هل القرآن يشهد بصحة التوراة والإنجيل
التى في ايدينا اليوم؟
مقدمة
المسألة
الأولى: تحريف المعنى.
دارت أسئلتك حول صحة نسخة التوراة والإنجيل التى كانت إبان البعثة.
والنصارى يقصدون من وراء ذلك إلى إقرار الإسلام لهم
على صحة دينهم كله لا صحة كتبهم فقط. لكن اعلم أن ثمة فرقـًا بين صحة الدين وصحة
الكتب. فقد يكون الكتاب صحيح اللفظ لكن محرف المعنى، فلا يغنى عنهم من الله شيئـًا.
ولذلك كان عندنا الأولى والأهم فى هذا المقام هو تحريف المعانى لا تحريف
الألفاظ. وأكثر ما عاب القرآن على أهل الكتاب أنهم حرفوا المعانى وبدلوها. وتحريف أهل
الكتاب لمعانى التوراة والإنجيل لا خلاف عليه بين علماء المسلمين. وهو الذى تقوم
به الحجة عليهم فى هذا المقام. ولا ينفعهم عدم تحريف اللفظ لو فرضنا ذلك.
قال ابن
تيمية : (فأما تحريف معانى الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها، فجميع
المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها، كما يشهدون هم
والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها، وإن كانوا هم واليهود يقولون: إن التوراة لم تحرف ألفاظها.
وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم
مع تحريف معانيها، إلا كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع
تحريف معانيها. بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون
عنها التهم والتبديل لألفاظها، مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا
لعذاب الله في الدنيا والآخرة ... فعُلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع
معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم). 1/303.
وقال: (كفر
النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معانى الكتاب الأول وكذبوا
بالكتاب الثانى وهو الإنجيل، وكذلك النصارى بدلوا معانى الكتاب الأول التوراة والإنجيل
وكذبوا بالكتاب الثانى وهو القرآن). 1/313
وقال رحمه
الله: (أهل الكتاب كفروا من وجهين: من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني
وهو القرآن، كما قال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا
بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما
معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) البقرة 91. فبين أنهم
كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم، وقتلوا الأنبياء، كما كفروا حين مبعثه بما أنزل
عليه. وقال تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا
بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن
كنتم صادقين) آل عمران 183. وقال تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا
بالبينات والزبر والكتاب المنير) آل عمران 184. وقال تعالى: (فلما جاءهم الحق من
عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا
سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه
إن كنتم صادقين) القصص 48، 49. وإذا كان الأمر كذلك، فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع
ما أنزله في التوراة والإنجيل، وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن، ويبين كفرهم
بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني). 1/331.
وأما تحريف اللفظ، ففيه الخلاف المشهور بين علماء المسلمين. قال ابن
تيمية: (وإن أرادوا [أى النصارى] أنه (صدق ألفاظ
الكتب التى بأدينا) أى التوراة والإنجيل، فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين،
وينازعهم فيه أكثر المسلمين، وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين). 1/303.
لكن هذا
الخلاف لا ينفع النصارى فى هذا المقام؛ لأن الخلاف فى تحريف اللفظ، وأما
تحريف المعنى والتبديل فالإجماع عليه قولاً واحدًا. وقد قبح القرآن أهل الكتاب على
هذا التبديل، فلا ينفع النصارى التنصل من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بحجة أن
كتبهم لم تحرف، بل هم مقبوحون لتبديلهم فى المعانى والأحكام. ثم لو كانوا لم
يبدلوا الأحكام وكانوا مقيمين لصحيح المعانى ورفضوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لزمهم التقبيح والتكفير، لأن التمسك بدين
منسوخ مستقبح كالتمسك بدين مبدل.
قال ابن
تيمية: (ادعوا [أى النصارى] أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صدَّق بجميع ألفاظ
الكتب التى عندهم. فجمهور المسلمين يمنعون هذا، ويقولون: إن بعض ألفاظها بُدِّل
كما قد بُدِّل كثير من معانيها. ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في
معانيها لا في ألفاظها. وهذا القول يقرُّ به عامة اليهود والنصارى. وعلى القولين فلا حجة
لهم في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لما هم عليه من الدين الباطل؛ فإن الكتب
الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفَّرهم به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته،
مثل: التثليث، والاتحاد، والحلول، وتغيير شريعة المسيح، وتكذيب محمد صلى الله
عليه وسلم. فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصًا ولا ظاهرًا على الأمانة
التي هي أصل دينهم، وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول، ولا فيها ما يدل على
أكثر شرائعهم: كالصلاة إلى الشرق، واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك).
قال: (وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذى هم عليه بعد
مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم
يبدل شىء من ألفاظها. وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة). 1/314.
وقال
قبلها: (والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل،
ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع، ولا عندهم ولا عند
اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر
بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة. وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم، وصلاتهم إلى المشرق، وإحلال الخنزير،
وترك الختان، وتعظيم الصليب، واتخاد الصور في
الكنائس، وغير ذلك من شرائعهم، ليست منقولة عن المسيح، ولا لها ذكر في
الأناجيل التي ينقلونها عنه. وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس
اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل، ولا هي مأثورة عن الحواريين. وهم
متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين، الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر، وخالفوا عبد الله بن
أريوس، الذي جعل المسيح عبدًا لله كما يقول
المسلمون، ووضعوا هذه الأمانة، وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على
ثلاثمائة سنة). 1/313.
وقال رحمه
الله: (بنوا كلامهم على أصلين فاسدين:
أحدهما: أن الرسول ثبَّت ما معهم، ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها. ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا
نفى التبديل عن لفظها ومعناها. وهذا مما يعلم
كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها، بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك. وهم أيضا وكل
عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق
النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف. وكذلك وقع في
تغيير شرائع هذه الكتب، فإن الكتب تضمنت أصلين: الإخبار والأمر. والإيمان بها
لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت، وإيجاب طاعتها فيما أوجبته. وأهل الكتاب يكذبون
بكثير مما أخبرت، ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به. وكل فرقة منهم تشهد
على الفرقة الأخرى بمثل ذلك. والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم. وهم في كل مجمع
يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم، ويقولون عنهم: إنهم كذبوا ببعض ما في تلك
الكتب، ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها. وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما
فيها. ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر
الأخرى وتلعنها، وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما
فيها. بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة، فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما
هم عليه. والمسيح عليه السلام وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعا، وبريئون ممن يقول على الله غير الحق، أو يقول على الله ما لا يعلم، وبريئون
من كل قول باطل يقال على الله عز وجل وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب. وفي
مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه، وقد بسط في غير هذا الموضع. وإذا عرفت أن
جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف
وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها، فهذا القدر كاف، وهم من حين بعث محمد صلى
الله عليه وسلم صار كل من لم يؤمن به كافرا، بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد صلى
الله عليه وسلم، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح. والمسلمون وإن كان فيهم
من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء، فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق
لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة، بخلاف النصارى فإنهم كفروا جميعهم كما
كفرت اليهود بتكذيب المسيح. والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا
معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء، وابتدعوا شرعًا لم
يأت به المسيح ولا غيره، ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء
والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة، وأنهم
إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح. فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء
لقطعنا بكذبه عليهم، فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء،
وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رءوسهم الذين
ليسوا بأنبياء). 1/315.
========================================
المسألة
الثانية: تحريف اللفظ.
قال ابن تيمية: (وأما ألفاظ الكتب، فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى
أن ألفاظها لم تبدِّل، كما يقول ذلك من يقوله
من أهل الكتاب. وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض
ألفاظها. وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين، وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب.
حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما صلب الذي شُبه بالمسيح،
كما أخبر به القرآن، ... ثم هؤلاء منهم الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو
مبدَّل. وفيهم من يجعل المبدَّل من التوراة والإنجيل كثيرًا منهما، وربما جعل بعضهم
المبدل أكثرهما، لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة. ومن
هؤلاء من يسرف حتى يقول: إنه لا حرمة لشيء منهما، بل يجوز الاستنجاء بهما. ومنهم
من يقول: الذي بُدلت ألفاظه قليل منهما. وهذا أظهر. والتبديل في الإنجيل أظهر. بل
كثير من الناس يقول: هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل. والإنجيل الذي
هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل). 1/319
قال:
(والصحيح أن هذه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله، وإن كان قد بُدل وغُير بعض ألفاظهما، كقوله تعالى: (ياأيها
الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من
الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم
آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم). إلى قوله (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها
حكم الله) المائدة 41 - 43. فعُلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت
المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله. والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول
الله وإن قيل إنه غُير بعض ألفاظها بعد مبعثه،
فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك؛ فإن هذا غير معلوم لنا، وهو أيضا متعذر، بل
يمكن تغيير كثير من النسخ، وإشاعة ذلك عند الأتباع، حتى لا يوجد عند كثير من الناس
إلا ما غُير بعد ذلك. ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب، إنما
تختلف في اليسير من ألفاظها، فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن،
لا يمكن لأحد أن يجزم بنفيه، ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل
نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ؛ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه. والاختلاف
اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ، كما قد تختلف نسخ بعض
كتب الحديث، أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ. وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه
في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يُحفظ في كتاب كما قال تعالى: (إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9. وذلك أن اليهود قبل النبي وعلى عهده
وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وعندهم نسخ كثيرة من التوراة، وكذلك
النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة، ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها، ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة
التي تتوفر الدواعي على نقلها. وكذلك في
الإنجيل، قال تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) المائدة 47. فعُلم أن
في هذا الإنجيل حكمًا أنزله الله تعالى. لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي، وذلك
لا يمنع أن يكون التغيير في باب الإخبار، وهو الذي وقع فيه التبديل لفظًا. وأما
الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها).
وقال:
(وأما قراءة الجمهور (ولْيحكم أهل الإنجيل) فهو أمر بذلك. فمن العلماء من قال: هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن
يحكموا بما أنزل الله فيه. وعلى هذا يكون قوله
تعالى "وليحكم" أمر لهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: لا حاجة إلى هذا التكلف فإن القول في الإنجيل
كالقول في التوراة، وقد قال تعالى: (يا أيها الرسول
لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد
مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له
من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم
في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم
وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس
واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن
والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة
وآتيناه الإنجيل) المائدة 41 - 46. فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي
من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله، ثم تولوا عن حكم الله. وقال بعد ذلك (وليحكم
أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) وهذه لام الأمر، وهو أمر من الله أنزله على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع، وإنما يكون الأمر
أمرًا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر. فعُلم أنه أمر لمن كان موجودا
حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل. والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع
محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر به في التوراة، فليحكموا بما أنزل الله في
الإنجيل مما لم ينسخه محمد صلى الله عليه وسلم، كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما
أنزله مما لم ينسخه المسيح، وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح، وقد أمروا في
الإنجيل باتباع محمد، فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد بما أنزل الله في التوراة
والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد؛ إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل
باتباع محمد كما قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل) الأعراف157. وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب
بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا
تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) المائدة 48. فجعل القرآن مهيمنا. والمهيمن الشاهد
الحاكم المؤتمن، فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما
لم يُبدل، ولهذا قال: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة 48).
وقال رحمه
الله: (وعلى كل قول، فقد أخبر الله عز وجل أن في التوراة الموجودة بعد
المسيح عليه السلام حكم الله، وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة
مع كفرهم بالمسيح. وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به
الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني. وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه، ودل ذلك
على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أُمروا أن يحكموا
به. وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل. ومعلوم أن الحكم الذي أُمروا أن يحكموا به من
أحكام التوراة لم ينسخه الإنجيل ولا القرآن. فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام
الإنجيل، هو مما لم ينسخه القرآن. وذلك أن الدين الجامع أن يُعبد الله وحده،
ويؤمر بما أمر الله به، ويُحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه، فإنه
يُحكم به. ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد
شرعنا بخلافه. ومَن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة
محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ
والمنسوخ، فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن
ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم
فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن
بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن
كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن
يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض
يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده
فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا
بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من
يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علىالمؤمنين أعزة
على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون) المائدة 48 - 56. فقد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما أنزل الله إليه، وحذره اتباع أهوائهم، وبين أن
المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية، حيث قال
تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن
شرعة ومنهاجا. وأمره تعالى بالحكم بما أنزل
الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن، ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير
ما أنزل الله. والذي أنزله الله هو دين واحد، اتفقت عليه الكتب والرسل. وهم متفقون
في أصول الدين وقواعد الشريعة، وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ. فهو
شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد. فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت
المقدس، ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام، وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل
الله عز وجل. وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت، محرمًا عليه ما حرمه
الله في التوراة، وهو متبع ما أنزله الله عز وجل، والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة، وهو متبع ما أنزل الله عز
وجل، فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل
أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ، كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا
بما أنزل الله أمر بما نسخ، بل إذا كان ناسخ ومنسوخ، فالذي أنزل الله هو الحكم
بالناسخ دون المنسوخ، فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله عز وجل). 1/326.
قال: (ومما
يوضح هذا قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك
طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) المائدة 68. فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد
صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب الذي بُعث إليهم: إنهم ليسوا على شيء
حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم. فدل ذلك على أنهم عندهم
ما يُعلم أنه منزل من الله، وأنهم مأمورون بإقامته، إذا كان ذلك مما قرره محمد صلى
الله عليه وسلم ولم ينسخه، ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي، ولم ينسخه
النبي الثاني بل أقره، كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي، ولم يكن في بعثة
الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني. ولا يجوز أن
يقال: إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول. وإنما المنسوخ قليل
بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع. وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما
حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أن في التوراة
والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله؛ إذ لا يُؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا
يعلمون ما أنزل الله).
قال:
(والحكم إنما يكون في الأمر والنهي. والعلم ببعض
معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها. وهذا متفق عليه في المعاني. فإن المسلمين
واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له،
وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر، وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك،
وأمثال ذلك من الشرائع الكلية، وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب، بل هم متفقون
على الإيمان باليوم الآخر، وقد تنازعوا في بعض معانيها، واختلفوا في تفسير
ذلك، كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به فى النبوات: هل هو المسيح بن
مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر ؟ والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع
النصارى، لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك. وكذلك يُقال: إذا بدل
قليل من ألفاظها الخبرية، لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يُبدل، لا سيما إذا
كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل. وقد يقال: إن ما بُدل من ألفاظ التوراة
والإنجيل، ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله).
قال:
(فبهذا يحصل الجواب عن شبهة مَن يقول: إنه لم يبدل شيء من ألفاظها. فإنهم يقولون: إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل
مبعث محمد، لم يُعلم الحق من الباطل، فسقط
الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب، فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما،
والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما، واستشهد بهما في مواضع).
قال: (وجواب
ذلك أن ما وقع من التبديل قليل، والأكثر لم يُبدل، والذي لم يُبدل فيه
ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها، ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها
بعضا، بخلاف المبدل، فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها. وصار هذا بمنزلة
كتب الحديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود
والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن
النبي ما يبين ضعف تلك. ... فكذلك إذا قيل: إنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب
المتقدمة، كان في الكتب ما يبين ذلك الغلط).
وقال:
(والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم
بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم
متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن
يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا
مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه، وإنما يعلم مثل هذا
بالوحي، وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة
من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين، وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ
اختلافا بينا. والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى، ومع هذا فنسخة
السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى، حتى في نفس الكلمات العشر، ذُكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في
نسخة اليهود والنصارى. وهذا مما يبين أن
التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب، فإن عند السامرة نسخا متعددة، وكذلك رأينا في
الزبور نسخا متعددة، تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني، يقطع
من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام. وأما الأناجيل
فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة).
قال: (فإن قيل: فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة، فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك
الحكم بما أنزل الله منها ؟. قيل: النسخ
لم يقع إلا في قليل من الشرائع، وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك
لا نسخ فيه، وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها. وهو سبحانه ذمهم على
ترك اتباع الكتاب الأول؛ لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين: من جهة تبديلهم الكتاب
الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن، كما
قال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا
ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن
كنتم مؤمنين) البقرة 91. فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم، وقتلوا
الأنبياء، كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه. وقال تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان
تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات
وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) آل عمران 183. وقال تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب
رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) آل عمران 184. وقال
تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما
أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند
الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) القصص 48، 49. وإذا كان الأمر كذلك، فهو
سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل، وعلى ترك اتباع ما
أنزله في القرآن، ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني، وليس في شيء من ذلك
أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول، كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في
الكتاب الثاني).
========================================
المسألة الأولى: (قل فأتوا بكتاب
من عند الله هو أهدى منهما).
الجمهور
على أن المقصود القرآن والتوراة. قال ابن كثير: (والظاهر على قراءة (سحران) أنهم
يعنون التوراة والقرآن؛ لأنه قال بعدها (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى
منهما أتبعه). وكثيرًا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن، كما في قوله (قل من
أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس) إلى أن قال (وهذا كتاب أنزلناه مبارك).
وقال في آخر السورة (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) الآية. وقال
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقالت الجن (إنا سمعنا
كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه). وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد عُلم بالضرورة
لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتابًا من
السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا
أشرف من الكتاب الذى أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام وهو القرآن، وبعده في
الشرف والعظمة الكتاب الذى أنزله على موسى بن عمران عليه السلام، وهو الكتاب الذى
قال الله فيه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء).
والإنجيل إنما أنزل متمما للتوراة، ومحلا لبعض ما حرم على بنى إسرائيل).
السؤال:
كيف يصف القرآن التوراة وقت البعثة بالهدى ؟
والجواب: أن الآية تتكلم عن التوراة المنزلة. يبين ذلك أن الآية التى قبلها
تقول: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى؟ أولم يكفروا
بما أوتى موسى من قبل؟! قالوا: سحران تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون). فتبين
أن الكلام عن (ما أوتى موسى). ولذلك يقول الزمخشرى: ("هو أهدى منهما" مما أُنزل
على موسى عليه السلام ومما أنزل عليّ).
وتقدم معنا قول ابن تيمية: (فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في
التوراة والإنجيل، وعلى ترك اتباع ما
أنزله في القرآن، ويبين كفرهم بالكتاب الأول، وبالكتاب الثاني. وليس في شيء من ذلك
أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول، كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في
الكتاب الثاني).
==================================================
المسألة الثانية: (مصدقًا لما
معكم).
ورد
التعبير فى قول تعالى: وقال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ . وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ) البقرة 40، 41.
وقال
تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران 81.
وقال
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) النساء 47.
قدمنا أن التوراة لم تُحرف كلها، وليس كل لفظ منها مبدل. وعلى ذلك يصح أن
يصدّق القرآن (لما معهم)؛ لأن (ما معهم) فيه حظ لم يُحرف.
وأهل الكتاب الذين عاصروا البعثة معهم ما يصدقه القرآن.
وقال
الكلبى فى (التسهيل لعلوم التنزيل 1/46): ("بما أنزلت" يعني القرآن
"مصدقا لما معكم" أي مصدقا للتوراة. وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين، له
ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به، ثم ظهر كما
قالوا، فتبين صدقهم في الإخبار به. والآخر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم
أنبياء، وأُنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم. والثالث: أنه وافقهم
فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة، وغير ذلك من عقائد الشرائع، فهو مصدق لهم
لاتفاقهم في الإيمان بذلك).
وتقدم معنا
قول ابن تيمية: (والصحيح أن هذه
التوراة التي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله، وإن كان قد بُدل وغُير بعض
ألفاظها ... فعُلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر
وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله. والتوراة التي كانت عند يهود
المدينة على عهد رسول الله وإن قيل إنه غُير بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد
على كل نسخة في العالم بمثل ذلك؛ ... وكذلك في الإنجيل، قال تعالى: (وليحكم
أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) المائدة 47. فعُلم أن في هذا الإنجيل حكمًا أنزله
الله تعالى).
إذا عرفت
هذا، فلا إشكال فى الآيات التى ورد بها التعبير
(لما معكم). واضمم إليها الآيات التى ورد
بها التعبير (لما معهم).
قال تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ) البقرة 89.
وقال عز
اسمه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ
بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة
91.
وقال:
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) البقرة 101.
وما رُوى
عن مجاهد من تفسير (لما معكم) بالإنجيل،
فهو مشابه لكثير مما رُوى عن
الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل التفسير. ولا إشكال فيه، لأنه لا يخالف ما قررنا.
لأن مقصود المفسر، كمجاهد، أن القرآن مصدق لما معهم من الإنجيل المنزل. ليس مقصود
المفسر أن القرآن مصدق لكل ما بأيدى أهل الكتاب على التفصيل. ألا ترى أن الكلبى لم
يتردد فى تفسير (لما معكم) بالتوراة مع أنه يقول بتحريف ما بأيدى أهل الكتاب ؟
.. إنما ذاك لأنه لا يقصد أن القرآن مصدق للتوراة التى مع أهل الكتاب، وإنما قصد
أن القرآن مصدق لما مع أهل الكتاب من التوراة المنزلة. وتأمل قول شيخ
المفسرين: ("مصدقا لما معكم" يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران).
فإذا ضممت
إلى التعبيرين السابقين: (مصدقًا لما بين
يديه) و(مصدق الذى بين يديه) و(مصدق)، تكون آيات الباب الواحد قد جُمعت بين يديك.
قال تعالى:
(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97.
وقال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران 3.
وقال:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي
مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة 48.
وقال:
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) الأنعام 92.
وقال:
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)
فاطر 31.
وقال:
(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً
وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) الأحقاف 12.
وقال:
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) الأحقاف
30.
قال ابن
تيمية: (أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله لما أنزل الله
قبله من الكتب، ولمن جاء قبله من الأنبياء، فهذا معلوم بالاضطرار من دينه
متواترا تواترا ظاهرا، كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم. وهذا من أصول الإيمان. قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما
أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب
والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن
له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) البقرة 136، 137. وقال تعالى: (قل آمنا بالله وما
أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى
وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام
دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 84، 85. وقال تعالى: (ليس
البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)
البقرة 177. وقال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك
ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من
قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا
فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 285، 286. وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور
في مواضع من القرآن. وقد قال: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من
الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة 48. وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها
مثاني) الزمر 23. وقال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن) يوسف 3. فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب. والمهيمن
الشاهد المؤتمن الحاكم، يشهد بما فيها من الحق، وينفي ما حرف فيها، ويحكم بإقرار ما
أقره الله من أحكامها، وينسخ ما نسخه الله منها. وهو مؤتمن في ذلك عليها. وأخبر أنه
أحسن الحديث وأحسن القصص، وهذا يتضمن أنه كل مَن كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ، من
غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى. وكذلك مَن كان متمسكا
بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ، فهو من أهل الإيمان والهدى. وليس في
ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل ـ فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ـ ولم يؤمن بما أرسل الله
إليه من الرسل، وما أنزل إليه من الكتب. بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل
الكتاب الأول، وبترك الإيمان بمحمد في غير موضع). 1/261.
==================================================
يحضرنى من
طريف هذا المقام، تفسير القس (بسيط أبو الخير) للتعبير
القرآنى (بين يديه)، فى كتابه (الكتاب المقدس يتحدى) !.
فسرها (جنابه) فقال: (بين يديه، أي معه، مع نبي المسلمين !!). وعلامتا التعجب
من كيسه، فالرجل يتعجب بشدة، لم يصدق نفسه أنه توصل إلى هذا الكشف العبقرى المذهل !
والأكثر
طرافة أنه فى السطر التالى مباشرة ـ إى والله ! ـ يشرح الآية بما
يخالف فهمه الحرفى من أقوال المفسرين، ولا يجد أدنى غضاضة فى ذلك. قال: (قال
الجلالين: "ولا بالذي بين يديه" أي: تقدمه) ! وقال أيضـًا: (وجاء في صحيح البخاري ... "لما بين يديه من الكتاب" لما
نزل قبله من كتب سماوية وشرائع إلهية) !
وإيغالاً
فى العمى والعمه يستدل بآيات لا يمكن أن يصلح معها تفسيره الحرفى بأشد أنواع
التعسف. فهو يستدل بقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97. يقول (جنابه) مستحقـًا أرفع
وسام فى الغباوة: (وعبارة "مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" تأكيد لوجود هذه
الأسفار معه) ! .. فانظر كيف أعماه الله عن (مخاطبة) الآية للنبى عليه الصلاة
والسلام، واعلم أن قلوبًا عليها أقفالها !
==================================================
المسألة الثالثة: (فَاسْأَلِ
الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ)
(الكتاب)
فى الآية اسم جنس. تقولُ: (أكلتُ الطعام) وأنت أكلتَ بعضَه لا
كله. فأهل الكتاب قرأوا بعض الكتاب، ونالوا حظـًا من الكتاب، وبدلوا حظـًا آخر.
قال ابن
تيمية رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء: (والكتاب اسم جنس، كما تقدم
نظائره في قوله (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا)، وقوله
(وطعام الذين أوتوا الكتاب)، وقوله (يا أهل الكتاب) في غير موضع، وقوله (لم يكن الذين
كفروا من أهل الكتاب والمشركين)، ...
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله على تقدير الشك، لا يقتضي
أن يكون الرسول شك ولا سأل، إن قيل: الخطاب له.
وإن قيل: لغيره. فهو أولى وأحرى. فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط،
بل قد يُعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه. قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين
وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين). فأخبر أنهم لو
أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، مع انتفاء الشرك عنهم، بل مع امتناعه؛ لأنهم قد ماتوا؛ ولأن الأنبياء معصومون من الشرك به.
وقال تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك
وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين). فهذا خطاب للجميع. وذكر هنا لفظ
(إن) لأنه خطاب لموجود، وهناك خبر عن ميت.
وكذلك
قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل) لا يدل على وقوع الشك ولا السؤال. بل النبي لم يكن شاكا، ولا سأل أحدا منهم. بل رُوي عنه
أنه قال: (والله لا أشك ولا أسأل). ولكن المقصود
بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون، كما قال تعالى في
الآية الأخرى: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). وقال تعالى:
(قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن
واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وقال تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن
يعلمه علماء بني إسرائيل). وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين).
وقال: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون
سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا). وقال
تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين). وقال تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أنزل إليك). وقال تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي
إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).
فالمقصود
بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك
فيما كذبك فيه الكافرون، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده، ونهوا عن الشرك، فكان في هذا حجة على مَن ظن أن الشرك دين.
ومثل هذا قوله تعالى: (وسئل من أرسلنا من قبلك
من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون). وقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من
رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل
أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه
الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
الوجه
الثاني: أن أهل الكتاب يعلمون أن الله
إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم، لم يرسل
إليهم ملكا، فإن من الكفار مَن كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا، أو بشرا معه
ملك، ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر، كما قال تعالى: (وما منع الناس أن
يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء
ملكا رسولا). وقال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى
قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا
من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما
سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين). وقال
تعالى: (كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر). وكذلك
قال الذين من بعدهم: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون
ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون). وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون: (أنؤمن
لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون). وقال فرعون: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين
ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين). وكذلك
قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان
للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند
ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين). وقال تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو
أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا
عليهم ما يلبسون). فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك، فلو أنزلناه ملكا،
لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ كنتم تظنونه بشرا، فيحصل اللبس عليكم. فأمر الله تعالى
بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم: أكان بشرا أم كان ملكا ؟ ليقيم الحجة بذلك على من
أنكر إرسال بشر، كما قال تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين
ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). وأهل الذكر هم أهل
الذكر الذي أنزله الله تعالى.
الوجه الثالث: أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى
للرسل مع أممهم، وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم وعاقبة المكذبين
لهم.
الوجه
الرابع: يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله،
وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر
الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش.
الوجه
الخامس: يسألونهم عما وصفت به الرسل
ربهم: هل هو موافق لما وصفه به محمد صلى
الله عليه وسلم؟ أم لا؟
وهذه
الأمور المسئول عنها متواترة عند أهل الكتاب،
معلومة لهم، ليست مما يشكون فيه، وليس ـ إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر،
فيُسألون عنه ـ يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر.
وأيضا: فإنهم يُسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم. وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي
كانت عليهم). وقال تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله
إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم
بالبينات قالوا هذا سحر مبين).
فقد أخبر
عن عيسى أنه صدق بالرسول، والكتاب الذي قبله
وهو التوراة، وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد. قال تعالى: (فلنولينك
قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن
الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) إلى قوله
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم
يعلمون). وقال تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من
المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء
بني إسرائيل).
وقال تعالى
عن من أثنى عليه من النصارى: (وإذا سمعوا ما
أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا). وقال
تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو
لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا
ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا).
وقال تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين
آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين). وقال تعالى:
(ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون
وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون
أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون). وقال تعالى في
سورة الأنعام: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا
أنفسهم فهم لا يؤمنون). وقال تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فعلنة الله على
الكافرين). والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في
الكتب المتقدمة متواترة عنهم.
وكان قبل
أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم تجري حروب
وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب، فتقول أهل الكتاب: قد قرب مبعث هذا
النبي الأمي الذي يُبعث بدين إبراهيم، فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة.
فلما بعث النبي كان منهم مَن آمن به ومنهم من كفر به. فقال تعالى: (وكانوا من قبل
يستفتحون). أي: يستنصرون بمحمد على الذين كفروا. (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله
على الكافرين).
ولهذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه
لأهل الكتاب يقول لهم: (والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله). وكذلك
مَن أسلم منهم، كعبدالله بن سلام، كان يقول لغيره من أهل الكتاب: والله الذي لا إله
إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله. وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في
الصحيحين وغيرهما.
فظهر بما
ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله، وأنه لا حجة
لهم فيما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). 1/292
==================================================
المسألة الرابعة: (وعندهم
التوراة فيها حكم الله).
أشبع ابن
تيمية الكلام عليها فى الجواب الصحيح، وقدمنا طرفـًا صالحـًا من كلامه فى
المقدمة فيُراجع.
سؤال: الرسول صلى الله عليه وسلم قد احتج على اليهود بآية موجودة في توراة
آنذاك.
والجواب:
قدمنا أن التوراة لم يبدل كل لفظ منها.
==================================================
المسألة الخامسة: (يحرفون
الكلم): يحرفون حدود الله في التوراة.
ما رُوى عن
ابن عباس: (يحرفون حدود الله في التوراة) هو كعبارات أخرى للسلف الذين لا يقولون بالتحريف اللفظى. وقد عرفت من
المقدمة أن المسألة فيها خلاف، فالذين لا
يقولون بالتحريف اللفظى، فسروا التحريف المذكور فى الآية بالتأويل الباطل أو
التبديل. وعلى كلا القولين يلزم أهل الكتاب الذم.
==================================================
المسألة السادسة: (يقرءون
التوراة والإنجيل)
ذكرت قوله
صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك ابن أم لبيد أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون
التوراة والإنجيل لا ينتفعون منها بشيء).
فى مشكاة المصابيح : عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
شيئا. فقال: (ذاك عند أوان ذهاب العلم). قلت: يا رسول
الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرؤه أبناؤنا
أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال: (ثكلتك أمك زياد ! إن كنت لأراك من أفقه رجل
بالمدينة ! أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما
فيهما ؟!). رواه أحمد وابن ماجه وروى الترمذي عنه نحوه. وصححه الألبانى.
السؤال:
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل (قرءوا) بصيغة
الفعل الماضي بل قال (يقرءون).
وأنا أعطيك أحسن منها !
فى صحيح
الجامع 6990 : (ثكلتك أمك يا زياد ! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة !
هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا يغني عنهم ؟!).
ليس
المقصود أن التوراة المنزلة بكاملها (عند) اليهود (يقرءونها). وإنما المقصود هنا
كالمقصود فى آيات كثيرة تذكر التوراة والإنجيل. المقصود ـ والله أعلم ـ أن
اليهود والنصارى عندهم (من) التوراة المنزلة ما لو عملوا به لأفلحوا، لكنهم لا يعملون.
ولذلك جاء فى الرواية (لا يعملون بشيء مما فيهما). وهذا كقوله تعالى: (ولو أنهم
أقاموا التوراة). فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة المبدلة فضلاً عن التوراة
المنزلة.
وهذا
الحديث قوى جدًا فى المعنى الذى نبهنا إليه أول الموضوع. النكير
على أهل الكتاب يتوجه أولاً إلى تركهم العمل بما معهم من الحق. ويأتى التحريف
اللفظى تاليـًا فى الأهمية. والله أعلم.
والذى ننبه ثَم إليه، أن الجمهور من العلماء الذين يقولون بالتحريف اللفظى،
لا يقولون بتحريف كل نسخة على وجه الأرض،
لا قبل البعثة ولا بعدها، إذ الحكم بذلك متعذر. لكنهم يقولون إن بعضـًا من أهل
الكتاب حرفوا بعض النسخ قبل الانتشار، ثم شاعت النسخ المحرفة.
==================================================
المسألة السابعة: (حق تلاوته) أن
تحل حلاله وتحرم حرامه.
السؤال:
هل التحريف في ترك حدود التوراة وتأويلها إلى غير ما
هي عليه، وليس التحريف في الكتابة
نفسها.
أحسب أنك
تعرف الإجابة الآن إن شاء الله.
وأضيف بأن الذين يقولون بالتحريف اللفظى، وهم أكثر المسلمين، يقولون أيضـًا
بالتأويل الباطل. فأهل الكتاب ارتكبوا الجريمتين:
التحريف اللفظى، وما لم يُحرف أولوه. وبعض المسلمين يثبتون جريمة التأويل والهجر
فقط دون التحريف اللفظى.
==================================================
المسألة الثامنة: ذهب فقهاء
الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث.
وأحسب أنك
الآن تعرف الإجابة إن شاء الله. ليس كل علماء
الإسلام يقول بالتحريف اللفظى. وهذا لا ينفع أهل الكتاب فى هذا المقام.
قال ابن
تيمية رحمه الله: (وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدًا ثبت ما معهم،
وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما
فيها، بتصديقه إياها.
وقد تبين
أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يصدق شيئًا
من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدَّق الأنبياء قبله، وما جاءوا به، وأثنى على مَن
اتبعهم، لا على من خالفهم، أو كذب نبيًا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر
اليهود؛ فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول، وكذبوا بالكتاب الثاني وهو الإنجيل.
وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل، وكذبوا بالكتاب
الثاني وهو القرآن.
وأنهم
ادعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صدَّق بجميع
ألفاظ الكتب التي عندهم. فجمهور المسلمين يمنعون هذا. ويقولون: إن بعض ألفاظها بُدِّل
كما قد بُدِّل كثير من معانيها. ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في
معانيها لا في ألفاظها. وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.
وعلى
القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لما هم عليه من الدين الباطل؛ فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على
صحة ما كفرهم به محمد صلى الله عليه وسلم
وأمته، مثل التثليث، والاتحاد، والحلول، وتغيير شريعة المسيح، وتكذيب محمد صلى الله
عليه وسلم. فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي
أصل دينهم، وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول، ولا فيها ما يدل على أكثر
شرائعهم كالصلاة إلى الشرق، واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.
ويقال لهم:
أين ما معكم عن محمد صلى الله عليه وسلم مما يدل على
أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يُغيَّر فيها شيء ؟
ومعلوم أن
المسلمين وغيرهم إذا إختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر. فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب
المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى. ولا يجوز
لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولا إلا بدليل.
فأين في
القرآن والسنة الثابتة عن محمد صلى الله عليه وسلم أن جميع ما
بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من
ألفاظها حتى يقولوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم نفى عن كتبهم ذلك ؟
وهؤلاء
بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم، الذي هم عليه بعد مبعث محمد صلى
الله عليه وسلم، وبعد تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُبدَّل شيء من
ألفاظها. وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة).ا.هـ.
==================================================
والحمد لله
الذى بنعمته تتم الصالحات.
أرسل بواسطة : متعلم