التشابه بين الإسلام والشرائع السابقة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
ومن والاه ،
أما بعد ،
فإن ما
يزعمه النصارى من كون القرآن مختلق من عدة مصادر سابقة لعصر النبي صلى الله عليه
وسلم ليس زعمًا جديدًا ؛ فقد تولى كبره من قبل مشركي قريش حينما قالوا عنه أنه
(أساطير الأولين) وتذرعوا به لرفض الإيمان بالله ورسوله ؛ وهذا لوجود قصص الأمم
السابقة به .
ولا يستهن
أحدكم بهذه الشبهة ولا يقل أنها شبهات فارغة ؛ فهناك
من العوام من تنطلي عليه هذه الشبهات التافهة ، ولكل ساقطة لاقطة ، وكما قيل :
لو كان عدوك نملة فلا تنم له !
ثم إن
نظرية اقتباس القرآن من الكتب
والشرائع السابقة هي مجرد تفسير واحد من عدة تفسيرات للتشابه بين القرآن وغيره من
الكتب والشرائع ، وهذا التفسير هو الوحيد الذي يوافق فكرة بشرية الوحي أما بقية
التفسيرات فهي لا توافق هذه الفكرة لهذا لا يذكرها النصارى في معرض عرضهم لهذه
الشبهة .
ولتخيل
سويًا هذا السيناريو : من المعلوم أن نوح عليه السلام قد جاء بشريعة معينة لمتبعيه ، ثم جاء موسى عليه السلام من بعده بشريعة أخرى ، فلو تخيلنا أتباع نوح
وهم يتهمون أتباع موسى بالاقتباس من
شريعتهم ، فكيف يكون رد أتباع موسى عليه السلام ؟ لا شك أن ردودهم لن تخرج عن هذه الردود :
أولاً: أن الشريعتين جاءتا من مصدر واحد -
وهو الله - وهذا هو تفسير التشابه الشديد بينهما .
ثانيًا : لا يمكن أن تكون الشريعتان من إلهين مختلفين لأن الله واحد لا شريك
له ، فلابد من أن تكون الشريعتان متشابهتان في العديد من النواحي .
ثالثًا : أي اختلافات تعود لكون جاءت الشريعة الجديدة بما
فيه تصحيح لما حُرف وغُير وبُدل في الشريعة السابقة .
رابعًا : وأي اختلافات أخرى في لكون الشريعة الجديدة جاءت بأوامر ونواهي
جديدة لم تكن موجودة في الشريعة السابقة .
خامسًا : الشريعة الجديدة القادمة من نفس المصدر - الله - جاءت بالأدلة على صدقها وصحتها ، وإلا كان من اليسير على أي شخص أن يخترع
وحيًا - ليس مصدره الله - لهذا يجب أن نلتفت
للأدلة على صدق هذه الشريعة الجديدة لا للجري وراء كونها شابهة للشريعة السابقة
لها .
الخلاصة : أن التشابه بين الشريعتين لا يعني
أبدًا الاقتباس ، بل بالعكس يُعتبر دليلاً على أن الشريعة الجديدة هي من عند الله
تعالى .
وهذا الرد يمكننا ان نستخدمه للرد على كل ما يقال عن اقتباس القرآن
لقصص أهل الكتاب الموجودة في العهدين القديم
والجديد ، أو التشابه في بعض الشرائع ، أو حتى التوافق في بعض العبارات والأمثلة .
أما التشابه
بين شريعة الإسلام وبعض الشعائر عند العرب قبل
الإسلام : فهذه الشعائر هي أصلاً من بقايا
دين إبراهيم عليه السلام وقد تشوهت
ونالت منها الوثنية وعبادة الأصنام ، ثم جاء الإسلام لتطهيرها من أدران الوثنية
والشرك .. هذا مع تحفظنا على ما في بعض الكتابات من مبالغة في تقدير هذا التشابه .
أما دعوى
النصارى بكون التشابه يقتضي الاقتباس فهو
ينقلب عليهم كذلك : لأن في كتبهم كثير مما يتشابه مع نصوص الديانات الوثنية الاغريقية و البابلية والمصرية
القديمة ، وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن
ضربها كمثال فيضان نوح .
فهل يقبل
النصارى أن يتم تطبيق هذا الحكم على الكتاب
المقدس ونصوصه كما يطبقوه على القرآن ؟ هذا بعيد الاحتمال ! بل تجدهم يتذرعون
بأنه كانت هناك رسالات سابقة لكن طالها التحريف لذا جاء الكتاب المقدس بما هو صحيح
لاتباعه .. أليس هذا هو نفس ما يقوله المسلمون طوال الوقت ؟
وهنا يقع
النصارى في ورطة لأنهم يكيلون بمكيالين : فهم عند الحديث عن كتابهم المقدس لا يطبقون
نفس المعايير التي يطبقونها عند دراستهم للقرآن ؛ فعند
الكتاب المقدس يتحدثون عن نظرية المصدر الواحد لكل الشرائع والديانات ، أما عند
القرآن لا حديث لهم إلا نظرية اقتباس القرآن من غيره من المصادر وبشرية الوحي .
لكن تصور أن
القرآن جاء خاليًا من أي تشابه مع الكتب السابقة هل
كانوا سيؤمنون به ؟ محال ! بل كانوا سيخرجون علينا بنظرية أخرى : نظرية الاختراع ! فهو - أي محمد صلى
الله عليه وسلم - اخترع دينًا جديدًا ليس فيه
رائحة الأديان السماوية وليس له أي وجود في الكتب السابقة ، بل وليس فيه أي تشابه
مع غيره من الديانات ، هكذا سيقولون .
فإن كان متشابهًا مع ما سبقه من الوحي ، فهو مقتبس لذا لا يؤمنون به !
وإن كان مختلفًا مع ما سبقه من الوحي ، فهو مخترع لذا لا يؤمنون به !
فهم لن
يقبلوا دينكم أبدًا مهما فعلتهم وحقًا
لن ترض عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ؛ لأن المشكلة لا تقع في القرآن ولا
شريعة الإسلام بل في عقول وأذهان النصارى أنفسهم والله يهدي من يشاء .
وفي الخاتمة نقول : أنه لا يعنينا في الرد على هذا الشبهة كون محمد صلى الله عليه وسلم عايش
اليهود والنصارى وخالطهم أم لا ؛ فها هم ملاحدة
الغرب يتهمون موسى عليه السلام والعبرانيين بالاقتباس من الشعوب والثقافات
المجاورة لهم . وعلى الرغم من هذا ، فمن يدرس حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإنصاف يدرك أن إخلاصه وصدقه ينفيان تمامًا أي احتمال للاقتباس من الشرائع الأخرى أو
الاختراع .
يقول
الكاتب الصحفي السويسري روجيه دوباسكويه Roger DuPasquier : (( لم يقدم أحد - حتى اليوم - تفسيرًا مقبولاً لكيفية تقديم تاجر قوافل أمي مثل هذا النص ، الذي لا
يُضاهى في الجمال ، وإثارة الانفعالات ،
والذي يزخر بمعرفة وحكمة يحلقان عاليًا عن الأفكار السائدة في ذلك العصر ، وحتى
اليوم . الراسات التي جرت في الغرب لتحاول تحديد المصادر التي استخدمها محمد ، أو
لتلقي الضوء على الظاهرة النفسية التي ألهمت وعيه الباطن ، ابرزت هذه الدراسات
شيئًا واحدًا فقط : تعصب الدارسين ضد الإسلام )) روجيه دوباسكويه ، إظهار الإسلام ص73 ، دار
الشروق .
د. هشام عزمي