شعيرة الحج وتنقيبات المستشرقين في أصولها

 
يساهم المستشرق فير T.H.Weir في "دائرة المعارف الإسلامية" بتكريس شبهة التأثير النصراني واليهودي والجاهلي في صياغة ملامح الشريعة الإسلامية والإيحاء بأن العديد من العبادات التي جاء بها النبي محمد ما هي إلاّ موروثات متأصلة لدى العرب زمن الجاهلية حيث يقول تحت مادة "الجاهلية": "... ولكنه [محمداً صلى الله عليه وآله وسلم] وجد الحج إلى الأماكن المقدسة متأصّلاً في نفوس العرب لا يستطيع له دفعاً. وكان قصاراه أًلاّ يُبقي من بيوت العبادة إلاّ على بيت واحد جعله بيت الله الواحد".
 
ويقول الهولندي فنسنك في نفس الاتجاه تحت مادة "أصل الحج في الإسلام": " لم تكن نظرة النبي إلى الحج واحدة على الدوام، فلابد أنه اشترك كثيراً في مناسكه وهو حَدِث، أمّا بعد دعوته فقد كانت عنايته قليلة أول الأمر بالحج. فلم يرد ذكر الحج في السور القديمة. ولا يبدو من المصادر الأُخرى أن النبي اتخذ خطة محددة حيال هذه العادة الوثنية الأصل".
 
ويفصّل "فنسنك" أكثر في دعمه لهذه الشبهة فيقول تحت نفس المادة: "إن الوقوف في سهل عرفات من أهم مناسك الحج، فالحج بدون الوقوف باطل في الإسلام، وإنما يفسّر هذا الأمر بأنه أثر لفكرة جاهلية، وقد وازن "هوتسما Houtsma" بين الوقوف وبين إقامة بني إسرائيل على جبل سينا. فهؤلاء يعدّون أنفسهم لهذه الإقامة بالامتناع عن النساء وبغسل ثيابهم، وبذلك يقفون أمام الرب، وعلى هذا النحو لا يقرب المسلمون النساء ويرتدون ثياب الإحرام ويقفون أمام الخالق في سفح جبل مقدّس".
وينساق "فنسنك" تحت مادة "إحرام" مع هذه الدعوى قائلاً: "ونلاحظ أن ثوب الإحرام ربما كان الثوب المقدّس عند قدماء الساميين، إذْ إنَّ الجزء الأعلى من الثوب الذي كان يرتديه الكاهن الأعظم في "العهد القديم" كان غير مخيط.. ويرتدي كهنة اليهود الأفود "الصُّدرة" حول الحرقفتين والمَيل حول الكتفين. ونجد لهذا نظيراً في الإسلام عند الصلاة وفي تكفين الميت.
وكان العرب في جاهليتهم عند الكهانة يلبسون رداءً ومئزراً، كما كان الزهاد المتأخرون يرتدون مثل هذا الثوب. يضاف إلى ذلك أن اللون الأبيض يعدُّ مقدساً في كثير من الأديان... فلباس الإحرام والحالة هذه قديم جداً ولا يرجع أصله للإسلام. زد على ذلك أن لبس الحذاء محرمٌ كذلك... وهذه عادة سامية قديمة كذلك... ويجب كذلك على المحرم أن لا يغطّي رأسه، وربما كانت هذه عادة من عادات الحزن قبل الإسلام".
وينقل "فنسنك" رأي المستشرق سنوك هجروينيه في هذا الموضوع، الذي صوّر هذه الشبهة مرةً بأنها نظريات يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتفادى بها الصورة القاسية التي كانت تمارس بها هذه العبادات في الجاهلية، ومرةً أُخرى يصوّرها بأنّها ممارسات مشتملة على قذارات كانت على عهد الجاهلية، ومنها ما كان على عهد الديانات السامية أيضاً كاليهود فيقول في مادة "إحرام": "إن محرّمات الإحرام قد غدت قاسية في نظر النبي، لذلك نجده أثناء مكثه في مكة قبل الحج يتحلّل من هذه المحرّمات،... وعلى ذلك فإن ما تراءى للنبي ومعاصريه أنه إهمال يستوجب التكفير قد غدا في نظر الأجيال اللاحقة أمراً مباحاً... وقد منع الشرع المُحْرِم من جملة أُمور: النكاح والتطيّب وإراقة الدم والصيد، كما حرّم اقتلاع النبات.

ونلاحظ بهذه المناسبة أن بعض الأديان الساميّة يحرّم النكاح في حالات أُخرى، ونخصّ بالذكر من هذه الأديان ما يقول بالتوحيد. وكان إهمال العناية بالبدن ظاهرة معروفة بين الشعوب الساميّة في الأحوال الدينية، وتصوّر لنا الروايات أن النادبات في الجاهلية كنّ قذرات ذوات شعر أشعث. ويمتنع اليهود مدّة حدادهم عن الاستحمام وتقليم الأظافر. ويذكرون أن الحجّاج في الجاهلية وفي عصر النبي كانوا يضمّخون شعورهم بالادهان وقت الإحرام تخفيفاً لوطأة القذارة".

كما ويصرّح المستشرق "بوهل "Fr. Buhl" بالشبهة دون تردّد، فيقول تحت مادة "الجمرة": "ورمي الجمرات شعيرة أخذها الإسلام عن الوثنية فلمم ينصّ صراحة في القرآن، ولكنها ذكرت في سير النبي وفي الحديث".

*************************************

يكفي جواباً على هذه الأوهام أن القرآن الكريم يصرِّح في أكثر من آية كريمة أن بيت الله الحرام هو واحد، وقد أقام قواعده نبي الله إبراهيم عليه السلام وولده نبي الله إسماعيل عليه السلام وذلك في قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم)، ثم أمر الله سبحانه نبيّه إبراهيم عليه السلام أن يطهر هذا البيت لأداء عبادة الحج الإلهي، حيث جاء في القرآن الكريم عن ذلك: (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود* وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق)، وقوله تعالى أيضاً: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود).

واستمر الحال زمناً طويلاً حتى أفسد أهل الجاهلية هذا الحج الإبراهيمي، وحرّفوه عن شرعته الإلهية باتخاذهم الأصنام في بيت الله وشعائر الحج الأخرى شركاء لله سبحانه يتقربون إليها دونه تعالى، ومحقوا صورته الأولى التي شرّعها الله لنبيه إبراهيم عليه السلام، واستبدلوها بالدجل والهراء، حتى وصفهم القرآن الكريم بقوله: (وما كان صلاتهم عن البيت إلاّ مكاءً وتصدية)، فأمر الله تعالى نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة عبادة الحج الإلهي إلى صورته الأُولى إمضاءً لشريعة إبراهيم عليه السلام فيها، حيث قال في قرآنه المجيد: (إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين* فيه آيات بيّنات مقامُ إبراهيمَ ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).

كما أن قول "بوهل" تحت مادة "الجمرة": جهل منه أو تجاهل، فإن كثيراً من مفردات الشريعة الإسلامية جاءت كليات في القرآن الكريم ثم فصّلها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه وسيرته الشريفة بوحي وإلهام من الله سبحانه وتعالى.

الرئيسيه