الجزية رحمة وسماحة
الإمام حسن البنا
:
الجزية ضريبة كالخراج تجبى على الأشخاص لا على الأرض والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شئ هو الحماية والمنعة، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها كزيت ومعناها الخراج الذي يستعان به على الحرب . وقال إن كسرى هو أول من وضع الجزية وعلى هذا فهي نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره .

ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التى يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية . فهي بدل نقدي لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهي في الحقيقة امتياز في صورة ضريبة وفى الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين من غير ذوي العقيدة الصحيحة والحماسة المؤمنة البصيرة ومقتضى هذا أن غير المسلمين من أبناء البلاد التى تدخل تحت حكم الأسلام إذا دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية . وقد جرى العمل على هذا فعلا في كثير من البلاد التى فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي ومنها :
1- كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حين دخل الفرات وأوغل فيه وهذا نصه(( هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه . إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا كتب سنة اثنتى عشرة في صفر)) .
2-وفى حمص رد الأمراء بأمر أبي عبيدة ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم وقالوا لأهل البلاد إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك الآن وقد رددنا علكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فكان جواب أهل هذه البلاد ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلوا كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شئ، لولايتكم وعدلكم أحب إليننا مما كنا فيه من الظلم والغشم، وكذلك فعل أبو عبيدة نفسه مع دمشق حين كان يتجهز لليرموك .
3-كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر رضى الله عنهما لرزبان وأهل دهيستان وسائر أهل جرجان ونصه (هذا كتاب سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال ومن استعنا به منكم فله جزاؤه أي جزيته في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومالهم وشرائعهم ولا يغير شئ من ذلك) شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتبة بن النهاس وكتب في سنة 18هـ - الطبري .
4-كتاب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه : هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشعارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة أي جند منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك – الطبري .
5-العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر وبين شهر براز وقد كتب به سراقة إلى عمر فأجازه واستحسنه وهذا نصه ( هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان . أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاورا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم أي الغرباء والقناء أي المقيمون ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحًا على أن يوضع الجزاء أي الجزية عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء فإن حشروا أي جندوا وضع ذلك عنهم ) شهد عبدالرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيع وبكير بن عبدالله وكتب مرضى بن مقرن وشهد – الطبري .
6-أخيراً أمر الجارجمة فيما ذكره البلاذري فقال حدثني مشايخ من أهل إنطاكية أن الجراجمة من مدنية على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وإنطاكية إلى بطريرك إنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيدة إلى إنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل إنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل لكام وألا يؤخذوا بالجزية ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح ... ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط حتى أن بعض العمال في عهد الواثق العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم .
وبهذا البيان يندفع كل ما يوجه إلى ضرية الجزية من نقد أو اتهام وتظهر حكمة الإسلام ورحمة الله بعباده في تشريعاته واضحة لا غموض فيها ولا إبهام .
7- الحث على دوام الاستعداد وكمال الشجاعة إذا تحتم الجهاد .
    فإذا كان ولا بد من الحرب لغرض من الأغراض الإنسانية المشروعة التى سبقت الإشارة إليها، فإن الإسلام يصرح بأن الجهاد والقتال فريضة على كل مسلم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216) .
وهو حينئذ أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى والموت في ساحاته شهادة توجب الإكبار في الدنيا والجنة في الآخرة ولا يعفى منه إلا العاجزون عنه وعليهم أن يجهزوا غيرهم إن كانوا قادرين على ذلك وأن يخلفوهم في أهليهم بخير (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )  (التوبة:111) .
وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أكثر من أن تحصر وقد باشر هو بنفسه في أكثر من خمس وعشرين معركة كان فيها مثال الشجاعة والنجدة والبأس حتى قال فارس أصحابه على كرم الله وجهه، كنا إذا اشتد البأس وحمى الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أدنانا إلى العدو وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم يفعلون . ولا يستطيع أحد أن يرى قى هذه الأحكام والأخلاق لمثل ما شرعت له من مقاصد وأغراض إلا أكرم معاني الفضيلة الإنسانية والجود بالنفس أقصى غاية الجودة وأجمل ما يكون الحق إذا استعان بالقوة وأفض ما تكون القوة إذا استخدمت للحق بالحق .

الرئيسيه