بسم الله الرحمن الرحيم

 بادئ ذي بدئ
فإن مما يحار العقل بفهمه واستيعابه نفي الخالق لهذا الكون
كيف لا والأدلة على وجوده كثيرة لا ينكرها ألا جاحد أو متكبر.
قد يقول اللادينيون أن هذا محض افتراء وانه على العكس تماما مما يقول لنا هذا الديني...ولكل أدلته وحججه.
ولكن نور الشمس لا ينكره عاقل أبدا!!!!
ليس ينكر نور الشمس إلا..........من يشك بعقله العلماء
إن ما نراه من حقائق الكون كلها إنما هو فيض عن حقيقة واحدة كبرى ألا وهي ذات الله عز وجل ومن المحال أن تدرك ماهية الحقائق المتفرعة الصغرى قبل أن تدرك منبعها وأصلها الأول.فكان لابد إذا لكي تستطيع التعرف على الكون من أن تعرف خالقه أولا.
إن وجود الله عز وجل دعوى علمية تتعلق من العلم بجانب لا يخضع للتجربة والمشاهدة…
ولذلك فإن تدليلنا على وجود الله سيكون بالبراهين اليقينية.عندها فقط سنعلم أنه لم يخلق شيئا من هذا الكون عبثا ودلنا هذا بدوره على صدق الأنبياء والرسل فيما بعثوا فيه من التكاليف ودلنا الإيمان بالرسل على الإيمان بالكتب وبالقرآن أنه كلام الله عز وجل ثم دلنا الإيمان بكلام الله على الإيمان بكل ما تضمنه من أخبار وأحكام وأوامر ونواه مختلفة....ولنسم هذا الطريق بطريق التدرج من أعلى...
هناك بعض الحقائق البديهية التي لا تحتاج إلى برهان والتي تقوم عليها كل حقيقة علمية مهما دقت هذه الحقائق وهي :
1-بطلان الرجحان بدون مرجح
2- بطلان التسلسل
3-بطلان الدور
4-قانون العلية
أولا : برهان بطلان الرجحان دون مرجح :
و معنى الرجحان دون مرجح أن يكون الشيء جاريا على نسق معين ثم يتغير عن نسقه و يتحول عنه بدون وجود أي مغير أو محول إطلاقا فهذا من الأمور الواضحة البطلان و جميع العقلاء يعلمون أن الأصل بقاء ما كان ... على ما كان عليه .....ولا بد لتحويله عن حاله السابقة من محول و مؤثر يفرض عليه هذا الوضع الجديد و ينسخ حاله القديمة ....
إن جميع الأمور و الأشكال المفروضة في الذهن لا تعدو أن تتصف بأحد أوصاف ثلاثة…. الوجوب .....,الاستحالة…..,الإمكان .
فما اتصف بالوجوب هو ما يحيل العقل عدمه و ما اتصف بالاستحالة هو ما يحيل العقل وجوده و ما اتصف بالإمكان هو مالا يحيل العقل وجوده ولا عدمه.. وهذا الكون الذي نراه في جملته إنما هو من نوع الممكن أي أن العقل يجزم بأنه لا يترتب أي محال على فرض انعدامه و يرى أن من الممكن أن توجد أسباب تعدمه من أصله دون أن يستلزم ذلك محال لا يقبله العقل ..
وهذا يعني أنه لا بد لهذا الكون الذي كان في أصله قابلا لكل من الوجود و العدم بحد سواء من قوة خارجة عنه مؤثرة فيه خصصته لجانب الوجود و تلك القوة هي قوة الله عز و جل كما سنرى..
فإن قلت : إنني افرض أنه وجد بذاته دون أي قوة مؤثرة خارجية استلزم فرضك هذا القول برجحان الشيء بدون مرجح له و هو باطل كما علمت فبطلت الفرضية التي استلزمتها أيضا .
و على هذا اليقين وضع الفارابي برهانه على وجود الله فقال :
(إن الموجودات على ضربين:أحدهما ممكن الوجود والثاني واجب الوجود ......و ممكن الوجود إذا فرض غير موجود لم يلزم عنه محال وليس بغني بوجوده عن علته و إذا وجد صار واجب الوجود. لغيره .لا بذاته ...أما واجب الوجود فمتى فرض غير موجود لزم عنه محال ولا علة لوجوده ولا يجوز كون وجوده بغيره والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة و معلولة ...ولا يجوز كونها على سبيل الدور بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب هو الموجود الأول الذي هو السبب الأول لوجود الأشياء وهو الله تعالى) .
و على تعبير ديكارت القريب التناول : (إننا موجود فمن أوجدني و من خلقني ؟؟ إنني لم أخلق نفسي ..فلا بد لي من خالق و هذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود و هو الله بارئ كل شيء )
و على تعبير باسكال : ( إنه كان يمكن أن لا أكون لو كانت أمي قد ماتت قبل أن أولد حيا .....فلست إذا كائنا واجب الوجود ...فلا بد من كائن واجب الوجود يعتمد عليه وجودي وهو الله ....).
وعلى تعبير القران ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟؟؟))؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ولكن ماذا لو قلت :
فأنا افرض أن العالم قديم في وجوده هذا لا أول له ولا سبق للعدم عليه :
هنا ننتقل إلى الحقيقة الفطرية الثانية .
ثانيا :برهان بطلان التسلسل :
ومعنى التسلسل افتراض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى مالا نهاية بحيث يكون كل واحد منها معلولا لما قبله و علة لما بعده ...دون أن تنبع هذه السلسلة أخيرا من علة واجبة الوجود هي التي تضفي التأثير المتوالد على سائر تلك الحلقات .
فهل تعني يا عزيزي إذا أن هذا العالم مستمر بحكم التوالد الذاتي الذي لا أول له!!!... و هذا الفرض يستلزم إمكان التسلسل و قد علم العقلاء كلهم بحكم البداهة أن التسلسل محال فتستحيل عندها الفرضية التي أدت إليه .
إذ أن سلسلة المخلوقات الممكنة مهما طالت و طالت فان استمرار طولها لا يخرجها على كل حال عن كونها ممكنة و الممكنات لا بد لرجحان أحد طرفي الإمكان فيها من مرجح كما قلنا سابقا ولنعتبر أن التسلسل حلقات فحلقات السلسلة كلها لا تأثير ذاتي في واحدة منها مهما طال الزمن ..إذا فلكي نصدق أنها موجودة لا بد أن ننتظر ظهور المؤثر الخارجي الذي أمد السلسلة بالحياة فراحت بدورها تنتقل من حلقة إلى حلقة وإلا كان لا بد من الجزم بأحد أمرين
1-إما أن كل هذه السلسلة مفقودة إذ لم يثبت وجود ذلك الذي قذف فيها الحياة .
2-إما أنها موجودة ولكنها تنبع أخيرا من ذات واجبة الوجود تؤثر فيها ولا تتأثر بشيء .
أما الأول فظاهر البطلان لان الحس والمشاهدة يكذبانه.
وأما الثاني وهو تيقن أن لابد له من مصدر ذاتي وهبه الحياة والقدرة على الحركة والتطور والتوالد ....
فبطل التسلسل المذكور .
و كما نعلم فالعالم مركب بمجموعه و أجزائه و كل مركب حادث بداهة و العالم بما فيه متغير تغيرا مستمرا من صورة إلى صورة ... وكل متغير من صورة إلى صورة لا يمكن أن تكون له صورة أصلية أزلية قديمه لأنها لو كانت كذلك لم يجز أن يطرأ عليها التغير .
والقول بتسلسل الصور إلى غير نهاية ....غير صحيح ..لأن التسلسل مستحيل عقلا ...فلا بد أن نقف عند حد و نقول إن هذا المتغير لم تكن له في أول أمره صوره ...وإذا لم تكن له صوره لا يكون له وجود لأن الصورة تشمل الشكل و الحجم والوزن واللون و الطعم والرائحة و متى فقد الشيء هذه الصور كلها فقد وجوده ....(.فالعالم المتغير إذا لم يكن موجودا ثم وجد) ...فالعالم إذا حادث والعقل بقوة قانون العلية البديهي يحكم بداهة بأن كل حادث لا بد له من سبب يحدثه و هذا السبب المحدث لا يجوز أن يكون حادثا لأنه يفتقر إلى سبب محدث له ... ولا يجوز القول بتسلسل الأسباب إلى غير نهاية لأن التسلسل ممتنع عقلا ....فلا بد أن يكون المحدث الصانع للعالم قديما وهو الله تعالى الذي خلق العالم و أحدثه بعد العدم المطلق .
أني أعلم أن هذه كلها بديهيات عقليه يأخذ بعضها برقاب بعض ... ولكن هذه البديهيات يزاحمها في الذهن عند آخر مراحل التفكير ارتباك و كلال عند تصور النهاية التي ليس وراءها أي شيء واللانهاية التي لا تقف عند حد والأزلية التي ليس لها بداية والزمن الذي ليس قبله زمن والمكان الذي ليس وراءه أي شيء ...والعدم المطلق .
ولكن أشد ما يؤرق التفكير هو تصور الخلق من العدم (لاحظوا كلمة الخلق).
ولكن إذا علمنا أن العالم الواقع المشاهد هو من قسم الممكن لأننا نستطيع تصور عدم وجود العالم و بما أنه ليس هو الذي أوجد نفسه -أي العالم -(لأن هذا التصور يوجد تناقضا عقليا لأنه يصبح واجب الوجود والحال أنه ممكن) فلا بد إذا من علة كافية لوقوعه ووجوده...... و قبل أن تحدثه العلة الكافية لم يكن موجودا فلا بد إذا من تصور العدم سابقا لحدوث العالم .
فهل تصور إيجاده بعد العدم يوجب تناقضا عقليا؟؟؟؟؟؟
كلا ...بل إن التناقض العقلي إنما يكون إذا تصورنا عدم سبق العدم لوجود العالم .
ويعجز العقل البشري عن تصور ذلك ... ولكن ما قيمة هذا العجز أمام البرهان القاطع؟؟؟؟؟؟؟
ألا تؤمنون بالحقائق الرياضية وتجدون اليقين في نتائجها الصحيحة؟؟؟؟؟
ألستم تعرفون كثيرا من الحقائق الرياضية التي تستند إلى أوليات بديهية عقلية تكون في اول الأمر خافية عليكم ولا تظهر لكم إلا بالتأمل والاستنتاج و البرهنة .
إن عقولنا في مجال الأعداد الكبيرة تكل عن تصور حقائق واضحة لا تحتاج إلا لتأمل قليل و حساب بسيط من نوع الجمع .... ويكون كلالها غريبا جدا ...حتى تمارى في النتيجة ولو أخبرها بها أصدق الناس وأعلمهم ....

ولنضرب على ذلك مثال أحجية الورقة المقطعة ...
فلو أعطيت ورقة رقيقة بالغة الرقة سمكها جزء من مائة جزء من الميليمتر ...و طلب منك أن تقطعها نصفين ثم تقطع النصفين ثانية ليصبحا أربعة ثم تقطع الأربعة لتصبح ثمانية ......وهكذا إلى أن تكرر القطع والتضعيف( ثمان وأربعين) مرة ...ثم سئلت: قبل أن تبدأ بالقطع و قبل أن تحسب كم تتوقع أن تصبح سماكة هذه الأوراق الرقيقة بعض قطعها( ثمان وأربعين) مرة؟؟؟؟؟؟
لم تقل مهما بالغت في التقدير أن سمكها يزيد على متر واحد أو مترين أو ثلاثة ..فإذا قيل لك أن سمكها سوف يزيد على(10) كيلومترات ....لم تصدق وأما إذا قيل لك انك إذا كررت القطع إلى المرة أل( ثمان وأربعين) ثم جعلت الأوراق المقطعة ركاما مرصوصا صاعدا في السماء فإنه يلمس أو يكاد يلمس القمر الذي يبعد عن الأرض (384)ألف كيلومتر ..نفرت و حسبت القارئ يسخر منك و بعد أن تتحقق بذلك بالحساب البسيط لو أردت تصوره تجد عقلك كليلا عاجزا عن تصوره!!!! .
خذ قلمك واحسب ..

وبعد هذا كله فإن فرض التسلسل منقوض بالحس والمشاهدة ذلك أننا جميعا نعلم أن هنالك مخلوقات نوعية انقرضت وانتهت فلو صح بأن الموجودات تتسلسل إلى ما نهاية بأن يكون كل حلقة فيها معلولا بما قبلها و علة لما بعدها ....فلماذا انقرضت هذه الموجودات؟؟؟ إذ كيف تنقرض و هي علة لما بعدها ؟؟؟؟ وهذا إخلال بنظام التسلسل المزعوم .

ثالثا :برهان بطلان الدور :
فإن قلت (فأنا أرجع إلى أن العالم حادث وله علة أثرت في إيجاده ولكن لا تتمثل هذه العلة في أكثر من التفاعل الذاتي المتدرج كتفاعل العناصر الأولية للحياة كالكربون والهيدروجين والأوكسجين التي تلاقت و نتج عنها مركبات عضوية لا حصر لها )
فالجواب أن هذا الفرض يستلزم القول بالدور

ومعنى الدور أن يتوقف الشيء في وجوده المطلق أو تكييف معين له على شيء آخر إلا أن هذا الشيء متوقف في ذلك الوجود أو التكييف و في نفس الوقت على ذلك الشيء الأول ... مثال ذلك ما لو قلنا أن وجود البيض متوقف على وجود الدجاج ثم نقول أن وجود الدجاج قبل البيض و فرضنا أن لا وسيلة إلى وجود هذا ولا ذاك إلا عن هذا الطريق فإن من البديهي أن كلا الأمرين يظلان معدومين حتى يأتي مؤثر خارجي يفك هذا الطوق ..

رابعا:قانون العلية (العلة الغائية) :افرض أنك نظرت إلى وعاء أمامك فوجدت فيه قطعا من الآلات المختلفة الدقيقة ولما تأملتها جيدا اكتشفت أن لكل واحدة منها مكانا تركيبيا دقيقا من الأخرى .... فآخذت تجمع هذه الأجزاء و عندما فرغت من وضع آخر آلة منها في موضعها فوجئت بصوت دقيق رتيب ينبعث في حركة مطردة من داخل تلك الآلات و تأملت فإذا هي ساعة زمنية ...فما لذي تدركه عقب هذا كله ؟؟؟؟؟

إنك تدرك دون ريب أن لكل آلة من تلك الآلات الدقيقة غاية جزئية معينه قد هيأت لتحقيقها وأن لمجموعها غاية نوعية واحدة هي ضبط الزمن ..

فظهور العلة الغائية دليل قطعي على وجود مدبر صممه على هذا النحو إذ لا تملك الأجهزة الجامدة أن تفكر لتسير وحدها نحو غايات معينة .
هذه الحقيقة الواضحة التي تشكل برهانا يقينيا آخر على وجود الله جل جلاله والتي يسميها الغربيون (العلة الغائية) و علماء الكلام (دليل الحكمة والتناسق) هي التي يظل القران يوجه العقول إليها بأساليب رائعة مختلفة يفهمها الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية .

إن أفلاطون من أول الفلاسفة القائلين بوجود الله و بأنه الخالق للعالم والمدبر لأمره ويقيم على ذلك براهين أهمها برهان النظام فيقول:
(إن العالم آية في الجمال والنظام ولا يمكن أبدا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقيه بل هو صنع عاقل كامل توخى الخير و رتب كل شيء عن قصد و حكمه .
وجاء (اناكساغورس),بعد (ديموقريطس) .....فقال (من المستحيل على قوة عمياء أن تبدع هذا الجمال و هذا النظام الذين يتجليان في هذا العالم لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد بصير حكيم).




يتبع

ابو محمد الشامي

 

عوده