الفصل الأول

 

 

فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية على القرآن بزعمه : أن ذكر قول الله عز وجل ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) [النساء 78] . قال هذا المائق الجاهل : فأنكر فى هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله ، وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد ، وأخبر أن كل ذلك من عند الله . قال : ثم قال فى آخر هذه الآية : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [النساء 79] . قال هذا الزنديق الجاهل : فعاد مصوباً لقولهم ومضاداً لما قدم فى أول الآية .

قال أبو محمد بن حزم : لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يعترض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف . والآية المذكور مكتفية بظاهرها عن تكلف تأويل ، مستغنية ببادى ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها ، ولكن جهله أعمى بصيرته ، وطمس إدراكه .

وبيان ذلك أن الكفار كانوا يقولون : إن الحسنات الواصلة إليهم هى من عند الله عز وجل ، وأن السيئات المصيبة لهم فى دنياهم هى من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكذبهم الله تعالى فى ذلك ، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها ، بأن الحسنات السارة هى من عند الله تعالى بفضله على الناس ، وأن كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنساناً فى دنياه فمن قبل نفس المصاب بها بما يجنى على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذى لا يقوم به أحد ، وكل ذلك من عند الله جملة .

فأحد الوجهين ـ وهو الحسنات ـ فضل من الله تعالى مجرد ، لم يستحقه أحد على الله تعالى ، حتى يفضل به عز وجل من أحسن إليه من عباده . والوجه الثانى ـ وهو السيئات ـ تأديب من الله تعالى ، أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى .

ولا يستوحش مستوحش فيقول : كيف يكون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المخاطب بهذا الخطاب مقصراً فى أداء واجب ربه تعالى ؟

فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية فى كل وقت ، وإنما يكون النبى ـ عليه السلام ـ منزهاً عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها ، وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده ، فهذا ما لا يستوفيه مَلَك ولا نبى ، فكيف من دونهما ، كما أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله ) فقيل له : ولا أنت يا رسول الله ؟ فقال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته ) ، أو كما قال عليه السلام .

فإنما أنكر الله تعالى على الكفار فى الآية المتلوة آنفاً قولهم للنبى عليه السلام : إن ما أصابهم من سيئة فهى منك يا محمد ، وأخبر عم وجل أنها من عند أنفسهم ، وأن كل ذلك من عند الله تعالى .

فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه ، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد !

فأى ظلم يكون أعظم من ظلم مَن جهل أن يفرق بين معنى هذين اللفظين ؟!

وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما يَرِد عليهم من نكبة تعرض لهم بكفرهم وخلافهم له عليه السلام ، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى حاكياً عنهم قولهم : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ، ألا إن طائرهم عند الله ) [الأعراف 131] .

وما أرى هذا الزنديق الأنوك ، إذ اعترض بهذا الاعتراض ، كان إلا سكران سكر الخمر ، وسكر عجب الصغير إذا كبر ، والخسيس إذا أسر ، والذليل الجائع إذا عز وشبع ، والسفلى إذا أمر وشط ، والكلب إذا دُلِّل ونشط ؛ فإن لهذه المعانى مسالك خفية فى إفساد الأخلاق التى تقرب من الاعتدال ، وكيف يخلق سوء متكرر فى الخساسة والهجنة والرذلة والنذالة واللعنة والمهانة ؟!

ولله در القائل :

إذا أنت أكرمـت الكريـم ملكتـه .. .. .. .. .. وإن أنت أكرمت اللئـيـم تـمردا
ووضع الندى فى موضع السـيف بالعلا .. .. .. .. .. مضر كوضع السيف فى موضع الندى


وهذا الذى قلنا هو المفهوم من نص الآية ، دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ ، والحمد لله رب العالمين كثيراً .

* * * * *


ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه فى كفرهم المبدل ، وإفكهم المحرف ، بأخرق تحريف ، وأنتن معان ، حاشا ما خذلهم الله تعالى فى تركه على وجهه ليبدى فضائحهم ، فأبقوه تخبيثاً من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم ، من ذكر عيسى ومحمد ـ صلى الله عليهما وسلم ـ فى كتابهم الذى يسمونه ( التوراة ) ، إذ يقولون فيه فى السفر الرابع عن موسى ـ صلى الله عليه ـ أنه قال مخاطباً لله عز وجل : " يا رب ، كما حلفت قائلاً : الرب وديع ذو حن عظيم ، يعفو عن الذنب والسيئة ، وليس ينسى شيئاً من المآثم ، الذى يعاقب بذنب الوالد الولد فى الدرجة الثانية والرابعة " .. ويقرأون فيه أيضاً فى أول السفر الأول : " إن قاين بن آدم عاقبه الله فى السابع من ولده " .. ثم يقرأون فى الكتاب المذكور نفسه فى السفر الخامس منه : " إن الله تبارك وتعالى قال لموسى : لا تقتل الآباء لأجل الأبناء ، ولا الأبناء لأجل الآباء ، ألا كل واحد يقتل بذنبه " .

فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض ، لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذى هو الحق الواضح الواحد غير المختلف : ( قل كل من عند الله ، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً . ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) وهذا ما بيناه كما مر آنفاً أنه لا مجاز للتناقض فيه أصلاً .

وإنما التناقض المحض ما نسبوا إلى موسى ـ عليه السلام ـ من أنه قدر بربه أن يغفر الذنب لفاعله ، ويعاقب بذلك الذنب من كان من ولد المذنب فى الدرجة الرابعة ، ثم يقول فى مكان آخر ، ألا تقتل الأبناء لأجل الآباء ، ولا الآباء لأجل الأبناء ، هذا مع إقرارهم بأنه ليس فى التوراة ذكر عذاب ولا جزاء بعد الموت أصلاً ، وإنما فيها الجزاء بالثواب والعقاب فى الدنيا فقط ، فهذا هو التناقض المجرد الذى لا خفاء به ، وبالله تعالى التوفيق .

 

عوده