مبحث النسخ ردا على يوحنا فوزي



يقول القمص " يوحنا فوزى " تعقيبًا على قول المولى سبحانه و تعالى فى سورة البقرة ( ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ) ( البقرة 106 ) , يقول : ( يتصور البعض أن كل شريعة وردت نسخت ما قبلها فيقولون أن القرآن نسخ الكتاب المقدس و أن المسيحية نسخت الزبور و الزبور نسخ التوراة و هذا كلام باطل لم ترد عنه أى إشارة فى القرآن أو الحديث , و قد قال الشيخ رحمة الله الهندى فى كتابه " إظهار الحق " : ( إن القول بنسخ التوراة بنزول الزبور , و نسخ الزبور بظهور الإنجيل بهتان لا أثر له فى القرآن و لا فى التفاسير , بل لا أثر له فى الكتب المعتبرة لأهل الإسلام ) و فى الواقع أن النسخ يخص القرآن ذاته فهو ناسخ لنفسه فى بعض أجزائه ) .

هكذا دأب القمص " يوحنا فوزى " على خداع قومه البسطاء الذين لا يعلمون شيئًا عما يحاك لهم !

و لبيان مفهوم النسخ أولا نقول :

قال تعالى ( ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ) ( البقرة 106 ) و فى لغة العرب : ننسخ أى نزيل و ننقل , و ننسها أى نمحوها . و فى الإصطلاح عند أهل الإسلام النسخ هو : رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب و السنة .

قال القرطبي : ( النسخ في كلام العرب على وجهين :
أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر . وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً ( أى منقولا) أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وهذا لا مدخل له في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " أي نأمر بنسخه وإثباته ( يعنى نقله ) .
الثاني :الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا ، وهو منقسم في اللغة على ضربين :
أحدهما : إبطال الشيء و زواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله تعالى : "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها" وفي صحيح مسلم " لم تكن نبوة قط إلا تناسخت " أي تحولت من حال إلى حال ، يعني أمر الأمة . قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بأحاديث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم يسنخ بأخرى . وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه ، يقال : انتسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب . وتناسخ الورثة :أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم ، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون ) ( تفسير القرطبي 1/26 ) .

و النسخ واقع شرعًا و جائز عقلاً , و فى هذا يقول الشيخ " محمد صالح العثيمين " عليه من الله جزيل الرحمات :
(
أما وقوعه شرعًا فلأدلة منها :
1-
قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ) ( البقرة 106 ) .
2-
قوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم ) ( الأنفال 66 ) , ( فالآن باشروهن ) ( البقرة 187 ) , فإن هذا نص فى تغيير الحكم السابق .
3-
قوله صلى الله عليه و سلم : " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " ( رواه مسلم ) , فهذا نص فى نسخ النهى عن زيارة القبور .

أما جوازه عقلا ً: فلأن الله بيده الأمر و له الحكم , لأنه الرب المالك , فله أن يشرع لعباده ما تقتضيه حكمته و رحمته , و هل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد ؟ ! ثم إن مقتضى حكمة الله و رحمته بعباده , أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم و دنياهم , و المصالح تختلف بحسب الأحوال و الأزمان , فقد يكون الحكم فى وقت أو حال أصلح للعباد و يكون غيره فى وقت أو حال أخرى أصلح , و الله عليم حكيم ) ( الأصول فى علم الأصول ص 53 ) .
و اعلم أيها القارئ : إن تشريع الله للحكم تشريع ليس وليد اللحظة أو بطريق الصدفة أو بحسب تداعيات الموقف دون سابق علم , بل قرره الله و قدره فى علمه الأزلي قبل أن يكون هذا الكون , فسبحانه يعلم ما هو كائن قبل أن يكون و ما لم يكن كيف كان يكون !
و أيضًا بمقتضى هذا العلم الأزلي فهو سبحانه و تعالى يعلم أن هذا الحكم أو هذا الشرع له وقت محدود ينتهى فيه فيحل مكانه حكم أو شرع جديد وفقًا لقدرات العباد على تحمل هذا الشرع رأفة منه جل و علا بعباده المكرمين , وليس معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد حكم بشىء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم ، كما نرى هذا فى أسفار اليهود و النصارى و العياذ بالله ، إن هذا غير صحيح , لأن الله عندما قدر هذا الحكم أو هذا التشريع قبل أن يقضي به , كان يعلم بعلمه الأزلي أن الحكم له زمن و سوف يطبق لفترة وفقًا لقدرات الخلق و طبائعهم و تقبلهم لهذا الحكم أو هذا التشريع مما يعود عليهم بالمصلحة فى أمور دينهم و دنياهم , فسبحانه يخُفف الأمور على عباده .
إذن فالمشرع الذى وضع هذا الحكم وضعه على أساس أنه سينتهى وسيحل محله حكم جديد كما قال تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجًا ) ( المائدة 48 ) .

يقول فضيلة الدكتور " عمر بن عبد العزيز قريشي " حفظه الله : ( اقتضى ذلك علم الله و حكمته , غاير بين الشرائع لاختلاف الزمان و المكان و المدارك و العقول و تفاوت الأحوال , لكن الدين فى أصوله واحد - فلا نسخ فى الأصول - ) ( نقلا عن إحدى خطب الجمعة لفضيلة الدكتور عمر بن عبد العزيز الأستاذ بجامعة الأزهر و كانت الخطبة بعنوان " حملات التنصير فى مصر " – بتصرف - ) .

قال القرطبي : ( وليس هذا من باب البداء ( أى التشريع الوليد اللحظة دون سابق علم مع عدم معرفة للأمور المترتبة على هذا الحكم أو التشريع إذا شُرع ) بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لضرب من المصلحة ، إظهاراً لحكمته وكمال مملكته . ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمال الأمور ، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليفته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه و إرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى ) ( تفسير القرطبي 1/ 63 ) .

فالنسخ فى حد ذاته دليل على رحمة الله الغير متناهية بعباده المكرمين , فالله ينزل من الأوامر و النواهى ما يناسب طباع أهل كل فترة , سواء كانت هذه الفترة زمنية أو إيمانية , فهو سبحانه و تعالى أعلم بحال عباده من نفوسهم , بل أعلم بأحوالهم قبل وجودهم , أعلم بما يطيقون و بما يتحملون من التكاليف الشرعية وفقًا لطاقاتهم , و لهذا قال القرطبي : ( معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة ( أى النسخ ) ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال و الحرام . روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس ، فقال: ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : لا ، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه . وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ! . ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما ) ( تفسير القرطبي 1 / 62 ) .

و يقول صاحب " الظلال " المرحوم الشهيد بإذن الله " سيد قطب " فى خواطره حول آية البقرة ( ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ) : ( .... فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال – فى فترة الرسالة – هو لصالح البشرية , و لتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها , و الله خالق الناس , و مرسل الرسل , و منزل الآيات هو الذى يقدر هذا , فإذا نسخ آية ألقاها فى عالم النسيان , سواء كانت آية مقروءة تشتمل حكمًا من الأحكام , أو آية بمعنى علامة و خارقة تجئ لمناسبة حاضرة و تطوي كالمعجزات المادية التى جاء بها الرسل , فإنه يأتى بخير منها أو مثلها , و لا يعجزه شئ و هو مالك كل شئ , و صاحب الأمر كله فى السموات و الأرض , و من ثم تجئ هذه التعقيبات ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولى و لا نصير ) ( البقرة 107 ) ) ( في ظلال القرآن 1/101 , 102 - بتصرف - ) .

و قال ابن كثير رحمه الله فى تفسيره لتلك التعقيبات الإلهية لآية النسخ : ( يرشد عباده تعالى بهذا ، إلى أنه المتصرف في خلقه ، بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف ، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصحلة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً ) ( تفسير ابن كثير 1 /181- 182 ).

و قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله : ( فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد ، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانها دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير ، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ، بما أشاء إذ أشاء ، وأقر فيهما ما أشاء ، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى ، لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود ، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته ، وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه )( المصدر السابق ) .

و أضرب للقارئ مثلا من كتاب النصارى " الكتاب المقدس " على سبيل الإيضاح لا على سبيل الإيمان به :

الطلاق فى العهد القديم ثابت لا مرية فيه , إذ جاء فى سفر التثنية ما نصه " إذا أخذ رجل امرأة و تزوج بها . فإن لم تجد نعمة فى عينيه لأنه وجد فيها عيب شئ . و كتب لها كتاب طلاق و دفعه إلى يدها و طلقها من بيته , و متى ذهبت و صارت لرجل أخر , فإن أبغضها الرجل الأخير و كتب لها كتاب طلاق و دفعه إلى يدها و أطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذى اتخذها زوجة له لا يقدر زوجها الأول الذى طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست . لأن ذلك رجس لدى الرب . فلا تجلب خطية على الأرض التى أعطاك الرب إلهك نصيبًا " .( تث 24 : ا - 4 )

فكما نرى النص فى قمة الشدة و الإلزام , لأن هذا يتوافق مع طبيعة اليهود المادية التى يَصعب عليها قبول كل ما هو إلهى روحى , و عندما جاء المسيح قال لأتباعه " و قيل : من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق . و أما أنا فأقول لكم : ان من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزنى , و من يتزوج مطلقة فإنه يزنى" ( مت 5 : 31) . فاعترض اليهود عليه قائلين " فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق ؟ " فقال المسيح لهم : " إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا النساء . لكن من البدء لم يكن هذا " (مت 19 : 3- 10) ....... فتأمل !

و اليهود و معهم النصارى ينكرون أمر النسخ رغم أنه ثابت فى أسفارهم , فهم يظنون أن معنى أن ينسخ الله حُكماً ، أنه أخطأ وندم على ذلك ويحاول إصلاح ما أفسده من قبل , وأهل العلم منهم يحاولون أن يخفوا خيبة كتابهم عندما ذكر أن الرب ندم لفعل أشياء معينة بعد أن اكتشف خطأه فى السماح لفعل هذه الأشياء ، وهم بذلك يريدون أن يرموا الإسلام بما تُتَّهم به كتبهم:

"
فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ . الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ " ( تكوين 6: 6-7 )

"
وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى صَمُوئِيلَ: «نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكاً, لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي» " ( صموئيل الأول 15: 10-11)

وأيضاً " فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ " ( خروج 32: 14 )

وأيضاً " َالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ" ( صموئيل الأول 15: 35 )

مع العلم أن " ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ " ( عدد 23: 19) !!

ويسير أهل الجهل منهم على دربهم ، على عمى دون وعي أو بصيرة , فما صدرت منهم دعواهم إلا من تأثير هذه النصوص فى عقولهم و صدورهم !
إن المرء إذا كان سليم النفس , حسن الطوية , عرف مراد الحديث و غايته , و إذا كان مريض النفس معوجًا , انحرف و ضل سعيه ضلالا مبينًا !

فهل ينضح البئر إلا بما فيه ؟!

قال القرطبي : ( أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ( أى النسخ ) ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة . وأنكرته أيضاً طوائف من اليهود ، وهم محجوجون بما جاء في توارتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه . ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان ، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره ، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ) ( تفسير القرطبي 1 / 63 ) .

و قال ابن كثير : ( وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً...... والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه ) ( تفسير ابن كثير 1 / 181 , 182) .

و قال الشيخ رحمة الله بن خليل الهندى : ( .... فكذلك فى نسخ الأحكام حكم و مصالح له - تبارك و تعالى - , نظرًا إلى حال المكلفين و الزمان و المكان , ألا ترى أن الطبيب الحاذق يبدل الأدوية و الأغذية بملاحظة حالات المريض و غيرها على حسب المصلحة التى يراها , و لا يحمل أحد فعله على العبث و السفاهة و الجهل ؟ فكيف يظن عاقل هذه الأمور فى الحكيم المطلق العالم بالأشياء بالعلم القديم الأزلي الأبدي ؟ ! ) ( إظهار الحق ص 232 ) .

فاليهود و النصارى ليس لهم أى حجة فى رفض مبدأ النسخ لأن كتابهم خير شاهد على هذا الباب ( أى النسخ ) كما سنبين إن شاء الله , بل ستفاجأ عزيزى القارئ أن القمص " يوحنا فوزى " أقر بوقوع النسخ فى كتابه المقدس !

 

 

و بالنسبة لمزاعم القمص " يوحنا فوزى " و دعواه فى أن القرآن الكريم ليس بناسخ للكتاب المقدس مستدلا بقول للشيخ " رحمة الله بن خليل الهندى " فى كتابه الماتع " إظهار الحق " هو من تحريفاته و كذباته التى يغزلها فى مخيلته ثم ينسج حولها ما يريد أن يروج له بين عوام شعبه الذين بُرمجوا على قبول كل ما يقوله القسيس !

و لنضع الأن ما قاله الشيخ " رحمة الله الهندى " فى كتابه " إظهار الحق " , يقول الشيخ : ( في الفصل الثاني من الباب الأول من " ميزان الحق " ( كتاب من تأليف القسيس " بفندر " الذى ناظره الشيخ "رحمة الله " فى الهند عام 1854م ) في الصفحة 17: "يدعي القرآن والمفسرون في هذا الباب- أي النسخ - أنه كما نسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل فكذلك نسخ الإنجيل بسبب القرآن" انتهى، فقوله ( أى " بفندر " ) : (نسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل) بهتان لا أثر له في القرآن ولا في التفاسير، بل لا أثر له في كتاب من الكتب المعتبرة لأهل الإسلام، والزبور عندنا ليس بناسخ للتوراة، ولا بمنسوخ بالإنجيل، وكان داود عليه السلام على شريعة موسى عليه السلام، وكان الزبور أدعية , فلعله ( أى القسيس " بفندر " ) سمع من بعض العوام ، فظن أنه يكون في القرآن والتفاسير فنسب إليها، فهذا حال هذا المحقق في بيان الدعوى في الطعن الذي هو أول المطاعن وأعظمها.‏.... ولما طلبت منه تصحيح النقل في هذين القولين في المناظرة التي وقعت بيني وبينه في المجمع العام ، ما وجد ملجأ سوى الإقرار بأنه أخطأ ، كما هو مصرح في رسائل المناظرة ) ( إظهار الحق ص 13 ) .

و يتبين عند الناظر الخبير ما يلى :

1-
أن الشيخ لم يقل أن النسخ غير جائز و لم يقل أن القرآن الكريم ليس بناسخ للكتاب المقدس , بل كان جل ما تحدث عنه الشيخ هو تصحيح عبارة زعم القسيس " بفندر " أنها فى القرآن الكريم و قال بها المفسرون و هى قول " بفندر " : ( نسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل ) و لم يتعرض الشيخ " رحمة الله الهندى " لقول القسيس " بفندر " : ( .... فكذلك نسخ الإنجيل بسبب القرآن ) لأن هذا ثابت لا مرية فيه , فأين قال العلامة " رحمة الله الهندى " أن القرآن الكريم لم ينسخ الكتاب المقدس كما زعم القمص " يوحنا فوزى " ؟ !
بل إن الشيخ " رحمة الله الهندى " قال للقسيس " بفندر " حين سأله الأخير فى المناظرة التى كانت بينهما : " أتقولون أن الإنجيل منسوخ أم لا ؟ " , فقال الشيخ : " نحن نعتقد نسخه بالمعنى الذى سيذكر . لكن المطلوب منكم ههنا تصحيح النقل , و إظهار أن ادعائكم فى الموضعين غلط ( فإن الزبور ليس بناسخ للتوراة , و لا منسوخ من الإنجيل ) " ( مناظرة الهند الكبرى ص 116) .
فكيف يعقل بعد هذا البيان أن الشيخ " رحمة الله الهندى " أنكر " النسخ " ؟! بل كيف يعقل هذا عن الشيخ " رحمة الله الهندى " و هو الذى وضع بابًا كاملاً فى كتابه الماتع " إظهار الحق " عن " النسخ " فضلاً عن مناظرته مع القسيس " بفندر " حول الأمر ذاته ؟ !
إن القمص " يوحنا فوزى " يخلط العبارات ببعض و لا أدرى ما هو وجه الإستفادة من الكذب على رعاياه ؟ !

2-
قول القمص فى بداية كلامه : ( يتصور البعض أن كل شريعة وردت نسخت ما قبلها فيقولون أن القرآن نسخ الكتاب المقدس ...... ) , قول يحتاج لبيان , لأن القرآن الكريم لم ينسخ الكتاب المقدس , بل نسخ التوراة ( توراة موسى ) و الإنجيل ( إنجيل عيسى ) و كل كتاب قبله , و توراة موسى و إنجيل عيسى ليسا الكتاب المقدس , فإذا كان القرآن الكريم قد نسخ التوراة و الإنجيل بل و كل كتاب قبله قبل أن يمسه التحريف فكيف بحاله مع الكتاب المقدس الذى أثبتنا أنه ليس التوراة و ليس الزبور و ليس الإنجيل و أثبتنا أن التحريف واقع به باعتراف علماء الكتاب المقدس أنفسهم ؟ !

3-
قول القمص " يوحنا فوزى " : ( فيقولون أن القرآن نسخ الكتاب المقدس ..... و هذا كلام باطل لم ترد عنه أى إشارة فى القرآن أو الحديث ) إن كان يعنى به أن القرآن الكريم لم ينسخ أسفار السابقين فلقد بينا أن القرآن الكريم ناسخ لكل كتاب قبله عند وقوفنا عند قول الله تعالى ( و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنًا عليه ) ( المائدة 48 ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ....فبين أنه ( أى الله سبحانه و تعالى ) أنزل هذا القرآن مهيمنًا على ما بين يديه من الكتب , والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها , ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها , وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكًا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها فإنه من أهل الإيمان والهدى , وكذلك من كان متمسكًا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد صلى الله عيه و سلم في غير موضع ) ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1 / 262 ) .

و يقول الشيخ " السيد سابق " رحمه الله : ( و للقرآن مزايا تميز بها عن الكتب السماوية التى تقدمته – نذكر منها – أنه تمضمن خلاصة التعاليم الإلهية التى تضمنتها التوراة و الإنجيل و سائر ما أنزل الله من وصايا , و أنه مؤيد للحق الذى جاء بها : من عبادة الله وحده و الإيمان برسله , و التصديق بالجزاء , و وجوب إقامة الحق , و التخلق بمكارم الأخلاق ( و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجًا ) ( المائدة 48 ) أى أن الله أنزل القرآن الكريم على النبى مقترنًا بالحق فى كل ما جاء به , و مصدقًا لما تقدمه من الكتب الإلهية التى أنزلها الله على الأنبياء السابقين , و رقيبًا عليها : يقر ما فيها من حق , و يبين ما دخل عليها من تحريف و تصحيف , ثم يأمر الله نبيه أن يحكم بين الناس : مسلمين و كتابيين , بما أنزل الله فى القرآن متجنبًا أهواءهم , و أنه سبحانه جعل لكل أمة شريعة و طريقة فى الأحكام العملية تناسب استعدادها , أما أصول العقائد و العبادات و الآداب و الحلال و الحرام و مالا يختلف باختلاف الزمان و المكان فإنها واحدة فى الأديان كلها ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا و الذى أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه ) ( الشورى 13 ) ثم نسخت الأحكام العملية السابقة بالشريعة الإسلامية , و الأحكام النهائية الخالدة الصالحة لكل زمان و مكان , و أصبحت العقيدة واحدة , و الشريعة واحدة للناس جميعًا ) ( العقائد الإسلامية ص 142-143 ) .

و يقول العلامة " أبو بكر الجزائري " حفظه الله : ( .... و ليس أدل على نسخ القرآن الكريم للكتب قبله من أمر الله تعالى لنبي القرآن صلى الله عليه و سلم أن يحكم بين سائر الناس على اختلاف من ينتحلون من ديانات بالقرآن الحكيم , و ذلك فى قوله تعالى ( و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجًا ) و قوله تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ( النساء 105 ) ) ( عقيدة المؤمن ص 150 ) .

 

أبو عبيدة