا) 28: (أتريد أن تقتلني كما قتلت أمس المصري)، وهذا الحال مذكور في الباب الثاني من كتاب الخروج، لكن بعض الأشياء ذكرت في كتاب الأعمال وما جاء ذكرها في كتاب الخروج، وعبارة الخروج هكذا:‏ 11- وفي تلك الأيام لما شب موسى خرج إلى إخوته وأبصر تعبدهم ورأى رجلاً من أهل مصر يضرب رجلاً من إخوته العبرانيين). 12: (فالتفت إلى الجانبين فلم ير أحداً. فقتل المصري ودفنه في الرمل) 13: (وأنه خرج من اليوم الثاني ونظر إلى رجلين عبرانيين يختصمان فقال للظالم منهما: لم تضرب صاحبك؟). 14: (فقال له ذلك الرجل: من جعلك سلطاناً علينا أو قاضياً لعلك تريد قتلي كما بالأمس قتلت المصري).‏ (الشاهد التاسع) الآية السادسة من رسالة يهودا هكذا: (والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام). (الشاهد العاشر) في الآية الرابعة من الباب الثاني من الرسالة الثانية لبطرس: (اللّه لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء) وهذا الحال الذي نقله بطرس ويهودا الحواريان لا يوجد في كتاب من كتب العهد العتيق، بل الظاهر أنه كاذب لأن المراد بهؤلاء الملائكة المحبوسين الشياطين، والشياطين ليسوا بمحبوسين بقيود أبدية كما يشهد عليه الباب الأول من كتاب أيوب والآية الثانية عشرة من الباب الأول من إنجيل مرقس، والآية الثامنة من الباب الخامس من الرسالة الأولى لبطرس وغيرها من الآيات.‏لشاهد الحادي عشر) الآية الثامنة عشرة من الزبور المائة والرابع على وفق الترجمة العربية، ومن الزبور المائة والخامس على وفق التراجم الأخر هكذا: (وذلت بالقيود رجلاه وبالحديد عبرت نفسه) وحال كون يوسف مسجوننا مذكور في الباب التاسع والثلاثين من سفر التكوين وليس ذلت رجليه بالقيود وعبرت نفسه بالحديد مذكورين فيه، ولا يلزم هذان الأمران للمسجون وإن كانا غالبين.‏ ( الشاهد الثاني عشر) في الآية الرابعة من الباب الثاني عشر من كتاب هوشع هكذا: (وغلب الملاك وتقوى وبكى وسأله) إلخ وحال مصارعة الملك يعقوب مذكور في الباب الثاني والثلاثين من سفر التكوين ولا يوجد فيه بكاء يعقوب.‏ (الشاهد الثالث عشر) يوجد في الإنجيل ذكر الجنة والجحيم والقيامة وجزاء الأعمال فيها وإن كان بالإجمال، ولا أثر لهذا في الكتب الخمسة لموسى، بل لا يوجد فيها سوى المواعيد الدنيوية للمطيعين والتهديدات الدنيوية للعاصين.

 

وهكذا توجد مواضع كثيرة. فظهر مما ذكرنا أنه إذا ذكر بعض الأحوال في كتاب ولا يوجد ذكره في الكتاب المتقدم لا يلزم منه تكذيب الكتاب المتأخر وإلا يلزم أن يكون الإنجيل كاذباً لاشتماله على الحالات التي لم تذكر في التوراة ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق.  فالحق أن الكتاب المتقدم لا يلزم أن يكون مشتملاً على الحالات كلها. ألا ترى أن أسماء جميع أولاد آدم وشيث وأنوس وغيرهم وكذا أحوالهم ليست مذكورة في التوراة؟ وفي تفسير دوالي ورجردمييت ذيل شرح الآية الخامسة والعشرين من الباب الرابع عشر من سفر الملوك الثاني هكذا: (لا يوجد ذكر هذا الرسول يونس إلا في هذه الآية).  وفي البلاغ المشهور الذي كان إلى أهل نينوى: (ولا يوجد في كتاب من الكتب إخباراته عن الحوادث الآتية التي جرأ بها يوربعام السلطان على محاربة سلاطين السريا وسببه ليس منحصراً في أن الكتب الكثيرة للأنبياء لا توجد عندنا، بل سببه هذا أيضاً أن الأنبياء لم يكتبوا كثيراً من أخبارهم عن الحوادث الآتية) انتهى. فهذا القول يدل صراحة على ما قلت، والآية الثلاثون من الباب العشرين من إنجيل يوحنا هكذا: (وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب) والآية الخامسة والعشرون من الباب الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا هكذا: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة). وهذا الكلام وإن لم يخل من المبالغة الشاعرية، لكنه لا شك يفيد أن جميع حالات عيسى عليه السلام ما كتبت، فالطاعن باعتبار النوع الثاني على القرآن حاله كحال الطاعن باعتبار النوع الأول بلا تفاوت.

 

(وأما النوع الثالث) فلأن مثل هذه الاختلافات توجد بين كتب العهد العتيق بعضها مع بعض وبين الأناجيل بعضها مع بعض وبين الإنجيل والعهد العتيق، كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول. وتوجد في النسخ الثلاث للتوراة، أعني العبرانية واليونانية والسامرية، وقد حصل لك الاطلاع على بعض الاختلافات أيضاً في الباب الثاني، لكن القسيسين من عادتهم أنهم يغلطون عوام المسلمين في كثير من الأوقات بهذه الشبهة فالأنسب أن أذكر بعض هذه الاختلافات ولا أخاف من التطويل اليسير لأنه لا يخلو من الفائدة المهمة.  (الاختلاف الأول) أن الزمان من خلق آدم إلى زمن الطوفان باعتبار العبرانية ألف وستمائة وست وخمسون سنة [1656] وباعتبار اليونانية ألفان ومائتان واثنتان وستون سنة [2262] وعلى وفق السامرية ألف وثلثمائة وسبع سنين [1307]. (الاختلاف الثاني) أن الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام باعتبار العبرانية مائتان واثنتان وتسعون سنة [292] وباعتبار اليونانية ألف واثنتان وسبعون سنة [1072] وباعتبار السامرية تسعمائة واثنتان وأربعون سنة [942]. (الاختلاف الثالث) يوجد في النسخة اليونانية بين أرفخشد وشالح بطن واحد، هو قينان، ولا يوجد في العبرانية والسامرية ولا في السفر الأول من أخبار الأيام، وفي تاريخ يوسيفس، لكن لوقا الإنجيلي اعتمد على اليونانية فزاد قينان في بيان نسب المسيح فيجب على المسيحيين أن يعتقدوا صحة اليونانية وكون غيرها غلطاً لئلا يلزم كذب إنجيلهم.

(الاختلاف الرابع) أن موضع بناء الهيكل أعني المسجد باعتبار العبرانية جبل عيبال، وباعتبار السامرية جبل جرزيم، وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الباب الثاني فلا أطول الكلام في توضيحها. (الاختلاف الخامس) إن الزمان من خلق آدم إلى ميلاد المسيح باعتبار العبرانية [4004] وباعتبار اليونانية [5872] وباعتبار السامرية [4700] وفي المجلد الأول من تفسير هنري واسكات (أن اهليز أخذ التاريخ بعد تصحيح أغلاط يوسيفس واليونانية وعلى تحقيقه من خلق العالم إلى ميلاد المسيح [5411] ومن الطوفان إلى الميلاد [3155] انتهى.  وجارلس روجر في كتابه الذي قابل فيه التراجم الإنجليزية نقل خمسة وعشرين قولاً من أقوال المؤرخين في بيان المدة التي من خلق العالم إلى ميلاد المسيح وإلى سنة ألف وثمانمائة وسبع وأربعين، ثم اعترف أنه لا يطابق قولان منها أو أن تمييز الصحيح عن الغلط محال، وأنا أنقل ترجمة كلامه وأكتفي ببيانها إلى ميلاد المسيح لأن المدة التي بعدها لا اختلاف فيها للمؤرخين فلا حاجة إلى نقل الغاية الأخرى.

 

المدة التي من خلق آدم إلى ميلاد المسيح

أسماء المؤرخين

4192

[1] ماريانوس سكونوس

4141

[2] لارنت يوس كودومانوس

4103

[3] توماليديت

4079

[4] ميكائيل مستلي نوس

4062

[5]جي بابتست رك كيولس

4053

[6] جيكب سليانوس            

4051

[7]هنري كوس بوندانوس

4041

[7] وليم لينك

4021

[9] ارازمس ربن هولت 

4005

[10] جيكوبوس كيبالوس       

4003

[11]أرج بشب أشر

4983

[12]ديوني سيوس بتاويوس

3973

[13] بشب بك

3971

[14] كرن زيم

3970

[15] ايلي اس ريوس نيروس

3968

[16]جوهانيس كلاوريوس

3966

[17] كرستيانوس لونكرمونتانوس

3964

[18]فلب ملاتختون

3963

[19]جيكب هين لي نوس

3958

[20] الفون سوس سال مرون

3949

[21] إسكي ليكر

3927

[22]ميتهيوس برول ديوس

2836

[23] اندرياس هل وي كيوس

3760

[24]الرواج العام لليهود

4004

[25]الرواج العام للمسيحيين

 

(ولا يطابق قولان من هذه الأقوال، ومن لم يتأمل في هذا الأمر في حين من الأحيان يفهم أن هذا الأمر العجيب في غاية الإشكال، لكن الظاهر أن المؤرخين المقدسين لم يريدوا في حين من الأحيان أن يكتبوا التاريخ بالنظم ولا يمكن الآن لأحد أن يعلم العدد الصحيح) انتهى كلام جارلس روجر.  فظهر من كلامه أن معرفة الصحيح الآن محال جداً، وأن المؤرخين من أهل العهد العتيق أيضاً كتبوا ما كتبوا رجماً بالغيب، وأن الرائج العام في اليهود يخالف الرائج العام في المسيحيين، فأنصف أيها اللبيب، إنه لو فهمت مخالفة القرآن المجيد لتاريخ من تواريخهم المقدسة التي حالها كما عرفت، لا تشك لأجل هذه المخالفة في القرآن، لا واللّه بل نقول إن مقدسيهم غلطوا وكتبوا ما كتبوا سيما إذا لاحظنا تواريخ العالم جزمنا أن تحرير مقدسيهم في أمثال هذه الأمور ليس له إلا رتبة الظن والتخمين، ولذلك لا نعتمد على هذه الأقوال الضعيفة.

 

قال العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في المجلد الأول من تاريخه، ناقلاً عن الفقيه الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم:

(وأما نحن - يعني أهل الإسلام - فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل، فقد قال ما لم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه لفظة تصح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا اللّه تعالى قال اللّه تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض)، وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر علم أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا اللّه تعالى) انتهى كلامه بلفظه، وهو مختار الفقير أيضاً والعلم التام عند اللّه وهو أعلم.

 

(الاختلاف السادس) أن الحكم الحادي عشر الزائد على الأحكام العشرة المشهورة يوجد في السامرية ولا يوجد في العبرانية. (الاختلاف السابع) الآية الأربعون من الباب الثاني عشر من سفر الخروج في العبرانية هكذا: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) وفي السامرية واليونانية هكذا: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل وآباؤهم وأجدادهم في أرض كنعان وأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) والصحيح ما فيهما وما في العبرانية غلط يقيناً. (الاختلاف الثامن) في الآية الثامنة من الباب الرابع من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وقال قائين لهابيل أخيه ولما صار في الحقل) وفي السامرية واليونانية هكذا: (وقال قائين لهابيل أخيه تعال نخرج إلى الحقل ولما صارا في الحقل) والصحيح ما فيهما عند محققيهم. (الاختلاف التاسع) في الآية السابعة عشرة من الباب السابع من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وصار الطوفان أربعين يوماً على الأرض). وفي اليونانية هكذا: (وصار الطوفان أربعين يوماً وليلة على الأرض) والصحيح ما في اليونانية. (الاختلاف العاشر) في الآية الثامنة من الباب التاسع والعشرين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (حتى تجتمع الماشية). وفي السامرية واليونانية وكني كات والترجمة العربية لهيوبي كينت هكذا: (حتى تجتمع الرعاة). والصحيح ما في هذه الكتب لا ما في العبرانية. (الاختلاف الحادي عشر) في الآية الثانية والعشرين من الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وضاجع بلها سرية أبيه فسمع إسرائيل) وفي اليونانية هكذا: (وضاجع بلها سرية أبيه فسمع إسرائيل وكان قبيحاً في نظره) والصحيح ما في اليونانية.

(الاختلاف الثاني عشر) في أول الآية الخامسة من الباب الرابع والأربعين من سفر التكوين توجد في اليونانية هذه الجملة: (لما سرقتم صواعي) ولا توجد في العبرانية والصحيح ما في اليونانية. (الاختلاف الثالث عشر) في الآية الخامسة والعشرين من الباب الخمسين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (فاذهبوا بعظامي من ههنا) وفي اليونانية والسامرية هكذا: (فاذهبوا بعظامي من ههنا معكم). (الاختلاف الرابع عشر) في آخر الآية الثانية والعشرين من الباب الثاني من سفر الخروج في اليونانية هذه العبارة: (وولدت أيضاً غلاماً ثانياً ودعا اسمه العازار فقال من أجل أن إله أبي أعانني وخلصني من سيف فرعون) ولا توجد في العبرانية، والصحيح ما في اليونانية وأدخلها مترجمو العربية في تراجمهم.  (الاختلاف الخامس عشر) في الآية العشرين من الباب السادس من سفر الخروج في العبرانية هكذا: (فولدت له هارون وموسى) وفي السامرية واليونانية هكذا: (فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما) والصحيح ما فيهما.  (الاختلاف السادس عشر) توجد في آخر الآية السادسة من الباب العاشر من سفر العدد في الترجمة اليونانية هذه العبارة: (وإذا نفخوا مرة ثالثة ترفع الخيام الغربية للارتحال، وإذا نفخوا مرة رابعة ترفع الخيام الشمالية  للارتحال) ولا توجد في العبرانية والصحيح ما في اليونانية.  (الاختلاف السابع عشر) توجد في النسخة السامرية في الباب العاشر من سفر العدد ما بين الآية العاشرة والحادية عشرة هذه العبارة: (قال الرب مخاطباً لموسى: إنكم جلستم في هذا الجبل كثيراً فارجعوا وهلموا إلى جبل الأمورانيين وما يليه إلى العرباء وإلى أماكن الطور والأسفل قبالة التيمن وإلى شط البحر أرض الكنعانيين ولبنان وإلى النهر الأكبر نهر الفرات هو ذا أعطيتكم الأرض فادخلوا ورثوا الأرض التي خلف الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطيكم إياها ولخلفكم من بعدكم) انتهت.  ولا توجد هذه العبارة في العبرانية. قال المفسر هارسلي في الصفحة 161 من المجلد الأول من تفسيره: (توجد في النسخة السامرية ما بين الآية العاشرة والحادية عشرة من الباب العاشر من سفر العدد العبارة التي توجد في الآية السادسة والسابعة والثامنة من الباب الأول من سفر الاستثناء، وظهر هذا الأمر في عهد بروكوبيس).

 

(الاختلاف الثامن عشر) في الباب العاشر من الاستثناء في العبرانية هكذا: 6: (ثم ارتحل بنو إسرائيل من بيروت بني يعقن إلى موشرا ومات هناك هارون وقبر هناك ثم حبر بعده العازار ابنه) 7: (ومن ثم أتوا إلى غدغادوا وارتحلوا من هناك وحلوا في يطبشا أرض المياه والسواقي) 8: (في ذلك الزمان اعتزل سبط لاوى ليحمل التابوت الذي فيه ميثاق الرب ويقوم قدامه في الخدمة ويبارك باسمه حتى إلى هذا اليوم).

وهذه العبارة تخالف عبارة الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد في تفصيل المراحل. وتوجد في السامرية في كتاب الاستثناء أيضاً العبارة التي في سفر العدد  وعبارة سفر العدد هكذا: 30: (وارتحلوا من حشمونا وأتوا مشروت) 31: (ومن مشروت نزلوا في بني عقان) 32: (وارتحلوا من بني عقان وأتوا جبل جد جاد) 33: (وارتحلوا من ثم ونزلوا في يطبث) 34: (ومن يطبث أتوا عفرونا) 35: (وارتحلوا من عفرونا ونزلوا في عصينجير) 36: (وارتحلوا من ثم وأتوا برية سين، فهذه هي قادس) 37: (وارتحلوا من قادس في هور الطور الذي في أقصى أرض أدوم) 38: (ثم صعد هارون الحبر إلى هور الجبل عن أمر الرب فمات هناك في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الخامس في اليوم الأول من الشهر) 39: (وهارون يومئذ ابن مائة وثلاث وعشرون سنة) 40: (وسمع الكنعاني ملك غارد الذي كان يسكن التيمن في أرض كنعان أن جاء بنو إسرائيل) 41: (ثم ارتحلوا من هور الطور ونزلوا في صلمونا) 42: (وارتحلوا من ثم وأتوا فينون) الخ. ونقل آدم كلارك في الصفحة 779 و 780 من المجلد الأول من تفسيره في شرح الباب العاشر من كتاب الاستثناء تقرير كني كات في غاية الإطناب وخلاصته: (أن عبارة المتن السامري صحيحة، وعبارة العبري غلط وأربع آيات ما بين الآية الخامسة والعاشرة أعني الآية السادسة إلى التاسعة ههنا أجنبية محضة لو أسقطت ارتبط جميع العبارة ارتباطاً حسناً، فهذه الآيات الأربع كتبت من غلط الكاتب ههنا وكانت من الباب الثاني من كتاب الاستثناء) انتهى. وبعد نقل هذا التقرير أظهر رضاه عليه وقال: (لا يعجل في إنكار هذا التقرير). أقول يدل على إلحاقية الآيات الأربع في الجملة الأخيرة التي توجد في آخر الآية الثامنة.

 

(الاختلاف التاسع عشر) الآية الخامسة من الباب الثاني والثلاثين من كتاب الاستثناء في العبرانية هكذا: (هم أخرجوا نفوسهم. عيبهم ليس عيباً يكون  على أبنائه هم الجيل الأعوج المتعسف) وفي اليونانية والسامرية هكذا: (أخربوهم ليسوا له هم أبناء الغلط والعيب) وفي تفسير هنري واسكات (هذه العبارة أقرب إلى الأصل) انتهى. وقال المفسر هارسلي في الصفحة 215 من المجلد الأول هكذا: (فلتقرأ هذه الآية على وفق السامرية واليونانية وهينولي كينت وكني كات والمتن العبري محرف ههنا) انتهى، وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1831 وسنة 1844 وسنة 1848 هكذا: (أخطوا إليه، وهو بريء من أبناء القبائح أيها الجيل الأعوج المتلوي).

 

(الاختلاف العشرون) الآية الثانية من الباب العشرين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (قال عن سارة امرأته إنها أختي ووجه أبي ملك جراراً وأخذها). وفي تفسير هنري واسكات أن هذه الآية في اليونانية هكذا: (وقال عن سارة امرأته أنها أختي لأنه كان خائفاً من أن يقول إنها امرأته ظاناً أن أهل البلدة يقتلونه بسببها فوجه أبي ملك سلطان فلسطين أناساً وأخذها) انتهى. فهذه العبارة: (لأنه كان خائفاً من أن يقول إنها امرأته ظاناً أن أهل البلدة يقتلونه بسببها). لا توجد في العبرانية.

 

(الاختلاف الحادي والعشرون) توجد في الباب الثلاثين من سفر التكوين بعد الآية السادسة والثلاثين هذه العبارة في السامرية: (وقال ملك الرب ليعقوب: يا يعقوب، فقال لبيك. قال الملك ارفع طرفك وانظر إلى التيوس والفحول التي تضرب النعاج والمعز فإنهم بلقاء ومثمرة ومنقطة فقد رأيت ما فعل بك لابان، أنا إله بيت ايل حيث مسحت قائمة الحجر ونذرت لي نذراً والآن قم فاخرج من هذه الأرض إلى أرض ميلادك) ولا توجد في العبرانية.

 

(الاختلاف الثاني والعشرون) توجد بعد الجملة الأولى من الآية الثالثة من الباب الحادي عشر من سفر الخروج هذه العبارة في النسخة السامرية: (وقال موسى لفرعون الرب يقول إسرائيل ابني، بل بكري، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني وأنت أبيت أن تطلقه، ها أنا ذا سأقتل ابنك بكرك) ولا توجد في العبرانية.

 

(الاختلاف الثالث والعشرون) الآية السابعة من الباب الرابع والعشرين من سفر العدد في العبرانية هكذا: (يجري الماء من دلوه وذريته بماء كثير فيتعالى من أجاج ملكه وترفع مملكته) وفي اليونانية: (ويظهر منه إنسان وهو يحكم على الأقوام الكثيرة وتكون مملكته أعظم من مملكة أجاج وترتفع مملكته).

 

(الاختلاف الرابع والعشرون) توجد في الآية الحادية والعشرين من الباب التاسع من سفر الأحبار في العبرانية هذه الجملة: (كما أمر موسى) وتوجد بدلها في اليونانية والسامرية هذه الجملة: (كما أمر الرب موسى).

(الاختلاف الخامس والعشرون) الآية العاشرة من الباب السادس والعشرين من سفر العدد في العبرانية هكذا: (ففتحت الأرض فاها وابتلعت قورح في موت الجماعة مع المائتين والخمسين الذين أحرقتهم النار وكانت آية عظيمة)، وفي السامرية هكذا: (وابتلعتهم الأرض ولما ماتت الجماعة وأحرقت النار قورح مع المائتين والخمسين فصار عبرة) وفي تفسير هنري واسكات: (إن هذه العبارة مناسبة للسياق والآية السابعة عشرة من الزبور المائة والسادس) انتهى.

 

(الاختلاف السادس والعشرون) استخرج محققهم المشهور ليكلرك اختلافات بين السامرية والعبرانية وقسمها إلى ستة أقسام:

(القسم الأول) الاختلافات التي فيها السامرية أصح من العبرانية وهي أحد عشر اختلافاً.

(والقسم الثاني) الاختلافات التي تقتضي القرينة والسياق فيها صحة ما في السامرية وهي سبعة اختلافات.

(والقسم الثالث) الاختلافات التي توجد فيها زيادة في السامرية وهي ثلاثة عشر اختلافاً.

(والقسم الرابع) الاختلافات التي فيها حرفت السامرية والمحرف محقق فطن، وهي سبعة عشر اختلافاً.

(والقسم الخامس) الاختلافات التي فيها السامرية ألطف مضموناً وهي عشرة اختلافات.

(والقسم السادس) الاختلافات التي فيها السامرية ناقصة، وهما اختلافان. وتفصيل الاختلافات المذكورة هكذا:

 

القسم الثاني: سبعة اختلافات

القسم الأول : أحد عشر اختلافا

في سفر الاستثناء 1 5 باب 32

في سفر التكوين 6  49 باب 31 و 26 باب 35 و 17 باب 37 و 34 و 43 باب 41 و 3 باب 47

في سفر الخروج 2 2 باب 1 و2 باب 4

في سفر التكوين 9 درس 4 باب 2 و 3 باب 7 و 19 باب 19 و 2 باب 20 و 16 باب 23 و 14 باب 34 و 10 و 11 باب 49 باب 50

القسم الرابع: سبعة عشر اختلافا

القسم الثالث: ثلاثة عشر اختلافا

في سفر الخروج 3 باب 5 و 6 باب 13 و 5 باب 15

 

 

 

في سفر العدد 1 32 باب 22

في سفر التكوين 13 2 باب 2 و 10 باب 4 و 5 باب 9 و 19 باب 10 و 21 باب 11 و 3 باب 18 و 12 باب 19 و 16 باب 20 و 38 و 55 باب 24 و 7 باب 35 و 6 باب 36 و 50 باب 31

في سفر الخروج 7 18 باب 7 و 23 باب 8 و 5 باب 9 و 20 باب 21 و 5 باب 22 و 10 باب 32 و 9 باب32

 

في سفر الاستثناء 1 21 باب 5

في سفر التكوين 3 15 باب 29 و 36 باب 30 و16 باب 41

 

في سفر الأحبار 2 10 باب 1 و4 باب 17

القسم السادس: اختلافان

القسم الخامس: عشرة اختلافات

في سفر التكوين 2 16 باب 20 و 13 باب 25

 

في سفر الخروج 2 40 باب 12 و 17 باب 40

 

في سفر الاستثناء1 16 باب 20

في سفر التكوين 6 8 باب 5 و 31 باب 11 و 9 باب 19 و 34 باب 27 و 3 باب 39 و 25 باب 43

في سفر العدد 1 14 باب 4

 

 

 

قال محققهم المشهور هورن في المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1822: (إن المحقق المشهور ليكلرك قابل العبرانية بالسامرية بالجد والتدقيق واستخراج هذه المواضع، وفي هذه المواضع للسامرية بالنسبة إلى العبرانية نوع صحة) انتهى.

 

ولا يظن أحد انحصار مواضع المخالفة بين العبرانية والسامرية في الستين على ما حقق ليكلرك، لأن الاختلاف الرابع والثامن والعاشر والخامس عشر والسابع عشر والثامن عشر والثاني والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين ليست بداخلة في هذه الستين، بل مقصود ليكلرك ضبط المواضع التي فيها مخالفة كثيرة بين النسختين عنده، ولم يدخل في هذه الستين مما ذكرت إلا أربعة اختلافات، فإذا أخذنا جميع الاختلافات المذكورة في الشواهد الستة والعشرين بعد إسقاط المشترك صار اثنين وثمانين شاهداً من الاختلافات التي بين النسخ الثلاث للتوراة، فأكتفي عليها ولا أذكر الاختلافات التي بين العبرانية واليونانية بالنسبة إلى الكتب الأخرى من العهد العتيق خوفاً من التطويل، وهذا القدر يكفي اللبيب. وظهر أن قول الطاعن باعتبار النوع الثالث أيضاً ساقط عن الاعتبار بمثل سقوطه باعتبار النوعين الأولين.‏

 

(الشبهة الثالثة) يوجد في القرآن أن الهداية والضلال من جانب اللّه تعالى، وأن الجنة مشتملة على الأنهار والحور والقصور، وأن الجهاد على الكفار مأمور به وهذه المضامين قبيحة تدل على أن القرآن ليس كلام اللّه، وهذه الشبهة أيضاً من أقوى شبههم قلما تخلو رسالة من رسائلهم تكون في رد أهل الإسلام ولا توجد فيها هذه الشبهة، ولهم في بيانها على قدر اختلاف أذهانهم تقريرات عجيبة يتحير الناظر من تعصباتهم بعد ملاحظة هذه التقريرات.

 

(أقول) في الجواب عن الأمر الأول أنه قد وقع في مواضع من كتبهم المقدسة أمثال هذا المضمون فيلزم عليهم أن يقولوا إن كتبهم المقدسة ليست من جانب  اللّه يقيناً، وأنا أنقل بعض الآيات عنها ليظهر الحال للناظر - الآية الحادية والعشرون من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا: (وقال له الرب وهو راجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي وضعتها بيدك أعملها قدام فرعون فأنا أقسي قلبه فلا يطلق الشعب).

ثم قول اللّه في الآية الثالثة من الباب السابع من سفر الخروج هكذا: (إني أقسي قلب فرعون وأكثر آياتي وعجائبي في أرض مصر) وفي الباب العاشر من سفر الخروج هكذا: 1: (وقال الرب لموسى ادخل عند فرعون لأني قسيت قلبه وقلوب عبيده لكي أصنع به آياتي هذه) 20: (وقسى الرب قلب فرعون ولم يطلق بني إسرائيل) 27: (فقسى الرب قلب فرعون ولم يشأ أن يرسلهم) وفي الآية العاشرة من الباب الحادي عشر من سفر الخروج هكذا: (وقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل من أرضه) فظهر من هذه الآيات أن اللّه كان قد قسى قلوب فرعون وعبيده لتكثير معجزات موسى عليه السلام في أرض مصر.

والآية الرابعة من الباب التاسع والعشرين من كتاب الاستثناء هكذا: (ولم يعطيكم الرب قلباً فهيماً ولا عيوناً تنظرون بها ولا آذاناً تسمعون بها حتى اليوم). والآية العاشرة من الباب السادس من كتاب أشعيا هكذا: (أعم قلب هذا الشعب وثقل آذانه وغمض عيونه لئلا يبصر بعينه ويسمع بأذنه ويفهم بقلبه ويتوب فأشفيه). والآية الثامنة من الباب الحادي عشر من الرسالة الرومية هكذا: (كما هو مكتوب أعطاهم اللّه روح سبات وعيوناً لا يبصرون بها وآذاناً لا يسمعون بها حتى اليوم).

 

وفي الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (لم يقدروا أن يؤمنوا لأن أشعيا قال أيضاً قد عمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم) فعلم من التوراة وكتاب أشعيا والإنجيل أن اللّه أعمى عيون بني إسرائيل وأغلظ قلوبهم وأثقل آذانهم لئلا يتوبوا فيشفيهم فلذلك لا يبصرون الحق ولا يتفكرون فيه ولا يسمعونه، ولا يزيد معنى ختم اللّه على القلوب والسمع على هذا. والآية السابعة عشرة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1671 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا: (لماذا أضللتنا يا رب عن طرقك أقسيت قلوبنا أن لا نخشاك فالتفت بسبب عبيدك سبط ميراثك).

 

والآية التاسعة من الباب الرابع عشر من كتاب حزقيال في التراجم المسطورة هكذا: (والنبي إذا ضل وتكلم بكلام فأنا الرب أضللت ذلك النبي وأمد يدي عليه وأهلكه من بين شعبي إسرائيل) فوقع في كلام أشعيا صراحة: (أضللتنا يا رب وأقسيت قلوبنا) وفي كلام حزقيال: (أنا الرب أضللت ذلك النبي).

 

وفي الباب الثاني والعشرين من سفر الملوك الأول هكذا: 19: (ثم قال ميخا أيضاً من أجل هذا فاسمع قول الرب: رأيت الرب جالساً على كرسيه وجميع أجناد السماء قياماً حوله عن يمينه وعن شماله) 20: (فقال الرب من يخدع أخاب ملك إسرائيل فيصعد ليسقط تراموث جلعاد وقال بعضهم قولاً وقال بعضهم قولاً أخر) 21: (فخرج روح وقام قدام الرب وقال أنا أخدعه فقال له الرب بماذا) 22: (فقال أنا أخرج فأكون روح ضلالة في أفواه جميع أنبيائه، فقال له الرب تخدع وتقدر على ذلك اخرج وافعل وكذلك) 23: (والآن قد جعل الرب روح ضلالة في أفواه جميع أنبيائك) وكانوا نحو أربعمائة (هؤلاء والرب قال عليك بالشر) وهذه الرواية صريحة في أن اللّه تعالى يجلس على كرسيه وينعقد عنده محفل المشاورة للاغواء والخدع (كما ينعقد محفل بارلمنت في لندن لأجل بعض أمور السلطنة) فيحضر جميع أجناد السماء، فبعد المشاورة يرسل روح الضلالة فيقع هذا الروح في الأفواه ويضل الناس. فانظر أيها اللبيب إذا كان اللّه وأجناد السماء يريدون إغواء الإنسان فكيف ينجو الإنسان الضعيف، وههنا عجب آخر وهو أن اللّه شاور وأرسل روح الضلالة بعد المشاورة ليخدع أخاب فكيف أظهر ميخا الرسول سر محفل الشورى ونبه أخاب عليه.

 

وفي الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هكذا: 11: (ولأجل هذا) أي لعدم قبولهم محبة الحق (سيرسل إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب) 34: (لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم). فمقدسهم ينادي أن اللّه يرسل إلى الهالكين عمل الضلال أولاً فيصدقون الكذب فيدينهم، وإذا فرغ المسيح عليه السلام من توبيخ المدن التي لم يتب أهلها فقال: (أحمدك أيها الأب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الأب لأن هكذا صارت المسرة أمامك) كما هو مصرح في الباب الحادي عشر من إنجيل متى، فالمسيح عليه السلام يصرح بأن اللّه أخفى الحق عن الحكماء فأظهره للأطفال ويحمد على هذا الأمر ويقول وكان رضا اللّه هكذا، والآية السابعة من الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعيا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1671 وسنة 1831 هكذا: (المصور النور والخالق الظلمة الصانع السلام والخالق الشر أنا الرب الصانع هذه جميعها).

وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838 هكذا: (سازنده نور وافر يننده تاريكي منم صلح دهنده وظاهر كننده شر منكه خداوندم ابن همه أشيار بوجود مي  آرام) وفي الآية الثامنة والثلاثين من الباب الثالث من مراثي أرمياء هكذا: (أمن فم الرب لا يخرج الشر والخير) وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838: (آياخير وشرازدهان خداصادر نمي شود) والاستفهام إنكاري والمراد أن الخير والشر كلاهما يصدران عن اللّه تعالى. وفي الآية الثانية عشرة من الباب الأول من كتاب ميخا في التراجم المذكورة هكذا: فإن الشر نزل من قبل الرب إلى باب أورشليم). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838:  (أما هربدي بردر وازه أورشليم أزخد أوندنازل شد) فظهر أن خالق الشر هو اللّه تعالى كما هو خالق الخير. وفي الباب الثامن من الرسالة الرومية هكذا: 29: (لأن الذين عرفهم بسبق علم قصدهم أن يكونوا شركاء لشبه ابنه ليكون هو بكر الأخوة كثيرين) 30: (والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً) الخ وفي الباب التاسع من الرسالة المذكورة 11: (وهما لم يولدا بعد ولا فعلاً خيراً وشراً لكي يثبت قصد اللّه حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو) 12: (قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير) 13: (كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو) 14: (فإذا نقول ألعل عند اللّه ظلماً حاشا) 15: (لأنه يقول لموسى ارحم من أرحم وترأف على من أترأف) 16: (فإذن ليس لمن يشأ ولا لمن يسعى بل اللّه الذي يرحم) 17: (لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادي باسمي في كل الأرض) 18: (فإذن هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء) 19: (فستقول لي: لماذا يلوم بعد لأن من يقاوم مشيئته) 20: (بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب اللّه ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟) 21: (أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان) فهذه العبارة من مقدسهم كافية لإثبات القدر، وكون الهداية والضلال من جانبه. ولنعم ما قال أشعيا عليه السلام في الآية التاسعة من الباب الخامس والأربعين من كتابه: (الويل لمن يخالف جابلة خزف من خزاف الأرض هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع هل يقول عملك ليس اليدان لك) وبالنظر إلى هذه الآيات لعل مقتدى فرقة بروتستنت لو طرمال إلى الجبر كما يدل عليه ظاهر كلامه ذكر في الصفحة 277 من المجلد التاسع من كاثلك هرلد أقوال المقتدى الممدوح فأنقل عنها قولين: 1 (طبع الإنسان كالفرس إن ركبه اللّه يمشي كما يريد وإن ركبه الشيطان يمشي كما يمشي الشيطان، وهو لا يختار راكباً من نفسه بل يجتهد الركبان أن أياً منهم يحصله ويتسلط عليه) 2 (إذا وجد أمر في الكتب المقدسة بأن افعلوا هذا الأمر فافهموا أن هذه الكتب تأمر عدم فعل هذا الأمر الحسن لأنك لا تقدر على فعله) انتهى. فالظاهر من كلامه أنه يعتقد الجبر. وقال القسيس طامس أنكلس كاتلك في الصفحة 33 من كتابه المسمى بمرآة الصدق المطبوع سنة 1851 طاعناً على فرقة بروتستنت هكذا: (وعاظهم القدماء علموهم هذه الأقوال المكروهة) 1 (أن اللّه موجد العصيان) 2 (وأن الإنسان ليس مختاراً على أن يجتنب عن الإثم) 3 (وأن العمل على الأحكام العشرة غير ممكن) 4 (وأن الكبائر وإن كانت عظيمة لا توصل الإنسان إلى النقص في نظر اللّه) 5 (وأن الإيمان فقط ينجي الإنسان لأننا ندان بالإيمان فقط وهذا التعليم أنفع وتعليم مملوء بالطمأنينة) 6 (وأن أب إصلاح الدين يعني لوطر قال آمنوا فقط واعلموا يقيناً أنه يحصل لكم النجاة بلا مشقة الصوم وبلا مؤنة التقوى وبلا مشقة الاعتراف وبلا مشقة الأمور الحسنة ولكم نجاة نفيسة بلا شبهة كما للمسيح نفسه أذنبوا بالجرأة  التامة أذنبوا وآمنوا فقط وينجيكم بالإيمان وإن ابتليتم في يوم واحد ألف مرة بالزنا أو القتل آمنوا فقط أنا أقول إن إيمانكم ينجيكم) انتهى، فظهر أن ما قال علماء بروتستنت في الأمر الأول في حق القرآن مردود بلا شبهة مخالف لكتبهم المقدسة، ولقول مقتداهم: ولا يلزم من خلق الشر أن يكون اللّه شريراً كما لا يلزم من خلق السواد والبياض وغيرهما من الأعراض أن يكون أسود أو أبيض، والحكمة في خلق الشر كما هي في خلق الشيطان الذي هو أصل الشرور ورأس المفاسد مع علم اللّه الأزلي بأن الشيطان يصدر عنه كذا وكذا، وكما هي في خلق الشهوة والحرص في طبع الإنسان مع علمه الأزلي بما يترتب عليهما في كل فرد من أفراد الإنسان وكما كان اللّه قادراً على أن لا يخلق الشيطان أو يخلقه ولا يعطيه القدرة على الإغراء ويمنعه عن الشر، ومع ذلك خلق ولم يمنعه عن الشر لحكمة ما، فكذلك قادر على أن لا يخلق الشر ولكنه في خلقه له حكمة ما.

 

(وأما الجواب عن الأمر الثاني) فهو أنه لا قبح في كون الجنة مشتملة على الحور والقصور وسائر النعيم عند العقل، ولا يقول أهل الإسلام إن لذات الجنة مقصورة على اللذات الجسمانية فقط كما يقول علماء بروتستنت غلطاً أو تغليطاً للعوام، بل يعتقدون بنص القرآن أن الجنة تشتمل على اللذات الروحانية والجسمانية، والأولى أفضل من الثانية ويحصل كلا النوعين للمؤمنين. قال اللّه في سورة التوبة: {وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من اللّه أكبر ذلك هو الفوز العظيم} فقوله ورضوان من اللّه - الآية - معناه أن رضواناً من اللّه أكبر منزلة من كل ما سلف ذكره من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة وهذا القول يدل على أن أفضل ما يعطي اللّه في الجنة هي اللذات الروحانية وإن كان يعطي اللذات الجسمانية أيضاً. ولذلك قال ذلك هو الفوز العظيم، لأن الإنسان  مخلوق من جوهرين لطيف علوي وكثيف سفلي جسماني، وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية، كان الروح فائزاً بالسعادات اللائقة به والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم، وإن قال علماء بروتستنت إن اجتماعهما أيضاً في الجنة قبيح في عقولنا. أقول لهم لا تضطربوا فإنه لا يحصل لكم إن شاء اللّه، وقد عرفت في الباب الأول أن الإنجيل عندنا عبارة عما أنزل على عيسى عليه السلام فقط، فلو وجد في قول من الأقوال المسيحية ما يخالف ظاهره حكم القرآن، فمع قطع النظر عن أنه مروي برواية الآحاد، وعن أن مخالفة كتبهم المقدسة لا تضر القرآن، كما عرفت في جواب الشبهة الثانية. أقول إن ذلك القول يكون مئولاً ألبتة، وكون أهل الجنة كالملائكة في زعمهم لا ينافي الأكل والشرب على حكم كتبهم، ألا يرون أن الملائكة الثلاثة الذين ظهروا لإبراهيم وأحضر لهم إبراهيم عليه السلام عجلاً حنيذاً وسمناً ولبناً أكلوا هذه الأشياء كما صرح به في الباب الثامن عشر من سفر التكوين، وأن الملكين اللذين جاءا إلى لوط عليه السلام وصنع لهما وليمة وخبزاً فطيراً أكلا كما صرح به في الباب التاسع عشر من سفر التكوين، والعجب أنهم لما اعترفوا بالحشر الجسماني فأي استبعاد في اللذات الجسمانية، نعم لو كانوا منكرين للحشر مطلقاً كمشركي العرب، أو كانوا منكرين للحشر الجسماني ومعترفين بالحشر الروحاني كاتباع أرسطو لكان لاستبعادهم وجه بحسب الظاهر. وعندهم تجسد اللّه وما انفك عنه الأكل والشرب وسائر اللوازم الجسدانية باعتبار أنه إنسان، ولما لم يكن عيسى عليه السلام مرتاضاً مثل يحيى في الاجتناب عن الأطعمة النفسية وشرب الخمر كان المنكرون يطعنون عليه بأنه أكول وشريب كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى. وعندنا هذا الطعن مردود لكنا نقول إنه لا شك أن عيسى عليه السلام باعتبار الجسمية كان إنساناً فقط، فكما أن الأطعمة النفيسة وشرب الخمر ما كانا مانعين في حقه عليه السلام عن اللذات الروحانية مع كونه في هذه الدار الدنيا بل كان على حضرته غلبة الأحكام الروحانية، فكذلك اللذات الجسمانية لا تكون مانعة عن اللذات الروحانية لأهل الجنة مع كونهم في النشأة الأخرى.

(وأما الجواب عن الأمر الثالث) فيجيء في الباب السادس إن شاء اللّه لأن الجهاد في مطاعن النبي صلى اللّه عليه وسلم عندهم من أعظم المطاعن فأذكره في المطاعن هناك.‏

(الشبهة الرابعة) أن القرآن لا يوجد فيه ما يقتضيه الروح ويتمناه. (والجواب) أن ما يقتضيه الروح ويمتناه أمران: الاعتقادات الكاملة والأعمال الصالحة، والقرآن مشتمل على بيان كلا النوعين على أكمل وجه كما عرفت في جواب الشبهة الأولى، ولا يلزم من عدم بعض الأمور التي هي مقتضيات الروح على زعم علماء بروتستنت نقصان القرآن كما لا يلزم نقصان التوراة والإنجيل والقرآن من عدم الأمر الذي هو مقتضى الروح على زعم علماء مشركي الهند من البراهمة، كما سمعت منهم أنهم يقولون إن ذبح الحيوان لأجل الأكل والتلذذ خلاف مقتضى الروح وغير مستحسن عند العقل جداً، ولا يتصور أن يحصل له الإجازة فيه من جانب اللّه، فالكتاب المشتمل عليه لا يكون من جانب اللّه.‏

 

(الشبهة الخامسة) يوجد في القرآن الاختلافات المعنوية مثلاً، قوله: {لا إكراه في الدين} وقوله في سورة الغاشية: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} وقوله في سورة النور: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمِّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.  وهذه الآيات تخالف الآيات التي فيها أمر الجهاد. ووقع في أكثر الآيات  أن المسيح إنسان ورسول فقط، ووقع في موضع بضدها أنه ليس من جنس البشر بل منزلته أعلى منه. الأول قوله في سورة النساء: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} والثاني قوله في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} وهذان الاختلافان من أعظم الاختلافات في زعم القسيسين ولذا اكتفى عليهما صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الثالث منه.  (وأقول) في الجواب عن الاختلاف الأول أن هذا ليس باختلاف، بل هذا الحكم كان قبل الجهاد فلما نزل حكم الجهاد نسخ هذا الحكم، والنسخ ليس باختلاف معنوي وإلا يلزم أن يكون بين الإنجيل والتوراة في جميع الأحكام المنسوخة اختلاف معنوي، وكذا في نفس أحكام التوراة وكذا في نفس أحكام الإنجيل كما عرفت في الباب الثالث بما لا مزيد عليه، على أن قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} ليس بمنسوخ وقد عرفت الجواب عن الاختلاف الثاني في الأمر السابع من مقدمة الكتاب وظهر لك هناك أن القولين المذكورين لا يدلان على أن عيسى بن مريم ليس من جنس البشر وفهم هذا المعنى وهم صرف وظن فاسد، والعجب من هؤلاء العقلاء أنهم لا يرون الاختلافات والأغلاط التي وقعت في كتبهم كما علمت بعضاً منها في الفصل الثالث من الباب الأول

 الفصل الثالث: في إثبات صحة الأحاديث النبوية في كتب الصحاح من كتب أهل السنة والجماعة.

وهذا الفصل مشتمل على ثلاث فوائد:

(الفائدة الأولى) جمهور أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين كانوا يعتبرون سلفاً وخلفاً الروايات اللسانية كالمكتوب، بل جمهور اليهود يعتبرونها اعتباراً أزيد من المكتوب، وفرقة كتلك تعتبرها مساوية له وتعتقد أن كليهما واجبا التسليم وأصلان للإيمان وجمهور بروتستنت من المسيحيين أنكروها كما أنكرها الصادوقيون من فرقة اليهود، وهؤلاء المنكرون من بروتستنت كانوا مضطرين في إنكارها، لأنهم لو لم ينكروها لما أمكن لهم بيان أصول ملتهم وعقائدهم الجديدة، لكنهم مع ذلك يحتاجون إليها في مواضع كثيرة ويوجد سند اعتبارها من كتبهم المقدسة، كما سيظهر لك جميع هذه الأمور إن شاء اللّه تعالى.

قال آدم كلارك في شرح ديباجة كتاب عزرا في المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1751: (قانون اليهود كان منقسماً على نوعين، مكتوب ويقولون له التوراة، وغير مكتوب ويقولون له الروايات اللسانية التي وصلت إليهم بوساطة المشايخ، ويدعون أن اللّه كان أعطى موسى كلا النوعين على جبل الطور فوصل إلينا أحدهما بواسطة الكتابة وثانيهما بواسطة المشايخ بأن نقلوها جيلاً بعد جيل، ولهذا يعتقدون أن كليهما مساويان في المرتبة ومن جانب اللّه وواجبا التسليم، بل يرجحون الثاني ويقولون إن القانون المكتوب ناقص مغلق في كثير من المواضع، ولا يمكن أن يكون أصل الإيمان على الوجه الكامل بدون اعتبار الرواية اللسانية، وهذه الرواية واضحة وأكمل، وتشرح القانون المكتوب وتكمله، ولهذا يردون معاني القانون المكتوب إذا كانت مخالفة للروايات اللسانية، واشتهر فيما بينهم أن العهد المأخوذ من بني إسرائيل ما كان لأجل القانون المكتوب، بل كان لأجل هذه الروايات اللسانية، فكأنهم بهذه الحيلة نبذوا القانون المكتوب وجعلوا الروايات اللسانية مبنى دينهم وإيمانهم، كما أن الرومانيين الكاتوليكيين في ملتهم اختاروا هذه الطريقة ويفسرون كلام اللّه على حسب هذه الروايات، وإن كان هذا المعنى الروايتي مخالفاً لمواضع كثيرة، ووصلت حالتهم في زمان ربنا إلى مرتبة ألزمهم الرب في هذا الأمر بأنهم يبطلون كلام اللّه لأجل سنتهم، ومن عهد الرب أفرطوا فيه جداً حتى عظموا هذه الروايات أزيد من المكتوب. وفي كتبهم أن ألفاظ المشايخ أحب من ألفاظ التوراة وألفاظ التوراة بعضها جيدة وبعضها غير جيدة، وألفاظ المشايخ كلها جيدة، وألفاظهم أجود جداً من ألفاظ الأنبياء. ومرادهم بألفاظ المشايخ هذه الروايات اللسانية التي وصلت إليهم بواسطة المشايخ وأيضاً في كتبهم أن المكتوب كالماء ومسنا وطالموت الذين رواياتهم مضبوطة فيهما مثل الخمر ذات الأباريز، وأيضاً في كتبهم أن القانون المكتوب كالملح ومسنا وطالموت مثل الفلفل والأبازير العذبة ومثلها أقوال أخر يعلم منها أنهم يعظمون الروايات اللسانية أزيد من القانون المكتوب ويفهمون كلام اللّه على ما يفهم شرحه من هذه الروايات فكان القانون المكتوب عندهم بمنزلة الجسد الميت والروايات اللسانية بمنزلة الروح الذي به الحياة، ويقولون في كون هذه الروايات أصلاً أن اللّه لما أعطى موسى التوراة فأعطاه معاني التوراة أيضاً وأمر أن يكتب الأول ويحفظ الثاني ويبلغه بالرواية اللسانية فقط، وهكذا تنقل جيل بعد جيل، ولذلك يطلقون على الأول لفظ القانون المكتوب وعلى الثاني لفظ القانون اللساني، والفتاوى التي تكون مطابقة لهذه الروايات يسمونها قوانين موسى التي حصلت على جبل سيناء ويدعون كما أن موسى حصل له التوراة في الأربعين يوماً التي كانت المكالمة بينه وبين اللّه على جبل سيناء،  فكذلك حصلت له هذه الروايات اللسانية أيضاً وجاء بهما موسى من الجبل وبلغهما إلى بني إسرائيل بأن طلب هارون في الخيمة بعد ما راجع عن الجبل فعلمه القانون المكتوب أولاً ثم الروايات اللسانية التي هي معاني القانون المكتوب كما وجدهما من اللّه وقام هارون بعد ما تعلم وجلس على يمين موسى ودخل العازار وأيتامار ابنا هارون وتعلما كما تعلم أبوهما، وقال فجلس أحدهما على يسار موسى والآخر على يمين هارون فدخل المشايخ السبعون وتعلموا القانونين وجلسوا في الخيمة، ثم تعلم الناس الذين كانوا مشتاقين للتعلم، ثم قام موسى وقرأ هارون ما تعلم وقام، ثم قرأ العازار وايتامار وقام ثم قرأ المشايخ السبعون ما تعلموا على الناس فسمع كل من هؤلاء الناس هذا القانون أربع مرات وحفظوا حفظاً جيداً ثم أخبر هؤلاء بعد ما خرجوا سائر بني إسرائيل فبلغوا القانون المكتوب بواساطة الكتابة وبلغوا معانيها بالرواية إلى الجيل الثاني، وكانت الأحكام في المتن المكتوب ستمائة وثلاثة عشر فقسموا القانون بحسبها ويقولون إن موسى جمع بني إسرائيل كلهم في أول الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين من خروج مصر وأخبرهم بموته، وأمر بأن أحداً إن نسي قولاً من القانون الإلهي الذي وصل بواسطتي إليه يجيء إلي ويسألني وكذلك إن كان لأحد اعتراض على قول من أقوال القانون يجيء إلي لأرفع ذلك الاعتراض وكان مشتغلاً بالتعليم إلى حياته الباقية يعني من أول الشهر الحادي عشر إلى السادس من الشهر الثاني عشر وعن القانون المكتوب وغير المكتوب وأعطى بني إسرائيل من القانون المكتوب ثلاث عشرة نسخة مكتوبة بيده بأن أعطى كل فرقة فرقة نسخة نسخة لتبقى محفوظة فيما بينهم جيلاً بعد جيل، وأعطى بني لاوى نسخة أخرى أيضاً لتبقى محفوظة أيضاً في الهيكل وقرأ القانون الغير المكتوب أعني الروايات اللسانية على يوشع.

وصعد على جبل نبو في اليوم السابع من الشهر ومات هناك وفوض يوشع بعد موت موسى هذه الروايات إلى المشايخ وهم فوضوا إلى الأنبياء فكان نبي يوصلها إلى نبي آخر إلى أن أوصل أرمياء إلى باروخ وباروخ إلى عذرا وعذرا إلى مجمع العلماء الذين كان شمعون صادق آخرهم وهو أوصل إلى اينيتي كونوس وهو إلى يوثي بن يختان وهو إلى يوسي بن يوسير وهو إلى نتهان الأريلي ويوشع بن برخيا وهما إلى يهودا بن يحيى وشمعون بن شطاه، وهما إلى شمايا وأبي طليون وهما إلى هلل وهو إلى ابنه شمعون، والمظنون أن شمعون هذا هو شمعون الذي أخذ ربنا المنجي على اليدين إذ جاءت مريم به إلى الهيكل بعد ما تمت أيام تطهيرها وهو أوصل إلى كملئيل ابنه وكملئيل هذا هو الذي تعلم منه بولس وهو أوصل إلى شمعون ابنه وهو إلى كملئيل ابنه وهو إلى شمعون ابنه وهو إلى رب يهودا حق دوش ابنه، وجمع يهودا هذا هذه الروايات في كتاب سماه مسنا انتهى.

(ثم قال إن اليهود يعظمون هذا الكتاب تعظيماً بليغاً ويعتقدون أن ما فيه هو كله من جانب اللّه أوحى إلى موسى على جبل سيناء مثل القانون المكتوب ولهذا هو واجب التسليم مثله ومنذ صنف هذا الكتاب صار رائجاً بينهم رواجاً تاماً بالدرس والتدريس، وكتب عليه علماؤهم الكبار شرحين أحدهما في القرن الثالث في أورشليم والثاني في ابتداء القرن السادس في بابل واسم كل من هذين الشرحين كمرالان، معنى كمرا في اللغة الكمال، وقد حصل التوضيح التام للمتن في هذين الشرحين في ظنهم وإذا جمع الشرح والمتن يقال لهذا المجموع طالموت ويقال للتمييز طالموت أورشليم وطالموت بابل، وكان مذهبهم الرائج الآن كله مندرجاً في هذين الطالموتين اللذين كتب الأنبياء خارجة عنهما ولما كان طالموت أورشليم مغلقاً فلذلك الآن اعتبار طالموت بابل عندهم زائد) انتهى وقال هورن في الباب السابع من الحصة الأولى من المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1822: (مسنا كتاب مشتمل على روايات اليهود المختلفة وشروح متون الكتب المقدسة، وظنهم في حقه ان اللّه لما أعطى موسى التورات على جبل طور سيناء أعطاه هذه الروايات أيضاً في ذلك الحين ووصلت من موسى إلى هارون والعازار ويوشع ومنهم إلى الأنبياء الآخرين ومن هؤلاء الأنبياء إلى المشايخ الآخرين وهكذا وصلت من جيل إلى جيل إلى أن وصلت إلى شمعون وهذا شمعون هو شمعون الذي أخذ ربنا المنجي على يديه ووصلت منه إلى كملئيل ومنه إلى يهودا حق دوش أي المقدس وهو جمعها في آخر القرن الثاني بمشقة في أربعين سنة في كتاب، وهذا الكتاب من هذا الوقت بطناً بعد بطن مستعمل في اليهود وكثيراً ما يكون عزة هذا الكتاب زائداً على القانون المكتوب) انتهى.

(ثم قال على مسنا شرحان يسمى كل منهما كمرا أحدهما كمر أورشليم الذي كتب في أورشليم على رأي بعض المحققين في القرن الثالث وعلى رأي فادرمون في القرن الخامس والثاني كمرا بابل الذي كتب في القرن السادس في بابل، وكمرا هذا مملوء بالحكايات الواهية لكنه عند اليهود معتبر عظيم ودرسه وتدريسه رائجان فيهم، ويرجعون إليه في كل مشكل مذعنين بأنه مرشد لهم، ويقال كمرا لأن معنى كمرا الكمال، وظنهم أن هذا الشرح كمال التوراة ولا يمكن أن يكون شرح أفضل منه، ولا حاجة إلى شرح آخر، وإذا انضم بالمتن كمرا أورشليم يقال للمجموع طالموت أورشليم وإذا انضم به كمرا بابل يقال للمجموع طالموت بابل) انتهى، فظهر من تحرير هذين المفسرين أربعة أشياء:

(الأول) أن اليهود يعتبرون الرواية اللسانية كالتوراة بل كثيراً ما يعظمونها تعظيماً زائداً عليه ويفهمون أنها بمنزلة الروح والتوراة بمنزلة الجسد وإذا كان حال التوراة هكذا فكيف حال الكتب الأخر.

(والثاني) أن هذه الروايات جمعها يهودا حق دوش في آخر القرن الثاني وكانت محفوظة بالحفظ اللساني إلى ألف وسبعمائة سنة، ووقع على اليهود في أثناء هذه المدة آفات عظيمة ودواهي جسيمة مثل حادثة بخت نصر وانيتوكس وطيطوس وغيرها بحيث انقطع التواتر في هذه الحوادث وضاعت الكتب كما عرفت في الباب الثاني، ومع ذلك عندهم اعتبارها أزيد من التوراة.

(والثالث) أن هذه الروايات في أكثر الطبقات مروية برواية واحد واحد مثل كلمئيل الأول والثاني شمعون الثاني والثالث، وهؤلاء ما كانوا من الأنبياء عند اليهود وكانوا عند المسيحيين من أشد الكفار المنكرين للمسيح ومع ذلك هذه الروايات عند اليهود مبنى الإيمان وأصل العقائد وعندنا الحديث الصحيح المروي برواية الآحاد لا يكون مبنى العقائد.

(والرابع) أن كمرا بابل لما كتب في القرن السادس فحكاياته الواهية على قول هورن كانت محفوظة بالرواية اللسانية فقط إلى مدة هي أزيد من ألفين، فإذا عرفت حال اليهود باعتراف محققي فرقة بروتستنت فاعلم الآن حال جمهور القدماء المسيحية. قال يوسي بيس الذي تاريخه معتبر عند علماء كاتلك وبروتستنت في الباب التاسع من الكتاب الثاني من تاريخه المطبوع سنة 1848 في الصفحة 87 في بيان حال يعقوب الحواري (أن كليمنس نقل حكاية قابلة للحفظ في كتابه السابع في بيان حال يعقوب، هذا والظاهر أن كليمنس نقل هذه الحكاية عن الروايات اللسانية التي وصلت إليه من الآباء والأجداد).

ثم نقل 2 في الباب الثالث والعشرين من الكتاب الثالث قول أرينيوس في الصفحة 123: (كنيسة أفسس التي بناها بولس وأقام فيها يوحنا الحواري إلى عهد سلطنة ترجان شاهد ذو إيمان لأحاديث الحواريين) ثم نقل 3 في تلك الصفحة قول كلمينس: (اسمعوا في حق يوحنا الحواري حكاية ليست بكاذبة بل هي صادقة محققة بقيت في الصدور محفوظة) ثم قال 4 في الباب الرابع والعشرين من الكتاب الثالث في الصفحة 126: (تلاميذ المسيح مثل الحواريين الاثني عشر والسبعين رسولاً وكثير من أناس آخرين لم يكونوا غير واقفين على الحالات المذكورة). أي الحالات التي كتبها الإنجيليون (لكن كتبها منهم متى ويوحنا فقط وعلم من الرواية اللسانية أن تحريرهما أيضاً كان لأجل الضرورة). ثم قال 5 في الباب الثامن والعشرين من الكتاب الثالث في الصفحة 132: (كتب أرينيوس في كتابه الثالث حالاً هو حري بأن يكتب، ووصل إليه هذا الحال من يوليكارب بالرواية اللسانية). ثم قال 6 في الباب الخامس من الكتاب الرابع في الصفحة 147: (لم أر حال أساقفة أورشليم بالترتيب في كتاب لكنه ثبت بالرواية اللسانية أنهم بقوا مدة قليلة). ثم قال 7 في الباب السادس والثلاثين من الكتاب الثالث في الصفحة 138: (وصل إلينا بالرواية اللسانية أنهم لما أذهبوا اكناثيوث إلى الروم ليقتلوه بإلقائه بين أيدي السباع لأجل كونه مسيحياً ومريابشيا في حفاظة العسكريين فقوى الكنائس المختلفة في أثناء الطريق بنصائحه وأقواله وأخبرهم عن البدعات التي كانت منتشرة في تلك الأيام أو كانت حدثت، ووصاهم باللصوق بالروايات اللسانية لصوقاً قوياً واستحسن أيضاً لأجل زيادة الحفظ أن كتب هذه الروايات وأثبت شهادته عليها). ثم قال 8 في الباب التاسع والثلاثين من الكتاب الثالث في الصفحة 142: (قال بي ببس في ديباجة كتابه اكتب لانتفاعكم جميع الأشياء التي وصلت من المشايخ إلي وحفظتها بعد التحقيق التام ليثبت زيادة تحقيقها بشهادتي عليها  لأني ما رضيت من قديم الزمان بسماع الأحاديث من الذين يلغون كثيراً ويعلمون نصائح أخرى أيضاً، بل سمعت الأحاديث من الذين لا يعلمون إلا النصائح الحقة التي هي مروية من ربنا الصادق، ومن لقيته من متبعي المشايخ سألته عن هذا أن اندراوس أو بطرس أو فيلبس أو ثوما أو يعقوب أو متى أو شخص آخر من تلاميذ ربنا أو أرستيون أو القسيس يوحنا مريد ربنا ماذا قال، لأن الفائدة التي حصلتها من ألسنة الأحباء ما حصلتها من الكتب). ثم قال 9 في الباب الثامن من الكتاب الرابع في الصفحة 151: (هجيسي بوس من مؤرخي الكنيسة مشهور ونقلت عن تأليفاته أشياء كثيرة نقلها عن الحواريين بالروايات اللسانية وكتب هذا المصنف مسائل الحواريين التي وصلت إليه بالرواية اللسانية بعبارة سهلة في خمس كتب).

ثم نقل 10 في الباب الرابع عشر من الكتاب الرابع قول أرينيوس في بيان حال بوليكارت في الصفحة 158: (علم بوليكارت دائماً ما تعلمه من الحواريين وبلغته الكنيسة بالرواية وكانت مسألة صادقة). ثم نقل 11 في الباب السادس من الكتاب الخامس عن قول أرينوس فهرست أساقفة الروم وقال في الصفحة 201: (الآن إلى تهيروس أسقفها الثاني عشر من السلسلة التي وصل إلينا بواسطتها الصدق والروايات اللسانية من الحواريين). ثم نقل 12 في الباب الحادي عشر من الكتاب الخامس قول كليمنس في الصفحة 206: (ما كتبت هذه الكتب لطلب الرفعة بل لظن كبرسني ولأن تكون ترياقات لنسياني جمعتها على طريق التفسير كأنها شروح للمسائل الإلهامية التي صرت بها معظماً بعد ما تعلمتها من الصادقين المباركين، ومنهم بوني كوس الذي كان في يونان والثاني الذي كان يقيم في ميكنيا كريشيا كان أحدهما سريانياً والآخر مصرياً وكان الباقون من سكان المشرق كان واحد  منهم أشورياً وواحد منهم عبرانياً من أهل فلسطين والشيخ الذي وصلت آخر إلى خدمته كان مختفياً في مصر وكان أفضل من المشايخ كلهم، وما طلبت شيخاً آخر بعده لأن أحداً ما كان أفضل منه وهؤلاء المشايخ حفظوا الروايات الصادقة التي هي منقولة من بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس جيلاً بعد جيل).

ثم نقل 13 في الباب العشرين من الكتاب الخامس قول أرينيوس في الصفحة 219: (سمعت بفضل اللّه هذه الأحاديث بالإمعان التام وكتبتها في صدري لا في القرطاس وعادتي من قديم الأيام أني أكررها بالديانة). ثم قال 14 في الباب الرابع والعشرين من الكتاب الخامس في الصفحة 222: (كتب بولي كراتيس الأسقف رواية وصلت إليه بالرواية اللسانية في كتابه الذي أرسله إلى وكتر وكنيسة الروم). ثم قال 15 في الباب الخامس والعشرين من الكتاب الخامس في الصفحة 226: (ناركثوس وتهيوفلوس وكاسيوس من أساقفة فلسطين وأسقف كنيسة اسور وأسقف تولمائي كلاروس والأشخاص الآخرون الذين جاؤوا مع هؤلاء الأساقفة قدموا أموراً كثيرة في حق الرواية التي وصلت إليهم في باب عيد الفصح من الحواريين منقولة بالرواية اللسانية جيلاً بعد جيل وكتبوا في آخر الكتاب أن أرسلوا نقوله إلى الكنائس لئلا يبقى للذين يضلون عن الصراط المستقيم سريعاً موضع الفرار). ثم قال 16 في الباب الثالث عشر من الكتاب السادس في بيان حال كليمنس اسكندريانوس الذي كان من أتباع تابعي الحواريين في الصفحة 246: (أنه قال في كتابه الذي ألف في بيان عيد الفصح أن الأحباء طلبوا مني أن أكتب لنفع الأجيال الآتية، الروايات التي سمعتها من الأساقفة). ثم قال 17 في الباب الحادي والثلاثين من الكتاب السادس في الصفحة 263: (ايفريكاتوس في رسالته التي هي موجودة إلى هذا الحين وكان أرسلها إلى ارستيديس يبين التطبيق بين بياني متى ولوقا في نسب المسيح باعتبار الرواية التي وصلت إليه من الآباء والأجداد) انتهى كلامه.

وعلم من أقواله السبعة عشر أن القدماء المسيحية كانوا يعتبرون الرواية اعتباراً عظيماً وقال جان ملتر كاتلك في كتابه الذي طبع في بلد دربي سنة 1843 في رسالته العاشرة التي أرسلها إلى جيمس برون: (إني كتبت فيما قبل أيضاً أن مبنى إيمان كاتلك ليس كلام اللّه الذي هو مكتوب فقط بل أعم مكتوباً كان أو غير مكتوب، يعني الكتب المقدسة والروايات اللسانية على ما شرحتهما كنيسة كاتلك به). ثم قال في تلك الرسالة 2 (أن أرينيوس قال في الباب الخامس من المجلد الثالث من كتابه إنه لا يوجد لطالبي الحق أمر سهل من أن يتفحصوا في كل كنيسة عن الروايات اللسانية التي هي منقولة عن الحواريين وأظهروها في العالم كله). ثم قال في تلك الرسالة 3: (أن أرينيوس قال في الباب الثالث من المجلد الأول من كتابه أن ألسنة الأقوام وإن كانت مختلفة، لكن حقيقة الرواية اللسانية في كل موضع متحدة، كنائس الجرمن ليست مخالفة في التعليم والعقائد لكنائس فرانس وأسبانيا والمشرق ومصر وليبيا). ثم قال في تلك الرسالة 4: (إن أرينيوس قال في الباب الثاني من المجلد الثالث ولما كان تحرير سلاسل الكنائس كلها يفضي إلى التطويل فلذلك نرجع إلى رواية وعقيدة كنيسة الروم التي هي قديمة وعظيمة ومشهورة جداً وبناها بطرس وبولس والكنائس كلها موافقة لها لأن الروايات اللسانية المنقولة  عن الحواريين جيلاً بعد جيل كلها محفوظة فيها). ثم قال في تلك الرسالة 5: (أن أرينيوس قال في الباب الرابع والستين من الكتاب الرابع ولو فرضنا أن الحواريين لم يتركوا الكتب لنا فنقول إنه أما كان لازماً علينا أن نطيع الأحكام التي ثبتت بالرواية اللسانية التي هي منقولة عن الحواريين وكانوا سلموها للناس الذين سلموها للكنيسة وهذه الروايات هي التي يعمل بحسبها الوحشيون الذين آمنوا بالمسيح بلا استعمال الحروف والمداد).

ثم قال في تلك الرسالة 6: (إن ترتولين قال في كتابه الذي ألفه لرد أهل البدعة وطبع في بلد رهنان في الصفحة 36 و 37: إن عادة أهل البدعة أنهم يتمسكون بالكتب المقدسة ويستدلون ويقولون إنه ليس غير الكتب المقدسة المكتوبة شيئاً قابلاً لأن يجعل مبنى الإيمان، ويقال بحسبه، ويعجزون بهذه الحيلة الأقوياء ويلقون الضعفاء في شبكاتهم، ويوقعون المتوسطين في الشك، ولذا نقول لا تجيزوا هؤلاء أبداً أن يناظروا مستدلين بالكتب المقدسة لأنه لا تترتب على المباحثة التي تكون بالكتب المقدسة فائدة ما غير أن يصير الدماغ والبطن خاليين فلذلك طريقة الرجوع إلى الكتب المقدسة غلط، لأنه لا يحصل انفصال أمر من هذه الكتب، وإن حصل شيء يكون على الوجه الناقص، ولو لم يكن هذا الأمر أيضاً كانت طريقة المباحثة في تلك الصورة أيضاً أن يحقق أولاً أن الكتب المقدسة علاقتها من أي الناس وبلغ أي شخص إلى أي شخص في أي وقت الرواية التي صرنا بسببها مسيحيين، لأن الموضع الذي يوجد فيه أحكام الدين المسيحي وعقائده يوجد فيه صدق الإنجيل ومعانيه وجميع روايات الدين المسيحي التي هي لسانية. ثم قال في تلك الرسالة 7: (إن أرجن قال إنه لا يليق بنا أن نعتبر الناس الذين ينقلون عن الكتب المقدسة ثم يقولون إن الكلام في بيتكم فانظروا فيه لأنه لا يليق بنا أن نترك الرواية الأولى التي في الكنيسة أو نعتقد غير ما بلغ إلينا كنائس اللّه برواية مسلسلة). ثم قال في تلك الرسالة 8: كتب باسليوس أن المسائل الكثيرة محفوظة في الكنيسة يوعظ بها أخذت بعضها من الكتب المقدسة وبعضها من الروايات اللسانية وقوتهما في الدين مساوية، ومن كان له وقوف ما على الشريعة العيسوية لا يعترض على هذا). ثم قال في تلك الرسالة: قال أبي فانيس في كتابه الذي ألفه في مقابلة المبتدعين ولنستعمل الرواية اللسانية لأن جميع الأشياء لا توجد في الكتب المقدسة). ثم قال في تلك الرسالة 19: (إن كريزاستم صرح في شرح الآية 3 الرابعة عشر من الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي ظهر من هذا صراحة أن الحواريين لم يبلغوا الأشياء كلها إلينا بواسطة التحرير، بل بلغوا أشياء كثيرة بدون التحرير أيضاً وكلتاهما متساويتان في الاعتبار ولذلك فلنلاحظ أن رواية الكنيسة منشأ الإيمان، وإذا ثبت شيء بالرواية اللسانية فلا نطلب زائداً عليه).

ثم قال في تلك الرسالة 11: (إن اكستائن كتب في حق الشخص الذي حصل له الاصطباغ من المبتدعين أنه وإن لم يوجد السند التحريري في هذا الباب لكنه فليلاحظ أن هذا الرسم أخذ من الرواية اللسانية لأن الأشياء الكثيرة تسلم الكنيسة العامة أن الحواريين قرروها وهي ليست بمكتوبة). ثم قال في تلك الرسالة 12: (إن الأسقف وان سنت قال: فليفسر المبتدعون الكتب المقدسة على وفق رواية الكنيسة العامة) انتهى كلامه. وعلم من أقواله الاثني عشر أن الروايات اللسانية مبنى إيمان فرقة كاتلك وكانت معتبرة عند القدماء. وفي الصفحة 64 من المجلد الثالث من كاتلك هرلد: (أورد رب موسى قدسي شواهد كثيرة على أن متن الكلام المقدس لا يفهم بدون معونة الحديث والرواية اللسانية، واقتدى مشايخ كاتلك بهذه القاعدة في كل وقت).

[2] (وقال ترتولين فليرجع لإدراك الشيء الذي علم المسيح الحواريين إلى الكنائس التي بناها الحواريون وعلموها بتحريراتهم ورواياتهم اللسانية انتهى. فعلم من هذه العبارات المذكورة أن اليهود عندهم تعظيم الروايات والأحاديث أزيد من تعظيم التوراة، وأن جمهور القدماء المسيحية مثل كليمنس وأرينيوس وهجيسي بوس وبوليكارب وبولي كراتيس وتاركثوس وتهيوفلوس وكاسيوس وكلاروس وكليمنس اسكندريانوس وايفريكانوس وترتولين وأرجن وباسلنوس وأبي فانيس وكريزاستم واكستاين وون سنت الأسقف وغيرهم، كانوا يعظمون الروايات اللسانية ويعتبرونها، واكناثيوس كان من وصاياه في آخر عمره التشبث بالروايات اللسانية تشبثاً قوياً، وكليمنس قال في وصف مشايخه إنهم حفظوا الروايات الصادقة المروية عن بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس جيلاً بعد جيل، وأبي فانيس قال الفائدة التي حصلتها من ألسنة الأحياء ما حصلتها من الكتب، وأرينوس قال سمعت الأحاديث بفضل اللّه بالإمعان التام وكتبتها في صدري لا في القرطاس، وعادتي من قديم الأيام أني أكررها دائماً بالديانة، وقال أيضاً أنه لا يوجد لطالبي الحق أمر أسهل من أن يتفحصوا في كل كنيسة عن الروايات اللسانية التي هي منقولة عن الحواريين وأظهروها في العالم كله، وقال أيضاً لو فرضنا أن الحواريين لم يتركوا الكتب لنا فنقول إنه أما كان لازماً علينا أن نطيع الأحكام التي ثبتت بالروايات اللسانية التي هي منقولة عن الحواريين، وارجن وترتولين يلومان على منكري الأحاديث، وباسليوس قال المسائل المأخوذة من الكتب المقدسة والمأخوذة من الأحاديث كلتاهما متساويتان في القوة، وكريزاستم قال كلتاهما متساويتان في الاعتبار ورواية الكنيسة منشأ الإيمان، وإذا ثبت شيء بالرواية اللسانية فلا نطلب زائداً عليه، واكستائن صرح أن الأشياء الكثيرة تسلم الكنيسة العامة أن الحواريين قرروها وإنها ليست بمكتوبة، فالإنصاف أن رد الجميع لا يخلو عن تعصب وجهل، ويكذب هذا الأمر إنجيلهم أيضاً في الآية.

[1] الرابعة والثلاثين من الباب الرابع من إنجيل مرقس هكذا: (وبدون مثل لم يكن يكلمهم وإما على انفراد، فكان يفسر لتلاميذه كل شيء) ويبعد أن لا يكون هذه التفسيرات كلها أو بعضها مروية، وأن يكون الحواريون محتاجين إلى التفسير ومعاصرونا لا يكونون كذلك.

[2] والآية الخامسة والعشرون من الباب الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا هكذا: (وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة، وكلام الإنجيل وإن لم يخل عن المبالغة والغلو لكنه لا شك أن قوله وأشياء أخرى كثيرة يشمل جميع أفعال المسيح معجزات كانت أو غيرها، ويبعد أن لا يكون شيء منها مروياً بالرواية اللسانية).

[3] والآية الخامسة عشر من الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هكذا: (فاثبتوا إذن أيها الأخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا). وقوله سواء كان بالكلام أم برسالتنا، يدل صراحة على أن بعض الأشياء وصلت إليهم بواسطة التحرير وبعضها بالكلام مشافهة، فلا بد أن يكون كلاهما معتبرين عند المسيحيين كما صرح كريزاستم في شرح هذا الموضع على ما عرفت.

[4] وفي الآية الرابعة والثلاثين من الباب الحادي عشر من الرسالة الأولى إلى أهل فورنيثوس في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا:

(فأما سائر الأشياء فسأوصيكم بها إذا قدمت إليكم) ومن البين أن هذه الأشياء الباقية أوصاهم بها شفاهاً عندما جاء إليهم وهذه لم تكتب ويبعد أن لا يكون شيء منها مروياً.

[5] والآية الثالثة عشر من الباب الأول من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس هكذا: (تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع). فقوله الذي سمعته مني يدل على أنه سمع بعض الأشياء شفاهاً.

[6] والآية الثانية من الباب الثاني من الرسالة المذكورة هكذا: وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون كفؤاً أن يعلموا آخرين أيضاً) فهنا مقدسهم يأمر تيموثاوس أن يعلم الأناس الأمناء الأحاديث التي سمعها منه، وأن يعلم الأمناء أناساً آخرين فلا بد أن تكون هذه الروايات مروية.

(7) وفي آخر الرسالة الثانية ليوحنا هكذا: (إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم بالفم لكي يكون فرحنا كاملاً).

[8] وفي آخر الرسالة الثالثة هكذا: (وكان لي كثير لأكتبه لكنني لست أريد أن أكتب إليك بحبر وقلم ولكنني أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم بالفم)، فهاتان الآيتان تدلان على أن يوحنا قال في المشافهة أشياء كثيرة على ما وعد ويبعد أن لا تكون هذه الأشياء كلها أو بعضها مروية برواية. فظهر مما ذكرنا أن من أنكر من فرقة بروتستنت اعتبار الأحاديث مطلقاً في الملة المسيحية فهو إما جاهل أو متعسف عنيد، وقوله مخالف لكتبه المقدسة ولجمهور علمائه من القدماء، وهو داخل في زمرة المبتدعين على قول بعض القدماء، ومع ذلك لا بد له من اعتبارها في كثير من هوسات فرقته مثل أن الابن مساوٍ للأب في الجوهر، وأن الروح القدس منشق من الأب والابن، وأن المسيح ذو طبيعتين وأقنوم واحد، وأنه ذو إرادتين إلهية وإنسانية، وأنه بعد ما مات نزل الجحيم، وغيرها من هوساتهم، مع أن هذه الكلمات لا توجد بعينها في العهد الجديد، وما اعتقدوا هذه الأمور إلا من الأحاديث والتقليدات، وأيضاً يلزم عليه أن ينكر كثير من أجزاء كتبه المقدسة مثل أن ينكر إنجيل مرقص ولوقا وتسعة عشر باباً من كتاب أعمال الحواريين، لأنها كتبت بالروايات اللسانية لا بالمشاهدة ولا بالوحي كما عرفت في الباب الأول، ومثل أن ينكر خمسة أبواب من الخامس والعشرين إلى التاسع والعشرين من سفر الأمثال لأنها جمعت في عهد حزقيا من الروايات اللسانية التي كانت جارية بينهم، وما بين زمان الجمع وموت سليمان عليه السلام مدة مائتين وسبعين سنة.

الآية الأولى من الباب الخامس والعشرين من السفر المذكور هكذا: هذه أيضاً أمثال سليمان التي استكتبتها أصدقاء حزقيا ملك يهوذا) قال آدم كلارك المفسر في تفسيره المطبوع سنة 1851 ذيل شرح هذه الآية: (يعلم أن في آخر هذا السفر أمثالاً جمعت بأمر حزقيا السلطان من الروايات اللسانية التي كانت جارية من عهد سليمان فجمعوا هذه الأمثال منها وجعلوها ضميمة هذا السفر، ويمكن أن يكون المراد بأحباء حزقيا أشعيا وشنيا وغيرهما من الأنبياء الذين كانوا في ذلك العهد. فتكون تلك الضميمة مثل السفر الباقي سنداً وإلا كيف ضموها بالكتاب المقدس) انتهى، فقوله جمعت بأمر حزقيا السلطان من الروايات اللسانية صريح فيما قلت، وقوله ويمكن أن يكون المراد إلخ، مردود لأنه مجرد احتمال لا يتم على المخالف بدون السند الكامل وليس عنده سند بل يقول احتمالاً ورجماً بالغيب، وقوله كيف ضموها بالكتاب المقدس مردود، لأن اليهود كان عندهم اعتبار الروايات أزيد من اعتبار التوراة، فإذا صارت التوراة سنداً عندهم معتبراً مع أنها جمعت من روايات المشايخ بعد ألف وسبعمائة سنة تقريباً، وكذا صارت قصص كمرا بابل معتبرة مع أنها جمعت بعد ألفي سنة، فأي مانع من اعتبار الأبواب الخمسة التي جمعت بعد مائتين وسبعين سنة، ولقد أنصف بعض المحققين من علماء بروتستنت واعترف أن الروايات اللسانية أيضاً معتبرة مثل المكتوب في الصفحة 63 من المجلد الثاني من كاتلك هرلد هكذا: (إن داكتربريت الذي هو من فضلاء بروتستنت قال في الصفحة 73 من كتابه إن هذا الأمر ظاهر من الكتب المقدسة أن الدين العيسوي صار مفوضاً إلى الأساقفة الأولين وتابعي الحواريين بالرواية اللسانية وكانوا مأمورين بأن يحافظوا عليه، ويفوضوه إلى الجيل المتأخر، ولا يثبت من كتاب مقدس سواء كان كتاب بولس أو غيره من الحواريين أنهم كتبوا متفقين أو منفردين  جميع الأشياء التي لها دخل في النجاة، وجعلوا قانوناً يفهم منه أنه لا يوجد فيه شيء ضروري له دخل في النجاة غير المكتوب، وقال في الصفحة 32 و 33 من الكتاب المذكور ترى بولس وغيره من الحواريين أنهم كما بلغوا إلينا الأحاديث بواسطة التحرير كذلك بلغوا بواسطة الرواية اللسانية أيضاً والويل للذين لا يحفظونهما، والأحاديث العيسوية في أمر الإيمان سند كالمكتوب، انتهى كلام داكتربريت. وقال أسقف مون نيك: (إن أحاديث الحواريين سند كمكتوباتهم ولا ينكر أحد من بروتستنت أن تقرير الحواريين اللساني أزيد من تحريرهم) وقال جلنك ورتهه: (إن هذا النزاع أن أي إنجيل قانوني وأي إنجيل ليس بقانوني يزول بالرواية اللسانية التي هي قاعدة الإنصاف لكل نزاع) انتهى كلام كاتلك هرلد. وقال القسيس طامس أنكلس كاتلك في الصفحة 180 و 181 من كتابه المسمى بمرآة الصدق المطبوع سنة 1851: (يشهد أسقف ماني سيك من علماء بروتستنت أن ستمائة أمر قررها اللّه في الدين وتؤمر الكنيسة بها ويقبل في حقها أن الكتاب المقدس ما بينها في موضع وما عملها) انتهى. فعلى اعتراف هذا الفاضل ستمائة أمر ثبتت بالرواية اللسانية وواجبه التسليم عند فرقة بروتستنت.

(الفائدة الثانية): هذا الأمر ظاهر بالتجربة الصحيحة أن الأمر العجيب أو المهتم بشأنه يكون محفوظاً لأكثر الناس، وخلافه لا يبقى محفوظاً غالباً لعدم الاهتمام، ولذلك إذا سألت الناس الذين لا يكونون متعودين على أكل طعام واحد مخصوص أو أطعمة مخصوصة ماذا أكلتم أمس أو قبل أمس لا يكون محفوظاً لأكثرهم غالباً لعدم الاهتمام بهذا الأمر وعدم كونه عجيباً أو عظيماً وهكذا الحال في أكثر الأفعال العامة، والأقوال العامة وإذا سألت عن حال الكوكب الذي كان من ذوات الأذناب وظهر في شهر صفر سنة  1259 من الهجرة وشهر مارس سنة 1843 من الميلاد وكان ظاهراً في الجو إلى شهر وكان في غاية الطول يكون محفوظاً للكثيرين من ناظريه وإن لم يكن شهر ظهوره، وعامه محفوظين لهم وقد مضت عليه مدة أزيد من إحدى وعشرين سنة وكذلك حال الزلازل العظيمة والمحاربات الشديدة والأمور النادرة، ولما كان اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في كل قرن، يوجد فيهم من حفاظ القرآن في هذا العصر أيضاً أزيد من مائة ألف في الديار الإسلامية كلها وإن زالت سلطنة أهل الإسلام من أكثر أقطار الممالك ووقع الفتور في الأمور الدينية في أكبر أقطارهم ومن كان شاكاً في هذا الأمر من المسيحيين فليجرب وليدخل في الجامع الأزهر فقط فيجد في كل وقت أكثر من ألف حافظ من حفاظ القرآن الذين حفظوه بالتجويد التام، ولو تتبع قرى مصر لا يجد قرية من قرى أهل الإسلام تكون خالية عن حفاظ القرآن ووجد كثيراً من البغالين والحمارين من أهل مصر أيضاً حافظين للقرآن، فإن أنصف اعترف البتة أن هؤلاء الحمارين والبغالين فائقون في هذا الباب على البابا والأساقفة والقسوس الذين يوجدون شرقاً وغرباً في هذا الزمان الذي هو زمان شيوع العلم في المسيحيين، فضلاً عن القرون السالفة المسيحية من الجيل السابع إلى الجيل الخامس عشر التي كان الجهل فيها بمنزلة شعار العلماء في تلك القرون على اعتراف علماء بروتستنت، وظني أنه لا يوجد في جميع ديار أوربا كلها عشرة من حفاظ الإنجيل أو التوراة أو كليهما بحيث يساوي حفظهم لأحدهما أو لكليهما حفظ هؤلاء البغالين والحمارين للقرآن، وقد عرفت في الفائدة الأولى قول أرينيوس أنه قال: (سمعت بفضل اللّه هذه الأحاديث بالإمعان التام وكتبتها في صدري لا في قرطاس وعادتي من قديم الأيام أني أكررها بالديانة). وقال أيضاً: (ألسنة الأقوام وإن كانت مختلفة لكن حقيقة الرواية اللسانية متحدة في كل موضع، فإن كنائس الجرمن ليست مخالفة في التعليم والعقائد لكنائس فرانس وأسبانيا والمشرق ومصر وليبيا). وقال وليم ميور في الباب الثالث من تاريخ كليسيا المطبوع سنة 1848: (القدماء المسيحية ما كان عندهم عقيدة مكتوبة من عقائد الإيمان التي اعتقادها ضروري للنجاة وكانت تعلم للأطفال وللذين كانوا يدخلون في الملة المسيحية تعليماً لسانياً، وهذه العقائد كانت متحدة قرباً وبعداً، ثم لما ضبطوها بالكتابة وقابلوها وجدوها مطابقة وما وجدوا فيها غير الاختلاف القليل اللفظي وما كان فرق في أصل المطلب) انتهى كلامه، فعلم أن الأمر الذي يكون مهتماً بشأنه يكون محفوظاً ولا يتطرق فيه خلل بمرور مدة طويلة، وهذا الأمر ظاهر في القرآن وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين سنة وهو كما أنه محفوظ بواسطة الكتابة في كل قرن فكذلك محفوظ في كل قرن أيضاً بواسطة صدور ألوف من الرجال، وأكثر فرق المسيحيين في هذا الزمان أيضاً بحيث لو لاحظنا حال كبار علمائهم وخواصهم فضلاً عن عوامهم، وجدناهم أنه لا يحصل لهم تلاوة كتبهم المقدسة، قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء بروتستنت في خاتمة كتابه المسمى بالدليل إلى طاعة الإنجيل المطبوع سنة 1849 في الصفحة 316: (أنني ذات يوم سألت كاهناً) من كهنة كاتلك (أن يجيبني بالصدق عن مطالعة الكتاب المقدس وكم مرة قرأه في مدة حياته فقال إنه كان يقرأ أحياناً وربما جملة أسفار لم يقرأها ولكن منذ اثنتي عشرة سنة لأجل انهماكه في خدمة الرعية لم يبق له فرصة المطالعة فيه، ولا يخلو أن كثيرين من الشعب يعرفون جهالة هؤلاء الاكليرس ولكنهم مع ذلك ينقادون إلى إرشادهم في المنع عن مطالعة الكتب المفيدة التي ترشدهم إليها) انتهى كلامه بلفظه.

 

(الفائدة الثالثة) الحديث الصحيح أيضاً معتبر عند أهل الإسلام على  الوجه الذي سنفصله ولما كان قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) متواتر رواه اثنان وستون صحابياً منهم العشرة المبشرة. كان أهل الإسلام مهتمين بالأحاديث النبوية من القرن الأول، وكان اهتمامهم في حفظ الأحاديث أزيد من اهتمام المسيحيين كما أن اهتمامهم في حفظ القرآن في كل قرن أشد من اهتمام المسيحيين في حفظ كتبهم المقدسة، لكن الصحابة لم يدونوها في الكتب في عهدهم لبعض الأعذار منها الاحتياط التام لأجل أن لا يختلط كلام الرسول بكلام اللّه، وتابعو الصحابة كالزهري والربيع بن صبيح وسعيد وغيرهم رحمهم اللّه شرعوا في تدوينها لكنهم ما كتبوها مرتبة على ترتيب أبواب الفقه، ولما كان هذا الترتيب حسناً ضبط تبع التابعين على هذا الترتيب، فالإمام مالك رحمه اللّه الذي ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة صنف الموطأ في المدينة، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج في مكة، وعبد الرحمن بن الأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في الكوفة، وحماد بن سلمة في البصرة، ثم صنف البخاري ومسلم صحيحيهما واقتصرا فيهما على ذكر الأحاديث الصحيحة وترك غيرها من الضعاف، واجتهد الأئمة المحدثون في أمر الأحاديث اجتهاداً عظيماً وقد صنف فن عظيم الشأن في أسماء الرجال يعلم به حال كل راو من رواة الحديث بأنه كيف كان حاله في الديانة والحفظ، وروى كل من أصحاب الصحاح الأحاديث بالإسناد منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبعض أحاديث البخاري ثلاثيات تصل بثلاث وسائط إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وينقسم الحديث الصحيح إلى ثلاثة أقسام متواتر [1] ومشهور [2] وخبر الواحد [3] فالمتواتر ما نقله جماعة عن جماعة لا يجوز العقل توافقهم على الكذب، مثاله كنقل أعداد ركعات الصلاة ومقادير الزكاة ونحوهما. والمشهور ما كان في عصر الصحابة كأخبار الآحاد ثم اشتهر في عصر التابعين أو عصر تبع التابعين وتلقته الأمة بالقبول في أحد العصرين الأخيرين فصار كالمتواتر، كالرجم في باب الزنا. وخبر الواحد ما نقله واحد عن واحد أو واحد عن جماعة أو جماعة عن واحد، والمتواتر منها يوجب العلم القطعي ويكون إنكاره كفراً، والمشهور يوجب علم الطمأنينة ويكون إنكاره بدعة وفسقاً، وخبر الواحد لا يوجب أحد العلمين المذكورين ويعتبر في العمل لا في إثبات العقائد وأصول الدين. وإذا خالف الدليل القطعي عقلياً كان أو نقلياً يؤول إن أمكن التأويل، وإلا يترك ولا يعمل بالدليل العقلي. والفرق بين الحديث الصحيح والقرآن بثلاثة أوجه: الأول أن القرآن كله منقول بالتواتر كما نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما بدل ناقلوه لفظاً بلفظ آخر مرادف له، بخلاف الحديث الصحيح لأن نقله بالمعنى أيضاً كان جائزاً للناقل الثقة الماهر بلغة العرب وأسلوب كلامهم، والثاني أن القرآن لما كان كله متواتراً يلزم الكفر بإنكار جملة منه أيضاً بخلاف الحديث الصحيح فإنه لا يلزم الكفر إلا بإنكار قسم منه وهو المتواتر دون المشهور وخبر الواحد، والثالث أن الأحكام تتعلق بألفاظ القرآن ونظمه أيضاً كصحة الصلاة وكون عبارته معجزة، بخلاف الحديث فإنه لا تتعلق الأحكام بألفاظه. وإذا عرفت ما ذكرت في الفوائد الثلاثة تحقق لك أنه لا يلزم من اعتبارنا الحديث الصحيح بالطريق المذكور شيء من القبائح والاستبعادات

 

 

الفصل الرابع: في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث.

 وهي خمس شبهات:

 

(الشبهة الأولى) أن رواة الحديث أزواج محمد صلى اللّه عليه وسلم وأقرباؤه وأصحابه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه. (والجواب) أن هذه الشبهة ترد عليهم بأدنى تغير بأن يقال إن رواة الحالات المسيحية وأقواله المندرجة في هذه الأناجيل أم عيسى عليهما السلام وأبوه الجعلي يوسف النجاري وتلاميذه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه، وإن قالوا إنه يحتمل أن إيمان أقارب محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كان لأجل الرياسة الدنيوية، قلت إن هذا الاحتمال ساقط لأنه صلى اللّه عليه وسلم إلى ثلاث عشرة سنة كان في غاية الألم من إيذاء الكفار وأصحابه رضي اللّه عنهم كانوا أيضاً مبتلين بغاية إيذائهم إلى المدة المذكورة حتى تركوا الأوطان وهاجروا إلى الحبشة والمدينة، ولا يتصور أن يتخيل أحد منهم إلى هذه المدة طمع الدنيا، على أن هذا الاحتمال قائم في الحواريين أيضاً لأنهم كانوا مساكين صيادين، وكانوا سمعوا من اليهود أن المسيح يكون سلطاناً عظيم الشأن، فلما ادعى عيسى بن مريم عليهما السلام أنه هو المسيح الموعود آمنوا به وفهموا أنه يحصل لهم باتباعه المناصب الجليلة، وينجون عن مشقة الشبكة والاصطياد ولما وعدهم عيسى عليه السلام: (بأني إذا جلست على السرير تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر سريراً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر) كما هو مصرح به في الباب التاسع عشر من إنجيل متى. وكذا وعدهم: (أن من ترك لأجلي ولأجل الإنجيل شيئاً يجد مائة ضعف الآن في هذا الزمان ويجد الحياة الأبدية في الدهر الآتي)، كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل مرقس، وكذا وعد بأشياء أخر، فتيقنوا أنهم يصيرون سلاطين يحكم كل منهم على سبط من أسباط إسرائيل وإن فات منهم شيء لأجل اتباعه يحصل لهم في هذه الدنيا بدله مائة ضعف هذا الشيء، ورسخ في أذهانهم هذا الأمر حتى طلب يعقوب ويوحنا ابناً زيدي، أو طلبت أمهما - على اختلاف رواية الإنجيلين - منصب الوزارة العظمى بأن يجلس أحدهما على يمين عيسى عليه السلام والآخر على يساره في ملكوته كما هو مصرح به في الباب العشرين من إنجيل متى، والباب العاشر من إنجيل مرقس، لكنهم لما رأوا أنه لم تحصل لهم السلطنة الخيالية ولا مائة ضعف في هذه الدنيا بل لم يحصل له أيضاً شيء من الدولة الدنياوية وهو مسكين كما كان يخاف من اليهود ويفر من موضع إلى موضع، ورأوا أن اليهود في صدد أن يأخذوه ويقتلوه تنبهوا أن فهمهم كان خطأ والمواعيد المذكورة كسراب يحسبه الظمآن ماء، فرضي واحد منهم بدل هذه السلطنة الخيالية وهذه الأضعاف الموهومة بثلاثين درهماً أخذها من اليهود على شرط تسليمه لهم، وتركه سائرهم حين ما أخذه اليهود وفروا وأنكروه ثلاث مرات، ولعنه أرشد الحواريين وأعظمهم الذي كان مبنى كنيسة وراعي خرافه وخليفته أعني حضرة بطرس، وحلف أني لا أعرفه، وصاروا آيسين مطلقاً من متخيلاتهم بعد ما صلب على زعمهم ثم لما رأوه مرة أخرى بعد القيام رجع رجاؤهم مرة أخرى وظنوا أنهم يصيرون سلاطين في هذه المرة فسألوه مجتمعين في وقت صعوده قائلين: هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل، (كما هو مصرح به في الباب الأول من كتاب الأعمال) وبعد الصعود وقعوا في خيال آخر هو أعظم من السلطنة الدنياوية التي لم تحصل لهم إلى زمان الصعود، وهو أن المسيح ينزل في عهدهم من السماء، وأن القيامة قريبة كما عرفت مفصلاً من الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وأنه بعد نزوله يقتل الدجال ويحبس الشيطان إلى ألف سنة، وأنهم يجلسون على الأسرة بعد نزوله ويعيشون عيشة مرضية إلى المدة المذكورة في هذه الدنيا، كما يفهم من الباب التاسع عشر والعشرين من كتاب المشاهدات، والآية الثانية من الباب السادس  من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس ثم يحصل لهم السرور الدائمي في الجنة إلى الأبد عند القيامة الثانية، فلأجل هذه الأمور بالغوا في مدحه وتقرير حالاته كما قال الإنجيلي الرابع في آخر إنجيله، (إن أشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب) ولا شك أنه كذب محض ومبالغة شاعرية قبيحة فكانوا يبالغون بأمثال هذه الأقوال ليوقعوا السفهاء في شبكاتهم حتى ماتوا غير واصلين إلى مرادهم، فلا اعتبار لشهادتهم في حقه، وهذا التقرير على سبيل الإلزام لا الاعتقاد كما صرحت به مراراً. فكما أن هذا الاحتمال في حق عيسى وحواريه الحقة عليهم السلام ساقط فكذلك احتمالهم في حق أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ساقط. وقد يشير القسيسون لأجل تغليط العوام إلى ما يتفوه به الفرقة الإمامية الاثني عشرية في حق الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين، والجواب عنه إلزاماً وتحقيقاً هكذا إما إلزاماً فلأن موشيم المؤرخ قال في المجلد الأول من تاريخه: (إن الفرقة الأبيونية التي كانت في القرن الأول كانت تعتقد أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من مريم ويوسف النجار مثل الناس الآخرين وطاعة الشريعة الموسوية ليست منحصرة في حق اليهود فقط، بل تجب على غيرهم أيضاً والعمل على أحكامه ضروري للنجاة.

ولما كان بولس ينكر وجوب هذا العمل ويخاصمهم في هذا الباب مخاصمة شديدة كانوا يذمونه ذماً شديداً ويحقرون تحريراته تحقيراً بليغاً انتهى. وقال لاردنر في الصفحة 376 من المجلد الثاني من تفسيره: (إن القدماء أخبرونا أن هذه الفرقة كانت ترد بولس ورسائله) انتهى. وقال بل في تاريخه في بيان هذه الفرقة: (هذه الفرقة كانت تسلم من كتب العهد العتيق التوراة فقط وكانت تنفر من اسم داود وسليمان وأرمياء وحزقيال عليهم السلام، وكان من العهد الجديد عندها إنجيل متى فقط لكنها كانت حرفته في كثير من المواضع وأخرجت البابين الأولين منه) انتهى، وقال في تاريخه في بيان الفرقة المارسيونية: (إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن الإله إلهان أحدهما خالق الخير وثانيهما خالق الشر وكانت تقول التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الإله الثاني وكلها مخالف للعهد الجديد ثم قال إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن عيسى نزل الجحيم بعد موته وأنجى أرواح قابيل وأهل سدوم من عذابها لأنهم حضروا عنده وما أطاعوا الإله خالق الشر وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصالحين الآخرين في الجحيم، لأنهم كانوا خالفوا الفريق الأول. وكانت تعتقد أن خالق العالم ليس منحصراً في الإله الذي أرسل عيسى، ولذلك ما كانت تسلم أن كتب العهد العتيق إلهامية وكانت تسلم من العهد الجديد إنجيل لوقا فقط لكنها ما كانت تسلم البابين الأولين منه وكانت تسلم من رسائل بولس عشرة رسائل لكنها كانت ترد ما كان مخالفاً لخيالها) انتهى. ونقل لاردنر في المجلد الثالث من تفسيره قول اكستائن في بيان فرقة ماني كبز هكذا: (هذه الفرقة تقول أن الإله الذي أعطى موسى التوراة وكلم الأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان من الشياطين، وتسلم بكتب العهد الجديد، لكنها تقر بوقوع الإلحاق فيها وتأخذ ما رضيت به وتترك الباقي وترجح بعض الكتب الكاذبة عليها وتقول إنها صادقة البتة) ثم قال لاردنر في المجلد المذكور: (اتفق المؤرخون أن هذه الفرقة كلها ما كانت تسلم الكتب المقدسة للعهد العتيق في كل وقت).

وكتب في أعمال اركلاس عقيدة هذه الفرقة هكذا: (خدع الشيطان أنبياء اليهود، والشيطان كلم موسى وأنبياء اليهود وكانت تتمسك بالآية الثامنة من الباب العاشر من إنجيل يوحنا بأن المسيح قال لهم سراق ولصوص وكانت  أخرجت العهد الجديد) انتهى، وهكذا حال الفرق الأخرى، لكني اكتفيت في نقل مذاهب الفرق الثلاثة المذكورة على عدد التثليث وأقول هل تتم أقوال هذه الفرق على علماء بروتستنت أم لا فإن تمت فيلزم عليهم الاعتقاد بهذه الأمور العشرة:

[1] أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من يوسف النجار.

[2] وأن العمل على أحكام التوراة ضروري للنجاة.

[3] وأن بولس شرير ورسائله واجبة الرد.

[4] وأن الإله إلهان خالق الخير وخالق الشر.

[5] وأن أرواح قابيل وأهل سدوم حصل لها النجاة من عذاب جهنم بموت عيسى عليه السلام وأرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء القدماء معذبة في جهنم بعد موته أيضاً.

[6] وأن هؤلاء كانوا مطيعين للشيطان.

[7] وأن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الشيطان.

[8] وأن الذي كلم موسى والأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان.

[9] وأن كتب العهد الجديد وقع فيها التحريف بالزيادة.

[10] وأن بعض الكتب الكاذبة صادقة البتة وإن لم تتم أقوال هذه الفرق عليهم فلا يتم قول بعض الفرق الإسلامية على جمهور أهل الإسلام سيما إذا كان هذا القول مخالفاً للقرآن ولأقوال الأئمة الطاهرين رضي اللّه عنهم أيضاً كما ستعرف.

وأما الجواب عنه تحقيقاً فلأن القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم.

[1] قال الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه الذي هو من أعظم علماء الإمامية الاثني عشرية في رسالته الاعتقادية: (اعتقادنا في القرآن أن القرآن الذي أنزل اللّه تعالى على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة وعندنا الضحى وألم نشرح سورة واحدة ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب) انتهى.

[2] وفي تفسير مجمع البيان الذي هو تفسير معتبر عند الشيعة: (ذكر السيد الأجل المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي أن القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم وأنه كان يعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى اللّه عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك بأدنى تأمل يدل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير منشور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته) انتهى.

[3] وقال السيد المرتضى أيضاً: (إن العلم بصحة القرآن كالعلم بالبلدان  والحوادث الكبار والوقائع العظام المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وبلغت حداً لم تبلغ إليه فيما ذكرناه لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وعنايته الغاية حتى عرفوا كل شيء فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد) انتهى.

[4] وقال القاضي نور اللّه الشوستري الي هو من علمائهم المشهورين في كتابه المسمى بمصائب النواصب: "ما نسب إليه الشيعة الإمامية بوقوع التغير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم" انتهى.

[5] وقال الملا صادق في شرح الكليني: (يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر ويشهر به) انتهى.

[6] وقال محمد بن الحسن الحر العاملي الذي هو من كبار المحدثين في الفرقة الإمامية في رسالة كتبها في رد بعض معاصريه: "هركسيكه تتبع أخبار وتفحص تواريخ وآثار نموده بعلم يقيني ميداندكه قرآن درغايه وأعلى درجة تواتر بوده وآلاف صحابة حفظ ونقل ميكردندآن راودر عهد رسول خدا صلى اللّه عليه وسلم مجموع ومؤلف بود) انتهى. فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنه كان مجموعاً مؤلفاً في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحفظه ونقله ألوف من الصحابة وجماعة من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدة ختمات ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر رضي اللّه عنه والشرذمة القليلة التي قالت بوقوع التغير. فقولهم مردود ولا اعتداد بهم فيما بينهم، وبعض الأخبار الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته وهو حق لأن خبر الواحد إذا اقتضى علماً ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده، على ما صرح ابن المطهر الحلي في كتابه المسمى (بمبادئ الوصول إلى علم الأصول)، وقد قال اللّه تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. في تفسير الصراط المستقيم الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة (أي إنا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان). انتهى. وإذا عرفت هذا فأقول إن القرآن ناطق بأن الصحابة الكبار رضي اللّه عنهم لم يصدر عنهم شيء يوجب الكفر ويخرجهم عن الإيمان.‏

 

1- قال اللّه تعالى في سورة التوبة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} فقال اللّه في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أربعة أمور: (الأول) رضوانه عنهم (والثاني) رضوانهم عنه (والثالث) تبشيرهم بالجنة (والرابع) وعد خلودهم فيها، ولا شك أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين، كما أن أمير المؤمنين علياً رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم هذه الأمور الأربعة وثبت صحة خلافتهم، فقول الطاعن في الثلاثة رضي اللّه عنهم مردود، كما أن قول الطاعن في حق الرابع رضي اللّه عنه مردود.‏

 

2- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضاً: {الذين آمنوا وهاجروا  وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن اللّه عنده أجر عظيم} فقال اللّه في حق المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أربعة أمور: (الأول) كون درجتهم أعظم عند اللّه (والثاني) كونهم فائزين بمرادهم (والثالث) كونهم مبشرين بالرحمة والرضوان والجنات (والرابع) خلودهم في الجنات أبداً، وأكد الأمر الرابع غاية التأكيد بثلاث عبارات أعني قوله مقيم، وقوله خالدين فيها أبداً، وقوله [أجر عظيم]، ولا شك أن الخلفاء الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، كما أن علياً رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم الأمور الأربعة.

 

3- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضاً: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} فقال اللّه في حق المؤمنين المجاهدين أربعة أمور: (الأول) كون الخيرات لهم (والثاني) كونهم مفلحين (والثالث) وعد الجنات (والرابع) خلودهم فيها. ولا شك أن الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المجاهدين فثبت هذه الأمور الأربعة لهم.

 

4- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضاً: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم. التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود اللّه وبشر المؤمنين} فوعد اللّه الجنة للمؤمنين المجاهدين وعداً موثقاً وذكر تسعة أوصاف لهم فثبت أنهم كانوا كذلك ويفوزون بالجنة.

 

5-  وقال اللّه في سورة الحج: {الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللَّه عاقبة الأمور} فقوله الذين إن مكناهم صفة لمن تقدم وهو قوله الذين أخرجوا، فيكون المراد به المهاجرين لا الأنصار لأنهم ما أخرجوا من ديارهم فوصف اللّه المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض وأعطاهم السلطنة أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قد ثبت أن اللّه مكن الخلفاء الأربعة رضي اللّه عنهم في الأرض، فوجب كونهم آتين بالأمور الأربعة، وإذا كانوا كذلك ثبت كونهم على الحق، وفي قوله للّه عاقبة الأمور دلالة على أن الذي تقدم ذكره من تمكينهم في الأرض كائن لا محالة، ثم إن الأمور ترجع إلى اللّه تعالى بالعاقبة فإنه هو الذي لا يزول ملكه.

 

6- وقال اللّه تعالى في سورة الحج: {وجاهدوا في اللّه حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} فسمى اللّه في هذه الآية الصحابة بالمسلمين.

 

7- وقال اللّه تعالى في سورة النور: {وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} ولفظ "من" في قوله منكم للتبعيض وكم ضمير الخطاب فيدلان على أن المراد بهذا الخطاب بعض المؤمنين الموجودين في زمان نزول هذه السورة لا الكل، ولفظ الاستخلاف يدل على أن حصول ذلك الوعد يكون بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومعلوم أنه لا نبي بعده  لأنه خاتم الأنبياء، فالمراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة، والضمائر الراجعة إليهم في قوله ليستخلفنهم إلى قوله لا يشركون وقعت كلها على صيغة الجمع، والجمع حقيقة لا يكون محمولاً على أقل من ثلاثة، فتدل على أن هؤلاء الأئمة الموعود لهم لا يكونون أقل من ثلاثة وقوله ليمكنن لهم إلى آخره وعد لهم بحصول القوة والشوكة والنفاذ في العالم فيدل على أنهم يكونون أقوياء ذوي شوكة، نافذ أمرهم في العالم، وقوله دينهم الذي ارتضى لهم يدل على أن الدين الذي يظهر في عهدهم هو الدين المرضي للّه وقوله ليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يدل على أنهم في عهد خلافتهم يكونون آمنين غير خائفين، ولا يكونون في الخوف والتقية، وقوله يعبدونني لا يشركون بي شيئاً يدل على أنهم في عهد خلافتهم أيضاً يكونون مؤمنين لا مشركين. فدلت الآية على صحة إمامة الأئمة الأربعة رضي اللّه عنهم سيما الخلفاء الثلاثة أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم، لأن الفتوحات العظيمة والتمكين التام وظهور الدين والأمن الذي كان في عهدهم لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه لاشتغاله بمحاربة أهل الصلاة في عهده الشريف، فثبت أن ما يتفوه به الشيعة في حق الثلاثة رضي اللّه عنهم أو الخوارج في حق عثمان وعلي رضي اللّه عنهما قول غير قابل للالتفات.

 

8- وقال اللّه تعالى في سورة الفتح في حق المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صلح الحديبية: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان اللّه بكل شيء عليماً} فقال في حقهم أربعة أمور:

(الأول) إنهم شركاء للرسول في نزول السكينة.  (والثاني) إنهم مؤمنون. (والثالث) إن كلمة التقوى لازمة غير منفكة عنهم. (والرابع) إنهم كانوا أحق بكلمة التقوى وأهلها، ولا شك أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما في هؤلاء المهاجرين فثبت لهما ولسائرهم هذه الأمور الأربعة، ومن اعتقد في حقهم غير هذه فعقيدته باطلة مخالفة للقرآن.

 

9- وقال اللّه تعالى أيضاً في سورة الفتح: {محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. فمدح الصحابة بكونهم أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم وكونهم راكعين، وساجدين، ومبتغين فضل اللّه ورضوانه، فمن اعتقد من مدعي الإسلام في حقهم غير هذا فهو مخطئ.

 

10- وقال اللّه تعالى في سورة الحجرات: {ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}. فعلم أن الصحابة كانوا محبي الإيمان كارهي الكفر والفسق والعصيان وكانوا راشدين، فاعتقاد ضد هذه الأشياء في حقهم خطأ.

 

11- وقال اللّه تعالى في سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان  بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.

فمدح اللّه المهاجرين والأنصار بستة أوصاف: (الأول) أن هجرة هؤلاء المهاجرين ما كانت لأجل الدنيا بل كانت لأجل ابتغاء مرضات اللّه. (والثاني) أنهم كانوا ناصرين لدين اللّه ورسوله. (والثالث) أنهم كانوا صادقين قولاً وفعلاً. (والرابع) أن الأنصار كانوا يحبون من هاجر إليهم. (والخامس) إنهم كانوا يسرون إذا حصل شيء للمهاجرين. (والسادس) أنهم كانوا يقدمونهم على أنفسهم مع احتياجهم، وهذه الأوصاف الستة تدل على كمال الإيمان ومن اعتقد في حقهم غير هذا فهو مخطئ وهؤلاء الفقراء من المهاجرين كانوا يقولون لأبي بكر رضي اللّه عنه يا خليفة رسول اللّه واللّه يشهد على كونهم صادقين فوجب أن يكونوا صادقين في هذا القول أيضاً ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.

 

12- وقال اللّه تعالى في سورة آل عمران: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}.

فمدح اللّه الصحابة بثلاثة أوصاف: (الأول) أنهم خير أمة. (والثاني) أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. (والثالث) أنهم كانوا مؤمنين باللّه، وهكذا الآيات الأخر لكني لخوف  التطويل أكتفي على اثني عشر موضعاُ على عدد الحواريين لعيسى عليه السلام وعدد الأئمة الطاهرين الاثني عشر رضي اللّه عنهم أجمعين.

وأنقل خمسة أقوال من أقوال أهل البيت عليهم السلام على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام.

-[1] في نهج البلاغة الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة قول علي رضي اللّه عنه هكذا: (للَّه در فلان فلقد 1: قوم الأود، 2: وداوي العمد، 3: وأقام السنة، 4: وخلف البدعة، 5: ذهب نقي الثوب، 6: قليل العيب، 7: أصاب خيرها، 8: وسبق شرها، 9: أدى إلى اللّه طاعته، 10: واتقاه بحقه رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيه الضال ويستيقن المهتدي) انتهى.

والمراد بفلان على مختار أكثر الشارحين منهم البحراني، أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وعلى مختار بعض الشارحين عمر الفاروق رضي اللّه عنه، فذكر علي رضي اللّه عنه عشرة أوصاف من أوصاف أبي بكر أو عمر رضي اللّه عنه فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي اللّه عنه فما بقي في صحة خلافته شك.

-[2] وفي كشف الغمة الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الاثني عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية (سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف هل يجوز، فقال: نعم قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، فقال الراوي: أتقول هكذا، فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق - فمن لم يقل له الصديق فلا صدق اللّه قوله في الدنيا والآخرة). فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة.

-[3] ووقع في بعض مكاتيب علي رضي اللّه عنه على ما نقل شارحو نهج البلاغة في حق أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما هكذا: (لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما اللّه وجزاهما اللّه بأحسن ما عملا).

-[4] ونقل صاحب الفصول الذي هو من كبار علماء الإمامية الاثني عشرية عن الإمام الهمام محمد الباقر رضي اللّه عنه هكذا: (إنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان ألا تخبروني أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً وينصرون اللّه ورسوله. قالوا: لا - قال: فأنتم من الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم. قالوا: لا - قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال اللّه تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.

فالخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي اللّه عنهم خارج عن الفرق الثلاث الذين مدحهم اللّه بشهادة الإمام الهمام رضي اللّه عنه. وفي التفسير المنسوب إلى الإمام الهمام الحسن العسكري رضي اللّه عنه وعن آبائه الكرام: (إن اللّه أوحى إلى آدم ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحاب محمد ما لو قسمت على كل عدد ما خلق اللّه من طول الدهر إلى آخره وكانوا كفاراً لأداهم إلى عاقبة محمودة وإيمان باللّه حتى يستحقوا به  الجنة. وإن من يبغض آل محمد وأصحابه أو واحداً منهم يعذبه اللّه عذاباً لو قسم على مثل خلق اللّه لأهلكهم أجمعين).

فعلم أن المحبة ما يكون بالنسبة إلى الآل والأصحاب رضي اللّه عنهم لا بالنسبة إلى أحدهما وإن بغض واحد من الآل والأصحاب كاف للهلاك. نجانا اللّه من سوء الاعتقاد في حق الصحابة والآل رضوان اللّه عليهم أجمعين وأماتنا على حبهم، ونظراً إلى الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة رضي اللّه عنهم.‏

 

(الشبهة الثانية) أن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الحالات المحمدية والمعجزات الأحمدية بأعينهم وما سمعوا أقوال محمد صلى اللّه عليه وسلم منه بلا واسطة بل سمعوها بالتواتر بعد مائة سنة أو مائتي سنة من وفاة محمد صلى اللّه عليه وسلم وجمعوها وأسقطوا مقدار نصفها لعدم الاعتبار.

(والجواب) قد عرفت في الفصل الثالث أن الرواية اللسانية معتبرة عند جمهور أهل الكتاب واعتبارها ثابت من هذا الإنجيل المتداول، وأن فرقة بروتستنت تحتاج إلى اعتبارها في أمور كثيرة هي على إقرار (ماني سيك) الأسقف بمقدار ستمائة، وأن خمسة أبواب من سفر الأمثال جمعت من الروايات اللسانية، في عهد حزقيا بعد مدة مائتين وسبعين سنة من موت سليمان عليه السلام، وأن إنجيل مرقس ولوقا وتسعة عشر باباً من كتاب الأعمال كتبت بالرواية اللسانية وأن الأمر المهتم بشأنه يكون محفوظاً ولا يتطرق فيه خلل بمرور مدة، وأن التابعين كانوا شرعوا في تدوين الأحاديث في الكتب لكنهم دونوها على غير ترتيب أبواب الفقه، وأن طبقة تبع التابعين دونوها على ترتيبها، ثم إن البخاري وباقي مؤلفي الكتب الصحاح اقتصروا على ذكر الأحاديث الصحيحة وتركوا الضعاف  وروى كل من أصحاب الصحاح الأحاديث بالإسناد منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد صُنف في أسماء الرجال فن عظيم الشأن يعلم به حال كل راوٍ من رواة الحديث، وكذا قد عرفت أن أهل الإسلام كيف يعتبرون الحديث الصحيح فلا يرد عليهم شيء، وقولهم سمعوها بالتواتر وأسقطوا مقدار النصف لعدم الاعتبار غلط لأنهم ما أسقطوا لعدم الاعتبار حديثاً من الأحاديث التي سمعوها بالتواتر لأن الحديث المتواتر عندهم واجب الاعتبار، نعم تركوا الضعاف التي لم تكن أسانيدها كاملة وتركها لا يضر كما قد عرفت.

في الباب الثاني من قول آدم كلارك: (إن هذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الكاذبة الغير الصحيحة هيجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية وكان (ثابري سيوس جمع) هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاث مجلدات) انتهى.‏

 

(الشبهة الثالثة) إن كل عاقل إذا ترك التعصب علم أن أكثر الأحاديث لا يمكن أن يكون معانيها صادقة مطابقة لما في نفس الأمر.

(والجواب) لا يوجد في الأحاديث الصحيحة شيء يكون مضمونه ممتنعاً عند العقل، وأما بعض المعجزات التي هي خلاف العادة، وبعض أحوال الجنة والجحيم والملائكة التي لا يوجد لها نظائر في هذه الدنيا فإن كان استبعادهم لها لأجل أنها ممتنعة بالبرهان فعليهم ذكر هذا البرهان وعلينا جوابه، وإن كان لأجل أنها خلاف العادة أو لا يوجد لها نظائر في هذا العالم فلا يضرنا لأن المعجزة لو كانت على مجرى العادة لا تكون معجزة، أليس صيرورة العصا ثعباناً وابتلاعها جميع تنانين السحرة ثم صيرورتها كما كانت بلا زيادة حجم، وهكذا جميع معجزات موسى عليه السلام على خلاف مجرى العادة، وقياس العالم الآخر على هذا العالم قياس مع الفارق، نعم لو قام البرهان القطعي على امتناع شيء يقطع بامتناعه في العالم الآخر أيضاً، وبدون قيام البرهان، لا يتجاسر على إنكاره في العالم الآخر، ألا يرون إلى اختلاف أحوال الأقاليم فإن بعض الأشياء توجد في بعض دون بعض، فمن كان من إقليم وسمع حال بعض الأشياء العجيبة المختصة بإقليم آخر يستبعد، بل كثيراً ما ينكر بشرط أن لا يكون سماعه بالتواتر.

وقد يكون بعض الأمور مستبعدة في بعض الأحيان دون بعض كما أن قطع هذه المسافة البحرية بهذه السرعة التي تقطع بالمراكب الدخانية، أو البرية التي تقطع بالعربيات الدخانية كان من المستبعدات عند الناس قبل إيجاد المراكب الدخانية، والعربيات الدخانية وكذا وصول الخبر في دقيقة أو دقيقتين إلى مسافة بعيدة بواسطة السلك المعروف كان من المستبعدات قبل إيجاده وما بقيت مستبعدة بعد اختراع هذه الأشياء وامتحانها.

لكن الإنصاف أن عادة المنكرين أنهم يغمضون عين الإنصاف ويحكمون على كل شيء يرى مستبعداً في آرائهم أنه محال، وتعلم علماء بروتستنت هذه العادة من أبناء صنفهم الذين يسمونهم الملاحدة، لكن العجيب من هؤلاء العلماء أنهم لا يرون أن كتبهم مملوءة بالأغلاط الصريحة كما نقلت بعضها على سبيل الأنموذج في الفصل الثالث من الباب الأول وأنهم ما تنبهوا باستبعادات أبناء صنفهم وعاملوا المسلمين بما عاملتهم أبناء صنفهم وقد كانت استبعادات أبناء صنفهم غالباً أقوى من استبعاداتهم الناقصة، وأنا أنقل بعض المواضع من المواضع التي يستهزؤون بها ويستبعدونها.. مثلاً:

 

[1] وقع في الباب الثاني والعشرين من كتاب العدد هكذا: 28: (ففتح الرب فم الأتانة وقالت لبلعام: ما الذي فعلت بك هذه ثلاث مرات قد ضربتني) 29: (فقال بلعام للأتان: لأنك استأهلت ذلك مني إلخ) 30: (فقالت الأتانة لبلعام: لست أنا أتانك التي تركب منذ كنت غلاماً إلى يومك هذا فهل فعلت بك مثل هذا فقال: لا).

قال هورن في الصفحة 636 من المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1822: (إن الكفار من زمان قليل يستهزؤون بتكلم أتان بلعام) انتهى.

[2] ووقع في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول أن الغربان 2 كانت تجيب اللحم والخبز لإلياء الرسول إلى مدة وهذا الأمر ضحكة عند أبناء صنفهم حتى مال محققهم المشهور هورن إلى رأيهم وسفه مفسريهم ومترجميهم بوجوه ثلاثة كما عرفتها في الفصل الثالث من الباب الأول.

[3] ووقع في الباب الرابع من كتاب حزقيال هكذا وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: [4]: (وأنت تنام على جانبك الأيسر وتجعل آثام بيت إسرائيل عليها على عدد أيام ترقد عليها وتتخذ إثمهم [5] أما أنا أعطيتك سني آثامهم على عدد أيام ثلثمائة وتسعين يوماً وتحمل إثم آل إسرائيل) 6: (ثم إذا كملت هذا تنام على جانبك اليمين ثانية وتتخذ إثم آل يهوذا أربعين يوماً إن يوماً عوض سنة جعلته لك) 7: (وتقبل بوجهك إلى محاصرة أورشليم وذراعك تكون مشدودة وتبني عليها) 8: (هوذ شددتك بوثاق ولا تلتفت من جانبك إلى الجانب الآخر حتى تتم أيام محاصراتك) 9: (وأنت خذ لك حنطة وشعيراً وفولاً وعدساً ودخناً وجاروس وتجعلهن في إناء واحد وتخبز لك خبزاً على عدد الأيام التي ترقد فيها على جانبك ثلثمائة وتسعين يوماً تأكله) 10: (وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن عشرين مثقالاً في كل يوم من وقت إلى وقت تأكله) 11: (وتشرب ماء بمقدار السدس من القسط من وقت إلى وقت تشربه) 12: (وكخبز ملة من شعير تأكله وتلطخه بزبل يخرج من الإنسان في عيونهم).

فأمر اللّه حزقيال عليه السلام بثلاثة أحكام:

(الأول) أن يرقد على جانبه الأيسر ثلثمائة وتسعين يوماً ويحمل إثم آل إسرائيل ثم يرقد على جانبه الأيمن أربعين يوماً ويحمل إثم آل يهوذا.

(والثاني) أن يقبل بوجهه إلى محاصرة أورشليم ويكون ذراعه مشدودة ولا يلتفت من جانب إلى جانب آخر حتى تتم أيام المحاصرة.

(والثالث) أن يأكل إلى ثلثمائة وتسعين يوماً خبزاً ملطخاً ببراز الإنسان وأبناء صنفهم يستهزئون بهذه الأحكام ويستبعدون أن تكون من جانب اللّه، ويقولون إنها واهية بعيدة عن العقل ولا يأمر اللّه أن يأكل نبيه المقدس إلى مدة ثلثمائة وتسعين يوماً خبزاً ملطخاً ببراز الإنسان، أما كان الإدام غير هذا، إلا أن يقال إن البراز في حق الطاهرين يكون طاهراً كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الآية الخامسة عشرة من الباب الأول من رسالته إلى تيطس، على أن اللّه قد أخبر بواسطته (إن النفس التي تخطئ فهي تموت والابن لا يحمل إثم الأب والأب لا يحمل إثم الابن، وعدل العادل يكون عليه ونفاق المنافق يكون عليه) كما هو مصرح به في الآية العشرين من الباب الثامن عشر من كتابه، فكيف أمره أن يحمل آثام إسرائيل ويهوذا إلى أربعمائة وثلاثين يوماً.

[4] ووقع في الباب العشرين من كتاب أشعيا أن اللّه أمره ان يكون عرياناً حافياً إلى ثلاث سنين ويمشي على هذه الحالة وأبناء صنفهم يستهزئون بهذا الحكم ويقولون استهزاءً، يأمر اللّه نبيه الذي يكون في قيد العقل ولا يكون مجنوناً أن يمشي مكشوف العورة الغليظة بين النساء والرجال إلى ثلاث سنين.

[5] ووقع في الباب الأول من كتاب هوشع أن اللّه أمره أن يأخذ لنفسه زوجة زانية وأولاد الزنا، ثم وقع في الباب الثالث من الكتاب المذكور أن يتعشق بامرأة فاسقة محبوبة لزوجها، وقد وقع في الآية الثالثة عشرة من الباب الحادي والعشرين من سفر الأحبار هكذا: (ولا يتزوج الكاهن إلا امرأة عذراء ولا يتزوج أرملة ولا مطلقة ولا منجسة بالزنا فلا يتزوج من هؤلاء البتة بل يتزوج عذراء من قومه).

وفي الباب الخامس من إنجيل متى هكذا: (كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه) فكيف أمر اللّه نبيه بما ذكر، وهكذا استبعادات أخر فمن شاء فليرجع إلى كتب أبناء صنفهم.‏

 

(الشبهة الرابعة) الأحاديث الكثيرة مخالفة للقرآن لأنه وقع في القرآن أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم ما ظهر منه معجزة وفي الأحاديث أنه صدر منه معجزات كثيرة وأنه وقع في القرآن أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم كان مذنباً، وفي أكثر الأحاديث أنه كان معصوماً، وأنه وقع في القرآن أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم كان في الابتداء في الجهل والضلالة كقوله في سورة الضحى: {ووجدك ضالاً فهدى} وكقوله في سورة الشورى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} وفي الأحاديث أنه تولد في الإيمان ولذلك ظهرت منه معجزات كثيرة. هذا غاية جهدهم في إثبات المخالفة بين القرآن والأحاديث.

(والجواب) أن الأمرين الأولين لما كانا من أعظم مطاعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أردت أن أتعرض لهما في الباب السادس في المطاعن وأجيب عنهما هناك فانتظر.

(والجواب عن الثالث) أن الضال في الآية الأولى ليس المراد به الضال عن الإيمان ليكون بمعنى الكافر فيرد اعتراضهم بل في تفسير هذه الآية وجوه:

(الأول) ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع وكاد الجوع يقتلني فهداني اللّه.

(والثاني) أن معناها وجدك ضالاً عن شريعتك أي لا تعرفها إلا بإلهام أو وحي فهداك إليها تارة بالوحي الجلي وأخرى بالخفي وهو مختار البيضاوي والكشاف والجلالين. في البيضاوي ووجدك ضالاً عن علم الحكم والأحكام فهدى، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر وجاء بهذا المعنى في حق موسى عليه السلام أيضاً في قوله تعالى: {فعلتها إذاً وأنا من الضالين}.

(والثالث) أنه يقال ضل الماء في اللبن إذ صار مغموراً، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك اللّه تعالى حتى أظهرت دينه. وجاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد}.

(والرابع) أن معناها كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع ولا خطر شيء في قلبك منها، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل  فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها البتة.

(والخامس) أن معناها وجدك ضالاً عن الهجرة لعدم نزول الإذن فهداك بالإذن.

(والسادس) أن العرب تسمي الشجرة في الفلاة ضالة كأنه تعالى يقول كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان إلا أنت فأنت شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ونظيره قوله عليه السلام الحكمة ضالة المؤمن.

(والسابع) أن معناها وجدك ضالاً عن القبلة فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك يحصل له أم لا فهدى اللّه بقوله: {فلنولينك قبلة ترضاها} فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال.

(والثامن) الضلال بمعنى المحبة كما في قوله تعالى: {إنك لفي ضلالك القديم} أي محبتك ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك.

(والتاسع) أن معناها وجدك ضالاً أي ضائعاً في قومك كانوا يؤذونك ولا يرضون بك رعية فقوى أمرك وهداك إلى أن صرت والياً عليهم..

(والعاشر) أن معناها ما كنت تهتدي على طريق السماوات فهديتك إذ عرجت بك إليها ليلة المعراج.

(والحادي عشر) أن معناها وجدك ضالاً أي ناسياً فهدى أي ذكرك وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة فهداه اللّه تعالى إلى  كيفية الثناء حتى قال لا أحصي ثناء عليك وجاء الضلال بهذا المعنى في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما}.

(والثاني عشر) قال الجنيد قدس سره: وجدك متحيراً في بيان ما أنزل عليك فهداك لبيانه لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} ويؤيده قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} وقوله عز وجل: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً}.

وعلى كل تقدير لا تمسك لهم بهذه الآية ويجب تفسير الآية بالوجوه التي ذكرتها وبأمثالها التي ذكرها المفسرون لقوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} إذ المراد به نفي الضلالة والغواية في أمور الدين بلا شبهة ومعناه ما كفر ولا أقل من ذلك فما فسق.

والمراد في الآية الثانية بالكتاب القرآن وبالإيمان تفاصيل شرائع الإسلام. ومعنى الآية ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا الفرائض والأحكام، وهذا حق لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان قبل الوحي مؤمناً بتوحيد الرب إجمالاً وما كان عارفاً بتفاصيل الإسلام بل صار عارفاً بعد الوحي أو المراد بالإيمان الصلاة كما في قوله تعالى: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم فمعنى الآية ما كنت تدري ما الكتاب أي القرآن ولا الإيمان أي الصلاة وما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عالماً بكيفية هذه الصلاة المشروعة في ملته قبل النبوة أو المراد بالإيمان أهل الإيمان على حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن بك.

وحذف المضاف كثير في كتبهم المقدسة أيضاً، الآية الثانية والعشرون من  الزبور الثامن والسبعين هكذا: (من أجل ذلك سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب وطلع السخط على إسرائيل).

وفي الآية الرابعة من الباب السابع عشر من كتاب أشعيا هكذا: (يضعف مجد يعقوب ويهزل سمن جسمه).

وفي الباب الثالث والأربعين من كتاب أشعيا هكذا: 22: (لا دعوتني يعقوب ولن تتعب لأجلي إسرائيل) 28: (فنجست الرؤساء القديسين وجعلت يعقوب قتلاً وإسرائيل تجديفاً).

وفي الباب الثالث من كتاب أرمياء هكذا: 6: (وقال لي الرب في أيام يوسيا الملك هل رأيت ما فعلته معاصية إسرائيل انطلقت لنفسها إلى كل جبل رفيع وتحت كل شجرة مورقة وزنت هناك) 7: (فقلت بعد ما فعلت هذه جميعها ارجعي إلي ولم ترجع فرأت أختها يهوذا الفاجرة) 8: (لأن من أجل أن زنت إسرائيل المعاصية فأنا طلقتها ودفعت إليه كتاب طلاقها فلم تخف يهوذا أختها الفاجرة بل ذهبت وزنت هي أيضاً) 11: (وقال لي الرب قد بررت نفسها إسرائيل المعاصية بمقابلة يهوذا الفاجرة) 12: (ارجعي يا إسرائيل المعاصية) وفي الباب الرابع من كتاب هوشع هكذا: 15: (إن كنت يا إسرائيل أنت تزني فلا يأثم يهوذا) إلخ 16: (لأن إسرائيل كبقرة شاغبة) إلخ 17: (صاحب الأوثان إفرام) إلخ وفي الباب الثامن من كتاب هوشع هكذا: 3: (أرذل إسرائيل الخير) إلخ 8: (ابتلع إسرائيل الآن صار في الأمم كإناء نجس إفرام أكثر مذابح للخطية) إلخ، (ونسي إسرائيل خالقه) إلخ.

ففي هذه العبارات يجب حذف المضاف وإلا يلزم والعياذ باللّه أن يكون يعقوب عليه السلام مغضوباً عليه وضعيف المجد وغير داع للّه وقتلاً  وتجديفاً ومعاصية زانية تحت كل شجرة وغير راجع إلى اللّه وكبقرة شاغبة ومرذل الخير وكإناء نجس وناسياً لخالقه.‏

 

(الشبهة الخامسة) الأحاديث مختلفة.

(والجواب) أن الاعتبار عندنا للأحاديث الصحيحة المروية في كتب الصحاح والأحاديث التي هي مروية في كتب غير معتبرة لا اعتبار لها عندنا ولا تعارض الصحيحة كما أن الأناجيل الكثيرة الزائدة على السبعين في القرون الأولى لا تعارض عند المسيحيين هذه الأناجيل الأربعة.

والاختلاف الذي يوجد في الأحاديث الصحيحة يرتفع غالباً بأدنى تأويل وليس ذلك الاختلاف مثل الاختلاف الذي يوجد في روايات كتبهم المقدسة إلى الآن كما عرفت مائة وأربعة وعشرين منها في الباب الأول ولو نقلنا عن كتبهم المقبولة الاختلافات التي تكون مثل اختلاف يثبتونه في بعض الأحاديث الصحيحة قلما يخرج باب يكون خالياً عن مثل هذا الاختلاف.

والذين تسميهم علماء بروتستنت ملاحدة نقلوا كثيراً من هذه الاختلافات في كتبهم واستهزؤوا بها، فمن شاء فليرجع إلى كتبهم.‏

 

 

[خمسون اختلافاً نقلوها في ذات اللّه وصفاته عن كتب العهدين]

 

وأنقل أيضاً بطريق الإنموذج عن كتاب جان كلارك المطبوع سنة 1839 في لندن وكتاب اكسيهومو المطبوع سنة 1813 في لندن وغيرهما خمسين اختلافاً نقلوها في ذات اللّه وصفاته عن كتب العهدين وأكتفي على نقل هذه الاختلافات. لأن المعترضين هداهم اللّه تعالى وإن جاوزوا فيها حد الأدب لكن هذه المجاوزة أقل من المجاوزة التي توجد في كلامهم عند  التشنيع على الأنبياء عليهم السلام سيما وقت التشنيع على مريم وعيسى عليهما السلام كما ستعرفه في الاختلاف الرابع والعشرين من القول الذي أنقله طردوا، إنما نقلت هذه الاعتراضات لتحصل البصيرة للناظر أن اعتراضات علماء بروتستنت على الأحاديث النبوية أضعف من اعتراضات أبناء صنفهم على مضامين كتبهم المقدسة وما نقلتها لأجل أنها مستحسنة عندي بل أتبرأ من أكثر خرافات الفريقين ونقل الكفر ليس بكفر.‏

 

(1) الآية الثامنة من الزبور المائة والخامس والأربعين هكذا: (الرب حنان رحوم بطيء عن الغضب وعظيم النعمة) والآية التاسعة عشر من الباب السادس من سفر صموئيل الأول هكذا: (وضرب الرب من أهل بيت شمس لأنهم رأوا تابوت الرب وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين) فانظروا إلى شدة رحمته وبطء غضبه أنه قتل خمسين ألف رجل وسبعين من قومه الخاص على خطأ خفيف.‏

 

(2) الآية العاشرة من الباب الثاني والثلاثين من سفر الاستثناء هكذا: (وجده في الأرض القفر في المكان المخيف والبرية المتسعة طاف به وعلمه وحفظه مثل حدقة عينه) وفي الباب الخامس والعشرين من سفر العدد 3 (وقال اللّه لموسى انطلق برؤساء الشعب كلهم وصلبهم قدام اللّه تلقاء الشمس فترتد شدة غضبي عن إسرائيل) 9 (وكان من مات أربعة وعشرون ألفاً من البشر) فانظروا إلى حفظه الشعب مثل حدقة عينه أنه أمر موسى بصلب رؤساء الشعب كلهم وأهلك منهم أربعة وعشرين ألفاً.‏

 

 

(3) الآية الخامسة من الباب الثامن من سفر الاستثناء هكذا: (أحسب في قلبك أنه كما أن الرجل يؤدب ابنه كذلك أدبك الرب إلهك) والآية  الثانية والثلاثون من الباب الحادي عشر من سفر العدد هكذا: (واللحم إلى هذا الحين كان بين أسنانهم ولم يفرغوا من أكله فإذا غضب الرب اشتد على الشعب فضربه ضربة عظيمة جداً) فانظروا إلى تأديبه كتأديب الأب ابنه أن هؤلاء المفلوكين لما حصل لهم اللحم وشرعوا في الأكل ضربهم ضربة عظيمة.‏

 

(4) في الآية الثامنة عشر من الباب السابع من كتاب ميخا في حق اللّه هكذا: (أنه مريد الرحمة) وفي الباب السابع من سفر الاستثناء في حق سبعة شعوب عظيمة هكذا: 2 (يسلمهم الرب إلهك بيدك فاضربهم حتى أنك لا تبقي منهم بقية فلا تواثقهم ميثاقاً ولا ترحمهم) 16 (فتبتلعالشعوب جميعهم الذين الرب إلهك يعطيك إياهم فلا تعف عنهم عيناك) إلخ. فانظروا إلى كونه مريد الرحمة أنه أمر بني إسرائيل بقتل سبعة شعوب عظيمة وعدم الرحمة عليهم وعدم العفو عنهم.‏

 

(5) في الآية الحادية عشر من الباب الخامس من رسالة يعقوب هكذا: (ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف). والآية السادسة عشر من الباب الثالث عشر من كتاب هوشع هكذا: (فلتهلك سامرة لأنها بغت على إلهها فيبادون بالسيف وأطفالهم ينطرحون وحبالهم تشقق بطونهن). فانظروا إلى كثرة رأفته في حق الأطفال والحبالى.‏

 

(6) في الآية الثالثة والثلاثين من الباب الثالث من مراثي أرمياء هكذا: (أنه من قلبه لا يؤذي بني آدم ولا يحزنهم)، لكن عدم إيذائه بني آدم وعدم تحزينهم بمرتبة أنه أهلك الأشدوديين بالبواسير كما هو مصرح به في الباب الخامس من سفر صموئيل الأول، وأهلك ألوفاً من عساكر الملوك الخمسة بإمطار الحجارة الكبيرة من السماء حتى كان الذين ماتوا بالحجارة أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف كما هو مصرح به في الباب العاشر من كتاب يوشع، وأهلك كثيراً من بني إسرائيل بإرسال الحيات كما هو مصرح به في الباب الحادي والعشرين من سفر العدد.‏

 

(7) في الآية الحادية والأربعين من الباب السادس عشر من سفر الأيام الأول هكذا: (أن فضله أبدي) والآية التاسعة من زبور المائة والخامس والأربعين هكذا: (الرب صالح للكل ورأفته على جميع خلقه) لكن أبدية فضله وعموم رأفته على جميع الخلق بمرتبة أنه أهلك جميع الحيوانات والإنسان غير أهل السفينة في عهد نوح عليه السلام بإرسال الطوفان وأهلك أهل سادوم وعاموره ونواحيها بإمطار الكبريت والنار من السماء كما هو مصرح به في الباب السابع والتاسع عشر من سفر التكوين.‏

 

 (8) الآية السادسة عشر من الباب الرابع والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: (لا تقتل الآباء عوض الأبناء ولا الأبناء بدل الآباء ولكن كل واحد يموت بذنبه). وفي الباب الحادي والعشرين من سفر صموئيل الثاني أن داود عليه السلام سلم سبعة أشخاص من أولاد شاول بأمر الرب بأيدي أهل جيعون ليقتلوهم بخطأ شاول فصلبوهم وقد كان داود عليه السلام عاهد شاول وحلف أن لا يهلك ذريته بعد موته كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من سفر صموئيل الأول فوجد نقض العهد أيضاً بأمر اللّه.‏

 

(9) في الآية السابعة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج هكذا: (يجازى الأبناء وأبناؤهم بإثم آبائهم إلى ثلاثة وأربعة أجيال) وفي الآية العشرين من الباب الثامن عشر من كتاب حزقيال هكذا: (النفس التي تخطئ فهي تموت والابن لا يحمل إثم الأب، والأب لا يحمل إثم الابن وعدل العادل يكون عليه وشر الشرير يقع عليه).  فيعلم منه أن الأبناء لا يحملون إثم الآباء إلى جيل واحد فضلاً عن أربعة أجيال وهذا الحمل لو كان إلى أربعة أجيال فقط كان مغتنماً لكن الإله الأب نقض هذا الحكم أيضاً وأمر بحمل إثم الآباء على الأبناء بعد أجيال كثيرة أيضاً.

في الباب الخامس عشر من سفر صموئيل الأول هكذا: (هكذا يقول الرب الصباووت إني ذكرت كل ما صنع عماليق بإسرائيل أنه قاومه في الطريق حيث صعدوا من مصر 3 فالآن اذهب فاضرب عماليق وأهلك جميع ما لهم ولا ترحمهم ولا ترغب من مالهم شيئاً بل اقتل من الرجال والنساء والغلمان حتى الأطفال والبقر والغنم والحمير أيضاً).  فانظروا إنه ذكر بقوة حافظته بعد أربعمائة سنة ما صنع عماليق بإسرائيل فأمر بعد هذه المدة بالانتقام من أولادهم وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم الصغار جداً ومواشيهم من البقر والغنم والحمير ولما لم يعمل شاول على أمره الشريف ندم على جعله ملكاً وترقى ابنه الوحيد الإله الثاني فأمر بحمل إثم الآباء على الأبناء بعد أربعة آلاف سنة.

في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متى قول هذا الإله الثاني في خطاب اليهود هكذا: (يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل) ثم ترقى الأب الإله الأول وتخيل أن إثم آدم محمول على أولاده إلى هذه المدة وقد مضت أزيد من أربعة آلاف وثلاثين سنة وقد مضى من آدم إلى يسوع خمس وسبعون جيلاً على ما صرح به لوقا في الباب الثالث من إنجيله ورأى أن أولاد آدم كلهم مستحقون للنار  لو لم تكن الكفارة كاملة جيدة وما رأى غير ابنه الإله الثاني حرياً بها بأن يصلب من أيدي أرذل أقوام الدنيا وهم اليهود، وما ظهر له طريق النجاة غير هذا فأمره أن يصلب وتركه ولم يغثه في شدته حتى صرح لأجل شدة العذاب ونادى الأب إلهي إلهي لماذا تركتني ثم صرخ ثانياً ومات وبعد موته صار ملعوناً ودخل الجحيم (والعياذ باللّه).  على أنه لم يثبت من كتاب من كتب العهد العتيق أن زكريا بن برخيا قتل بين الهيكل والمذبح. نعم صرح في الباب الرابع والعشرين من سفر الأيام الثاني أن زكريا بن يهويا داع الحبر قتل في صحن بيت الرب في عهد بواش الملك ثم عبيد الملك قتلوه بانتقام دم زكريا فحرف الإنجيل يهويا داع ببرخيا ولعل لوقا لأجل ذلك اكتفى في الباب الحادي عشر من إنجيله على اسم زكريا ولم يذكر اسم أبيه فانظروا إلى هذه الأمور التسعة كيف يثبت منها رحمة اللّه تعالى.‏

 

(10) في الآية الخامسة من الزبور الثلاثين هكذا: (أن غضبه لحظة) وفي الآية الثالثة عشر من الباب الثاني والثلاثين من سفر العدد هكذا: (فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل فأتاهم في القفار أربعين سنة حتى باد ذلك الخلف كله وهلك أولئك الذين أساؤوا قدامه) فانظروا إلى غضبه اللحظي أنه كيف عامل بني إسرائيل.‏

 

(11) في الآية الأولى من الباب السابع عشر من سفر التكوين: (أنا اللّه القادر) وفي الآية التاسعة عشر من الباب الأول من كتاب القضاة هكذا: (وكان الرب مع يهوذا وورث الجبال ولم يستطع يستأصل أهل الوادي لأن كانت لهم مراكب كثيرة من حديد) فانظروا إلى قدرته أنه لم يقدر على استئصال  أهل الوادي لكونهم ذوي مراكب كثيرة من حديد.‏

 

(12) في الآية السابعة عشر من الباب العاشر من سفر الاستثناء هكذا: (أن الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب إله عظيم جبار). والآية الثالثة عشر من الباب الثاني من كتاب عاموص هكذا ترجمة عربية سنة 1844: (ها أنا ذا أصر من تحتكم كما تصر العجلة المحملة حشيشاً) ترجمة فارسية سنة 1838: (ابنك من درزير شما جسبيده شدم جنانجه أرابه برازاقد جسبيده مي شود) انظروا إلى عظمته وجباريته أنه صر تحت بني إسرائيل كما تصر العجلة المحملة حشيشاً.‏

 

(13) في الآية الثامنة والعشرين من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (الرب الذي خلق أطراف الأرض لا يضعف ولا يتعب) والآية الثالثة والعشرون من الباب الخامس من كتاب القضاة هكذا: (العنوا أرض ما روض قال ملاك الرب العنوا سكانها لأنهم لم يأتوا إلى معونة الرب في مقابلة الأقوياء).  فانظروا إلى عدم ضعفه أنه كان محتاجاً إلى الإعانة في مقابلة الأقوياء ويلعن من لم يجيء لإعانته، ووقع في الآية التاسعة من الباب الثالث من كتاب ملاخيا هكذا: (صرتم ملعونين باللعنة لأنكم نعم هذا القوم كلهم نهبوني). وهذا أيضاً يدل على أن بني إسرائيل نهبوه فيلعنهم وظهر من هذه الأمثلة الأربعة حال قدرته.‏

 

(14) الآية الثالثة من الباب الخامس عشر من سفر الأمثال هكذا: (عينا الرب في كل مكان يترقبان الصالحين والطالحين) وفي الآية التاسعة من الباب الثالث من سفر التكوين هكذا: (فدعا الرب الإله آدم وقال له أين أنت). فانظروا إلى ترقب عينه في كل مكان أنه احتاج إلى الاستفهام من آدم حين اختفى في وسط شجرة الفردوس.‏

 

(15) في الآية التاسعة من الباب السادس عشر من سفر الأيام الثاني هكذا: (عينا الرب محيطتان بكل الأرض) والآية الخامسة من الباب الحادي عشر من سفر التكوين هكذا: (فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذي كان يبنيه بنو آدم).

فانظروا إلى إحاطة عينيه بكل الأرض أنه احتاج إلى النزول والنظر ليعلم حال المدينة والبرج.‏

 

(16) الآية الثانية من الزبور المائة والتاسع والثلاثين هكذا: (وميزت سعيي وسكوني وأطلعت على طرقي كلها) يعلم منه أن اللّه عالم طرق العباد كلها وأفعالهم وفي الباب الثامن عشر من سفر التكوين هكذا: 2 (فقال الرب أن صراخ سادوم وعاموره قد كثر وخطيتهم ثقلت جداً) 21 (أنزل أنظر أن فعلهم يشاكل الصراخ الآتي أم لا لأعلم ذلك). فانظروا إلى كونه عالم طرق العباد وأفعالهم كلها أنه احتاج إلى النزول والنظر ليعلم أن فعل أهل سادوم وعاموره يشاكل الصراخ الواصل إليه أم لا.‏

 

(17) الآية الخامسة من الزبور المذكور هكذا: (فما أعجب هذا العلم عندي فهو أرفع من أن أدركه)، وفي الآية الخامسة من الباب الثالث والثلاثين من سفر الخروج هكذا: (أما الآن فاعزلوا عنكم زينتكم فاعلم ما أفعله بكم). فانظروا إلى علمه الخارج عن الإدراك أنه لم يعلم ما يفعل بهم ما لم يعزلوا زينتهم والآية الرابعة من الباب السادس عشر من سفر الخروج هكذا: (فقال الرب لموسى إني أمطر عليكم خبزاً من السماء فليخرج الشعب ويلقطوا يوماً بيوم طعامهم من أجل أني أمتحنهم) والآية الثانية من الباب الثاني من سفر الاستثناء هكذا: (واذكر كل الطريق الذي ساسك به الرب إلهك أربعين سنة في القفار ليعذبك ويبتليك وبيان كل ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا).

فالرب محتاج إلى الامتحان ليعلم ما في قلوبهم فامتحنهم بإمطار الخبز وبسياستهم أربعين سنة في القفار فعلم من هذه الأمثلة الستة حال كونه عالم الغيب).‏

 

(18) في الآية السادسة من الباب الثالث من كتاب ملاخيا هكذا: (فإني أنا الرب ولا أتغير). وفي الباب الثاني والعشرين من سفر العدد هكذا: 20 (فأتى اللّه بلعام في الليل وقال له إن كان هؤلاء القوم إنما جاؤوا ليدعوك فانطلق معهم ولكن لا تفعل إلا الذي أقوله لك 21 فقام بلعام غدوة وركب أتانة وانطلق مع عظماء مواب 22 فغضب اللّه عليه لما ذهب) الخ. فانظروا إلى عدم تغيره أنه أتى في الليل وأمر بلعام بالانطلاق مع عظماء مواب ولما فعل بلعام ما أمر غضب عليه.‏

 

(19) في الآية السابعة عشر من الباب الأول من رسالة يعقوب هكذا: (ليس عنده تغير ولا ظل دوران) وقد أمر بمحافظة السبت في أكثر المواضع من كتب العهد العتيق وصرح في كثير منها أنه أبدي والقسيسون بدلوا السبت بالأحد فيلزم عليهم الاعتراف بأنه متغير.‏

 

(20) في الباب الأول من سفر التكوين وقع في حق السماء والكواكب والحيوانات أنها حسنة وفي الآية الخامسة عشر من الباب الخامس عشر من كتاب أيوب هكذا: (والسماء ليست بظاهرة قدامه) وفي الآية الخامسة من الباب الخامس والعشرين هكذا: (والكواكب لا تزكو بين يديه) ووقع في الباب الحادي عشر من سفر الأحبار في حق كثير من البهائم والطيور وحشرات الأرض أنها قبيحة محرمة.‏

 

(21) في الآية الخامسة والعشرين من الباب الثامن عشر من كتاب حزقيال هكذا: (فاسمعوا يا بيت إسرائيل، طريقي ليس بمستقيم أم لا ليس بالحري أن طرقكم خبيثة). وفي الباب الأول من كتاب ملاخيا هكذا: 2 (أني أجبتكم قال الرب وقلتم في أي شيء أجبتنا أليس إنه عيسو أخ ليعقوب، يقول الرب وأحببت يعقوب) 3 (وبغضت عيسو وجعلت جباله قفراً وميراثه لتنانين البرية) انظروا إلى استقامة طريقه أنه بغض عيسو بلا سبب وجعل جباله قفراً وميراثه لتنانين البرية.‏

 (22) في الآية الثالثة من الباب الخامس عشر من المشاهدات هكذا: (أيها الرب الإله القادر على كل شيء طرفك عادلة وحق).

والآية الخامسة والعشرون من الباب العشرين من كتاب حزقيال هكذا: إذا أعطيتهم أنا وصايا غير حسنة وأحكاماً لا يعيشون بها.‏

 

(23) الآية الثامنة والستون من الزبور المائة والتاسع عشر هكذا: (رب إنك صالح ومصلح فعلمني سننك) والآية الثالثة والعشرون من الباب التاسع من كتاب القضاة هكذا: (وسلط الرب روحاً ردياً بين أبي مالك وسكان شخيم وبدوا يبغضوه) فانظروا إلى إصلاحه أنه سلط الروح الرديء لهيجان الفتنة.‏

 

(24) يوجد في الآيات الكثيرة حرمة الزنا ولو فرض أن القسيسين صادقون في قولهم يلزم أن الرب نفسه زنى بزوجة يوسف النجار المسكين فحملت من هذا الزنا (والعياذ باللّه). والملاحدة في هذا الموضع يتجاوزون عن الحد ويستهزئون استهزاءً بليغاً بحيث تقشعر منه جلود المؤمنين، وأنا أنقل لتنبه الناظر ما قال صاحب اكسيهومو وأحذف استهزاءه. قال هذا الملحد في الصفحة 44 من كتابه المطبوع سنة 1813: (ذكر في إنجيل) اسمه تي تي وتي أف ميري ويعد في هذا الزمان من الأناجيل الكاذبة أن مريم عليها السلام كانت محررة لخدمة بيت المقدس وكانت هناك إلى أن بلغت ست عشرة سنة واختار فادر جيروم زاوير هذا المذكور بعد ما اعتقد صحته فحينئذ يحتمل أن مريم حبلت من كاهن من كهنة البيت وهو علمها أن تقول أني حبلت من روح القدس) انتهى. ثم استهزأ هذا الملحد بتحرير لوقا استهزاءً بليغاً فقال: إن هذا الحال ثبت عند اليهود هكذا: (أن ولد عسكري كان يحبها ومن حركته الشنيعة تولد مسيح اليسوعيين فسخط عليها يوسف النجار لأجل هذا الأمر وترك هذه الزوجة الخائنة وذهب إلى بابل وذهبت مريم مع يسوع إلى مصر وتعلم يسوع هناك النيرنجات وجاء بعد تعلمها إلى اليهودية ليريها الناس) انتهى. ثم قال: (اشتهرت الحكايات الكذائية الواهية الكثيرة بين الوثنيين مثل أنهم يعتقدون أن إلههم منرو تولد من دماغ جوبتر وكان بي كس في فخذ جوبتر، وإله أهل الصين فتولد من العذراء التي حبلت من شعاع الشمس) انتهى ملخصاً.

ويناسب هذا المقام حكاية نقلها جان ملنر في كتابه المطبوع سنة 1838: (ادعت جؤانا سوأت كوت الإلهام قبل هذا الزمان بمدة قليلة وقالت: إني أنا الامرأة التي قال اللّه في حقها في الآية الخامسة عشر من الباب الثالث من سفر التكوين: (هي تستحق رأسك). ووقع في حقها في الباب الثاني عشر من المشاهدات هكذا: [1] وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها أكليل من اثني عشر كوكباً [2] وهي حبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد. وإني حبلت من عيسى عليه السلام وتبعها كثير من المسيحيين وحصل لهم من هذا الحمل فرح كثير وصنعوا أظرف الذهب والفضة) انتهى كلامه.  لكنا ما سمعنا أنها ولدت من هذا الحمل ولداً مباركاً أم لا وفي الصورة الأولى هل حصلت رتبة الألوهية لهذا الولد السعيد مثل أبيه أم لا، وفي صورة الحصول هل بدل في معتقدية اعتقاد التثليث بالتربيع أم لا، وكذا هل بدل لقب اللّه الأب بالجد أم لا.‏

 

(25)  في الآية التاسعة عشر من الباب الثالث والعشرين من سفر العدد هكذا: (ليس اللّه برجل فيكذب ولا ابن لإنسان فيندم).

وفي الباب السادس من سفر التكوين هكذا: 6 فندم على عمله الإنسان على الأرض فتأسف بقلبه داخلاً 7 وقال فامحوا البشر الذي خلقته عن وجه الأرض من البشر حتى الحيوانات من الدبيب حتى طير السماء لأني نادم أني عملتهم.‏

 

 (26) الآية التاسعة والعشرون من الباب الخامس عشر من سفر صموئيل الأول هكذا: (فإن عزيز إسرائيل لا يكذب ولا يندم) لأنه ليس بإنسان فيندم. وفي الباب المذكور هكذا: 10: (وكان قول الرب على صموئيل قائلاً 11 ندمت على أني صيرت شاول ملكاً) الخ 35، الرب أسف على أنه ملك شاول.‏

 

 (27) في الآية الثانية والعشرين من الباب الثاني من سفر الأمثال هكذا: (من الشفة الكاذبة نفرة للرب). وفي الباب الثالث من سفر الخروج هكذا: 17 (وقلت إني أصعدكم من استعباد أهل مصر إلى أرض الكنعانيين والحبشيين والأموريين والفرزيين والحوريين واليابوسيين إلى الأرض التي تجري لبناً وعسلاً) 18 (وهم يسمعون صوتك وتدخل أنت وشيوخ إسرائيل إلى ملك مصر وتقول له الرب إله العبرانيين دعانا فنمضي مسيرة ثلاثة أيام في البرية لكي نذبح ذبيحة للرب إلهنا). والآية الثالثة من الباب الخامس من السفر المذكور فقالا: أي موسى وهارون له أي لفرعون: (إله العبرانيين دعانا لنذهب مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح ذبائح للرب إلهنا لئلا يصيبنا وباء أو حرب).

وفي الآية الثانية من الباب الحادي عشر من السفر المذكور قول اللّه تعالى في خطاب موسى عليه السلام هكذا: (فتحدث في مسمع الشعب أن يسأل الرجل صاحبه والمرأة من صاحبتها أواني فضة وأواني ذهب). والآية الخامسة والثلاثون من الباب الثاني عشر من سفر الخروج هكذا: (وفعل بنو إسرائيل كما أمر موسى واستعاروا من المصريين أواني فضة وذهب وشيئاً كثيراً من الكسوة). فانظروا إلى نفرته من الكذب أنه أمر موسى وهارون أن يكذبا عند فرعون فكذبا وكذلك كذب كل رجل وكل امرأة وأمر بالخداع وأخذ كل مال  جاره بالخديعة وتصرف به، وقد أمر في مواضع من التوراة بأداء حق الجار، أيكون أداء حقه كما أمر وقت خروجهم وأيليق باللّه أن يعلمهم الغدر والخيانة. وفي الباب السادس عشر من سفر صموئيل الأول (قال الرب لصموئيل: املأ قرنك دهناً وتعال أبعثك إلى أيسي الذي من بيت لحم فإني قد رأيت لي في بنيه ملكاً) قال صموئيل: كيف أذهب فيسمع شاول فيقتلني. فقال الرب: خذ بيدك عجلة من البقر وقل إني جئت لأقرب ذبيحة للرب. فصنع صموئيل كما أمر الرب وأتى إلى بيت لحم) انتهى ملخصاً. فأمر اللّه صموئيل أن يكذب لأنه كان أرسله لمسح داود وجعله سلطاناً لا للذبح، وعرفت في جواب الشبهة الثالثة في الفصل الثاني من هذا الباب أن اللّه أرسل روح الضلالة ليقع في أفواه نحو أربعمائة نبي كذبة (ويضلهم فيكذبون) فمن هذه الأمثلة الأربعة يظهر نفرته من الشفة الكاذبة.‏

 

 (28) الآية السادسة والعشرون من الباب العشرين من سفر الخروج هكذا: (لا تصعد على مذبحي بدرج لئلا تنكشف عليه عورتك).

فعلم منه أنه لا يجب انكشاف عورة الرجل فضلاً عن عورة الامرأة.  وفي الآية السابعة عشر من الباب الثالث من كتاب أشعيا: (الرب يقلع عورات بنات صهيون).  وفي الباب السابع والأربعين من كتاب أشعيا هكذا: 2 (خذي الرحى واطحني دقيقاً أعرى عارك اكشفي كتفك أظهري ساقيك جوزي الأنهار) 3 (ينكشف عيبك ويظهر عارك أنتقم ولا يقاومني بشر).  والآية الثامنة عشر من الباب العشرين من سفر التكوين هكذا: (لأن الرب أعقم جميع من في بيت أبي مالك من أجل سارة امرأة إبراهيم). والآية الحادية والثلاثون من الباب التاسع والعشرين هكذا: (فلما رأى الرب أن ليا مبغوضة فتح رحمها وكانت راحيل عاقراً). والآية الثانية والعشرون من الباب الثلاثين من السفر المذكور هكذا: (فذكر الرب راحيل واستجاب لها وفتح رحمها). فانظروا إلى نفرته من كشف عورة الرجال ورغبته إلى قلع عورات النساء وأعرائهن وفتح أرحامهن وسدها.‏

 

 (29)  في الآية الرابعة والعشرين من الباب التاسع من كتاب أرمياء هكذا: (أنا الرب الصانع الرحمة والقضاء والعدل في الأرض).

وقد عرفت حال ارتضائه بالرحمة والصدق فاعرف حال عدله في الباب الحادي والعشرين من كتاب حزقيال هكذا: [3] (وتقول لأرض إسرائيل هكذا: (يقول الرب الإله ها أنا ذا إليك وأسل سيفي من غمده وأقتل فيك البار والمنافق) [4] ومن أجل أني قتلت فيك باراً ومنافقاً فلهذا يخرج سيفي من غمده إلى كل جسد من التيمن إلى الشمال). فلو سلم أن أقتل المنافق عند علماء بروتستنت عدل لكن كيف يكون قتل البار عدلاً عندهم. وفي الباب الثالث عشر من كتاب أرمياء هكذا: 13 (فنقول لهم هكذا يقول الرب ها أنا ذا أملي سكراً جميع سكان هذه الأرض والملوك الجالسين من ذرية داود على كرسيه والكهنة والأنبياء وجميع سكان أورشليم 14 وأبددهم رجلاً عن أخيه، والآباء والأبناء جميعاً. يقول الرب لست أرحم ولا أعفي ولا أتحنن حتى أهلكهم) فأملأ جميع سكان هذه الأرض سكراً ثم قتلهم أي عدل.

والآية التاسعة والعشرون من الباب الثاني عشر من سفر الخروج هكذا: (ولما انتصف الليل قتل الرب كل أبكار أهل مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه حتى إلى بكر المسبية التي في السجن وكل أبكار البهائم). فقتل جميع أبكار أهل مصر وأبكار البهائم أي عدل، لأن الوفاء من أبكار أهل مصر كانوا أطفالاً معصومين، وكان أبكار البهائم أيضاً غير مذنبين.‏

 

(30) الآية الثالثة والعشرون من الباب الثامن عشر من كتاب حزقيال هكذا: (العلى مرضاتي هو موت المنافق يقول الرب الإله إلا أن يتوب من طرقه فيعيش). والآية الحادية عشر من الباب الثالث والثلاثين هكذا: (فقل لهم حتى أنا يقول الرب الإله لست أريد موت المنافق بل أن يتوب المنافق من طريقه ويعيش) الخ. فعلم من هاتين الآيتين أن اللّه لا يحب موت الشرير بل يحب أن يتوب الشرير وينجو. والآية العشرون من الباب الحادي عشر من كتاب يوشع هكذا: (فقسى الرب قلوبهم وأهلكهم).‏

 

(31) الآية الرابعة من الباب الثاني من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس هكذا: (الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون).

وفي الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هكذا: 11 ولأجل هذا سيرسل إليهم اللّه عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب 12 لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم.‏

 

(32)  الآية الثامنة عشر من الباب الحادي والعشرين من سفر الأمثال هكذا: (عوض الصديق يسلم المنافق وعوض المستقيمين الأثيم).

والآية الثانية من الباب الثاني من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً).

ففهم من الآية الأولى أن الأشرار يكونون كفارات للصلحاء ومن الثانية أن المسيح عليه السلام الذي هو معصوم عند المسيحيين صار كفارة للأشرار.

(فائدة) ما ادعى بعض القسيسين من أن المسلمين ليس لهم كفارة جيدة غلط، لأنا لو تأملنا في حكم عبارة الأمثال ونظرنا إلى طوائف بني آدم وجدنا أن الكفارات المتعددة من المنكرين لمحمد صلى اللّه عليه وسلم موجودة لكل فرد من المسلمين، على أن المسيح عليه السلام لما كان كفارة لخطايا كل العالم على ما اعترف يوحنا، فكيف لا يكون كفارة للمسلمين الذين يعترفون بتوحيد اللّه ونبوته وصدقه وكون أمه صادقة بريئة بل لو أنصف أحد عرف أن أهل الحياة الأبدية هؤلاء المسلمون لا غيرهم كما عرفت في الباب الرابع.‏

 

 (33) وقع في الباب العشرين من سفر الخروج لا تقتل ولا تزن. والآية الثانية من الباب الرابع عشر من كتاب زكريا هكذا: (وأجمع جميع الأمم إلى أورشليم للقتال وتؤخذ المدينة وتخرب البيوت وتفضح النساء). فوعد الرب أن يجمع الأمم ليقتلوا قومه الخاص ويفضحوا نساءهم ويزنوا بها.‏

 

 (34) في الآية الثالثة عشر من الباب الأول من كتاب حيقوق هكذا: (نقبت عيناك لئلا ترى السوء ولا تقدر أن تنظر إلى الإثم).

والآية السابعة من الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعيا: (المصور [ص 165] النور، والخالق الظلمة، الصانع السلام، والخالق الشر أنا الرب الصانع جميعها).‏

 

(35)  في الزبور الرابع والثلاثين هكذا: 15 (فإن عيني الرب إلى الأبرار ومسامعه إلى صراخهم) 17 (أولئك الذين صرخوا فاستجاب لهم ونجاهم من جميع إضرارهم) 18 (فإن الرب قريب من منكسري القلب ومخلص متواضعي الروح). وفي الزبور الثاني والعشرين هكذا: 1: (إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي وكلام صراخي) 2: (إلهي إلهي إني في النهار أدعو وأنت لا تستجيب وفي الليل ولا سكوت لي).

والآية السادسة والأربعون من الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني) أما كان داود وعيسى عليهما السلام من الأبرار ومنكسري القلوب ومتواضعي الروح فَلِمَ تركهما ولَمْ يسمع صراخهما.‏

 

(36) الآية الثالثة عشر من الباب التاسع والعشرين من كتاب أرمياء هكذا: (تطلبونني وتجدونني إذا طلبتموني بكل قلبكم).

والآية الثالثة من الباب الثالث والعشرين من كتاب أيوب هكذا: (من يعطيني أن أعرف فأجده وأستطيع البلوغ إلى مجلسه).

وقد شهد اللّه في حق أيوب أنه صالح مستقيم، خائف من اللّه، بعيد من السوء كما هو مصرح به في الباب الأول والثاني من كتابه. فهذا المقدس لم يحصل له علم طريق وجدان اللّه فضلاً عن وجدانه.‏

 

(37) في الآية الرابعة من الباب العشرين من سفر الخروج هكذا: (لا نتخذ لك صورة ولا تمثيل من كل ما في السماء وما في الأرض وما في الماء من تحت الأرض). والآية الثامنة عشر من الباب الخامس والعشرين من السفر المذكور هكذا: (وأصنع كار وبين من ذهب سبيك تجعل على كل جانبي الغشاء).‏

 

(38) الآية السادسة من رسالة يهوذا هكذا: (والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام). فعلم منها أن الشياطين مربوطة بقيود عظيمة إلى يوم القيامة. ويعلم من الباب الأول والثاني من كتاب أيوب أن الشيطان ليس بمقيد بل هو مطلق ويحضر عند اللّه.‏

 

 (39) في الآية الرابعة من الباب الثاني من الرسالة الثانية لبطرس هكذا: (أن اللّه لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء). وفي الباب الرابع من إنجيل متى أن الشيطان جرب عيسى عليه السلام.‏

 

(40) الآية الرابعة في الزبور التسعين هكذا: (فإن ألف سنة لديك كالأمس الغابر وكهجيع من الليل). والآية الثامنة من الباب الثالث من الرسالة الثانية لبطرس هكذا: (أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد) ومع ذلك قال في الآية السادسة عشر من الباب التاسع من سفر التكوين هكذا: (ويكون القوس في الغمام وأراه وأذكر الميثاق الأبدي الذي قام بين اللّه وبين كل نفس حية من كل ذي جسد هو على الأرض). على أن كون القوس علامة العهد لا يحسن، لأن القوس لا يكون في كل غمام بل في قليل من أوقات الغمام وهو وقت رقة الغمام غالباً، وهذا الوقت لا يكون موجباً لكثرة الأمطار التي يخاف منها الطوفان فلا تحصل العلامة وقت الحاجة إليها بل وقت الاستغناء عنها.‏

 

(41)  في الآية العشرين من الباب الثالث والثلاثين من سفر الخروج قول اللّه في خطاب موسى عليه السلام هكذا: (إنك لا تقدر على النظر إلى وجهي لأنه لا يراني بشر فيحيا). وفي الآية الثلاثين من الباب الثاني والثلاثين من سفر التكوين قول يعقوب عليه السلام هكذا: (رأيت اللّه وجهاً لوجه وتخلصت نفسي). فرأى يعقوب عليه السلام اللّه وجهاً لوجه وبقي حياً، وفي القصة التي وقع فيها هذا القول أشياء أخرى أيضاً لا تليق. الأول: ذكر المصارعة بين اللّه وبين يعقوب. والثاني: كونها ممتدة إلى طلوع الفجر. والثالث: أنه لم يقو أحدهما بالآخر. والرابع: أن اللّه لم يقدر أن ينطلق بذاته فقال أطلقني. والخامس: أن يعقوب لم يطلقه إلا بعوض وهو أن يباركه. والسادس: أن اللّه سأله عن اسمه فعلم أنه ما كان يعلم اسمه.‏

 

(42) الآية الثانية عشر من الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (اللّه لم ينظره أحد قط). وفي الباب الرابع والعشرين من سفر الخروج هكذا: 9 (وصعد موسى وهارون وناد أب وأبيهو وسبعون رجلاً من شيوخ إسرائيل 10 ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجليه مثل الحجر السمانجوني وكمثل لون السماء ونور ظاهر) 11 (فلم يبسط يده على شيوخ إسرائيل وأبصروا اللّه وأكلوا وشربوا) فموسى [ص 168] وهارون والمشايخ السبعون عليهم السلام قد أبصروا اللّه وأكلوا وشربوا معه أقول أولاً: أن الجملة الأخيرة بحسب الظاهر تدل على أنهم أكلوا اللّه وشربوه، لكن المقصود لعله ما فهمه المعترضون. وثانياً: أن إله بني إسرائيل (والعياذ باللّه) كان على صورة آلهة مشركي الهند مثل رامجند روكرشن لأن ألوانهم على ما صرح به في كتبهم على لون السماء.‏

 

(43) في الآية السادسة عشر من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس هكذا: (الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه).

وفي الباب الرابع من المشاهدات أن يوحنا رآه جالساً على العرش وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق.‏

 

 

(44)  الآية السابعة والثلاثون من الباب الخامس من إنجيل يوحنا قول يسوع في خطاب اليهود هكذا: (لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته). وقد علمت حال رؤية اللّه في المثال السابق. بقي حال سماع صوته. في الآية الرابعة والعشرين من الباب الخامس من سفر الاستثناء هكذا: (قد أرانا الرب إلهنا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النهار).‏

 

(45) في الآية الرابعة والعشرين من الباب الرابع من إنجيل يوحنا هكذا: (اللّه روح). وفي الآية التاسعة والثلاثين من الباب الرابع والعشرين من إنجيل لوقا هكذا: (أن الروح ليس له لحم وعظام) ويعلم من هاتين العبارتين أن اللّه ليس له لحم وعظام، وقد ثبت له في كتبهم كل عضو من الرأس إلى الرجل ونقلوا أمثلة لإثبات هذه الأعضاء وقد عرفتها في مقدمة الباب الرابع. ثم قالوا استهزاءً: "لم يعلم إلى الآن أنه بستاني أم بناء أو خزاف أو خياط أو جراح أو حلاق أو قابلة أو جزار أو فلاح أو تاجر أو غيره لأن أقوال كتبهم مضطربة".

في الآية الثامنة من الباب الثامن من سفر التكوين هكذا: (وغرس الرب الإله فردوس النعيم من البدي) فيعلم منه أنه بستاني.

وكذا يعلم من الآية التاسعة عشر من الباب الحادي والأربعين من كتاب أشعيا وفي الآية الخامسة والثلاثين من الباب الثاني من سفر صموئيل الأول هكذا: (وبنى له بيتاً أميناً) وهكذا في الآية 11 و 27 من الباب السابع من سفر صموئيل الثاني والآية 38 من الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول والآية 1 من الزبور 127 ويعلم من هذه الآيات أنه بناء. والآية الثامنة من الباب الرابع والستين من كتاب أشعيا هكذا: (والآن يا رب أنت أبونا ونحن الطين وأنت جابلنا ونحن جميعنا أعمال يديك) فيعلم منها أنه خزاف. والآية الحادية والعشرون من الباب الثالث من سفر التكوين هكذا: (وصنع الرب الإله لآدم وزوجته ثياباً من جلود وألبسهما) فيعلم أنه خياط. وفي الآية 17 من الباب الثلاثين من كتاب أشعيا هكذا: (أشفي جرحك) فيعلم أنه جراح. والآية العشرون من الباب السابع من كتاب أشعيا هكذا: (في ذلك اليوم يحلق الرب بموسى مستنكراً في أولئك الذين هم عبروا النهر بملك الآثوريين الرأس وأوبار الرجلين واللحية كلها) فيعلم أنه حلاق. ويعلم من الآية 31 من الباب التاسع والعشرين والآية 22 من الباب الثلاثين من سفر التكوين أنه قابلة. وقد مر نقلهما عن قريب في بيان الاختلاف الثامن والعشرين. والآية السادسة من الباب الرابع والثلاثين من كتاب أشعيا هكذا: (سيف الرب امتلأ دماً سمن من شحم من دم الخرفان والتيوس من دم الكباش المعلوفة) فيعلم أنه جزار. والآية الخامسة عشر من الباب الحادي والأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (ها جعلتك مثل البكرات الجدد التي للعجلة شبه المناشير التي تدوس فتدوس الجبال وتسحق الآكام وتصنعهم مثل التراب) فيعلم أنه فلاح. وفي الآية الثامنة من الباب الثالث من كتاب يوئيل هكذا: (وأبيع بنيكم وبناتكم في أيدي بني يهوذا) فيعلم أنه تاجر. وفي الآية الثالثة عشر من الباب الرابع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: (يتعلم جميع بنيك من الرب) فيعلم أنه معلم. ويعلم من الباب الثاني والثلاثين من سفر التكوين أنه مصارع.‏

 

(46)  الآية التاسعة من الباب الثاني والعشرين من سفر صموئيل الثاني هكذا: (ارتفع دخان من أنفه، والتهبت النار من فمه تأكل، والجمر اشتعل منها). والآية العاشرة من الباب السابع والثلاثين من كتاب أيوب هكذا: (يكون الثلج من نفس اللّه ويجمد الماء السائل).‏

 

(47) الآية الثانية عشر من الباب الخامس من كتاب هوشع هكذا: (وأنا مثل السوس لافرام ومثل الدودة لبيت يهوذا).

والآية السابعة من الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور هكذا: (وأنا أكون لهم مثل أسد، مثل نمر، في طريق الآثوريين) فتارة مثل السوس والدودة وتارة مثل الأسد والنمر.‏

 

(48) الآية العاشرة من الباب الثالث من مراثي أرمياء هكذا: (دبارا صدا صار لي أسدا في الخفية). والآية الحادية عشر من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (مثل الراعي هو يرعى قطيعه) الخ فتارة مثل الدب والأسد وتارة كالراعي.‏

 

 (49) في الآية الثالثة من الباب الخامس عشر من سفر الخروج هكذا: (الرب مثل الرجل المقاتل). وفي الآية العشرين من الباب الثالث عشر من الرسالة العبرانية هكذا: (وإله السلام).‏

 

(50)  في الآية الثامنة من الباب الرابع ليوحنا هكذا: (اللّه محبة). والآية الخامسة من الباب الحادي والعشرين من كتاب أرمياء هكذا: (وأنا أغليكم بيد ممدودة وبذراع قوية وبزجر وبغضب وبسخط شديد). ولما وصلت النوبة إلى الخمسين أكتفي في نقل هذه الاختلافات على هذا القدر خوفاً من التطويل فمن شاء أزيد منه فليتصفح كتب المعترضين المذكورين يجد فيها اختلافات أخرى. والآية الخامسة عشر من الباب الحادي والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: (وإن كانت لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة) الخ. والآية السابعة والعشرون من الباب التاسع من كتاب يوشع هكذا: (وفرض عليهم) أي أهل جبعون اليوم أن يكونوا في خدمة الشعب بأسره وخدمة مذبح الرب محطبين حطباً ومستقين ماء في الموضع الذي يختاره الرب. وفي الباب السادس والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: (يقول الرب للخصيين الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما أنا شئته ويمسكون بعهدي أعطيهم في بيتي وفي حيطاني موضعاً واسماً أفضل من البنين والبنات، أعطيهم اسماً أبدياً لا يبيد) يعلم من هذه الآيات أن اللّه مجوز لتزوج زوجتين واحد القوم في العبودية والرق وراض عن الخصيين. (وهذه) الأشياء كلها مذمومة عند الإنكليز شرعاً أو عقلاً والآية الخامسة والعشرون من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنثيوس هكذا: (لأن جهالة اللّه أحكم من الناس وضعف اللّه أقوى من الناس).  والآية التاسعة من الباب الرابع عشر من كتاب حزقيال هكذا: (والنبي إذا ضل وتكلم بكلام فأنا الرب أضللت ذلك النبي) الخ. ويعلم من هاتين الآيتين جهل اللّه وإضلاله لأنبيائه (والعياذ باللّه). وقال جان كلارك الملحد بعد ما نقل بعض الأقاويل المنقولة فيما قبل: (أن إله بني إسرائيل هذا ليس قاتلاً ظالماً كاذباً أحمق مضلاً فقط بل هو نار محرقة أيضاً). كما قال بولس في الآية التاسعة والعشرين من الباب الثاني عشر من الرسالة العبرانية إلهنا نار آكلة والوقوع في يدي هذا الإله مخيف. كما قال بولس في الآية الحادية والثلاثين من الباب العاشر من الرسالة العبرانية (مخيف هو الوقوع في يدي اللّه الحي). فتحصيل الحرية من رقية مثل هذا الإله بالعجلة المقدورة أحسن لأنه إذا لم ينج ابنه الوحيد فمن يرجو منه الرحمة واللطف، وهذا الإله الذي تحكم هذه الكتب أنه إله ليس بقابل أن يعتمد عليه، بل هو شيء غير محقق جامع للأضداد والأوهام مضل أنبيائه) انتهى. فانظروا إلى أبناء صنف القسيسين إلى أين وصلت نوبتهم وليعلم أن اعتراضاتهم على ما وقع في تراجمهم الإنكليزية وغيرها فإن وجد الناظر في بيان عدد الآية أو في بعض المضامين ما يخالف الترجمة العربية، فهو لأجل اختلاف التراجم .

 

الباب السادس: (في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ودفع مطاعن القسيسين وهو مشتمل على فصلين)

 

الفصَّل الأول: (في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفيه ستة مسالك).

[معجزات النبي صلى الله عليه وسلم]

(المسلك الأول) أنه ظهرت معجزات كثيرة على يده صلى اللّه عليه وسلم وأذكر نبذاً منها في هذا المسلك من القرآن والأحاديث الصحيحة بحذف الإسناد وأوردها في نوعين.

وقد عرفت في الفصل الثالث من الباب الخامس على أتم تفصيل أنه لا شناعة عقلاً ونقلاً في اعتبار الروايات اللسانية المشتملة على شروط الرواية المعتبرة عند علمائنا رحمهم اللّه تعالى.

(أما النوع الأول) ففي بيان أخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم البالية من غير سماع من أحد ولا تلقن من كتاب كما عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من الباب الخامس وقد أشير إليه بقوله تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}.

والمخالفة التي وقعت بين القرآن وكتب أهل الكتاب في بيان بعض هذه القصص فقد عرفت حالها في الفصل الثاني من الباب الخامس في جواب الشبهة الثانية، وأما المستقبلة فكثيرة. عن حذيفة رضي اللّه عنه أنه قال: (قام فينا مقاماً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه وأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه) رواه البخاري ومسلم.

وقد عرفت في الأمر الثالث من الفصل الأول من الباب الخامس اثنين وعشرين خبراً من الأخبار المندرجة في القرآن وقال اللّه تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء  وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إن نصر اللّه قريب}.

فوعد اللّه المسلمين في هذا القول بأنهم يزلزلون حتى يستقيؤه ويستنصروه. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم). وقال أيضاً: (أن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً). فجاء الأحزاب كما وعد اللّه ورسوله وكانوا عشرة آلاف وحاصروا المسلمين وحاربوهم محاربة شديدة إلى مدة شهر وكان المسلمون في غاية الضيق والشدة والرعب وقالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وأيقنوا بالجنة والنصر. كما أخبر اللّه تعالى بقوله: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}. وقد خرج أئمة الحديث رضي اللّه عنهم:‏

 

1- أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر الصحابة بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق.‏

2- وأن الأمن يظهر حتى ترحل المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا اللّه.

3- وأن خيبر تفتح على يد علي رضي اللّه عنه في غد يومه.‏

4- وأنهم يقسمون كنوز ملك فارس وملك الروم.‏

5-  وأن بنات فارس تخدمهم. وهذه الأمور كلها وقعت في زمن الصحابة رضي اللّه عنهم كما أخبر.‏

6-  وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة.‏

7- وأن فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبداً، والروم ذات قرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن أهل صخر وبحر هيهات آخر الدهر.  والمراد بالروم الفرنج والنصارى وكان كما أخبر ما بقي من سلطنة الفرس أثر ما بخلاف الروم، فإن سلطنتهم وإن زالت عن الشام في عهد خلافة عمر رضي اللّه عنه وانهزم هرقل من الشام إلى أقصى بلاده لكن لم تزل سلطنتهم بالكلية بل كلما هلك قرن خلفه قرن آخر.‏

8- وأن اللّه زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها). والمعنى جمع اللّه لي الأرض مرة واحدة بتقريب بعيدها إلى قريبها حتى اطلعت على ما فيها، وستفتحها أمتي جزءاً فجزءاً حتى تمتلك جميع أجزائها، ولأجل تقييدها بمشارقها ومغاربها انتشرت ملته في المشارق والمغارب ما بين أرض الهند التي هي أقصى المشرق إلى بحر طنجة الذي في أقصى المغرب، ولم تنتشر في الجنوب والشمال مثل انتشارها في المشرق والمغرب، ولعل في إتيانهما بلفظ الجمع، وفي تقديم المشارق، إيماء إلى ما هنالك وإلى ظهور كثرة العلماء منهما بالنسبة إلى غيرهما، وأن علماء المشرق أكثر وأظهر من علماء المغرب.‏

9- وأنه لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). وفي حديث آخر رواية أبي أمامة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر اللّه وهم كذلك وقيل: يا رسول اللّه وأين هم قال: ببيت المقدس) والمراد عند جمهور العلماء بأهل الغرب أهل الشام لأنه غرب الحجاز بدلالة رواية وهم بالشام.‏

10- وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حياً وكان كما أخبر، وكان عمر رضي اللّه عنه سد باب الفتنة.‏

11- وأن المهدي رضي اللّه عنه يظهر.‏

12- وأن عيسى عليه السلام ينزل.‏

13- وأن الدجال يخرج. وهذه الأمور الثلاثة ستظهر إن شاء اللّه تعالى واللّه أعلم.‏

14-  أن عثمان يقتل وهو يقرأ في المصحف.

15 - وأن أشقى الآخرين من يصبغ هذه من هذه. يعني لحية علي من دم رأسه، يعني يقتله وهما رضي اللّه عنهما استشهدا كما أخبر.‏

16- وأن عماراً تقتله الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية.‏

17- وأن الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً بعد ذلك) فكانت الخلافة الحقة كذلك بمضي مدة خلافة الحسن بن علي رضي اللّه عنهما، لأن خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوماً، وخلافة عمر رضي اللّه عنه عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان رضي اللّه عنه إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهراً وثمانية عشر يوماً، وخلافة علي رضي اللّه عنه أربع سنين وعشرة أشهر وتسعة أيام، وبتمامها خلافة الحسن رضي اللّه عنه.‏

18- وأن هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش والمراد يزيد وبنو مروان.‏

19- وأن الأنصار يقلون حتى يكونوا كالملح في الطعام، فلم يزل أمرهم يتفرق حتى لم يبق لهم جماعة. ووقع كما أخبر.‏

20- وأنه يكون في ثقيف كذاب ومبير أي مهلك، فرأوهما المختار والحجاج.‏

20- وأن الموتتين أي الوباء والطاعون يكون بعد فتح بيت المقدس، وكان هذا الوباء في خلافة عمر رضي اللّه عنه بعمواس من قرى بيت المقدس، وبها كان عسكره، وهو أول طاعون وقع في الإسلام مات به سبعون ألفاً في ثلاثة أيام.‏

22- وأنهم يغزون في البحر كالملوك على الأسرة ففي الصحيحين: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان من خالات النبي صلى اللّه عليه وسلم من الرضاع وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها يوماً فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام، ثم استيقظ يضحك فقالت: ممَّ تضحك؟ قال: ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل اللّه يركبون ثبج هذا البحر 2 ملوكاً على الأسرة أو كالملوك على الأسرة. فقالت: ادع اللّه أن يجعلني منهم 3 فقال: أنت من الأولين. فركبت البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها بعد خروجها منه فهلكت).‏

23- وأن الإيمان لو كان منوطاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس وفيه إشارة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة الكوفي رحمه اللّه تعالى أيضاً.‏

24- وأن فاطمة أول أهله لحوقاً به فماتت رضي اللّه عنها بعد ستة أشهر من وفاته صلى اللّه عليه وسلم.‏

25- (وأن ابني هذا) أي الحسن ابن علي رضي اللّه عنهما (سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين) ووقع كما أخبر، فأصلح اللّه به بين أتباعه وأهل الشام.‏

26- وأن أبا ذر يعيش وحيداً، ويموت. فكان كما أخبر.‏

27- (وأن أسرع أزواجه لحوقاً به أطولهن يداً) فكانت زينب بنت جحش رضي اللّه عنها أسرعهن لحوقاً به لطول يدها بالصدقة.‏

28- (وأن الحسين بن علي رضي اللّه عنهما يقتل بالطف) وهو بفتح الطاء وتشديد الفاء مكان بناحية الكوفة على شط نهر الفرات، والآن اشتهر بكربلاء، فاستشهد الحسين رضي اللّه عنه في الطف كما أخبر.‏

29- وقال لسراقة بن جعشم: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ فلما أتى بهما عمر رضي اللّه عنه ألبسهما إياه وقال: الحمد للّه الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة.‏

30-  وقال لخالد رضي اللّه عنه حين وجهه لاكيدر: إنك تجده يصيد البقر. فكان كما أخبر. وفي حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه عند الشيخين: (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز يضيء لها أعناق الإبل ببصرى).

وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان ابتداؤها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهوراً اشترك فيه الخاص والعام، ولعدم ظهورها ظهوراً معتداً إلى يوم الثلاثاء خفي عن البعض وقال ابتداؤها كان ثالث الشهر، وفي يوم الأربعاء ظهرت ظهوراً شديداً، واشتدت حركتها واضطربت الأرض بمن عليها، وارتفعت الأصوات لخالقها، ودامت آثار الحركة حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلاك وزلزلوا زلزالاً شديداً فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ثار في الجو دخان متراكم أمره متفاقم ثم شاع النار وعلا حتى غشى الأبصار، فسكنت بقريظة عند قاع التنعيم بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف كشراريف الحصون وأبراج ومآذن، ويرى رجال يقودونها لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور والجبال بين يديه.

وكان يأتي المدينة ببركة النبي صلى اللّه عليه وسلم نسيم بارد. وكان انطفاؤها في السابع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج وللشيخ قطب الدين القسطلاني تأليف في بيان حال هذه النار سماه بحمل الإيجاز في الإعجاز بنار الحجاز. فهذا الخبر من الأخبار العظيمة أيضاً لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر بخروج هذه النار قبل ظهورها بمقدار ستمائة وخمسين سنة تقريباً، وكتب في البخاري قبل ظهورها بمقدار أربعمائة سنة تقريباً، وصحيح البخاري في غاية درجة القبول من زمان التأليف إلى هذا الحين حتى أخذ تسعون ألف رجل سنده من الإمام المرحوم بلا واسطة في مدة حياته فلا مجال لعناد معاند في تكذيب هذا الخبر الصريح الصادق.

وروى مسلم في كتاب الفتن من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في أمر الدجال من طريق أبي قتادة عن يسير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيري فقال: ألا يا عبد اللّه بن مسعود جاءت الساعة. قال: فقعد وكان متكئاً، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة. ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام.

فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام ويجتمع لهم أهل الشام. قلت: الروم يعني. قال: نعم. ويكون عند ذلك القتال ردة شديدة أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام فيجعل اللّه الدبرة عليهم (أي الروم) فيقتتلون مقتلة، أما قال: لا يرى مثلها، وأما قال: لم ير مثلها حتى أن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسم. فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون الحديث. عصمنا اللّه من فتنة الدجال.

 

واعلم أن علماء بروتستنت على ما هو عادتهم يغلطون العوام باعتراضات مموهة على الإخبارات المستقبلة المندرجة في القرآن والحديث، فأنقل ههنا بعض الإخبارات المنسوبة إلى الأنبياء الإسرائيلية عليهم السلام عن كتبهم المقدسة ليعلم المخاطب أن اعتراضاتهم ليست بشيء، وليس غرضي سوء الاعتقاد في أقوال الأنبياء عليهم السلام لأنها ليست بثابتة الإسناد إليهم ثبوتاً قطعياً، بل حكمها حكم الروايات الضعيفة المروية بروايات الآحاد، فالغلط منها ليس بقولهم يقيناً والاعتراض عليه حق فأقول:

الأول: الخبر المنقول في الباب السادس من سفر التكوين.

والثاني: الخبر المنقول في الآية الثامنة من الباب السابع من كتاب أشعيا.

والثالث: الخبر المنقول في الباب التاسع والعشرين من كتاب أرمياء.

والرابع: الخبر المندرج في الباب السادس والعشرين من كتاب حزقيال.

والخامس: الخبر المندرج في الباب الثامن من كتاب دانيال.

والسادس: الخبر المندرج في الباب التاسع من الكتاب المذكور.

والسابع: الخبر المندرج في الباب الثاني عشر من الكتاب المذكور.

والثامن: الخبر المندرج في الباب السابع من سفر صموئيل الثاني.

والتاسع: الخبر المندرج في الآية 39 و 40 من الباب الثاني عشر من إنجيل متى.

والعاشر: الخبر المندرج في الآية السابعة والعشرين والثامنة والعشرين من الباب السادس عشر من إنجيل متى.

والحادي عشر: الخبر المندرج في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى.

والثاني عشر: الخبر المندرج في الباب العاشر من إنجيل متى.

وكلها غلط كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول، فإن أراد أحد منهم أن يعترض على أخباره من الإخبارات المستقبلة المندرجة في القرآن والحديث فعليه أن يبين أولاً صحة هذه الإخبارات المندرجة في كتبهم التي أشرت إليها الآن ثم يعترض.

وأما النوع الثاني ففي الأفعال التي ظهرت منه عليه السلام على خلاف العادة وهي تزيد على ألف وأكتفي على ذكر أربعين:‏

 

1- قال اللّه تعالى في سورة بني إسرائيل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}.

فهذه الآية والأحاديث الصحيحة تدل على أن المعراج كان في اليقظة بالجسد، أما دلالة الأحاديث ففي غاية الظهور، وأما دلالة الآية فلأن لفظ العبد يطلق على مجموع الجسد والروح. قال اللّه تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)، وقال أيضاً في سورة الجن: {وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}.

ولا شك أن المراد في الموضعين من العبد مجموع الروح والجسد، فكذا المراد بالعبد ههنا. ولأن الكفار استبعدوا هذا المعراج وأنكروه وارتد بسماعه ضعفاء المسلمين وافتتنوا به فلو لم يكن المعراج بالجسد وفي اليقظة لما كان سبباً لاستبعاد الكفار وإنكارهم وارتداد ضعفاء المسلمين وافتتانهم. إذ مثل هذا في المنامات لا يعد من المحال ولا يستبعد ولا ينكر ألا ترى أن أحداً لو ادعى أنه سار في نومه مرة في الشرق ومرة في الغرب  وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى، لم ينكره أحد ولم يستبعد، ولا استحالة فيه عقلاً ونقلاً.

أما عقلاً فلأن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى اللّه عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادراً عليه وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة والمعجزات كلها تكون كذلك.

وأما نقلاً فلأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك ليس بممتنع عند أهل الكتاب.

1 - قال القسيس وليم اسمت في كتابه المسمى بطريق الأولياء في بيان حال أخنوخ الرسول الذي كان قبل ميلاد المسيح بثلاث آلاف سنة وثلثمائة واثنتين وثمانين سنة هكذا: (أن اللّه نقله حياً إلى السماء لئلا يرى الموت كما هو مرقوم أنه لم يوجد لأن اللّه نقله فترك الدنيا من غير أن يحمل المرض والوجع والألم والموت ودخل بجسده في ملكوت السماء) انتهى.

وقوله كما هو مرقوم إشارة إلى الآية الرابعة والعشرين من الباب الخامس من سفر التكوين.

وفي الباب الثاني من سفر الملوك الثاني هكذا: 1 (وكان لما أراد الرب أن يصعد ايليا بالعجاج إلى السماء انطلق ايليا واليسع من الجلجال 11 وبينما هما يسيران ويتكلمان إذ بعجلة من نار وخيل من نار فاقتربت فيما بينهما وصعد ايليا بالعجاج إلى السماء).

وقال آدم كلارك المفسر في شرح هذا المقام: (لا شك أن إيليا رفع إلى  السماء حياً) انتهى كلامه.

والآية التاسعة عشر من الباب السادس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (ثم الرب بعد ما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين اللّه).

وقال بولس في حال معراجه في الباب الثاني عشر من رسالته الثانية إلى أهل قورنيثوس هكذا: 2 (أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم اللّه يعلم اختطف هذا إلى السماء الثالثة 3 وأعرف هذا الإنسان أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم اللّه يعلم أنه اختطف إلى الفردوس 4 وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها) فادعى معراجه إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس وبسماع كلمات لا ينطق بها، وليس لإنسان أن يتكلم بها 5 وقال يوحنا في الباب الرابع من المكاشفات 1 (وبعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم قائلاً اصعد إلى ههنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا 2 وللوقت صرت في الروح وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس).

فهذه الأمور مسلمة عند المسيحيين فلا مجال للقسيسين أن يعترضوا على معراج النبي صلى اللّه عليه وسلم عقلاً أو نقلاً. نعم يرد عليهم أنه لا وجود للسماوات على حكم علم الهيئة الجديد، فكيف يصدق عندهم أن أخنوخ وإيليا والمسيح عليهم السلام رفعوا إلى السماء وجلس المسيح على يمين اللّه واختطف مقدسهم إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس. وقد عرفنا مطهر البابويين وجهنمهم كما مر في الفصل الثاني من الباب الخامس لكنا ما عرفنا فردوس المسيحيين أهو على السماء الثالثة الموهومة كأنياب الأغوال عندهم أو فوقها أو هو عبارة عن جهنم كما يفهم  بملاحظة الإنجيل وكتاب عقائدهم، لأن المسيح قال للسارق المصلوب معه وقت الصلب إنك اليوم تكون معي في الفردوس.

وهم يصرخون في العقيدة الثالثة من عقائدهم أنه نزل إلى جهنم، فإذا لاحظنا الأمرين يعلم أن الفردوس عندهم جهنم.

قال جواد بن ساباط في البرهان السادس عشر من المقالة الثانية من كتابه أن القسيس كياروس سألني في حضور المترجمين: ماذا يعتقد المسلمون في معراج محمد صلى اللّه عليه وسلم؟ قلت: إنهم يعتقدون أنه من مكة إلى أورشليم ومنه إلى السماء.

قال: لا يمكن صعود الجسم إلى السماء. قلت: سألت بعض المسلمين عنه فأجاب أنه يمكن كما أمكن لجسم عيسى عليه السلام. قال القسيس: لِمَ لَمْ تستدل بامتناع الخرق والالتئام على الأفلاك؟ قلت: استدللت به لكنه أجاب أنهما ممكنان لمحمد صلى اللّه عليه وسلم كما كانا ممكنين لعيسى عليه السلام.

قال القسيس: لِمَ لَمْ تقل أن عيسى إله له أن يتصرف ما يشاء في مخلوقاته؟ قلت: قد قلت ذلك لكنه قال أن ألوهية عيسى باطلة لأنه يستحيل أن يطرأ على اللّه علامات العجز كالمضروبية والمصلوبية والموت والدفن. انتهى.

ونقل بعض الأحياء أن قسيساً في بلد بنارس من بلاد الهند كان يقول في بعض المجامع تغليطاً لجهال المسلمين البدويين كيف تعتقدون المعراج وهو أمر مستبعد فأجابه مجوسي من مجوس الهند أن المعراج ليس بأشد استبعاداً من كون العذراء حاملة من غير زوج، فلو كان مطلق الأمر المستبعد كاذباً فهذا أيضاً يكون كاذباً فكيف تعتقدونه فبهت القسيس.

 2- قال اللّه تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} أخبر اللّه بوقوع الانشقاق بلفظ الماضي فيجب تحققه، وحمله على معنى سينشق بعيد لأربعة أوجه:

الأول: أن قراءة حذيفة وقد انشق القمر وهي صريحة في الزمان الماضي والأصل توافق القراءتين.

والثاني: أن اللّه أخبر بإعراضهم عن آياته والإعراض الحقيقي عنها لا يتصور قبل وقوعها.

والثالث: أن المفسرين المشهورين صرحوا بأن انشق بمعناه، وردوا قول من قال بمعنى سينشق.

والرابع: أن الأحاديث الصحيحة تدل على وقوعه قطعاً. ولذلك قال شارح المواقف: (وهذا متواتر قد رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره) انتهى كلامه.

وقال العلامة أبو نصر عبد الوهاب ابن الإمام علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب في الأصول: (والصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما) انتهى كلامه.

وأقوى شبهات المنكرين أن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الخرق والالتئام وأن هذا الانشقاق لو وقع لم يخف على أهل الأرض كلهم ونقله مؤرخو العالم.

(والجواب) أن هذه الشبهة ضعيفة جداً نقلاً وعقلاً. أما نقلاً فلسبعة أوجه:

الوجه الأول: أن حادثة طوفان نوح عليه السلام كانت ممتدة إلى سنة، وفنى فيه كل ذي حياة من الطيور والبهائم والحشرات والإنسان غير أهل السفينة، وما نجا من الإنسان غير ثمانية أشخاص على ما هو مصرح به في الباب السابع والثامن من سفر التكوين.

وفي الآية العشرين من الباب الثالث من الرسالة الأولى لبطرس هكذا: (في أيام نوح إذ كان الفلك يبني الذي فيه خلص قليلون أي ثمانية أنفس بالماء).

والآية الخامسة من الباب الثاني من رسالته الثانية هكذا: (ولم يشفق على العالم القديم بل إنما حفظ نوحاً ثامناً كارزا للبر إذ جلب طوفاناً على عالم الفجار). وما مضت على هذه الحادثة مدة إلى هذا اليوم على زعم أهل الكتاب إلا مقدار أربعة آلاف ومائتين واثنتي عشرة سنة شمسية ولا يوجد هذا الحال في تواريخ مشركي الهند وكتبهم. وهم ينكرون هذا الأمر إنكاراً بليغاً ويستهزئ به علماؤهم كافة ويقولون: لو قطع النظر عن الزمان السالف ونظر إلى زمان كرشن الأوتار، الذي كان قبل هذا اليوم بمقدار أربعة آلاف وتسعمائة وستين سنة على شهادة كتبهم، لا مجال لصحة هذه الحادثة العامة لأن الأمصار العظيمة الكثيرة من ذلك العهد إلى هذا الحين مغمورة وثبت بشهادة تواريخهم أنه يوجد من ذلك العهد إلى هذا الحين في إقليم الهند مليونات كثيرة في كل زمان من الأزمنة، ويدعون أن حال زمان كرشن لوجود كثرة التواريخ كحال أمس.

وقال ابن خلدون في المجلد الثاني من تاريخه: (واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط) انتهى كلامه بلفظه.  وقال العلامة تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزي في المجلد الأول من كتابه المسمى بكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: (الفرس وسائر المجوس والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب ولم يعم العمران كله ولا غرق إلا بعض الناس ولم يجاوز عقبة حلوان ولا بلغ إلى ممالك المشرق) انتهى كلامه بلفظه.

وأبناء صنف القسيسين ينكرون هذا الطوفان ويستهزئون به. وأنقل كلام جان كلارك الملحد عن رسالته الثالثة المندرجة في كتابه المطبوع سنة 1839 في ليدس فقال في الصفحة 54: (هذا) يعني الطوفان، غير صحيح على شهادة علم الفلسفة وأنا أتعجب! أمات الحيتان في ماء هذا الطوفان؟.

ولما كان بحكم الآية الخامسة من الباب السادس من سفر التكوين أفكار قلوب الإنسان ذميمة فلماذا أبقى اللّه ثمانية أشخاص. لِمَ لَمْ يخلق الإنسان مرة أخرى بعد إهلاك الكل؟ ولماذا أبقى بضاعته القديمة التي بقيت الأفكار الذميمة باقية بسببها؟ لأن الشجرة الرديئة لا تثمر ثمرة جيدة كما قال متى في الآية السادسة عشر من الباب السابع، هل يجتنبون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً؟. ونوح كان شارب الخمر وبهيمة وظالماً (والعياذ باللّه). كما يفهم من الآية 21 و 25 من الباب التاسع من سفر التكوين فكيف يرجى منه أن يكون نسله صالحاً.

وانظروا أنه لم يكن صالحاً كما يظهر من الآية الثانية من الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل أفسيس والآية الثالثة من الباب الثالث من رسالته إلى تيطس والآية الثالثة من الباب الرابع من الرسالة الأولى لبطرس والآية [ص 190] الخامسة من الزبور الحادي والخمسين) انتهى كلامه.  ثم استهزأ في هذه الصفحة 93 استهزاءً بليغاً جاوز الحد في إساءة الأدب، فلا أرضى بنقل كلامه القبيح.

(الوجه الثاني) في الباب العاشر من كتاب يوشع، على وفق الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: 12 حينئذ تكلم يسوع أمام الرب في اليوم الذي دفع الأموري في يدي بني إسرائيل، وقال أمامهم أيتها الشمس مقابل جبعون لا تتحركي والقمر مقابل قاع ايلون 13 (فوقف الشمس والقمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم، أليس هذا مكتوباً في سفر الأبرار فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تكن تعجل إلى الغروب يوماً تاماً).

وفي الباب الرابع من الحصة الثالثة من كتاب تحقيق الدين الحق، المطبوع سنة 1846 في الصفحة 362 هكذا: (أما غربت الشمس بدعاء يوشع إلى أربع وعشرين ساعة) انتهى كلامه.

وهذه الحادثة عظيمة وكانت على زعم المسيحيين قبل ميلاد المسيح بألف وأربعمائة وخمسين سنة فلو وقعت لظهرت على الكل ولا يمنع السحاب الغليظ علمه أيضاً، وهو ظاهر ولا اختلاف في الآفاق لأنا لو فرضنا أن بعض الأمكنة كان فيها الليل في هذا الوقت لأجل الاختلاف فلا بد أن تظهر لامتداد ليلهم بقدر أربع وعشرين ساعة. وهذه الحادثة العظيمة ليست مكتوبة في كتب تواريخ أهل الهند ولا أهل الصين ولا الفرس. وأنا سمعت من علماء مشركي الهند تكذيبها، وهم يجزمون بأنها غلط يقيناً،  وأبناء صنف القسيسين يكذبونها ويستهزئون بها وأوردوا عليها اعتراضات:

 

الاعتراض الأول: أن قول يوشع أيتها الشمس لا تتحركي، وقوله فوقفت الشمس، يدلان على أن الشمس متحركة والأرض ساكنة، وإلا كان عليه أن يقول أيتها الأرض لا تتحركي فوقفت الأرض، وهذا الأمر باطل بحكم علم الهيئة الجديد الذي يعتمد عليه حكماء أوروبا كلهم الآن ويعتقدون ببطلان القديم، لعل يوشع ما كان يعلم هذه الحال، أو هذه القصة كاذبة.

والاعتراض الثاني: أن قوله فوقفت الشمس في كبد السماء يدل على أن هذا الوقت كان نصف النهار وهذا مخدوش أيضاً بوجوه: أما أولاً: فلأن بني إسرائيل كانوا قتلوا من المخالفين ألوفاً وهزموهم ولما هربوا أمطر الرب عليهم حجارة كباراً من السماء، وكان الذين ماتوا بالحجارة أكثرمن الذين قتلهم بنو إسرائيل، وهذه الأمور حصلت قبل نصف النهار على ما هو مصرح به في الباب فلا وجه لاضطراب يوشع عليه السلام في هذا الوقت لأن المظفرين من بني إسرائيل كانوا كثيرين جداً والباقون من المخالفين قليلين جداً وكان الباقي من النهار مقدار النصف، فقتلهم قبل الغروب كان في غاية السهولة. وأما ثانياً: فلأن الوقت لما كان نصف النهار فكيف رأوا القمر في هذا الوقت على أن توقيفه لغو على قواعد الفلسفة. وأما ثالثاً: فلأن الوقت لما كان نصف النهار وكان بنو إسرائيل مشتغلين بالمحاربة والاضطراب، وما كان لهم شك في المقدار الباقي من النهار، وما كانت الساعات عندهم في ذلك الزمان. فكيف علموا أن الشمس قامت على دائرة نصف النهار بمقدار اثنتي عشرة ساعة وما مالت إلى هذه المدة إلى جانب المغرب.

والاعتراض الثالث: قال جان كلارك: (إن اللّه كان وعد أن جميع أيام الأرض زرع وحصاد، برد وحر، صيف وشتاء، ليل ونهار، لا تهدأ كما هو مصرح  به في الآية الثانية والعشرين من الباب الثامن من سفر التكوين فإذا لم تغرب الشمس إلى المدة المذكورة هدأ الليل في ذلك الوقت).

(الوجه الثالث) في الآية الثامنة من الباب الثامن والثلاثين في بيان رجوع الشمس بمعجزة أشعيا هكذا: (فرجعت الشمس عشر درجات في المراقي التي كانت قد انحدرت).

وهذه الحادثة عظيمة، ولما كانت في النهار فلا بد أن تظهر لأكثر أهل العالم، وكانت قبل ميلاد المسيح بسبعمائة وثلاث عشرة سنة شمسية، وهذه الحادثة ليست مكتوبة في تواريخ أهل الهند والصين والفرس. وأيضاً يفهم منها حركة الشمس وسكون الأرض، وهذا أيضاً باطل على حكم علم الهيئة الجديد.

على أنا لو قطعنا النظر عن هذا، فنقول أن ههنا ثلاثة احتمالات أما أن رجع النهار فقط بمقدار عشر درجات، أو الشمس رجعت في السماء بهذا المقدار كما هو الظاهر، أو رجعت حركة الأرض من المشرق إلى المغرب بهذا المقدار. وهذه الاحتمالات الثلاثة باطلة بحكم الفلسفة. وهذه الحوادث الثلاثة مسلمة عند اليهود والنصارى والحوادث الباقية التي أذكرها تختص بالنصارى.

(الوجه الرابع) في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى: 51 (وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل والأرض تزلزلت، والصخور تشققت 52 والقبور تفتحت وقام كثير من أجسام القديسين الراقدين 53 وخرجوا من القبور بعد قيامه ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين). وهذه الحادثة كاذبة يقيناً كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول، ولا توجد في تواريخ المخالفين القديمة من الرومانيين واليهود، ولم يذكر مرقس  ولوقا تشقق الصخور، وتفتح القبور، وخروج كثير من أجساد القديسين ودخولهم في المدينة المقدسة، مع أن ذكرها كان أولى من ذكر صراخ عيسى عليه السلام عند الموت الذي اتفقا على ذكره. وتشقق الصخور من الأمور التي يبقى أثرها بعد الوقوع، والعجب أن متى لم يذكر أمر هؤلاء الموتى بعد انبعاثهم لأي الناس ظهروا، وكان اللائق ظهورهم على اليهود وبيلاطس ليؤمنوا بعيسى عليه السلام كما كان اللائق على عيسى عليه السلام أن يظهر على هؤلاء بعد قيامه من الأموات ليزول الاشتباه ولا يبقى المجال لليهود أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوا جثته.  وكذا لم يذكر أن هؤلاء الموتى بعد الانبعاث رجعوا إلى أجسادهم أو بقوا في الحياة.  وقال بعض الظرفاء: لعل متى فقط رأى هذه الأمور في المنام. على أنه يفهم من عبارة لوقا أن انشقاق حجاب الهيكل كان قبل وفاة عيسى عليه السلام خلافاً لمتى ومرقس.

(الوجه الخامس) كتب متى ومرقس ولوقا في بيان صلب المسيح، أن الظلمة كانت على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وهذه الحادثة لما كانت في النهار على الأرض كلها وممتدة إلى أربع ساعات، فلا بد أن لا تخفى على أكثر أهل العالم، ولا يوجد ذكرها في تواريخ أهل الهند والصين والفرس.

(الوجه السادس) أن متى كتب في الباب الثاني قصة قتل الأطفال، ولم يكتبها غيره من الإنجيليين والمؤرخين.

(الوجه السابع) في الباب الثالث من إنجيل متى ولوقا، وفي الباب الأول من إنجيل مرقس هكذا: (فساعة طلع من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح  مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السماوات (أنت ابني الحبيب الذي به سررت) انتهى بعبارة مرقس.

فانشقاق السماوات لما كان في النهار، فلا بد أن لا يخفى على أكثر أهل العالم، وكذا رؤية الحمامة وسماع الصوت لا يختص بواحد دون واحد من الحاضرين، ولم يكتب أحد هذه الأمور غير الإنجيليين.

وقال "جان كلارك" مستهزئاً بهذه الحادثة: (إن متى أبقانا محرومين من الاطلاع العظيم، وهو أنه لم يصرح أن السماوات لما انفتحت هل انفتحت أبوابها الكبيرة؟ أم المتوسطة؟ أم الصغيرة؟ وهل كانت هذه الأبواب في هذا الجانب من الشمس أو في ذلك الجانب؟ ولأجل هذا السهو الذي صدر عن متى قسوسنا يضربون الرؤوس متحيرين في تعيين الجانب، ثم قال: وما أخبرنا أيضاً أن هذه الحمامة هل أخذها أحد وحبسها في القفص، أم رأوها راجعة إلى جانب السماء. ولو رأوها راجعة ففي هذه الصورة لا بد أن تبقى أبواب السماوات مفتوحة إلى هذه المدة، فلا بد أنهم رأوا باطن السماء بوجه حسن لأنه لا يعلم أن بواباً كان عليها قبل وصول بطرس هناك، لعل هذه الحمامة كانت جنية) انتهى كلامه.

 

(وأما بطلانها عقلاً) فلوجوه ثمانية.

(الأول) أن انشقاق القمر كان في الليل وهو وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي والتردد في الطرق سيما في موسم البرد، فإن الناس يكونون مستريحين في دواخل البيوت وزواياها مغلقين أبوابها، فلا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً إلا من انتظره واعتنى به، ألا ترى إلى خسوف القمر فإنه يكون كثيراً، وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به في السحر.

(والثاني) أن هذه الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير، فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو بعيد عنه وينبهه، أو يوقظ النائم ويريه.

(والثالث) أنها لم تكن متوقع الحصول لأهل العلم لينظروها في وقتها ويروها كما أنهم يرون هلال رمضان والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالباً لأجل كونها متوقع الحصول، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضاً فضلاً عن الليل. فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا: سحركم ابن أبي كبشة فقال أبو جهل: هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقاً، وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالباً ويقيمون بالنهار فقالوا: هذا سحر مستمر.

وفي المقالة الحادية عشر من تاريخ "فرشته" أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضاً، وأسلم والي تلك الديار التي كانت من مجوس الهند بعد ما تحقق له هذا الأمر.

وقد نقل الحافظ المري عن ابن تيمية 6 أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديماً مكتوباً عليه: "بني ليلة انشق القمر".

(والرابع) أنه قد يحول في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات بين الرائي والقمر، سحاب غليظ أو جبل، ويوجد التفاوت الفاحش في بعض الأوقات في الديار التي ينزل فيها المطر كثيراً، بأنه يكون في بعض الأمكنة سحاب غليظ ونزول المطر بحيث لا يرى الناظر في النهار الشمس ولا هذا اللون الأزرق إلى ساعات متعددة، وكذا لا يرى في الليل القمر والكواكب ولا اللون المذكور. وفي بعض أمكنة أخرى لا أثر للسحاب ولا للمطر وتكون المسافة بين تلك الأمكنة  والأمكنة الأولى قليلة، وأهل البلاد الشمالية كالروم والفرنج في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام، فضلاً عن القمر.

(والخامس) أن القمر لاختلاف مطالعه ليس في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين، فيظهر في بعض الآفاق وبعض المنازل على أهل بعض البلاد دون بعض، ولذلك نجد الخسوف في بعض البلاد دون بعض، ونجده في بعض البلاد باعتبار بعض أجزاء القمر، وفي بعضها مستوفياً أطرافه كلها، وفي بعضها لا يعرفها إلا الحادقون في علم النجوم، وكثيراً ما يحدث الثقات من العلماء بالهيئة الفلكية بعجائب يشاهدونها من أنوار ظاهرة ونجوم طالعة عظام تظهر في بعض الأوقات أو الساعات من الليل، ولا علم لأحد بها من غيرهم.

(والسادس) أنه قلما يقع أن يبلغ عدد ناظري أمثال هذه الحوادث النادرة الوقوع إلى حد يفيد اليقين، وأخبار بعض العوام لا يكون معتبراً عند المؤرخين في الوقائع العظيمة، نعم يعتبر أخبارهم أيضاً في الحوادث التي يبقى أثرها بعد وقوعها، كالريح الشديد، ونزول الثلج الكثير، والبرد. فيجوز أن مؤرخي بعض الديار لم يعتبروا أخبار بعض العوام في هذه الحادثة، وحملوه على تخطئة أبصار المخبرين العوام، وظنوا أنها تكون نحواً من الخسوف.

(والسابع) أن المؤرخين كثيراً ما يكتبون الحوادث الأرضية ولا يتعرضون للحوادث السماوية إلا قليلاً سيما مؤرخي السلف، وكان في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم في ديار إنكلترة وفرانس شيوع الجهل، واشتهارها بالصنائع والعلوم إنما هو بعد زمانه صلى اللّه عليه وسلم بمدة طويلة.

(والثامن) أن المنكر إذا علم أن الأمر الفلاني معجزة أو كرامة للشخص الذي ينكره تصدى لإخفائها، ولا يرضى بذكرها وكتابتها غالباً. كما لا يخفى على من طالع الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا، والباب الرابع والخامس من كتاب الأعمال، فظهر أن لا اعتراض عقلاً ونقلاً على معجزة شق القمر.

وقال صاحب ميزان الحق في النسخة المطبوعة سنة 1843 في مر زابور: (معنى الآية على قاعدة التفسير منسوب إلى يوم القيامة، لأن لفظ الساعة المعروف باللام، قصد منه الساعة المعلومة والوقت المعلوم أعني القيامة، كما أن هذا اللفظ جاء بهذا المعنى في الآيات التي هي في آخر هذه السورة، ولأجل ذلك فسر بعض المفسرين منهم القاضي البيضاوي وغيره لفظ الساعة بمعنى القيامة وقالوا: أن من علامات يوم القيامة بحكم هذه الآية هذه العلامة أيضاً، أن القمر سينشق) انتهى كلامه.

فادعى أمرين الأول: أن الصحيح على قاعدة التفسير أن يكون انشق بمعنى سينشق. والثاني: أن بعض المفسرين منهم القاضي البيضاوي وغيره فسروه هكذا.

وكلاهما غلطان.

أما (الأول) فلأن انشق صيغة ماض، وحمله على معنى سينشق مجاز ولا يصار إلى المجاز ما لم يتعذر الحمل على الحقيقة، وههنا لم يتعذر بل يجب الحمل على معناه الحقيقي كما عرفت آنفاً.

أما (الثاني) فلأنه بهتان صرف على البيضاوي، وهو ما فسر انشق بينشق بل فسر بمعناه الماضي، لكنه بعد ما فسر على مختاره، نقل قول البعض بصيغة التمريض، ثم رد قوله فهذا القول مردود عنده.

ولما اعترض صاحب الاستفسار على مؤلف الميزان على العبارة المذكورة وقال: (أن القسيس إما غالط أو مغلط للعوام). تنبه المؤلف المذكور وغير هذه العبارة في النسخة الجديدة الفارسية المطبوعة سنة 1849، ونسخة أردو المطبوعة سنة 1850 وقال: (لفظ الساعة المعرف باللام في حالة الأفراد جاء في كل موضع من القرآن بمعنى يوم القيامة، وجملة انشق القمر بسبب واو العطف ألحقت بجملة اقتربت الساعة، وتوجد في كل من الجملتين صيغة الماضي، فكما أن الفعل الأول اقتربت بمعنى المستقبل يعني سيجيء يوم القيامة، فكذا الفعل الثاني انشق أيضاً بمعنى سينشق يعني إذا جاء يوم القيامة ينشق القمر، وبعض العلماء المفسرين أيضاً فسروا هكذا مثل الزمخشري والبيضاوي، وإن اعتقدا في تفسيرهما أن هذه الآية معجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لكنهما صرحا هكذا أيضاً. وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة، وفي قراءة حذيفة وقد انشق القمر أي اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق وقال البيضاوي: وقيل معناه سينشق يوم القيامة) انتهى كلامه.

فتنبه صاحب الميزان وغير العبارة، لكنه أعجب في تلخيص عبارة الكشاف حيث أسقط بعض العبارة زاعماً أنها غير مفيدة ونقل قوله: وفي قراءة حذيفة وقد انشق القمر الخ. وهذا القول لا يناسب مقصوده لأنه نص في ثبوت المعجزة المذكورة أن قيل: نقل هذا القول طرداً قلت فحينئذ لا وجه لإسقاط بعض العبارة، وعبارة الكشاف هكذا: (وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة. وقوله: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر يرده وكفى به رداً قراءة حذيفة قد انشق القمر أي اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها إن القمر قد انشق كما تقول أقبل الأمير وقد جاء البشير بقدومه وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم) انتهى كلامه بلفظه.

قوله: لفظ الساعة المعروف باللام الخ. وكذا قوله جملة: انشق القمر بسبب واو العطف الخ. لا يحصل منهما مقصوده، لعله فهم أن لفظ الساعة لما كان بمعنى القيامة وانشقاق القمر من علاماته، فلا بد أن يكون متصلاً بها واقعاً فيها، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل. قال اللّه تعالى في سورة محمد: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها}. فقوله: فقد جاء أشراطها يدل على أن أشراطها قد تحققت، لأن لفظة قد إذا دخلت على الماضي تكون نصاً على وجود الفعل في الزمان الماضي القريب من الحال، فلذلك فسر المفسرون هذا القول هكذا في البيضاوي (لأنه قد ظهرت إماراتها كمبعث النبي وانشقاق القمر).

وفي التفسير الكبير (الأشراط العلامات قال المفسرون: هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام، وفي الجلالين أي علاماتها منها مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم، وانشقاق القمر والدخان).

وعبارة الحسيني كالبيضاوي قوله: فكما أن الفعل الأول اقتربت بمعنى المستقبل غلط لأنه بمعناه الماضي وترجمته بالفارسية يعني (رزو قيامت خواهد آمد) ليست بصحيحة، وما روي عن بعض الناس مردود عند المفسرين.

ثم قال: (ولو سلمنا أن شق القمر وقع، لا يكون معجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم أيضاً، لأنه لم يصرح في هذه الآية ولا في آية أخرى أن هذه المعجزة ظهرت على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم) انتهى.

أقول: يدل على كونها معجزة الآية الثانية والأحاديث الصحيحة التي صحتها بحسب الضابطة العقلية زائدة على صحة هذه الأناجيل المحرفة المملوءة بالأغلاط، والاختلافات المروية برواية الآحاد المفقود أسانيدها المتصلة، كما علمت في الباب الأول والثاني.

ثم قال: (إن علاقة الآية الثانية بالآية الأولى أن المنكرين يرون في آخر الزمان علامات القيامة ولا يؤمنون بها، بل يقولون على عادة كفار السلف أنها سحر فاحش لا غير) انتهى كلامه.

وهذا أيضاً غلط بوجهين:

الأول: أن المنكر لا ينكر عناداً، والكافر لا ينسب الأمر الخارق للعادة إلى السحر إلا إذا كان أحد ادعى أن هذا الأمر الخارق من معجزاتي أو كراماتي. وإذا ظهرت علامات القيامة في آخر الزمان من غير الادعاء فكيف ينكرها المنكرون، وكيف يقولون: أنها سحر فاحش لا غير.

والثاني: أن انشقاق القمر في المستقبل لا يكون إلا في يوم القيامة، خاصة وفي هذا اليوم لا يقول الكفار إنه سحر مستمر لظهور أمر القيامة في هذا اليوم على كل أحد. إلا أن يكون أحد منهم عاقلاً معانداً مثل هذا الموجه فلعله يقول بزعمه، أو يتفوه بهذا القول هذا الموجه بنفسه أو أمثاله من علماء بروتستنت، بعد انبعاثهم من أحداثهم لرسوخ عناد الدين المحمدي في قلوبهم.

ثم قال: (لو ظهرت هذه المعجزة على يد محمد لأخبر المعاندين الذين كانوا يطلبون منه معجزة بأني شققت القمر في الوقت الفلاني فلا تكفروا) وستطلع على جوابه في الفصل الثاني على أتم وجه إن شاء اللّه.

وقال صاحب وجهة الإيمان منكراً لهذه المعجزة: (عدة أشخاص من المفسرين مثل الزمخشري والبيضاوي فسروا هذا المقام بأن القمر ينشق يوم القيامة، ولو وقع لاشتهر في جميع العالم ولا معنى لاشتهاره في إقليم واحد) انتهى كلامه ملخصاً.

وقد ظهر لك مما ذكرنا أن كلا الأمرين ليسا بصحيحين يقيناً، وهذا القسيس فاق مؤلف الميزان، حيث أورد الدليل النقلي والعقلي، وصرح باسم الكشاف، أيضاً لعله رأى في النسخة القديمة للميزان لفظاً كالبيضاوي وغيره، فظن أن المراد بالغير الكشاف، لأن البيضاوي له مناسبة كثيرة بالكشاف بالنسبة إلى التفاسير الأخر، فصرح باسم الكشاف ليحصل له الفضل على مؤلف الميزان.

وصاحب الكشاف قال في مبدأ تفسير هذه السورة: (انشقاق القمر من آيات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معجزاته النيرة) انتهى كلامه.

وقال صاحب الرسالة التي ألفها في جواب مكتوب الفاضل نعمت على الهند معترضاً على هذه المعجزة: (لا يثبت من هذه الآية أن هذه المعجزة صدرت عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولا يثبت هذا الأمر من التفاسير) انتهى.

وهذا الثالث بالخير المنبثق من الأولين فاق كليهما حيث قال: لا يثبت هذا الأمر من التفاسير لعله اعتقد أن القسيس الأول صادق في قوله كالبيضاوي وغيره، والقسيس الثاني صادق في قوله مثل الزمخشري والبيضاوي، ثم قاس حال سائر التفاسير على هذين التفسيرين فقال: ولا يثبت هذا الأمر من التفاسير، ليحصل له الفضل على القسيسين الأولين، ويظهر تبحره عند قومه بأنه طالع التفاسير كلها، فظهر أن كل لاحق من هؤلاء الثلاثة على سابقه، وهذا ليس بعجيب لأن مثل هذا الأمر قد شاع بين المسيحيين في القرن الأول كما يظهر من رسائل الحواريين، وصار من المستحسنات الدينية في القرن الثاني من القرون المسيحية  كما قال المؤرخ موشيم في بيان حال علماء القرن الثاني من القرون المسيحية في الصفحة 65 من المجلد الأول من تاريخه المطبوع سنة 1832: (كان بين متبعي رأي أفلاطون وفيثاغورس مقولة مشهورة أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة اللّه ليسا بجائزين فقط بل قابلان للتحسين، وتعلم أولاً منهم يهود مصر هذه المقولة قبل المسيح، كما يظهر هذا جزماً من كثير من الكتب القديمة، ثم أثر وباء هذا الغلط السوء في المسيحيين كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نسبت إلى الكبار كذباً) انتهى كلامه.

وقال آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره في شرح الباب الأول من رسالة بولس إلى أهل غلاطية:

(هذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الكاذبة الغير الصحيحة هيجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة، والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية) انتهى.

وإذا نسب أسلافهم أكثر من سبعين إنجيلاً إلى المسيح والحواريين ومريم عليهم السلام، فأي عجب لو نسب هؤلاء القسوس لأجل تغليط عوام أهل الإسلام بعض الأمور إلى تفاسير القرآن.

واعلم أن الرسالة الأخيرة كانت مشتهرة في الهند، وكان القسيسيون يقسمونها كثيراً في بلاده، لكن لما كتب عدة من علماء الإسلام عليها رداً واشتهر ما كتبوا تركوها وطبع ثلاثة كتب من كتب الرد عليها. الأول: "التحفة المسيحية" لسيد الدين الهاشمي. والثاني: "تأييد المسلمين" لبعض أقارب مجتهد شيعة لكنهوا. والثالث: "خلاصة سيف المسلمين" للفاضل حيدر علي القرشي.‏

 

3-  في البيضاوي: (روى أنه لما طلعت قريش من العقنقل، قال صلى اللّه عليه وسلم: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهم إني أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفاً من الحصباء فرمى بها في وجوههم. وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت) انتهى.

وقال اللّه تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى} يعني {وما رميت} يا محمد رمياً توصلها إلى أعينهم ولم تقدر عليه {إذ رميت} أي أتيت بصورة الرمي {ولكن اللّه رمى} أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً حتى انهزموا، وتمكنتم من قطع دابرهم.

وقال الفخر الرازي عليه الرحمة: (والأصح) أن هذه الآية نزلت في يوم بدر، وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) انتهى كلامه.

وقد عرفت في المقدمة حال ما تفوه به صاحب ميزان الحق على هذه المعجزة فلا أعيده.‏

 4- نبع الماء من بين أصابع النبي صلى اللّه عليه وسلم في مواطن متعددة، وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه السلام، فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة، وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره صلى اللّه عليه  وسلم. عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أنه قال: (رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بوضوء فوضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤوا منه قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه صلى اللّه عليه وسلم فتوضأ الناس حتى توضؤوا عن آخرهم) وهذه المعجزة صدرت بالزوراء عند سوق المدينة.‏

5- عن جابر رضي اللّه عنه: (عطش الناس يوم الحديبية ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه وقالوا: ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك فوضع النبي صلى اللّه عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون) وكان الناس ألفاً وأربعمائة.‏

 6- عن جابر رضي اللّه عنه (قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا جابر ناد بالوضوء وذكر الحديث بطوله وأنه لم نجد إلا قطرة في عزلاء شجب فأتى به النبي صلى اللّه عليه وسلم فغمره وتكلم بشيء لا أدري ما هو وقال: ناد بجفنة الركب فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بسط يده في الجفنة وفرق أصابعه وصب جابر عليه وقال: بسم الله. قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت. وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا. فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى) وهذه المعجزة صدرت في غزوة بواط.‏

7- عن معاذ بن جبل في قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجهه فيه ويديه ثم أعاده فيها، فجرت بماء كثير فاستقى الناس. قال في حديث ابن إسحاق: فانهرق من الماء ما له حس كحس الصواعق، ثم قال: يوشك يا معاذ إن طالت بك الحياة أن ترى ما ههنا قد مليء جناناً).‏

8- عن عمران بن الحصين رضي اللّه عنهما أنه قال: (حين أصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عطش في بعض أسفارهم، فوجه رجلين من أصحابه وأعلمهما أنهما يجدان امرأة بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان الحديث فوجداها وأتيا بها النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعل في إناء من مزاديتها وقال فيه ما شاء اللّه، ثم أعاد الماء في المزادتين ثم فتحت عزليها وأمر الناس فملؤوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئاً إلا ملؤه. قال عمران: ويخيل لي أنهما لم تزدادا إلا امتلاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملؤوا ثوبها وقال: اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ولكن اللّه سقانا).‏

9- في حديث عمر رضي اللّه عنه في جيش العسرة وذكر ما أصابهم من العطش، حتى أن الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر إلى النبي في الدعاء، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت 2 السماء فانسكبت فملؤوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر.‏

10- عن جابر رضي اللّه عنه أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يستطعمه، فاستطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره. فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم.‏

 

11- عن أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أطعم ثمانين رجلاً من أقراص من شعير، جاء بها أنس تحت يده أي إبطه.‏

 12- عن جابر رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق 3 قال جابر رضي اللّه عنه: فأقسم باللّه لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وأن برمتنا لتغط كما هي وأن عجيننا ليخبز، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصق في العجين والبرمة وبارك.‏

 

13- عن أبي أيوب رضي اللّه عنه أنه صنع لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولأبي بكر زهاء ما يكفيهما فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا، ثم قال: ادع ستين فكان مثل ذلك، ثم قال: ادع سبعين فأكلوا حتى تركوه. وما خرج منهم أحد حتى أسلم وبايع. قال أبو أيوب رضي اللّه عنه: فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلاً.‏

 14- عن سمرة بن جندب أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم ويقعد آخرون.‏

15- عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنهما قال: كنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاثين ومائة. وذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام وصنعت شاة فشوى سواد بطنها. وقال: وأيم اللّه ما من الثلاثين ومائة إلا قد حز له حزة، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا أجمعون وفضل في القصعتين فحملته على البعير.‏

16- عن سلمة بن الأكوع وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي اللّه عنهم فذكروا مخمصة أصابت الناس مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض مغازيه فدعا ببقية الأزواد، فجاء الرجل بالحثية 4 من الطعام وفوق ذلك، وأعلاهم الذي  يأتي بالصاع من التمر فجمع على نطع وقال سلمة: فحززته كربضة العنز، ثم دعا الناس بأوعيتهم فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤه وبقي منه.‏

17- عن أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين ابتنى بزينب، أمره أن يدعو له قوماً سماهم حتى امتلأ البيت والحجرة، فقدم لهم توراً فيه قدر من تمر جعل حيساً، فوضعه وغمس ثلاث أصابعه، وجعل القوم يتغدون ويخرجون، وبقي التور نحواً مما كان.‏

 18- عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن فاطمة طبخت قدراً لغدائهما، ووجهت علياً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت لجميع نسائه صحفة صحفة، ثم له عليه السلام، ثم لعلي، ثم لها، ثم رفعت القدر وأنها لتفيض. قالت: فأكلنا منها ما شاء اللّه.‏

19-  عن جابر رضي اللّه عنه في دين أبيه بعد موته، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ماله فلم يقبلوه، ولم يكن في ثمرها كفاف دينهم، فجاءه النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد أن أمره بجذها وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا. فأوفى منه جابر غرماءه وفضل مثل ما كانوا يجدون كل سنة.‏

20- قال أبو هريرة رضي اللّه عنه: أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هل من شيء؟ فقلت: نعم شيء من التمر في المزود. قال: فآتى به. فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال: ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا. وقال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبه، فقبضت على أكثر ما جئت به فأكلت منه وأطعمت حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى أن قتل عثمان فانتهب مني فذهب.

ومعجزة تكثير الطعام ببركة دعائه مروية عن بضعة عشر صحابياً، ورواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد بعدهم، وأكثرها وردت في قصص مشهورة ومجامع مشهورة، ولا يمكن التحدث عنها إلا على وفق الصدق حذراً من التكذيب، وإنما حصل النبي صلى اللّه عليه وسلم أولاً الماء القليل أو الطعام القليل ثم كثره، ولم يخترع من بدء الأمر من العدم إلى الوجود الماء الكثير، أو الطعام الكثير، مراعاة للأدب بحسب الظاهر ليعلم أن الموجد هو اللّه. وإنما حصلت البركة بسبب النبي صلى اللّه عليه وسلم. وإن كان التكثير أيضاً في الحقيقة من جانب اللّه كالإيجاد. وهكذا فعله الأنبياء كما يظهر من معجزة ايلياء عليه السلام في تكثير الدقيق والزيت في بيت امرأة أرملة على ما صرح به في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول، ومن معجزة اليسع عليه السلام في تكثير عشرين خبزاً من شعير وسنبل مفروك في منديل حتى أكل مائة رجل وفضل، كما هو مصرح به في الباب الرابع من سفر الملوك الثاني، ومن معجزة عيسى عليه السلام في تكثير خمسة أرغفة وسمكتين على ما صرح به في الباب الرابع عشر من إنجيل متى.‏

 

21- عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فدنا منه أعرابي، فقال: يا أعرابي أين تريد؟ قال: أهلي، قال: هل لك إلى خير؟ قال: وما هو؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، قال: من يشهد لك على ما تقول، قال: هذه الشجرة السمرة، وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً. فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى مكانها.‏

22- عن جابر رضي اللّه عنه ذهب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن اللّه، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده. وذكر جابر أنه فعل بالأخرى كذلك حتى إذا كان بالمنصف بينهما قال: التئما علي بإذن اللّه فالتأمتا، فجلس خلفهما فخرجت أخضر. وجلست أحدث نفسي فالتفت فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبلاً والشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق.‏

23-  عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال لأعرابي: أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول اللّه؟ قال: نعم. فدعاه فجعل ينقد حتى أتاه فقال: ارجع. فعاد إلى مكانه.‏

 24- عن جابر رضي اللّه عنه كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر، سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، وفي رواية أنس: حتى ارتج المسجد لخواره، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به، وفي رواية المطلب: حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. والخبر بأنين الجذع وحنينه باعتبار مبناه مشهور عند السلف والخلف، وباعتبار معناه متواتر يفيد العلم القطعي. رواه من الصحابة بضعة عشر منهم أُبَيِّ بن كعب، وأنس بن مالك، وعبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عباس، وسهل بن سعد الساعدي، وأبو سعيد الخدري، وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة، رضي اللّه عنهم كلهم يحدثون بمعنى هذا الحديث وإن كانت ألفاظهم مختلفة في باب التحديث، فلا شك في حصول التواتر المعنوي.‏

25- عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: كان حول البيت ستون وثلثمائة  صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة، فلما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسجد عام الفتح، جعل يشير بقضيب في يده إليها ولا يمسها ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ولا لقفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم.‏

26-  دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلاً إلى الإسلام، فقال: لا أؤمن بك حتى تحيي لي ابنتي. فقال صلى اللّه عليه وسلم: أرني قبرها فأراه إياه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: يا فلانة. قالت: لبيك وسعديك. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: أتحبين أن ترجعي إلى الدنيا؟ فقالت: لا واللّه يا رسول اللّه إني وجدت اللّه خيراً لي من أبوي، ووجدت الآخرة خيراً من الدنيا.‏

27- ذبح جابر رضي اللّه عنه شاة وطبخها وثرد في جفنة. وأتى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكل القوم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم: كلوا ولا تكسروا عظماً. ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا الشاة قامت تنفض ذنبها.‏

 28- عن سعد بن وقاص رضي اللّه عنه قال: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليناولني السهم لأتصل به فيقول: ارم به، وقد رمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ عن قوسه، حتى اندقت وأصيبت يومئذ عين قتادة يعني ابن النعمان حتى وقعت على وجنتيه، فردها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانت أحسن عينيه.‏

29- عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال لرسول الله: ادع اللّه أن يكشف لي عن بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِ ركعتين، ثم قل: اللّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف لي عن بصري، اللّهم شفعه في. قال: فرجع وقد كشف اللّه عن بصره.‏

30- ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخذ بيده حثوة من الأرض فتفل عليها فأعطاها رسوله، فأخذها متعجباً يرى أن قد هزئ به فأتاه بها وهو على شفاء فشربها فشفاه اللّه تعالى.‏

 31- عن حبيب بن فديك، أن أباه ابيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئاً فنفث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الإبرة وهو ابن ثمانين.‏

31- تفل في عيني علي رضي اللّه عنه يوم خيبر وكان رمداً فأصبح بارئاً.‏

33-  نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرأت.‏

34- أتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه ثم أعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضل عقول الناس.‏

25- عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح صدره، فثع ثعة، فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي.‏

36- انكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل، فمسح عليه، ودعا له وتفل فيه، فبرأ لحينه.‏

37- كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فما زال يطحنها حتى رفعها ولم يبق لها أثر.‏

38- عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قالت أمي: يا رسول اللّه خادمك أنس ادع اللّه له. فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته. قال أنس: فواللّه إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة.‏

 39- دعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق اللّه ملكه، فلم تبق له باقية ولا بقيت لفارس رياسة في سائر أقطار الدنيا.‏

40- عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما أخرجت جبة طيانسة وقالت: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يلبسها، فنحن تغسلها للمرضى يستشفى بها. وهذه المعجزات، وإن لم يتواتر كل واحد منها، فالقدر المشترك بينها متواتر بلا شبهة، كشجاعة علي، وسخاوة حاتم، وهذا القدر يكفي، والحالات التي نقلها مرقس ولوقا كلها آحاد ليس اعتبارها مثل الأحاديث الصحيحة المروية بروايات الآحاد الثابتة أسانيدها المتصلة، بل الحالات التي اتفق على نقلها الإنجيليون الأربعة آحاد لا يزيد اعتبارها عندنا على رواية الآحاد كما عرفت في الباب الأول.‏

 

[أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم]

 

أنه قد اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة، والأوصاف الجزيلة، والكمالات العلمية والعملية، والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن، ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع في غير نبي، فإن كل واحد منها وإن كان يوجد في غير النبي أيضاً، لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء، فاجتماعها في ذاته صلى اللّه عليه وسلم من دلائل النبوة وقد أقر المخالفون أيضاً بوجود أكثر هذه المحاسن في ذاته صلى اللّه عليه وسلم، مثلاً "اسبان هميس المسيحي" من الذين هم أشد أعداء النبي صلى اللّه عليه وسلم والطاعنين في حقه، لكنه اضطر في الإقرار بوجود أكثر الأمور المذكورة في ذاته صلى اللّه عليه وسلم. كما نقل سيل قوله في مقدمة ترجمة القرآن في الصفحة السادسة من النسخة المطبوعة سنة 1850 هكذا: (أنه كان حسن الوجه وزكيًا و كانت طريقته مرضية، وكان الإحسان إلى المساكين شيمته، وكان يعامل الكل بالخلق الحسن، وكان شجاعاً على الأعداء، وكان يعظم اسم اللّه تعظيماً عظيماً، وكان يشدد على المفترين، والذين يرمون البرآء، والزانين، والقاتلين، وأهل الفضول، والطامعين، وشهود الزور، تشديداً بليغاً، وكانت كثرة وعظه في الصبر والجود والرحم والبر والإحسان وتعظيم الأبوين والكبار وتوقيرهم وتكريمهم، وكان عابداً مرتاضاً في الغاية) انتهى كلامه.

(المسلك الثالث) مَنْ نظر إلى ما اشتملت شريعته الغراء عليه مما يتعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والسياسات والآداب والحكم، علم قطعاً أنها ليست إلا من الوضع الإلهي، والوحي السماوي، وأن المبعوث بها ليس إلا نبياً. وقد عرفت في الباب الخامس، أن اعتراضات القسيسين عليها ضعيفة جداً، منشؤها العناد الصرف والاعتساف.

(المسلك الرابع) أنه عليه السلام ادعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم: أني بعثت من عند اللّه بالكتاب المنير والحكمة الباهرة لأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح. وانتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره، مخالفاً لجميع أهل الأرض آحادهم وأوساطهم وسلاطينهم وجبابرتهم، فضلل آراءهم وسفه أحلامهم وأبطل مللهم وهدم دولهم، وظهر دينه على الأديان في مدة قليلة شرقاً وغرباً، وزاد على مر الأعصار والأزمان، ولم يقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم وشدة شوكتهم وشكيمتهم، وفرط تعصبهم وحميتهم وبذل غاية جهدهم في إطفاء نور دينه وطمس آثار مذهبه. فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي وتأييد سماوي، ولنعم ما قال غمالائيل معلم اليهود لهم في حق الحواريين: (يا أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس فيما أنتم مزمعون أن تفعلوا). 36 (لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلاً عن نفسه: أنه شيء الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة، الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء). 37 (بعد هذا قام يهودا الجليلي في أيام الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً، فذاك أيضاً هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا). 38 (والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم لأنه إن كان هذا الرأي وهذا العمل من الناس فسوف ينتقض) 39 (وإن كان من اللّه فلا تقدرون أن تنتقضوه لئلا توجدوا محاربين للّه أيضاً) كما هو مصرح به في الباب الخامس من كتاب الأعمال، والآية السابعة من الزبور الأول هكذا: (لأن الرب يعرف طريق الصديقين وطريق المنافقين تهلك) والآية السادسة من الزبور الخامس هكذا: (وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب، الرجل السافك الدماء والغاش يرذله الرب). والآية السادسة عشرة من الزبور الرابع والثلاثين هكذا: (وجه الرب على الذين يعملون المساوئ ليبيد من الأرض ذكرهم) وفي الزبور السابع والثلاثين هكذا 17: (لأن سواعد الخطاة تنكر، والرب يعضد الصديقين) 20 (الخطاة فيهلكون، وأعداء الرب جميعاً إذ يمجدون ويرتفعون، يبيدون، وكالدخان يفنون). فلو لم يكن محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصديقين لأهلك الرب طريقه ورذله وأباد ذكره من الأرض، وكسر سواعده وأفناه كالدخان. لكنه لم يفعل شيئاً منها، فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصديقين، ولعمري أن علماء بروتستنت في تكذيب الدين المحمدي محاربون اللّه لكن الوقت قريب فسوف يعلمون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ولا يقدرون على نقضه البتة كما وعد اللّه {يريدون ليطفئوا نور اللّه} أي دين الإسلام {بأفواههم} أي بأقوالهم الباطلة {واللّه متم نوره} أي مبلغه غايته {ولو كره الكافرون} أي اليهود والنصارى والمشركون، ولنعم ما قيل:

ألا قل لمن ظل لي حاسداً * أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على اللّه في فعله * لأنك لم ترض لي ما وهب

(المسلك الخامس) أنه ظهر في وقت كان الناس محتاجين إلى من يهديهم إلى الطريق المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان، ووأد البنات. والفرس على اعتقاد الإلهين ووطء الأمهات والبنات. والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد. والهند على عبادة البقر، والسجود للشجر والحجر. واليهود على الجحود ودين التشبيه، وترويج الأكاذيب المفتريات. والنصارى على القول بالتثليث، وعبادة الصليب وصور القديسين والقديسات. وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال والانحراف عن الحق والاشتغال بالمحال، ولا يليق بحكمة اللّه الملك المبين أن لا يرسل في هذا الوقت أحداً يكون رحمة للعالمين، وما ظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم ويؤسس هذا البنيان القويم غير محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأزال الرسوم الزائغة والمقالات الفاسدة، وأشرقت شموس التوحيد وأقمار التنزيه، وزالت ظلمة الشرك والوثنية والتثليث والتشبيه، عليه من الصلاة أفضلها ومن التحيات أكملها، وإليه أشار اللّه تعالى بقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير واللّه على كل شيء قدير}. قال الفخر الرازي قدس سره في تفسير هذه الآية: (الفائدة في بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم عند فترة من الرسل هي أن التغير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات، لأن لهم أن يقولوا يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث اللّه تعالى في هذا الوقت محمداً صلى اللّه عليه وسلم إزالة لهذا العذر) انتهى كلامه بلفظه.

(المسلك السادس) أخبار الأنبياء المتقدمين عليه، عن نبوته عليه السلام، ولما كان القسيسون يغلطون العوام في هذا الباب تغليطاً عظيماً استحسنت أن أقدم على نقل تلك الأخبار أموراً ثمانية تفيد للناظر بصيرة:

 (الأمر الأول) أن الأنبياء الإسرائيلية مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام، أخبروا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش واسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول، ثم صار شجرة عظيمة تأوي طيور السماء في أغصانها، فكسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقاً وبلغ دينه شرقاً وغرباً وغلب الأديان وامتد دهراً بحيث مضى على ظهوره مدة ألف ومائتين وثمانين إلى هذا الحين ويمتد إن شاء اللّه إلى آخر بقاء الدنيا، وظهر في أمته ألوف ألوف من العلماء الربانيين والحكماء المتقنين والأولياء ذوي الكرامات والمجاهدات والسلاطين العظام، وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث، وما كانت أقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة.

(الأمر الثاني) أن النبي المتقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر، لا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني، وتكون صفته كيت وكيت، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام، وأما عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب ولذلك يعاتبون كما عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله: (ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل لوقا، وعلى مذاق المسيحيين قد يبقى خفياً على الأنبياء فضلاً عن العلماء بل قد يبقى خفياً على النبي المخبر عنه على زعمهم في الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: 19 (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت) 20 (فاعترف ولم ينكروا قرأني لست أنا المسيح) 21 (فسألوه ماذا إذاً أنت، إيلياء؟ فقال لست أنا إيلياء فسألوه أنت النبي فأجاب لا) 22 (فقالوا له من أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك) 23 (قال أنا صوت صارخ في البرية قوّموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي) 24 (وكان المرسلون من الفريسيين) 25 (فسألوه وقالوا له فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي). والألف واللام في لفظ النبي الواقع في الآية 21 و 25 للعهد، والمراد النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء على ما صرح به العلماء المسيحية، فالكهنة واللاويون كانوا من علماء اليهود وواقفين على كتبهم وعرفوا أيضاً أن يحيى عليه السلام نبي، لكنهم شكوا في أنه المسيح عليه السلام أو إيلياء عليه السلام أو النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فظهر منه أن علامات هؤلاء الأنبياء الثلاثة لم تكن مصرحة في كتبهم بحيث لا يبقى الاشتباه للخواص فضلاً عن العوام فلذلك سألوا أولاً أنت المسيح فبعد ما أنكر يحيى عليه السلام عن كونه مسيحاً سألوه أنت إيلياء فبعد ما أنكر عن كونه إيلياء أيضاً سألوه أنت النبي المعهود.

ولو كانت العلامات مصرحة لما كان للشك محل بل ظهر منه أن يحيى عليه السلام لم يعرف نفسه أنه إيلياء حتى أنكر، فقال لست أنا وقد شهد عيسى أنه إيلياء في الباب الحادي عشر من إنجيل متى. قول عيسى عليه السلام في حق يحيى عليه السلام هكذا: (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي) وفي الباب السابع عشر من إنجيل متى هكذا: 10 (وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيلياء ينبغي أن يأتي أولاً) 11 (فأجاب يسوع وقال لهم أن  إيلياء يأتي أولاً ويرد كل شيء) 12 (ولكني أقول لكم أن إيلياء قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم) 13 (حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان). وظهر من العبارة الأخيرة أن علماء اليهود لم يعرفوه بأنه إيلياء وفعلوا به ما فعلوا وأن الحواريين أيضاً لم يعرفوه بأنه إيلياء مع أنهم كانوا أنبياء في زعم المسيحيين وأعظم رتبة من موسى عليه السلام وكانوا اعتمدوا من يحيى ورأوه مراراً، وكان مجيئه ضرورياً قبل إلههم ومسيحهم.

وفي الآية 33 من الباب الأول من إنجيل يوحنا قول يحيى هكذا: (وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس) ومعنى قوله: (وأنا لم أكن أعرفه) على زعم القسيسين أنا لم أكن أعرفه معرفة جيدة بأنه المسيح الموعود، فعلم أن يحيى عليه السلام ما كان يعرف عيسى عليه السلام معرفة يقينية بأنه المسيح الموعود به إلى ثلاثين سنة ما لم ينزل الروح القدس، لعل كون ولادة المسيح من العذراء لم يكن من العلامات المختصة بالمسيح، وإلا فكيف يصح هذا، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن يحيى أشرف الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى وأن عيسى عليه السلام إلهه وربه على زعم المسيحيين، وكان مجيئه ضرورياً قبل المسيح، وكان كونه إيلياء يقينياً، فإذا لم يعرف هذا النبي الأشرف نفسه إلى آخر العمر، ولم يعرف إلهه وربه إلى المدة المذكورة، وكذا لم يعرف الحواريون الذين هم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية مدة حياة يحيى أنه إيلياء، فماذا رتبة العلماء والعوام عندهم في معرفة النبي اللاحق بخبر النبي المتقدم عنه وترددهم فيه، وقيافا رئيس الكهنة كان نبياً على شهادة يوحنا، كما هو  مصرح به في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيله وهو أفتى بقتل عيسى عليه السلام وكفره وأهانه، كما هو مصرح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، ولو كانت علامات المسيح في كتبهم مصرحة بحيث لا يبقى الاشتباه على أحد، ما كان لهذا النبي المفتي بقتل إلهه وبكفره أن يفتي بقتله وكفره. ونقل متى ولوقا في الباب الثالث، ومرقس ويوحنا في الباب الأول من أناجيلهم خبر أشعيا في حق يحيى عليهما السلام، وأقر يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه على ما صرح به يوحنا. وهذا الخبر في الآية الثالثة من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (صوت المنادي في البرية، سهلوا طريق الرب، أصلحوا في البوادي سبيلاً لإلهنا) ولم يذكر فيه شيء من الحالات المختصة بيحيى عليه السلام لا من صفاته ولا من زمان خروجه، ولا مكان خروجه، بحيث لا يبقى الاشتباه، ولو لم يكن ادعاء يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه، وكذا ادعاء مؤلفي العهد الجديد، لما ظهر هذا للعلماء المسيحية وخواصهم فضلاً عن العوام، لأن وصف النداء في البرية يعم أكثر الأنبياء الإسرائيلية الذين جاؤوا من بعد أشعيا عليه السلام، بل يصدق على عيسى عليه السلام أيضاً. لأنه كان ينادي مثل نداء يحيى عليه السلام: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماء.

وسيظهر لك في الأمر السادس حال الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، ولا ندعي أن الأنبياء الذين أخبروا عن محمد صلى اللّه عليه وسلم كان إخبار كل منهم بصفته مفصلاً بحيث لا يكون فيه مجال التأويل للمعاند.

قال الإمام الفخر الرازي في ذيل تفسير قوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} واعلم أن الأظهر في الباء في قوله بالباطل أنها باء [ص 220] الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم. والمعنى لا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليه السلام نصوصاً خفية تحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات). انتهى كلامه بلفظه.

قال المحقق عبد الحكيم السيالكوتي في حاشيته على البيضاوي: (هذا فصل يحتاج إلى مزيد شرح وهو يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم وذلك لحكمة إلهية، وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم، لكن بإشارات، ولو كان منجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي، وقد ذكرت محصلة ألفاظ من التوراة والإنجيل إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه السلام بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي وعند العامة خفي). انتهى كلامه بلفظه.

(الأمر الثالث) ادعاء أن أهل الكتاب ما كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء، ادعاء باطل لا أصل له بل كانوا منتظرين لغيرهما أيضاً، لما علمت في الأمر الثاني أن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولاً: أنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء وكان مشهوراً بحيث ما كان محتاجاً إلى ذكر الاسم بل الإشارة إليه كانت كافية.

وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا بعد نقل قول عيسى عليه السلام هكذا: 40: (فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي) 41: (وآخرون قالوا هذا هو المسيح) وظهر من هذا الكلام أيضاً أن النبي المعهود عندهم كان غير المسيح ولذلك قابلوا بالمسيح.

(الأمر الرابع) ادعاء أن المسيح خاتم النبيين ولا نبي بعده باطل، لما عرفت في الأمر الثالث أنهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الآخر الذي يكون غير المسيح وإيلياء عليهم السلام، ولما لم يثبت بالبرهان مجيئه قبل المسيح فهو بعده ولأنهم يعترفون بنبوة الحواريين وبولس بل بنبوة غيرهم أيضاً.

وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال هكذا: 27 (في تلك الأيام انحدر الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية) 28 (وقام واحد معهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعاً عظيماً كان عتيداً أن يصير على جميع المسكونة الذي صار في أيام كلوديوس) (قيصر) فهؤلاء كلهم كانوا أنبياء على تصريح إنجيلهم وأخبر واحد منهم اسمه أغابوس عن وقوع الجدب العظيم.

وفي الباب الحادي والعشرين من الكتاب المذكور هكذا: 10 (وبينما نحن مقيمون أياماً كثيرة انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابوس) 11 (فجاء إلينا وأخذ منطقة بولس وربط يد نفسه ورجليه وقال هذا بقوله الروح القدس، الرجل الذي له هذه المنطقة، هكذا سيربطه اليهود في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم).

وفي هذه العبارة أيضاً تصريح بكون أغابوس نبياً، وقد يتمسكون لإثبات هذا الادعاء بقول المسيح المنقول في الآية الخامسة عشر من الباب السابع من إنجيل متى هكذا: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثبات الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة) والتمسك به عجيب لأن المسيح عليه السلام أمر بالاحتراز من الأنبياء الكذبة لا الأنبياء الصدقة أيضاً ولذلك قيد بالكذبة، نعم لو قال احترزوا من كل نبي يجيء بعدي لكان بحسب الظاهر وجه للتمسك  وإن كان واجب التأويل عندهم، لثبوت نبوة الأشخاص المذكورين، وقد ظهر الأنبياء الكذبة الكثيرون في الطبقة الأولى بعد صعوده كما يظهر من الرسائل الموجودة في العهد الجديد في الباب الحادي عشر من الرسالة الثانية إلى أهل قورنثيوس هكذا: 12 (ولكن ما أفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضاً فيما يفتخرون به) 13 (لأن مثل هؤلاء رسل كذبة فعله ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح) فمقدسهم ينادي بأعلى نداء أن الرسل الكذبة الغدارين ظهروا في عهده وقد تشبهوا برسل المسيح.

وقال آدم كلارك المفسر في شرح هذا المقام: (هؤلاء الأشخاص كانوا يدعون كذباً أنهم رسل المسيح، وما كانوا رسل المسيح في نفس الأمر وكانوا يعظون ويجتهدون، لكن مقصودهم ما كان إلا جلب المنفعة).

وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (أيها الأحياء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من اللّه، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم). فظهر من العبارتين أن الأنبياء الكذبة قد ظهروا في عهد الحواريين.

وفي الباب الثامن من كتاب الأعمال هكذا: 9 (وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر، ويدهش شعب السامرة قائلاً أنه شيء عظيم) 10 (وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة اللّه العظيمة).

وفي الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور هكذا: (ولما اجتازا الجزيرة إلى باقوس وجدا رجلاً ساحراً نبياً كذاباً يهودياً اسمه باريشوع) وكذا سيظهر الدجالون الكذابون يدعي كل منهم أنه المسيح كما أخبر عيسى عليه السلام وقال: (لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو [ص 223] المسيح ويضلون كثيرين) كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة لا من الأنبياء الصادقين أيضاً، ولذلك قال بعد القول المذكور في الباب السابع (من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً).

ومحمد صلى اللّه عليه وسلم من الأنبياء الصادقين، كما يدل عليه ثماره على ما عرفت في المسالك المتقدمة، ولا اعتبار لمطاعن المنكرين كما ستعرف في الفصل الثاني، ولأن كل شخص يعلم أن اليهود ينكرون عيسى بن مريم عليهما السلام ويكذبونه وليس عندهم رجل أشر منه، من ابتداء العالم إلى زمان خروجه، وكذا ألوف من الحكماء والعلماء الذين هم من أبناء صنف القسيسين وكانوا مسيحيين ثم خرجوا عن هذه الملة لاستقباحهم إياها، ينكرونه ويستهزؤون به وبملته وألفوا رسائل كثيرة لإثبات آرائهم واشتهرت هذه الرسائل في أكناف العالم، ويزيد متبعوهم كل يوم في ديار أوربا، فكما أن إنكار اليهود وهؤلاء الحكماء والعلماء في حق عيسى عليه السلام غير مقبول عندنا، فكذا إنكار أهل التثليث في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم غير مقبول عندنا.

(الأمر الخامس) الإخبارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدق عليه، على تفاسير اليهود وتأويلاتهم، ولذلك هم ينكرونه أشد الإنكار، والعلماء المسيحية لا يلتفتون في هذا الباب إلى تفاسيرهم وتأويلاتهم ويفسرونها ويؤولونها بحيث تصدق في زعمهم على عيسى عليه السلام. قال صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الأول في الصفحة 46 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1849: (المعلمون القدماء من الملة المسيحية ادعوا هذه الدعوى  الصحيحة فقط أن اليهود أوّلوا الآيات التي كانت إشارة إلى يسوع المسيح بتأويلات غير صحيحة وغير لائقة وبينوها خلاف الواقع) انتهى.

وقوله ادّعوا هذه الدعوى الصحيحة فقط غلط يقيناً لأن المعلمين القدماء كما ادعوا هذه الدعوى ادعوا أن اليهود حرفوا الكتب تحريفاً لفظياً كما عرفت في الباب الثاني، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول كما أن تأويلات اليهود في الآيات المذكورة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند المسيحيين، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم مردودة غير مقبولة عندنا، وسترى أن الإخبارات التي ننقلها في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم أظهر صدقاً من الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، فلا بأس علينا إن لم نلتفت إلى تأويلاتهم الفاسدة، وكما أن اليهود ادعوا في حق بعض الإخبارات التي هي في حق عيسى عليه السلام على زعم المسيحيين أنها في حق مسيحهم المنتظر أو في حق غيره أو ليست في حق أحد، والمسيحيون يدعون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم، فكذا نحن لا نبالي بمخالفة المسيحيين في حق بعض الإخبارات التي هي في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم لو قالوا أنها في حق عيسى عليه السلام، وسترى أيضاً أن صدقها في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم أليق من صدقها في حق عيسى عليه السلام، فادعاؤنا أحق من ادعائهم.

(الأمر السادس) مؤلفوا العهد الجديد باعتقاد المسيحيين ذوو إلهام وقد نقلوا الإخبارات في حق عيسى عليه السلام فيكون هذا النقل على زعمهم بالإلهام، فأذكر نبذاً منها بطريق الأنموذج ليقيس المخاطب حال هذه الإخبارات بالإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم، وإن سلك أحد من القسيسين مسلك الاعتساف وتصدى لتأويل الإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك يجب عليه أن يوجه أولاً الإخبارات التي نقلها مؤلفوا العهد الجديد في حق عيسى عليه السلام، ليظهر للمنصف اللبيب حال الإخبارات التي نقلها الجانبان، ويقابلهما باعتبار القوة والضعف وإن غمض النظر عن توجيه الإخبارات العيسوية التي نقلها المؤلفون المذكورون.

وأول الإخبارات المحمدية التي أنقلها في هذا المسلك يكون محمولاً على عجزه وتعصبه، لأنك قد علمت في الأمر الثاني والخامس أن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات، وإنما اكتفيت على نبذ مما نقله مؤلفو العهد الجديد، لأنه إذا ظهر أن البعض منها غلط يقيناً، والبعض منها محرف، والبعض منها لا يصدق على عيسى عليه السلام إلا بالادعاء البحت والتحكم الصرف، ظهر أن حال الإخبارات الأخر التي نقلها المسيحيون الذين ليسوا ذوي إلهام روحي، يكون أسوأ، فلا حاجة إلى نقلها.

(الخبر الأول) ما هو المنقول في الباب الأول من إنجيل متى، وقد عرفت في بيان الغلط الخمسين في الفصل الثالث من الباب الأول أنه غلط، على أن كون مريم عذراء وقت الحبل غير مسلم عند اليهود والمنكرين، ولا يتم عليهم حجة، لأنها قبل ولادة عيسى عليه السلام، كانت في نكاح يوسف النجار على تصريح الإنجيل واليهود المعاصرون لعيسى عليه السلام، ويقولون أنه ولد يوسف النجار كما هو مصرح به في الآية 55 من الباب 13 من إنجيل متى والآية 45 من الباب 1 والآية 42 من الباب السادس من إنجيل يوحنا، وإلى الآن يقولون هكذا بل أشنع منه، والعلامة الأخرى المختصة بعيسى عليه السلام غير مذكورة في هذا الخبر.

(والخبر الثاني) ما هو المنقول في الآية السادسة من الباب الثاني من إنجيل متى، وهو إشارة إلى الآية الثانية من الباب الخامس من كتاب ميخا،  ولا تطابق عبارة متى عبارة ميخا، وأحدهما محرفة، وقد عرفت في الشاهد الثالث والعشرين من المقصد الأول من الباب الثاني، أن محققيهم اختاروا تحريف عبارة ميخا، لكن ادعاؤهم هذا لأجل محافظة الإنجيل فقط، وعند المخالف باطل.

(والخبر الثالث) ما هو المنقول في الآية الخامسة عشر، من الباب المذكور من إنجيل متى.

(والخبر الرابع) ما هو منقول في الآية 17 و 18 من الباب المذكور.

(والخبر الخامس) ما هو المنقول في الآية الثالثة والعشرين من الباب المذكور. وهذه الأخبار الثلاثة غلط كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول.

(والخبر السادس) الآية التاسعة من الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، وقد عرفت في الشاهد التاسع والعشرين من المقصد الثاني من الباب الثاني أنه غلط، على أن هذا الحال يوجد في الباب الحادي عشر من كتاب زكريا، ولا مناسبة له بالقصة التي نقلها متى، لأن زكريا عليه السلام بعد ما ذكر اسمي عصوين ورعى قطيع يقول هكذا ترجمة عربية سنة 1844: 12 (وقلت لهم إن حسن في أعينكم فهاتوا أجري وإلا فكفوا فوزنوا أجري ثلاثين من الفضة) 13 (وقال لي الرب ألقها إلى صناع التماثيل ثمناً كريماً أثموني به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها في بيت الرب إلى صناع التماثيل). فظاهر كلام زكريا أنه بيان حال، لا إخبار عن الحادثة الآتية، وأن يكون آخذ الدراهم من الصالحين مثل زكريا عليه السلام لا من الكافرين مثل يهودا.

(والخبر السابع) ما نقله مقدسهم بولس في الآية السادسة من الباب الأول من الرسالة العبرانية، وقد عرفت حاله في الفصل الثالث أنه غلط لا يصدق على عيسى عليه السلام.

 (والخبر الثامن) الآية الخامسة والثلاثون من الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا: (لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سأفتح بأمثال فمي وأنطق بمكتوبات منذ تأسيس العالم) وهو إشارة إلى الآية الثانية من الزبور الثامن والسبعين، لكنه ادعاء محض وتحكم بحت، لأن عبارة هذا الزبور هكذا: 2 (أفتح بالأمثال فمي وأنطق بالذي كان قديماً) 3 (كل ما سمعناه وعرفناه وآباؤنا أخبرونا) 4 (ولم يخفوه عن أولادهم إلى الجيل الآخر إذ يخبرون بتسابيح الرب وقواته وعجائبه التي صنع) 5 (إذ أقام الشهادة في يعقوب، ووضع الناموس في إسرائيل كل الذي أوصى آباؤنا ليعرفوا به أبناءهم) 6 (لكيما يعلم الجيل الآخر بينهم المولدين) 7 (فيقومون أيضاً ويخبرون به أبناؤهم) 8 (لكي يجعلوا اتكالهم على اللّه ولا ينسوا أعمال اللّه ويلتمسوا وصايا) 9 (لئلا يكونوا مثل آبائهم الجيل الأعرج المتمرد الذي لم يستقم قلبه ولا آمنت باللّه روحه). وهذه الآيات صريحة في أن داود عليه السلام يريد نفسه، ولذا عبر عن نفسه بصيغة المتكلم، ويروي الحالات التي سمعها من الآباء ليبلغ إلى الأبناء على حسب عهد اللّه لتبقى الرواية محفوظة، وبين من الآية العاشرة إلى الخامسة والستين، حال إنعامات اللّه والمعجزات الموسوية، وشرارة بني إسرائيل وما لحقهم بسببها. ثم قال: 65 (واستيقظ الرب كالنائم مثل الجبار المفيق من الخمر) 66 (فضرب أعداءه في الوراء وجعلهم عاراً إلى الدهر) 67 (وأبعد محله يوسف ولم يختر سبط إفرام) 68 (بل اختار سبط يهوذا لجيل صهيون الذي أحب) 69 (وبنى مثل وحيد القرن قدسه وأسسه في الأرض إلى الأبد) 70 (واختار داود عبده وأخذه من مراعي الغنم) 71 (ومن خلف المرضعات، أخذه ليرعى يعقوب عبده وإسرائيل ميراثه) 72 (فرعاهم بدعة قلبه وبفهم يديه أهداهم). وهذه الآيات الأخيرة أيضاً دالة صراحة في أن هذا الزبور في حق داود عليه السلام فلا علاقة  لهذا بعيسى عليه السلام.

(والخبر التاسع) في الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: 14 (لكي يتم ما قيل بأشعيا النبي القائل) 15 (أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم) 16 (الشعب الجالس في ظلمة، أبصر نوراً عظيماً والجالسون في كورة الموت وظلاله، أشرق عليهم نور) وهو إشارة إلى الآية الأولى والثانية من الباب التاسع من كتاب أشعيا وعبارته هكذا: (في الزمان استخفت أرض زبلون وأرض نفتالي وفي الآخر تثقلت طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم) 2 (الشعب السالك في الظلمة رأى نوراً عظيماً، الساكنون في بلاد ظلال الموت أشرق عليهم نور). وفرق ما بين العبارتين فإحداهما محرفة ومع قطع النظر عن هذا، لا دلالة لكلام أشعيا على ظهور شخص، بل الظاهر أن أشعيا عليه السلام يخبر أن حال سكان أرض زبلون ونفتالي كان سقيماً في سالف الزمان ثم صار حسناً كما تدل عليه صيغ الماضي، أعني استخفت وتثقلت ورأى وأشرق وإن عدلنا عن الظاهر وحملنا على المجاز بمعنى المستقبل وقلنا أن رؤية النور وإشراقه عليهم، عبارة عن مرور الصلحاء بأرضهم، فادعاء أن مصداق هذا الخبر عيسى عليه السلام فقط تحكم صرف، لأن كثيراً من الأولياء والصلحاء مر بتلك الأرض، سيما أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وأولياء أمته أيضاً الذين زالت ظلمة الكفر والتثليث من هذه الديار بسببهم، وظهر نور التوحيد وتصديق المسيح كما ينبغي. وأكتفي خوفاً من التطويل على هذا القدر ونقلت الأخبار الأخر أيضاً في إزالة الأوهام وغيره من مؤلفاتي وبينت وجوه ضعفها.

(الأمر السابع) أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام اللّه في زعمهم،  ولا يشيرون إلى الامتياز. وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة وأنا أورد أيضاً بطريق الأنموذج بعضاً منها.‏

1- في الآية الرابعة عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا: (لذلك دعت اسم تلك البيرني بير الحي الناظر، فترجموا اسم البئر الذي كان في العبراني بالعربي.‏

2- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (سمى إبراهيم اسم الموضع مكان يرحم اللّه زائره) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (دعا اسم ذلك الرب يرى) فترجم المترجم الأول الاسم العبراني بمكان يرحم اللّه زائره والمترجم الثاني بالرب يرى.‏

3- وفي الآية العشرين من الباب الحادي والثلاثين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (فكتم يعقوب أمره عن حميه) وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 لفظ لابان موضع حميه فوضع مترجمو العربية لفظ الحمى موضع الاسم.‏

4- وفي الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844: (فلا يزول القضيب من يهودا والمدير من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم). فقوله (الذي له الكل) ترجمة لفظ شيلوه وهذه الترجمة موافقة الترجمة اليونانية. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (فلا يزول القضيب من يهودا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه يجتمع الشعوب). وهذا المترجم ترجم لفظ شيلوه (بالذي هو له) وهذه الترجمة موافقة للترجمة السريانية وترجم هذا اللفظ محققهم  المشهور ليكلرك بعاقبته، وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 وقع لفظ شيلا، وفي الترجمة اللاتينية ولتكيت (الذي سيرسل). فالمترجمون ترجموا لفظ شيلوه بما ظهر وترجح عندهم وهذا اللفظ كان بمنزلة الاسم للشخص المبشر به.‏

5- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الثالث من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 فقال اللّه لموسى (أهيه أشراهيه) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (قال له الأزلي الذي لا يزال). فلفظ أهيه أشراهيه كان بمنزلة اسم الذات فترجمه المترجم الثاني بالأزلي الذي لا يزال.‏

6- وفي الآية الحادية عشر من الباب الثامن من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (تبقى في النهر فقط). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (تبقى في النيل فقط).‏

7- وفي الآية الخامسة عشر من الباب السابع من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (فابتنى موسى مذبحاً ودعا اسمه الرب عظمتي). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (وبنى مذبحاً وسماه اللّه علمي). وترجمة أردو موافقة لهذه الأخيرة، فأقول مع قطع النظر عن الاختلاف أن المترجمين ترجموا الاسم العبراني.‏

8- وفي الآية الثالثة والعشرين من الباب الثلاثين من سفر الخروج في الترجمتين المذكورتين هكذا: (من ميعة فائقة). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (من المسك الخالص، وبين الميعة والمسك فرق ما، ففسروا الاسم العبراني بما ترجح عندهم).‏

9- وفي الآية الخامسة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمتين المذكورتين هكذا: (فمات هناك موسى عبد الرب). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (فمات هناك موسى رسول اللّه). فهؤلاء المترجمون لو بدلوا في البشارات المحمدية، لفظ رسول اللّه بلفظ آخر فلا استبعاد منهم.‏

10- وفي الآية الثالثة عشر من الباب العاشر من كتاب يوشع، في الترجمة المطبوعة سنة 1844 هكذا: (أليس هذا مكتوباً في سفر الأبرار). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (أليس هو مكتوباً في سفر المستقيم). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838 لفظ (يا صار) موضع الأبرار أو المستقيم.  وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1845 لفظ (ياشر). وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1835 لفظ (يا شا لعل يا صار) أو (يا شر أو يا شا) اسم مصنف الكتاب، فترجم مترجمو العربية، هذا الاسم على آرائهم بالأبرار أو المستقيم.‏

11- وفي الباب الثامن من كتاب أشعيا، في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا: 1 (وخدا وندمر افرمودكه لوحي بزرك بكيرواز قلم كند كاردر باب مهر شالال جاشنر بنويس) 3 (أورامهر شالال جشنر نام ينه). وترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 توافقها. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: 1 (وقال لي الرب خذ لك مدرجاً عظيماً واكتب فيه بكتابة إنسان انتهب مستعجلاً أسلب سريعاً) 3 (ادع اسمه أغنم بسرعة وانهب عاجلاً).  وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (وقال لي الرب: خذ لك مدرجاً صحيحاً صحيفة جديدة كبيرة، واكتب فيها بكتابة إنسان حاد ليضع نهب الغنائم لأنه حضر) 3 (ادع اسمه أغنم بسرعة وانهبوا نجده). فكان اسم الابن مهر شالال جاشنر، فترجم مترجمو العربية هذا الاسم على آرائهم، وخالفوا فيما بينهم. ومع قطع النظر عن المخالفة، زاد مترجم العربية المطبوعة سنة 1811 ألفاظاً من قبل نفسه، فأمثال هؤلاء لو بدلوا في البشارات المحمدية أسماء من أسماء النبي صلى اللّه عليه وسلم أو زادوا شيئاً، فلا استبعاد منهم، لأن هذا الأمر يصدر عنهم بحسب عادتهم.‏

12- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الحادي عشر من إنجيل متى، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844 هكذا: (فإن أردتم أن تقبلوه فهو إيلياء المزمع أن يأتي)، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (فإن أردتم أن تقبلوه فهذا هو المزمع بالإتيان). فالمترجم الأخير بدل لفظ إيلياء بهذا، فأمثال هؤلاء لو بدلوا اسماً من أسماءالنبي صلى اللّه عليه وسلم في البشارة، فلا عجب.‏

13- وفي الآية الأولى من الباب الرابع من إنجيل يوحنا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811، وسنة 1831، وسنة 1844 هكذا: (لما علم يسوع). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1860: (لما علم الرب). فبدل المترجمان الأخيران لفظ يسوع، الذي كان علم عيسى عليه السلام بالرب الذي هو من الألفاظ التعظيمية، فلو بدلوا اسماً من أسماء النبي صلى اللّه عليه وسلم بالألفاظ التحقيرية لأجل عادتهم وعنادهم، فلا عجب.  وهذه الشواهد تدل على ترجمة الأسماء، وإيراد لفظ آخر بدلها.

[1] في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي، لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني). وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: الوى الوى لما شبقتني، الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني). فلفظ أي إلهي إلهي لماذا تركتني في إنجيل متى، وكذا لفظ الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني في إنجيل مرقس، ليسا من كلام الشخص المصلوب يقيناً، بل ألحقا بكلامه.

[2] في الآية السابعة عشر من الباب الثالث من إنجيل مرقس هكذا: (لقبهما  ببوان رجس أي ابني الرعد). فلفظ أي ابني الرعد ليس من كلام عيسى عليه السلام بل هو إلحاقي.

[3] في الآية الحادية والأربعين من الباب الخامس من إنجيل مرقس هكذا: (وقال لها طليثا قومي الذي تفسيره يا صبية لك أقول قومي). فهذا التفسير إلحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام.

[4] في الآية الرابعة والثلاثين من الباب السابع من إنجيل مرقس في الترجمة المطبوعة سنة 1816: (ونظر إلى السماء وتأوه وقال افثا يعني انفتح)، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (ونظر إلى السماء وتنهد وقال افاثا الذي هو انفتح). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (ونظر إلى السماء وتنهد وقال له انفتح الذي هو انفتح).

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ورفع نظره نحو السماء وأنّ وقال له افثا أي انفتح). ومن هذه العبارة، وإن لم يعلم صحة اللفظ العبراني أهو افثا أو افاثا، لأجل اختلاف التراجم التي منشأ اختلافها عدم صحة ألفاظ أصولها، لكنه يعلم يقيناً أن لفظ أي انفتح أو الذي هو انفتح، إلحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام. وهذه الأقوال المسيحية الأربعة التي نقلتها من الشاهد الأول إلى ههنا، تدل على أن المسيح عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني الذي كان لسان قومه، وما كان يتكلم باليوناني وهو قريب القياس أيضاً، لأنه كان عبرانياً ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين. فنقل أقواله في هذه الأناجيل في اليوناني نقل بالمعنى، وهذا أمر آخر زائد على كون أقواله مروية برواية الآحاد.

[5] في الآية الثامنة والثلاثين من الباب الأول، من إنجيل يوحنا هكذا: (فقالا له ربي الذي تفسيره يا معلم). فقوله الذي تفسيره يا معلم إلحاقي، ليس من كلامهما.

[6] في الآية الحادية والأربعين من الباب المذكور في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844: (قد وجدنا مسيا الذي تأويله المسيح). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816: (ما مسيح راكه ترجمة آن كرسطوس ميبا شديا فتيم). وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 توافق الفارسية، فيعلم من الترجمتين العربيتين أن اللفظ الذي قاله أندراوس هو مسيا وأن المسيح ترجمته، ومن الترجمة الفارسية وأردو أن اللفظ الأصل هو المسيح وكرسطوس ترجمته، ويعلم من ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 أن اللفظ الأصل خرسته وأن المسيح ترجمته، فلا يعلم من كلامهم أن اللفظ الأصل أي لفظ كان أمسيا أو المسيح أو خرسته، وهذه الألفاظ وإن كان معناها واحداً لكن لا شك أن الذي قاله أندراوس هو واحد من هذه الثلاثة يقيناً، وإذا ذكر اللفظ والتفسير فلا بد من ذكر اللفظ الأصل أولاً ثم من ذكر تفسيره. لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن التفسير المشكوك أياً ما كان إلحاقياً ليس من كلام أندراوس.

[7] في الآية الثانية والأربعين من الباب الأول من إنجيل يوحنا، قول عيسى عليه السلام في حق بطرس الحواري في الترجمة العربية سنة 1811 هكذا: (أنت تدعى ببطرس الذي تأويله الصخرة). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (ستسمى أنت بالصفا المفسر ببطرس). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816: (ترابكيفاس كه ترجمة آن سنك است ندا خواهند كرد) أمطر اللّه حجارة على تحقيقهم وتصحيحهم لا يتميز من كلامهم المفسر عن المفسر، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن التفسير ليس من كلام المسيح عليه السلام بل هو إلحاقي، وإذا كان حال تراجمهم وحال تحقيقهم في لقب إلههم ولقب خليفته  كما علمت فكيف نرجو منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد أو لقب من ألقابه صلى اللّه عليه وسلم.

[8] في الآية الثانية من الباب الخامس من إنجيل يوحنا في حق البركة في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (تسمى بالعبرانية بيت صيدا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (يقال لها بالعبرانية بيت حسدا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (تسمى بالعبرانية بيت حصدا أي بيت الرحمة). فالاختلاف بين صيدا وحسدا وحصدا وإن كان ثمرة من ثمرات تصحيحهم الكتب السماوية، لكني أقطع النظر عنه وأقول المترجم الأخير زاد التفسير من جانب نفسه في الكلام الذي هو كلام اللّه في زعمه، فلو زادوا شيئاً بطريق التفسير من جانب أنفسهم في البشارات المحمدية فلا بعد منهم.

[9] في الآية السادسة والثلاثين من الباب التاسع من كتاب الأعمال هكذا: (وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة).

[10] في الآية الثامنة من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (فناصبهما اليماس الساحر لأن هكذا يترجم اسمه). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (فقاومهما عليم الساحر لأن هكذا يترجم). وفي بعض تراجم أردو لفظ الماس، وفي بعضها الماء، فمع قطع النظر عن الاختلاف في أن اسمه اليماس أو عليم أو الماس أو الماء، أقول أن ترجمة اسمه إلحاقية.

[11] في آخر رسالة بولس الأولى إلى أهل قورنثيوس، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (ألا ومن لا يحب المسيح فليكن ملعوناً مارن أتى). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (ومن لا يحب ربنا يسوع المسيح فليكن محروماً ماران أتى). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أنا ثيما ماران أثا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (من لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن مفروزاً مارن أتى أي الرب قد جاء). فمع قطع النظر عن صحة اللفظ الأصل، أقول أن المترجم الأخير قد زاد من جانب نفسه التفسير وقال أي الرب قد جاء. وهذه شواهد التفسير فثبت مما ذكرنا أن ترجمة الأسماء أو تبديلها بألفاظ أخر، وكذا إلحاق التفسيرات من جانب أنفسهم، من عاداتهم الجبلية سلفاً وخلفاً، فلا بعد في أن ترجموا اسماً من أسماء النبي صلى اللّه عليه وسلم أو بدلوه بلفظ آخر، أو زادوا بطريق التفسير أو غير التفسير شيئاً بحيث يخل الاستدلال بحسب الظاهر، ولا شك أن اهتمامهم في هذا الأمر كان زائداً على الاهتمام الذي كان لهم في مقابلة فرقهم، وما قصروا في التحريف في مقابلتهم على ما عرفت في الباب الثاني من قول هورن: (أن هذا الأمر أيضاً محقق أن بعض التحريفات القصدية صدرت عن الذين كانوا من أهل الديانة والدين، وكانت هذه التحريفات ترجح بعدهم لتؤيد بها مسألة مقبولة أو يدفع بها الاعتراض الوارد، مثلاً ترك قصداً الآية الثالثة والأربعين من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا لأن بعض أهل الديانة ظنوا أن تقوية الملك للرب مناف لألوهيته، وتركت قصداً في الباب الأول من إنجيل متى، هذه الألفاظ قبل أن يجتمعا في الآية الثامنة عشر، وهذه الألفاظ ابنها البكر في الآية الخامسة والعشرين، لئلا يقع الشك في البكارة الدائمة لمريم عليها السلام، وبدل لفظ اثنتي عشرة بأحد عشر في الآية الخامسة من الباب الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس، لئلا يقع إلزام الكذب على بولس، لأن يهوذا الأسخريوطي كان قد مات قبل وترك بعض الألفاظ في الآية الثانية والثلاثين من الباب الثالث عشر من إنجيل مرقس، ورد هذه الألفاظ بعض المرشدين أيضاً لأنهم تخيلوا أنها مؤيدة لفرقة أيرين وزيد بعض الألفاظ في الآية الخامسة والثلاثين من الباب الأول من إنجيل لوقا في الترجمة السريانية والفارسية والعربية واتهيوبك وغيرها من التراجم، وفي كثير من نقول المرشدين في مقابلة فرقة يؤتى كينس لأنها كانت تنكر أن عيسى فيه صفتان) انتهى كلامه.

فإذا كانت خصلة أهل الدين والديانة ما عرفت، فما ظنك بغير أهل الديانة بل الحق أن التحريف القصدي بالتبديل والزيادة والنقصان من خصالهم كلهم أجمعين، فبعض الإخبارات التي نقلها العلماء الأسلاف من أهل الإسلام مثل الإمام القرطبي وغيره، ولا تجدها موافقة في بعض الألفاظ للتراجم المشهورة الآن، فسببه غالباً هذا التغير، لأن هؤلاء العلماء من أهل الإسلام نقلوا عن الترجمة العربية التي كانت رائجة في عهدهم، وبعد زمانهم وقع الإصلاح في تلك الترجمة، ويحتمل أن يكون ذاك السبب، اختلاف التراجم، لكن الأول هو المعتمد لأنا نرى أن هذه العادة جارية إلى الآن في تراجمهم ورسائلهم ألا ترى إلى ميزان الحق أن نسخه ثلاث، الأولى النسخة القديمة ورد عليها صاحب الاستفسار، ولما رد عليها وتنبه مصنفها أصلح النسخة القديمة، فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض وبدل في البعض، ثم طبع هذه النسخة المصلحة وكتب جواب الاستفسار وسماه بحل الإشكال، ثم كتبت الرد على تلك النسخة الثانية لميزان الحق، ونبهت في كل موضع خالفت فيه هذه النسخة الجديدة للنسخة القديمة، وسميته بمعدل اعوجاج الميزان. لكن كتابي هذا لم يطبع في الهند لأجل بعض الحوادث، وكتب بعض أحبابي الرد على حل الإشكال في جواب الاستفسار وسماه بالاستبشار، وطبع هذا الرد واشتهر في الهند وفي زمان طبعه واشتهاره كان مؤلف الميزان في الهند، ومضت مدةعشر سنين على طبعه وما كتب المؤلف المذكور في جوابه شيئاً، وسمعت من بعض الثقات أنه أصلح في المرة الثالثة الميزان الذي طبعه بالتركي وغير في المواضع التي رأى فيها التغير واجباً، مثل التغير في ابتداء الفصل الثاني من الباب الأول وغيره، ومن رأى الاستفسار ولم تصل إليه النسخة القديمة للميزان ,  بل وصلت إليه النسخة الثانية أو الثالثة، وأراد أن يصحح نقل صاحب الاستفسار كلام مؤلف الميزان بهاتين النسختين، وجده غير مطابق لهما في بعض المواضع، وكذا من رأى معدل اعوجاج الميزان، ولم تصل إليه النسخة الأولى ولا الثانية بل وصلت إليه النسخة الثالثة التركية، وأراد تصحيح النقل بهذه التركية، وجد في بعض المواضع النقل مطابق لها، فإن لم يكن واقفاً على هذا التغير والإصلاح، يظن أن الراد والناقل أخطأ في النقل، وليس كذلك بل حصل هذا الأمر من تغير المردود عليه وتحريفه والراد [و] الناقل مصيب، فالحاصل أن أمثال هذا الإصلاح والتحريفات جارية في كتبهم وتراجمهم ورسائلهم إلى هذا الحين.

(الأمر الثامن) أن بولس وإن كان عند أهل التثليث في رتبة الحواريين، لكنه غير مقبول عندنا ولا نعده من المؤمنين الصادقين، بل من المنافقين الكذابين ومعلمي الزور والرسل الخداعين، الذين ظهروا بالكثرة بعد عروج المسيح، كما عرفت في الأمر الرابع، وهو خرق الدين المسيحي، وأباح كل محرم لمعتقديه، وكان في ابتداء الأمر مؤذياً للطبقة الأولى من المسيحيين، جهراً، لكنه لما رأى أن هذا الإيذاء الجهري لا ينفع نفعاً معتداً به، دخل على سبيل النفاق في هذه الملة وادعى رسالة المسيح، وأظهر الزهد الظاهري. ففعل في هذا الحجاب ما فعل، وقبله أهل التثليث لأجل زهده الظاهري، ولأجل فراغ ذمتهم عن جميع التكاليف الشرعية. كما قبل أناس كثيرون من المسيحيين في القرن الثاني منتش الذي كان زاهداً مرتاضاً وادعى أنه هو الفارقليط الموعود به، فقبلوه لأجل زهده ورياضته كما سيجيء ذكره في البشارة الثامنة عشر، ورده المحققون من علماء الإسلام سلفاً وخلفاً.

قال الإمام القرطبي رحمه اللّه في كتابه في حق بولس هذا، مجيباً لبعض القسيسين في بحث مسألة الصوم هكذا: (قلنا ذلك) أي بولس (هو الذي أفسد  عليكم أديانكم وأعمى بصائركم وأذهانكم، ذلك هو الذي غير دين المسيح الصحيح، الذي لم تسمعوا له بخبر ولا وقفتم منه على أثر، هو الذي صرفكم عن القبلة وحلل لكم كل محرم كان في الملة، ولذلك كثرت أحكامه عندكم وتداولتموها بينكم) انتهى كلامه بلفظه.  وقال صاحب تخجيل من حرف الإنجيل في الباب التاسع من كتابه، في بيان فضائح النصارى في حق بولس هذا هكذا: (وقد سلبهم بولس هذا من الدين بلطيف خداعه إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها وقد طمس هذا الخبيث رسوم التوراة) انتهى كلامه بلفظه. وهكذا أقوال علمائنا الآخرين فكلامه عندنا مردود ورسائله المتضمنة بالعهد العتيق كلها واجبة الرد ولا نشتري قوله بحبة خردل فلا أنقل عن أقواله في هذا المسلك شيئاً ولا يكون قوله حجة علينا، وإذ عرفت هذه الأمور الثمانية أقول أن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم توجد كثيرة إلى الآن أيضاً مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق أخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر على ما عرفت في الأمر الثاني، ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، وقد عرفت نبذاً منها في الأمر السادس، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة. وأنقل في هذا المسلك عن الكتب المعتبرة عند علماء بروتستنت ثماني عشرة بشارة.

(البشارة الأولى) في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء هكذا: 17 (فقال الرب لي نعم جميع ما قالوا) 18 (وسوف أقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به) 19 (ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك) 20 (فأما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره بأنه يقوله أم باسم إلهه غيري فليقتل) 21 (فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب) 22 (فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبي في اسم الرب ولم يحدث فالرب لم يكن تكلم به، بل ذلك النبي صورة في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه).

وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم الآن أحبار اليهود، ولا بشارة عيسى عليه السلام كما زعم علماء بروتستنت، بل هي بشارة محمد صلى اللّه عليه وسلم لعشرة أوجه:

(الوجه الأول) قد عرفت في الأمر الثالث أن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به في هذا الباب، وكان هذا المبشر به عندهم غير المسيح، فلا يكون هذا المبشر به يوشع، ولا عيسى عليهما السلام.

(والوجه الثاني) أنه وقع في هذه البشارة لفظ مثلك ويوشع وعيسى عليهما السلام لا يصح أن يكونا مثل موسى عليه السلام، أما أولاً: فلأنهما من بني إسرائيل، ولا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى كما تدل عليه الآية العاشرة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء وهي هكذا: 5 (ولم يقم بعد ذلك من بني إسرائيل مثل موسى يوفه الرب وجهاً لوجه) فإن قام أحد مثل موسى بعده من بني إسرائيل، يلزم تكذيب هذا القول. وأما ثانياً: فلأنه لا مماثلة بين يوشع وبين موسى عليهما السلام لأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهي، ويوشع ليس كذلك، بل هو متبع لشريعته، وكذا لا توجد المماثلة التامة بين موسى وعيسى عليهما السلام، لأن عيسى عليه السلام كان إلهاً ورباً على زعم النصارى وموسى عليه السلام كان عبداً له، وأن عيسى عليه السلام على زعمهم، صار ملعوناً لشفاعة الخلق كما صرح به بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية، وموسى عليه السلام ما صار ملعوناً لشفاعتهم، وأن عيسى عليه السلام دخل الجحيم بعد موته  كما هو مصرح به في عقائد أهل التثليث، وموسى عليه السلام ما دخل الجحيم، وأن عيسى عليه السلام صلب على زعم النصارى ليكون كفارة لأمته، وموسى عليه السلام ما صار كفارة لأمته بالصلب، وأن شريعة موسى مشتملة على الحدود والتعزيزات وأحكام الغسل والطهارات والمحرمات من المأكولات والمشروبات، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام، فإنها فارغة عنها على ما يشهد به هذا الإنجيل المتداول بينهم، وأن موسى عليه السلام كان رئيساً مطاعاً في قومه نفاذاً لأوامره ونواهيه، وعيسى عليه السلام لم يكن كذلك.

(الوجه الثالث) أنه وقع في هذه البشارة لفظ من بين إخوتهم، ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذاك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده، فلو كان المقصود كون النبي المبشر به منهم، قال منهم لا من بين إخوتهم. لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشر به له علاقة الصلبية والبطنية ببني إسرائيل كما جاء لفظ الأخوة بهذا الاستعمال الحقيقي في وعد اللّه هاجر في حق إسماعيل عليه السلام في الآية الثانية عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين، وعبارتها في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وقبالة جميع إخوته ينصب المضارب) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (بحضرة جميع أخوته يسكن). وجاء بهذا الاستعمال أيضاً، في الآية الثامنة عشر من الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين في حق إسماعيل في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (منتهى إخوته جميعهم سكن). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (أقام بحضرة جميع أخوته). والمراد بالأخوة ههنا بنو عيسو وإسحاق وغيرهم من أبناء إبراهيم عليه السلام. وفي الآية الرابعة من الباب العشرين من سفر العدد هكذا: (ثم أرسل موسى رسلاً من قادس إلى ملك الروم قائلاً هكذا: (يقول أخوك إسرائيل أنك قد علمت كل البلاء الذي أصابنا) وفي الباب الثاني من سفر الاستثناء هكذا: 2 (وقال لي الرب 4  ثم أوص الشعب أنكم ستجوزون في تخوم أخوتكم بني عيسو الذين في ساعير وسيخشونكم 8 فلما جزنا أخوتنا بني عيسو الذين يسكنون ساعير الخ). والمراد بأخوة بني إسرائيل بنو عيسو، ولا شك أن استعمال لفظ أخوة بني إسرائيل في بعض منهم كما جاء في بعض المواضع من التوراة، استعمال مجازي ولا تترك الحقيقة ولا يصار إلى المجاز ما لم يمنع عن الحمل على المعنى الحقيقي مانع قوي، ويوشع وعيسى عليهما السلام كانا من بني إسرائيل، فلا تصدق هذه البشارة عليهما.

(الوجه الرابع) أنه وقع في هذه البشارة لفظ سوف أقيم، ويوشع عليه السلام كان حاضراً عند موسى عليه السلام، داخلاً في بني إسرائيل، نبياً في هذا الوقت، فكيف يصدق عليه هذا اللفظ.

(الوجه الخامس) أنه وقع في هذه البشارة لفظ أجعل كلامي في فمه، وهو إشارة إلى أن ذلك النبي ينزل عليه الكتاب، وإلى أنه يكون أمياً حافظاً للكلام، وهذا لا يصدق على يوشع عليه السلام لانتفاء كلا الأمرين فيه.

(الوجه السادس) أنه وقع في هذه البشارة، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به، فأنا أكون المنتقم من ذلك. فهذا الأمر لما ذكر لتعظيم هذا النبي المبشر به فلا بد أن يمتاز ذلك المبشر به بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء، فلا يجوز أن يراد بالانتقام من المنكر العذاب الأخروي، الكائن في جهنم، أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب، لأن هذا الانتقام لا يختص بإنكار نبي دون نبي، بل يعم الجميع فحينئذ يراد بالانتقام، الانتقام التشريعي، فظهر منه أن هذا النبي يكون مأموراً من جانب اللّه بالانتقام من منكره. فلا يصدق على عيسى عليه السلام لأن شريعته خالية عن أحكام الحدود، والقصاص، والتعزيز، والجهاد.

(الوجه السابع) في الباب الثالث من كتاب الأعمال في الترجمة العربية  المطبوعة سنة 1844 هكذا: (فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم 20 حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب، ويرسل المنادي به لكم وهو يسوع المسيح 21 الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به اللّه على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 أن موسى قال إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من أخوتكم مثلي له تسمعون في كل ما يكلمكم به 23 ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تهلك من الشعب). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841، وسنة 1842، هكذا: 19 (تونيه نما يدوباز كشت كند تاكه كناهان شمامحو شودتا كه زمان تازه كيراز حضور خداوند بيابيد) 20 (ويسوع مسيح راكه ندا بشمامي شودباز فرستد) 21 (زيراكه بايد كه آسمان أورنكا هدارد تاوقت ثبوت انجه خداوندبزبان بيغمبران مقدس خودازايام قديم فرموده است). 22 (كه موسى بيدران ما كفت كه خداى شماخداوند بيغمبري رامثل من ازبراى شما ازميان برادران شما مبعوث خواهد ثمود وهرجه أوبشما كويد شمار است كه أطاعت نماييد) 23 (واينجنين خواهد بودكه هركس كه سخن آن بيغمبر رانشنودازقوم بريده خواهدشد). فهذه العبارة سيما بحسب التراجم الفارسية تدل صراحة على أن هذا النبي غير المسيح عليه السلام، وأن المسيح لا بد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبي.

ومن ترك التعصب الباطل من المسيحيين، وتأمل في عبارة بطرس ظهر له هذا القول من بطرس يكفي لإبطال ادعاء علماء بروتستنت أن هذه البشارة في حق عيسى عليه السلام، وهذه الوجوه السبعة التي ذكرتها تصدق في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم على أكمل صدق لأنه غير المسيح عليه السلام ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة:

[1] كونه عبد اللّه، ورسوله. [2] كونه ذا الوالدين. [3] كونه [ص 244] ذا نكاح وأولاد. [4] كون شريعته مشتملة على السياسات المدنية. [5] كونه مأموراً بالجهاد. [6] اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته. [7] وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته. [8] اشتراط طهارة الثوب من البول، والبراز. [9] حرمة غير المذبوح، وقرابين الأوثان. [10] كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية، والرياضات الجسمانية. [11] أمره بحد الزنا. [12] تعيين الحدود، والتعزيرات، والقصاص. [13] كونه قادراً على إجرائها. [14] تحريم الربا. [15] أمره بإنكار من يدعو إلى غير اللّه. [16] أمره بالتوحيد الخاص. [17] أمره الأمة بأن يقولوا له عبد اللّه ورسوله، لا ابن اللّه أو اللّه والعياذ باللّه. [18] موته على الفراش. [19] كونه مدفوناً كموسى. [20] عدم كونه ملعوناً لأجل أمته. وهكذا أمور أخر تظهر إذا تؤمل في شريعتهما، ولذلك قال اللّه تعالى في كلامه المجيد: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً}. وكان من أخوة بني إسرائيل لأنه من بني إسماعيل، وأنزل عليه الكتاب وكان أمياً جعل كلام اللّه في فمه، وكان ينطق بالوحي كما قال اللّه تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وكان مأموراً بالجهاد، وقد انتقم اللّه لأجله من صناديد قريش والأكاسرة والقياصرة وغيرهم، وظهر قبل نزول المسيح من السماء وكان للسماء أن تقبل المسيح عليه السلام إلى ظهوره ليرد كل شيء إلى أصله، ويمحق الشرك والتثليث وعبادة الأوثان ولا يرتاب أحد من كثرة أهل التثليث في هذا الزمان الأخير، لأن هذا الصادق المصدوق قد أخبرنا على أتم تفصيل وأكمل وجه، بحيث لا يبقى ريب ما بكثرتهم وقت قرب ظهور المهدي رضي اللّه عنه، وهذا الوقت قريب إن شاء اللّه، وسيظهر الإمام ويظهر الحق عن قريب، ويكون الدين كله للّه، جعلنا اللّه من أنصاره وخدامه آمين.

(الوجه الثامن) أنه صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى اللّه ما لم يأمره يقتل، فلو لم يكن محمد صلى اللّه عليه وسلم نبياً حقاً لكان يقتل، وقد قال اللّه في القرآن المجيد أيضاً: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وما قتل بل قال اللّه في حقه: {واللّه يعصمك من الناس} وأوفى وعده ولم يقدر على قتله أحد حتى لقي الرفيق الأعلى صلى اللّه عليه وسلم، وعيسى عليه السلام قتل وصلب على زعم أهل الكتاب. فلو كانت هذه البشارة في حقه لزم أن يكون نبياً كاذباً كما يزعمه اليهود والعياذ باللّه.

(الوجه التاسع) أن اللّه بين علامة النبي الكاذب أن إخباره عن الغيب المستقبل لا يخرج صادقاً ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أخبر عن الأمور الكثيرة المستقبلة كما علمت في المسلك الأول، وظهر صدقه فيها فيكون نبياً صادقاً لا كاذباً.

(الوجه العاشر) أن علماء اليهود سلموا كونه مبشراً به في التوراة لكن بعضهم أسلم وبعضهم بقي في الكفر، كما أن قيافا وكان رئيس الكهنة ونبياً على زعم يوحنا عرف أن عيسى هو المسيح الموعود به، ولم يؤمن بل أفتى بكفره وقتله، كما صرح به يوحنا في الباب الحادي عشر والثامن عشر من إنجيله من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً كثير المال من النخل، وكان يعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصفته، وغلبت عليه ألفة دينه فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أحد وكان يوم السبت، فقال: يا معشر اليهود واللّه إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: فإن اليوم يوم السبت قال: لا سبت ثم أخذ سلاحه وخرج حتى أتى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأحد وكان يوم السبت وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فمالي لمحمد يصنع فيه ما أراه اللّه تعالى، فقاتل حتى قتل فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: مخيريق خير يهودي، وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمواله، فعامة صدقات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة منها. وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيت  المدراس فقال: أخرجوا إلي أعلمكم، فقال: عبد اللّه بن صوريا، فخلا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فناشده بدينه وبما أنعم اللّه عليهم وأطعمهم من المن والسلوى وظللهم من الغمام، أتعلم أني رسول اللّه قال: اللّهم نعم، وأن القوم يعرفون ما أعرف وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك قال: فما يمنعك أنت، قال: أكره خلاف قومي عسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.

وعن صفية بنت حيي رضي اللّه عنها، لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ونزل قباء، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مفلسين فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس فأتيا، كالين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينا، فهششت إليهما فالتفت إلى أحد منهما مع ما بهما من الهم فسمعت عمى أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو (أي المبشر به في التوراة) قال: نعم واللّه، قال: أتثبته وتعرفه قال: نعم، قال: فما في نفسك منه قال: عداوته واللّه ما بقيت أبداً فتلك عشرة كاملة فإن قيل أن أخوة بني إسرائيل لا تنحصر في بني إسماعيل لأن بني عيسو وبني أبناء قطورا زوجة إبراهيم عليهما السلام من أخوتهم أيضاً، قلت: نعم هؤلاء أيضاً من أخوة بني إسرائيل لكنهم لم يظهر أحد منهم يكون موصوفاً بالأمور المذكورة، ولم يكن وعد اللّه في حقهم أيضاً بخلاف بني إسماعيل فإنهم كان وعد اللّه في حقهم لإبراهيم ولهاجر عليهما السلام، مع أنه لا يصلح أن يكون مصداق هذا الخبر بني عيسو على ما هو مقتضى دعاء إسحاق عليه السلام المصرح به في الباب السابع والعشرين من سفر التكوين.

ولعلماء بروتستنت اعتراضان، نقلهما صاحب الميزان في كتابه المسمى بحل الإشكال في جواب الاستفسار.

الأول: أنه وقع في الآية الخامسة عشر من الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء هكذا: (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين أخوتك) الخ. فلفظ  من بينك يدل دلالة ظاهرة على أن هذا النبي يكون من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل.

والثاني: أن عيسى عليه السلام نسب هذه البشارة إلى نفسه فقال في الآية السادسة والأربعين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا أن موسى كتب في حقي أقول آية الاستثناء على وفق التراجم الفارسية وتراجم أردو هكذا: (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين أخوتك نبياً مثلي فاسمع منه) والقسيس أيضاً نقلها هكذا (والجواب) أن اللفظ المذكور لا ينافي مقصودنا لأن محمداً عليه السلام لما هاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره، وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، فقد قام من بينهم ولأنه إذا كان من أخوتهم فقد قام من بينهم، ولأن قوله من بين أخوتك بدل من قوله من بينك، بدل اشتمال على رأي ابن الحاجب ومتبعيه القائلين بكفاية علاقة الملابسة غير الكلية والجزئية في تحقيق هذا البدل، نحو جاءني زيد أخوه وجاءني زيد غلامه، وبدل إضراب على رأي ابن مالك، وعلى كلا التقديرين المبدل منه غير مقصود ويدل على كونه غير مقصود، أن موسى عليه السلام لما أعاد هذا الوعد من كلام اللّه في الآية الثامنة عشر لا يوجد فيه لفظ من بينك، ونقل بطرس الحواري أيضاً هذا القول ولا يوجد فيه هذا اللفظ كما علمت في الوجه السابع، وكذا نقله استفانوس أيضاً ولا يوجد في نقله أيضاً هذا اللفظ كما صرح به في الباب السابع من كتاب الأعمال وعبارته هكذا: (هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من أخوتكم له تسمعون) فسقوطه في هذه المواضع دليل على كونه غير مقصود فاحتمال البدل قوي جداً. وقال صاحب الاستفسار: (إن لفظ من بينك إلحاقي زيد تحريفاً ويدل عليه ثلاثة أمور:

 (الأول) أن المخاطبين في هذا الموضع كانوا بني إسرائيل كلهم لا البعض، فقوله من بينك خطاب إلى جميع القوم فصار لفظ من أخوتك لغواً محضاً لا معنى له، لكن لفظ من أخوتك جاء في الموضع الآخر فيكون صحيحاً، ولفظ من بينك إلحاقياً زيد تحريفاً.

(والثاني) أن موسى عليه السلام لما نقل كلام اللّه لإثبات قوله، لا يوجد فيه هذا اللفظ ولا يجوز أن يكون ما قال موسى مخالفاً لما قاله اللّه.

(والثالث) أن الحواريين كلما نقلوا هذا الكلام لا يوجد فيه لفظ من بينك، وإن قلتم: إن المحرف إذا حرف فَلِمَ لَمْ يحرف الكلام كله، قلت: نحن نرى في محكمات العدالة دائماً أن القبالجات المحرفة يثبت تحريف الألفاظ المحرفة فيها من مواضع أخرى منها غالباً، وأن شهود الزور يؤخذون ببعض بياناتهم، فالوجه الوجيه على أن عادة اللّه جارية بأنه لا يهدي كيد الخائنين ويظهر خيانة خائن الدين بمقتضى مرحمته، فبمقتضى هذه العادة يصدر عن الخائن شيء ما تظهر به خيانته، على أنه لا توجد ملة يكون أهلها كلهم خائنين، فالخائنون الذين حرفوا كتب العهدين كان لهم لحاظ ما من جانب بعض المتدينين فلذلك ما بدلوا الكل، انتهى.

أقول هذا الجواب بالنسبة إلى عادة أهل الكتاب النسيب كما عرفت في الأمر السابع وأقول في (الجواب) عن الاعتراض الثاني أن آية الإنجيل هكذا: (لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني) وليس فيها تصريح بأن موسى عليه السلام كتب في حقه في المواضع الفلاني، بل المفهوم منه أن موسى كتب في حقه، وهذا يصدق إذا وجد في موضع من مواضع التوراة إشارة إليه، ونحن نسلم هذا الأمر كما ستعرف في ذيل بيان البشارة الثالثة، لكنا ننكر أن يكون قوله إشارة إلى هذه البشارة للوجوه  التي عرفتها وقد ادعى هذا المعترض في الفصل الثالث من الباب الثالث من الباب الثاني من الميزان أن الآية الخامسة عشر من الباب الثالث من سفر التكوين إشارة إليه، فهذا القدر يكفي لتصحيح قول عيسى عليه السلام، نعم لو قال عيسى عليه السلام أن موسى عليه السلام ما أشار في أسفاره الخمسة إلى نبي من الأنبياء إلا إليّ لكان لهذا التوهم مجال في ذلك الوقت.

(البشارة الثانية) الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني والثلاثين من سفر الاستثناء هكذا: (هم أغاروني بغير إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب وبشعب جاهل أغضبهم) والمراد بشعب جاهل العرب لأنهم كانوا في غاية الجهل والضلال، وما كان عندهم علم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأوثان والأصنام، وكانوا محقرين عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر الجارية. فمقصود الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة فأغيرهم باصطفاء الذين هم عندهم محقرون وجاهلون، فأوفى بما وعد فبعث من العرب النبي صلى اللّه عليه وسلم فهداهم إلى الصراط المستقيم كما قال اللّه تعالى في سورة الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. وليس المرد بالشعب الجاهل اليونانيين كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الباب العاشر من الرسالة الرومية، لأن اليونانيين قبل ظهور عيسى عليه السلام بأزيد من ثلثمائة سنة كانوا فائقين على أهل العالم كلهم في العلوم والفنون، وكان جميع الحكماء المشهورين مثل سقراط وبقراط وفيساغورس وأفلاطون وأرسطاطاليس وأرشميدس وبليناس وأقليدس وجالينوس وغيرهم الذين كانوا أئمة الإلهيات والرياضيات والطبيعيات وفروعها قبل عيسى عليه السلام، وكان اليونانيين في عهده على غاية درجة الكمال في فنونهم، وكانوا واقفين على أحكام التوراة وقصصها وسائر كتب العهد العتيق أيضاً بواسطة ترجمة سبتوجنت التي ظهرت باللسان اليوناني قبل المسيح بمقدار مائتين وست وثمانين سنة، لكنهم ما كانوا معتقدين للملة الموسوية وكانوا متفحصين عن الأشياء الحكمية الجديدة كما قال مقدسهم هذا في الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة) 23 (ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة) فلا يجوز أن يكون المراد بالشعب الجاهل اليونانيين، فكلام مقدسهم في الرسالة الرومية إما مؤوّل أو مردود وقد عرفت في الأمر الثامن أن قوله ساقط عن الاعتبار عندنا.

(البشارة الثالثة) في الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وقال جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعيرا ستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار).

فمجيئه من سيناء وإعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام وإشراقه من ساعير وإعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن لأن فاران جبل من جبال مكة في الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: 20 (وكان اللّه معه ونما وسكن في البرية وصار شاباً يرمي بالسهام 21 وسكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر). ولا شك أن إسماعيل عليه السلام كانت سكونته بمكة، ولا يصح أن يراد أن النار لما ظهرت من طور سينا ظهرت من ساعير ومن فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع، لأن اللّه لو خلق ناراً في موضع، لا يقال جاء اللّه من ذلك الموضع إلا إذا أتبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة أو ما أشبه ذلك، وقد اعترفوا أن الوحي اتبع تلك في طور سيناء فكذا لا بد أن يكون في ساعير وفاران.

(البشارة الرابعة) في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين، وعد اللّه في حق إسماعيل عليه السلام لإبراهيم عليه السلام في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وعلى إسماعيل أستجيب لك هو ذا أباركه وأكبره وأكثره جداً فسيلد اثني عشر رئيساً وأجعله لشعب كبير). وقوله أجعله لشعب كبير يشير إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره وقد قال اللّه تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل في حقه عليهم السلام في كلامه المجيد أيضاً: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.

وقال الإمام القرطبي في الفصل الأول من القسم الثاني من كتابه وقد تفطن بعض النبهاء ممن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم، فقال يخرج مما ذكر من عبارة التوراة في موضعين اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم بالعدد على ما يستعمله اليهود فيما بينهم الأول: قوله جداً جداً بتلك اللغة بمادماد وعدد هذه الحروف اثنان وتسعون لأن الباء اثنان والميم أربعون والألف واحد والدال أربعة والميم الثانية أربعون والألف واحد والدال أربعة، وكذلك الميم من محمد أربعون والحاء ثمانية والميم أربعون والدال أربعة. والثاني: قوله لشعب كبير بتلك اللغة لغوي غدول، فاللام عندهم ثلاثون والغين ثلاثة لأنه عندهم في مقام الجيم إذ ليس في لغتهم جيم ولا صاد والواو ستة والياء عشرة والغين أيضاً ثلاثة والدال أربعة والواو ستة واللام ثلاثون، فمجموع هذه أيضاً اثنان وتسعون انتهى كلامه.

 

بتلخيص ما وعبد السلام كان من أحبار اليهود ثم أسلم في عهد السلطان المرحوم بايزيد خان، وصنف رسالة صغيرة سماها بالرسالة الهادية فقال فيها: (أن أكثر أدلة أحبار اليهود بحرف الجمل الكبير وهو حرف أبجد، فإن أحبار اليهود حين بنى سليمان النبي عليه السلام بيت المقدس، اجتمعوا وقالوا يبقى هذا البناء أربعمائة وعشرة سنين ثم يعرض له الخراب، لأنهم حسبوا لفظة بزات) ثم قال: (واعترضوا [ص 252] على هذا الدليل بأن الباء في بمادماد ليست من نفس الكلمة بل هي أداة وحرف جيء به للصلة فلو أخرج منه اسم محمد لاحتاج إلى باء ثانية ويقال ببمادماد، قلنا من المشهور عندهم إذا اجتمع الباآن أحدهما أداة والآخر من نفس الكلمة تحذف الأداة وتبقى التي هي من نفس الكلمة، وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة فلا حاجة إلى إيرادها) انتهى كلامه بلفظه. أقول قد صرح العلماء بأن أسمائه صلى اللّه عليه وسلم مادماد كما في شفاء القاضي عياض.

(البشارة الخامسة) الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين هكذا ترجمة عربية سنة 1722 وسنة 1831: (فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم) وفي ترجمة عربية سنة 1811 (فلا يزول القضيب من يهوذا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب). ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له، ترجمة لفظ شيلوه، وفي ترجمة هذا اللفظ اختلاف كثير فيما بينهم وقد عرفت في الأمر السابع أيضاً، وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا: (لا يزول الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين رجليه حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب).

وفي هذه الآية دلالة على أن يجيء سيدنا (محمد) صلى اللّه عليه وسلم بعد تمام حكم موسى وعيسى، لأن المراد من الحاكم هو موسى، لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلا موسى، والمراد من الراسم هو عيسى، لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلا عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد، فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام هو نبينا محمد عليه السلام، لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلا سيدنا محمد عليه السلام، ويدل عليه أيضاً قوله حتى يجيء الذي له أي الحكم بدلالة مساق الآية وسياقها، وأما قوله: وإليه تجتمع الشعوب فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا، لأنه ما اجتمع الشعوب إلا إليه وإنما لم يذكر الزبور لأنه لا أحكام فيه، وداود النبي تابع لموسى والمراد من خبر يعقوب هو صاحب الأحكام) انتهى كلامه بلفظه.

أقول إنما أراد من الحاكم موسى عليه السلام، لأن شريعته جبرية انتقامية، ومن الراسم عيسى عليه السلام، لأن شريعته ليست بجبرية ولا انتقامية، وأن أريد من القضيب السلطنة الدنيوية ومن المدبر الحاكم الدنيوي، كما يفهم من رسائل القسيسين من فرقة بروتستنت ومن بعض تراجمهم، فلا يصح أن يراد بشيلوه مسيح اليهود كما هو مزعومهم، ولا عيسى عليه السلام كما هو مزعوم النصارى.

أما الأول: فظاهر لأن السلطنة الدنيوية والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي سنة من عهد بختنصر ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود.

وأما الثاني: فلأنهما زالتا من آل يهوذا أيضاً قبل ظهور عيسى عليه السلام بمقدار ستمائة سنة من عهد بختنصر وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل وكانوا في الجلاء ثلاثاً وستين سنة لا سبعين كما يقول بعض علماء بروتستنت تغليطاً للعوام وقد عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول، ثم وقع عليهم أنتيوكس ما وقع فإنه عزل أونياس حبر اليهود وباع منصبه لأخيه ياسون بثلثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجاً كل سنة، ثم عزله وباع ذلك لأخيه مينالاوس بستمائة وستين وزنة، ثم شاع خبر موته فطلب ياسون أن يسترد لنفسه الكهنوت ودخل أورشليم بألوف من الجنود فقتل كل من كان يظنه عدواً له وهذا الخبر كان كاذباً فهجم أنتيوكس على أورشليم وامتلكها ثانية في سنة 170 قبل ميلاد المسيح وقتلمن أهلها أربعين ألفاً وباع مثل ذلك عبيداً، وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد (أنه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفاً) انتهى. وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفيسة التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب وقرب خنزيرة وقوداً على المذبح للإهانة، ثم رجع إلى إنطاكية وأقام فيلبس أحد الأراذل حاكماً على اليهودية، وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل أبولوينوس بعشرين ألفاً من جنوده وأمرهم أن يخربوا أورشليم ويقتلوا كل من بها من الرجال ويسبو النساء والصبيان فانطلقوا إلى هناك. وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة فقتلوا الكل، إلا من أفلت إلى الجبال واختفى في المغاير، ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها وهدموا أسوارها وأخربوا منازلها ثم ابتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل اكرا، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل ومن دنا منه يقتلونه، ثم أرسل انتيوكس أثانيوس ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية ويقتل كل من لا يمتثل ذلك الأمر، فجاء أثانيوس إلى أورشليم وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين، وأبطل الذبيحة اليومية ونسخ كل طاعة للدين اليهودي عموماً وخصوصاً، وأحرق كل ما وجده من نسخ كتب العهد العتيق بالفحص التام، وكرس الهيكل للمشتري ونصب صورة ذلك على مذبح اليهود وأهلك كل من وجده مخالف أمر انتيوكس، ونجا متاثياس الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية وفروا إلى وطنهم مودين في سبط دان فانتقم من هؤلاء الكفار انتقاماً ما قدروا عليه على استطاعته كما هو مصرح به في التواريخ، فكيف يصدق هذا الخبر على عيسى عليه السلام وإن قالوا أن المراد ببقاء السلطنة والحكومة امتياز القوم كما يقول بعضهم الآن، قلنا هذا الأمر كان باقياً إلى ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد مثل يهود خيبر وغيرهم كما يشهد به التواريخ، وبعد ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا في كل إقليم مطيعين للغير، فالأليق أن يكون المراد بشيلوه النبي صلى اللّه عليه وسلم لا مسيح اليهود ولا عيسى عليه السلام.

(البشارة السادسة) الزبور الخامس والأربعون هكذا: (فاض قلبي كلمة صالحة أنا أقول أعمالي للملك) 1 (لساني قلم كاتب سريع الكتابة) 2 (بهي في الحسن أفضل من بني البشر) 3 (انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك اللّه إلى الدهر) 4 (تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك) 5 (أستله وأنجح وأملك من أجل الحق والدعة والصدق وتهديك بالعجب يمينك) 6 (نبلك مسنونة أيها القوي في قلب أعداء الملك الشعوب تحتك يسقطون) 7 (كرسيك يا اللّه إلى دهر الداهرين عصا الاستقامة عصا ملكك) 8 (أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك اللّه إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك) 9 (المر والميعة والسليخة من ثيابك من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك) 10 (بنات الملوك في كرامتك قامت الملكة من عن يمينك مشتملة بثوب مذهب موشى) 11 (اسمعي يا بنت وانظري وأنصتي بأذنيك وانسي شعبك وبنت أبيك) 12 (فيشتهي الملك حسنك لأنه هو الرب إلهك وله تسجدين) 13 (بنات صور يأتينك بالهدايا لوجهك يصلي كل أغنياء الشعب) 14 (كل مجد ابنة الملك من داخل مشتملة بلباس الذهب الموشى) 15 (يبلغن إلى الملك عذارى في أثرها قريباتها إليك يقدمن) 16 (يبلغن بفرح وابتهاج يدخلن إلى هيكل الملك) 17 (ويكون بنوك عوضاً من آبائك وتقيمهم رؤساء على سائر الأرض) 18 (سأذكر اسمك في كل جيل وجيل من أجل ذلك تعترف لك الشعوب إلى الدهر والى دهر الداهرين).

وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه، ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبي يكون موصوفاً بالصفات المذكورة في هذا الزبور، ويدعى علماء بروتستنت أن هذا النبي عيسى عليه السلام، ويدعي أهل الإسلام سلفاً وخلفاً أن هذا النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم. فأقول أنه ذكر في هذا الزبور من صفات النبي المبشر به هذه الصفات:

[ص 256] [1] كونه حسناً. [2] كونه أفضل البشر. [3] كون النعمة منسكبة على شفتيه. [4] كونه مباركاً إلى الدهر. [5] كونه متقلداً بالسيف. [6] كونه قوياً. [7] كونه ذا حق ودعة وصدق. [8] كونه هداية يمينه بالعجب. [9] كون نبله مسنونة. [10] سقوط الشعب تحته. [11] كونه محباً للبر ومبغضاً للإثم. [12] خدمة بنات الملوك إياه. [13] إتيان الهدايا إليه. [14] انقياد كل أغنياء الشعب له. [15] كون أبنائه رؤساء الأرض بدل آبائهم. [16] كون اسمه مذكوراً جيلاً بعد جيل. [17] مدح الشعوب إياه إلى دهر الداهرين.

وهذه الأوصاف كلها توجد في محمد صلى اللّه عليه وسلم على أكمل وجه.

أما الأول: فلأن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجدار). وعن أم معبد رضي اللّه عنها قالت في بعض ما وصفته به: (أجمل الناس من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب).

وأما الثاني: فلأن اللّه تعالى قال في كلامه المحكم: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الآية. وقال أهل التفسير أراد بقوله {ورفع بعضهم درجات} محمداً صلى اللّه عليه وسلم أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة، وقد أشبع الكلام في تفسير هذه الآية الإمام الهمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير. وقال صلى اللّه عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) أي لا أقول ذلك فخراً لنفسي بل تحدثاً بنعمة ربي.

وأما الثالث: فغير محتاج إلى البيان حتى أقر بفصاحته الموافق والمخالف، وقال الرواة في وصف كلامه: إنه كان أصدق الناس لهجة فكان من الفصاحة بالمحل الأفضل والموضع الأكمل.

وأما الرابع: فلأن اللّه تعالى قال: {إن اللّه وملائكته يصلون على النبي} وألوف ألوف من الناس يصلون عليه في الصلوات الخمس.

وأما الخامس: فظاهر وقد قال هو بنفسه أنا رسول اللّه بالسيف.

وأما السادس: فكانت قوته الجسمانية على الكمال، كما ثبت أن ركانة خلا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض شعاب مكة قبل أن يسلم فقال: يا ركانة ألا تتقي اللّه وتقبل ما أدعوك إليه. فقال: لو أعلم واللّه ما تقول حقاً لاتبعتك. فقال: أرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال: نعم، فلما بطش به صلى اللّه تعالى عليه وسلم أضجعه لا يملك من أمره شيئاً، ثم قال: يا محمد عد فصرعه أيضاً فقال: يا محمد إن ذا لعجب. فقال صلى اللّه عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت اللّه وتبعت أمري. قال: ما هو قال: أدعو لك هذه الشجرة فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى اللّه تعالى عليه وسلم. فقال لها: ارجعي مكانك. فرجع ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ما رأيت أسحر منه ثم أخبرهم بما رأى. وركانة هذا كان من الأقوياء والمصارعين المشهورين. وأما شجاعته فقد قال ابن عمر رضي اللّه عنهما: (ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) وقال علي كرم اللّه وجهه: (وإنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً).

وأما السابع: فلأن الأمانة والصدق من الصفات الجليلة له صلى اللّه عليه وسلم، كما قال النضر بن الحارث لقريش: (قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة. حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم إنه ساحر، لا واللّه ما هو بساحر). وسأل هرقل عن حال النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قال: لا.

وأما الثامن: فلأنه رمى يوم بدر وكذا يوم حنين وجوه الكفار بقبضة تراب فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وتمكن المسلمون منهم قتلاً وأسراً فأمثال هذه من عجيب هداية يمينه.

وأما التاسع: فلأن كون أولاد إسماعيل أصحاب النبل في سالف الزمان، غير محتاج إلى البيان وكان هذا الأمر مرغوباً له وكان يقول: (ستفتح عليكم الروم ويكفيكم اللّه فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). ويقول: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً). ويقول عليه السلام: (من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا).

وأما العاشر: فلأن الناس دخلوا أفواجاً في دين اللّه في مدة حياته.

وأما الحادي عشر: فمشهور يعترف به المعاندون أيضاً، كما عرفت في المسلك الثاني.

وأما الثاني عشر: فقد صارت بنات الملوك والأمراء، خادمة للمسلمين في الطبقة الأولى، ومنها شهربانو بنت يزدجرد، كسرى فارس، كانت تحت الإمام الهمام الحسين رضي اللّه عنه.

وأما الثالث عشر والرابع عشر: فلأن النجاشي ملك الحبشة ومنذر بن ساوى ملك البحرين وملك عمان انقادوا وأسلموا، وهرقل قيصر الروم أرسل إليه بهدية، والمقوقس ملك القبط أرسل إليه ثلاث جوار، وغلاماً أسود وبغلة شهباء، وحمار أشهب، وفرساً وثياباً وغيرها.

وأما الخامس عشر: فقد وصل من أبناء الإمام الحسن رضي اللّه عنه إلى الخلافة، وألوف في أقاليم مختلفة من الحجاز واليمن ومصر والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها. وفازوا بالسلطنة والإمارة العلية، وإلى الآن أيضاً في  ديار الحجاز واليمن، وفي غيرهما توجد الأمراء والحكام من نسله صلى اللّه عليه وسلم، وسيظهر إن شاء اللّه المهدي رضي اللّه عنه من نسله، ويكون خليفة اللّه في الأرض، ويكون الدين كله للّه في عهده الشريف.

وأما السادس عشر والسابع عشر: فلأنه ينادي ألوف ألوف جيلاً بعد جيل في الأوقات الخمسة، بصوت رفيع في أقاليم مختلفة: (أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه). ويصلي عليه في الأوقات المذكورة الغير المحصورين من المصلين، والقراء يحفظون منشوره، والمفسرين يفسرون معاني فرقانه، والوعاظ يبلغون وعظه، والعلماء والسلاطين يصلون إلى خدمته، ويسلمون عليه من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضته ويرجون شفاعته.

ولا يصدق هذا الخبر في حق عيسى عليه السلام. كما يدعيه علماء بروتستنت ادعاء باطلاً، لأنهم يدعون أن الخبر المندرج، في الباب الثالث والخمسين من كتاب أشعيا، في حق عيسى عليه السلام، ووقع في هذا الخبر في حقه هكذا: (ليس له منظر وجمال ورأيناه ولم يكن له منظر واشتهيناه مهاناً، وآخر الرجال رجل الأوجاع مختبراً بالأمراض، وكان مكتوماً وجهه ومزدولاً ولم نحسبه، ونحن حسبناه كأبرص ومضروباً من اللّه ومخضوعاً، والرب شاء أن يستحقه).

وهذه الأوصاف ضد الأوصاف التي في الزبور المذكور، فلا يصدق عليه كونه حسناً، ولا كونه قوياً. وكذا لا يصدق عليه كونه متقلداً بالسيف، ولا كون نبله مسنونة، ولا انقياد الأغنياء، ولا إرسالهم إليه الهدايا، بل هو على زعم النصارى، أخذوه وأهانوه واستهزؤوا به، وضربوه بالسياط، ثم صلبوه. وما كان له زوجة ولا ابن، فلا يصدق دخول البنات في بيته، ولا كون أبنائه بدل آبائه رؤساء الأرض.

(فائدة) ترجمة الآية الثامنة التي نقلتها مطابقة للترجمة الفارسية للزبور كانت عندي، ولتراجم أردو للزبور، وموافقة لنقل مقدسهم بولس، لأنه نقل هذه الآية في الباب الأول من رسالته العبرانية. هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844: (أحببت البر وأبغضت الإثم، لذلك مسحك اللّه إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك). والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841. وتراجم أردو المطبوعة سنة 1839، وسنة 1840، وسنة 1841. مطابقة للتراجم العربية. فالترجمة التي تكون مخالفة لما نقلت تكون غير صحيحة. ويكفي لردها إلزاماً كلام مقدسهم. وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن إطلاق لفظ الإله والرب وأمثالهما، جاء على العوام فضلاً عن الخواص. والآية السادسة من الزبور الثاني والثمانين هكذا: (أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم). فلا يرد ما قال صاحب مفتاح الأسرار أنه وقع في الآية المذكورة هكذا: (أحببت البر وأبغضت الشر، من أجل ذلك يا اللّه مسح إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك، ولا يقال لشخص غير المسيح يا اللّه مسح إلهك) الخ، لأنا لا نسلم أولاً: صحة ترجمته لكونها مخالفة لكلام مقدسهم. وثانياً: لو قطعنا النظر عن عدم صحتها، أقول ادعاؤه صريح البطلان. لأن لفظ اللّه ههنا بالمعنى المجازي لا الحقيقي ويدل عليه قوله إلهك، لأن الإله الحقيقي لا إله له. فإذا كان بالمعنى المجازي يصدق في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم كما يصدق في حق عيسى عليه السلام.

(البشارة السابعة) في الزبور المائة والتاسع والأربعين هكذا: 1 (سبحوا الرب تسبيحاً جديداً، سبحوه في مجمع الأبرار) 2 (فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم) 3 (فليسبحوا اسمه بالمصاف بالطبل والمزمار يرتلوا له) 4 (لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين بالخلاص) 5 (تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم) 6 (ترفيع اللّه في حلوقهم وسيوف ذات فمين في أياديهم) 7 (انتقاماً في الأمم وتوبيخات في الشعوب) 8 (ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بأغلال من حديد ليضعوا بهم حكماً مكتوماً) 9 (هذا المجد يكون تجميع الأبرار).

ففي هذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك وعن مطيعه بالأبرار، وذكر من أوصافهم افتخارهم بالمجد وترفيع اللّه في حلوقهم، وكون سيوف ذات فمين في أياديهم، وانتقامهم من الأمم وتوبيخاتهم للشعوب، وأسرهم الملوك والأشراف بالقيود والأغلال من حديد. فأقول المبشر به محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم ويصدق جميع الأوصاف المذكورة في هذا الزبور عليه وعلى أصحابه، وليس المبشر به سليمان عليه السلام لأنه ما وسع مملكته على مملكة أبيه على زعم أهل الكتاب، ولأنه صار مرتداً عابداً الأصنام في آخر عمره على زعمهم، ولا عيسى ابن مريم عليهما السلام لأنه بمراحل عن الأوصاف المذكورة فيه لأنه أسر ثم قتل على زعمهم، وكذا أسر أكثر حواريه بالقيود والأغلال، ثم قتلوا بأيدي الملوك والأشراف الكفار.

(البشارة الثامنة) في الباب الثاني والأربعين من كتاب أشعيا هكذا: 9 (التي قد كانت أولاها قد أتت وأنا مخبر أيضاً بأحداث قبل أن تحدث وأسمعكم إياها) 10 (سبحوا للرب تسبيحة جديدة حمده من أقاصي الأرض راكبين في البحر وملؤه الجزائر وسكانهن) 11 (يرتفع البرية ومدتها في البيوت نحل قيدار سبحوا يا سكان الكهف من رؤوس الجبال يصيحون) 12 (يجعلون للرب كرامة وحمده يخبرون به في الجزائر) 13 (الرب كجبار، يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغير يصوت ويصيح، على أعدائه يتقوى) 14 (سكت دائماً صمت صبرت صبراً فأتكلم مثل الطائفة ما بدد وابتلع معاً) 15 (أخرب الجبال والآكام وكل نباتهن أجفف واجعل الأنهار جزائر والبحيرات أجففهن) 16 (وأقيد العمى في طريف لم يعرفوها والسبل لم يعلموا أسيرهم فيها أصير أمامهم الظلمة نوراً والعقب سهلاً هذا الكلام صنعته لهم ولا أخذلهم) 17 (اندبروا إلى ورائهم والمتكلمون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا ليخزون خزياً). والآية السابعة عشر في الترجمة الفارسية هكذا: (كسانيكة برشكل تراشيده توكل دارند هزيمت وبشيماني تمام خواهند يافت).

وظهر من الآية التاسعة أن أشعيا عليه السلام أخبر أولاً عن بعض الأشياء، ثم يخبر عن الأخبار الجديدة الآتية في المستقبل، فالحال الذي يخبر عنه من هذه الآية إلى آخر الباب غير الحال الذي أخبر عنه قبلها، ولذلك قال في الآية الثالثة والعشرين هكذا: (من هو بينكم أن يسمع هذا يصغي ويسمع الآية). والتسبيحة الجديدة عبارة عن العبادة على النهج الجديد التي هي في الشريعة المحمدية، وتعميمها على سكان أقاصي الأرض وأهل الجزائر وأهل المدن والبراري، إشارة إلى عموم نبوته صلى اللّه عليه وسلم، ولفظ قيدار أقوى إشارة إليه لأن محمداً صلى اللّه عليه وسلم في أولاد قيدار بن إسماعيل، وقوله من رؤوس الجبال يصيحون إشارة إلى العبادة المخصوصة التي تؤدى في أيام الحج، يصيح ألوف ألوف من الناس بلبيك اللهم لبيك، وقوله حمده يخبرون به في الجزائر إشارة إلى الآذان يخبر به ألوف ألوف في أقطار العالم في الأوقات الخمسة بالجهر، وقوله الرب كجبار يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغيرة يشير إلى مضمون الجهاد إشارة حسنة، بأن جهاده وجهاد تابعيه يكون للّه وبأمره، خالياً عن حظوظ الهوى النفسانية، ولذلك عبر اللّه عن خروج هذا النبي وخروج تابعيه بخروجه، وبين في الآية الرابعة عشر سبب مشروعية الجهاد وأشار في الآية السادسة عشر إلى حال العرب لأنهم كانوا غير واقفين على أحكام اللّه وكانوا يعبدون الأصنام وكانوا مبتلين بأنواع الرسوم القبيحة الجاهلية، كما قال اللّه تعالى في حقهم: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وقوله لا أخذلهم إشارة إلى كون أمته مرحومة {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وإلى تأييد شريعته، وقوله والمتوكلون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا  ليخزون خزياً، وعد بأن عابدي الأصنام والأوثان كمشركي العرب وعابدي الصليب وصور القديسين يحصل لهم الخزي والهزيمة التامة، ووفى بما وعد. فإن مشركي العرب وهرقل عظيم الروم وكسرى فارس ما قصروا في إطفاء النور الأحمدي لكنهم ما حصل لهم سوى الخزي التام وعاقبة الأمر، لم يبق أثر الشرك في إقليم العرب، وزالت دولة كسرى مطلقاً وزالت حكومة أهل الصليب من الشام مطلقاً. وأما في الأقاليم الأخر، فمن بعضها انمحى أثره مطلقاً كبخارى وكابل وغيرهما، ومن بعضها قل كالهند والسند وغيرهما وانتشر التوحيد شرقاً وغرباً.

(البشارة التاسعة) في الباب الرابع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: 1 ( سبحي أيتها العاقر التي لست تلدين انشدي بالحمد وهللي التي لم تلدي من أجل أن الكثيرين من بني الوحشة أفضل من بني ذات رجل يقول الرب) 2 (أوسعي موضع خيمتك وسرادق مضاربك ابسطي لا تشفقي طول حبالك ثبتي أوتادك) 3 (لأنك تنفذين يمنة ويسرة وزرعك يرث الأمم ويعمر المدن الخربة) 4 (لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين فإنك لا تستحيين من أجل أنك خزي صبائك تنسين وعار ترملك لا تذكرين أيضاً) 5 (فإنه يتولى عليك الذي صنعك رب الجنود اسمه وفاديك قدوس إسرائيل إله جميع الأرض يدعى) 6 (إنما الرب دعاك مثل الامرأة المطلقة والحزينة الروح وزوجة منذ الصبا مرذولة قال إلهك) 7 (الساعة في قليل تركتك وبرحمات عظيمة أجمعك) 8 (في ساعة الغضب أخفيت قليلاً وجهي عنك وبالرحمة الأبدية رحمتك قال فاديك الرب) 9 (مثلما في أيام نوح لي هذا الذي حلفت له أن لا أصب مياه نوح على الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك) 10 (فإن الجبال ترتجف والتلال تتزلزل ورحمتي لا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتحرك قال رحيمك الرب) 11 (فقيرة مستأصلة  بعاصف بلا تعزية ها أنا ذا أبلط بالرتبة حجارتك وأوئسسك بالسفير) 12 (وأجعل يسبا محاضك وأبوابك حجارة منقوشة وجميع حدودك الأحجار مشتهية) 13 (جميع بنيك متعلمين من الرب وكثرة السلام لبنيك) 14 (وبالبر تؤسسين فابتعدي من الظلم لأنك لا تخافين ومن الهيبة لأنها لا تقرب منك) 15 (ها يأتي الجار الذي لم يكن معي والذي قد كان قريباً يقترب إليك) 16 (ها أنا ذا خلقت صائغاً الذي ينفخ في النار جمراً ويخرج إناء لعمله وأنا خلقت قتولاً للإهلاك) 17 (كل إناء مجبول ضدك لا ينجح وكل لسان يخالفك في القضاء تحكمين عليه هذا هو ميراث عبيد الرب وعدلهم عندي يقول الرب).

فأقول: المراد بالعاقر في الآية الأولى مكة المعظمة، لأنها لم يظهر منها نبي بعد إسماعيل عليه السلام ولم ينزل فيها وحي، بخلاف أورشليم لأنه ظهر فيها الأنبياء الكثيرون، وكثر فيها نزول الوحي. وبني الوحشة عبارة عن أولاد هاجر لأنها كانت بمنزلة المطلقة المخرجة عن البيت ساكنة في البر، ولذلك وقع في حق إسماعيل في وعد اللّه هاجر (هذا سيكون إنساناً وحشياً) كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من سفر التكوين. وبنو ذات رجل عبارة عن أولاد سارة. فخاطب اللّه مكة آمراً لها بالتسبيح والتهليل وإنشاد الشكر، لأجل أن كثيرين من أولاد هاجر صاروا أفضل من أولاد سارة، فحصلت الفضيلة لها بسبب حصول الفضيلة لأهلها، ووفى بماوعد بأن بعث محمداً صلى اللّه عليه وسلم رسولاً أفضل البشر خاتم النبيين من أهلها في أولاد هاجر، وهو المراد بالصائغ الذي ينفخ في النار جمراً، وهو القتول الذي خلق لإهلاك المشركين، وحصل لها السعة بواسطة هذا النبي وما حصل لغيرها من المعابد في الدنيا إذ لا يوجد معبد مثل الكعبة من ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى هذا الحين، والتعظيم الذي يحصل  لها من القرابين في كل سنة من مدة ألف ومائتين وثمانين، لم يحصل لبيت المقدس إلا مرتين، مرة في عهد سليمان عليه السلام لما فرغ من بنائه، ومرة في السنة الثامنة عشر من سلطنة يوشيا، ويبقى هذا التعظيم لمكة إلى آخر الدهر إن شاء اللّه كما وعد اللّه بقوله: (لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين لأنك لا تستحين) وبقوله: (برحمات عظيمة أجمعك وبالرحمة الأبدية رحمتك) وبقوله: (حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك)، وبقوله: (رحمتي لا تزول عنك وعهد سلامي لا يتحرك)، وملك زرعها شرقاً وغرباً وورثوا الأمم وعمروا المدن في مدة قليلة لا تتجاوز اثنين وعشرين سنة من الهجرة، ومثل هذه الغلبة في مثل هذه المدة القليلة، لم يسمع من عهد آدم عليه السلام إلى زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم لمن يدعي الدين الجديد. وهذا مفاد قول الله، وزرعك يرث الأمم، ويعمر المدن الخربة سلاطين الإسلام سلفاً وخلفاً اجتهدوا اجتهاداً تاماً في بناء الكعبة والمسجد الحرام وتزيينهما، وحفر الآبار والبرك والعيون في مكة ونواحيها، ومن المدة الممتدة هذه الخدمة الجليلة متعلقة بسلاطين آل عثمان، غفر اللّه لأسلافهم ورضي اللّه عنهم وزاد اللّه إقبال أخلافهم ووسع مملكتهم في الجهات، ووفقهم للعدل والحسنات، فهم خدموا ويخدمون الحرمين المعظمين أدام اللّه شرفهما من هذه المدة إلى هذا الحين كما هي، حتى صار لقب خادم الحرمين الشريفين عندهم أشرف الألقاب وأعزها، والغرباء يحبون مجاورتها من ظهور الإسلام إلى هذا الحين، سيما في هذا الزمان، وألوف من الناس يصلون إليها في كل سنة من أقاليم مختلفة وديار بعيدة، ووفى بما وعد بقوله كل إناء مجبول بضدك لا ينجح، لأن كل شخص من المخالف قام بضدها أذله اللّه كما وقع بأصحاب الفيل، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم لما ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج وحلف أن يهدم الكعبة، فخرج بالحبشة ومعه  فيل له اسمه محمود وكان قوياً عظيماً وأفيال أخرى، فخرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبأ جيشه، وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل اللّه طيراً مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل، وذوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه، وقد أخبر اللّه عن حال هؤلاء في سورة الفيل وبحسب الوعد المذكور لا يدخل الأعور الدجال مكة ويرجع خائباً كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

(البشارة العاشرة) في الباب الخامس والستين من كتاب أشعيا هكذا: 1 (طلبني الذين لم يسألوني قبل ووجدني الذين لم يطلبوني قلت ها أنا ذا إلى الأمة الذين لم يدعوا باسمي) 2 (بسطت يدي طول النهار إلى شعب غير مؤمن الذي يسلك بطريق غير صالح وراء أفكارهم) 3 (الشعب الذي يغضبني أمام وجهي دائماً الذين يذبحون في البساتين ويذبحون على اللبن) 4 (الذين يسكنون في القبور في مساجد الأوثان يرقدون الذين يأكلون لحم الخنزير والمرق المنجس في آنيتهم) 5 (الذين يقولون أبعد عني لا تقرب مني لأنك نجس هؤلاء يكونون دخاناً في رجزي ناراً متقدة طول النهار) 6 (ها مكتوب قدامي لا أسكت بل أردوا كافي جزاء في حضنهم). فالمراد بالذين لم يسألوني والذين لم يطلبوني العرب، لأنهم كانوا غير واقفين  على ذات اللّه وصفاته وشرائعه، فما كانوا سائلين عن اللّه وطالبين له كما قال اللّه تعالى في سورة آل عمران: {لقد منَّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. ولا يجوز أن يراد بهم اليونانيين كما عرفت في البشارة الثانية، والوصف المذكور في الآية الثانية والثالثة يصدق على كل واحد من اليهود والنصارى، والأوصاف المذكورة في الآية الرابعة ألصق بحال النصارى، كما أن الوصف المذكور في الخامسة ألصق بحال اليهود فردهم الباري واختار الأمة المحمدية.

(البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال في حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، ثم بين دانيال عليه السلام بحسب الوحي تلك الرؤيا وتفسيرها. 31: (فكنت أنت الملك ترى وإذ تمثال واحد جسيم وكان التمثال عظيماً ورفيع القامة واقفاً قبالك ومنظره مخوفاً) 32: (رأس هذا التمثال هو من ذهب إبريز والصدر والذراعان من فضة والبطن والفخذان من نحاس) 33: (والساقان من حديد والقدمان قسم منهما من حديد وقسم منهما من خزف) 34: (فكنت ترى هكذا حتى انقطع حجر من جبل لا بيدين وضرب التمثال في قدميه من حديد ومن خزف فسحقهما) 35: (فانسحق حينئذ مع الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كغبار البيدر في الصيف فذرتها الريح ولم يوجد لها مكان والحجر الذي قد ضرب التمثال صار جبلاً وملأ الأرض بأسرها) 36: (فهذا هو الحلم وتنبئ أيضاً قدامك يا أيها الملك بتفسيره) 37: (أنت هو ملك الملوك وإله السماء أعطاك الملك والقوة والسلطان والمجد). 38: (وجميع ما يسكن فيه بنو الناس ووحوش الحقل وأعطى بيدك طير السماء أيضاً وجعل جميع الأشياء تحت سلطانك فأنت هو الرأس من الذهب) 39: (وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك من فضة ومملكة ثالثة أخرى من نحاس وتتسلط على جميع الأرض) 40: (والمملكة الرابعة تكون مثل الحديد كما أن الحديد يسحق ويغلب الجميع هكذا هي تسحق وتكسر جميع هذه) 41: (أما فيما رأيت قسم القدمين وأصابعهما من الخزف الفاخوري وقسماً من حديد تكون المملكة مفترقة وإن كان يخرج من نصبة الحديد حسبما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين) 42: (وأصابع القدمين قسم من حديد وقسم من خزف فتكون المملكة بقسم صلبة وبقسم مسحوقة) 43: (فيما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين أنهم يختلطون بزرع بشري بل لا يتلاصقون مثل ما ليس بممكن أن يمتزج الحديد بالخزف) 44: (فأما في أيام تلك الممالك يبعث إله السماء مملكة وهي لن تنقضي قط، ملكها لا يعطى لشعب آخر وهي تسحق وتفنى جميع هذه الممالك أجمعين وهي تثبت إلى الأبد) 45: (وكما رأيت أن من جبل انقطع حجر لا بيدين وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب، فالإله العظيم أظهر للملك ما سيأتي من بعد والحلم هو حقيقي وتفسيره صحيح). فالمراد بالمملكة الأولى سلطنة بختنصر، وبالمملكة الثانية سلطنة المادئين الذين تسلطوا بعد قتل بلشاصر بن بختنصر كما هو مصرح به في الباب الخامس من الكتاب المذكور، وسلطنتهم كانت ضعيفة بالنسبة إلى سلطنة الكلدانيين، والمراد بالمملكة الثالثة سلطنة الكيانيين لأن قورش ملك إيران الذي هو بزعم القسيسين كيخسر وتسلط على بابل قبل ميلاد المسيح بخمسمائة وست وثلاثين سنة، ولما كان الكيانيون على السلطنة القاهرة فكأنهم كانوا متسلطين على جميع الأرض والمراد بالمملكة الرابعة سلطنة اسكندر بن فيلفوس الرومي الذي تسلط على ديار فارس قبل ميلاد المسيح بثلثمائة وثلاثين سنة، فهذا السلطان كان في القوة بمنزلة الحديد ثم جعل هذا السلطان سلطنة فارس منقسمة على طوائف الملوك فبقيت هذه السلطنة ضعيفة إلى ظهور الساسانيين ثم صارت قوية بعد ظهورهم فكانت ضعيفة تارة وقوية تارة وتولد في عهد نوشيروان (محمد بن عبد اللّه) صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه اللّه السلطنة الظاهرية والباطنية وقد تسلط متبعوه في مدة قليلة شرقاً وغرباً وعلى جميع ديار فارس التي كانت هذه الرؤيا وتفسيرها متعلقين بها، فهذه هي السلطنة الأبدية التي لا تنقضي وملكها لا يعطى لشعب آخر وسيظهر كمالها عن قريب في زمان الإمام المهدي رضي اللّه عنه لكن الوهن والضعف يقع قبل ظهوره بمدة قليلة كما يشاهد بعض علاماته الآن ثم يزول بظهوره ويكون الدين كله للّه، فهذا الحجر الذي انقطع لا بيدين من جبل وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب وصار جبلاً عظيماً وملأ الأرض بأسرها هو محمد صلى اللّه عليه وسلم.

(البشارة الثانية عشر) نقل يهوذا الحواري في رسالته الخبر الذي تكلم به أخنوخ الرسول الذي كان سابعاً من آدم عليه السلام ومن عروجه إلى ميلاد المسيح مدة ثلاثة آلاف وسبع عشرة سنة على زعم مؤرخيهم. وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (الرب قد جاء في ربواته المقدسة ليدائن الجميع ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التي نافقوا فيها وعلى كل الكلام الصعب الذي تكلم به ضد اللّه الخطاة المنافقون) وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن استعمال لفظ الرب بمعنى المخدوم والمعلم شائع فلا حاجة إلى الإعادة، وأما لفظ المقدس أو القديس فيطلق في العهدين على المؤمن الموجود في الأرض إطلاقاً شائعاً.

[1] الآية الأولى من الباب الخامس من سفر أيوب هكذا: (فادع الآن أن كان لك مجيب وإلى أحد من القديسين التفت) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض، أما عند علماء بروتستنت فظاهروا ما عند علماء كاتلك فلأن مطهرهم الذي هو موضع آلام أرواح الصالحين إلى أن يحصل لها النجاة بمغفرة البابا، وجد بعد المسيح عليه السلام ولم يكن في زمن أيوب.

[2] والآية الثانية من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (إلى جماعة اللّه التي بقورنثية المقدسين بيسوع المسيح المدعوين قديسين) الخ. فالمراد بالمقدسين والقديسين المؤمنون بالمسيح الموجودون في قورنثية.

[3] والآية الثالثة عشر من الباب الثاني عشر من الرسالة الرومية هكذا: (مشاركين لحاجة القديسين) الخ.

[4 ، 5] في الباب الخامس عشر منها هكذا: (ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين) 26 (لأن أهل مكدونية واحائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعاً لفقراء القديسين الذين في أورشليم فالمراد بالقديسين في الموضعين المؤمنون الموجودون في أورشليم.

[6] والآية الأولى من الباب الأول من الرسالة إلى أهل فيلبسيوس هكذا: (من بولس وطيماثاوس عبدي يسوع المسيح إلى جميع القديسين بيسوع المسيح بفيلبسيوس) الخ. فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون بفيلبسيوس).

[7] ووقع في الآية العاشرة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى طيماثاوس في حال الشماسات هكذا: (غسلت أرجل القديسين) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض بوجهين: الأول: أن القديسين الموجودون في السماء أرواح ليس لهم أرجل والثاني: أن الشماسات لا يمكنهن العروج إلى السماء وإذا عرفت استعمال لفظ الرب والمقدس أو القديس فأقول إن المراد بالرب محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالربوات المقدسة الصحابة والتعبير عن مجيئه بقد جاء لكونه أمراً يقينياً فجاء محمد صلى اللّه عليه وسلم في ربواته المقدسة فدان الكفار، وبكت المنافقين والخطاة على أعمال النفاق وعلى أقوالهم القبيحة في اللّه ورسله، فبكت المشركين لعدم تسليم توحيد اللّه ورسالة رسله مطلقاً وعبادتهم الأصنام والأوثان، وبكت اليهود على تفريطهم في حق عيسى ومريم عليهما السلام وبعض عقائدهم الواهية، وبكت أهل التثليث مطلقاً على تفريطهم في توحيد اللّه وإفراطهم في حق عيسى عليه السلام، وبكت أكثرهم على عبادة الصليب والتماثيل وبعض عقائدهم الواهية.

 (البشارة الثالثة عشر) في الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية) 2 (قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات). وفي الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: 12 (ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل) 17 (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات) 23 (وكان يسوع يطوف كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت الخ). وفي الباب السادس من إنجيل متى في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: (ليأت ملكوتك) ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيلية للدعوة والوعظ، وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضاً: (وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السماوات) كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى ووقع في الباب التاسع من إنجيل لوقا هكذا: 1 (ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض) 2 (وأرسلهم ليكرزوا بملكوت اللّه يشفوا المرضى). وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا: (وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم) الخ (فقال لهم) الخ 8 (وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم) 9 (واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم  ملكوت اللّه) 10 (وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا) 11 (حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت اللّه). فظهر أن كلاً من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشر بملكوت السماوات، وبشر عيسى عليه السلام بالألفاظ التي بشر بها يحيى عليه السلام، فعلم أن هذا الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى عليه السلام فكذلك لم يظهر في عهد عيسى عليه السلام ولا في عهد الحواريين والسبعين بل كل منهم مبشر به ومخبر عن فضله ومترجّ لمجيئه، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام، وإلا لما قاله عيسى عليه السلام والحواريون والسبعون أن ملكوت السماوات قد اقترب، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة وليأت ملكوتك لأن هذه طريقة قد ظهرت بعد ادعاء عيسى عليه السلام النبوة بشريعته، فهو عبارة عن طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدل على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة، وأن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله، وأن مبنى قوانينه لا بد أن يكون كتاباً سماوياً، وكل من هذه الأمور يصدق على الشريعة المحمدية، وما قال العلماء المسيحية أن المراد بهذا الملكوت، شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام، فتأويل ضعيف خلاف الظاهر، ويرده التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام في الباب الثالث عشر من إنجيل متى، مثلاً قال: (يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع). فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا بنمو الزراعة وحصادها، وكذلك شبه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة، وشبه بخميرة لا باختمار جميع الدقيق. وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى عليه السلام بعد بيان التمثيل المنقول في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: (لذلك أقول أن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) فإن هذا القول يدل على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها كل العالم، وإلا لا معنى لنزع الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائهما لقوم آخرين، فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال عليه السلام في الباب الثاني من كتابه، فمصداق هذا الملكوت، وتلك المملكة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه أعلم وعلمه أتم.

 (البشارة الرابعة عشر) في الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا: 31 (قدم لهم مثلاً آخر قائلاً يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله) 32 (وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها)، فملكوت السماء طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه نشأ في قوم كانوا حقراء عند العالم لكونهم أهل البوادي غالباً، وغير واقفين على العلوم والصناعات، محرومين عن اللذات الجسمانية والتكلفات الدنيوية سيما عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر، فبعث اللّه منهم محمداً صلى اللّه عليه وسلم فكانت شريعته في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل أصغر الشرائع بحسب الظاهر، لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت أكبرها وأحاطت شرقاً وغرباً، حتى أن الذين لم يكونوا مطيعين لشريعة من الشرائع تشبثوا بذيل شريعته.

(البشارة الخامسة عشر) في الباب العشرين من إنجيل متى هكذا: 1 (فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه) 2 (فاتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه) 3 (ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين) 4 (فقال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا) 5 (وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك) 6 (ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين) 7 (قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم) 8 (فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة وأعطهم الأجر مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين) 9 (فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً) 10 (فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم ديناراً ديناراً) 11 (وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت) 12 (قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر) 13 (فأجاب وقال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار) 14 (فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك) 15 (أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عينك شريرة لأني أنا صالح) 16 (هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون).

فالآخرون أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فهم يقدمون في الأجر، وهم الآخرون الأولون كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وقال: (إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي).

(البشارة السادسة عشر) في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: 33 (اسمعوا مثلاً آخر كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلمه إلى كرامين وسافر) 34 (ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره) 35 (فأخذ الكرامون  عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً) 36 (ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك) 37 (فأخبرا أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني) 38 (وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه) 39 (فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه) 40 (فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين) 41 (قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها) 42 (قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناءون، هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا) 43 (لذلك أقول لكم إن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) 44 (ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه) 45 (ولما سمع رؤساء الكهنة، والفريسيون أمثاله، عرفوا أنه تكلم عليهم).

أقول: إن رب بيت كناية عن اللّه، والكرم كناية عن الشريعة، وإحاطته بسياج وحفر المعصرة فيه وبناء البرج، كنايات عن بيان المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي، وأن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود، كما فهم رؤساء الكهنة، والفريسيون، أنه تكلم عليهم، والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام، والابن كناية عن عيسى عليه السلام، وقد عرفت في الباب الرابع أنه لا بأس بإطلاق هذا اللفظ عليه، وقد قتله اليهود أيضاً في زعمهم. والحجر الذي رفضه البناءون كناية عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، والأمة التي تعمل أثماره كناية عن أمته صلى اللّه عليه وسلم، وهذا هو الحجر الذي كل من سقط عليه ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، وما ادعى العلماء المسيحية بزعمهم، أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام، فغير صحيح لوجوه:

 (الأول) أن داود عليه السلام، قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا: 22 (الحجر الذي رذله البناءون هو صار رأساً للزاوية) 23 (من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا). فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام، فأي عجب في أعين اليهود عموماً لكون عيسى عليه السلام رأس الزاوية سيما في عين داود عليه السلام خصوصاً لأن مزعوم المسيحيين، أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيماً بليغاً، ويعتقد الألوهية في حقه بخلاف آل إسماعيل، لأن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير، وكان كون أحد منهم رأساً للزاوية عجيباً في أعينهم.

(والثاني) أنه وقع في وسط هذا الحجر كل من سقط على هذا الحجر ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، ولا يصدق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنه قال: (وإن سمع أحد كلامي، ولم يؤمن، فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم). كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا، وصدقه على محمد صلى اللّه عليه وسلم غير محتاج إلى البيان، لأنه كان مأموراً بتنبيه الفجار الأشرار، فإن سقطوا عليه ترضضوا، وإن سقط هو عليهم سحقهم.

(الثالث) قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء، كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل). ولما ثبتت نبوته بالأدلة الأخرى كما ذكرت نبذاً منها في المسالك السابقة، فلا بأس بأن استدل في هذه البشارة بقوله أيضاً.

(والرابع) أن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الابن.

(البشارة السابعة عشر) في الباب الثاني من المشاهدات هكذا: 26 (ومن يغلب، ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطاناً على الأمم) 27 (فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أيضاً من عند أبي) 28 (وأعطيه كوكب الصبح) 29 (من له أذن فليسمع ما يقول الروح بالكنائس). فهذا الغالب الذي أعطى سلطاناً على الأمم، ويرعاهم بالقضيب من حديد، هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. كما قال اللّه في حقه: {وينصرك اللّه نصراً عزيزاً} وقد سماه سطيح الكاهن صاحب الهراوة، روى أن ليلة ولادته صلى اللّه عليه وسلم انشق إيوان كسرى أنو شروان، وسقط من ذلك أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة بحيث صارت يابسة، ورأى الموبذان في نومه أن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً فقطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فخاف كسرى من حدوث هذه الأمور وأرسل عبد المسيح إلى سطيح الكاهن الذي كان في الشام، ولما وصل عبد المسيح إليه، وجده في سكرات الموت فذكر هذه الأمور عنده، فأجاب سطيح: (إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح مناماً، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت). ثم مات سطيح من ساعته، ورجع عبد المسيح، فأخبر أنو شروان بما قال سطيح، قال كسرى إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي اللّه عنه، فهلك آخرهم يزدجر في خلافته. والهراوة بكسر الهاء العصا الضخمة، وكوكب الصبح عبارة عن القرآن، قال اللّه تعالى في سورة النساء: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}، وفي سورة التغابن: {فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلنا}. قال صاحب صولة الضيغم بعد نقل هذه البشارة، قلت للقسيسين ويت، ووليم عند المناظرة: إن صاحب هذا القضيب  من حديد محمد صلى اللّه عليه وسلم، فاضطربا بسماع هذا الأمر، وقالا: إن عيسى عليه السلام، حكم بهذا الكنيسة ثياثيراً، فلا بد أن يكون ظهور مثل هذا الشخص هناك، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ما راح هناك، قلت: هذه الكنيسة في أية ناحية كانت. فرجعا إلى كتب اللغة، وقالا: كانت في أرض الروم، قريبة من استانبول. قلت: راح أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم في خلافة الفاروق الأعظم، عمر رضي اللّه عنه، إلى هذه البلاد، وفتحوها، وبعد الصحابة، رضي اللّه عنهم، كان المسلمون أيضاً متسلطين عليها في أكثر الأوقات، ثم تسلط سلاطين آل عثمان، أدام اللّه سلطنتهم من المدة المديدة، وهم متسلطون إلى هذا الحين، فهذا الخبر صريح في حق محمد، صلى اللّه عليه وسلم، انتهى كلامه.

قلت: الفاضل عباس علي الجاجموي الهندي، صنف أولاً كتاباً، كبيراً في رد أهل التثليث، وسماه صولة الضيغم على أعداء ابن مريم، ثم ناظر هو رحمه اللّه ويت، ووليم القسيسين في البلد كانفور من بلاد الهند وألزمهما، ثم اختصر كتابه، وسمىّ المختصر خلاصة صولة الضيغم، ومناظرته كانت قبل أن ناظر صاحب ميزان الحق في أكبر آباد بمقدار اثنتين وعشرين سنة.

(البشارة الثامنة عشر) وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، وأنا أنقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن، فأقول: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 15 (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي) 16 (وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد) 17 (روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم) 26 (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو  يذكركم كل ما قلته لكم) 30 (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون). وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي) 27 (وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء). وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن انطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم) 8 (فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم) 9 (أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي) 10 (وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد) 11 (وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين) 12 (وأن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن) 13 (وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) 14 (وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم) 15 (جميع ما هو الأب فهو لي فمن أجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ ويخبركم). وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين:

الأمر الأول: أنك قد عرفت في الأمر السابع، أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم أن يترجموا غالباً الأسماء، وأن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني، فإذاً لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط، وقد وصلت إلى رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة، وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط، وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب  وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط، وكان ملخص كلامه: (أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني فإن قلنا أن هذا اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا أن اللفظ الأصل بيركلو طوس يكون قريباً من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلو طوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنه باراكلي طوس) انتهى ملخصاً من كلامه.

فأقول أن التفاوت بين اللفظين يسير جداً وأن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل بيركلو طوس بياراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف، اعتقد يقيناً بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات.

والأمر الثاني: أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، أنهم مصاديق لفظ، فارقليط مثلاً منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد، وكان مرتاضاً شديداً وأتقى عهده، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغير الرسالة وقال إني هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ.

وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا: (أن البعض قالوا أنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضاً شديداً ولأجل ذلك قبله الناس قبولاً زائداً) انتهى كلامه. فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضاً ولذلك كان الناس يدعون مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم. وقال صاحب لب التواريخ: (أن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر) انتهى ملخص كلامه.  فيعلم من كلامه أيضاً أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو الحق لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد صلى اللّه عليه وسلم (فقال أشهد باللّه أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب) وكتب الجواب وكتب في الجواب (أشهد أنك رسول اللّه صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يديه للّه رب العالمين) وهذا النجاشي قبل الإسلام كان نصرانياً، وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم هكذا: (لمحمد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك) والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه أني قد علمت أن نبياً قد بقي وكان نصرانياً، فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد صلى اللّه عليه وسلم لأجل شوكته الدنيوية، وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: واللّه لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول، التحية لك والشكر لمن أكرمك، لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك محمد رسول اللّه)، ثم آمن قومه وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقر بأنه قد بشر بك ابن البتول أي عيسى عليه السلام، فظهر أن المسيحيين أيضاً كانوا منتظرين لخروج نبي بشر به عيسى عليه السلام، فإذا علمت ذلك فأقول أن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة، لكني أترك البحث عن الأصل، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني الأصل بيركلو طوس فالأمر ظاهر، وتكون بشارة المسيح في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم بلفظ هو قريب من محمد، وأحمد، وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال، لأنه لا يتم عليهم إلزاماً وأقول إن كان اللفظ اليوناني الأصل بارا كلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً، لأن معناه المعزي، والمعين، والوكيل، على ما بين صاحب الرسالة، أو الشافع، كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وهذه المعاني كلها تصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وأنا أبين الآن أولاً أن المراد بفارقليط النبي المبشر به أعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم لا الروح النازل على تلاميذ عيسى عليه السلام يوم الدار، الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال. وأذكر ثانياً شبهات العلماء المسيحية وأجيب عنها فأقول:

أما الأول: فيدل عليه أمور:

[1] أن عيسى عليه السلام قال: (أولاً، إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي) ثم أخبر عن فارقليط فمقصوده عليه السلام، أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم يعد ضروري واجب الرعاية، فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة، لأنه ما كان مظنوناً أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى، لأنهم كانوا مستفيضين به من قبل أيضاً، بل لا مجال للاستبعاد أيضاً لأنه إذا نزل على قلب أحد وحل فيه يظهر أثره لا محالة ظهوراً بيناً، فلا يتصوّر إنكار المتأثر منه وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الاستبعاد، فهو عبارة عن النبي  المبشر به، فحقيقة الأمر أن المسيح عليه السلام لما علم بالتجربة وبنور النبوّة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبي المبشر به عند ظهوره، فأكد أولاً بهذه الفقرة ثم أخبر عن مجيئه.

[2] أن هذا الروح متحد بالأب مطلقاً وبالابن، نظراً إلى لاهوته اتحاداً حقيقياً فلا يصدق في حقه (فارقليط آخر) بخلاف النبي المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف.

[3] أن الوكالة والشفاعة من خواص النبوّة لا من خواص هذا الروح المتحد باللّه، فلا يصدقان على الروح ويصدقان على النبي المبشر به بلا تكلف.

[4] أن عيسى عليه السلام قال: (هو يذكركم كل ما قلته لكم). ولم يثبت من رسالة من رسائل العهد الجديد، أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى عليه السلام، وهذا الروح النازل يوم الدار ذكرهم إياه.

[5] أن عيسى عليه السلام قال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون). وهذا يدل على أن المراد به ليس الروح لأنك قد عرفت في الأمر الأول أنه ما كان عدم الإيمان مظنوناً منهم وقت نزوله، بل لا مجال للاستبعاد أيضاً، فلا حاجة إلى هذا القول، وليس من شأن الحكيم العاقل أن يتكلم بكلام فضول فضلاً عن شأن النبي العظيم الشأن، فلو أردنا به النبي المبشر به يكون هذا الكلام في محله، وفي غاية الاستحسان لأجل التأكيد مرة ثانية.

[6] أن عيسى عليه السلام قال: (هو يشهد لأجلي). وهذا الروح ما شهد لأجله بين يدي أحد، لأن تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة، لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضاً، فلا فائدة للشهادة بين أيديهم، والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم بخلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه شهد لأجل المسيح عليه [ص 284] السلام وصدقه وبرأه عن ادعاء الألوهية، الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال، وبرأ أمه عن تهمة الزنا، وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة، وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة.

[7] أن عيسى عليه السلام قال: (وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء، وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 هكذا: (وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم كنتم معي من الابتداء). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء) فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضاً، وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضاً، فلفظ أيضاً سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهواً أو قصداً، فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة فارقليط، فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة الشهادتين، لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين، بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها، لأن هذا الروح مع كونه إلهاً متحداً باللّه اتحاداً حقيقياً برياً من النزول والحلول والاستقرار والشكل التي هي من عوارض الجسم والجسمانيات، نزل مثل ريح عاصفة وظهر في أشكال ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم يوم الدار، فكان حالهم كحال من عليه أثر الجن، فكما أن قول الجن يكون قوله في تلك الحالة فكذلك كانت شهادة الروح هي شهادة الحواريين، فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبي المبشر به، فإن شهادته غير شهادة الحواريين.

[8] أن عيسى عليه السلام قال: (إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم). فعلق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيلية، فنزوله ليس بمشروط بذهابه، فلا يكون مراداً بفارقليط، بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده، وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم كان كذلك، لأنه جاء بعد ذهاب عيسى عليه السلام، وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام، لأن وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأول أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة، لأنه يجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد، كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.

[9] أن عيسى عليه السلام قال: (يوبخ العالم). فهذا القول بمنزلة النص الجلي لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه وبخ العالم سيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت، وسيكون ابنه الرشيد محمد المهدي رفيقاً لعيسى عليه السلام في زمان قتل الدجال الأعور ومتابعيه، بخلاف الروح النازل يوم الدار، فإن توبيخه لا يصح على أصول أحد، وما كان التوبيخ منصب الحواريين بعد نزوله أيضاً، لأنهم كانوا يدعون إلى الملة بالترغيب والوعظ، وما قال رانكين في كتابه المسمى بدافع البهتان الذي هو بلسان أردو في رده على خلاصة صولة الضيغم: (إن لفظ التوبيخ لا يوجد في الإنجيل ولا في ترجمة من تراجم الإنجيل، وهذا المستدل أورد هذا اللفظ ليصدق على محمد صدقاً بيناً لأجل أن محمد صلى اللّه عليه وسلم وبخ وهدد كثيراً، إلا أن مثل هذا التغليط ليس من شأن المؤمنين والخائفين من اللّه) انتهى كلامه فمردوده. وهذا القسيس إما جاهل غالط أو مغلط ليس له إيمان ولا خوف من اللّه، لأن هذا اللفظ يوجد في التراجم العربية المذكورة التي نقلت عنها عبارة يوحنا، وفي الترجمة المطبوعة 1671 في الرومية العظمى، وعبارة الترجمة العربية المطبوعة في بيروت سنة 1860 هكذا: (ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية الخ). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825، وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 يوجد لفظ الإلزام، ولفظ التبكيت والإلزام أيضاً قريبان من التوبيخ لكن لا شكاية منه، لأن مثل هذا الأمر من عادات علماء بروتستنت ولذلك ترى أن مترجمي الفارسية وأردو تركوا لفظ فارقليط لشهرته عند المسلمين في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم، ومترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 فإن هؤلاء أسلافه أيضاً، حيث أرجع إلى الروح ضمائر المؤنث ليحصل الاشتباه للعوام أن مصداق هذا اللفظ مؤنث وليس بمذكر.

[10] قال عيسى عليه السلام: (أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي) وهذا يدل على أن فارقليط يكون ظاهراً على منكري عيسى عليه السلام موبخاً لهم على عدم الإيمان به، والروح النازل يوم الدار ما كان ظاهراً على الناس موبخاً لهم.

[11] قال عيسى عليه السلام: (إن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن). وهذا ينافي إرادة الروح النازل يوم الدار لأنه ما زاد حكماً على أحكام عيسى عليه السلام، لأنه على زعم أهل التثليث كان أمر الحواريين بعقيدة التثليث وبدعوة أهل العالم كله، فأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله التي قال لهم إلى زمان صعوده. نعم بعد نزول هذا الروح، أسقطوا جميع أحكام التوراة التي هي ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج، وحللوا جميع المحرمات وهذا الأمر لا يجوز في حقه أن يقال أنهم ما كانوا يستطيعون حمله، لأنهم استطاعوا حمل سقوط حكم تعظيم السبت الذي هو أعظم أحكام التوراة، الذي كان اليهود ينكرون كون عيسى  عليه السلام مسيحاً موعوداً به لأجل عدم مراعاته هذا الحكم، فقبول سقوط جميع الأحكام كان أهون عندهم، نعم قبول زيادة الأحكام لأجل ضعف الإيمان، وضعف القوة إلى زمان صعوده كما يعترف به علماء بروتستنت، كان خارجاً عن استطاعتهم. فظهر أن المراد بفارقليط نبي تزاد في شريعته أحكام بالنسبة إلى الشريعة العيسوية ويثقل حملها على المكلفين الضعفاء وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم.

[12] أن عيسى عليه السلام قال: (ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع).

وهذا يدل على أن فارقليط يكون بحيث يكذبه بنو إسرائيل، فاحتاج عيسى عليه السلام أن يقرر حال صدقه فقال هذا القول، ولا مجال لمظنة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار، على أن هذا الروح عندهم عين اللّه فلا معنى لقوله بل يتكلم بما يسمع. فمصداقه محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنه كان في حقه مظنة التكذيب وليس هو عين اللّه وكان يتكلم بما يوحى إليه كما قال اللّه تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وقال: {إن اتبع إلا ما يوحى إليَّ}.

[13] أن عيسى عليه السلام قال: (أنه يأخذ مما هو لي). وهذا لا يصدق على الروح، لأنه عند أهل التثليث قديم وغير مخلوق وقادر مطلق ليس له كمال منتظر بل كل كمال من كمالاته حاصل له بالفعل، فلا بد أن يكون الموعود به من الجنس الذي يكون له كمال منتظر، ولما كان هذا الكلام موهماً أن يكون هذا النبي متبعاً لشريعته، دفعه بقوله فيما بعد: (جميع ما للأب فهو لي فلأجل هذا قلت مما هو لي يأخذ). يعني أن كل شيء يحصل لفارقليط من اللّه فكأنه يحصل مني، كما اشتهر من كان للّه كان اللّه له، فلأجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ.

وأما الثاني أعني الشبهات التي توردها علماء بروتستنت فخمسة:‏

(الشبهة الأولى) جاء في هذه العبارة تفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق وهما عبارتان عن الأفنوم الثالث، فكيف يصح أن يراد بفارقليط محمد صلى اللّه عليه وسلم  أقول في الجواب: أن صاحب ميزان الحق يدعي في تأليفاته كون ألفاظ روح اللّه وروح القدس وروح الحق وروح الصدق وروح فم اللّه بمعنى واحد، وقال في الفصل الأول من الباب الثاني من مفتاح الأسرار في الصفحة 53 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1850: (أن لفظ روح اللّه ولفظ روح القدس في التوراة والإنجيل بمعنى واحد) انتهى. فادعى أن هذين اللفظين يستعملان بمعنى واحد في العهدين وقال في حل الإشكال في جواب كشف الأستار: (من له شعور ما بالتوراة والإنجيل فهو يعرف أن ألفاظ روح القدس وروح الحق وروح فم اللّه وغيرها بمعنى روح اللّه فلذلك ما رأيت إثباته ضرورياً) انتهى. فإذا عرفت هذا القول نحن نقطع النظر عن صحة ادعائه وعدم صحته ههنا ونسلم ترادف هذه الألفاظ على زعمه لكنا ننكر أن استعمالها في كل موضع من مواضع العهدين بمعنى الأقنوم الثالث ونقول قولاً مطابقاً لقوله من له شعور ما بكتب العهدين، يعرف أن هذه الألفاظ تستعمل في غير الأقنوم كثيراً، في الآية الرابعة عشر من الباب السابع والثلاثين من كتاب حزقيال قول اللّه تعالى في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال عليه السلام هكذا: (فأعطى فيكم روحي). ففي هذا القول روح اللّه بمعنى النفس الناطقة الإنسانية لا بمعنى الأقنوم الثالث الذي هو عين اللّه على زعمهم، وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا ترجمة عربية سنة 1760: 1 (أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من اللّه، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم) 2 (بهذا تعرفون روح اللّه، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من اللّه) 6 (نحن من اللّه فمن يعرف اللّه يسمع لنا، ومن ليس من اللّه لا يسمع لنا، من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال). وهذه الجملة الواقعة في الآية الثانية: (بهذا تعرفون روح اللّه).

وفي التراجم الأخر هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844: (وبهذا يعرف روح اللّه). ترجمة عربية سنة 1825: (فإنكم تميزون روح اللّه  ولفظ روح اللّه في الآية الثانية، ولفظ روح الحق في الآية السادسة، بمعنى الواعظ الحق لا بمعنى الأقنوم الثالث، ولذلك ترجم مترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1845 لفظ كل روح بكل واعظ، ولفظ الأرواح بالواعظين في الآية الأولى ولفظ روح في الآية الثانية بالواعظ من جانب اللّه، ولفظ روح الحق في الآية السادسة بالواعظ الصادق، وترجم لفظ روح الضلال بالواعظ المضل، وليس المراد بروح اللّه وروح الحق الأقنوم الثالث الذي هو عين اللّه على زعمهم وهو ظاهر فتفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق لا يضرنا لأنهما بمعنى الواعظ الحق، كما أن لفظ روح الحق وروح اللّه بهذا المعنى في الرسالة الأولى ليوحنا، فيصح إطلاقهما على محمد صلى اللّه عليه وسلم بلا ريب.‏

(الشبهة الثانية) أن المخاطبين بضميرهم الحواريون، فلا بد أن يظهر فارقليط في عهدهم، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم لم يظهر في عهدهم، أقول هذا أيضاً ليس بشيء، لأن منشأه أن الحاضرين وقت الخطاب لا بد أن يكونوا مراضين بضمير الخطاب وهو ليس بضروري في كل موضع، ألا ترى أن قول عيسى عليه السلام في الآية الرابعة والستين من الباب السادس والعشرين من إنجيل متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع هكذا: (وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء). وهؤلاء المخاطبون قد ماتوا ومضت على موتهم مدة هي أزيد من ألف وثمانمائة سنة، وما رأوه آتياً على سحاب السماء، فكما أن المراد بالمخاطبين ههنا الموجودون من قومهم وقت نزوله من السماء، فكذلك فيما نحن فيه المراد الذين يوجدون وقت ظهور فارقليط.‏

(الشبهة الثالثة) أنه وقع في حق فارقليط أن العالم لا يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه وهو لا يصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأن الناس رأوه وعرفوه أقول هذا أيضاً ليس بشيء، وهم أحوج الناس تأويلاً في هذا القول بالنسبة إلينا، لأن روح القدس عين اللّه عندهم والعالم يعرف اللّه أكثر من معرفة محمد  صلى اللّه عليه وسلم، فلا بد أن نقول أن المراد بالمعرفة المعرفة الحقيقية الكاملة، ففي صورة التأويل لا اشتباه في صدق هذا القول على محمد صلى اللّه عليه وسلم، ويكون المقصود أن العالم لا يعرفه معرفة حقيقية كاملة، وأنتم تعرفونه معرفة حقيقية كاملة، والمراد بالرؤية المعرفة، ولذا لم يعد عيسى عليه السلام لفظ الرؤية بعد لفظ أنتم بل قال وأنتم تعرفونه.

ولو حملنا الرؤية على الرؤية البصرية يكون نفي الرؤية محمولاً على ما هو المراد في قول الإنجيلي الأول في الباب الثالث عشر من إنجيله، وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825: 13 (فلذلك أضرب لهم الأمثال لأنهم ينظرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يستمعون ولا يفهمون) 14 (وقد كمل فيهم تنبأ أشعيا حيث قال إنكم تستمعون سمعاً ولا تفهمون وتنظرون نظراً ولا تبصرون). فلا إشكال أيضاً وأمثال هذين الأمرين وإن كانت معاني مجازية لكنها بمنزلة الحقيقة العرفية. ووقعت في كلام عيسى عليه السلام كثيراً: في الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي عشر من إنجيل متى هكذا: (وليس أحد يعرف الابن إلا الأب ولا أحد يعرف الأب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له).

وفي الآية الثامنة والعشرين من الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا: (الذي أرسلني حق الذي أنتم لستم تعرفونه).

وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (لستم تعرفوني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً) 55 (ولستم تعرفونه أي اللّه) الخ.

وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (أيها الأب إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك).

وفي الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لو كنتم قد عرفتموني  لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه) 8 (قال له فيلبس يا سيد أرنا الأب وكفانا) 9 (قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الأب، فكيف تقول أنت أرنا الأب).

فالمراد في هذه الأقوال بالمعرفة المعرفة الكاملة وبالرؤية المعرفة، وإلا لا تصح هذه الأقوال يقيناً، لأن العوام من الناس كانوا يعرفون عيسى عليه السلام فضلاً عن رؤساء اليهود، والكهنة، والمشايخ، والحواريين، ورؤية اللّه بالبصر في هذا العالم ممتنعة عند أهل التثليث أيضاً.‏

 (الشبهة الرابعة) أنه وقع في حق فارقليط: (أنه مقيم عندكم، وثابت فيكم). ويظهر من هذا القول أن فارقليط كان في وقت الخطاب مقيماً عند الحواريين، وثابتاً فيهم، فكيف يصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم.

أقول: إن هذا القول في التراجم الأخرى هكذا ترجمة عربية سنة 1816، وسنة 1825: (لأنه مستقر معكم، وسيكون فيكم). والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841. وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814، وسنة 1839، كلها مطابقة لهاتين الترجمتين، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ماكث معكم، ويكون فيكم). فظهر أن المراد بقوله ثابت فيكم الثبوت الاستقبالي يقيناً، فلا اعتراض به لوجه من الوجوه، وبقي قوله مقيم عندكم فأقول: لا يصح حمل هذا القول على معنى هو مقيم عندكم الآن، لأنه ينافي قوله: (أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر)، وقوله: (قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنون)، وقوله: (إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط)، وإذا أُول نقول أنه بمعنى الاستقبال، كما أن القول الذي بعده بمعنى الاستقبال، ومعناه يكون مقيماً عندكم في الاستقبال، فلا خدشة في صدقه أيضاً على محمد صلى اللّه عليه وسلم. والتعبير عن الاستقبال بالحال بل بالماضي في الأمور المتيقنة كثير في العهدين، ألا ترى أن حزقيال عليه السلام أخبر أولاً عن خروج يأجوج ومأجوج، في الزمان المستقبل، وإهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل.

ثم قال في الآية الثامنة من الباب التاسع والثلاثين من كتابه هكذا: (ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلت عنه). فانظروا إلى قوله ها هو جاء وصار، وهذا القول في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا: (ابنك رسيد وبوقوع يبوست) فعبر عن الحال المستقبل بالماضي لكونه يقيناً لا شك فيه وقد مضت مدة أزيد من ألفين وأربعمائة وخمسين سنة ولم يظهر خروجهم.

وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا هكذا: (الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن اللّه والسامعون يحيون) فانظروا إلى قوله وهي الآن وقد مضت مدة أزيد من ألف وثمانمائة ولم تجيء هذه الساعة والى الآن أيضاً مجهولة لا يعرف أحد متى تجيء.‏

(الشبهة الخامسة) في الباب الأول من كتاب الأعمال هكذا: 4 (وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني) 5 (لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير). وهذا يدل على أن فارقليط، هو الروح النازل يوم الدار. لأن المراد بوعد الأب هو فارقليط، أقول الادعاء بأن المراد بموعد الأب هو فارقليط، ادعاء محض، بل هو غلط لثلاثة عشر وجهاً وقد عرفتها، بل الحق أن الإخبار عن فارقليط شيء، والوعد بإنزال الروح عليه مرة أخرى شيء آخر وقد وفى اللّه بالوعدين، وقد عبر بالوعد الأول بمجيء فارقليط، وههنا بموعد الأب. غاية الأمر أن يوحنا نقل بشارة فارقليط، ولم ينقلها الإنجيليون الباقون، ولوقا نقل موعد نزول الروح الذي نزل يوم الدار ولم ينقله يوحنا. ولا بأس فيه فإنهم قد يتفقون في نقل الأقوال الخسيسة، كركوب عيسى عليه السلام على الحمار وقت الذهاب إلى أورشليم، اتفق على نقله الأربعة، وقد يتخالفون في نقل الأحوال العظيمة، ألا ترى أن لوقا انفرد بذكر إحياء ابن الأرملة من الأموات في نابين، وبذكر إرسال عيسى عليه السلام سبعين تلميذاً، وبذكر إبراء عشرة برص، ولم يذكر هذه الحالات أحد الإنجيليين مع أنها من الحالات العظيمة، وأن يوحنا انفرد بذكر وليمة العرس في قانا الجليل وظهر من يسوع فيه معجزة تحويل الماء خمراً، وهذه المعجزة أول معجزاته، وسبب ظهور مجده وإيمان التلاميذ به، وبذكر إبراء السقيم في بيت صيدا في أورشليم، وهذه أيضاً معجزة عظيمة، والمريض كان مريضاً من ثمان وثلاثين سنة، وبذكر قصة امرأة أخذت في زنا، وبذكر إبراء الأكمه وهذا أيضاً من أعظم معجزاته، وهي مصرحة بهما في الباب التاسع، وبذكر إحياء العاذار من بين الأموات، ولم يذكرها أحد من الإنجيليين مع أنها حالات عظيمة. وهكذا حال متى ومرقس فإنهما انفردا بذكر بعض المعجزات والحالات التي لم يذكرهما غيرهما.

ولما طال البحث في هذا المسلك، فلنقتصر على هذا القدر من البشارات التي نقلتها عن كتبهم المعتبرة عندهم في زماننا، وأما البشارات التي توجد في كتب أخرى هي ليست معتبرة عندهم في زماننا فما نقلتها. وبعد ما فرغت أنقل عنها بشارة واحدة أيضاً على سبيل الأنموذج.

فأقول: القسيس سيل نقل في مقدمة ترجمته للقرآن المجيد من إنجيل برنايا  بشارة محمدية هكذا: (اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي اللّه عليه لأن اللّه غير راض عن الذنب، ولما اجتنى أمي وتلاميذي لأجل الدنيا سخط اللّه لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العقيدة الغير اللائقة ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك، وإني وإن كنت برياً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي أنه اللّه وابن اللّه، كره اللّه هذا القول واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول اللّه، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس) انتهت ترجمة كلامه.

(أقول) هذه البشارة عظيمة وإن اعترضوا أن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا السلف (أقول) لا اعتبار لردهم وقبولهم كما علمت بما لا مزيد عليه في الباب الأول، وهذا الإنجيل من الأناجيل القديمة ويوجد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث، فعلى هذا كتب هذا الإنجيل قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم بمئتين سنة، ولا يقدر أحد أن يخبر بغير الإلهام بمثل هذا الأمر قبل وقوعه بمئتين سنة، فلا بد أن يكون هذا قول عيسى عليه السلام، وإن قالوا أن أحداً من المسلمين حرف هذا الإنجيل بعد ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، قلت: هذا الاحتمال بعيد جداً لأن المسلمين ما التفتوا إلى هذه الأناجيل الأربعة أيضاً، فكيف إلى إنجيل برنابا، ويبعد أن يؤثر تحريف أحد من المسلمين في إنجيل برنابا تأثيراً يتغير به النسخ الموجودة عند المسيحيين أيضاً، وهم يزعمون أن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أسلموا، نقلوا عن كتب العهدين البشارات المحمدية  وحرفوها، فعلى زعمهم أقول أن هؤلاء العلماء الكبار حرفوا على زعمهم، ولم يؤثر تحريف هؤلاء في كتبهم التي كانت موجودة عندهم في مواضع هذه البشارات، فكيف أثر تحريف بعض المسلمين في إنجيل برنابا في النسخ التي كانت عندهم، فهذا الاحتمال واه ضعيف جداً واجب الرد.

(تنبيه) نقلنا هذا الإخبار أولاً في الكتاب الإعجاز العيسوي، عن الترجمة المطبوعة سنة 1850 من الميلاد، وطبع هذا الكتاب سنة 1271 من الهجرة وسنة 1854 من الميلاد واشتهر في أقطار الهند وتراجمهم، وكتبهم تتغير في الطبع المتأخر بالنسبة إلى الطبع المتقدم تغيراً ما، كما قد نبهت في مقدمة الكتاب أيضاً، فإن لم يجد الناظر هذه البشارة في بعض نسخ الترجمة المذكورة المطبوعة في سنة غير السنة المذكورة لا يقع في شك سيما إذا كان هذا البعض من النسخ المطبوعة في سنة متأخرة عن ألف وثمانمائة وأربع وخمسين من الميلاد، لأن علماء بروتستنت لو أسقطوا في طبعهم هذه البشارة من الترجمة المذكورة فلا يستبعد من عادتهم التي صارت، بمنزلة الأمر الطبيعي لهم.

وقال الفاضل حيدر علي القرشي في كتابه المسمى بخلاصة سيف المسلمين الذي هو بلسان أردو في الصفحة 63 و 64: (أن القسيس أو سكان الأرمني ترجم كتاب أشعيا باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين سنة، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبع انتوني بورتولي ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة: (سبحوا اللّه تسبيحاً جديداً وأثر سلطنة على ظهره واسمه أحمد) انتهت. وهذه الترجمة موجودة عند الأرامن فانظروا فيها) انتهى كلامه.

(أقول) هذه الترجمة لم تصل إلي وما اطلعت عليها لكن هذا الفاضل لعله رآها واطلع عليها، ولا شك أن هذه الفقرة عظيمة النفع، وإن لم تكن هذه الترجمة معتبرة عند علماء بروتستنت، ومن أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد اللّه بن سلام وابني سعية وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم، من علماء اليهود، ومثل بحير اونسطور الحبشي وضفاطر وهو الأسٍقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود، والنجاشي، والسوس، والرهبان الذين جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وغيرهم من علماء النصارى، وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم رسالته، هرقل قيصر الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء، ولم يسلموا.

وروي أنه عليه السلام لما أراد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: إن اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: ما ترى؟ فقال: واللّه لقد عرفتم نبوته، وقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، واللّه ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا وإن أبيتم إلا ألف دينكم. فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد غدا محتضناً الحسين، وآخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي اللّه عنه خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا. فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً، لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا. فأذعنوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعاً من حديد. فقال عليه الصلاة والسلام: لو باهلوا لمسخوا قردة، وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللّه نجران وأهله، حتى الطير على  الشجر، وهذه الواقعة دلت على نبوته بوجهين:

(الأول) أنه عليه الصلاة والسلام خوّفهما بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه، لأنه لو باهل ولم ينزل العذاب ظهر كذبه، ومعلوم أنه كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بوعد اللّه.

(والثاني) أن القوم كانوا يبذلون النفوس، والأموال، في المنازعة مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فلو لم يعرفوا أنه نبي لما تركوا مباهلته

 

 

 الفصل الثاني: (في دفع المطاعن).

 

اعلم أرشدك اللّه تعالى في الدارين أن المسيحيين يدعون أن الأنبياء إنما يكونون معصومين في تبليغ الوحي فقط، تقريراً كان أو تحريراً. وأما في غير التبليغ، فليسوا بمعصومين لا قبل النبوّة ولا بعدها. فيصدر عنهم بعدها جميع الذنوب قصداً، فضلاً عن الخطأ والنسيان، فيصدر عنهم الزنا بالمحارم فضلاً عن الأجنبيات، ويصدر عنهم عبادة الأوثان، وبناء المعابد لها، ولا يخرج عندهم نبي من إبراهيم إلى يحيى عليهما السلام لا يكون زانياً أو من أولاد الزنا أعاذنا اللّه من أمثال هذه العقائد الفاسدة في حق الأنبياء عليهم السلام.

وقد عرفت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، وفي الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وفي المقصد الأول من الباب الثاني أن ادعاءهم العصمة في التبليغ أيضاً باطل لا أصل له على أصولهم. ويصدر هذا الادعاء عنهم لتغليط العوام، فمطاعنهم على محمد صلى اللّه عليه وسلم في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد، لا تقدح في نبوته على أصولهم. وإني وإن كنت أستكره أن أنقل ذنوب الأنبياء والكفريات المفتريات عن كتبهم ولو إلزاماً، ولا أعتقد في حضرات الأنبياء إنصافهم بهذه الذنوب والكفريات حاشا وكلا. لكني لما رأيت أن علماء بروتستنت أطالوا ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم في الأمور الخفيفة، وجعلوا الخردلة جبلاً لتغليط العوام الغير الواقفين على كتبهم، وكان مظنة وقوع السذج في الاشتباه بتمويهاتهم الباطلة، نقلت بعضها إلزاماً، وأتبرأ عن اعتقادها بألف لسان وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر، وقدمت نقلها على نقل مطاعنهم في محمد صلى اللّه عليه وسلم والجواب عنها، وكتب القسيس وليم اسمت من علماء بروتستنت كتاباً في لسان أردو وطبعه في البلد مرزابور من بلاد الهند في سنة 1848 من الميلاد، وسماه طريق الأولياء، وكتب فيه حال الأنبياء من آدم إلى يعقوب عليهم السلام ناقلاً عن سفر التكوين وتفاسيره المعتبرة عند علماء بروتستنت، فأنقل في بعض المواضع عن هذا الكتاب أيضاً.

[1] قصة آدم عليه السلام عندهم مشهورة، وفي الباب الثالث من سفر التكوين مسطورة، وهم يعترفون أنه أذنب عمداً ولم يعترف بذنبه لما طلبه اللّه، ولم تثبت توبته عندهم إلى آخر حياته في الصفحة 23 من طريق الأولياء: (يا أسفي على أنه لم تثبت توبته وعلى أنه ما استغفر اللّه لذنبه مرة واحدة أيضاً) انتهى.

[2] في الباب التاسع من سفر التكوين هكذا: 18 (فكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سام وحام ويافت وحام أبو كنعان) 20 (وبدا نوح فلاح يحرث في الأرض وغرس كرماً) 21 (وشرب خمراً فسكر وتكشف في خبا) 22 (فلما نظر حام أبو كنعان ذلك أي عورة أبيه أنها مكشفة أخبر أخوته خارجاً) 24 (فلما استيقظ نوح من الخمر، وعلم بما عمل به ابنه الأصغر) 25 (فقال ملعون كنعان، فيكون عبد العبيد لأخوته). ففيه تصريح بأن نوحاً شرب الخمر وسكر وصار عرياناً، والعجب أن المذنب بالنظر إلى عورة أبيه هو حام أبو كنعان، والذي عوقب باللعنة ابنه كنعان، وأخذ الابن بذنب الأب خلاف العدل. قال حزقيال في الآية العشرين من الباب الثامن عشر من كتابه: (النفس التي تخطئ فهي تموت، والابن لا يحمل إثم الأب، والأب لا يحمل إثم الابن وعدل العادل يكون عليه، ونفاق المنافق يكون عليه).

ولو فرضنا أنه حمل إثم الأب على الابن خلاف العدل. فما وجه تخصيص كنعان لأن أبناء حام كانوا أربعة، كوش ومصرايم وفوط وكنعان، كما هو مصرح به في الباب العاشر).

 [3] في الصفحة 74 من طريق الأولياء في حال إبراهيم هكذا: (لا يعلم حاله إلى سبعين سنة من عمره وهو تربى في الوثنيين، ومضى أكثر عمره فيهم ويعلم أن أبويه ما كانا يعرفان الإله الحق. ويحتمل أن إبراهيم أيضاً كان يعبد الأصنام ما لم يظهر اللّه عليه، ثم ظهر عليه وانتخبه من أبناء العالم، وجعله عبداً خاصاً) انتهى. فظهر أن المظنون عند المسيحيين أن إبراهيم إلى سبعين سنة من عمره كان يعبد الأصنام. أقول كونه عابد الأصنام إلى أن بلغ سبعين سنة، قريب اليقين، نظراً إلى أصولهم. لأن أهل العالم في هذا الوقت عندهم كانوا وثنيين، وهو تربى فيهم، وأبواه أيضاً كانا منهم. ولم يظهر عليه الرب إلى ذلك الوقت، والعصمة عن عبادة الأوثان ليست بشرط بعد النبوة، فضلاً عن أن تكون شرطاً قبل النبوة. وإذا ظهر حال أبي الأنبياء هذا إلى سبعين سنة من عمره قبل النبوّة، فانقل حاله بعد النبوة.

[4] في الباب الثاني عشر من سفر التكوين هكذا: 11 (فلما قرب أن يدخل إلى مصر، قال لسارة زوجته إني علمت أنك امرأة حسنة) 12 (ويكون إذا رآك المصريون فإنهم سيقولون أنها امرأته ويقتلوني ويستبقونك) 13 (والآن أرغب منك فقولي أنك أختي، ليكون لي خير بسببك، وتحيي نفس من أجلك). فسبب الكذب ما كان مجرد الخوف، بل رجاء حصول الخير أيضاً، بل الخير كان أقوى. ولذلك قدمه وقال ليكون لي خير بسببك، وتحيي نفسي من أجلك. وحصل له الخير أيضاً، كما هو مصرح به في الآية السادسة عشر. على أن خوفه من القتل مجرد وهم، لا سيما إذا كان راضياً بتركها فإنه لا وجه لخوفه بعد ذلك أصلاً، وكيف يجوز العقل أن يرضى إبراهيم بترك حريمه وتسليمها ولا يدافع دونها، ولا يرضى بمثله من له غيرة ما، فكيف يرضى مثل إبراهيم الغيور.

[5] في الباب العشرين من سفر التكوين هكذا: 1 (وارتحل إبراهيم  من هناك إلى أرض التيمن، وسكن بين قادس وسور والتحى في جرارا) 2 (قال عن سارة امرأته إنها أختي، ووجه أبي مالك ملك جرارا وأخذها) 3 (فجاء اللّه إلى أبي مالك في الحلم بالليل، وقال له: هو ذا أنت تموت من أجل الامرأة التي أخذتها لأنها ذات بعل) 4 (ولم يكن أبو مالك قربها، فقال: يا رب أتهلك شعباً باراً لا علم له) 5 (أليس هو القائل إنها أختي، وهي قالت إنه أخي). كذب هناك إبراهيم وسارة مرة ثانية، ولعل السبب هاهنا ما عدا الخوف أيضاً، كان حصول المنفعة، وقد حصلت كما هي مصرحة بها في الآية الرابعة عشر، على أنه لا وجه للخوف إذا كان راضياً بتسليمها بدون المقاتلة في الصفحة 99 من طريق الأولياء هكذا: (لعل إبراهيم لما أنكر كون سارة زوجة له في المرة الأولى، عزم في قلبه أنه لا يصدر عنه مثل هذا الذنب، لكنه وقع في شبكة الشيطان السابقة مرة أخرى بسبب الغفلة) انتهى.

[6] في الصفحة 92 و 93 من طريق الأولياء: (لا يمكن أن يكون إبراهيم غير مذنب في نكاح هاجر، لأنه كان يعلم جيداً قول المسيح المكتوب في الإنجيل، أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً) انتهى. أقول كما لا يمكن هذا، فكذا لا يمكن أن يكون غير مذنب في نكاح سارة، لأنه كان يعلم جيداً قول موسى المكتوب في التوراة: (لا تكشف أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجاً من البيت. وكذا قوله: (أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه، ورأى عورتها ورأت عورته، فهذا عار شديد، فيقتلان أمام شعبهما. وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما). وكذا قوله: (يكون ملعوناً من يضاجع أخته من أبيه أو أمه). كما عرفت في الباب الثالث من هذا الكتاب، ومثل هذا النكاح مساوٍ للزنا عند علماء بروتستنت. فيلزم أن يكون إبراهيم عليه السلام زانياً قبل  النبوة وبعدها، ويكون أولاده كلهم من سارة أولاد الزنا، ولو جوز نكاح الأخت في شريعته لزم عليهم تجويز تعدد النكاح أيضاً في تلك الشريعة، فلا اعتراض باعتبار هاجر ولا باعتبار سارة وهو الحق عندنا، لكنه يلزم على أصلهم الفاسد أن هذا النبي أبا الأنبياء، كما كان كاذباً، فكذا كان زانياً من أول عمره إلى آخره، ومع هذا كان خليل اللّه، أيكون خليل اللّه مثله.

[7] في الباب التاسع عشر من سفر التكوين هكذا: 30 (فصعد لوط من صاغر وسكن الجبال وابنتاه معه وخاف أن يسكن صاغر وأوى إلى كهف هو وابنتاه معه) 31 (فقالت الكبرى منهما للصغرى إن أبانا قد شاخ وليس رجل على الأرض يستطيع يدخل علينا كالمرسوم لكل الأرض) 32 (فهلمي نسقيه خمراً ونضطجع معه ونقيم من أبينا خلفاً) 33 (فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ودخلت الكبرى فاضطجعت مع أبيها وهو لم يعلم عند انضجاع ابنته ولا نهوضها) 34 (ولما كان الغد قالت الكبرى للصغرى هو ذا قد اضطجعت البارحة مع أبي فلنسقه خمراً في ليلتنا هذه أيضاً وادخلي فاضطجعي معه فنقيم نسلاً من أبينا) 35 (فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً ودخلت الصغرى فاضطجعت مع أبيها ولم يعلم عند انضجاعها ولا نهوضها) 36 (فحملت ابنتا لوط من أبيهما) 37 (وولدت الكبرى ابناً ودعت اسمه مواب وهو أبو الموابيين إلى يومنا هذا) 38 (وولدت الصغرى أيضاً ابناً ودعت اسمه عمان، أي ابن جنسي فهو أبو العمانيين إلى اليوم).

وفي الصفحة 128 من طريق الأولياء بعد نقل هذا الحال هكذا: (حاله حري أن يبكى عليه ونحن بعد التأسف والخوف والخشية على أنفسنا نتعجب منه، أهو الذي بقي نقي الثوب عن جميع شرور سادوم، وكان قوياً في السلوك على صراط اللّه، وبعيداً عن جميع نجاسات تلك البلدة وغلب عليه الفسق بعد ما خرج إلى البر، فأي شخص يكون مأموناً في بلد أو بر أو كهف) انتهى كلامه. فلما بكى [ص 304] القسيسون على حاله فلا حاجة لنا إلى الإطالة، وبكاؤهم يكفي غير أني أقول أن مواب وعمان الذين تولدا بالزنا ما قتلهما اللّه، وقتل الولد الذي تولد بزنا داود عليه السلام بامرأة أوريا، لعل الزنا بامرأة الغير أشد من الزنا بالبنات عندهم، بل هم كانا من المقبولين عند اللّه. أما مواب فلأن عوبيد جد داود عليه السلام اسم أمه راعوث كما هو مصرح به في الباب الأول من إنجيل متى وراعوث هذه كانت موابية من أولاد مواب، فهي من جدات داود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وداود ابن اللّه البكر وسليمان أيضاً ابن اللّه وعيسى ابن اللّه الوحيد، بل اللّه على زعم المسيحيين. وأما عمان فلأن رحبعام ابن سليمان، من أجداد عيسى عليه السلام، كما هو مصرح به في الباب الأول من إنجيل متى أيضاً، وأمه كانت عمانية من أولاد عمان كما هو مصرح به في الباب الرابع عشر من سفر الملوك الأول، فهي أيضاً من جدات ابن اللّه الوحيد، بل اللّه على زعمهم.

والآية التاسعة عشر من الباب الثاني من سفر الاستثناء هكذا: (وتدنو إلى قرب بني عمان احذر تقاتلهم ولا تحترك إلى محاربهم فإني لا أعطيك شيئاً من أرض بني عمان إني أعطيتها بني لوط ميراثاً). فأي شرف لمواب وعمان ولدي الزنا، أزيد من أن بعض بنات الأول صارت جدة معظمة لأبناء اللّه، بل اللّه على زعمهم. وبعض بنات الثاني صارت جدة لابن اللّه الوحيد، بل اللّه على زعمهم. وأن اللّه منع بني إسرائيل الذين كانوا أبناء اللّه بنص التوراة عن توريث أرض أولاده، لكنه بقيت خدشة وهي أنه إذا وصل نسب عيسى عليه السلام باعتبار هاتين الجدتين المعظمتين إلى مواب وعمان صار موابياً وعمانياً، وما كان للعمانيين والموابيين أن يدخلوا جماعة الرب إلى الأبد.

الآية الثالثة من الباب الثالث والعشرين من كتاب الاستثناء هكذا: (والعمانيون والموابيون بعد عشر أحقاب أيضاً لا يدخلون جماعة الرب إلى الأبد).

فكيف دخل عيسى عليه السلام جماعة الرب بل صار رئيسهم، بل ابن اللّه على زعمهم، وإن قيل أن اعتبار النسب بالآباء لا بالأمهات، فلا يكون عيسى عليه السلام عمانياً ولا موابياً، قلت لو كان كذا يلزم أن لا يكون إسرائيلياً يهودياً أو داودياً سليمانياً أيضاً، إذ حصول هذه الأوصاف له أيضاً من جانب الأم لا الأب، فلا يكون مسيحاً موعوداً به، واعتبار هذه الأوصاف باعتبار الأم وعدم اعتبار كونه عمانياً وموابياً من جهة الجدات، ترجيح بلا مرجح، وهذا وارد على داود وسليمان عليهما السلام أيضاً باعتبار راعوث، لكني لا أطيل الكلام في هذا وأرجع إلى أصل القصة، وأقول: أن لوطاً عليه السلام هذا الذي حاله حري بأن يبكى عليه عند القسيسين، لا شك أنه بحكم الإنجيل بار قديس، لم يقع الوهن عندهم في قديسيته بعد هذه الحركة الشنيعة التي لم يسمع مثلها في الأراذل الذين يكونون مخمورين أكثر الأوقات، لأنهم يميزون في حال الخمر أيضاً بناتهم عن الأجنبيات، وإذ سقط الامتياز بين البنات وغيرها لشدة الخمر، لا يبقى السكران في هذا الوقت قابلاً للجماع كما شهد به المولعون بشرب الخمر، وما سمعنا إلى الآن في الهند أن رذيلاً من الأراذل فعل هذا الأمر في الخمر ببنته أو بأمه، فإذا كان الخمر موصلاً إلى هذه الرتبة، فوا أسفي على حال أهل أوربا من المسيحيين، كيف يرجى نجاة أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم من أيدي الأبناء والآباء والأخوة، لأنهم في أغلب الأوقات يكونون سكرانين رجالهم ونساؤهم، سيما إذا قسنا الحال بالنسبة إلى أراذلهم. والعجب أن هذا القديس كما ابتلي في الليلة الأولى، ابتلي في الليلة الثانية، إلا أن يقال إن هذا الأمر كان أمراً مقضياً ليتولد أبناء اللّه، بل اللّه من بعض بناته ويدخل هو في سلسلة نسب ابن اللّه الوحيد، ومثل هذا لو وقع لبعض آحاد الناس ضاقت عليه الأرض بما رحبت حزناً وهماً، فالعجب من لوط. أعوذ باللّه من هذه الخرافات، وأقول إن هذه القصة الكاذبة من المفتريات: في الباب الثاني من الرسالة الثانية لبطرس هكذا: 7 (وأنقذ لوطاً البار مغلوباً من سيرة الأردياء في الدعارة) 8 (إذا كان البار بالنظر والسمع وهو الساكن بينهم يعذب يوماً فيوماً نفسه البارة بالأفعال الأثيمة). فأطلق بطرس البار على لوط عليه السلام ومدحه، فأنا أشهد أيضاً أنه كان باراً برياً مما نسبوه إليه.

[8] في الباب السادس والعشرين من سفر التكوين هكذا: 6 (فمكث إسحاق في جرارة) 7 (وسأله رجال ذلك الموضع عن زوجته، فقال هي أختي لأنه خاف أن يقول أنها زوجته لئلا يقتلوه من أجل حسنها). فكذب إسحاق عمداً أيضاً مثل أبيه، وقال لزوجته أنها أخته. في الصفحة 168 من طريق الأولياء: (زل إيمان إسحاق لأنه قال لزوجته أنها أخته). ثم في الصفحة 169 (يا أسفي إنه لا يوجد كمال في أحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير، والعجب أن شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم، وقع فيها إسحاق أيضاً، وقال عن زوجته أنها أخته، فيا أسفي أن أمثال هؤلاء المقربين عند اللّه محتاجون إلى الوعظ) انتهى كلامه. ولما تأسف القسيسون تأسفاً بليغاً على مزلة إيمانه وعدم وجود كمال فيه ووقوعه في شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم عليه السلام وكونه محتاجاً إلى الوعظ فلا نطيل الكلام فيه.

[9] في الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين هكذا: 29 (فطبخ يعقوب طبيخاً ولما جاء عيسو إليه تعبان من الحقل) 30 (فقال له أطعمني من هذا الطبيخ الأحمر فإني تعبان جداً ولهذا السبب دعى اسمه أدوم) 31 (فقال له يعقوب بع لي بكوريتك) 32 (فأجاب وقال هو ذا أنا أموت فماذا تنفعني البكورية) 33 (فقال له يعقوب احلف لي فحلف له عيسو وباع البكورية) 34 (فقدم يعقوب لعيسو خبزاً ومأكولاً من العدس فأكل وشرب ومضى وتهاون في أنه باع البكورية). فانظروا إلى ديانة عيسو الذي هو الولد الأكبر لإسحاق عليه السلام، أنه باع البكورية، التي كان بها استحقاق منصب النبوة والبركة عنده ما كانا في رتبة هذا الخبز والأدام من العدس، وكذا انظروا إلى محبة يعقوب  عليه السلام وإلى جوده، أنه ما أعطى للأخ الأكبر الجائع التعبان هذا المأكول إلا بالبيع وما راعى المحبة الأخوية والإحسان بلا عوض.

[10] من طالع الباب السابع والعشرين من سفر التكوين، علم يقيناً أن يعقوب عليه السلام كذب ثلاث مرات وخادع أباه، وخداعه كما أثر عند إسحاق عليه السلام، أثر عند اللّه أيضاً، لأن إسحاق عليه السلام كان بصميم قلبه واعتقاده داعياً لعيسو لا ليعقوب عليه السلام، فكما لم يميز إسحاق بين الأخوين في الدعاء، فكذا لم يميز اللّه بينهما عند إجابة الدعاء، فالعجب أن ولاية اللّه والنبوة والصلاح تحصل بالمحال. وأنا تذكرت قصة مناسبة لهذا المقام وهي: أن فاجراً من فرقة بانو طلب حشيشاً من الحمّار لأجل حصانه وما أعطاه الحمار فقال إن لم تعطني أدع على حمارك فيموت الليلة، وراح فمات حصانه في تلك الليلة، فلما استيقظ ووجد حصانه ميتاً، حرك رأسه متعجباً فقال: يا عجباً يا عجباً أنه مضى مليونات من السنين على ألوهية إلهنا ولا يميز الحصان من الحمار إلى هذا الحين، دعوت على الحمار وأهلك حصاني، ولو كان حال ديانة أبي الأنبياء الإسرائيلية هكذا أو حال علم اللّه هكذا، فللمنكر أن يقول: يجوز أن يكون مبنى معاملات الأنبياء الإسرائيلية مع اللّه أيضاً على الخداع كأبيهم الأعلى، ويجوز أن يكون عيسى عليه السلام وعد اللّه أن تعطيني قدرة الكرامات، أدع الخلق إلى توحيدك وربوبيتك، لكن اللّه ما ميز الصدق عن الكذب فأعطاه القدرة فدعا إلى ربوبية نفسه وبغى على اللّه. أعوذ باللّه من هذه الأمور الواهية.

وأنقل بعض فقرات طريق الأولياء من الصفحة 179 و 180 و 181، قال أولاً: (هذا مقام غاية الخوف أن مثل هذا الشخص تفوه بكذب بعد كذب وأشرك اسم اللّه في خداعه)، ثم قال ثانياً: (قال يعقوب قولاً هو نهاية الكفران إرداة اللّه كانت أني وجدت الصيد سريعاً)، ثم قال ثالثاً: (نحن لا نعتذر من جانب يعقوب في هذا الأمر بعذر ما وليتنفر كل صالح وليفر عن مثل هذا الأمر)، ثم قال رابعاً: (خلاصة الكلام أنه أساء ليحصل الخير وفي الإنجيل يجب الجزاء على مثله)، ثم قال خامساً: (كما أذنب يعقوب أذنبت أمه أزيد منه لأنها كانت بانية هذا الفساد وهي أمرت يعقوب بفعل هذه الأمور الخادعة) انتهى.

[11] في الباب التاسع والعشرين من سفر التكوين هكذا: 15 (ثم قال ليعقوب لعل أنك أخي مجاناً تخدمني ما أجرتك) 16 (فكانت له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل) 17 (وكان بعيني ليا استرخاء وراحيل جميلة الوجه وحسنة المنظر) 18 (فأحب يعقوب راحيل وقال أنا أتعبد لك براحيل ابنتك الصغرى سبع سنين) 19 (فقال له لابان أنت أحق بها من غيرك فأقم عندي) 20 (وتعبد يعقوب براحيل سبع سنين وكانت عنده مثل أيام قليلة لما دخله من محبتها) 21 (فقال للابان أعطني امرأتي لأني قد أكملت الأيام لكي أدخل إليها) 32 (فجمع لابان جمعاً كثيراً من المحبين وصنع عرساً) 23 (ولما كان المساء أدخل ابنته ليا على يعقوب) 34 (وأعطى لابان أمة اسمها زلفا لابنته ودخل عليها يعقوب كالعادة ولما كان الصبح رآها أنها ليا) 25 (فقال للابان ما هذا الذي صنعت بي ألم أتعبد لك براحيل فلم خدعتني) 26 (أجاب لابان ليس في أرضنا عادة أن تزوج الصغرى قبل الكبرى) 27 (فأكمل الأسبوع هذه فأعطيك الأخرى عوضاً عن العمل الذي تعمل لي سبع سنين أخرى) 28 (ففعل يعقوب هكذا وبعد ما دخل الأسبوع تزوج براحيل) 29 (ودفع لابان إلى ابنته راحيل أمة اسمها بلها) 30 (فدخل على راحيل وأحبها أكثر من ليا وتعبد له وخدمه سبع سنين أخرى) ويرد عليه ثلاثة اعتراضات:

(الأول) أن يعقوب عليه السلام كان يقيم في بيت لابان وكان يرى بنتيه ويعرفهما معرفة جيدة، باعتبار وجوههما وأجسامهما وأصواتهما، وكان في ليا علامة  بينة هي استرخاء العينين، فالعجب كل العجب أن تكون ليا في فراشه جميع الليل ويراها ويضاجعها ويلمسها ولا يعرفها، إلا أن يقولوا أنه كان سكراناً كلوط عليه السلام، فكما لم يميز لوط عليه السلام فكذا هو.

(والثاني) أنه أحب راحيل وخدم لأجلها أباها أولاً سبع سنين، وكانت عنده مثل أيام قليلة لأجل عشقها وفرط محبتها، ثم لما خادع لابان وزوجه بنته الكبرى، خاصمه يعقوب، وأخذ راحيل بخدمة سبع سنين أخرى، وهذه الأمور على زعم المسيحيين لا تناسب رتبة النبوة، وكما خادع أباه خودع من صهره.

(والثالث) أنه ما اكتفى على زوجة واحدة، ولا يجوز نكاح امرأتين سيما أختين على زعمهم الفاسد.

واعتذر صاحب طريق الأولياء في الصفحة 189 من كتابه هكذا: (الظاهر أن يعقوب إن لم يخادعه لابان لم يتزوج غير راحيل ولا يستدل بها على جواز تعدد الزوجات، لأنه ما كان بحكم اللّه ولا برضا يعقوب) انتهى.

أقول: هذا العذر بارد لا يسمن ولا يغني ولا يحصل النجاة ليعقوب عليه السلام عن الحرمة، لأنه ما كان مكرهاً ومجبوراً على النكاح الثاني، وكان عليه أن يكتفي بزوجة واحدة. وأقول: كما قال هذا المعتذر في طعن إبراهيم عليه السلام، أن يعقوب عليه السلام كان يعلم جيداً قول المسيح المكتوب في الإنجيل، أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى الخ. وكذا كان يعلم جيداً قول موسى عليه السلام إن الجمع بين الأختين حرام قطعاً، كما علمت في الباب الثالث. فأحد النكاحين باطل، والامرأة التي كان نكاحها باطلاً يلزم أن يكون أولادها وأولاد أولادها أولاد الزنا، فيلزم على كلا التقديرين كون كثير من الأنبياء الإسرائيلية كذلك والعياذ باللّه. فانظروا إلى ديانة المسيحيين إنهم لأجل صيانة أصولهم الفاسدة كيف يتهمون الأنبياء، وينسبون القبائح إليهم. على أن هذا العذر الأعرج، لا يمشي في زلفا، وبلها اللتين تزوجهما يعقوب بإشارة ليا وراحيل كما هو مصرح به في الباب الثلاثين من سفر التكوين، وأولادهما كافة تكون أولاد الزنا على أصولهم.

[12] في الباب الحادي والثلاثين من سفر التكوين هكذا: 19 (وقد كان لابان ذهب ليجز غنمه، وراحيل سرقت أصنام أبيها) 20 (فكتم يعقوب عليه السلام أمره عن حميه، ولم يعلمه أنه هارب) 21 (وهرب هو، وجميع ما كان له، وعبر النهر، وتوجه نحو جبل جلعاد) 22 (وبلغ لابان في اليوم الثالث أن يعقوب قد هرب) 23 (فأخذ لابان أخوته، وتبعه مسيرة سبعة أيام ولحقه في جبل جلعاد) 29 (وقال ليعقوب: لماذا فعلت هكذا، وسقت بناتي خفياً عني مثل من قد سبي بالسيف) 30 (والآن قد انطلقت، وإنما حملك على ذلك الشهوة أن تمضي إلى بيت أبيك فلم سرقت آلهتي) 31 (أجاب يعقوب الخ) 32 (وأما ما توبخني به في سرقته فمن وجدت عنده آلهتك يقتل قدام أخوتنا الخ) 33 (فدخل لابان إلى خباء يعقوب وليا والأمتين فلم يجدها، ولما دخل إلى خباء راحيل) 34 (فهي أسرعت، وخبت الأصنام تحت حداجة جمل، وجلست عليه، ففتش لابان الخباء كله، ولم يجد شيئاً) 35 (وقالت لا تؤاخذني يا سيدي إني لا أستطيع النهوض نحوك لأني في علة النساء، وفتش لابان جميع ما في البيت فلم يجد).

فانظروا إلى راحيل كيف سرقت أصنام أبيها، وكيف كذبت، والظاهر أنها سرقت لعباداتها، كما يدل عليه ظاهر عبارة الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين، كما ستعرف في الشاهد الآتي، ولأنها كانت من بيت الوثنيين وأن أباها كان وثنياً يعبد الأصنام، كما دلت عليه الآية الثلاثون، والثانية والثلاثون والظاهر أنها تكون على دين أبيها، فهذه الزوجة المحبوبة ليعقوب عليه السلام كانت سارقة، كاذبة، وعابدة للأصنام.

[13] في الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين هكذا: 2 (وقال يعقوب لأهله، وجميع من معه اعزلوا الآلهة الغرباء من بينكم وتطهروا، وأبدلوا ثيابكم) 4 (فدفعوا له جميع الآلهة الغرباء التي كانت في أيديهم والأقرطة التي كانت في آذانهم، فدفنها تحت البطمة التي عند شخيم).

والظاهر من هذه العبارة أن أهل بيت يعقوب عليه السلام، ومن معه إلى هذا الحين كانوا يعبدون الأصنام، وهذا الأمر بالنظر إلى بيته شنيع جداً أما نهاهم قبل هذا عن عبادة الأوثان، وإذا دفعوا إليه جميع الآلهة الغرباء، فالظاهر أن راحيل أيضاً دفعت الآلهة المسروقة أيضاً، فكان على يعقوب عليه السلام أن يرسلها إلى لابان لا أن يدفنها تحت البطمة التي عند شخيم، ويعذر راحيل على سرقتها.

[14] في الباب الرابع والثلاثين من سفر التكوين هكذا: 1 (وخرجت دينا ابنة ليا لتنظر إلى بنات ذلك البلد) 2 (فنظرها شخيم بن حمور الحاوي، رئيس الأرض فأحبها فأخذها وضاجعها وذلها) 3 (وتعلقت نفسه بها، وأحبها وكلمها بما وافقها، ووقع بقلبها) 4 (فقال شخيم لحمور أبيه خذ هذه الجارية لي زوجة) 8 (فكلمهم حمور) الخ 13 (فأجاب بنو يعقوب الخ) 14 (لا نستطيع نصنع ما تطلبان، ولا أن نعطي أختنا لرجل أغلف فإن ذلك عار علينا) 15 (بهذا نشبهكم إذا ما صرتم مثلنا لكي تختنوا كل ذكوركم) 24 (فارتضى جميعهم واختتن كل من كان منهم ذكراً) 25 (فلما كان اليوم الثالث وقد بلغ منهم الوجع جداً، أخذ ابنا يعقوب شمعون ولاوى أخوا دينا، كل واحد منهما سيفه، ودخلا المدينة على طمأنينة، وقتلا كل ذكر) 26 (وحمور، وشخيم ابنه، وأخذا دينا [ص 312] أختهما من بيت شخيم) 27 (وخرجا ودخل بنو يعقوب على القتلى، ونهبوا المدينة التي فضحت فيها دينا أختهم) 28 (وأخذوا غنمهم، وبقرهم، وحميرهم، وكل ما في البيوت، وكل ما في الحقل وسبوا صبيانهم، ونساءهم).

فانظروا إلى عصمة دينا بنت يعقوب أنها زنت، وتعشقت بشخيم كما يدل عليه قوله: ووقع بقلبها. وانظروا إلى ظلم أبناء يعقوب، أنهم قتلوا ذكور أهل البلدة كلهم، وسبوا نساءهم وصبيانهم، ونهبوا جميع أموالهم. فخطؤهم وظلمهم ظاهر، وخطأ يعقوب عليه السلام أنه لم يمنعهم عن هذه الحركة الشنيعة قبل وقوعها، وما أخذ القصاص منهم، وما رد النساء والصبيان والأموال المسلوبة، وإن كان غير قادر على منعهم، ورد هذه الأشياء، وأخذ القصاص، فكان عليه أن يترك رفاقة هذه الظلمة، على أنه يبعد كل البعد أن يقتل رجلان أهل البلدة كلهم، ولو فرضنا أنهم كانوا في وجع الختان.

[15] في الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين هكذا: (مضى روبيل، وضاجع بلها سرية أبيه فسمع إسرائيل).

فانظروا إلى روبيل الولد الأكبر ليعقوب عليه السلام، أنه زنى بزوجة أبيه، وإلى يعقوب أنه ما أجرى الحد أو التعزيز، لا على ابنه، ولا على هذه الزوجة، والظاهر أن حد الزنا في هذا الوقت كان إحراق الزاني والزانية بالنار، كما يفهم من الآية الرابعة والعشرين من الباب الثامن والثلاثين من سفر التكوين، ودعا على هذا الابن في آخر حياته كما هو مصرح به في الباب التاسع والأربعين من هذا السفر.

[16] في الباب الثامن والثلاثين من سفر التكوين: 6 (وأن يهوذا زوج ابنه بكره عير امرأة اسمها ثامار) 7 (وكان عبر بكر يهوذا رديئاً بين أيدي الرب فقتله الرب) 8 (وقال يهوذا لابنه أونان: ادخل على امرأة أخيك، وكن معها، وأقم زرعاً لأخيك) 9 (فلما علم أونان أن الخلف لغيره كان إذا دخل إلى امرأة أخيه، يفسد على الأرض لئلا يكون زرعاً لأخيه) 10 (فظهر ذلك منه سوء أمام الرب لفعله ذلك، وقتله الرب) 11 (فقال يهوذا لثامار كنته اجلسي أرملة في بيت أبيك حتى يكبر شيلا ابني) الخ 13 (فاعلموا ثامار قائلين هو ذا حموك صاعداً إلى تمنت ليجز غنمه) 14 (فطرحت عنها ثامار ثياب الترمل وأخذت رداء وتزينت، وجلست في قارعة الطريق) الخ 15 (فلما رآها يهوذا ظن أنها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها لئلا تعرف) 16 (ودخل عندها وقال لها دعيني أدخل إليك، لأنه لم يعلم أنها كنته. فقالت له: ماذا تعطيني حتى تدخل إليّ) 17 (فقال لها: أنا أرسل لك جدياً ماعزاً من القطان، وهي قالت له: أعطني رهناً حتى ترسله) 18 (فقال يهوذا: أي شيء أعطيك رهناً. فقالت: خاتمك، وعمامتك، وعصاك التي بيدك. فأعطاها لها، ودخل عليها فحبلت منه) 19 (وقامت فمضت، وطرحت عنها لبسها ورداءها، ولبست ثياب ترملها) 24 (فلما كان بعد ثلاثة أشهر أخبروا يهوذا قائلين: زنت ثامار كنتك وهو ذا قد حبلت من الزنا. فقال يهوذا أخرجوها لتحرق) 25 (وإذا هم أخرجوها، أرسلت إلى حميها قائلة: مِنَ الرجل الذي هذه له، حبلت أنا، فاعرف لمن هو الخاتم والعمامة، والعصا) 26 (فعرفها يهوذا، وقال تبررت هي أكثر مني لموضع أني لم أعطها لشيلا ابني، ولكنه لم يعد يعرفها بعد ذلك) 27 (وكان لما دنا وقت الولادة وإذا توأم في بطنها فعند طلقها، الواحد سبق وأخرج يده فأخذت القابلة قرمزاً وربطته في يده قائلة: هذا يخرج أولاً) 29 (فهاضم يده إليه للوقت، وخرج أخوه فقالت: هي لماذا من أجلك انقطع السياح، ولذلك دعت اسمه فارض) 30 (وبعد ذلك خرج أخوه الذي على يده القرمز، فدعت اسمه زارح).

ههنا أمور: الأول: أن الرب قتل عير لكونه رديئاً ورداءته لم تبين أكانت  هذه الرداءة أشد من رداءة عمه الكبير حيث زنا بزوجة أبيه، ومن رداءة عميه الآخرين شمعون ولاوى حيث قتلا ذكور أهل البلدة كلهم، ومن رداءة أبيه وجميع أعمامه حيث نهبوا أموال تلك البلدة وسبوا نساءها وأطفالها، ومن رداءة أبيه حيث زنى بزوجته بعد موته. أهؤلاء كانوا قابلين للرأفة وعدم القتل وكان عير قابلاً للقتل فقتله الرب.

والثاني: العجب أن الرب قتل أونان على خطأ عزل المني، وما قتل أعمامه وأباه على الخطيآت المذكورة. أهذا العزل أشد ذنباً من هذه الخطيآت.

والثالث: أن يعقوب لم يجر الحد ولا التعزيز على هذا الولد العزيز ولا على هذه الامرأة الفاجرة، بل لم يثبت من هذا الباب ولا من باب آخر أنه تنغص لأجل هذا الأمر من يهوذا، والباب التاسع والأربعون من سفر التكوين شاهد صدق على عدم تكدره حيث ذم روبيل وشمعون ولاوى على ما صدر عنهم، وما ذم يهوذا على ما صدر عنه، بل سكت عما صدر عنه ومدحه مدحاً بليغاً ودعا له دعاء كاملاً ورجحه على أخوته.

والرابع: أن ثامار شهد في حقها يهوذا صهرها بشدة البر، فسبحان اللّه نعم البار ونعمت البارة الفائقة في البر من الباب المذكور كيف لا تكون بارة شديدة حيث لم تكشف عورتها إلا لأبي زوجها وما زنت إلا بحميها أو حصلت منه بهذا الزنا الواحد ابنين كاملين.

والخامس: أن داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم في أولاد فارض الذي حصل بالزنا كما هو مصرح به في الباب الأول من إنجيل متى.

والسادس: أن اللّه ما قتل فارض وزارح مع كونهما ولدي الزنا، بل أبقاهما كابني لوط اللذين كانا ولدي زنا، وما قتلهما كما قتل ولد داود عليه السلام الذي تولد  بزناه بامرأة أوريا، لعل الزنا بامرأة الغير أشد من الزنا بزوجة الابن.

[17] في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج هكذا: 1 (ورأى الشعب أن موسى قد تأخر أن يهبط من الجبل فاجتمع الشعب إلى هارون وقالوا له قم فاجعل لنا آلهة يسيرون أمامنا من أجل أن موسى هذا الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا ندري ماذا أصابه) 2 (فقال لهم هارون: انزعوا قرطة الذهب التي في آذان نسائكم وأبنائكم وبناتكن وائتوني بها) 3 (فنزع الشعب الأقرطة التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون) 4 (فأخذها منهم وصيرها عجلاً سبيكاً وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر) 5 (فلما نظر هارون ذلك بنى مذبحاً أمامه ونادى وقال غداً عيد للرب) 6 (فقاموا بالغداة وقربوا وقوداً وذبائح مسلمة وجلس الشعب يأكلون ويشربون وقاموا يلعبون). فظهر من هذه العبارة أن هارون صنع عجلاً وبنى مذبحاً أمامه ونادى وقال: غداً عيد للرب. فعبد العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته فقربوا وقوداً وذبائح، ولا شك أنه رسول.

كتب القسيس اسمت في القسم الأول من كتابه المسمى بتحقيق الدين الحق المطبوع سنة 1842 في الصفحة 42: (كما أنه لم يكن بينهم) أي بين بني إسرائيل (سلطان لم يكن بينهم نبي غير موسى وهارون وسبعين من المعينين) انتهى. ثم قال: (لم يكن غير موسى وهارون ومعينيهما نبياً لهم) انتهى. فظهر أن هارون نبي عند المسيحيين.

ولا بد أن يعلم الناظر أني نقلت هاتين العبارتين من النسخة المطبوعة سنة 1842 وكتبت الرد على هذه النسخة، وسميته تقليب المطاعن، ورد صاحب الاستفسار أيضاً على هذه النسخة، وسمعت أن هذا القسيس بعد الرد حرف كتابه فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض، وبدل البعض، كما فعل صاحب ميزان الحق في نسخة الميزان مثله، فلا أعلم أن هذا القسيس ألقى هاتين العبارتين في النسخة الأخيرة المحرفة أم لا، وعبارات العهد العتيق تدل على نبوته أيضاً وكونه متبعاً لشريعة موسى عليه السلام لا ينافي نبوته، كما لا ينافي هذا الأمر نبوة يوشع وداود وأشعيا وأرمياء وحزقيال وغيرهم من الأنبياء الإسرائيلية، الذين كانوا ما بين زمان موسى وعيسى عليهم السلام. في الآية السابعة والعشرين من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا: (فقال الرب لهارون اذهب وتلق موسى إلى البرية فمضى وتلقى به إلى جبل اللّه وقبله). وفي الباب الثامن عشر من سفر العدد هكذا: 1 (وقال الرب لهارون) الخ 8 (ثم كلم الرب هارون وقال له) الخ 20 (ثم قال الرب لهارون) الخ. وفي هذا الباب من الأول إلى الآخر هو المخاطب حقيقة. وفي الباب الثاني والرابع والرابع عشر والسادس عشر والتاسع عشر توجد هذه العبارة: (وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما) في ستة مواضع. وفي الآية الثالثة عشر من الباب السادس من سفر الخروج هكذا: (فكلم الرب موسى وهارون وأوصاهما وأرسلهما إلى بني إسرائيل وإلى فرعون ملك مصر ليخرجا بني إسرائيل من مصر). فظهر من هذه العبارات أن اللّه أوحى إلى هارون عليه السلام منفرداً وبشركة موسى عليه السلام، وأرسله إلى بني إسرائيل وفرعون كما أرسل موسى عليه السلام، ومن طالع كتاب الخروج يظهر له أن المعجزات التي صدرت في مقابلة فرعون، ظهر أكثرها على يد هارون عليه السلام، وكانت مريم أخت موسى وهارون عليهما السلام أيضاً، نبيئة كما هو مصرح به في الآية العشرين من الباب الخامس عشر من سفر الخروج هكذا: (وأخذت مريم النبيئة أخت هارون دفاً في يدها) الخ. والآية السادسة والعشرون من الزبور المائة والخامس هكذا: (أرسل موسى عبده وهارون الذي انتخبه). والآية السادسة عشر من الزبور المائة والسادس هكذا: (واغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب). فإنكار صاحب ميزان الحق نبوة هارون في الصفحة 105 من كتابه المسمى بحل الإشكال المطبوع سنة 1847 ليس بشيء.

[18] في الباب الثاني من سفر الخروج هكذا: 11 (وفي تلك الأيام لما شب موسى خرج إلى أخوته وأبصر تعبدهم ورأى رجلاً من أهل مصر يضرب رجلاً من أخوته العبرانيين) 12 (فالتفت إلى الجانبين فلم ير أحداً فقتل المصري ودفنه). فقتل موسى عليه السلام بعصبية قومه المصري.

[19] في الباب الرابع من سفر الخروج هكذا: 10 (فقال موسى أرغب إليك يا رب إني لست برجل فصيح الكلام من أمس ولا من أول منه أيضاً ولا من حين خاطبت عبدك إني ألثغ وثقيل اللسان) 11 (فقال له الرب من الذي خلق فم الإنسان، أو من صنع الأخرس والأصم والبصير والأعمى أليس أنا) 12 (فاذهب وأنا أكون في فيك وأعلمك ما تتكلم) 13 (فأما هو فقال أرغب إليك يا رب أن ترسل من أنت ترسل) 24 (فاشتد غضب الرب على موسى) الخ. فاستعفى موسى عليه السلام عن النبوة، وقد كان الرب وعده وجعله مطمئناً، فاشتد عليه غضب الرب.

[20] في الآية التاسعة عشر من الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج هكذا: (فلما دنا من المحلة وأبصر العجل وجوق المغنيين فاشتد غضب موسى ورمى باللوحين من يده فكسرهما في أسفل الجبل). وهذان اللوحان كانا من عمل اللّه وخط اللّه، كما هو مصرح به في هذا الباب، فكسرهما خطأ، ولم يحصل بعد ذلك مثلهما، لأن اللوحين اللذين حصلا بعدهما كانا من عمل موسى ومن خطه، كما هو مصرح به في الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج.

[21] الآية الثانية عشر من الباب العشرين من سفر العدد هكذا: (وقال الرب لموسى وهارون من أجل إنكما لم تصدقاني وتقدساني قدام بني إسرائيل، من أجل ذلك لا تدخلان أنتما بهذه الجماعة إلى الأرض التي وهبت لهم). وفي الباب الثاني والثلاثين من سفر الاستثناء هكذا: 48 (وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له) 49 (ارق هذا الجبل عبريم وهو جبل المجازاة إلى جبل نابو  الذي في أرض مواب تلقاء أريحاء، ثم انظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ليرثوها ثم مت في الجبل) 50 (الذي تصعد إليه ويجتمع إلى شعوبك، كما مات أخوك هارون في هور الطور واجتمع إلى شعبه) 51 (على أنكما عصيتماني في بني إسرائيل عند ماء الخصام في قادس برية صين ولم تطهراني في بني إسرائيل) 52 (فإنك ستنظر إلى الأرض التي أنا أعطيها بني إسرائيل من تلقائها، وأما أنت فلا تدخلها). ففي هاتين العبارتين تصريح بصدور الخطأ عن موسى وهارون عليهما السلام بحيث صارا محرومين عن الدخول في الأرض المقدسة، وقد قال اللّه زاجراً: إنكما لم تصدقاني وتقدساني وإنكما عصيتماني.

[22] زنى شمسون الرسول بامرأة زانية، كانت في غزة، ثم تعشق امرأة اسمها دليلي التي كانت من أهل وادي شوارق، وكان يدخل إليها، فأمرها كفار فلسطين أن تسأله، كيف يقدر الفلسطانيون عليه ويوثقونه، ولا يقدر هو على كثر الوثاق، ووعدوا العطية الجزيلة. فسألته فكذب ثلاث مرات، فقالت له هذه الفاجرة كيف تقول أنك تحبني وقلبك ليس معي وقد كذبتني ثلاث دفعات، وضيقت عليه بكلامها أياماً كثيرة فأطلعها على كل شيء، وقال: إن حلقوا شعر رأسي زالت عني قوتي وصرت كواحد من الناس. فلما رأت أنه قد أظهر ما في قلبه فدعت رؤساء أهل فلسطين، وأنامته على ركبتها، ودعت الحلاق فحلق سبع خصال شعر رأسه. فزالت عنه قوته، فأسروه وقلعوا عينيه وحبسوه في السجن، ثم استشهد هناك. وهذه القصة مصرح بها في الباب السادس عشر من سفر القضاة وشمسون نبي وتدل على نبوته الآية 5 و 25 من الباب الثالث عشر. والآية 6 و 19 من الباب الرابع عشر، والآية 14 و 18 و 19 من الباب الخامس عشر من السفر المذكور، والآية الثانية والثلاثون من الباب الحادي عشر من الرسالة العبرانية.

[23] في الباب الحادي والعشرين من سفر صموئيل الأول في حال داود، لما فر من خوف شاوول ملك إسرائيل، ووصل إلى نوبا عند أخيملك الكاهن هكذا: 1 (وأتى داود إلى نوبا أخيملك الحبر، فتعجب أخيملك من إتيان داود وقال له لماذا جئت وحدك وليس معك أحد) 2 (فقال داود لأخيملك الكاهن إن الملك أمرني بشيء وقال لي لا يعلم أحد بهذا فيما أبعثك وأمرتك، فأما الفتيان فقد فرضت لهم ذلك الموضع وذلك) 3 (والآن إن كان شيء تحت يدك أو خمسة من الخبز فادفع إلي أو مهما وجدت) 6 (وأعطاه الخبز خبز القدس الخ) 8 (وقال داود لإخيملك أهنا تحت يدك سيف أو حربة، لأن سيفي وحربتي لم آخذ معي، لأن كان أمر الملك مسرعاً). فكذب داود عليه السلام كذباً بعد كذب، وصارت ثمرة هذا الكذب أن شاوول السفاك ملك بني إسرائيل قتل أهل نوبا كلهم، ذكورهم ونساءهم وأطفالهم ودوابهم من البقر والغنم والحمر، وقتل في هذه الحادثة خمسة وثمانون كاهناً، ونجا في هذه الحادثة ابن لإخيملك اسمه ابيثار، وفر ووصل إلى داود عليه السلام. وأقر داود عليه السلام بأني سبب لقتل أهل بيتك كلهم، كما هو مصرح به في الباب الثاني والعشرين من السفر المذكور.

[24] في الباب الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: (قام داود عليه السلام من فراشه بعد الظهر يتمشى على سطح مجلس ملكه، فأبصر امرأة تغتسل على سطحها وكانت جميلة جداً، فأرسل داود عليه السلام وسأل عن الامرأة وقالوا له إنها بنت شباع امرأة أوريا، فأرسل داود رسلاً وأخذها ونام معها، ثم رجعت إلى بيتها فحبلت وأخبرته وقالت إني قد حبلت. فأرسل داود عليه السلام إلى يواب قائلاً له: أرسل إلى أوريا، فأرسل يواب أوريا، وسأل داود عليه السلام أوريا عن سلامة يواب وعن سلامة الشعب وعن الحرب، ثم قال: انزل إلى بيتك. فخرج أوريا فرقد بباب بيت الملك ولم ينحدر إلى بيته، وأخبروا داود عليه السلام، أن أوريا لم ينزل إلى بيته. فقال داود عليه السلام: لماذا لم تنحدر إلى بيتك. فقال أوريا: تابوت اللّه وإسرائيل ويهوذا في الخيام وسيدي يواب وعبيد سيدي في القفر وأنا أنطلق إلى بيتي وآكل وأشرب وأنام مع امرأتي، لا وحياتك وحياة نفسك أني لا أفعل هذا. وقال داود عليه السلام: أقم اليوم أيضاً ههنا، وإذا كان الغد أرسلك. وبقي أوريا في أورشليم ذلك اليوم، وفي اليوم الآخر داعه داود عليه السلام ليأكل قدامه ويشرب فسكره، وخرج وقت المساء فنام مكانه على جانب عبيد سيده ولم ينحدر إلى بيته، فلما كان الصباح كتب داود عليه السلام صحيفة إلى يواب، وأرسلها بيد أوريا وقال صيروا أوريا في أول الحرب، وإذا اشتبك الحرب ارجعوا واتركوه وحده ليقتل، فلما نزل يواب حول القرية أقام أوريا في المكان الذي يعلم أن الرجال الشجعان هناك، فخرج أهل القرية فقاتلوا يواب فسقط من الشعب قوم من عبيد داود عليه السلام وأوريا فمات، وأرسل يواب إلى داود عليه السلام وأخبره، وسمعت امرأة أوريا أن زوجها قد مات فناحت عليه، فلما انقضت مناحتها، أرسل داود عليه السلام فأدخلها بيته وصارت له امرأة وولدت له ابناً، وساء هذا الفعل الذي فعل داود أمام الرب) انتهى ملخصاً. وفي الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني حكم الرب لداود على لسان ناثان النبي عليهما السلام هكذا: 9 (ولماذا أزريت بوصية الرب وارتكبت القبيح أمام عيني وقتلت أوريا الحيتاني في الحرب وامرأته أخذتها لك امرأة وقتلته بسيف بني عمون) 14 (ولكن لأنك أشمت بك أعداك الرب بهذه الفعلة فالابن الذي ولد لك موتاً يموت) فصدر عن داود ثمانية خطيئات:

(الأولى) أنه نظر إلى امرأة أجنبية بنظر الشهوة، وقد قال عيسى عليه السلام أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، كما هو مصرح به في الباب الخامس من إنجيل متى.

(والثانية) أنه ما اكتفى على نظر الشهوة، بل طلبها وزنى بها، وحرمة الزنا قطعية، ومن الأحكام العشرة المشهورة. كما قال اللّه في التوراة لا تزن.

(والثالثة) أن هذا الزنا كان بزوجة الجار، وهذا أشد أنواع الزنا، وذنب آخر كما هو مصرح به في الأحكام العشرة المشهورة.

(والرابعة) ما أجرى حد الزنا لا على نفسه، ولا على هذه الامرأة. والآية العاشرة من الباب العشرين من سفر الأحبار هكذا: (ومن زنى بامرأة لها رجل فليقتل الزاني، والزانية). والآية الثانية والعشرون من الباب الثاني والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: (إن اضطجع رجل مع امرأة غيره فكلاهما يموتان الزاني والزانية، وارفع الشر من إسرائيل).

(والخامسة) أن داود عليه السلام طلب أوريا من المعسكر، وأمره أن يذهب إلى بيته، وجل غرض داود عليه السلام أن يلقي على عيبه ستراً، ويكون هذا الحبل منسوباً إلى أوريا. ولما لم يذهب لأجل ديانته، وحلف أنه لا يروح، فأقامه داود عليه السلام اليوم الثاني، وجعله سكران يسقي الخمر الكثير ليروح إلى بيته في حالة الخمار، لكنه لم يرح في هذه الحالة أيضاً مراعياً لديانته، ولم يلتفت إلى زوجته الجميلة التي كانت جائزة له شرعاً وعقلاً. فسبحان اللّه العزيز حال ديانة العوام عند أهل الكتاب في ترك الأمر الجائز لأجل الديانة هكذا، وحال ديانة الأنبياء الإسرائيلية في ارتكاب الفواحش هكذا.

(والسادسة) أنه لما لم تحصل ثمرة مقصوده على إسكار أوريا، عزم داود عليه السلام على قتله، فقتله بسيف بني عمون، وفي الآية السابعة من الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج: (لا تقتل البار الزكي).

(والسابعة) أنه لم يتنبه على خطأه، ولم يتب ما لم يعاتبه ناثان النبي عليه السلام.

 (والثامنة) أنه قد وصل إليه حكم اللّه بأن هذا الولد الذي تولد بالزنا يموت، ومع هذا دعا لأجل عافيته، وصام وبات على الأرض.

[25] في الباب الثالث عشر من سفر صموئيل الثاني، أن حمنون الولد الأكبر لداود زنى بثامار قهراً ثم قال لها أخرجي، ولما امتنعت عن الخروج أمر خادمه فأخرجها، وأغلق الباب خلفها فخرجت صارخة، وسمع داود عليه السلام هذه الأمور، وشقت عليه، لكنه لم يقل لحمنون شيئاً لمحبته له ولا لثامار، وكانت ثامار هذه أختاً لأبي شالوم بن داود عليه السلام يقيناً، ولذلك بغض أبيشالوم حمنون، وعزم على قتله، ولما قدر عليه قتله.

[26] في الآية الثانية والعشرين من الباب السادس عشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: (فضربوا لأبيشالوم خيمة على السطح، ودخل على سراري أبيه تجاه جميع إسرائيل) ثم حارب أبيشالوم الأب حتى قتل في تلك المحاربة عشرون ألفاً من بني إسرائيل كما هو مصرح به في الباب الثامن عشر، فابن داود عليه السلام هذا فاق روبيل الولد الأكبر ليعقوب عليه السلام بثلاثة أوجه:

(الأول) أنه زنى بجميع سراري أبيه بخلاف روبيل فإنه زنى بسرية واحدة.

(والثاني) أنه زنى تجاه جميع إسرائيل علانية بخلاف روبيل فإنه زنى خفية.

(والثالث) أنه حارب أباه حتى قتل عشرون ألفاً من بني إسرائيل. وداود عليه السلام مع صدور هذه الأمور عن هذا الخلف السوء، كان وصى رؤساء العسكر أن لا يقتله أحد، لكن يواب خالف أمره، وقتل هذا الخلف السوء، ولما سمع داود عليه السلام بكى بكاءً شديداً، وحزن عليه. وأنا لا أتعجب من هذه  الأمور لأن أمثالها لو صدرت عن أولاد الأنبياء، بل الأنبياء، ليست عجيبة على حكم كتبهم المقدسة، بل أتعجب ان زناه بسراري أبيه كان بعدل الرب، وهو كان هيج هذا الزاني، لأنه كان وعده على لسان ناثان النبي عليه السلام لما زنى داود عليه السلام بامرأة أوريا. في الباب الثاني عشر من السفر المذكور هكذا: 11(فهذا ما يقول الرب هو ذا أنا مثير عليك شراً من بيتك، وآخذ نساءك عيانك فأعطي صاحبك فينضجع مع نسائك عيان هذه الشمس) 12 (فإنك أنت فعلت هذا خفياً، وأنا أجعل هذا الكلام أمام جميع إسرائيل، ومقابل الشمس) فوفى اللّه بما وعد.

[27] في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول هكذا: 1 (وكان سليمان الملك قد أحب نساء كثيرة غريبة، وابنة فرعون، ونساء من بنات الموابيين، ومن بنات عمون، ومن بنات أدوم، ومن بنات الصيدانيين، ومن بنات الحيثانيين) 2 (من الشعوب الذين قال الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم، ولا يدخلوا إليكم لئلا يميلوا قلوبكم إلى آلهتكم، وهؤلاء التصق بهم سليمان بحب شديد) 3 (وصار له سبعمائة امرأة حرة، وثلثمائة سرية، وأغوت نساءه قلبه) 4 (فلما كان عند كبر سليمان أغوت نساءه إلى آلهة أخر، ولم يكن قلبه سليماً للّه ربه مثل قلب داود أبيه) 5 (وتبع سليمان عستروت إله الصيدانيين وملكوم صنم بني عمون) 6 (وارتكب سليمان القبح أمام الرب ولم يتم أن يتبع الرب مثل داود أبيه) 7 (ثم نصب سليمان نصبة لكاموش صنم مواب في الجبل الذي قدام أورشليم، ولملكوم وثن بني عمون) 8 (وكذلك صنع لجميع نسائه الغرباء، وهن يبخرن، ويذبحن لآلهتهن) 9 (فغضب الرب على سليمان حيث مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي ظهر له مرتين) 10 (ونهاه عن هذا الكلام أن لا يتبع آلهة الغرباء، ولم يحفظ ما أمره به الرب) 11 (فقال الرب لسليمان: إنك فعلت هذا الفعل، ولم تحفظ عهدي ووصاياي التي أمرتك بهن، أشق شقاً ملكك، وأصيره إلى عبدك). فصدر عن سليمان عليه السلام خمس خطيئات:

(الأولى) وهي أعظمها أنه ارتد في آخر عمره، الذي هو حين التوجه إلى اللّه. وجزاء المرتد في الشريعة الموسوية الرجم، ولو كان نبياً ذا معجزات كما هو مصرح به في الباب الثالث عشر، والسابع عشر من سفر الاستثناء، ولا يعلم من موضع من مواضع التوراة، أنه يقبل توبة المرتد، ولو كان توبة المرتد مقبولة، لما أمر موسى عليه السلام بقتل عبدة العجل، حتى قتل ثلاثة وعشرين ألف رجل على خطأ عبادته.

(والثانية) أنه بنى المعابد العالية للأصنام في الجبل قدام أورشليم، وهذه المعابد كانت باقية مئتين سنة حتى نجسها، وكسر الأصنام يوسنا بن آمون ملك يهوذا في عهده، بعد موت سليمان عليه السلام بأزيد من ثلثمائة وثلاثين سنة، كما هو مصرح به في الباب الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني.

(والثالثة) أنه تزوج نساء من سفر الشعوب، التي كان اللّه منع من الالتصاق بهم، في الباب السابع من الاستثناء هكذا: (ولا تجعل معهم زيجة فلا تعط ابنتك لابنه، ولا تتخذ ابنته لابنك).

(والرابعة) تزوج ألف امرأة، وقد كانت كثرة الأزواج محرمة على من يكون سلطان بني إسرائيل في الآية السابعة عشر من الباب السابع عشر من سفر الاستثناء هكذا: (ولا تكثر نساؤه لئلا يخدعن نفسه).

(والخامسة) أن نساءه كن يبخرن ويذبحن للأوثان، وقد صرح في الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج: (من يذبح للأوثان فليقتل). فكان قتلهن واجباً، وأيضاً أنهن أغوين قلبه، فكان رجمهن واجباً على ما هو مصرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، وهو ما أجرى عليهم الحدود إلى آخر حياته.

فالعجب أن داود وسليمان عليهما السلام ما أجريا حدود التوراة على أنفسهما، ولا على أهل بيتهما فأية مداهنة أزيد من هذا، أهذه الحدود التي فرضها اللّه للإجراء على المساكين المفلوكين فقط. ولم تثبت توبة سليمان عليه السلام من موضع من مواضع العهد العتيق، بل الظاهر عدم توبته لأنه لو تاب لهدم المعابد التي بناها، وكسر الأصنام التي وضعها في تلك المعابد، ورجم تلك النساء المغويات. على أن توبته ما كانت نافعة لأن حكم المرتد في التوراة ليس إلا الرجم، وما ادعى صاحب ميزان الحق في الصفحة الخامسة والخمسين من طريق الحياة المطبوعة سنة 1847 من توبة آدم وسليمان عليهما السلام، فادعاء بحت وكذب صرف.

[28] قد عرفت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب أن النبي الذي كان في بيت أيل كذب في تبليغ الوحي، وخدع رجل اللّه المسكين، وألقاه في غضب الرب وأهلكه.

[29] في الباب العاشر من سفر صموئيل الأول في حق شاوول ملك إسرائيل السفاك المشهور هكذا: 10 (وأتوا إلى الرابية وإذا صف من الأنبياء استقبله، وحل عليه روح الرب فتنبأ بينهم) 11 (وحينما نظره الذين يعرفونه من أمس، وقبل من الأمس فإذا هو مع الأنبياء متنبي، قال كل امرئ منهم لصاحبه: ما هذا الذي أصاب ابن قيس شاوول في الأنبياء) 12 (فأجاب بعضهم البعض وقالوا: من أبوهم من أجل هذا صار مثلاً هل أيضاً شاوول في الأنبياء) 13 (وفرغ مما تنبيء فأتى إلى الخضيرة).

والآية السادسة من الباب الحادي عشر من سفر صموئيل الأول هكذا: (فاستقام روح اللّه على شاوول حين سمع هذا  القول، واحتمى غضبه جداً).

يعلم من هذه العبارات أن شاوول كان مستفيضاً بروح القدس، وكان يخبر عن الحالات المستقبلة.

وفي الباب السادس عشر من السفر المذكور: (وابتعد روح اللّه من شاوول وصار روح ردي يعذبه بأمر الرب).

ويعلم منه أن هذا النبي سقط عن درجة النبوة فابتعد عنه روح اللّه، وتسلط عليه روح الشيطان.

وفي الباب التاسع عشر من السفر المذكور هكذا: 23 (فانطلق شاوول إلى نويت التي في الرامة، وحلت عليه أيضاً روح الرب، فجعل يسير ويتنبأ حتى انتهى الأمر إلى نويت في الرامة) 24 (وخلع هو ثيابه وتنبا هو أيضاً أمام صموئيل، وسقط عريان نهاره ذلك كله وليلته تلك كلها، فصار مثلاً هل شاوول في الأنبياء).

فحصل لهذا النبي الساقط عن درجة النبوة هذه الدرجة العليا مرة أخرى، ونزل عليه روح القدس نزولاً قوياً، بحيث رمى ثيابه وصار عرياناً، وكان على هذه الحالة يوماً بليلته، فهذا النبي الجامع بين الروح الشيطاني والرحماني، كان مجمع العجاب، فمن شاء فلينظر حال ظلمه وعتوه في السفر المذكور.

[30] يهوذا الأسخريوطي كان أحد الحواريين، وكان مستفيضاً بروح القدس، وممتلئاً عنة، صاحب الكرامات، كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى، وهذا النبي باع دينه بدنياه، وسلم عيسى عليه السلام بأيدي اليهود بطمع ثلاثين درهماً، ثم خنق نفسه ومات، كما هو مصرح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، وشهد يوحنا في حقه في الباب الثاني عشر من إنجيله  أنه كان سارقاً، وكان الكيس عنده، وكان يحمل ما يلقى فيه. أيكون النبي مثل هذا السارق البائع دينه بدنياه.

[31] فر الحواريون الذين هم في زعمهم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية عليهم السلام، في الليلة التي أخذ اليهود فيها عيسى عليه السلام وتركوه في أيدي الأعداء، وهذا ذنب عظيم، وإن قيل أن هذا الأمر إن صدر عنهم لجبنهم، والجبن أمر طبعي. أقول: لو سلم هذا فلاعذر لهم في شيء آخر، هو كان أسهل الأشياء، وهو أن عيسى عليه السلام كان في غاية الاضطراب في هذه الليلة، وقال لهم إن نفسي حزينة جداً، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلاً للصلاة، ثم جاء إليهم فوجدهم نياماً، فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، اسهروا وصلوا. فمضى مرة ثانية للصلاة ثم جاء فوجدهم نياماً فتركهم ومضى ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم ناموا واستريحوا. كما هو مصرح به في الباب السادس والعشرين من إنجيل متى. ولو كان لهم محبة ما لما فعلوا هذا الأمر، ألا ترى أن العصاة من أهل الدنيا إذا كان مقتداهم أو قريب من أقاربهم في غاية الاضطراب، أو المرض الشديد في ليلة، لا ينامون في تلك الليلة ولو كانوا أفسق الناس.

[32] أن بطرس الحواري الذي هو رئيس الحواريين، وخليفة عيسى عليه السلام على ادعاء فرقة كاتلك، وإن كان متساوي الأقدام في الأمر المتقدم مع الحواريين الباقين، لكنه حصل له الفضل بأن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام، تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة، فجلس خارج الدار فجاءت جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع، ثم رأى أخرى وقالت للذين هناك، هذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضاً يقسم إني لست أعرف هذا الرجل، وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس حقاً أنت أيضاً منهم، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل. وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام عيسى عليه السلام، إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات كما هو مصرح به في الباب السادس والعشرين من إنجيل متى. وقد قال المسيح عليه السلام له: اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما للّه، لكن تهتم بما للناس، كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من إنجيل متى. وكتب مقدسهم بولس في الباب الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية هكذا: 11 (ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية، قاومته مواجهة لأنه كان ملوماً) 12 (لأنه قبل ما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم، ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفاً من الذين هم من أهل الختان) 13 (ورأى معه باقي اليهود أيضاً حتى أن برنابا أيضاً انقاد إلى ريائهم) 14 (لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل، قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أممياً، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا). وكان بطرس يتقدم على الحواريين في القول، لكنه في بعض الأوقات لا يدري ما يقول كما صرح به في الآية الثالثة والثلاثين من الباب التاسع من إنجيل لوقا، وفي الرسالة الثانية من كتاب الثلاث عشرة رسالة المطبوعة سنة 1849 في بيروت في الصفحة 60: (أن أحد الآباء يقول إنه كان به شديداً داء التجبر والمخالفة). يوحنا فم الذهب مقاله 82 و 83 في متى ثم في الصفحة 61: (يقول فم الذهب أنه كان ضعيفاً متخلخل العقل، والقديس اغوستينوس يقول عن بطرس: أنه كان غير ثابت لأنه كان يؤمن أحياناً ويشك أحياناً، وتارة يعرف أن المسيح غير مائت، وتارة يخاف أن يموت، وكان المسيح يقول له مرة طوبى لك، وأخرى يقول له يا شيطان) انتهى بلفظه.

فهذا الحواري عندهم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية، فإذا كان حال الأفضل من موسى كما علمت. فماذا يعتقد في حق المفضولين.

 [33] كان رئيس الكهنة قيافا نبياً بشهادة يوحنا في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا، قوله في حق قيافا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1841 وسنة 1844 هكذا: (ولم يقل هذا من نفسه، لكن من أجل أنه كان عظيم الكهنة في تلك السنة، فتنبأ أن يسوع كان مزمعاً أن يموت بدل الأمة). فقوله تنبأ يدل على نبوته، وهذا النبي أفتى بقتل عيسى عليه السلام، وكفره وأهانه، فلو كانت هذه الأمور بالنبوة والإلهام، فعيسى عليه السلام واجب الرد والعياذ باللّه. وإن كانت بإغواء الشيطان، فأي ذنب أكبر من هذه. وأكتفي على هذا القدر وأقول أن الذنوب المذكورة وأمثالها، مصرح بها في كتب العهدين، ولم تقدح هذه الذنوب في نبوة أنبيائهم، أفلا يستحيون أن يعترضوا على (محمد) صلى اللّه عليه وسلم في أمور خفيفة.

وإذا عرفت هذا فالآن أشرع في نقل مطاعنهم والجواب عنها وأقول:

(المطعن الأول) مطعن الجهاد، وهو من أعظم المطاعن في زعمهم، ويقررونه في رسائلهم بتقريرات عجيبة مموهة، منشؤها العناد الصرف، وأنا أمهد قبل تحرير الجواب أموراً خمسة:

(الأمر الأول) أن اللّه يبغض الكفر ويجازي عليه في الآخرة يقيناً، وكذا يبغض العصيان وقد يعاقب الكفار والعصاة في الدنيا أيضاً، فيعاقب الكفار تارة بالإغراق عموماً في عهد نوح عليه السلام، فإنه أهلك كل ذي حياة غير أهل السفينة بالطوفان، وتارة بالإغراق خصوصاً، كما في عهد موسى عليه السلام حيث أغرق فرعون وجنوده، وتارة بالإهلاك مفاجأة، كما أهلك أكبر الأولاد لكل إنسان وبهيمة من أهل مصر في ليلة خرج بنو إسرائيل فيها من مصر، كما هو مصرح به في الباب الثاني عشر من سفر الخروج، وتارة بإمطار الكبريت والنار من السماء، وقلب المدن، كما في عهد لوط عليه السلام، فإنه أهلك سادوم وعمورة ونواحيهما بإمطار الكبريت والنار وقلب المدن، وتارة بإهلاكهم بالأمراض، كما أهلك الأسدوديين بالبواسير، كما هو مصرح به في الباب الخامس من سفر صموئيل الأول، وتارة بإرسال الملك لإهلاكهم، كما فعل بعسكر الآثوريين، حيث أرسل ملكاً، فقتل منهم في ليلة واحدة مائة وخمسة وثمانين ألفاً، كما هو مصرح به في الباب التاسع عشر من سفر الملوك الثاني، وتارة بجهاد الأنبياء ومتبعيهم، كما ستعرف في الأمر الثاني، وكذا يعاقب العصاة أيضاً تارة بالخسف والنار، كما أهلك قورح وداثان وأبيرم وغيرهم لما خالفوا موسى عليه السلام، فانفلقت الأرض وابتلعت قورح وداثان وأبيرم ونسائهم وأولادهم وأثقالهم، ثم خرجت نار فأكلت مائتين وخمسين رجلاً كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من سفر العدد. وتارة بالإهلاك مفاجأة كما أهلك أربعة عشر ألفاً وسبعمائة لما خالف بنو إسرائيل في غد هلاك قورح وغيره، ولو لم يقم هارون عليه السلام بين الموتى والأحياء، ولم يستغفر للقوم، لهلك الكل بغضب الرب في هذا اليوم، كما هو مصرح به في الباب المذكور. وكما أهلك خمسين ألفاً وسبعين رجلاً من أهل بيت الشمس على أنهم رأوا تابوت اللّه، كما هو مصرح به في الباب السادس من سفر صموئيل الأول. وتارة بإرسال الحيات المؤذية، كما أن بني إسرائيل لما خالفوا موسى عليه السلام مرة أخرى، أرسل اللّه عليهم الحيات المؤذية، فجعلت تلدغهم، فمات كثير منهم كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من سفر العدد. وتارة بإرسال الملك كما أهلك سبعين ألفاً في يوم واحد، على أن داود عليه السلام عد بني إسرائيل، كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من سفر صموئيل الثاني. وقد لا يعاقب الكفار والعصاة في الدنيا. ألا ترى أن الحواريين على زعم المسيحيين كانوا  أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية، ومن تابوت اللّه. وأن قاتليهم عند المسيحيين أسوأ من كفار عهد نوح ولوط وموسى عليهم السلام. وقتل نيرو الظالم المشرك، الذي كان ملك ملوك الروم، بطرس الحواري وزوجته وبولس وكثيراً من المسيحيين بأشد أنواع القتل. وكذا أكثر الكفار الحواريين وتابعيهم. وما أهلكهم اللّه بالإغراق ولا بإمطار الكبريت والنار وقلب المدن، ولا بقتل أكبر أولادهم، ولا بابتلائهم بالأمراض ولا بإرسال الملك، ولا بإرسال الحيات، ولا بوجه آخر.

(الأمر الثاني) أن الأنبياء السابقين أيضاً قتلوا الكفار وسبوا نسائهم وذراريهم، ونهبوا أموالهم. ولا تختص هذه الأمور بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم. كما لا يخفى على من طالع كتب العهدين. وله شواهد كثيرة أكتفي على إيراد بعضها.‏

1- في الباب العشرين من كتاب الاستثناء هكذا: 10 (وإذا دنوت من قرية لتقاتلها ادعهم أولاً إلى الصلح) 11 (فإذا قبلت وفتحت لك الأبواب فكل الشعب الذي بها يخلص ويكونون لك عبيداً يعطونك الجزية) 12 (وإن لم ترد تعمل معك عهداً وتبتدئ بالقتال معك فقاتلها أنت) 13 (وإذا سلمها الرب إلهك بيدك اقتل جميع من بها من جنس الذكر بفم السيف) 14 (دون النساء والأطفال والدواب وما كان في القرية غيرهم، واقسم للعسكر الغنيمة بأسرها وكل من سلب أعدائك الذي يعطيك الرب إلهك) 15 (وهكذا فافعل بكل القرى البعيدة منك جداً وليست من هذه القرى التي ستأخذها ميراثاً) 16 (فأما القرى التي تعطى أنت إياها فلا تستحي منها نفساً البتة) 17 (ولكن أهلكهم إهلاكاً كلهم بحد السيف الحيثي والأموري والكنعاني والفرزي والحوايي واليابوسي كما أوصاك الرب إلهك). فظهر من هذه العبارة أن اللّه أمر في حق  القبائل الست، أعني الحيثانيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحوايين واليابوسيين، أن يقتل بحد السيف كل ذي حياة منهم ذكورهم وإناثهم وأطفالهم. وأمر فيما عداهم، أن يدعوا أولاً إلى الصلح، فإن رضوا به وقبلوا الإطاعة وأداء الجزية فيها، وإن لم يرضوا يحاربوا، فإذا حصل الظفر عليهم، يقتل كل ذكر منهم بالسيف ويسبي نساؤهم وأطفالهم، وينهب دوابهم وأموالهم، وتقسم على المجاهدين، وهكذا يفعل بكل القرى التي هي بعيدة من قرى الأمم الست. وهذه العبارة الواحدة تكفي من جوابهم عن تقريراتهم الواهية، وقد نقلها العلماء الإسلامية سلفاً وخلفاً في مقابلتهم لكنهم يسكتون عنها كأنهم لم يروها في كلام المخالف، ولا يجيبونه عنها لا بالتسليم ولا بالتأويل.‏

2- في الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج هكذا: 23 (وينطلق ملاكي أمامك فيدخلونك على الأموريين والحيثانيين والفرزانيين والكنعانيين والحوايين واليابوسانيين الذين أنا أخرجهم) 24 (لا تسجدن لآلهتهم ولا تعبدها، ولا تعمل كأعمالهم، ولكن خربهم تخريباُ واكسر أوثانهم).‏

3- في الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج في حق الأمم الست هكذا: 12 (فاحذر أن تعاهد البتة سكان تلك الأرض الذين تأتيهم لئلا يكونوا لك عثرة) 13 (ولكن اهدم مذابهحم وكسر أصنامهم واقطع أنساكهم).‏

4- في الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد: 51 (مر بني إسرائيل وقل لهم إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان) 25 (فأبيدوا كل سكان تلك الأرض واسحقوا مساجدهم واكسروا أصنامهم المنحوتة جميعها واعقروا مذابحها كلها) 55 (ثم أنتم إن لم تبيدوا سكان الأرض فالذين يبقون منهم يكونون لكم كأوتاد في أعينكم ورماح في أجنابكم ويشقون عليكم في الأرض التي تسكنونها) 56 (وما كنت عزمت أني أفعل بهم سأفعله بكم).

5 - في الباب السابع من سفر الاستثناء هكذا: 1 (إذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي تدخل لترثها، وتبيد الشعوب الكثيرة من قدامك الحيثي والجرحيثاني والأموراني والكنعاني والفرزاني والحوايي واليوساني، سبعة أمم أكثر منكم عدداً وأشد منكم) 2 (وسلمهم الرب إلهك بيدك فاضربهم حتى إنك لا تبقي منهم بقية، فلا تواثقهم ميثاقاً ولا ترحمهم) 5 (ولكن فافعلوا بهم هكذا خربوا مذابحهم وكسروا أصنامهم وقطعوا مناسكهم وأوقدوا أوثانهم). فعلم من هذه العبارات أن اللّه أمر بإهلاك كل ذي حياة من الأمم السبع وعدم الرحمة عليهم، وعدم المعاهدة معهم وتخريب مذابحهم، وكسر أصنامهم، وإحراق أوثانهم، وقطع مناسكهم، وشدد في إهلاكهم تشديداً بليغاً، وقال: إن لم تهلكوهم أفعل بكم ما كنت عزمت أن أفعله بهم. ووقع في حق هذه الأمم السبعة (أنهم أكثر منكم عدداً وأشد منكم). وقد ثبت في الباب الأول من سفر العدد أن عدد بني إسرائيل الذين كانوا صالحين لمباشرة الحروب، وكانوا أبناء عشرين سنة وما فوقها، كان ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً، وأن اللاويين مطلقاً ذكوراً أو إناثاً، وكذا إناث سائر الأسباط الإحدى عشر مطلقاً، وكذا ذكورهم الذين لم يبلغوا عشرين سنة خارجون عن هذا العدد، ولو أخذنا عدد جميع بني إسرايل، وضممنا المتروكين والمتروكات كلهم بالمعدودين، لا يكون الكل أقل من ألفي ألف وخمسمائة ألف، أعني مليونين ونصف مليون، وهذه الأمم السبعة إذا كانت أكثر منهم عدداً وأشد منهم، فلا بد أن يكون عدد هذه الأمم، أكثر من عددهم. وألف القسيس دقتركيث كتاباً باللسان الإنكليزي، في بيان صدق الإخبارات عن الحوادث المستقبلة المندرجة في كتبهم المقدسة، وترجمه القسيس مريك باللسان الفارسي وسماه كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل. وهذه الترجمة طبعت في أدن برغ سنة 1846  من الميلاد وسنة 1262 من الهجرة. ففي الصفحة 26 من هذه الترجمة: (علم من الكتب القديمة أن البلاد اليهودية كان فيها قبل خمسمائة وخمسين سنة من الهجرة ثمانية كرورات) أي ثمانون مليوناً (من ذي حياة) انتهى. فالغالب أن هذه البلاد في عهد موسى عليه السلام، كانت معمورة مثلها أو أزيد منها، فأمر اللّه بقتل ثمانين مليونات أو أكثر منها من ذي حياة.‏

6- في الآية العشرين من الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج هكذا: (من يذبح للأوثان فليقتل).‏

7- من طالع الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، علم أن الداعي إلى عبادة غير اللّه، ولو كان نبياً صاحب معجزات، واجب القتل، وكذا الداعي إلى عبادة الأوثان واجب الرجم، وإن كان من الأقارب أو من الأصدقاء. وإن عبدها أهل القرية، يقتل هؤلاء كلهم ودوابهم بحد السلاح وتحرق القرية ومتاعها وأموالها بالنار وتجعل تلاً، ثم لا تبنى.‏

8- في الباب السابع عشر من سفر الاستثناء هكذا: 2 (إذا وجد عندك جوأة أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك رجل أو امرأة، تعمل سيئة قدام الرب إلهك ويعدوا ميثاقه) 3 (ليذهبوا ويعبدوا آلهة أخرى ويسجدوا لها ويسجدوا للشمس والقمر، ولكل أجناد السماء ما لم آمر به أنا) 4 (وأنت أخبرت بذلك وسمعت ذلك، وفحصت عنه بحرص فوجدت أن ذلك حق، وأنها قد صنعت رجاسة فاخرج الرجل الذي فعل الفعل السيء أو الامرأة إلى أبواب قريتك وارجموه بالحجارة).‏

9- في الباب الثالث من سفر الخروج هكذا: 21 (وأعطى نعمة لهذا الشعب قدام المصريين وإذا ما أردتم الخروج، فلا تخرجوا فارغين) 22 (بل تسأل الامرأة  مِنْ جارتها، ومِن التي هي ساكنة دارها، أواني فضة، وذهب، وثياباً وتضعونها على بنيكم، وبناتكم، وتسلبون مصر). ثم في الباب الحادي عشر من السفر المذكور قول اللّه لموسى عليه السلام هكذا: 1 (فتحدث في مسمع الشعب أن يسأل الرجل صاحبه، والمرأة من صاحبتها أواني فضة، وأواني ذهب) 3 (والرب يعطي لشعبه نعمة قدام المصريين). ثم في الباب الثاني عشر من السفر المذكور هكذا: 35 (وفعل بنو إسرائيل كما أمر موسى، واستعاروا من المصريين أواني فضة، وذهب، وشيئاَ كثيراً من الكسوة) 36 (فأما الرب أوهب نعمة لشعبه أمام المصرين أن يعيروهم واستلبوا المصريين). فإذا كان عدد بني إسرائيل كما علمت، واستعار رجالهم ونساؤهم من المصريين، يكون ما استعاروه مالاً غير محصور، كما وعد اللّه أولاً بأنكم تسلبون مصر، ثم أخبر ثانياً واستلبوا المصريين لكنه أجاز لهم السلب بحيلة الاستعارة، التي هي في الظاهر خديعة وغدر.‏

10- في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج في حال عبادة العجل هكذا: 25 (فنظر موسى عليه السلام الشعب أنه قد صار عرياناً إنما عراه هارون لعار النجاسة، وجعله عرياناً بين الأعداء) 26 (فوقف في باب المحلة، وقال من كان من حزب الرب فليقبل إلي فاجتمع إليه جميع بني لاوى) 27 (وقال لهم هذا ما يقول الرب إله إسرائيل ليتقلد كل رجل منكم سيفه فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب، وارتدوا وليقتل الرجل منكم أخاه، وصاحبه، وقريبه) 28 (فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى عليه السلام فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل). فقتل موسى عليه السلام على عبادة العجل ثلاثة وعشرين ألفاً. واعلم أنه وقع في الترجمة العربية سنة 1831، وسنة 1844، وسنة 1848 التي نقلت عنها هذه العبارة لفظ ثلاثة وعشرين ألف رجل.‏

11- في الباب الخامس والعشرين من سفر العدد، أن بني إسرائيل لما زنوا ببنات الموات، وسجدوا لآلهتهن، أمر الرب بقتلهم، فقتل موسى أربعة وعشرين ألفاً منهم.‏

12- من طالع الباب الحادي والثلاثين من سفر العدد، ظهر له أن موسى عليه السلام لما أرسل اثني عشر ألف رجل مع فنيحاس بن العازار لمحاربة أهل مديان، فحاربوا وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم، وخمسة ملوكهم وبلعام، وسبوا نسائهم، وأولادهم، ومواشيهم كلها، وأحرقوا القرى والدساكر والمدائن بالنار، فلما رجعوا غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال: لِمَ استحييتم النساء، ثم أمر بقتل كل طفل مذكر، وكل امرأة ثيبة، وإبقاء الأبكار، ففعلوا كما أمر، وكانت الغنيمة من الغنم ستمائة وخمسة وسبعين ألفاً، ومن البقر اثنين وسبعين ألفاً، ومن الحمير أحداً وستين ألفاً، ومن الأبكار اثنتين وثلاثين ألفاً، وكان لكل مجاهد ما نهب من غير الدواب، والإنسان، وما بين مقداره في هذا الباب غير أن رؤساء الألوف والمئين، أعطوا الذهب لموسى والعازار ستة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين مثقالاً. وإذا كان عدد النساء الأبكار اثنتين وثلاثين ألفاً، فكم يكون مقدار المقتولين من الذكور مطلقاً، شيوخاً كانوا أو شباناً أو صبياناً، ومن النساء الثيبات.‏

13- عمل يوشع عليه السلام بعد موت موسى عليه السلام على الأحكام المندرجة في التوراة، فقتل المليونات الكثيرة، ومن شاء فليطالع هذا في كتابه من الباب الأول إلى الباب الحادي عشر، وقد صرح في الباب الثاني عشر من كتابه، أنه قتل إحدى وثلاثين سلطاناً من سلاطين الكفار، وتسلط بنو إسرائيل على مملكتهم.‏

14-  في الباب الخامس عشر من سفر القضاة في حال شمشون هكذا: (ووجد فكاً أعني خد حمار، فمد يده وأخذه، وقتل به ألف رجل).

15 - في الباب السابع والعشرين من سفر صموئيل الأول: 8 (وصعد داود ورجاله، وكانوا ينهبون أهل جاسور وجرز وعمالق، لأن هؤلاء كانوا سكان الأرض من الدهر من حد سوراً حتى حد مصر) 9 (وكان يخرب داود كل الأرض، ولم يكن يبقى منهم رجلاً، ولا امرأة، ويأخذ الغنم، والبقر، والحمير، والجمال، والأمتعة، وكان يرجع ويأتي إلى أخيس). انظروا إلى فعل داود عليه السلام أنه كان يخرب الأرض، وما كان يبقي رجلاً، ولا امرأة من أهل جاسور، وجرز، وعمالق، وينهب دوابهم وأمتعتهم.‏

16- في الباب الثامن من سفر صموئيل الثاني: 2 (وضرب الموابيين ومسحهم بالحبال وأضجعهم على الأرض، ومسح حبلين للقتل وكمل حبلاً واحداً للاستحياء، وكان الموابيون عبيداً لداود يؤدون إليه الخراج) 3 (وضرب داود أيضاً هدر عازار بن راحوب ملك صوبا) الخ 5 (فأتت أرام دمشق ليعينوا هدر عازار ملك صوبا، وضرب داود من أرام اثنين وعشرين ألف رجل). فانظروا إلى فعل داود عليه السلام بالموابيين، وهدر عازار، وجيشه وجيش أرام.‏

17- الآية الثامنة عشر من الباب العاشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: (وهرب السريانيون من بين يدي إسرائيل، وقتل داود من السريانيين سبعمائة مركب، وأربعين ألف فارس، وسوباك رئيس الجيش ضربه فمات في ذلك المكان).‏

18- وفي الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: 29 (فجمع داود جميع الشعب، وسار إلى راية فحارب أهلها، وفتحها) 30 (وأخذ تاج ملكهم عن رأسه وكان وزنه قنطاراً من الذهب، وكان فيه جواهر مرتفعة ووضعوه على داود، وغنيمة القرية أخرجها كثيرة جداً) 31 (والشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بموارج حديد، وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الأجاجر، كذلك صنع بجميع قرى بني عمون، ورجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم). ونقلت هذه العبارة لفظاً لفظاً، عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1831، وسنة 1844. فانظروا كيف قتل داود عليه السلام بني عمون قتلاً شنيعاً، وأهلك جميع القرى بمثل هذا العذاب العظيم الذي لا يتصور فوقه.‏

19- في الباب الثامن عشر من سفر الملوك الأول: أن إيليا عليه السلام ذبح أربعمائة وخمسين رجلاً من الذين يدعون أنهم أنبياء بعل.‏

20-  لما فتح أربعة ملوك سادوم، وعامورة، ونهبوا جميع أموال أهاليهما، وأسروا لوطاً عليه السلام، ونهبوا ماله أيضاً. ووصل هذا الخبر إلى إبراهيم عليه السلام، خرج إبراهيم عليه السلام ليخلص لوطاً عليه السلام. ففي بيان هذا الحال في الباب الرابع عشر من سفر التكوين هكذا: 14 (فلما سمع إبرام أن لوطاً ابن أخيه سبي فأحصى غلمانه أولاد بيته ثلثمائة وثمانية عشر، وانطلق في أثرهم حتى أتى دان) 15 (وفرق أرفاقه، ونزل عليهم ليلاً، وضربهم، وطردهم إلى حوبا التي هي من شمال دمشق) 16 (واسترد المقتنى كله، ولوطاً ابن أخيه وماله، والنسوة أيضاً، والشعب) 17 (وخرج ملك سادوم للقائه بعد ما رجع من قتل كدرلغمور، والملوك الذين معه في وداي شوا الذي هو وادي الملك).‏

21- في الباب الحادي عشر من الرسالة العبرانية هكذا: 32 (وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت أن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمسون ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء) 33 (الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا براً نالوا مواعيد سدوا أفواه أسود) 34 (أطفؤا قوة النار نجوا من حد السيف تقووا من ضعف صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء). فظهر من كلام مقدسهم بولس، أن قهر هؤلاء الأنبياء ممالك، وإطفائهم النار ونجاتهم من حد السيف، وهزمهم جيوش الكفار، كان من جنس البر، لا من جنس الإثم. وكان منشؤها قوة الإيمان، ونيل مواعد الرحمن، لا قساوة القلب والظلم. وإن كان أفعال بعضهم في صورة أشد أنواع الظلم، سيما في قتل الصغار الذين ما كانوا متدنسين بدنس الذنوب، وقد عد داود عليه السلام جهاداته من الحسنات حيث قال في الزبور الثامن عشر: 20 (ويجازيني الرب مثل بري ومثل طهارة يدي يكافئني) 21 (لأني حفظت طرق الرب، ولم أكفر بإلهي) 22 (لأن جميع أحكامه قدامي، وعدله لم أبعده عني) 23 (وأكون طهارة يدي قدام عينيه). وقد شهد اللّه أن جهاداته وسائر أفعاله الحسنة كانت مقبولة عند اللّه في الآية الثامنة من الباب الرابع عشر من سفر الملوك. الأول قول اللّه هكذا: (داود عبدي الذي حفظ وصاياي، وتبعني من كل قلبه وعمل بما حسن أمامي). فما قال صاحب ميزان الحق وغيره من علماء بروتستنت، أن جهادات داود عليه السلام كانت لأجل سلطنته ومملكته، فمنشؤه قلة الديانة، لأن قتل النساء والأطفال وكذا جميع أهل بعض البلاد ما كان ضرورياً لأجل هذا المصلحة، على أنا نقول أنا لو فرضنا أن هذا القتل كان لأجل السلطنة، لكنه لا يخلو إما أن يكون مرضياً للّه وحلالاً له، أو يكون مبغوضاً عند اللّه ومحرماً عليه، فإن كان الأول ثبت مطلوبنا، وإن كان الثاني لزم كذب قوله وقول مقدسهم، وكذب شهادة اللّه في حقه، ولزوم أن يكون دماء ألوف من المعصومين، وغير واجبي القتل في ذمته. ودم البريء الواحد يكفي للهلاك، فكيف تحصل له النجاة الأخروية. في الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا: (وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه). وفي الباب الحادي والعشرين من المشاهدات: (وأما الجبانون والكفار والمرذولون والقتلة والزناة والسحرة وعبدة الأوثان، وكل الكذابين يكون نصيبهم في البحيرة الموقدة بالنار والكبريت). هذا هو الأمر  الثاني والعياذ باللّه، وحذراً من التطويل أكتفي على هذا القدر.

(الأمر الثالث) لا يشترط أن تكون الأحكام العملية الموجودة في الشريعة السابقة، باقية في الشريعة اللاحقة بعينيها، بل لا يشترط أن تكون هذه الأحكام العملية في شريعة واحدة من أولها إلى آخرها، بل يجوز أن تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المصالح والأزمنة والمكلفين، وقد عرفت هذه الأمور في الباب الثالث بما لا مزيد عليه، فكان الجهاد مشروعاً في الشريعة الموسوية على طريق هو أشنع أنواع الظلم عند منكري النبوة، ولم تبق مشروعيته في الشريعة العيسوية، وما كان بنو إسرائيل مأمورين بالجهاد قبل خروجهم عن مصر، وصاروا مأمورين به بعد خروجهم، وعيسى عليه السلام يقتل الدجال وعسكره بعد نزوله. كما هو مصرح به في الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي، والباب التاسع عشر من المشاهدات. وكذا لا يشترط أن تكون معاملة تنبيه الكفار والعصاة على طريقة واحدة كما علمت في الأمر الأول، فلا يجوز لمن يعتقد النبوة والوحي أن يعترض في مثل هذه الأمور على شريعته، فلا يجوز له أن يقول أن إهلاك كل ذي حياة غير أهل السفينة في طوفان نوح عليه السلام، وإهلاك أهل سادوم وعامورة ونواحيهما في عهد لوط عليه السلام، وإهلاك كل ولد أكبر من أولاد الإنسان والبهيمة من أهل مصر، ليلة خروج بني إسرائيل عنها في عهد موسى عليه السلام، كان ظلماً سيما إهلاك ألوف في حادثة الطوفان، وإهلاك ألوف في الحادثتين الأخيرتين من أولاد الإنسان الصغار، وأولاد البهيمة التي هي ما كانت مدنسة بذنب من الذنوب. وكذا لا يجوز أن يقول أن قتل الأمم السبعة كلها بحيث لا تبقى منهم بقية ما سيما قتل أولادهم الصغار الذين ما كانوا اقترفوا ذنباً ظلم، أو أن يقول أن قتل الرجال وسبي الذراري ونهب الأموال من غير الأمم السبعة، أو أن قتل ذكور المديانيين كلهم حتى الطفل الرضيع، وكذا قتل نسائهم  الثيبات كلها وإبقاء الأبكار لأجل أنفسهم، ونهب الأموال والدواب ظلم، أو أن يقول أن جهادات داود عليه السلام، وجهادات سائر الأنبياء الإسرائيلية عليهم السلام، أو أن ذبح إيليا عليه السلام أربعمائة وخمسين رجلاً من أنبياء بعل، أو أن قتل عيسى عليه السلام بعد نزوله الدجال وعسكره ظلم، لا يجوز العقل أن يفعل اللّه أو يأمر أحداً بأمثال هذا الظلم، وكذا لا يجوز أن يقول أن قتل الذابح للأوثان، وكذا قتل من يرغب إلى عبادة غير اللّه، وكذا قتل أهل القرية كلها إذا ثبت منهم الترغيب، وكذا قتل موسى عليه السلام ثلاثة وعشرين ألفاً من عبدة العجل، وكذا قتل موسى عليه السلام أربعة وعشرين ألفاً من الذين زنوا ببنات مواب وسجدوا لآلهتهن ظلم شنيع، وفي هذه الأحكام إجبار بأن يثبت الإنسان على الشريعة الموسوية لأجل خوف القتل والرجم، وظاهر أن الإيمان القلبي لا يمكن أن يحصل بالإجبار بل يستحيل أن يحصل للإنسان محبة اللّه أيضاً بالإجبار. فأمثال هذه الأحكام لا تكون من جانب اللّه، نعم من لا يكون معتقداً بالنبوة والشرائع، ويكون ملحداً وزنديقاً وينكر أمثال هذه الأمور لم تستبعد منه، لكنا لا كلام لنا معه في هذا الكتاب، بل كلامنا فيه مع المسيحيين عموماً وعلماء بروتستنت خصوصاً.

(الأمر الرابع) أن علماء بروتستنت يدعون كذباً أن دين الإسلام شاع بالسيف، وهذا الادعاء غير صحيح كما علمت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، وأفعالهم غير أقوالهم، فإنهم وكذا أسلافهم من أهل التثليث إذا تسلطوا تسلطاً تاماً، اجتهدوا في إمحاء المخالفين، وأنا أنقل بعض الحالات من كتبهم ورسائلهم فأنقل حالهم بالنسبة إلى اليهود من كتاب كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل الذي عرفته في بيان الأمر الثاني فأقول:

قال صاحبه في الصفحة 27: (القسطنطين الأعظم الذي كان قبل الهجرة بثلثمائة سنة تقريباً أمر بقطع آذان اليهود وإجلائهم إلى أقاليم مختلفة، ثم أمر ملك الملوك الرومي في القرن الخامس من القرون المسيحية، بإخراجهم من البلدة السكندرية التي كانت مأمنهم من مدة، وكانوا يجيئون إليها من كل جانب، فيستريحون فيها. وأمر بهدم كنائسهم ومنع عبادتهم، وعدم قبول شهادتهم وعدم نفاذ الوصية أن أوصى أحد منهم لأحد في ماله، ولما ظهر منهم بغاوة ما لأجل هذه الأحكام نهب جميع أموالهم وقتل كثيراً منهم، وسفك الدماء بظلم ارتعد به جميع يهود هذا الإقليم.

ثم قال في الصفحة 28: (أن يهود البلد انطيوح لما أسروا بعد ما صاروا مغلوبين، قطع أعضاء البعض، وقتل البعض، وأجلى الباقين منهم كلهم، وظلم ملك الملوك في جميع مملكته هؤلاء المشاركين بأنواع الظلم، ثم أجلاهم من مملكته آخر الأمر. وهيج ولاة الممالك الأخرى على أن يعاملوا اليهود هذه المعاملة، فكان حالهم أنهم تحملوا الظلم من آسيا إلى أقصى حد أوربا، ثم بعد مدة قليلة كلفوا في مملكة اسبنيول لقبول شرط من الشروط الثلاثة: أن يقبلوا الملة المسيحية فإن أبوا عن قبولها يكونون محبوسين، وإن أبوا عن كليهما يجلون من أوطانهم، وصار مثل هذه المعاملة معهم في ديار فرانس. فهؤلاء المساكين كانوا ينتقلون من إقليم إلى إقليم ولا يحصل لهم موضع القرار، ولم يحصل لهم الأمن في آسيا الكبير أيضاً بل قتلوا في كثير من الأوقات كما قتلوا في ممالك الفرنج.

ثم قال في الصفحة 29: (أن أهل ملة كتلك كانوا يظلمونهم باعتقاد أنهم كفار وعظماء هذه الملة عقدوا مجلساً للمشورة، وأجروا عليهم عدة أحكام: (الأول): من حمى يهودياً على ضد مسيحي يكون ذا خطأ، ويخرج عن الملة. (والثاني): أنه لا يعطى يهودي منصباً في دولة من الدول. (والثالث): لو كان مسيحي عبد يهودي فهو حر. (والرابع): لا يأكل أحد مع اليهودي، ولا يعامله. (والخامس): أن ينزع الأولاد منهم وتربى في الملة المسيحية، وهكذا كان أحكام أخر). أقول لا شك أن الحكم الخامس أشد أنواع الإكراه. ثم قال: (كانت عادة أهل البلدة ثولوس من إقليم فرانس أنهم كانوا يلطمون وجوه اليهود في عيد الفصح، وكان رسم البلدة بزيرس أن أهلها من أول يوم الأحد من أيام العيد إلى يوم العيد، كانوا يرمون اليهود بالحجارة، وكان يكثر القتل أيضاً في هذا الرمي، وكان حاكم البلدة المسيحي المذهب يهيج أهلها على هذا الفعل.

ثم قال في الصفحة 30 و 31: (دبر سلاطين فرانس في حق اليهود أمراً، وهو أنهم كانوا يتركون اليهود إلى أن يصيروا متمولين بالكسب والتجارة، ثم يسلبون أموالهم، وبلغ هذا الظلم لأجل الطمع غايته، ثم لما صار فلب أوك سطس سلطاناً في فرانس، أخذ أولاً الخمس من ديون اليهود التي كانت على المسيحيين، وأبرأ من الباقي ذمة المسيحيين، وما أعطى اليهود حبة، ثم أجلى اليهود كلهم من مملكته، ثم جلس على سرير السلطنة سنط لوئيس وهو يطلب اليهود مرتين في مملكته وأجلاهم مرتين، ثم أجلى جرلس السادس اليهود من مملكة فرانس، وقد ثبت من التواريخ، أن اليهود أجلوا من مملكة فرانس سبع مرات، وعدد اليهود الذين أخرجوا من مملكة اسبنيول لو فرض في جانب القلة، لا يكون أقل من ألف وسبعين ألف بيت، وفي مملكة نمسا قتل كثير منهم ونهب كثير منهم ونجا منهم قليل وهم الذين تنصروا، ومات كثير منهم بأن سدوا أولاً أبوابهم، ثم أهلكوا أنفسهم وأولادهم وأزواجهم وأموالهم، إما بالإغراق في البحر أو بالإحراق بالنار، وقتل غير المحصورين منهم في الجهاد المقدس، وكان الإنكليز اتفقوا على أن يظلموا اليهود، فلما حصل اليأس العظيم ليهود البلدة يرك بسبب الظلم، قتل بعضهم بعضاً فقتل ألف وخمسمائة من الرجال والنساء والأطفال، وصاروا أذلاء في هذه المملكة بحيث إذا بغى الأمراء على السلطان قتلوا سبعمائة يهودي ونهبوا أموالهم، لأجل أن يظهروا شوكتهم على الناس، وسلب رجار دوجان وهنري الثالث من سلاطين إنكلترة مراراً، أموال اليهود ظلماً سيما هنري الثالث، فإنه كانت عادته أنه كان ينهب اليهود بكل طريق على وجه الظلم، وعدم الرحم، وكان جعل أغنيائهم الكبار فقراء وظلمهم بحيث رضوا على الجلاء، واستجازوا أن يخرجوا من مملكته، لكنه ما قبل هذا الأمر منهم أيضاً. ولما جلس ادورد الأول على سرير السلطنة، ختم الأمر بأن نهب أموالهم كلها ثم أجلاهم من مملكته، فأجلى أزيد من خمسة عشر ألف يهودي في غاية العسر).

ثم قال في الصفحة 32: (نقل مسافر اسمه سوتي أنه كان حال قوم برتكال قبل خمسين عاماً، أنهم كانوا يأخذون اليهودي ويحرقونه بالنار، ويجتمع رجالهم ونساؤهم يوم إحراقه كاجتماع يوم العيد، وكانوا يفرحون وكانت النساء يصحن وقت إحراقه لأجل الفرح).

ثم قال في الصفحة 33: (أن البابا الذي هو عظيم فرقة كاتلك قرر عدة قوانين شديدة في حق اليهود). انتهى كلام كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل.

وقال صاحب سير المتقدمين: (أن السلطان السادس من قسطنطين الأول، أمر بمشورة أمرائه في سنة 379 أن يتنصر كل من هو في السلطنة الرومية ويقتل من لم يتنصر) انتهى. وأي إكراه أزيد من هذا.

ولطامس نيوتن تفسير على الإخبار عن الحوادث المستقبلة المندرجة في الكتب المقدسة. وطبع هذا التفسير سنة 1803 في البلد لندن. ففي الصفحة 65 من المجلد الثاني في بيان تسلط أهل التثليث على أورشليم هكذا: (فتحوا أورشليم في الخامس عشر من شهور تموز الرومي سنة 1099 بعد ما حاصروا خمس أسبوعات وقتلوا غير المسيحيين، فقتلوا أزيد من سبعين ألفاً من المسلمين وجمعوا اليهود وأحرقوهم ووجدوا في المساجد غنائم عظيمة) انتهى.

وإذا عرفت حال ظلمهم في حق اليهود خصوصاً، وفي حق رعية السلطنة عموماً، وما فعلوا عند تسلطهم على أورشليم، فالآن أذكر نبذاً مما فعل كاتلك بالنسبة إلى غيرهم من المسيحيين، وأنقل هذه الحالات عن كتاب الثلاث عشرة رسالة الذي طبع في بيروت سنة 1849، من الميلاد باللسان العربي فأقول:

قال في الصفحة 15 و 16: (أما الكنيسة الرومانية فقد استعملت مرات كثيرة الاضطهادات والطرد المزعج ضد البروتستانت، أي الشهود أو بالحري الشهداء، وذلك في ممالك أوربا. ويظن أنها أحرقت في النار أقل ما يكون مائتين وثلاثين ألفاً من الذين آمنوا بيسوع دون البابا، واتخذوا الكتب المقدسة وحدها هدى وإرشاداً لإيمانهم وأعمالهم، وقد قتلت أيضاً منهم ألوف وربوات بحد السيف والحبوس والكلبتين، وهي آلة لتخليع المفاصل بالجذب، وأفظع العذابات المتنوعة. ففي فرنسا قتل في يوم واحد ثلاثون ألف رجل وذلك في اليوم الملقب بيوم ماريرثو لماوس، وعلى هذا الأسلوب أذيالها مختضبة بدماء القديسين) انتهى كلامه بلفظه.

وفي الصفحة 338 في الرسالة الثانية عشر من الكتاب المذكور: (يوجد قانون وضع في المجمع الملتم في توليد وفي سبانيا يقول أننا نضع قانوناً: أن كل من يقبل إلى هذه المملكة فيما بعد، لا تأذن له أن يصعد إلى الكرسي إن لم يحلف أولاً أنه لا يترك أحداً غير كاثوليكي يعيش في مملكته، وإن كان بعد ما أخذ الحكم يخالف هذا العهد فليكن محروماً، فدام الإله السرمدي وليصر كالحطب للنار الأبدية). مجموع المجامع من كارتراوجه 404 (والمجمع اللاتراني يقول أن جميع الملوك والولاة وأرباب السلطنة فليحلفوا أنهم بكل جهدهم وقلوبهم يستأصلون جميع رعاياهم المحكوم عليهم من رؤساء الكنيسة بأنهم أراتقة، ولا يتركون أحداً منهم في نواحيهم، وأن كانوا لا يحفظون هذه اليمين فشعبهم محلول من الطاعة لهم) رأس 3 (وهذا القانون قد ثبت أيضاً في مجمع قسطنطيا) جلسة 45 (ومن رسم البابا مرتينوس الخامس) عن ضلال فيكل. (وفي اليمين التي حلفت بها الأساقفة تحت رياسة البابا بولينوس الثالث سنة 1551 يوجد هذا الكلام: أن الأراتقة وأهل الانشقاق والعصاة على سيدنا البابا وخلفائه هؤلاء بكل قوتي أطردهم وأبيدهم). والمجمع اللاتراني ومجمع قسطنطيا يقولون: (أن الذي يمسك الأراتقة له إذن وسلطة أن يأخذ منهم كل ما لهم ويستعمله لنفسه من غير مانع) مجمع لا تراني 4 مجلد 2 فصل 1 وجه 152 ومجمع قسطنطيا جلسة 45 مجلد 7 (والبابا اينوشنيسوس الثالث يقول أن هذا القصاص على الأراتقة نحن نأمر به كل الملوك والحكام ونلزمهم إياه تحت القصاصات الكنائسية) رسم 7 كتاب 5.

وفي سنة 1724 وضع الملك لويس الحادي عشر ثمانية عشر قانوناً.

أولها: أننا نأمر أن الديانة الكاتوليكية وحدها، مأذونة في مملكتنا، وأما الذين يتمسكون بديانة أخرى فليذهبوا إلى الاعتقال طول حياتهم، والنساء فلتقطع شعورهن ويحبسن إلى الموت.

وثانيها: أننا نأمر أن جميع الواعظين الذي جمعوا جماعات على غير العقائد الكاتوليكية، والذين علموا أو مارسوا عبادة مخالفة لها يعاقبون بالموت. وفي مخاطبة الأساقفة في سبانيا للملك سنة 1765 يقولون له أعط الرسوم كل قوتها، والديانة كل مجدها، لكن تسبب هذه المقالة منا تجديد قوانين سنة 1724 المذكورة: (وكان من جملة رسوم إنكلترا تحت رياسة البابا أن كل من يقول أنه لا يجوز أن يسجد للايفونات يحبس في السجن الشديد حتى يحلف أنه يسجد لها، والأسقف أو القاضي الكنايسي له  سلطان أن يحضر إليه، أو يحبس كل من يقع عليه الشبهة أنه أراتيكي، والأراتيكي العنيد فليحرق بالنار قدام الشعب، وجميع الحكام فليحلفوا أنهم يعينون هذا القاضي على استئصال الأراتقة الذين عندما تظهر أرتقتهم تسلب أموالهم ويسلمون إليه، وتمحى خطاياهم بلهيب النار). كوك فرائض عدد 3 وجه 40 و 41 وأيضاً عدد 4 وجه 15 (وبارونيوس يقول أن الملك كارلوس الخامس، كان يظن برأيه الباطل، أنه يستأصل الأراتقة ليس بالسيف بل بالكلام، وفي فهرس الكتاب المقدس المطبوع في رومية باللاتيني والعربي تحت حرف الهاء يوجد هذا التعليم: أن الأراتقة ينبغي لنا أن نهلكهم ويورد الإثبات على ذلك أن الملك ياهو قتل الكهنة الكذبة وإيليا ذبح كهنة باعل، وغير ذلك. فإذن هكذا ينبغي لأولاد الكنيسة أن يهلكوا الأراتقة).

ثم في الصفحة 347 و 348: (المؤرخ منتوان المتقدم في رياسة الكرمليين مع غيره من المؤرخين، يخبرنا عن كاروز بالإنجيل معتبر يقال له ثوما من رودن، أحرقه البابا بالنار لأنه كرز ضد فسادات الكنيسة الرومانية، والمؤرخون يدعونه قديساً وشهيداً حقيقياً للمسيح).

وفي الصفحة 350 إلى 355: (في سنة 1194 أمر الديفونسو ملك اراغون في إسبانيا بنفي الواضيين من بلاده، لأنهم أراتقة.. وفي سنة 1206 رغماً عن الأمير رايمون وإلى مدينة ثولوس، أرسل البابا قضاة بيت التفتيش إلى تلك المدينة، لأن الأمير المذكور كان قد أبى أن ينفي هؤلاء الواضيين، ثم بعد قليل أرسل ملك فرنسا بطلب البابا إلى تلك المدينة ونواحيها عسكراً، عدده ثلثمائة ألف، فحاصر الأمير رايمون في مدينته لأجل المحاماة عن نفسه، ولكي يدفع القوة بالقوة، فانذبح في ذلك القتال ألف ألف، وانكسر أهل رايمون وأحاط بهم كل صنف من الإهانات والعذابات، وكان البابا في حركة هذه الحروب يقول لقومه: إننا نعظمكم ونحتم  عليكم أن تجتهدوا في ملاشاة هذه الأرتقة الخبيثة أرتقة الألبجيين أي الواضيين وتطردوهم بيد قوية أشد مما يكون ضد الساراجين أي المسلمين.. وفي سنة 1400 في آخر شهر كانون الأول، قام أهل البابا بغتة على الواضيين في أوديابيت مونت بلاد ملك سردينيا، فهربوا من وجوههم بلا قتال، ولكن قتل كثيرون بالسيف وكثيرون ماتوا بالثلج، ثم أن البابا بعد ذلك بسبع وثمانين سنة، كلف البرتوس ارشيديا كونوس في مدينة كريمونا أن يحارب الواضيين في النواحي القبلية من فرنسا، وفي أوديابيت مونت، حيث بقي البعض منهم من الذين رجعوا بعد الحرب في سنة 1400، وهذا الرجل المذكور تقدم حالاً ومعه ثمانية عشر ألف محارب، وأقام تلك الحرب التي استمرت نحو ثلاثين سنة على المسيحيين الذين قالوا: نحن في كل وقت نكرم الملك ونؤدي الجزية، ولكن أرضنا وديانتنا التي ورثناها من اللّه ومن آبائنا لا نريد أن نتركها، وفي كالابريا من بلاد إيطاليا سنة 1560 قتل ألوف ألوف، من البروتستنتيين، بعضهم قتل من العسكر وبعضهم من محكمة بيت التفتيش. قال أحد المعلمين الرومانيين: إنني أرتعد كلما أفتكر بذلك الجلاد والخنجر الدموي بين أسنانه والمنديل يقطر دماً بيده وهو متلطخ بيديه إلى الأكارع، يسحب واحداً بعد واحد من السجن، كما يفعل الجزار بالغنم.. وفي سنة 1601 نفى دوك السافوي خمسمائة عيلة من الواضيين.. وأيضاً سنة 1655 وسنة 1676 تجددت الاضطهادات عليهم في أوديابيد مونت، لأن الملك لويس الرابع عشر بإشارة من البابا تقدم إليهم بجيشه، وهم في بيوتهم بغاية الطمأنينة، فذبح العسكر خلقاً كثيراً منهم، ووضعوا في الحبس أكثر من عشرة آلاف، فمات كثير منهم من الزحام والجوع، والذين سلموا أخرجوهم لكي ينزحوا من تلك البلاد، وكان ذلك اليوم شديد البرد والأرض مغطاة بالثلج. والجليد، فكان كثير من الأمهات وأولادهن في أحضانهن موتى على جانب الطريق من البرد.. وكارلوس الخامس سنة 1521، أخرج أمراً في طرد البروتستنتيين في بلاد فلامنك عن رأي البابا، وبسبب ذلك قتل خمسمائة ألف نفر.. وبعد كارلوس تولى ابنه فيلبس، ولما ذهب إلى إسبانيا سنة 1559، استخلف الأمير ألفاً على طرد البروتستنتيين، والمذكور في أشهر قليلة قتل على يد الجلاد الملوكي الشرعي ثمانية عشر ألفاً، وبعد ذلك كان يفتخر بأنه قتل في كل المملكة ستة وثلاثين ألفاً، والقتيل الذي يذكره المعلم كين في عيد ماربرثولماس، كان في 24 آب سنة 1572 في وقت السلامة الكاملة وكان (الملك ملك فرنسا قد وعد بأخته لأمير نافار وهو من علماء البروتستنتيين وأشرافهم، ثم اجتمع هو وأصدقاء أعيان كنيستهم في باريس لأجل استتمام الوعد بالزواج، ولما ضربت النواقيس لأجل الصلاة الصباحية، قاموا بغتة حسب اتفاقهم السابق على الأمير وأصحابه، وعلى جميع البروتستنتيين في باريس، فذبحوا منهم للوقت عشرة آلاف نفر، وهكذا جرى أيضاً في روين وليون وأكثر المدن في تلك البلاد، حتى قال البعض من المؤرخين أنه قتل نحو ستين ألفاً، واستمر هذا الاضطهاد مدة ثلاثين سنة، لأن البروتستنتيين مسكوا سلاحهم لكي يدفعوا القوة بالقوة، ومات في هذا الحرب منهم تسعمائة ألف، ولما سمع في رومية فعل ملك فرنسا في عيد ماربرثولماوس أطلقوا المدافع من الأبراج، وذهب البابا مع الكرديناليين ليرتل مزمور الشكر في كنيسة ماربطرس، وكتب شكراً وتعظيماً للملك على الخير والجميل الذي صنعه مع الكنيسة الرومانية بهذا العمل، فلما جلس الملك هنري الرابع على كرسي فرنسا قطع هذا الاضطهاد سنة 1593. ولكن يظن أنه قتل لأجل عدم تسليمه بالاغتصاب في أمر الدين. ثم إنه في سنة 1675 تجدد الاضطهاد وبعد ما قتل خلق كثير يقول المؤرخون أن خمسين ألفاً اضطروا أن يتركوا بلادهم لكي ينجوا من الموت) انتهى كلامه، ونقلت عبارة هذا الكتاب بألفاظها من الرسالة الثانية عشر.

وإذا عرفت حال ظلم فرقة كاتلك، فاعلم أن حال ظلم فرقة بروتستنت قريب منه، وأنقل هذا الحال عن كتاب مرآة الصدق الذي ترجمه القسيس طامس  انكلس من علماء كاتلك، من اللسان الإنكليزي إلى أردو، وطبع سنة 1851 من الميلاد. ويوجد هذا الكتاب عند أهل هذه الفرقة في الهند كثيراً. في الصفحة 41 و 42: (سلب بروتستنت في ابتداء أمرهم ستمائة وخمسة وأربعين رباطاً، وتسعين مدرسة، وألفين وثلثمائة وستة وسبعين كنيسة، ومائة وعشر مارستانات من ملاكها، فباعوا بثمن بخس وقاسمها الأمراء فيما بينهم، وأخرجوا ألوفاً من المساكين المفلوكين عريانين من هذه الأمكنة). ثم قال في الصفحة 54: (امتد طمعهم أنهم ما تركوا الأموات أيضاً آذوا أجسادهم في نوم العدم وسلبوا أكفانهم).

ثم قال في الصفحة 48 و 49: (وضاعت في هذه الغنائم كتبخانات ذكرها جيء بيل متحسراً بهذه الألفاظ: إنهم سلبوا كتباً واستعملوا أوراقها في الشواء، وفي تطهير الشمعدانات والنعال، وباعوا بعض الكتب على العطارين وباعة الصابون، وباعوا كثيراً منها ما وراء البحر على أيدي المجلدين، وما كانت هذه الكتب مائة أو خمسين، بل المراكب كانت مملوءة منها، وأضاعوها بحيث تعجب الأقوام الأجنبية، وإني أعلم تاجر اشترى كتبخانتين كلا منهما بعشرين ربية. وبعد هذه المظالم ما تركوا من خزائن الكنائس إلا جداراً عريانة، ثم ظنوا أنفسهم من أهل الوقار وملؤوا الكنائس من أناس من أهل ملتهم). ثم قال في الصفحة الثانية والخمسين إلى الصفحة السادسة والخمسين: (فلنلاحظ الآن أفعال الجور التي فعلها بروتستنت في حق فرقة كاتلك إلى هذا الحين، أنهم قرروا أزيد من مائة قانون كلها خلاف العدل والرحمة، لأجل الظلم، ونحن نذكر عدة من هذه القوانين الجورية:

[1] لا يرث كاتلك تركة أبويه.

 [2] لا يشتري واحد منهم أرضاً بعد ما يجاوز عمره ثماني عشر سنة إلا أن يصير بروتستنت.

[3] لا يكون لهم مكتب.

[4] لا يشتغل أحد منهم بالتعليم ومن خالف هذا الحكم يحبس دائماً.

[5] من كان من هذه الملة يؤدي ضعف الخراج.

[6] إن صلى أحد من قسوسهم فعليه أداء ثلثمائة وثلاثين ربية من ماله، وإن صلى أحد منهم ولا يكون قسيساً فعليه أداء ربية ويسجن سنة.

[7] إن أرسل أحد منهم ولده خارج إنكلترا للتعليم، يقتل هو وولده ويسلب أمواله ومواشيه كلها.

[8] لا يعطى لهم منصب من الدولة.

[9] من لم يحضر منهم يوم الأحد أو العيد في كنيسة بروتستنت، تؤخذ منه مائتا ربية في كل شهر، ويكون خارجاً عن الجماعة، ولا يعطى له منصب.

[10] من ذهب منهم بعيداً من لندن مسافة خمسة أميال، يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.

[11] لا يسمع استغاثة أحد منهم عند الحكام بحسب القانون.

[12] ما كان أحد منهم يسافر أزيد من خمسة أميال، مخافة أن ينهب ماله ومتاعه، وكذا ما كان أحد منهم يقدر على الاستغاثة في أمر عند الحكام، مخافة أن يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.

[13] لا تنفذ أنكحتهم ولا تجهيز موتاهم ولا تكفين الموتى ولا تعميد أولادهم، إلا إذا كانت هذه الأمور على طريقة كنيسة إنكلترا.

[14] إن تزوجت إحدى نساء هذه الملة، تأخذ الدولة من جهازها ثلثين، ولا ترث من تركة زوجها، ولا يوصي زوجها لها من تركته بشيء، ونساؤهم كن يحبسن إلى أن يعطي أزواجهن عشر ربيات في كل شهر أو يعطوا ثلث أراضيهم إلى الدولة.

[15] ثم صدر الحكم عاقبة الأمر إن لم يصر كلهم بروتستنت يسجنون ثم يجلون من أوطانهم مدة حياتهم، وإن أبوا عن الحكم أو رجعوا من الجلاء بدون الأمر كانوا ملزمين بإلزام عظيم.

[16] لا يحضر القسيس عند قتلهم ولا عند تجهيزهم وتكفينهم.

[17] لا يكون السلاح في بيت أحد منهم.

[18] لا يركب أحد منهم على حصان يكون ثمنه أزيد من خمسين ربية.

[19] إن أدى قسيس منهم أمراً من الخدمات المتعلقة به يسجن دائماً.

[20] القسيس الذي يكون مولده إنكلترا، ولا يكون من ملة بروتستنت، إن أقام أزيد من ثلاثة أيام في إنكلترا يتصور أنه غدار ويقتل.

[21] من أنزل القسيس المذكور على مكانه يقتل.

[22] لا تقبل شهادة كاتلك في العدالة.. وقتل على هذه القوانين الجورية في عهد الملكة اليصابت مائتان وأربعة أشخاص. كان مائة وأربعة منهم قسيسين والباقون من أهل الغنى، وما كان ذنبهم غير أنهم أقروا أنهم من ملة كاتلك، ومات تسعون قسيساً وكبار آخرون في السجن، وأجلى مائة وخمسة أشخاص مدة حياتهم، وضرب كثيراً منهم بالسياط وصودروا وحرموا من أموالهم، حتى هلك عشيرتهم، وقتلت ميري المشهورة ملكة أسكات، وكانت بنت الخالة للملكة اليصابت، لأجل كونها من ملة كاتلك).

ثم قال في الصفحة الحادية والستين إلى السادسة والستين: (حمل كثير من رهبانهم وعلمائهم بأمر الملكة اليصابت في المراكب، ثم أغرقوا في البحر. جاء  عساكرها إلى إيرلاند ليدخلوا أهل ملة كاتلك في ملة بروتستنت، فأحرقوا كنائس كاتلك وقتلوا علماءهم، وكان يصطادونهم كاصطياد الوحوش البرية، وكانوا لا يؤمنون أحداً وإن أمنوا أحد قتلوه أيضاً بعد الأمان، وذبحوا العسكر الذي كان في حصن سمروك وأحرقوا القرى والبلاد، وأفسدوا الحبوب والمواشي وأجلوا أهلها بلا امتياز المنزلة والعمر. ثم أرسل بارلمنت سنة 1643 وسنة 1644 الباشوات ليسلبوا جميع أموال كاتلك وأراضيهم بلا امتياز بينهم، وبقي أنواع الظلم إلى زمن الملك جيمس الأول وحصل التخفيف في الظلم في عهده ثم رحمهم الملك سنة 1778، لكن البروتستنتيين سخطوا عليه وقدموا عرضحال إلى السلطان من جانب أربعة وأربعين ألفاً من فرقة بروتستنت في ثاني حزيران سنة 1780، واستدعوا أن يبقى بارلمنت القوانين الجورية في حق ملة كاتلك كما كانت. لكن بارلمنت ما التفتوا إليه فاجتمع مائة ألف من بروتستنت في لندن وأحرقوا الكنائس وهدموا أمكنة كاتلك. وكان الحريق يرى من موضع واحد في ستة وثلاثين مكاناً، وكانت هذه الفتنة قائمة إلى ستة أيام، ثم أوجد الملك قانوناً آخر سنة 1791 وأعطى ملة كاتلك حقوقاً هي حاصلة لهم إلى هذا الحين.

ثم قال في الصفحة 73 و 74: (ما سمعتم حال جارتراسكول الذي هو في ايرلاند هذا الأمر محقق، أن بروتستنت يجمعون في كل سنة مقدار مائتي ألف وخمسين ألف ربية، وكراء أكثر المكانات الكبيرة، ويشترون بها أولاد فرقة كاتلك الذين هم من المساكين المفلوكين. ويرسلوا بهم في العربيات إلى إقليم آخر بالخفية، لئلا يرى آباؤهم وأمهاتهم، ويقع كثيراً أن هؤلاء الأشقياء إذا رجعوا إلى أوطانهم، تزوجوا بأخواتهم أو إخوتهم أو آبائهم أو أمهاتهم للجهل وعدم الامتياز) انتهى كلامه.

والظلم الذي صدر عن بعض فرق بروتستنت بالنسبة إلى بعض آخر، لا أنقله  حذراً من التطويل، وأكتفي على هذا القدر، وأقول: انظروا إلى هؤلاء الطاعنين على الملة المحمدية إنهم كيف أشاعوا ملتهم بالجور والظلم.

(الأمر الخامس) أن حكم الجهاد في الشريعة المحمدية هكذا يدعى الكفار أولاً بالموعظة الحسنة إلى الإسلام، فإن قبلوه فبها ويكونون كأمثالنا، وإن لم يقبلوا فإن كانوا من مشركي العرب فحكمهم القتل، كما كان هذا الحكم في الشريعة الموسوية في حق الأمم السبعة والمرتد والذابح للأوثان والداعي إلى عبادتها، وإن كانوا من غيرهم يدعون إلى الصلح بقبول الجزية والإطاعة، فإن قبلوا صارت دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، وإن لم يقبلوا فيحاربون، مع مراعاة الشروط التي هي مصرح بها في كتب الفقه. كما كان مثله في الشريعة الموسوية في حق غير الأمم السبعة. والخرافات الني نقلها علماء بروتستنت في بيان هذه المسألة بعضها مفتريات وبعضها هذيانات.

وأنقل كتاب خالد بن الوليد رضي اللّه عنه إلى رئيس عسكر فارس وكتاب الأمان من عمر رضي اللّه عنه لنصارى الشام ليظهر الحال على الناظر اللبيب.

أما الأول فصورته هكذا: (بسم اللّه الرحمن الرحيم من خالد ابن الوليد إلى رستم ومهران في ملأ فارس. سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإنا ندعوكم إلى الإسلام فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن أبيتم فإن معي قوماً يحبون القتل في سبيل اللّه، كما يحب فارس الخمر. والسلام على من اتبع الهدى).

وأما الثاني فصورته هكذا: (بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أماناً لأنفسهم وكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبرها وسائر ملتها، أنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقص منها ولا من صلبانهم ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم  ولا يسكن إيلياء أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وعلى صليبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء رجع إلى أرضه وأنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللّه وذمته وذمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك من الصحابة رضي اللّه عنهم خالد بن الوليد رضي اللّه عنه وعمرو بن العاص رضي اللّه عنه وعبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه ومعاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه) وكل الناس يعترفون أن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه كان شديداً في الإسلام في غاية الشدة، وكان جهاد الشام من أعظم جهاداته وكان جاء بنفسه الشريف عند محاصرة إيلياء، ولما تسلط على إيلياء وقبل المسيحيون الجزية ما قتل أحداً ولا أكره على الإيمان وأعطاهم شروطاً حسنة، وقد اعترف به مؤرخوهم ومفسروهم أيضاً، كما عرفت من كلام طامس نيوتن في الفصل الثالث من الباب الأول، وقد عرفت في الأمر الرابع من هذا المبحث من كلام المفسر المذكور ما فعل المسيحيون في حق المسلمين واليهود إذ تسلطوا على إيلياء.

والفرق بين الشريعة المحمدية والموسوية في مسألة الجهاد أن الشريعة المحمدية أن يدعى الكافر فيها:

أولاً: بالموعظة الحسنة إلى الإسلام بخلاف الشريعة الموسوية وظاهر أنه لا قبح في هذه الدعوة، والامتناع بعد الإيمان عن القتل عين الإنصاف.. في الآية الحادية عشر من الباب الثالث والثلاثين من كتاب حزقيال: (يقول الرب الإله لست أريد موت المنافق بل أن يتوت المنافق من طريقه). والآية السابعة من الباب الخامس والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: (فليترك المنافق طريقه ورجل السوء أفكاره، وليرجع إلى الرب فيرحمه وإلى آلهنا لأنه كثير الغفران).

والثاني: أنه كان حكم قتل النساء والصبيان إذا كانوا من الأمم السبعة في الشريعة الموسوية، بخلاف الشريعة المحمدية، فإن هؤلاء لا يقتلون وإن كانوا من مشركي العرب، كما كانوا لا يقتلون في الشريعة الموسوية أيضاً إذا كانوا من غير الأقوام السبعة.

فإذا تمهدت هذه الأمور الخمسة أقول لا شناعة في مسألة الجهاد الإسلامي نقلاً وعقلاً. أما نقلاً فلما عرفته في الأمور المذكورة وأما عقلاً فلأنه قد ثبت بالبرهان الصحيح أن إصلاح القوة النظرية مقدم على إصلاح القوة العملية فإصلاح العقائد مقدم على إصلاح الأعمال، وهذه مقدمة مسلمة عند كافة الملبين، ولذلك لا تفيد الأعمال الصالحة بدون الإيمان عندهم. ولا يعاندنا المسيحيون أيضاً في هذا الباب لأن الأعمال الصالحة بدون الإيمان بالمسيح لا تنجي عندهم أيضاً. وأن الجواد الحليم المتواضع الكافر بعيسى عليه السلام أشر عندهم من البخيل الغضوب المتكبر المؤمن بعيسى عليه السلام. وكذا قد ثبت بالتجربة الصحيحة أن الإنسان قد تنبه على خطأه وقبحه بتنبيه الغير، وكذا قد ثبت بالتجربة الصحيحة أن الإنسان لا يطيع الحق غالباً لأجل وجاهة قومه وشوكتهم، ولا يصغي إلى قول رجل من صنف آخر بل يأنف من سماع كلامه، سيما إذا كان هذا القول مخالفاً لطبائع صنفه وأصولهم، ويكون في قبوله لزوم المشقة في أداء العبادات البدنية والمالية بخلاف ما إذا انكسرت وجاهة قومه وشوكتهم فلا يأنف من الإصغاء، وكذا قد ثبت بالتجربة أن العدو إذا رأى أن مخالفه مائل إلى الدعة والسكون يطمع  في التسلط على مملكته، وهذا هو السبب الأغلبي في زوال الدول القديمة وبعد تسلطه تحصل المضرة العظيمة للدين والديانة ولذلك أضطر المسيحيون كافة إلى ما يخالف إنجيلهم المتداول:

فقال أهل ملة كاتلك: أن الكنيسة الرومانية لها سلطان حقيقي على كل مسيحي بواسطة العماد، لكون كل معتمد خاضعاً للكنيسة الرومانية ومرؤوساً منها وهي ملتزمة بقصاص العصاة بالعقوبات الكنائسية، وبأن تسلم المصرين على ضلالهم والمضرين للجمهور، إلى ذوي الولاية ليعاقبوهم بالموت، وبالتالي يمكنها إلزامهم بحفظ الإيمان الكاتلكي والشرائع الكنائسية تحت أي قصاص كان.

وقد نقل قولهم هذا إسحاق برد كان من علماء بروتستنت، في كتابه المسمى بكتاب الثلاث عشرة رسالة في الرسالة الثانية عشر في الصفحة 360 من النسخة المطبوعة سنة 1849 في بيروت.

وقال علماء بروتستنت من أهل إنكلترا سعادة الملك له الحكم الأعلى في مملكة إنكلترا هذه وفي ولاياته الأخر، وله السلطنة الأولى على جميع متعلقات هذه المملكة سواء كانت كنائسية أو مدنية في كل حال، وما هي خاضعة بل لا يصح أن تخضع لحاكم أجنبي، ويجوز للمسيحيين أن يتقلدوا السلاح بأمر الحكام ويباشروا الحروب. كما هو مصرح به في العقيدة السابعة والثلاثين من عقائد دينهم، فترك كلا الفريقين ظاهر أقوال عيسى عليه السلام أعني (لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين من سألك فأعطه). فإن هذه الأقوال تخالف ما مهدوه ولو عملوا على هذه الأقوال لا أقوال أزيد من هذا، إن سلطنة الإنكليز تزول من الهند في أيام معدودة ويخرجهم أهل الهند بلا كلفة.

ولذلك قال بعض الظرفاء الأذكياء أطال اللّه حياته قادحاً على هذه الأقوال إلزاماً: (تكليف للإنسان بما ليس في وسعه، ولا يمكن لدولة ما أن تعمل به، ولا يمكن إلزام أحد به إلا بعض الصيادين الذين لا رداء لهم فيؤخذ منهم ولا يعبؤون بإضاعة الوقت) انتهى كلامه.

ثم قال: (وذلك كله غير مذكور في مرقص ويوحنا مع أن النصارى كافة على إلقائهم العمل بهذه الأحكام ما زالوا يحتجون بها وبها يستدلون على أفضلية مذهبهم، فكيف ساغ إذا لمرقس ويوحنا أن يهملا ذلك ويتواطآ معاً على قصة حل الجحش. فهل من دأب المؤرخين أن يذكروا الخسيس من الأمور ويسكتوا عن الجليل، ولا سيما أنهم هم المخاطبون به ويمكن أن يقال أن من ذكره فإنما نظر إلى تكليف غيره، ومن سكت عنه فإنما خشي تكليف نفسه) انتهى كلامه بلفظه.

وقال بعض الملاحدة: إن هذه الأحكام التي يفخر بها المسيحيون لا تخلوا إما أن تكون مستحبة نظراً إلى بعض الحالات أو واجبة. فإن كانت مستحبة فلا بأس بها. لكنها لا تختص بالملة المسيحية فإن هذا الاستحباب نظراً إلى بعض الحالات يوجد في غير ملتهم أيضاً، وإن كانت واجبة فلا شك أنها منابع المفاسد والشرور وأسباب زوال الدول والراحة والاطمئنان والسرور وإذ ثبت ما ذكرت فلا شك في استحسان الجهاد عقلاً إذا كان جامعاً للشروط المذكورة في الشريعة المحمدية. وتذكرت حكاية مناسبة للمقام:

جاء بعض القسيسين في محكمة المفتي من محكمات الدولة الإنكليزية في الهند فقال: يا جناب المفتي لي سؤال على المسلمين أمهل المجيب إلى سنة لأداء جوابه. فأشار المفتي إلى ناظر المحكمة وكان رجلاً ظريفاً فقال: أي سؤال هذا قال القسيس: إن نبيكم ادعى أنه مأمور بالجهاد وما كان موسى مأمور به ولا عيسى. فقال الناظر: [ص 359] أهذا هو السؤال الذي تمهلنا إلى سنة لنتفكر في جوابه. قال القسيس: نعم. قال الناظر: لا نستمهلك، وأجيبك الآن لسببين: أما أولاً فلأنا متعلقون بالدولة الإنكليزية ولا فرصة لنا إلا في أيام التعطيل فمن يمهلنا إلى سنة. وأما ثانياً فلأن هذا السؤال لا يحتاج في جوابه إلى تأمل.. ماذا تقول في حق لجج (يعني الحاكم الإنكليزي الذي يكون بمنزلة القاضي في الشرع) أيجوز له بحسب القوانين الإنكليزية أن يقتل القاتل قصاصاً إذا ثبت القتل عليه عنده، قال القسيس: لا، لأنه ليس بمأمور بهذا، بل منصبه أن يرسل هذا القاتل إلى شيشن جج (يعني الحاكم الكبير منه). قال: أيجوز لهذا الحاكم الكبير بحسب القوانين أن يقتله إذا ثبت القتل عنده. قال القسيس: لا، لأنه ليس بمأمور أيضاً، بل منصبه أن يحقق الأمر ثانياً ويخبر الحاكم الذي هو أعلى منه حتى يصدر حكم القتل عن هذا الأعلى ثم يحكم هذا الكبير بقتله. فقال الناظر: أهؤلاء الحكام الثلاثة ليسوا بمتعلقين بالدولة الواحدة الإنكليزية. قال القسيس: بلى لكن اختلاف الاقتدار لأجل مناصبهم. فقال الناظر: الآن ظهر الجواب من كلامك، فلا بد أن تعلم أن موسى وعيسى عليهما السلام بمنزلة الحاكمين الأولين ونبينا بمنزلة الحاكم الثالث الأعلى، فكما لا يلزم من عدم اقتدار الحاكمين الأولين عدم اقتدار الثالث فكذا لا يلزم من عدم اقتدار موسى وعيسى عليه السلام عدم اقتدار محمد صلى اللّه عليه وسلم. فسكت القسيس وخرج خائباً.

فمن نظر إلى ما ذكرت بنظر الإنصاف، وتجنب عن العناد والاعتساف، علم يقيناً أن التشدد في مسألة الجهاد، وقتل المرتد والمرغب إلى عبادة الأوثان في الشريعة الموسوية، أشد وأكثر من التشدد الذي فيها في الشريعة المحمدية، وأن طعن المسيحيين خلاف الإنصاف جداً، وأتعجب من حالهم أنهم لا ينظرون إلى أن أسلافهم كيف أشاعوا ملتهم بالظلم وكيف قرروا القوانين الجورية لمخالفيهم. ولما طال هذا البحث لا أتعرض لهوساتهم المندرجة في رسائلهم. وفيما ذكرت  كفاية لذفع هذه الهوسات وباللّه التوفيق.

 

(المطعن الثاني) من شروط النبوة ظهور المعجزات على يد من يدعيها وما ظهرت معجزة على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم. كما يدل عليه ما وقع في سورة الأنعام: {ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا للّه يقص الحق، وهو خير الفاصلين}. وكذا ما وقع في تلك السورة: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون). وكذا ما وقع في سورة بني إسرائيل: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتي باللّه، والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}. وكذا بعض الآيات الأخر.

(والجواب) أن الأمور الثلاثة التي ذكرها السائل تغليطات.

أما الأول: فلأن صدور المعجزة ليس من شروط النبوة على حكم هذا الإنجيل المتعارف، فعدم صدورها لا يدل على عدم النبوة.. في الآية الحادية والأربعين من الباب العاشر من إنجيل يوحنا هكذا: (فأتى إليه كثيرون، وقالوا إن يوحنا لم يفعل آية واحدة).. وفي الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: (يوحنا عند الجميع نبي).. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1835 (كلهم يحسبون يحيى نبياً). وقد وقع في الباب الحادي عشر من إنجيل متى قول عيسى عليه السلام في حقه: (إنه أفضل من نبي). فهذا الأفضل من الأنبياء لم تصدر عنه معجزة من المعجزات على شهادة كثيرين مع أن نبوته مسلمة عند المسيحيين.

وأما الأمر الثاني: فغلط بحت كما عرفت في الفصل الأول.

والأمر الثالث: إما غلط منهم أو تغليط. لأن المراد بما في قوله تعالى ما تستعجلون به الواقع في الآية الأولى، العذاب الذي استعجلوه بقولهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء أو أتنا بعذاب أليم}، ومعنى الآية {ما عندي ما تستعجلون به} أي العذاب الذي تستعجلون به {إن الحكم إلا للّه} في تعجيل العذاب، وتأخيره {يقص الحق} أي يقضي القضاء الحق من تعجيل وتأخير، {وهو خير الفاصلين} أي القاضين. فحاصل الآية أن العذاب ينزل عليكم في الوقت الذي أراد اللّه إنزاله، ولا قدرة لي على تقدمه، أو تأخيره. وقد نزل عليهم يوم بدر وما بعده فلا تدل هذه الآية على أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم لم تصدر عنه معجزة.

وأما الآية الثانية فمعناها {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} مصدر في موضع الحال {لئن جاءتهم آية} من مقترحاتهم {ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند اللّه} هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء {وما يشعركم} استفهام إنكار {أنها} أي الآية المقترحة {إذا جاءت لا يؤمنون} أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون بها، وهذا القول يدل على أنه تعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون.

وأما الآية الثالثة فمعناها {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض} أي أرض مكة {ينبوعاً} أي عيناً غزيرة لا ينضب ماؤها {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} يعنون قوله تعالى: {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء}، {أو تأتي باللّه والملائكة قبيلاً} أي شاهداً على صحة ما تدعيه ضامناً لدركه {أو يكون لك بيت من زخرف} أي من ذهب {أو ترقى في السماء} أي في معارجها {ولن نؤمن لرقيك} وحده {حتى تنزل علينا كتاباً} من السماء فيه تصديقك. عن ابن عباس: قال عبد اللّه بن أبي أمية: لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك منشور معه  أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول {نقرؤه قل سبحان ربي} تعجباً من اقتراحاتهم {هل كنت إلا بشراً رسولاً} كسائر الرسل. وما كان مقصودهم بهذه الاقتراحات إلا العناد، واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر. كما قال اللّه عز وجل: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس}، {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء}، وكذا حال بعض آيات أخر، يفهم منه في الظاهر نفي إظهار الآية، لكن المقصود به نفي المعجزة المقترحة، ولا يلزم من هذا النفي، نفي المعجزات مطلقاً، ولا يلزم على الأنبياء أن يظهروا معجزة كلما طلبها المنكرون، بل هم لا يظهرون إذا طلب المنكرون عناداً أو امتحاناً أو استهزاء، وأورد لهذا الأمر شواهد من العهد الجديد:

(الأول) في الباب الثامن من إنجيل مرقس هكذا: 11 (فخرج الفريسيون وابتدؤوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه) 12 (فتنهد بروحه وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية الحق، أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية، فالفريسيون طلبوا معجزة من عيسى عليه السلام على سبيل الامتحان، فما أظهر معجزة، ولا أحال في ذلك الوقت إلى معجزة صدرت عنه فيما قبل، ولا وعد بإظهارها فيما بعد أيضاً، بل قوله لن يعطى هذا الجيل آية، يدل على أن المعجزة لا تصدر عنه فيما بعد هذا البتة، لأن لفظ الجيل يشمل الجميع الذين كانوا في زمانه.

(الثاني) في الباب الثالث والعشرين من إنجيل لوقا هكذا: 8 (وأما هيردوس فلما رأى يسوع فرح جداً لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه) 9 (وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء) 10 (ووقف رؤوساء الكهنة، والكتبة يشتكون عليه باشتداده) 11 (فاحتقره هيردوس مع عسكره واستهزأ به، وألبسه لباساً لامعاً ورده إلى بيلاطس) فعيسى عليه السلام ما أظهر معجزة في ذلك الوقت، وقد  كان هيردوس يترجى أن يرى منه آية، والأغلب أنه لو رأى لألزم اليهود على اشتكائهم ولما احتقر مع عسكره ولما استهزأ.

(الثالث) في الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا هكذا: 63 (والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزؤون به وهم يجلدونه) 64 (وغطوه، وكانوا يضربون وجهه، ويسألونه قائلين تنبأ من هو الذي ضربك، وأشياء أخر كثيرة، كانوا يقولون عليه مجدفين). ولما كان سؤالهم استهزاء وتوهيناً، ما أجابهم عيسى عليه السلام.

(الرابع) في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: 39 (وكان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزؤن رؤوسهم) 40 (قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك إن كنت ابن اللّه فانزل الآن عن الصليب) 41 (وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزؤون مع الكتبة والشيوخ قالوا خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به) 43 (قد اتكل على اللّه فلينقذه الآن إن أراده لأنه قال أنا ابن اللّه) 44 (وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه ليعيرانه) فما خلص نفسه عيسى عليه السلام في هذا الوقت، وما نزل عن الصليب وإن عيره المجتازون، ورؤساء الكهنة، والكتبة، والشيوخ، واللصان. ورؤساء الكهنة، والكتبة، والشيوخ كانوا يقولون إنه إن نزل عن الصليب نؤمن به، فكان عليه لدفع العار، ولإلزام الحجة أن ينزل مرة عن الصليب ثم يصعد.. ولكنهم لما كان مقصودهم العناد، والاستهزاء، ما أجابهم عيسى عليه السلام.

(الخامس) في الباب الثاني عشر من إنجيل متى هكذا: 38 (حينئذ أجاب قوم من الكتبة، والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية) 39 (فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي) 40 (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام، وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام، وثلاث ليال) فطلب الكتبة والفريسيون معجزة، فما أظهرها عيسى عليه السلام في هذا الوقت، وما أحالهم إلى معجزة صدرت عنه فيما قبل هذا السؤال، بل سبهم وأطلق عليهم لفظ الفاسق والشرير، ووعد بالمعجزة التي لم تصدر عنه، لأن قوله كما كان يونان في بطن الحوت الخ، غلط بلا شبهة كما علمت في الفصل الثالث من الباب الأول وإن قطعنا النظر عن كونه غلطاً فمطلق قيامه لم ير الكتبة، والفريسيون بأعينهم، ولو قام عيسى عليه السلام من الأموات، كان عليه أن يظهر نفسه على هؤلاء المنكرين الطالبين آية ليصير حجة عليهم، ووفاء بالوعد. وهو ما أظهر نفسه عليهم، ولا على اليهود الآخرين، ولو مرة واحدة، ولذلك لا يعتقدون هذا القيام، بل هم يقولون من ذاك العهد إلى هذا الحين، أن تلاميذه سرقوا جثته من القبر ليلاً.

(السادس) في الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: (فتقدم إليه المجرب، وقال له إن كنت ابن اللّه فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً) 4 (فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم اللّه) 5 (ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل) 6 (وقال له إن كنت ابن اللّه فاطرح نفسك إلى الأسفل لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لا تصدم بحجر رجلك) 7 (قال له يسوع مكتوب أيضاً لا تجرب الرب إلهك). فطلب إبليس على سبيل الامتحان من عيسى عليه السلام معجزتين، فما أجاب بواحدة منهما، واعترف في المرة الثانية أنه لا يليق بالمربوب أن يجرب ربه، بل مقتضى العبودية مراعاة الأدب وعدم التجربة.

 (السابع) في الباب السادس من إنجيل يوحنا هكذا: 29 (أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل اللّه لن تؤمنوا بالذي هو أرسله) 30 (فقالوا له: فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك) 31 (ماذا تعمل آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا). فاليهود طلبوا معجزة فما أظهرها عيسى عليه السلام، ولا أحال إلى معجزة فعلها قبل هذا السؤال، بل تكلم بكلام مجمل، لم يفهمه أكثر السامعين بل ارتد كثير من تلاميذه بسببه. كما هو مصرح به في الآية السادسة والستين من الباب المذكور وهي في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ومن هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1835: (ومن ثم ارتد كثير من تلاميذه على أعقابهم ولم يماشوه بعد ذلك أبداً).

(الثامن) في الباب الأول من الرسالة إلى أهل قورنيثوس هكذا: 22 (فإن اليهود يسألون معجزة واليونانيون يطلبون حكمة) 23 (ونحن نكرز بالمسيح المصلوب وذلك معثرة لليهود وحماقة لليونانيين). فاليهود كما كانوا يطلبون المعجزة من المسيح عليه السلام كانوا يطلبونها من الحواريين أيضاً، وأقر مقدسهم بولس بأنهم يطلبون المعجزة ونحن نكرز بالمسيح المصلوب. فظهر من هذه العبارات المنقولة أن عيسى عليه السلام والحواريين ما أظهروا معجزة بين أيدي الطالبين في الأوقات التي طلبوا المعجزات فيها، ولا أحالوا المنكرين إلى معجزة فعلوها قبل هذه الأوقات، فلو استدل أحد بالآيات المذكورة على أن عيسى عليه السلام والحواريين، ما كان لهم قدرة على إظهار أمر خارق للعادات، وإلا لصدر عنهم في الأوقات المذكورة وأحالوا المنكرين إلى أمر خارق صدر عنهم قبل هذه الأوقات. فلما لم يظهر منهم أحد الأمرين ثبت أنهم ما كان لهم قدرة على إظهاره، يكون هذا الاستدلال عند القديسين محمولاً على الاعتساف ويكون قوله خلاف  الإنصاف، فكذا قول القسيسين عندنا بالتمسك ببعض الآيات القرآنية التي عرفت حالها خلاف الإنصاف وعين الاعتساف، كيف لا وأن المعجزات المحمدية مصرح بها في القرآن والأحاديث الصحيحة، كما عرفت في الفصل الأول وجاء ذكرها إجمالاً أيضاً في مواضع متعددة من القرآن:‏

1- في سورة الصافات: {وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين).. في الكشاف {وإذا رأوا آية} من آيات اللّه البينة كانشقاق القمر ونحوه {يستسخرون} يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.. وفي التفسير الكبير: (والرابع من الأمور التي حكاها اللّه تعالى عنهم أنهم قالوا إن هذا إلا سحر مبين، يعني أنهم إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها، والسبب في تلك السخرية اعتقادهم أنها من باب السحر، وقوله مبين: معناه أن كونه سحراً أمر بين لا شبهة لأحد فيه) انتهى كلامه.. وفي البيضاوي: {وإذا رأوا آية} تدل على صدق القائل {يستسخرون} يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها {وقالوا إن هذا} يعنون ما يرونه {إلا سحر مبين} ظاهر سحريته انتهى.. وفي الجلالين {وإذا رأوا آية} كانشقاق القمر {يستسخرون} يستهزؤون بها {وقالوا} فيها {إن} ما {هذا إلا سحر مبين} بين. انتهى، ومثله في الحسيني.‏

2- وفي سورة القمر: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} وقد عرفتها في الفصل الأول.‏

3-  وفي سورة آل عمران: {كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات}.. في الكشاف في تفسير قوله (البينات) الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة. انتهى كلامه، ولفظ البينات إذا كان موصوفه مقدراً فيستعمل في القرآن غالباً بمعنى المعجزات، واستعماله في غيرها في تلك الصورة قليل جداً فلا يحمل على المعنى القليل، بدون القرينة القوية في سورة البقرة: {وآتينا عيسى بن مريم البينات}، وفي سورة النساء: {ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات}، وفي سورة المائدة: {إذ جئتهم بالبينات}، وفي سورة الأعراف: {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} وفي سورة يونس: {وجاءتهم رسلهم بالبينات}، ثم في تلك السورة: {فجاؤوهم بالبينات}، وفي سورة النحل: {بالبينات والزبر}، وفي سورة طه: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات}، وفي سورة المؤمن: {وقد جاءكم بالبينات من ربكم}، وفي سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}، وفي سورة التغابن: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} وكذا في غير هذه المواضع.‏

4- في سورة الأنعام: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون}.. في البيضاوي: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً} كقولهم الملائكة بنات اللّه وهؤلاء شفعاؤنا عند اللّه {أو كذب بآياته} كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحراً، وإنما ذكر أو وهم جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلاً منها وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس انتهى.

.. وفي الكشاف جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على اللّه وكذبوا بما ثبت بالحجة والبينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا، وقالوا اللّه أمرنا بها وقالوا الملائكة بنات اللّه وهؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا بالقرآن والمعجزات، وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول، انتهى.

.. وفي التفسير الكبير والنوع الثاني من خسارتهم تكذيبهم بآيات اللّه والمراد منه قدحهم في معجزات النبي صلى اللّه عليه وسلم وطعنهم فيها، وإنكارهم كون القرآن معجزة باهرة بينة، انتهى.

.. وفي تلك السورة أيضاً: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مثل ما أوتي رسل اللّه اللّه أعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه وعذاب شديد بما كانوا يمكرون}.

..وفي التفسير الكبير في تفسير قوله: {وإذا جاءتهم} أنهم متى ظهرت لهم معجزة باهرة. انتهى.

والبابا الكزندر كان يعتقد أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم صاحب الإلهام، وإن لم يكن ذلك الإلهام عنده واجب التسليم، وقع في المجلد الخامس من كتابه المسمى بدنيد هي هذه الفقرة (يا محمد إن الحمامة عند أذنك) ونقلت هذه الفقرة عن المجلد المطبوع سنة 1897 وسنة 1806 في لندن، لكنها في النسخة الأولى في الصفحة 267، وفي النسخة الثانية في الصفحة 303، ولعل البابا أسند إلهام محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى الحمامة، لأن الإلهام عند المسيحيين يكون بواسطة روح القدس، وقد نزل روح القدس على عيسى عليه السلام بعد ما فرغ من الاصطباغ على صورة الحمامة. كما هو مصرح به في الباب الثالث من إنجيل متى، فظن أن إلهام محمد صلى اللّه عليه وسلم يكون بواسطة الحمامة.

(المطعن الثالث) باعتبار النساء وهو على خمسة أوجه:

(الأول) أن المسلمين لا يجوز لهم أزيد من أربع زوجات، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم لم يكتف بها بل أخذ تسعاً لنفسه، وأظهر حكم اللّه في حقه أن اللّه أجازني لأن أتزوج بأزيد من أربع.

(والثاني) أن المسلمين يجب العدل عليهم بين نسائهم، وأظهر حكم اللّه في حقه أن هذا العدل ليس بواجب عليه.

(والثالث) أنه دخل بيت زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، فلما رفع الستر وقع نظره على زينب بنت جحش زوجة زيد رضي اللّه عنهما، فوقعت في نفسه وقال  سبحان اللّه. فلما اطلع زيد على هذا الأمر طلقها فتزوج بها، وأظهر أن اللّه أجازني للتزويج.

(والرابع) أنه خلا بمارية القبطية رضي اللّه عنها، في بيت حفصة رضي اللّه عنها. في يوم نوبتها، فغضبت حفصة رضي اللّه عنها، فقال محمد صلى اللّه عليه وسلم: حرمت مارية على نفسي، ثم لم يقدر أن يبقى على التحريم. فأظهر أن اللّه أجازه لإبطال اليمين بأداء الكفارة.

(والخامس) أنه يجوز في حق متبعيه، إن مات أحد منهم أن يتزوج الآخر زوجته، بعد انقضاء عدتها، وأظهر حكم اللّه في حقه أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج زوجة من زوجاته بعد مماته.

وهذه الوجوه الخمسة منتهى جهدهم في المطعن باعتبار النساء. وتوجد هذه الوجوه كلها أو بعضها في أكثر رسائلهم مثل ميزان الحق، وتحقيق الدين الحق، ودافع البهتان، ودلائل إثبات رسالة المسيح، ودلائل النبوة، ورد اللغو وغيرها. وأنا أمهد أموراً ثمانية يظهر منها جواب هذه الوجوه كلها فأقول:

(الأمر الأول) أن تزوج أكثر من امرأة واحدة كان جائزاً في الشرائع السابقة:

لأن إبراهيم عليه السلام تزوج بسارة ثم بهاجر في حياة سارة، وهو كان خليل اللّه، وكان اللّه يوحي إليه ويرشده إلى أمور الخير، فلو لم يكن النكاح الثاني جائزاً لما أبقاه عليه بل أمره بفسخه وحرمته.

ولأن يعقوب عليه السلام تزوج بأربع نسوة، ليا وراحيل وبلها وزلفا، فالأوليان منهما أختان ابتنا لابان خاله، والأخريان جاريتان. والجمع بين الأختين حرام قطعي في شريعة موسى عليه السلام، كما علمت في الباب الثالث. فلو كان التزوج بأكثر من امرأة واحدة حراماً، لزم أن يكون أولاده من تلك الأزواج، أولاد حرام والعياذ باللّه، وكان اللّه يوحي إليه ويرشده إلى أمور الخير، فكيف يتصور أن يرشده في أمور خسيسة، ولا يرشده في هذا الأمر العظيم. فإبقاء اللّه يعقوب عليه السلام على نكاح تلك الأربعة سيما الأختين دليل بين على جواز مثل هذا التزوج في شريعته.

ولأن جدعون بن يواش تزوج نساء كثيرة في الباب الثامن من سفر القضاة هكذا: 30 (وكان له سبعون ابناً خرجوا من صلبه لأن كانت له نساء كثيرة) 31 (وسريته التي كانت له في شخيم ولدت له ابناً اسمه ابيمالك). ونبوته ظاهرة من الباب السادس والسابع من السفر المذكور، ومن الباب الحادي عشر من الرسالة العبرانية.

ولأن داود عليه السلام تزوج نساء كثيرة. تزوج أولاً ميخال بنت شاوول، وكان بدل المهر مائة غلفة من غلف الفلسطانيين، وأعطاه داود عليه السلام مائتي غلفة من غلفهم، فأعطى شاوول داود عليه السلام ابنته ميخال.. الآية السابعة والعشرون من الباب الثامن عشر من سفر صموئيل الأول هكذا: (فمضت أيام قليلة وقام داود عليه السلام وانطلق هو ورجاله وقتل من الفلسطانيين مائتي رجل وأتى داود عليه السلام بغلفهم إلى الملك ودفعها للملك بالتمام ليكون له ختناً فأعطى شاوول ميخال ابنته له امرأة).

والملاحدة يستهزؤون بهذا البدل من المهر، ويقولون أكان شاوول يريد أن يسوي من هذه الغلف حميلاً ويعيطه بنته في الجهاز، أم كان غرضه شيئاً آخر. لكني أقطع النظر عن استهزائهم وأقول: لما بغى داود عليه السلام على شاوول، أعطى شاوول ميخال فلطى بن ليس الذي هو من جليم، كما هو مصرح به في آخر الباب الخامس والعشرين من السفر المذكور. وتزوج داود عليه السلام بست نساء أخرى - احينعام الازراعايلية 1 بيغال 2 ومعهما ابنة تلمى ملك جاشور 3 وحجبت 4 وابيطل 5 وعجلا 6 - كما هو مصرح به في الباب الثالث من سفر صموئيل الثاني. ومع كون هذه الست، ما زالت محبة ميخال عن قلبه الشريف، وإن كانت في فراش الغير فلذلك لما قتل شاوول، طلب داود من اسباسوت بن شاوول زوجته ميخال، وقال له: رد على امرأتي ميخال التي خطبتها بمائة غلفة من غلف أهل فلسطين. فأخذها أسباسوت قهراً من فلطى بن ليس وأرسلها إلى داود، فجاء هذا فلطى باكياً خلفها إلى بحوريم ثم رجع. كما هو مصرح به في الباب المذكور. فبعد ما وصلت ميخال إلى داود عليه السلام مرة أخرى صارت له زوجة، وكمل عدد الزوجات السبع، ثم أخذ داود نساء أخرى، وسراري لم يصرح بعددها في كتبهم المقدسة.. الآية الثالثة عشر من الباب الخامس من سفر صموئيل الثاني هكذا: (وأخذ داود أيضاً نساء وسراري من أورشليم من بعد أن أتى من هارون وولد لداود أيضاً بنون وبنات).

.. ثم زنى بامرأة أوريا وقتل زوجها بالحيلة، ثم أخذها. فعاتبه اللّه على هذا الزنا كما علمت في أول هذا الفصل. وداود عليه السلام، وإن كان خاطئاً في هذا الزنا والتزويج بتلك الامرأة، لكنه لم يكن عاصياً في تزوج جم غفير من نساء أخرى، وإلا لعاتبه اللّه على تزوجهن كما عاتبه على تزوج امرأة أوريا، فعاتبه اللّه على تزوجها. بل أظهر رضاه على هذا التزوج، ونسب إعطاءها إلى نفسه وقال: وإذا كانت هذه قليلة أزيد مثلهن ومثلهن، وقول اللّه تعالى في حق داود عليه السلام على لسان ناثان النبي عليه السلام.. في الآية الثامنة من الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1822 وسنة 1831 وسنة 1844 في لندن على النسخة المطبوعة في رومية العظمى سنة 1671 هكذا: (ووهبت لك بيت مولاك ونساء سيدك اضطجعت في حضنك ووهبت لك بيت إسرائيل ويهوذا وإذا كانت هذه قليلة فأزيدك مثلهن ومثلهن). فقوله وهبت على صيغة المتكلم في الموضعين، وقوله إذا كانت هذه قليلة فأزيدك  مثلهن ومثلهن يدلان على ما قلت. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 الجملة الأخيرة هكذا: (فإذا كانت عندك قليلة كان ينبغي لك أن تقول فأزيد مثلهن ومثلهن).

.. وتزوج في آخر عمره شابة عذراء أخرى اسمها أبى شاغ الشونامية وكانت جميلة جداً، كما هو مصرح به في الباب الأول من سفر السلاطين الأول.

ولأن سليمان عليه السلام، تزوج بألف امرأة، سبعمائة منهن حرات من بنات السلاطين وثلثمائة جوار. وارتد بإغوائهن في آخر عمره وبنى المعابد للأصنام، كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.

ولا يفهم من موضع من مواضع التوراة، حرمة التزوج بأزيد من امراة واحدة، ولو كان حراماً لصرح موسى عليه السلام بحرمته، كما صرح بسائر المحرمات وشدد في إظهار تحريمها، بل يفهم جوازه من مواضع. لأنك قد علمت في جواب الطعن الأول أن الأبكار التي كانت من غنيمة المديانيين، كانت اثنتين وثلاثين ألفاً وقسمت على بني إسرائيل، سواء كانوا ذوي زوجات أو لم يكونوا، ولا يوجد فيه تخصيص العزب.

وفي الباب الحادي والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: 10 (وإذا خرجت إلى القتال مع أعدائك وأسلمهم الرب إلهك في يدك وسبيتهم) 11 (ورأيت في جملة المسبيين امرأة حسنة وأحببتها، وأردت أن تتخذها لك امرأة) 12 (فأدخلها إلى بيتك وهي تحلق رأسها وتقص أظفارها) 13 (وتنزع عنها الرداء الذي سبيت به وتجلس في بيتك وتبكي على أبيها وأمها مدة شهر ثم تدخل إليها وترقد معها ولتكن لك امرأة) 14 (فإن كانت بعد ذلك لا تهواها نفسك فسرحها حرة ولا تستطيع أن تبيعها بثمن ولا تقهرها أنك قد  ذليتها) 15 (وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكون لهما منه بنون وكان ابن المبغوضة بكراً) 16 (وأراد أن يقسم رزقه بين أولاده فلا يستطيع يعمل ابن المحبوبة بكراً ويقدمه على ابن المبغوضة) 17 (ولكنه يعرف ابن المبغوضة أنه هو البكر ويعيطه من كل ما كان له الضعف من أجل أنه هو أول بنيه ولهذا تجب البكورية). فقوله ورأيت في جملة المسبيين الخ. لا تختص بمخاطب لا تكون له زوجة بل أعم، سواء كانت له زوجة أو لم تكن، ولا يوجد فيه التصريح أيضاً بأن هذا الحكم يختص بمسبية واحدة فقط، بل الظاهر أنه إذا رأى المخاطب أزيد من واحدة، وأراد أن يتخذها نساء كان له جائزاً، فجاز لكل إسرائيلي أخذ نساء كثيرة. ودلالة قوله وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة الخ. على ما ادعينا ظاهرة غير محتاجة إلى البيان. فثبت أن كثرة الأزواج ما كانت محرمة في شريعة موسى، فلذلك أخذ جدعون وداود وغيرهما من صالحي الأمة الموسوية نساء.

(الأمر الثاني) الصحيح في قصة زينب رضي اللّه عنها، أنها بنت عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكانت عند مولاه زيد بن حارثة رضي اللّه عنه ثم طلقها زيد ولما انقضت عدتها تزوج بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وأنا أنقل بعض آيات سورة الأحزاب المتعلقة بهذه القصة مع عبارة التفسير الكبير وهي هكذا: {وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه} وهو زيد، أنعم اللّه عليه بالإسلام {وأنعمت عليه} بالتحرير والإعتاق {أمسك عليك زوجك} همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: أمسك، أي لا تطلقها {واتق اللّه} قيل في الطلاق وقيل في الشكوى من زينب فإن زيد قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه}  من أنك تريد التزوج بزينب {وتخشى الناس} من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الابن {واللّه أحق أن تخشاه}. ليس إشارة إلى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، خشي الناس ولم يخش اللّه، بل المعنى اللّه أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحداً معه، وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً، فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللّه} ثم قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها، وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته، وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن، وكذلك إذا كانت في العدة، له بها تعلق لإمكان شغل الرحم، فلم يقض منها بعد وطره، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها، ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر. وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز، فلهذا قال: فلما قضى. وكذلك قوله: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً} أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم {وكان أمر اللّه مفعولاً} أي مقضياً ما قضاه كائن. ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها، مع أنه كان مبيناً لشرع مشتمل على فائدة، كان خالياً عن المفاسد، انتهى كلامه بلفظه.

فظهر أن زينب رضي اللّه عنها، كانت تتكبر على زيد بسبب النسب وعدم الكفاءة، وهذا الأمر كان سبب عدم المحبة بينهما، فأراد زيد رضي اللّه عنه أن يطلقها، فمنعه النبي صلى اللّه عليه وسلم، لكنه طلقها آخر الأمر. فلما انقضت عدتها تزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لبيان الشريعة لا لأجل قضاء الشهوة. وكان قبل نزول الحكم مخفياً لهذا الأمر لأجل عادة العرب، ولا بأس فيه كما ستعرف في الأمر الثالث إن شاء اللّه تعالى. والرواية التي وقعت في البيضاوي، ضعيفة عند  محققي أهل الحديث. كما صرح به المحقق المحدث الشيخ عبد الحق الدهلوي في بعض تصنيفاته وفي شرح المواقف: (وما يقال أنه أحبها حين رآها فما يجب صيانة النبي صلى اللّه عليه وسلم عن مثله) انتهى.

(الأمر الثالث) أن الأمور الشرعية، لا يجب أن تكون متحدة في جميع الشرائع، أو مطابقة لعادات الأقوام وآرائهم. أما الأول فقد عرفت بما لا مزيد عليه في الباب الثالث، وقد عرفت فيه أن سارة زوجة إبراهيم عليه السلام كانت أختاً علانية له، وأن يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، وأن عمران أبا موسى عليه السلام تزوج بعمته، وهذه الزوجات الثلاث محرمة في الشريعة الموسوية والعيسوية والمحمدية، وبمنزلة الزنا سيما نكاح الأخت العلانية والعمة، وهذه الزوجات أقبح القبائح عند علماء مشركي الهند، فهم يشنعون تشنيعاً بليغاً ويستهزؤون بهؤلاء المتزوجين غاية الاستهزاء، وينسبون أولادهم إلى أشد أنواع الزنا.

وفي الباب الخامس من إنجيل لوقا هكذا: 29 (والذين كانوا متكئين معه كانوا جمعاً كثيراً من عشارين وآخرين) 30 (فتذمر كتبتهم والفريسيون على تلاميذه قائلين لماذا تأكلون وتشربون مع عشارين وخطاة) 33 (وقالوا لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيراً ويقدمون طلبات وكذلك تلاميذ الفريسيين أيضاً وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون فالكتبة والفريسيون الذين من أعظم فرق اليهود وأشرفها كانوا يشنعون على تلاميذ عيسى عليه السلام بأنهم يأكلون ويشربون مع الخطاة والعشارين وأنهم لا يصومون).

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل لوقا هكذا: 1 (وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه) 2 (فتذمر الفريسيون، والكتبة قائلين هذا يقبل الخطاة ويأكل معهم) فالفريسيون كانوا يشنعون على عيسى عليه السلام أنه يأكل مع الخطاة ويقبلهم.

وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال: 2 (ولما صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان) 3 (قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم).

وفي الباب السادس من إنجيل مرقس هكذا: 1 (واجتمع إليه الفريسيون وقوم من الكتبة قادمين من أورشليم) 2 (ولما رأوا بعضاً من تلاميذه يأكلون خبزاً بأيد دنسة أي غير مغسولة لاموا) 3 (لأن الفريسيين وكل اليهود إن لم يغسلوا أيديهم باعتناء لا يأكلون متمسكين بتقليد الشيوخ) 4 (ومن السوق إن لم يغتسلوا لا يأكلون، وأشياء أخر كثيرة تسلموها للتمسك بها من غسل كؤوس وأباريق، وآنية نحاس، وأسرة) 5 (ثم سأله الفريسيون، والكتبة لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقاليد الشيوخ بل يأكلون خبزاً بأيد غير مغسولة).

وفي ملة براهمة الهند، وغيرهم من أقوام مشركي الهند تشددات عظيمة، وعندهم لو أكل أحد منهم مع المسلم أو اليهودي والنصراني خرج عن ملته، ونكاح زوجة المتبنى بعد الطلاق، كان قبيحاً عند مشركي العرب. ولما كان زيد بن حارثة رضي اللّه عنه متبنى محمد صلى اللّه عليه وسلم، كان محمد صلى اللّه عليه وسلم أيضاً يخاف أولاً من طعن عوام المشركين في نكاح زينب رضي اللّه عنها، فلما أمره اللّه تزوج بها لبيان الشريعة، ولم يبال بعادة المشركين.

(الأمر الرابع) أن الطاعنين من علماء بروتستنت، لا يستحيون ولا ينظرون إلى بضاعات كتبهم المقدسة من الاختلافات، والأغلاط، والأحكام التي عرفت نبذاً منها في الباب الأول، والفصل الثاني والثالث من الباب الخامس. ومن ذنوب الأنبياء وعشائرهم وأصحابهم التي قد عرفتها في ابتداء هذا الفصل. وأريد أن لا أترك هذا الموضع أيضاً خالياً عن ذكر بعض الأمور المندرجة في التوراة، وإن حصل للناظر إطلاع على أمور كثيرة فيما سبق:

1 - في الباب الثلاثين من سفر التكوين هكذا: 37 (فأخذ يعقوب عصياً خضرة من حور، ولوز، ومن دلب، وكشف من بياضها والخضرة ظاهرة فيها فظهرت العصي المقشرة بلقاء، وبيضاء) 38 (ووتد العصى في مساقي الماء لكي إذا جاءت الغنم لتشرب تتوحم الغنم على العصى، وفي نظرها إليها تحمل) 39 (وصار أنه في حمية التوحم، النعاج تتبصر بالعصى، وتنتج منقطة ومتمرة مختلفة اللون) 40 (وعزل يعقوب القطيع، ووضع القضبان في المساقي أمام الكباش فكانت البيض، والسود كلها للابان، والباقي ليعقوب، والقطعان مفترقة بعضها عن بعض) 41 (فكان في كل عام ما حمل من الغنم أولاً جعل يعقوب القضبان قدام الغنم في المساقي ليتوحم الغنم على العصى) 42 (وما حمل منها أخيراً لم يجعلها فصار آخر نتاج الغنم للابان، وأوله ليعقوب) 43 (فاستغنى الرجل جداً جداً، وصارت له مواشي كثيرة، وإماء، وعبيد، وإبل، وحمير).

وهذا عجيب أيضاً، فإن الأولاد بحسب جرى العادة، غالباً تكون على شبه ألوان أصولهم، وأما كونهم على شبه ما يرونه من العصى وغيرها، فلا يتوهمه أحد من العقلاء أصلاً، وإلا يلزم أن يكون الأولاد المتولدة في الربيع خضراً كلهم.‏

2- في الباب الثالث عشر من سفر الأحبار هكذا: 46 (وإن كان في رداء أو في ثوب ضربة البرص من الصوف كان الثوب أو من الكتان) 47 (في السدا أو في اللحمة أو في جلدة أو في عمل أديم) 48 (فإن كانت الضربة بيضاء أو حمراء في الرداء أو في الجلد في السداء أو في اللحمة، أو في كل جلود الأديم فإنها ضربة برص فليروه) 49 (فينظر الحبر إلى الضربة ويحجز الحبر عليها سبعة أيام) 50 (وينظر إليها في اليوم السابع فإن رآها قد مشت في الرداء أو في السدا أو اللحمة أو في أديم أو في كل أدم يصنع الصنعة فإنها ضربة برص مر وهو نجس) 51 (فليحرق الحبر  الرداء أو السدا أو لفافة الصوفة أو الكتان أو كل أديم من جلد يكون فيه ضربة من أجل أنه برص فيحرقونه بالنار) 52 (وإن رأى الحبر أن الضربة لم تفش في الثوب أو في السدا أو في اللحمة أو في كل أديم من جلود) 53 (فليأمر الحبر فليغسل ما فيه الضربة، ويحجز عليه الحبر سبعة أيام أخر) 54 (وينظر الحبر إلى الضربة من بعد ما غسلوها فإن لم تكن تغير لونها، والضربة لم تتغير فإنه خبيث أحرقوه بالنار فإنها ضربة في جدته أو في بلاه) 55 (وإن رأى الحبر أنها قد استوت من بعد ما غسلت فليأمر الحبر فليلقط من الرداء أو من الجلد أو من السدا أو من اللحمة) 56 (فإن رأى أيضاً في الرداء أو في السدا أو في اللحمة أو في كل جلود الأدم جميع ما يستعمل من الجلود، فألقوه في النار فإن الضربة قد كثرت فيه) 57 (وكل رداء أو سدا أو لحمة أو أديم يذهب منه إذا غسل، فيغسل مرتين فيطهر) 58 (هذه سنة البرص في رداء الصوف أو الكتان أو السدا أو اللحمة أو كل جلود الأدم يطهره أو ينجسه).

فانظروا إلى هذه الأحكام فإنها ثمرات الأوهام، أيليق إحراق الجلود والثياب بأمثال هذه الوساوس.‏

3- في الباب الرابع عشر من سفر الأحبار هكذا: 34 (إذا دخلتم أرض كنعان التي أعطيكم ميراثاً إن كان ضربة برص في بيت) 35 (يخبر رب البيت الكاهن ويقول له إن ظهر في بيتي ضربة كأنها برص) 36 (يأمرهم الكاهن فيفرغون البيت قبل أن يدخل البيت لينظر إليه لئلا يتنجس كل ما في البيت ثم يدخل الكاهن لينظر ضربة البيت) 37 (فإن كان ضربة في حيطان البيت قشوراً صفراء أو حمراء ومنظرها أغمق من الحائط) 38 (فليخرج الكاهن خارجاً من البيت، وليقم بابه، ويحجز على ذلك البيت سبعة أيام) 39 (ثم يرجع في اليوم السابع فينظر، فإن رأى الضربة قد فشت في حيطان البيت) 40 (فليأمر  الكاهن بالحجارة التي فيها الضربة فتنقض، وتلقى خارجاً من القرية في موضع نجس) 41 (ويقشر ذلك البيت من داخل باستدارته، ويلقي التراب الذي قشر خارجاً من القرية في موضع نجس) 42 (تدخل حجارة أخرى في مكان تلك الحجارة، ويأخذون تراباً غير ذلك ويطلون به ويطين) 43 (فإن فشت الضربة، وكثرت في البيت من بعد ما قشر البيت وطين) 44 (فيدخل الكاهن وينظر إن كانت الضربة قد فشت في البيت، فليعلم أن في البيت برصاً مراً وهو نجس) 45 (ولساعته يهدمونه، ويلقون حجارته، وخشبه، وطينه بأسرها خارجة من القرية في موضع نجس) 46 (ومن دخل ذلك البيت وهو محجوز عليه يكون نجساً إلى الليل) 47 (ومن رقد فيه أو أكل فيه شيئاً فليغسل كسوته) 48 (وإن دخل الكاهن، ورأى البرص لم يفش في البيت بعد ما طين ثانياً فليطهره الكاهن من أجل أنه قد برئ من ضربته).

فهذه الأحكام أيضاً من ثمرات الأوهام، أتهدم البيوت بمثل هذه الأوهام، التي هي أوهن من نسج العنكبوت، أيعتقد عقلاء أوربا أن يكون الثوب، أو الجلد، أو البيت، أبرص قابلاً للإحراق أو الهدم.‏

4-  في الباب الخامس عشر من سفر الأحبار هكذا: 12 (وأي إناء من فخار مسه من يقطر زرعه فليكسر، وإن كان إناء من خشب أو نحاس فليغسل بالماء) 16 (وأيما رجل جنب أو خرجت منه جنابة يغسل جسده كله بالماء، ويكون نجساً إلى الليل) 23 (ومن مس ثوباً جلست عليه امرأة، وهي طامث يغسل ثيابه، ويستحم بالماء، ويكون نجساً إلى الليل) 24 (وإن اضطجع معها رجل فأصابه من حيضتها فإنه يكون جنباً سبعة أيام، وكل مضطجع يضطجع فإنه يكون نجساً).

ففي الحكم الأول بالنسبة إلى إناء الفخار إضاعة المال، وظاهر أنه  لا يسري شيء بمجرد المس فيه وإن توهم سريان شيء فيه، فَلِمَ لَمْ يكتف فيه بغسله بالماء، كما اكتفى في إناء الخشب، والنحاس. وفي الحكم الثاني ما معنى كونه نجساً إلى الليل بعد ما غسل الجسد كله بالماء. وفي الحكم الثالث أيضاً نظر لأن الظاهر أنه لا يسري شيء بمجرد مس الثوب، الذي جلست عليه الحائض في جسد الماس، وإن توهم سريان شيء، كان غسل العضو الذي به مس الثوب كافياً، وإن توهم سريان شيء بمجرد المس في سائر جسده، فما معنى كونه نجساً إلى الليل، بعد ما غسل الثياب، والجسد كلها، والعجب أن الرجل إذا جامع، أو احتلم، وصار جنباً، لا يجب عليه غسل الثياب بل يكفي غسل الجسد. وههنا بمجرد مس الثوب يلزم غسل الثياب أيضاً. والحكم الرابع أعجب من الثلاثة فإن الرجل بمجرد إصابة شيء من الحيض بم صار حكمه حكم الحائض، فكما هي تكون نجسة إلى سبعة أيام يكون هو أيضاً نجساً إلى سبعة أيام، وفي أحكام الحائض والمستحاضة أيضاً، تشددات عجيبة مذكورة في هذا الباب. وبالنظر إلى هذه الأحكام نجد النصارى كلهم أنجس الناس لأنهم لا يراعونها مطلقاً.‏

5- في الباب السادس عشر من سفر الأحبار هكذا: 7 (ثم يأخذ الجديين ويقيمهما أمام الرب مذبوحين في باب قبة الزمان) 8 (ويقترع عليهما قرعتين قرعة واحدة للرب وقرعة أخرى لعزرائيل) 9 (ويقرب هارون الجدي الذي أصابته قرعة الرب ويصيره قرباناً بدل الخطيئة) 10 (والجدي الذي وقعت قرعة عزرائيل يقوم حياً أمام الرب ليستغفر عليه ويسرحه لعزرائيل إلى القفر).

وهذا الحكم عجيب أيضاً، وما معنى القربان لعزرائيل وتسريحه إلى القفر، ولا ريب إنه لقربان لغير اللّه، ورأيت مشركي الهند أنهم يتركون الثيران على  أسماء آلهتهم، لكنهم يتركونها في الأسواق لا في القفر حتى تموت جوعاً وعطشاً.‏

6- في الباب الخامس والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: 5 (إذا سكن أخوة جميعاً فمات أحدهم وليس له ولد فلا تتزوج امرأة الميت برجل غريب، ولكن يأخذها أخوه ويقيم زرع أخيه) 6 (والولد البكر الذي يكون منها فليسمه باسم أخيه لئلا يبطل اسمه من إسرائيل) 7 (فإن لم يرض أن يأخذ امرأة أخيه التي تحق له بالسنة فتذهب المرأة إلى باب القرية إلى المشيخة وتقول لهم أن أخا زوجي لا يريد أن يقيم اسم أخيه في إسرائيل ولا يريد أن يأخذني له زوجة) 8 (ولوقتهم يطلبونه ويسألونه فإن أجاب وقال لا أريد أن أتزوجها) 9 (فتدنو المرأة منه قدام المشايخ وتخلع الخف من رجله وتبصق في وجهه وتقول هكذا يفعل بكل رجل لا يعمر بيت أخيه) 10 (ويدعي اسمه في إسرائيل بيت مخلوع الخلف).

وهذا الحكم عجيب أيضاً، لأن امرأة الميت، قد تكون عوراء، أو عمياء، أو عرجاء، أو شوهاء قبيحة الصورة، أو غير عفيفة، أو معيبة بعيب آخر، فكيف يرضى بها الرجل، وهذه الإقامة لزرع أخيه أيضاً عجيبة، وأعجب منها أن علماء بروتستنت تركوا هذا الحكم العظيم الشأن وقالوا: (لا يحل للرجل أن يتزوج زوجة أخيه). كما هو مصرح به في جدول القرابة والنسب، من كتاب الصلاة العامة، وغيرها من رسوم الكنيسة وطقوسها، على موجب استعمال الكنيسة الإنكليزية والأرلندية المطبوع سنة 1840 في قالته، مع أن بيان المحرمات، لا يوجد في الإنجيل، وما أخذوها إلا من التوراة.

(الأمر الخامس) أن المتقشف، إذا كان جل همته الاعتساف، يعترض بأمثال اعتراضاتهم على المسيح عليه السلام والحواريين.

في الباب السابع من إنجيل لوقا هكذا: 33 (جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فتقولون به شيطان) 34 (وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة) 36 (وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه فدخل بيت الفريسي واتكأ) 37 (وإذا امراة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب) 38 (ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب) 39 (فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك تكلم في نفسه قائلاً لو كان هذا نبياً لعلم مَنْ هذه الامرأة التي تلمسه وما هي إنها خاطئة) 44 (ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان انتظر هذه المرأة أني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها) 45 (قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي) 46 (بزيت لم تدهن رأسي وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي) 47 (من أجل ذلك أقول قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً والذي يغفر له قليل يحب قليلاً) 48 (ثم قال لها مغفور لك خطاياك) 49 (فابتدأ المتكؤون معه يقولون في أنفسهم من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً) 50 (فقال للمراة إيمانك قد خلصك اذهبي بسلام).

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 1 (وكان إنسان مريضاً وهو لعازر من بيت عيناً قرية مريم ومرثا أختها) 2 (وكانت مريم التي كان لعازر أخوها هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها) 5 (وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر) فهذه المحبوبة مريم هي التي كانت دهنت ومسحت رجلي عيسى عليه السلام.

وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا: 21 (لما قال يسوع هذا اضطرب  بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم أن واحداً منكم سيسلمني) 22 (فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فيمن قال عنه) 23 (وكان متكئاً في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه) 24 (فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه) 25 (فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو). ووقع في حق التلميذ، في الآية السادسة والعشرين من الباب التاسع عشر، والآية الثانية من الباب العشرين، والآية السابعة والآية العشرين من الباب الحادي والعشرينمن إنجيل يوحنا، أن يسوع كان يحبه.

وفي الباب الثامن من إنجيل لوقا هكذا: 1 (وعلى أثر ذلك كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت اللّه ومعه الاثنا عشر) 2 (وبعض نساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض مريم التي تدعي المجدلية التي خرج منها سبعة شاطين) 3 (وبونا امرأة خوزي وكيل هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن).

وظاهر أن الخمر أم الخبائث وقبيحة عند اللّه وسبب للضلال والكفر والهلاك ولا يناسب شربها للأتقياء وإزالة العقل من خواصها اللازمة سواء كان الشارب نبياً أو غير نبي ولذلك حرم اللّه شربها على هارون وأولاده إذا أرادوا الدخول في قبة الشهادة لأجل الخدمة وجعلها سبب الموت وجعل حرمتها عهداً أبدياً معهم.

في الباب العاشر من سفر الأخبار هكذا: 8 (وقال الرب لهارون) 9 (لا تشربوا خمراً ولا شيئاً آخر يسكر لا أنت ولا بنوك إذا أردتم الدخول في قبة الشهادة لئلا تموتوا ويكون هذا عهداً لكم إلى الأبد في أجيالكم). ولذلك منع ملك  الرب، زوجة ما نوح من شرب الخمر، وشرب كل مسكر وقت حملها، ليكون ولدها من الأتقياء، ولا يسري خبث المسكرات في هذا الولد التقي، وأكد على زوجها أيضاً، في هذا الباب في الباب الثالث عشر من سفر القضاء هكذا: 4 (إياك من شرب الخمر والمسكر ولا تأكلي شيئاً نجساً) 13 (فقال ملاك الرب لمنوح فليحذر عن جميع ما قلت لامرأتك) 14 (ولا تأكل شيئاً مما يخرج من الكرم ولا تشرب خمراً ولا مسكراً ولا تأكل شيئاً نجساً وتحفظ بكل ما أمرتها به وتفعل ما قلت لها) ولذلك لما بشر الملك زكريا، بولادة يحيى عليهما السلام، بين من أوصاف تقوى يحيى، أنه لا يشرب خمراً ولا مسكراً آخر.

الآية الخامسة عشر من الباب الأول من إنجيل لوقا هكذا: (لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب). ولذلك أشعيا عليه السلام، ذم شارب المسكر، وشهد أن الأنبياء والكهنة، ضلوا بسبب شرب الخمر والمسكرات.

الآية الثانية والعشرون من الباب الخامس من كتاب أشعيا هكذا: (الويل للأقوياء منكم على شرب الخمر والمقتدرين أن يمزجوا المسكرة).

والآية السابعة من الباب الثامن والعشرين من كتابه هكذا: (وهؤلاء أيضاً لم يفهموا بسبب الخمر وضلوا من المسكر الكاهن والنبي لم يعلموا للمسكر غرقوا في الخمر تاهوا من المسكر لم يعلموا الرؤيا ولم يفهموا القضاء).

وقد عرفت في أول هذا الفصل، أن نوحاً عليه السلام، شرب الخمر، وزال عقله، وصار عرياناً. وأن لوطاً شرب الخمر، وزال عقله، وفعل بابنتيه ما فعل، بحيث لم يسمع مثله من المولعين بشربها.

وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتزر بها ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ  ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها).

وقال اللوذعي الألمعي الظريف فارس مضمار البلاغة أطال اللّه بقاءه إلزاماً هكذا: (هذا يوهم أن عيسى عليه السلام وقتئذ كان قد سرت فيه الخمرة حتى لم يكن يدري ما يفعل، فإن غسل الأقدام لا يوجب التجرد عن الثياب) انتهى كلامه بلفظه.

وقال سليمان الحكيم النبي عليه السلام في ذم الشراب في كتابه سفر الأمثال في الباب الثالث والعشرين هكذا: 31 (لا تنظر إلى الخمر إذا اصفر وإذا شعشع لونه في الزجاج ويدخل لذيذاً) 32 (وفي نهاية أمره يلدغ كالحية ومثل ملك الحيات يسكب سمومه).

وكذا اختلاط النساء الشواب الأجنبيات مع الرجال الشبان، آفة شديدة لا ترجى العصمة، سيما إذا كان الرجل شاباً عزباً شارب الخمر، والمرأة فاحشة محبوبة وهي تدور معه وتخدمه بمالها ونفسها. وقد عرفت حال داود عليه السلام، أن نظراً واحداً إلى الامرأة الأجنبية، بلغه إلى ما بلغ، مع أنه كان كثير الأزواج وجاوز الخمسين. وكذا قد عرفت حال سليمان عليه السلام، أن النساء قد أزلن عقله وجعلناه مرتداً وثنياً في شيخوخته، بعد ما كان نبياً صالحاً في شبابه، ولما حصل له التجربة الكاملة من حال أبيه وأمه، ومن حال أخيه وأخته أمنون وثامار، ومن حال أسلافه مثل روبيل ويهودا، سيما من حال نفسه. شدد في هذا الباب تشديداً بليغاً في سفر الأمثال فقال:

في الباب الخامس: (لا تصغ إلى مكر الامرأة) 3 (لأن شفتي الامرأة الأجنبية تسكبان عسلاً، وحنجرتها ألطف من الدهن) 4 (ثم عاقبتها مرة كالعلقم، ومرهفة كسيف ذي فمين) 5 (رجلاها تنحدران إلى الموت وخطوتها تنفذ إلى الجحيم) 6 (تسلك أنت سبيل الحيات لأن طرقها ضالة لا تدرك) 7 (والآن  يا ابني اسمع مني، ولا تبعد عن أقوال فمي أجعل طريقك منها بعيداً، ولا تدن إلى أبواب منزلها) 20 (لماذا تضلك يا ابني الامرأة الغريبة وتحاضنك أجنبية).

ثم قال في الباب السادس: 24 (لنحفظك من امرأة رضية ومن لطافة لسان غريبة لا يشتهي قلبك جمالها ولا تقتنصك غمزاتها) 26 (فإن قيمة الزانية مقدارها خبزة واحدة وامرأة الرجل تصطاد النفس الكريمة) 27 (أيستطيع رجل أن يخفي في حجره ناراً وما تحترق ثيابه) 28 (أم يتمشى على جمر وما تحترق رجلاه) 29 (هكذا من يدخل إلى امرأة غريبة لا يتبرأ إذا لمسها).

ثم قال في الباب السابع: 24 (فالآن يا ابني استمعني وأصغ إلى أقوال فمي) 25 (لا تحنحن قلبك إلى طرقها ولا تضلن في مناهجها) 26 (فإنها قد طرحت كثيرين جرحى وهي قتلت كل قوي) 28 (بيتها هو طرق الجحيم محدرة إلى مطابق الموت).

ثم قال في الباب الثالث والعشرين: 33 (عيناك تنظران الأجنبيات وقلبك يتكلم بالملتويات) 34 (وتكون كنائم في قلب البحر وكمدير راقد إذ تلفت الدفة).

وكذا اختلاط الأمارد آفة بل أخوف من اختلاط النساء وأشنع كما شهد به المجربون، وإذا عرفت هذا، أقول أن عيسى عليه السلام لما كان شارب الخمر، حتى كان معاصروه يقولون أنه أكول شريب خمر، وكان شاباً عزباً، فإذا بلت مريم قدميه بدموعها، ولم تكف عن تقبيلهما منذ دخلت، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وكانت في هذا الوقت فاحشة مشهورة. فكيف نسى عيسى عليه السلام حال أسلافه، يهوذا وداود وسليمان عليهما السلام، وكيف نسي أقوال سليمان عليه السلام، وكيف لم يعلم أن قيمتها مقدار خبزة واحدة، وأن من لمسها لا يتبرأ، كما لا يمكن أن يخفى رجل في حجره ناراً، وما تحترق ثيابه، أو يمشي على جمر النار، وما تحترق رجلاه. فكيف أجاز لها بهذه الأمور، حتى اعترض عليه الفريسي، وكيف يتصور أن هذه الأمور لم تكن من مقتضى الشهوات النفسانية، وكيف غفر خطاياها وذنوبها على هذا الفعل. أهذه الأمور هي اللائقة لذات اللّه العادل المقدس.

ولذلك قال اللوذعي السابق ذكره: (وقد كانت وقتئذ بغياً مباحة، فهل يليق الآن بأحد مطارنة النصارى، إذا كان ضيفاً في بيت أحد معارفه، أن يأذن لقبيحة فاحشة في أن تغسل رجليه بمحضر ملأ من الناس، من غير أن تبدي أمارة التوبة من قبل، لا سراً ولا جهراً) انتهى كلامه.

وكان يحب مريم، ويدور هو والاثنا عشر تلاميذه ومعهم نساء كثيرة يخدمنه من أموالهن. فكيف يتصور أنه لم تزل أقدامهم مع هذه المخالطة الشديدة، كما زل قدم روبيل، حتى زنى بزوجة أبيه، وقدم يهودا حتى زنى بكنته، وقدم داود عليه السلام حتى زنى بامرأة أوريا، وقدم أمنون حتى زنى بأخته.

ولذلك قال اللوذعي السابق ذكره: (وأغرب منه ما ذكره لوقا من أن عيسى وتلاميذه كانوا يجولون في القرى ومعهم نساء، منهن مريم هذه التي كان أمرها مشهوراً بالفجور والزنا، وأنت خبير بأنه لا يتأتى لكل واحد في البلاد الشرقية، وخصوصاً في القرى، أن يبيت وحده في محل مخصوص. فلا بد أن هؤلاء الأولياء كانوا يبيتون مع تلك الوليات معاً) انتهى كلامه بلفظه.

واحتمال مزلة أقدام الحواريين أقوى، لأنهم ما كانوا كاملين في الإيمان، قبل صعود المسيح عليه السلام، على ما أقر علماؤهم. فلا يظن في حقهم العصمة من الزنا، ألا ترى أن الأساقفة والشمامسة من فرقة كاتلك، لا يتزوجون ويدعون أن هذا الأمر من العفاف، ويفعلون ما لا يفعله الفاسق الغني من أهل الدنيا، كأن كنائسهم بيوت الفاحشات الزانيات.

في الصفحة 144 و 145 من كتاب الثلاث عشرة رسالة، في الرسالة الثانية هكذا: (القديس برنردوس يقول [1] وعظ عدد 66 في نشيد الإنشاد (نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس فملؤوها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الأدناس).

والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفا في بلاد البورتكال سنة 1300 يقول: يا ليت أن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة، ولا سيما أكليروس سبانيا، لأن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت.

ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر، كتب: (أنه وجد قسوساً قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا) انتهى كلامه بلفظه ملخصاً.

وشهادة قدمائهم هذه، تكفي في حق عصمة هؤلاء القسوس التي ادعوها، فلا حاجة إلى أن أزيد على هذه، بل أترك ذكرهم وأقول: مثلهم حال فقراء مشركي الهند الذين يدعون العصمة، ويفهمون الزواج أنه أشد المعائب لفقرهم وطريقتهم، وهم أفجر الناس وأفسقهم، لا يحصل للأمراء الفساق ما يحصل لهم.

وتذكرت حكاية: أن بعض المسافرين، لما وصل إلى قرية من قرى الهند، رأى جارية كاعبة تجيء من القرية، فسألها يا بنت أنت من بنات القرية أم من كناتها؟ فأجابت هذه اللاكعة: أيها السائل إني من بنات القرية، لكني أفضل من كناتها في قضاء الشهوة يحصل لي ما لم يحصل لإحداهن في الرؤيا والمنام.

فهؤلاء المجردون ذوو حظ جسيم من المتزوجين، فعند المنكرين كان عيسى عليه السلام، مستغنياً عن الزواج مطلقاً، وكان تلاميذه مستغنين إما عن الزواج مطلقاً، أو عن كثرة الأزواج مثل حضرات الشمامسة والقسوس من فرقة كاتلك، ومثل فقراء مشركي الهند. وكذا محبة عيسى عليه السلام لتلميذه، محل تهمة عند الذين ابتلوا بهذا الفحش القبيح.

ولذلك قال الألمعي السابق ذكره، على قول الإنجيلي الرابع أعني، فاتكأ ذاك على صدر يسوع، هكذا: (كالمرأة التي تحاول شيئاً من عاشقها فتتغنج له) انتهى كلامه بلفظه.

واعلم أني ما كتبت في هذا الأمر الخامس، كتبته إلزاماً، وإلا فإني أتبرأ من أمثال هذه التقريرات. ولا اعتقد أمراً منها في حق عيسى عليه السلام، ولا في حق حواريه الأمجاد، كما صرحت في مقدمة الكتاب، ومواضع متعددة.

(الأمر السادس) في الجلالين في سورة التحريم هكذا: (من الإيمان تحريم الأمة) انتهى. فقول النبي صلى اللّه عليه وسلم حرمت مارية على نفسي يمين بهذا المعنى.

(الأمر السابع) إذا قال النبي لا أفعل هذا الأمر ثم فعل، لأجل أنه كان جائزاً من الأصل، أو جاء إليه حكم اللّه، لا يقال أنه أذنب، بل في الصورة الثانية لو لم يفعل يكون عاصياً البتة. وعندهم يوجد مثله في حق اللّه في كتب العهد العتيق، فضلاً عن الأنبياء كما عرفت بما لا مزيد عليه، في أمثلة القسم الثاني من الباب الثالث، وفي جواب الشبهة الخامسة من الفصل الرابع من الباب الخامس. ويوجد في العهد الجديد، في حق عيسى عليه السلام، في الباب الخامس عشر من إنجيل متى، أن امرأة كنعانية استغاثت لأجل شفاء بنتها، فأبى عيسى عليه السلام فأجابت جواباً حسناً استحسنه عيسى عليه السلام، ودعا لابنتها فشفيت. وفي الباب الثاني من إنجيل يوحنا أن أم عيسى عليه السلام استدعت منه في عرس قانا الجليلي، أن يحول الماء خمراً، وقال ما لي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي، ثم حوله.

 (الأمر الثامن) لا بأس بأن يخصص أولياء اللّه بخصائص، ألا ترى أن هارون وأولاده كانوا مخصصين بأمور كثيرة، من خدمة قبة الشهادة، وما يتعلق بها، وما كانت هذه الأمور جائزة لبني لاوى الآخرين، فضلاً عن غيرهم من بني إسرائيل.

وإذا عرفت الأمور الثمانية، ظهر لك جواب مطعنهم بالوجوه الخمسة، لكني أتعجب كل العجب من هؤلاء المعاندين، أنهم لو رأوا في شريعة الغير أمراً لا يكون حسناً في آرائهم، يقولون أن هذا الأمر لا يجوز أن يكون من جانب اللّه. المقدس الحكيم العادل، أو يقولون أن هذا ليس بلائق بمنصب النبوة. ولو وجد أمر أشنع منه في شرائعهم، يكون من جانب اللّه، أو لائقاً بمنصب النبوة. فأمر اللّه لحزقيال عليه السلام أن يحمل إثم آل إسرائيل وآل يهوذا على نفسه، وأن يأكل إلى ثلثمائة وتسعين يوماً، خبزاً ملطخاً ببراز الإنسان. وكذا أمر اللّه لأشعيا عليه السلام، أن يمشي مكشوف العورة الغليظة، وعرياناً بين النساء والرجال إلى ثلاث سنين، مع كونه في قيد العقل. وكذا أمره لهوشع أن يأخذ لنفسه زوجة زانية وأولاد الزنا، وأن يتعشق بامرأة فاسقة محبوبة لزوجها. يكون كلها عندهم أموراً من جانب اللّه الحكيم المقدس، ولائقاً بمناصب هؤلاء الأنبياء المقدسين. وإجازة نكاح زينب بعد طلاق زوجها وانقضاء عدتها لا يمكن أن يكون من جانب اللّه، ولا يكون لائقاً بمنصب نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وكذا لا يسقط عن درجة النبوة، يعقوب عليه السلام الذي هو ابن اللّه البكر بنص التوراة، بسبب أن تعشق راحيل، وخدم أباها أربع عشرة سنة، وأخذ أربع زوجات، وجمع بين الأختين، وكذا لا يسقط عنها داود ابن اللّه البكر الآخر، بنص الزبور، بسبب أن أخذ نساء كثيرة، وجواري كثيرة، قبل أن يزني بامرأة أوريا بل تكون هذه النساء كلها بهبة اللّه ورضاه، ويكون داود عليه السلام  قابلاً لأن يقول اللّه في حقه: فإذا كانت عندك قليلة كان ينبغي لك أن تقول فأزيد مثلهن. ولا يصدر العتاب عليه على تكثير النساء، بل على أنه زنى بامرأة الغير، وقتل ذلك الغير بالحيلة، وأخذ تلك الامرأة. وكذا لا يسقط عنها سليمان عليه السلام، الذي هو ابن اللّه بشهادة كتبهم المقدسة بسبب أن أخذ ألف امرأة من الزوجات والجواري، وارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، بل يبقى مسلم النبوة ويكون كتبه الثلاثة، أعني الأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد، كتباً إلهية. وكذا لا يسقط لوط عنها، بسبب الزنا بابنتيه. وكذا لا يسقط عنها ابن اللّه الوحيد وحواريه الأمجاد، بسبب حب الفاحشة، وبعض التلاميذ، والجولان مع النساء في قرى البلاد الشرقية. بل لا يتهمون أيضاً بشيء مع هذه المخالطة الشديدة وكونهم شاربي الخمر وشباناً. ويسقط محمد صلى اللّه عليه وسلم عن درجة النبوة بكثرة الأزواج، ونكاح زينب، وتحليل جاريته بعد تحريمها. لعل منشأ هذه الأمور أن اللّه لما كان واحداً حقيقياً، لا تكثر في ذاته بوجه من الوجوه عند أهل الإسلام، فذاته المقدسة لا تسع أمراً غير مناسب، وعندهم لما كان ذاته مشتملة على الأقانيم الثلاثة المتصف كل منهم بصفات الألوهية كلها، الممتاز كل منهم عن الآخر امتيازاً حقيقياً تسع أمراً غير مناسب. لأن الامتياز الحقيقي، لا يمكن أن يفارق التعدد، بل يستلزمه البتة وإن لم يقروا بحسب الظاهر به، كما عرفت في الباب الرابع والثلاثة أكثر من الواحد.

فلعل إلههم في زعمهم أقوى من إله المسلمين، وكذلك لما لم تكن العصمة من ذنب من الذنوب، حتى الشرك وعبادة العجل والأصنام والزنا والسرقة والكذب حتى في تبليغ الوحي وغيرها من المعاصي، شرط للنبوة عندهم، كانت ساحة النبوة عندهم أوسع من ساحتها عند المسلمين أو لعل. منشأها أن يعقوب وداود وسليمان وعيسى لما كانوا أبناء اللّه، فلهم أن يفعلوا في مملكة أبيهم ما يشاؤون، بخلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنه لما كان عبد اللّه بن عبد اللّه، لا يجوز له أن يفعل في  مملكة مالكه وسيده ما يشاء. نعوذ باللّه من التعصب الباطل والاعتساف ومن المكابرة وعدم الإنصاف.

(المطعن الرابع) أن محمد صلى اللّه عليه وسلم كان مذنباً، وكل مذنب لا يصح أن يكون شافعاً للمذنبين الآخرين. أما الصغرى فلما وقع:

في سورة المؤمن: {فاصبر إن وعد اللّه حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار}.

وفي سورة محمد: {فاعلم أنه لا إله إلا اللّه واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.

وفي سورة الفتح: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.

وفي الحديث: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت). ونحوه مما وقع في الأحاديث الأخرى.

(والجواب) أن الصغرى والكبرى كلتاهما غير صحيحتين، فالنتيجة كاذبة يقيناً، وأنا أمهد لتوضيح بطلانهما أموراً خمسة:

(الأمر الأول) أن اللّه رب وخالق، والخلق كله مربوب ومخلوق، فكل ما صدر عن حضرة الرب الخالق في حق العبد المربوب المخلوق، من الخطاب والعتاب والاستعلاء فهو في محله ومقتضى المالكية والخالقية. وكذا كل ما يصدر عن العباد، من الأدعية والتضرعات إليه، فهو في موقعه أيضاً، ومقتضى المخلوقية والعبودية والأنبياء عباد اللّه المخلصون، فهم أحق من غيرهم، والحمل على المعنى الحقيقي في كل موضع، من أمثال هذه المواضع، في كلام اللّه وفي أدعية الأنبياء وتضرعاتهم خطأ وضلال وشواهده كثيرة في كتب العهدين، سيما الزبور. وأنا أنقل على سبيل الأنموذج بعضاً منها:

[1] في الباب العاشر من إنجيل مرقس، والثامن عشر من إنجيل لوقا هكذا: 17 (وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم  الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية) 18 (فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو اللّه) انتهى بعبارة مرقس. فأقر عيسى عليه السلام بأني لست صالحاً ولا صالح إلا اللّه وحده.

[2] في الزبور الثاني والعشرين هكذا: 1 (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني تباعد عني خلاصي بكلام جهلي) 2 (إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي وبالليل فلم تحفل بي). ولما كان آيات هذا الزبور راجعة إلى عيسى عليه السلام، على زعم أهل التثليث، فكان القائل بها عندهم هو عيسى عليه السلام.

[3] الآية السادسة والأربعون من الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني).

[4] في الباب الأول من إنجيل مرقس هكذا: 4 (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا) 5 (وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم) 9 (وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن).

وكانت هذه المعمودية، معمودية التوبة، بمغفرة الخطايا. كما صرح مرقس في الآية الرابعة والخامسة والآية الثالثة من الباب الثالث من إنجيل لوقا هكذا: (فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودة التوبة لمغفرة الخطايا). وفي الآية الحادية عشر من الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (أنا أعمدكم بماء للتوبة) الخ. وفي الآية الرابعة والعشرين من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال هكذا: (إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل). والآية الرابعة من الباب التاسع عشر من كتاب الأعمال هكذا: (فقال بولس أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة) الخ.

فهذه الآيات كلها، تدل على أن هذه المعمودية، كانت معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، فمتى سلم اعتماد عيسى من يحيى عليهما السلام، لزم تسليم اعترافه بالخطايا والتوبة منهما أيضاً، لأن حقيقة هذا الاعتماد ليست غير ذلك.

وفي الباب السادس من إنجيل متى في الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: (اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر أيضاً للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير).

والظاهر أن عيسى عليه السلام، كان يصلي تلك الصلاة التي علمها تلاميذه، ولم يثبت من موضع من مواضع الإنجيل أنه ما كان يصلي هذه الصلاة. وستعرف في الأمر الثاني أنه كان كثير الصلاة، فلزم أن يكون دعاؤه باغفر لنا ذنوبنا مرات كثيرة بلغت الآلاف.

والعصمة من الذنوب، وإن لم تكن من شروط النبوة عند أهل التثليث، لكنهم يدعونها في حق عيسى عليه السلام، باعتبار الناسوت أيضاً. وكان عيسى عليه السلام بهذا الاعتبار أيضاً عندهم، صالحاً ومقبولاً للّه لا متروكاً فهذه الجمل:

[1] لماذا يدعوني صالحاً الخ. [2] إلهي إلهي لماذا تركتني. [3] تباعد عني خلاصي بكلام جهلي. [4] بالنهار أدعوك فلم تستجب لي. [5] ألفاظ التوبة والاعتراف بالخطايا عند الاعتماد. [6] اغفر لنا ذنوبنا. لا تكون محمولة على المعاني الحقيقية الظاهرية عند أهل التثليث، وإلا يلزم أنه لم يكن صالحاً، وكان متروكاً للّه بعيداً عن الخلاص، بسبب كلام الجهل. غير مستجاب الدعاء، خاطئاً مذنباً. فلا بد أن يقال أن هذه التضرعات بمقتضى المخلوقية والمربوبية باعتبار الناسوت.

وفي الزبور الثالث والخمسين هكذا: 3 (الرب من السماء اطلع على بني البشر لينظر هل من يفهم أو يطلب اللّه) 4 (كلهم قد زاغوا جميعاً والتطخوا وليس من يعمل صلاحاً حتى ولا أحد).

وفي الباب التاسع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: 9 (فلذلك تباعد الحكم عنا ولا يدركنا العدل انتظرنا النور فيها الظلام انتظرنا الشعاع فها سرنا في الظلمة) 12 (من أجل أن آثامنا تكاثرت قدامك وخطايانا أجابتنا لأن فجورنا معنا وآثامنا عرفناها) 13 (أن نخطئ ونكذب على الرب واندبرنا إلى خلف حتى أن لا نسلك وراء إلهنا لنتكلم بالظلم والتعدي حبلنا وتكلمنا من القلب بكلام كاذب).

وفي الباب الرابع والستين من كتاب أشعيا هكذا: 6 (وصرنا جميعنا كالنجس وكخرقة الحائض كل براتنا وسقطنا مثل الورق نحن جميعاً وآثامنا كالريح ذرونا) 7 (ليس من يدعو باسمك ومن يقوم ويمسكك أخفيت وجهك عنا واطرحتنا بيد إثمنا).. ولا شك أن كثيراً من الصلحاء كانوا موجودين في زمان داود عليه السلام، مثل ناثان النبي وغيره، ولو فرضنا أنهم لم يكونوا معصومين على زعم أهل التثليث، فلا ريب أنهم لم يكونوا مصداق الآية الرابعة من الزبور المذكور أيضاً، ووقعت في عبارتي أشعيا عليه السلام، صيغ التكلم مع الغير، وأشعيا وغيره من أنبياء عهده وصلحاء زمانه، وإن لم يكونوا معصومين لكنهم لم يكونوا مصاديق الأوصاف المصرحة، في العبارتين قطعاً أيضاً، فلا تكون عبارة الزبور وهاتان العبارتان محمولات على معانيها الحقيقية الظاهرية، بل لا بد فيها من الرجوع إلى أن تلك التضرعات بمقتضى العبودية. وكذا وقع في الباب التاسع من كتاب دانيال، والباب الثالث والخامس من مراثي أرمياء، والباب الرابع من الرسالة الأولى لبطرس.

 (الأمر الثاني) أن أفعال الأنبياء كثيراً ما تكون لتعليم الأمة، لتستن بهم. ولا يكونون محتاجين إلى هذه الأفعال لأجل أنفسهم.

في الباب الرابع من إنجيل متى، أن عيسى عليه السلام صام أربعين نهاراً، أو أربعين ليلة. والآية الخامسة والثلاثون من الباب الأول من إنجيل مرقص هكذا: (وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك). والآية السادسة عشر من الباب الخامس من إنجيل لوقا هكذا: (وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة للّه).

ولما كان اتحاد المسيح بذات اللّه على زعم أهل التثليث، فلا حاجة له إلى هذه التكاليف الشديدة، فلا بد أن تكون هذه الأفعال لأجل التعليم.

(الأمر الثالث) أن الألفاظ المستعملة في الكتب الشرعية، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج والنكاح والطلاق وغيرها، يجب أن تحمل على معانيها الشرعية ما لم يمنع عنها مانع، ولفظ الذنب في هذا الاصطلاح الشرعي، إذا استعمل في حق ألأنبياء، يكون بمعنى الزلة. وهي عبارة عن أن يقصد معصوم عبادة أو أمراً مباحاً، ويقع بلا قصد وشعور في ذنب لمجاورة العبادة أو الأمر المباح بهذا الذنب، كما أن السالك يكون قصده قطع الطريق، لكنه قد يزل قدمه أو يعثر بسبب طين أو حجر واقع في ذلك الطريق، أو يكون بمعنى ترك الأولى.

(الأمر الرابع) أن وقوع المجاز في كلام اللّه وكلام الأنبياء كثير، كما عرفت بما لا مزيد عليه، في مقدمة الباب الرابع. وقد عرفت أيضاً في جواب الشبهة الرابعة من الفصل الرابع من الباب الخامس، أن حذف المضاف كثير في كتبهم المقدسة.

(الأمر الخامس) أن الدعاء قد يكون المقصود به محض التعبد كما في قوله  تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ومع ذلك أمرنا بطلبه. كقوله تعالى: {رب احكم بالحق) مع أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق.

وإذا عرفت الأمور الخمسة، أقول أن الاستغفار طلب الغفران، والغفران الستر على القبيح، وهذا الستر يتصور على وجهين:

الأول: بالعصمة منه لأن من عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى.

والثاني: بالستر بعد الوجود.

فالغفران في الآيتين الأوليين بالوجه الأول، في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفي الثانية بالوجه الثاني في حق المؤمنين والمؤمنات.

قال الإمام الهمام الفخر الرازي قدس سره في ذيل تفسير الآية الثانية هكذا:

(وفي هذه الآية لطيفة، وهي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم له أحوال ثلاثة: حال مع اللّه، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، فأما مع اللّه فوحده، وأما مع نفسه فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من اللّه، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم، واطلب الغفران لهم من اللّه) انتهى كلامه بلفظه.

أو أن المقصود من الأمر بالاستغفار في الآيتين محض التعبد كما في قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} وكقوله: {رب احكم بالحق} كما عرفت في الأمر الخامس.

أو أن المقصود من هذا الأمر أن يكون الاستغفار مسنوناً في أمته، فاستغفاره صلى اللّه عليه وسلم كان لتعليم الأمة.. في الجلالين ذيل تفسير الآية الثانية هكذا: (قيل له ذلك مع عصمته ليستن به أمته) انتهى.

أو أن المضاف في الآيتين محذوف. والتقدير في الآية الأولى: (فاصبر إن وعد اللّه حق واستغفر لذنب أمتك) الآية. وفي الثانية: (فاعلم أنه لا إله إلا اللّه واستغفر لذنب أهل بيتك ولذنب المؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أهل بيتك، فلا بعد في ذكر المؤمنين والمؤمنات). وقد عرفت في الأمر الرابع، أن حذف المضاف كثير شائع في كتبهم، أو أن المراد بالذنب في الآيتين الزلة أو ترك الأفضل. وسمعت من الأحباء، أن بعض من بلغ سن الخرافة من علماء بروتستنت، اعترض على هذا التوجيه في بعض تأليفه الجديد وقال: فرضنا أنه ما ظهر من محمد صلى اللّه عليه وسلم ذنب من الذنوب غير ترك الأولى، فترك الأولى أيضاً ذنب على ما يحكم به كلام اللّه أعني التوراة والإنجيل فيكون محمد صلى اللّه عليه وسلم مذنباً.

قال يعقوب في الآية السابعة عشر من الباب الرابع من رسالته هكذا: (فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطيئة له) انتهى.

أقول: هذا منشؤه خرافة السن، لأنه لا شك أن ترك شرب الخمر حسن، حتى مدح اللّه يحيى عليه السلام على هذا، وقال الأنبياء في حقها ما قالوا، وكذا لا شك أن عدم الإذن لفاحشة مباحة بغي في غسل الرجلين ومسحهما بشعر رأسها بمحضر ملأ من الناس حسن. وكذا ترك المخالفة الشديدة بالنساء الأجنبيات الشواب، والجولان معهن في القرى الشرقية حسن، سيما إذا كان الرجل المخالط شاباً عزباً. وما فعل هذه الأمور الحسنة عيسى عليه السلام، حتى أن المخالفين طعنوا عليه كما عرفت في جواب المطعن الثالث، فيلزم على رأيه أن يكون إلهه أيضاً مذنباً. على أن هذا المعترض زاد لفظ التوراة لأجل تغليط العوام، ولا يوجد هذا الحكم في التوراة، وهو ما أورد سنداً لهذا، إلا من رسالة يعقوب التي ليست إلهامية، على تحقيق العلماء الأعلام من فرقة بروستنت، سيما على تحقيق إمامه ومقتداه لوطر، كما عرفت في الفصل الرابع من الباب الأول. فكلام يعقوب على هؤلاء العلماء ليس بحجة فاعتراضه واه بلا شبهة.

وأما الآية الثالثة فالمضاف محذوف، أو المراد بالذنب ترك الأفضل، أو المراد بالغفران العصمة.

وقال الإمام السبكي وابن عطية: أن المقصود من هذه الآية، ليس إثبات صدور ذنب وغفرانه، بل المقصود منها تعظيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإكرامه فقط. لأن اللّه أظهر تعظيمه وإحسانه في أول هذه السورة، فبشر أولاً بالفتح المبين، ثم جعل غاية هذا الفتح الغفران وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم وإعطاء النصر العزيز. فلو فرض صدور ذنب ما يكون مخلاً لبلاغة الكلام، فمقتضاها التكريم والتعظيم. كما أن السيد إذا رضي عن خادمه يقول تارة لإكرامه وإظهار رضاه: عفوت عنك خطيئاتك المتقدمة والمتأخرة، ولا أؤاخذك عليها وإن لم يصدر عن هذا الخادم خطيئات.

وأما الدعاء المذكور في الحديث، فتوجيهه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما كان أرفع الخلق عند اللّه درجة وأتمهم به معرفة، وكان حاله عند خلوص قلبه عن ملاحظة غير ربه، إقباله بكليته عليه أرفع حاليه، بالنسبة إلى غير ذلك كان يرى شغله بما سواه، وإن كان ضرورياً نقصاً وانحطاطاً من رفيع كماله، فكان يستغفر اللّه من ذلك طلباً للمقام الأعلى، فكان هذا الشغل الضروري أيضاً عنده، بمنزلة الذنب الذي لا بد أن يستغفر عنه بالنسبة إلى أعلى حاله، أو كان صدور مثل هذا الدعاء بمقتضى العبودية. كما أن عيسى عليه السلام أيضاً بمقتضى العبودية، نفى الصلاح عن نفسه، واعترف بالخطايا عند الاعتماد، ودعا مراراً باغفر لنا ذنوبنا، وتفوه بهذه الجمل: 1 (إلهي إلهي لماذا تركتني) 2 (وتباعد عني خلاصي بكلام جهلي) 3 (إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي) أو كان هذا الدعاء لأجل التعبد المحض كما عرفت في الأمر الخامس 4 أو كان لأجل تعليم الأمة 5 وأن الذنب المذكور فيها بمعنى الزلة، وترك الأولى، كما عرفت في الأمر الثالث، وعلى كل تقدير لا يرد  شيء، وهذه التوجيهات الخمسة تجري كلها أو بعضها في الأحاديث، التي تكون مثل الحديث المذكور. وإذا لم يثبت من الآيات والأحاديث المذكورة التي استدل بها المعترض، كون محمد صلى اللّه عليه وسلم مذنباً، ثبت كذب الصغرى.

وأما كذب الكبرى، فلأن كليتها ممنوعة، لأنها إما أن يثبتها المعترض بعندية أهل التثليث، أو بالبرهان النقلي.

فإذا كان الأول فعنديتهم هذه لا تتم علينا، كما لا تتم أكثر عندياتهم على ما عرفت في الفصل الثاني من الباب الخامس.

وإن كان الثاني فعليهم بيان ذلك البرهان، وعلينا النظر في مقدماته، وأنى لهم ذلك ولا استبعاد في أن يغفر اللّه ذنوب واحد بلا واسطة، ثم يقبل شفاعته في حق الآخرين، على أن قبح الذنب عقلاً ما لم يغفر، فإذا غفر لا يبقى قبحه لوجه ما، وقد يوجد التصريح في الآية الثالثة التي نقلوها بزعمهم الفاسد، لإثبات الذنب بأن قال: {ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. فإن صارت ذنوب محمد صلى اللّه عليه وسلم متقدمة كانت أو متأخرة مغفورة، في هذه الدار الدنيا، فما بقي شيء مانع في أن يكون شفيعاً للآخرين في الدار الأخرى.

وإن كان الثالث فغلط يقيناً، ألا ترى أن بني إسرائيللما عبدوا العجل، أراد اللّه أن يهلك الكل، فشفع موسى عليه السلام لهم، فقبل اللّه شفاعته، وما أهلك. كما هو مصرح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج، ثم قال الرب لموسى: اذهب أنت وبنو إسرائيل إلى أرض كنعان وأنا لا أذهب معكم، فشفع موسى فقبل اللّه شفاعته، وقال: أنا أذهب معك. كما هو مصرح به في الباب الثالث والثلاثين من سفر الخروج. ثم لما عصوا أراد اللّه مرة أخرى أن يهلكهم، فشفع موسى وهارون عليهما السلام فقبل اللّه شفاعتهما. ثم لما عصوا مرة أخرى أرسل اللّه عليهم حيات تلدغهم، فجاؤوا إلى موسى مستشفعين، فشفع لهم فقبل اللّه شفاعته، كما هو مصرح به في الباب السادس عشر والباب الحادي والعشرين من سفر العدل. فلا استحالة عقلاً ولا نقلاً في كون محمد صلى اللّه عليه وسلم شفيع المذنبين، اللهم ابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وارزقنا شفاعته يوم القيامة. وليكن هذا آخر الباب.

وقد ابتدأت في تأليف هذا الكتاب، في اليوم السادس عشر من شهر رجب المنسلك في سنة ألف ومائتين وثمانين من هجرة سيد الأنبياء والمرسلين صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وفرغت منه في آخر ذي الحجة من السنة المذكورة، والحمد للّه رب العالمين وصار تاريخ ختمه (تأييد الحق برحمة اللّه 1280).

فأعوذ باللّه من الحاسد الذي لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاُ، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً. وأفوض أمري إلى اللطيف الخبير، إنه نعم المولى ونعم النصير. وأقول متضرعاً ومترجياً:

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.‏