شبهة التناقض في القرآن-الطاعة و المعصية

 

د. هشام عزمي كتب في : Jul 21 2004, 10:08 PM

أقتباس كل المخلوقات في السموات و الأرض طائعة و قاتنة لله تعالى (30 : 26) . و مع ذلك نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر (مثلاً : 69 : 10
) .

الجواب:

كل المخلوقات ، في السموات و الأرض ، طائعة و قانتة لله ، سبحانه و تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } (الروم : 26) .
فهم قانتون لله ، أي خاضعون و مطيعون لإرادته ، سبحانه و تعالى . .
و مع ذلك يشهد الواقع ، و تحكي الآيات القرآنية الكثير عن حالات العصيان و عدم الطاعة من جانب البشر . . و ذلك من مثل قوله سبحانه : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } (الحاقة : 9-10) .
ففي هذه الآية وحدها إشارات إلى عصيان فرعون . . و عصيان من سبقه من المؤتفكات - أي قرى قوم لوط - الذين أخذهم الله أخذة رابية ، أي زائدة في الشدة على غيرها . .
بل إن تاريخ الإنسانية هو صراع بين أهل الطاعة و أهل العصيان . . حتى أن المأثورالنبوي الشريف قد تحدث عن أن كل بني آدم خطاء ، و خير الخطائين التوابون . .
فكيف يتسق شيوع العصيان في البشر ، مع الآية القرآنية التي تحدثت عن أن كل من في السموات و الأرض قانتون - أي خاضعون و مطيعون - لله سبحانه و تعالى؟
إن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل ، هو فهم أنواع الإرادة الإلهية و القضاء الإلهي . . فالله سبحانه لا يريد العصيان ، و لا يقضي بالشر . . لكن إرادته و قضاءه نوعان :
1 -
إرادة و قضاء تكويني و حتمي للمخلوقات غير المخيرة . . و ذلك مثل القضاء الذي تتحدث عنه الآية : {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت : 12) . . و من مثل : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (البقرة : 117) .
ففي هذا اللون من الأمر الإلهي و القضاء الرباني تكون المخلوقات غير المختارة مجبولة على القنوت و الطاعة و الخضوع لله سبحانه و تعالى . .
2 -
إرادة و قضاء معهما تخيير . . و ذلك خاص بالإنسان المخير . . المكلف . . المسئول . . و الذي له - بسبب هذا التخيير و الحرية - حساب و جزاء .
و إلى مثل هذا تشير الآيات : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } (الإسراء : 23-24) .
فنحن هنا أمام قضاء إلهي ، شاء الله سبحانه و تعالى أن يترك للإنسان المخير إزاءه حرية الطاعة و العصيان ، ليتميز الخبيث من الطيب ، و ليكون الجزاء وفق العمل و الإرادة و الاختيار . . فالإنسان المخير ، الذي هداه الله النجدين ، له قدرات و استطاعات الطاعة و العصيان . . و لذلك ، كان من جنس الإنسان المؤمن و الكافر ، و المطيع و العاصي ، و من يبتغي وجه الله ، و من يبتغي غير دين الله . . بينما المخلوقات غير المختارة مجبولة على الطاعة و الخضوع { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (آل عمران : 83) ، { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ } (الرعد : 15) ، { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فصلت : 11) .
ففي مخلوقات الله مخلوقات مجبولة على الطاعة و الخضوع . . و في هذه المخلوقات ، منهم من يطيع و منهم من يختار العصيان ، فيبتغي غير دين الله !